27-05-17, 04:01 PM | #1 | ||||
| تشتُّت لا مفر من التعايش مع حقيقة أن ذاكرتى قد دخلت فى طور الضمور. فى بداية الأمر كنت أعاند، ورفضت عرض أبنتى بالذهاب للطبيب، لكن من داخلي كنت أعلم أننى لست بخير.. نسيت مرة أخذ الدواء، وأخرى اتفقت مع صديق على مقابلته في أحد المقاهى وفوجئت به يتصل مخبراً إياى أنه جلس حتى تورمت مقعدته.. وتلافياً لهذا الإحراج، وتحاشياً لما قد يسببه لى هذا النسيان من توهان والتفاف حول نفسى ودوران، ثبّتت على هاتفى الذكى هذا (التطبيق) الذى يتيح لى كتابة مجموعة من رسائل التذكير وتخصيص وقت معين لكل رسالة ليرن فيه الهاتف معلماً إياى بها.. والحق أن هذا التطبيق قد اراحنى كثيراً، فكنت أسجل فيه كل الأمور المهمة والوقت المفترض أن اتذكرها فيه. ليلة أمس، وبينما كنت متكأ على الأريكة أقلب بالريموت قنوات التلفزيون الصغير، وألقى بين الحين والآخر نظرة نحو باب البلكونة المفتوح خشية من الفئران، رحت أتذكر بعض الأحداث المبهجة القليلة فى حياتى عساها تقوينى على حاضرى. فكان مما تذكرت اول مرة دخلت السينما، وأول مرة أحببت، وأول مرة أعجبت، ويوم تخرجى من (الحقوق)، ويوم تزوجى وانجابى (زهرة).. و.. لا أتذكر بعد ذلك أن حدث لى أي شيء سعيد! رن الهاتف، جائتنى رسالة تذكير: "غدا عيد ميلاد زهرة“ فاستبشرت. يومكِ مميز. استيقظت قبيل الفجر، فتوضأت وصليت، ثم أخرجت بطن الدولاب وطالعت كل ما به؛ تيشيرتات و قمصان وبلوفرات معظمها قديم مهترئ أو كبر علىّ أو صغر. سأختار اللون الاسود لأنكِ تفضلينه علىّ، لابد أن تكون الملابس فضفاضة لأن الجو حار. سأغسل هذا الجلباب البديع، الآن، وانشره فى البلكونة المشمسة، الحارقة وقت الظهيرة، فيجف ويصير جاهزا للكى قبل العصر بقليل بحيث أكون مستعدا للخروج عند غروب الشمس، فاتناول دوائى وانطلق إليكِ. شارداً، رحتُ أهبط درجات سلم العمارة العتيقة ذات الطوابق العشر، من الطابق الخامس الذي به شقتي الصغيرة. الأوان غروب، والسلالم والحوائط و السياج تبددت ألوانها. السلالم صغيرة الحجم و ضيقة يمكن أن يحتلها بالكامل شخص بدين. عندما وصلت إلى الطابق الثاني اجتاحني الظلام لأن المصابيح هنا دائماً مطفأة أو محطمة،فاخرجت الهاتف المحمول وفتحت مصباحه الذي أضاء خافتاً حتي خرجت. ها أنا ذا أعبر الزقاق القذر الطويل الذي لا يتحمل من المركبات إلا الموتوسيكل والتوكتوك، مع أنه يتحمل احتضان أبشع صنوف البشر.. فأخرج منه إلى حارة تقودني إلى شارع رئيسي ما إن اقتحمه حتي أذوب وسط المارة المتكدسين فوق الرصيف المزدحم أصلا بالباعة و المتسولين و المشردين و المجانين، فاضطر إلى التحرك ببطء حتى لا اصدم أحد أو يصدمني فاسقط بوجهي على هذه المياه التي يوزعها أصحاب المحال لترطيب الجو أمام محالهم، فتتكالب علىّ حينها فواجع الزمان، فانهض ثائراً واندفع نحو خصمى كالنمر الجريح، فاقتله أو يقتلني أو يحدث الله أمرا! لا، فسوف أُتم أعوامى الخمسين غداً وما يصح أن يكون لمثلى هذا الطيش. أما اليوم، فيصير لأبنتى (زهرة) أربع و عشرين عاماً. آه