على الجهة الاخرى من باب الحمام تقف هاجر تحدق بقطعة بيضاء مخرمة قد لوثها الدم ... دم كان يفترض ان يكون لها .. ويُقدم باسمها .. عنواناً لعفتها ... اذن ... هذه هي (العلامة) ؟! يدها تهدلت الى جانبها وتضاءلت كل المشاعر غير المفسرة وتشتتت كمن ينفخ في ذرات غبار فيبعثرها حتى تتخفى عن البصر... قشعريرة سريعة ضربتها كصاعقة من قمة رأسها حتى اخمص قدميها...ثم .. استكانت... لم تجد في نفسها رغبة بالبكاء والقهر وانما احساس عجيب بالنشوى الانتقامية انتابها ...! التمعت عيناها لمنظر لون الدم .. انه دمه .. انه دينه الذي يسدده لها .. لقد دفعت هي ثمن استسلامها باهظاً جدا ... فلماذا لا يدفع هو ايضا ... تعلم وتعترف انها تتحمل المسؤولية معه .. لن تنكر انها شاركت معه في إتمام زواجهما الاول بتلك الطريقة المُعيبة المخزية ... لكن هل هذا يكفي لتلتمس له العذر ؟! لا .... بل وألف لا ... في زواجهما الغريب ذاك كانت هي الطرف الاضعف وهو استغل حاجتها وجعلها تشعر بكراهية ذاتها وهي تستسلم له مراراً وتكراراً .. كان يذلها امام الاخرين وامام نفسها ايضا .. يذلها وهو لا يمنحها طمأنينة كلمة حب واحدة.. بل يعاملها وكأنها .. أدنى من ان تستحق منه اي كلمة ... اي شعور ... ثم .. طلقها ! هل ستنسى ايضا يوم طلاقها ؟! قست نظرات هاجر وهي تتذكر ليلة طلاقها وهجرانه لها وكيف لجأت لعمها منهارة ... وعندها اخذ لسانها يلهج بالقسم الغليظ النابض بالكبرياء " ابداً لن أنسى حتى وانا أوارى التراب ! " ثم تتأجج مزيد من النيران وهي تتذكر كيف اختطفها عند عودته من تركيا ليأتي بها الى قريته الخانقة هذه مسلوبة الارادة محبوسة بين اربعة جدران ... وكأنها مجرد سلعة رخيصة يبيع ويشتري فيها كما يشاء وفي الوقت الذي يشاء .. هو حتى اللحظة لم يخبرها لماذا فعل بها كل ذاك ؟ لماذا انتقم ؟! اتسعت عيناها مذهولة كيف نسيت تماماً انه اعترف لها بأنه كان ينتقم ! هكذا ببساطة ينتقم ...!!! لولا حضور والده واخيه للمزرعة في صبيحة ذاك اليوم لكانت علمت لماذا فعلها ... " هاجر ..." التفتت اليه برأسها في حركة حادة عنيفة تناظره بغل مكتوم وانفاس متسارعة انفعالاً وحقداً وكرهاً آنياً .. كان يقف مسمراً مكانه قرب باب الحمام المفتوح عاري الصدر يلف حول وسطه منشفة كبيرة بينما يثبت بيده اليسرى القطن فوق جرح ذراعه الايمن ... برز امام ناظريها الوشم على ذراعه الايسر فشعرت بغضب عارم ونار في صدرها وهي تفكر ربما هو في تركيا كان يستمتع جيداً بينما تركها هي هنا ... وحيدة منهارة محطمة .. تتعذب وتقاوم مترنحة حتى لا تسقط ذليلة منهارة للارض ! تقدم خطوة منها ونظراته اليها مبهمة تماماً ليقول بصوت هادئ أجش لا يخلو من بعض الفظاظة في الطلب " تعالي وساعديني في لف الضمادة " اشرست نظراتها واوشكت ان تصرخ في وجهه عندما لمحت لون الدم