شبكة روايتي الثقافية

شبكة روايتي الثقافية (https://www.rewity.com/forum/index.php)
-   قلوب خيالية( روايات ونوفيلات متعددة الفصول) (https://www.rewity.com/forum/f525/)
-   -   غريبة بجوارك -بقلم Mona1977 *مميزة*كاملة& الرابط (https://www.rewity.com/forum/t389285.html)

Mona1977 08-09-17 02:52 PM

غريبة بجوارك -بقلم Mona1977 *مميزة*كاملة& الرابط
 
https://upload.rewity.com/uploads/1506984821131.gif


بسم الله الرحمن الرحيم

غريبة بجوارك
" كنت إلى جوارك قريبة .. غير أني كنت غريبة "







https://upload.rewity.com/uploads/1506984821173.gif


استيقظت وإذ بي في مكان .. كأنه الجنة ..
مرتخية فوق فرش من حرير ..
منه اكتسيت وعليه اتكأت وإليه دنوت ثم أدنيت كأسا ارتشفتها ..
كقطرات الندى لم أملها ..
رأيت وجهي يزهر مع كل رشفة ارتشفتها ..
ومع استفاقتي .. استفاق من حولي ..
لحن شجي .. شعاع مستور خفي ..
زهر الأقحوان .. زهر البنفسج الذي ملأ المكان بعطر فواح زكي ..
كنت كالأميرة ..
بل كنت حقا سيدة ذلك القصر المنيف ..
كاللؤلؤة المجوفة لا يرى باطنها ..
تهيأت للنهوض وإذ بهن ..
حِسان تنبسط الأرض طوعا لهن ..
اصطحبنني .. هيأنني .. لحظات وأصبحت بكامل زينتي ومستعدة للخروج ..
غلمان كالسماء الصافية كالنجوم النائية منهم ..
من أتى به .. من داعبه .. من ساقه إلي من خاطبه ..
مقلة بلون الذهب .. جناحان كاللهب ..
جوادي الذي امتطيته .. حلق بي نحو مكان مترع بالشهب ..
وفوق تلة خضراء اصطف عشاقي ..
فاليوم هو اليوم الذي سأختار فيه ..
من رفرف له القلب وحنا له الفؤاد ..
من تعلق بتلابيب روحه كامل أوداجي ..
مررت مرور الكرام ..
لم أمعن النظر ومالحاجة فقلبي من سيختار ومن أتخطاه ينكس رأسه خائبا من ثم يختفي ..
ولم أزل على هذا المنوال حتى بلغته ..
وأقسم لو أني رأيته الآن لعرفته ..
أمرد الوجه حنطاوي البشرة ..
مسترسل الشعر ذا غرة سوداء اكتنفت نصف وجهه دون استثناء ..
اختفى الكل ما عداي وعداه ..
دنا مني فاحمرت وجنتاي ..
قبلني فارتج خافقي وارتد صوت اليقين في داخلي ملحا أن بادليه الإحساس بالإحساس ..
استقبلته بجسدي الذي انقاد إليه طواعيه ..
بروحي التي لم تطرق الباب ..
باللحظات التي لم أرغب بها أن تنتهي حتى أنتهي ..
حملني وتحت ظل شجرة مكتظة بالألوان البراقة .. بالأصوات الندية .. بالثمار الفتية ..
أجلسني في حضنه ..
تسامرنا .. تضاحكنا من ثم غادرنا ..
عدنا إلى قصري .. إلى مخدعي ..
إلى غرفة بيضاء .. إلى الثلوج تهبط من السماء ..
إلي وقد اشتملت لحافا متذبذب الأطراف ..
إليه أتاني يسترق النظر .. يسرق قبلة أخرى على عجل ..
إلا أني باغته وهربت ..
لحق بي محاولا اصطيادي ..
راوغته .. ناوشته ..
ومن خلف عمودٍ إلى آخر ومن زاوية إلى أخرى ..
كاد أن يمسِك بي .. كِدت أن أقع بين يديه لأقفز ..
فوق سريري ليقفز ورائي ..
حاصرني بذراعيه ..
ولا حدود لناظري سوى ناظريه ..
لم تزل الثلوج على حالها تهبط بانسجام ..
ولم أزل متأملة بسكون تقاسيم وجهه التي بدت لي وكأنها أبيات شعر مرتلة ..
بانتظار كلمة ينطق بها أو حركة يقوم بها ..
تطفئ لهيب شوقي أو لهفة جوارحي ..
تمتم قائلا ..
ماذا تقول؟
أظلم وجهه .. أظلم المكان ..
وتكاثف من حَوليَ الدخان وأنا الآن ..
مقيدة في سريري والأرض تهتز من تحتي ..
سرعان ما انهارت سرعان ما هويت وإذ ..
بيدٍ باليةٍ تمسك بي ..
شعرت بخوف شديد دفعني .. أن أفلت بإرادتي يدي وحينها ..
هويت وحينها ..
استيقظت .. استيقظت هذه المرة لأجد بأني لم أزل حبيسة واقعي وبأن أميري ليس بجانبي سواك يا طائري العزيز .. أعلم أنك مللت ترديدي الحلم ذاته .. أرى ذلك من خلال عينيك وانتفاش ريشك تستعد لأخذ قيلولة ككل مرة تستمع بها إلي .. لا بأس .. فأن تنصت إلي يجعلني شاكرة لك باستمرار .. كانت تتأمله .. كيف يغفو وذبول أجفانه حينما نوديت:
هيا .. سنرحل الآن ..
ــ لقد حان الوقت إذن .. كنت صديقي الوحيد مذ أبصرت النور وكم .. تركت الباب مفتوحا لك كي ترحل ولكنك .. لم ولن تفعل أعلم ولذا .. كان علي فعل ذلك بيدي .. أمسكَته بعناية من ثم أردفت: لقد حانت لحظة الفراق .. ابحث لك عن أصدقاء أخَر غيري فأنا .. لن أكون إلى جوارك دومًا .. أفضل أن ترحل قبل أن أرحل أن تنشغل عني قبل أن أفعل ألا ترى .. بأني بت مؤخرا أهملك بسبب كثرة واجباتي وأنت .. كنت ولازلت من أهم واجباتي إلا أنه لم يعد باستطاعتي .. فعل ذلك على أكمل وجه بعد الآن ولذا .. عليك من الحين فصاعدا الاعتناء بنفسك .. لقد أصبحت راشدا لم تعد بحاجة إلي .. لم يزل ساكنا هادئا حتى إذا ما رفعته إلى السماء وأطلقته جعل يرفرف بجنون أمامها .. أغلقت النافذة سريعًا والتصقت بالزجاج: أيها الأحمق .. أنظر إلى نفسك كيف ترفرف بجناحيك ولا حدود لحريتك .. لو أني كنت مكانك لحلقت بهما بعيدا وللحقت بأحلامي أينما كانت .. التصق بالزجاج هو الآخر ينظر إليها عن كثب .. تساقط دمعها وهي ترى خوفه .. حزنه واشتياقه المسبق لها .. أسدلت الستائر ثم اعتصرتها: أرجوك .. لا تلحق بي ..