يا زهرتى، ماعاد فى حديقتى غيرك. أننى أتخيلك الآن أنحف قليلا عن آخر مرة ذهبت فيها إليك، فى شقتك بديعة التنسيق القابعة فى تلك الناحية الهادئة من (الجمالية).. فهذا الطعام الذى وجدته عندك هش، ولا يتناوله إلا المرضى.. مهلا.. أتراك قد تعبت ولم ترضى أن تخبرينى. لما جائنى هذا الهاجس ارتبكت، وشعرت بتقلص فى بطنى. لمحت ضالتى على الجانب الآخر للشارع؛ محل حلوانى يعلق لمبات بأضواء مختلفة الألوان، مبهجة، ويصدر من كاسيت داخل المحل لا أستطيع رؤيته قرآن كريم(بصوت الشيخ عبد الباسط)، وقد أخرج ثلاجة عريضة، عارضة، بها كل لذيذ.. ومكلف. لا شئ يغلو عليك يا صغيرتى، ولا يعلو. بصعوبة بالغة عبرت الشارع دون أن أتعرض لهذه السيارات المجنونة التي تبدو مستعدة للدهس، ووقفت اتأمل البسبوسة، بينما يتأملنى صاحب المحل ذو الجسم الضخم واللحية البيضاء الكثيفة و العينين الضيقتين. -أأمر؟ -الأمر لله، كيلو بسبوسة ياحاج .. لا أحد يقف مع (الحاج) المسن لذلك قام بنفسه بتقطيع البسبوسة ووزنها ووضعها فى العلبة الكرتونية ولفها وربطها ووضعها فى كيس أبيض مطبوع عليه اسم المحل و إعطائها لى واستلام الأجر.. ورفع صوت سماعات الكمبيوتر الذي ظننته كاسيت.. سلامو عليكو.. وعليكم السلام ورحمة الله.. بينما اتجه إلى محطة المترو وأأرجح الكيس الصغير فى يدى، نظرت فى ساعتى، إنها السابعة مساء. أخرجت هاتفى لأتصل بزهرتى لاعلمها بقدومى، فوجدت البطارية منخفضة. لا بأس.. أنا الآن تحت الأرض منتظراً المترو الذى جاء متأخراً عن موعد وصوله بعشرين دقيقة. رحماك يا رب! داخل المترو وجوه صامتة وأخرى نائمة وثلاثة طلبة يجلسون على المقاعد الذي كُتب فوقها”هذه المقاعد مخصصة لكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة“ لم يكن المكيف يعمل فكدت أختنق رغم أنى ركبت محطة واحدة.. خرجت من تحت الأرض، فأصبح بينى وبين الجمالية النذر اليسير.. قضيت بعض الوقت سائراً فى شوارع فسيحة نظيفة حتى شعرت بألم خفيف يدب فى منتصف صدرى. لم أهتم، لكن الألم لم يهتم هو الآخر. فشعرت به يشتد ويزحف إلى أعلى مسببا لى رغبة في التقيأ.. طيب.. أشرت إلى تاكسى أنطلق بى مسرعا فى الشوارع الفسيحة، وقد اخترت الجلوس في المقعد الخلفي متجنبا للحديث الطويل مع السائق، وناظراً عبر النافذة الصغيرة إلى المبانى القديمة المتتابعة أمامى مثلما تتابع الأحداث المؤثرة كشريط سينمائي أمام أعين الأشخاص المحتضرين. أوصلنى التاكسى أمام العمارة، و أوصلنى المصعد أمام الشقة، قطعت الخطوات القليلة وطرقت الباب ثلاث.. وانتظرت.. لكن ما من مجيب.. مممم... طرقت مرة أخرى، وأخرى.. ولما طال الأمر، ولأن هاتفى (فصل) خرجت من العمارة واتجهت إلى هذا المحل الصغير. - ممكن اعمل تليفون؟ - اتفضل. فتفضلت ورفعت السماعة وأدخلت الأرقام.. زيرو ميّه اتنين وعشرين خمسمية تلاتة وأربعين.. ولكن سحابة سوداء كبيرة حجبت عن ذهنى تذكر الرقم الأخير.. خير، خير.. ربما يكون 3 أو 4، أم تراه يراوغنى وهو 5؟ ثم ما هذا الوشم على رقبة صاحب المحل، ولماذا ينظر إلى هكذا وهو يحاسب زبون آخر.. يا أخى، ركز. بعد فترة لا أعلم مداها، أدخلت الرقم المنسى، عشوائياً، وبعد ثوانٍ سمعت النغمات القصيرات المتواليات التى استمرت ثوانٍ إضافية قبل أن تختفى ويتحدث صوت أنثوى مألوف: - ألو، مين معايا؟ - معاكِ أبوك، كل سنة وانت طيبة. - إيه يابابا، أنت بتتكلم منين؟ - من قدام الشارع اللي فيه شقتك - إيه! - أنا قعدت اخبط كتير ومحدش فتح، إنت عزلتٍ ولا إيه. - آه.. - هه! - أيوه عزلت. - ومقولتليش ليه؟! - لأ قولتلك. - لا مقولتليش. - لا قولتلك، من قيمة أسبوع لما اتصلت بيك ووصفتك الشقة اللى ختّها فى حلوان. - هه، بتقولى إيه.. - فى حلوان، فى حلوان، سمعنى كويس؟ - أيوه أيوه، افتكرت. - .. بابا - نعم. - لازم تروح لدكتور. - حاضر. التعديل الأخير تم بواسطة um soso ; 28-05-17 الساعة 08:34 AM | ||||
27-05-17, 09:24 PM | #2 | ||||
| مؤلف هذه القصة القصيرة هو (عمر حامد فؤاد). رأى صغير: أظن أن فن القصة القصيرة أصعب من الرواية التي اتجه إليها كثير من الكتاب حتى قال د. جابر عصفور عبارته الشهيرة :” نحن نعيش عصر الرواية “. وأظن أن السبب هو اللغة المكثفة التى تُكتب بها القصة القصيرة وضرورة تحميل الكلمات القليلة معانى كثيرة، على عكس الحال في الرواية التي تتيح للكاتب التفصيل والوصف الدقيق وبالتالي مساحة أكبر للحركة.. فهل تتفقون معى في هذا الطرح؟ | ||||
28-05-17, 08:41 AM | #3 | |||||||
مشرفة وكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومراسلة خاصة بأدب وأدباء في المنتدى الأدبي
| فكره حلوه واسلوب جميل بس الا تعتقد ان الزهايمر جاء مستعجل لابو زهره فهو لايزال لم يكمل الخمسين عام بالتوفيق وبانتظار المزيد | |||||||
28-05-17, 07:14 PM | #5 | ||||
نجم روايتي
| السلام عليكم ورحمة الله وبركاته بديعة جداااااا ومؤثرة ومحكمة اللغة الوصف اكثر من رائع استمتعت جدا وانا اقراؤها ولا اعلم كنت متحفزة لحدوث شئ ل الابنة كوافاتها مثلا لاجدك كنت اطيب قلب وطلعت عزلت وهو بحكم السن نسي ههه بس ده بيحصل حتي مع السن الصغير غالبيتنا نعيش في حالة تشتت من التوتر والتلوث المهم اتفق معك القصة القصيرة اصعب جدا من الرواية الطويلة كما يقولون اوجزت وانجزت [imgr]https://www.mexatk.com/wp-content/uploads/2016/05/%D8%B5%D9%88%D8%B1-%D8%B4%D9%87%D8%B1-%D8%B1%D9%85%D8%B6%D8%A7%D9%86-2016-1.gif[/imgr] | ||||
28-05-17, 09:15 PM | #7 | ||||||||
نجم روايتي وكاتبة في قصص من وحي الاعضاء وفراشة متالقة بعالم الازياء
| السلام عليكم ورحمة الله وبركاته القصه رائعه سلسه جدا .. تتابع الحروف بميزة الخفه والتأثير فعلا قصه رائعه ... اتوق لترشحيها في مسابقة نورريم تستحق التمييز بالنسبه للراي نعم اتفق معك ... وبرايي ايضا ان هذا التكثيف يخلق تاثير اعمق للمعاني .. وهذا بحد ذاته جماليه وتميز لمعنى القصه القصيرة بالتوفيق | ||||||||
الكلمات الدلالية (Tags) |
قصة، قصيرة، زهرة، نسيان |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|