صمت رهيب يخيم على حارتنا.كأنها مهجورة من ساكنيها وأهلها..ألدكاكين وألمقاهي مغلقة ألابواب وعربات ألكارو مستكنه في ظل ألجدران ألقديمة..ألنوافذ موصدة وألمشربيات المتواجهة كأنها شواهد قبور صامته...لاشيء يوحي بوجود حياة...سوى صفير ألرياح ألمنسابه بين العطفات المتعرجة على امتداد الطريق الحجري للحارة...وتراءت من خلف ألبيوت المتلاصقة مئذنة جامع (قلاوون)ألاثرية وهي تلمع بنور الفجر وانفاس الصباح المنعشة تغلف الاجواء ....سرت في جسده قشعريرة فتلوى في كسل وتثاءب وفتح عينيه ألناعستين وزفرت أنفاسه ضجرا مختلطا ببقايا حلم لذيذ زاره في الليل وهو قابع هنا في ألقبو الرطب المظلم...ثم نهض بتثاقل ومضى بخطوات يجرها جرا نحو عربته المحاذية لسور التكية وهو يتمتم بكلمات صبحنا واصطبح ألملك لله وتربع فوقها بجسده الضخم ...ثم دبت مظاهر ألحياة في حارتنا تباعا وكأن أستيقاظ (حسب الله) سرى كالمنبه في ارجاء البيوت ..فخرج المعلم(عفرة)من بيته بقامته ألمديدة وشاربيه المفتولين باتجاه المقهى وسبقه (شحته) صبي المقهى لتهيئة المكان ..وأطلت (حسنية) من احدى النوافذ برأسها المعصوب وعيناها الجاحظة كالضفدع وهي ترقب زوجها (عفرة)وهو يغادر ..ثم تتابعت الحركات الدؤؤبة في ألاركان فخرجت (بدرية)وهي تخطر في مشية كلها دلال وهي تحبك لف الملاءة حول جسدها ويدها اليمنى تروح وتجيء حاملة على رأسها حلة نحاسية وتدندن بأغنية وهي تعلك .ورصدتها (حسنية)بنظراتها التى ترى كل شيء في الحارة فلوت بوزها وهزت رأسها بخفة بالرغم من عنقها الغليظ الملتصق مع ذقنها وتمتمت بكلمات كالسم وخيل ل(حسب الله) أنه سمعها تشتم او تسب (بدرية) فأبتسم في بلاهة وحك مؤخرة قفاء من أثر لسعة غادرة من البعوظ والحشرات المتطايرة ورمق (بدرية)وهي تتخذ مجلسها المعتاد في احد الاركان أمام عربة ألكشري التي تعتاش منها ..وتحلب ريقه لطبق يفطر عليه ويصطبح بالوجه الحسن ولعلها حجة مناسبه له كي يحضى بالقرب من بدرية ..وهي أرمله وحيدة في الاربعين جميله بهية الطلعه تتطلع أليها عيون رجال الحارة في اعجاب لكن للاسف تطاردها شائعات مغرضة مصدرها نساء الحارة غيرة منها ومن اعجاب الرجال بها وكثيرا ما كانت تشتبك مع نساء الحارة متل (حسنية)زوجة المعلم عفرة و(سعدية)الخبازة او(خيرية)الداية ..المهم كانت معارك طاحنة تجري بالاذرع والالسن والصياح والسباب والشتائم وتكاد (بدرية)تتفوق على كل نساء حارتنا بأستخدام عبارات الشتم والسب بأستثناء (حسنية)فهي ملكة اللسان الطويل ولا يوجد انسان في حارتنا لم تفصل له (حسنية)كلمات مناسبة للسباب اذا دعت ألحاجة لذلك ..لاجل ذلك يتحاشاها الجميع بأستثناء (حمودة)فتوة حارتنا العتيد..وذلك شيء طبيعي غير انها تقول عنه ان له رقبة حصان وظهر كاللوح...