في ذلك الوقت من الزمان كانت الأرض حينها مقسمة إلى خمسة أجزاء ..كل جزء يكنى باسم الفصل الذي يغلب عليه وهي واقعة بمجملها تحت حكم ملك عادل ذا نفوذ وسلطان .. ذا عطاء لا حدود له وولاء ومحبة في قلوب رعيته وتابعيه لا ارتفاع له يدعى "الأبيض بن الأشهب بن سلام" وريث وريث أجداد أجداده .. عرفوا بالحكمة والاتزان .. بالعقل المستنير بالرأي الراجح .. بالحلم وقلة الكلام .. يعرف المختار منهم بأثر ولادته أثر الخاتم وسط سبابته .. ومن دون عقد مجلس للشورى فهو من سيتولى الأمر بغض النظر عن خلقه وطريقة نشأته .. وقد أفلح كل من عرف بتلك العلامة بحسن تدبيره وطلاقة علمه .. هو شيخ كبير تجاوز الثمانين من عمره وبالرغم من الشيب الذي يفتري جسده ولحيته .. حاجباه وشعره الذي يتدلى فوق أكتافه إلا أنه لا يزال محتفظا بقوته وصلابته .. رحلت" كندة" الفتاة التي بلغت عامها هذا سن الرشد بصحبة والدها "موسى" شيخ العطارين إلى العاصمة لعلاج الرمد الذي يعاني منه الملك هذه الأيام.