يلوث القطن الابيض الذي يعتصره عصراً فوق جرحه .. لقد كان هو الآخر منفعل .. غاضب ... ويكبت كل شيء وكأنه بركان خامد .. نظراتها تعلقت بصدره ... صدره الرجولي دافئ.. بل حار .. حار جدا .. لم تنم يوماً على صدر احدهم كما فعلت ليلة الامس ... فجأة داهمها شعور عجيب مخجل مخزٍ.. مؤذٍ ! هي لم تنم يوماً جوار اي انسان ! دوماً كانت تنام وحيدة .... مُذ وعت على الحياة وهي تنام بمفردها تحتضن غطاء سريرها وتتخيله حضن امها ومخدتها تتوسدها وكأنها صدر ابيها ... خنقتها غصة وهي تنظر لعينيه الضيقتين .. لقد اوشكت ان .. تفقده اليوم ... رباااه ... هو الانسان الوحيد الذي حظيت به وكان لها كما كانت له ... اوشكت ان تخسره... اي جنون هذا الذي تعيشه؟! هل هي تريده ام لا ؟! هل تكرهه ام تحبه وتتعلق به بشكل مرضي دون ان تدري ...؟! هل هذه اجواء القرية الغريبة تؤثر في عقلها ومشاعرها ام انها لاول مرة تتذوق معنى الحياة والموت و....الدم ؟ هل هي لهجته الثقيلة كلهجة بني عشيرته من فتنتها وغيبت عقلها .. ؟! لقد أرتجل ابياتا شعرية لاجلها هي .. عصفت بانوثتها تلك الابيات ... جعلها تطالب به .. رجلا لها وحدها .. ليلة الامس ملأها فخرا ..انوثة... وجوعاً للمزيد ... لكنه جوع لم ولن يُكتب له حتى سد رمقه...! فكل هذا ليس حقيقياً .. كل ما يحصل مجرد عاصفة عاتية تشدها اليه ..تتشبث.. وتتعلق به لكن سرعان ما ستهدأ .. لتنفصم عنه من جديد ... قلبها لن يسامح وروحها لن تغفر له ... ابداً ... خطت نحوه والحزن الدفين يزحف ليقتل غضبها الثائر ... تمتمت بغصة وهي تأخذ الضمادة منه " الجرح ما زال ينزف ويبدو موضعه ساخناً .. يجب ان يراه طبيب .." لم يرد وهي تقف قريبة منه انفاسه تلفح وجهها .. تلف الضمادة حول ذراعه وغريزياً جسدها يقترب منه يلامسه وكأنه يشتاقه ! كانت تعاني من اختلاجات متناقضة وهي تقف وسطها تحاربها جميعاً ... يجب ان تفهم اولاً قبل ان تتقبل اي شيء .. يجب ان تخرج من هنا وتمحو من رأسها تأثير قرية الشيوخ عليها وتعود لمكانها في العاصمة لتجلو كل ما يحدث لها لتفسره وتفهمه ... هل هي انسانة معقدة لهذه الدرجة حتى انها اكتشفت انها لم تفهم نفسها يوماً ! لم تفهم ما تريد حقاً ... لم تفهم وتحدد نوع المشاعر التي تريدها ... وكأنها جاهلة بابسط انواع المشاعر التي تشعر انها جائعة اليها بالفطرة ... كما الطفل الوليد يبحث عن صدر أمه بالفطرة... تُرى ... هل أرضعتها امها يوماً ؟! هل أشبعت فيها تلك الفطرة الاولى ام تركتها للجوع العاطفي منذ ولادتها ؟! عيناه لا تحيدان عن وجهها يقرؤها ككتاب مفتوح .... شعر بالخوف يعتصر قلبه الصنديد الذي لا يهاب الموت لكنه يهاب فراقها من جديد ... انه يقرأ بوضوح حاجتها للعودة الى العاصمة.. هل حان الوقت حقاً لتفلت منه من جديد ؟ هل حان الوقت ليطلقها كما وعد ؟ سحق اسنانه بقسوة ثم بانانية العاشق الولهان ارادها ان تعود اليه بفكرها واحاسيسها ... أراد ان يبعدها عن الماضي البعيد ليعيدها عنوة اليه .. هنا .. في وجودها معه في قريته.. لم يجد الا ان يستفزها بالقول المباغت متجاهلا ملاحظتها عن جرحه " صباح مبارك يا عروس..." نبرته وهو يقولها كانت فيها ظلال الشجن ورائحة العشق ووقود الغضب.. رفعت اليه نظراتها لترى في عينيه كل ذلك دفعة واحدة .. عيناها تعلقتا بشفتيه الرفيعتين وهو يضيف ببحة ترعشها " بعد ان اغادر اغتسلي وتعطري وتجملي .. النسوة سيجتمعن في الدار وسيأتين للاحتفال والمباركة .. البسي جلباباً من الكشمير يدفؤك فالجو اصبح بارداً .. اختاري احدى الجلاليب المهداة لك ذات التطاريز الذهبية .. اختاري لونها غامقاً .. احمر او اخضر او ازرق او حتى كحلي.. المهم اختاريه غامقاً ليبرز لون بشرتك ويجعلك تنيرين وجه من يراك.." انتشى بتأثرها به ... انتشى بها وهي تهمس بصوتها الذي يفضحها كما تفضحها عيناها... تهمس .. تحاول التلاهي عن التفكير بتحديقها الغبي في شفتيه " كيف تحتفلون.. ووالدك بهذا الحال وفي المستشفى " يرد بخيلاء وقوة جعلتها تنجذب لصوته أكثر " انها طريقتنا لنظهر قوتنا .. نحن لا ننحني بل نكسر عيون الذين ينتظرون رؤية انكسارنا.. والنسوة سيجعلن الاحتفال احتفالين نكاية بكل من أراد ويريد الاذى برجالهن ... وشيخ عشيرتهن .." ما زالت تحدق في فمه ويدها تضغط على ضمادة جرحه دون ان تشعر هي او يشتكي هو.. فيتحرك فمه بانفاسه الحارة مضيفاً " لا ترتبكي انها تقاليدنا .. لا تتوتري وكوني فقط كما انت .. مبهرة حد الوجع.. امي ستلبسك عقد ذهب موروث ، ربما ستجدينه قديم الطراز ولا يناسب ذوقك لكنه سيعجبك لانه سيكون لك .. اقبليه بصدر رحب وقبّلي ظاهر يدها باحترام .." عندها فقط ارتفعت عيناها لعينيه وشعلة تمرد غاضب تتأجج منهما فيروق له هذا وتلتمع نظراته في شموخ يغيظها ليضيف بنفس النبرة " اخواتي البنات ايضا سيلبسنك بعض المصوغات الذهبية هدية العروس في صباحها الاول .. اظهري لهن ابتهاجك وامتنانك .." سألت وهي لا تخفي حنقها لاسلوبه معها " هل هناك اوامر اخرى ؟" قتلها وهو يكلمها بلهجة قريته قائلا بخفوت خشن " لا يأمر عليك عدو .. لكن لو كان لي أمراً نافدا على قلبك لأمرته ان يكون طوع قلبي .. " دموع غريبة احرقت عينيها .. لماذا تؤثر فيها لهجته لهذه الدرجة ؟! لماذا تشعر بالضعف وكأنه يشق صدرها لينتزع روحها منها ... انفاسها تتسارع بتسارع قلبها وهي تنظر اليه مشدوهة من حالها العجيب لتهمس بمقاومة شرسة وعناد " ليس للقلب من سلطان ..." بكل شموخها وشجاعتها وجرأتها تنسكب دمعة على خدها يراقبها فرقد بصمت وتعابيره تشتد بسعيرها لتصب هاجر الزيت على النار من حيث لا تشعر وهي تهرب من دمعتها لتسأل بعفوية أول ما خطر ببالها " هل عبد الملك بخير ؟"