المهم كانت المشاجرات هذه تثير ألضحك والابتسامات العريضة على وجوه الرجال ألذين يتركون عملهم ويتجمهرون لمشاهدة مسرحيتهم المحببة وسط همز ولمز ونظرات خبيثة فرحة تتطلع في خضم المشاجرة الى ما ينكشف بصورة عفوية من شعر او عنق اوساق...عندها تلمع في وجوه الحاضرين نظرات ظفر شيطانية وتخفق ألقلوب المريضة بأهواء مختلفة ..حتى ألمعلم الوقور (عفرة) وهو جالس امام المقهى المواجه (لبدرية)يفرح من اعماقه ويسوي شاربيه ويواصل بصمت تدخين نارجيلته بعمق أكثر ويعقد مقارنات سريعه في عقله بين قوام بدرية الرشيق الممشوق وجسد زوجته الداهية كأنها قاطرة أو وسادة ضخمة محشوة بالقطن بصورة عشوائية وتتواصل القرقرة ويتطاير ألدخان ويطير هو معه في فضاءات ليس لها حدود...ثم عاد(حسب الله) ليفتش جيوبه لعله يعثر على قرش مختبىء في طيات جيوبه فلم يعثر على شيء ..الجيوب خاوية كمعدته تماما ..بل أنه اكتشف أن أحدى جيوبه مخروم بطريقه تثير ألفزع والسخريه بحيث انه يستطيع تمرير يده كلها الى الناحية الثانية..ومما زاد من ألم معدته وعصافيرها الصغيرة هو رائحة التقلية التي بدأت تنساب في الهواء من وراء الجدران فاغمض عينيه وراح يتمطق كأنه يأكل ما يشمه بينما الذباب فقط يحوم فوق رأسه.....وسمع صوتا يقول له -الى متى ستبقى على هذا الحال البطال يا حسبو ....عرف الصوت قبل ان يفتح عينيه لانه يسمعه منذ الطفولة انه صديقه (حمزاوي)فأبتسم له وتنحى قليلا ليجلس صاحبه....وتنهد (حسب الله) قائلا -منذ أن مات الحمار قبل شهرين وأنا عايش على صدقات المحسنين حتى ألبدروم تركته لاني لم أعد قادرا على ثمنه...ولم يكن (حمزاوي)افضل حالا من (حسب الله) فقد ترك هو الاخر عمله أو بالاحرى طردوه لانه لا ينتظم في العمل يغيب اياما حتى يقال انه ترك الحارة ثم يعود فجأة متعذرا بزيارة طارئة لجدته المريضة في الصعيد ولو ان جدته توفيت منذ عقود طويله لكنها حجة مناسبة كي يبرر غيابه حتى ضاقوا به وطردوه..والحق ان (حمزاوي)هذا لغزا محيرا من ألغاز حارتنا الكثيرة المنطوية ...وراح (حمزاوي)يقلب نعاله ويهز رأسه قائلا _يا أخي هذا المداس حيرني كلما خيطته من ناحية تمزق من ناحية أخرى ...ولم يعره (حسب الله) اهتماما فقد اعتاد احاديثه تلك وكانت يداه متدليتان بين ساقيه في ضجر يفكر بشء اخر ..ربما ب(بدرية)أو طبق الكشري ...ثم قال (حمزاوي)متسائلا -مالعمل يا حسبو نحن نتحول الى التسول يوما بعد يوم ..فهز كتفيه هازئا وقال-وهل تظن اننا الان لسنا كذلك _فما العمل ياحسبو؟.....-وماذا تقترح انت ياسعادة ألبيك؟ فقال (حمزاوي) نبحث عن عمل ..فقال حسبو _لكني لا اجيد اي مهنة اخرى غير مهنة المكاري فانا منذ الصغر وانا اسعى على عربة وحصان...اما وقد مات الان فأشعر بأني يتيم.....فضحك (حمزاوي) قائلا -لم اراك حزينا هكذا يوم مات ابوك...ثم بلهجة كالمعتذر_غدا يتحسن الحال ياحسبو فلا تيأس......
يتبع
08-09-12, 02:34 AM
حارتنا-الجزء الاول 
.gif "Eh S(7)")
.png)
.png)
العرض العادي