العاصمة وكونها المكان حيث يقطن الملك لابد من أن تكون الأجمل والأكثر روعة .. وهي كذلك حقا .. فهي المدينة التي تجتمع فيها الفصول الأربعة معا بنغم وتناسق دون تفاضل أو تدافع .. الربيع والصيف .. الخريف والشتاء .. هي مدينة تزهو بمبانيها بشوارعها .. بأسواقها بسكانها .. بأزهارها بأدق التفاصيل التي لا تخطر على بال .. حتى الحصى أدق الحصى مرسوم بإتقان وأنا لها .. أن تستمد كل هذا الجمال إلا ممن .. تمركز في المنتصف .. كاللؤلؤة المجوفة لا يرى باطنها ذا بريق أخاذ يسطع بالليل والنهار .. تفاجأت كندة لما رأته فهو أشبه .. بالقصر المنيف الذي تراه من حين إلى آخر في أحلامها .. ردهاته .. أرجاؤه أشعرتها بالألفة وكأنها تعرف هذا المكان .. وبينما هم في طريقهم حيث ينتظر الملك انحرفت عن مسارها دون علمهم أو شعور منها وسارت في طريق طويلة حتى بلغت باب غرفة .. علمت علم اليقين أنها بفتحها له ستتحقق أحلامها .. فهو الباب حيث كانا خلفه معا .. الكريستال المرصع .. الأجراس المحفورة .. النقوش المذهبة والنجوم التي ستضيء بلمسة منها .. ستدق الأجراس وستترنم النقوش وسيتحطم الكريستال إلى نثرات تطفو حولها فقط .. بلمسة منها .. إحساس قوي يدفعها .. ها هِيَ تجاريه ها هِيَ لتستيقظ فجأة على .. صوت الدليل يناديها .. سارت خلفه وتركت خلفها .. إحساسها المعطل مركون عند عتبة الباب هناك .. بانتظارها حتى تعود ..
ــ صاح المنادي: الملك الأبيض بن الأشهب ابن سلام .. الملكة نورهان ..
ــ أتى تمسك بيده تهديه الطريق حتى أسكنته عرشه وجلست هي عن يمينه ..لم يعد يرى جيدا بسبب الرمد الذي يكاد يتلف بصره .. تقدم موسى يعاينه فالتف الجند من حوله – وكان قد أحيط علما مسبقا بأن يؤدي عمله دون اعتراض – ارتعب وارتجفت أطرافه إلا أنه بذل جهده لدفع خوفه - أشار إلى ابنته بإصبعيه فأخرجت المقص وما كادت حتى تجمع بقية الجند من حولها فأوقعوها أرضا وأطبقوا عليه .. نهضت الملكة بامتعاض شديد رافقها بينما ارتجت القاعة بأصوات أثارت حفيظة الملك الذي سألها بصوته العميق: مالذي يجري؟
ــ مليكي ومولاي .. أعتذر فالخطأ خطئي .. لقد أتى هذا الرجل لقتلك لا لشفائك .. أيها الجند ألقوه في السجن وارموا برأسه غدا إلى الكلاب ..
ــ صرخت كندة تدافع عن أبيها وتستجدي الرحمة من الملك الذي استفهم من موسى بطبيعة الأب الحنون .. موسى الذي يرثى لحاله لم يتبق لأنفاسه أنفاس ينطق بها: شعر حاجبيك الطويل الذابل أعاقني فأردت التخفيف منه كي أكمل عملي .. تلك كانت حاجتي إلى المقص ..
ــ تلمس الملك حاجباه فابتسم .. أمر الجند فخرجوا ثم طلب من موسى بوجهه البشوش أن يكمل ما بدأ دون خوف وبارتياح تام .. تخلص موسى من الشعيرات التي استوقفته .. سأل ابنته أن تطحن له بعض الأعشاب التي مزجها بنفسه بقطرات من زيت زيتون نقي وبالمزيج دهنهما وبعد ساعة أزاله وأخيرا فركهما بمجموعة أخرى من الزيوت ثم ابتعد قليلا وسأل الملك أن يبصر الآن .. رفع جفنيه وجعل يتلفت يمنة وشمالا حتى استقر بصره أمام زوجته التي كانت تترقب ردة فعله التالية .. مد يده يلامس براحة كفه وجنتها: أين تلك التجاعيد التي كانت؟
ــ باستغراب: ماذا؟
ــ ضحك ملأ شدقيه: لا تجزعي هكذا .. إنه ذلك الرمد اللعين من جعلني أرى ما لا أود أن أراه في وجهك الجميل .. نكست رأسها خجلا: أيها العطار ..ما السحر الذي صنعته .. إني أرى الآن أفضل من ذي قبل؟
ــ سيدي ومولاي .. أنا لم أفعل شيئا .. ذلك صنع الله ..
ــ سنجزيك خير الجزاء وسنكرمك حتى لا يقال بعدك مكرم .. ذاك ما كان من أمر الملك أما الملكة .. فكفارة لفعلها .. اكتنفت كندة تحت ظلها مدة إقامته .. أن تجعلها كالأميرة .. أقرب المقربات إليها أن تعتني بها وكأنها ابنتها وقد فعلت .. لقد رأت كندة في الأيام القليلة التي تلت مالم تره فتاة في عمرها .. إنه عالم لا يقيده خيال .. لن يسعه النظر البعيد ولن يحتمله حلم صغير .. فهي المتعة والبهجة والترف بأنقى ألوانه وأرقى أشكاله.

وفي ذات مساء .. خرجت الملكة بصحبة زخم من وصيفاتها إلى طرف المدينة إلى مكان يدعى .. "خانة البؤساء" شارع طويل يعبق بكل ذي حاجة إلى عطاء من الأمصار والأعراق المختلفة .. كانت تسأل كل شخص على حدة .. تصغي إليه باهتمام وانتباه .. تدون مطالبهم في كتاب للحاجات .. تمسح على رؤوسهم وتعدهم خيرًا بتحقيقها في أقرب وقت وبينما .. هي كذلك إذ بها .. تقف شاخصة العينين نحو الهزيل حافي القدمين المستند بظهره على الحائط المتكأ برأسه النائم على البائس بقربه .. ملابس ممزقة .. عمامة مهترئة وجسد مدعوك بالرماد .. حاولت إيقاظه فاشمأزت فبادرت كندة حالا .. أيقظته وبالكاد استيقظ .. أيقظته ليهتز عالمها بعد ذلك في لحظة .. اضطربت أمعاؤها وارتج خافقها وإحساسها المعطل المركون عند عتبة الباب ذاك أتي إليها .. يجري صارخا بكلمات لم تجد .. وقعًا حقيقيا في داخلها حتى إذا ما .. أحنى رأسه فسقطت عمامته فكشف لها المستور الذي أربكها .. وجهه الأمرد .. شعره المسترسل وغرته السوداء التي اكتنفت نصف وجهه دون استثناء .. التقاسيم ذاتها ممزوجة بقصة من الشقاء .. النظرات المتعبة التي تخلو من وجودها والصوت الخافت المستهزأ المرحب: آآآآآآآه .. أماه .. كيف الحال؟ مد يدا فارغة ترجو العطاء وبالأخرى ارتشف ما تبقى من شراب في زجاجته .. أمرت الجند أن يعيدوه إلى القصر على الفور فصنع فوضى لم تكن في الحسبان .. ساء الوضع فاقترحت كنده إرجاعه إلى القصر بنفسها فأمره على وشك أن يفتضح وليس من صالح الملكة أن تستمر في عنادها فقد يأتي ذلك عليها بما لا يحمد عقباه .. غادرت بعد أن تركتهما بصحبة حارسان طلبت منهما كندة ألا يلتصقا بهما كي لا يثيرا الشبهة .. سار مترنحا حتى ولج إلى السوق إلى مكان اكتظ بالألوان .. النساء بعباءاتهن اللاتي تميزن بهن .. تعرف الأرملة بعباءتها البيضاء .. المطلقة بالصفراء .. المتزوجة بالسوداء والبكر بلونها الزهري والرجل من فئتها بالعسلي .. وللباعة ألوان وللخدم ومن بلغ الحلم ومن دونهم ألوان .. أما الملك وأهله فقد اختصوا بعباءات من الذهب الخالص مطرزة بخيوط من فضة مرصعة بالزمرد بالياقوت بحبات المرجان .. توقف أمام محل للعطور .. سكب بعضها على ملابسه ولولا كندة .. لكان تناول أحدها توقف .. عند محل للملابس النسائية .. ارتدى هذه واتزر بتلك وتلك تصده تحاول منعه وهو غير عابهٍ بها قد .. تركها ثم سار في طريقه وهكذا .. يحطم هذا ويمزق ذاك .. يخرب يصرخ .. يرقص يغني ويهلوس .. يتصرف كالأمير في عالمه المجنون .. يجري هاربا فحشد من المطالبين خلفه مباشرة .. قبضوا عليه وألقوه داخل حلبة قريبة ليواجه مصيره .. الكل يهتف للضخم المتصلب كالحائط أن اقتص منه وامنحه ما يستحق .. مبتسما كان ولازال حتى بعدما رفعه إلى الأعلى وطرحه أرضا .. جعل ينظر إليه بطريقة أغاضته جعلته يرتمي بثقله عليه .. مد ساقيه وبقدميه العاريتين أصاب أعضاءه فسقط يتلوى من الألم يبكي فقد أصابه إصابة فجرت دماءه .. امتطى ظهره غير مهتم .. الكل صامت ما عداه وكندة الحائرة في أمرها لا تدري ما تفعل ..
ففارس أحلامها غريب عنها ..
من لم تؤمن يوما بأنها ستلقاه ..
التقته ولكن ..
هل هكذا يجب .. أن يكون اللقاء ..
تبعته حتى استلم جائزته حتى نثر النقود فوق طفل وانتزع دجاجته .. خلفه حتى بلغ مزرعة .. عاث فيها فسادا ثم هرب .. حتى نفذ إلى نادٍ .. ملأ جوفه بالشراب ثم خرج .. إلى حافة جبل .. أراد أن يفلت الدجاجة أن يلقيها من الهاوية فأفلتت .. لحق بها إلى غابة تكتسي بالثوب الأحمر كلما غربت الشمس وتتوهج كاللهب كلما اكتمل القمر .. يخشاها الناس كما الملك .. لا يتجرأ أحد على دخولها أو الاقتراب منها هي بقعة .. لا وجود لها خارج حدود سيطرة الملك .. توغل عميقا خلفها وكنده تحاول جاهدة ألا يغيب عن نظرها .. ارتطم بأحد الأشجار فأسرعت إليه .. احتضنت رأسه .. عاينته .. لم يصب بأذى لقد أغمي عليه فقط .. لم تشأ إيقاظه .. أن يكون وديعا مسالما هكذا .. أن تتملى منه دون أن تلهث خلفه .. أن تتلمس تلك التقاسيم التي لطالما عبثت بمخيلتها دون أن تخشى أحدا .. أن ينعم ببعض الراحة بعد كل الذي رأته سيجعلها تشعر بالراحة أيضا .. هي لم تصدق بعد .. ستستيقظ في أي لحظة هذا ما اعتقدته إلا أن الحلم يزداد غرابة فأطياف مضيئة كالقناديل المعلقة بأذيال من لهب تندفع خلف ثعلب يقضم بين فكيه دجاجة وزنها من ذهب .. لاحظها أحدهم فتقدم ببطء ناحيتها .. خائفة مذعورة ولكن ما باليد حيلة فهي لا تستطيع تركه .. حَملَه واستدعاء النجدة أمر لا يسعه مدى صوتها .. يكاد يلتقي بها بأرنبة أنفها .. تراجعت حتى التصقت بالجذع خلفها .. لم يلتفت لذعرها لم يستمع لنبضات قلبها بل .. لقد اقترب أكثر وبجرأةٍ حينما .. امتدت أطرافه ببطءٍ من الداخل تعبث .. بأمائرها بالخصلات المتناثرة على جبينها .. بخمارها .. اخترقت ثوبها إلى محيط صدرها إلى قلبها الذي تباطأت نبضاته .. ثوان والتصق وجه الطيف في وجهها وكأنه يقبلها والتفت أطرافه تعانقها .. لم تشعر بالوجع أو الألم بل بإحساس غامر بالمحبة بالدفء يحيطها ولم يفلتها إلا بعد أن ارتد طرف الراقد في حضنها .. دنا منه فتعكر مزاجه تعكرًا جعل اللهب يتطاول نحو مقدمته .. أطفأت بيدها العارية ما التهب .. احتضنت رأسه وبشجاعتها المتواضعة حاولت دفع ما اقترب .. أخذ الطيف يحوم حولها بانزعاج شديد وهي تصده تمنعه من الاقتراب ولم يزل حتى لاحت له فرصة .. أوشك فبرزت جذور الشجرة التي تظلهم وارتفعت تصنع قفصا ذا فتحات ضيقة اكتنفهم .. محاولات الطيف اليائسة جعلته يشتاط غضبا جعلته .. يقذف اللهب بلا مبالاة هنا وهناك.. تحرك الحصى ومن تحته انبرت من جحورها أقزام بحجم الفول ذات بطون ممتلئة تطفأ اللهب بالماء المندفع من أفواهها وما إن انتهت حتى .. عادت من حيث أتت .. تحولقت الأطياف حول صاحبها تمتص غضبه .. عاد الوضع إلى ما كان عليه .. دنا منها معتذرًا وبحزنٍ شديد بان عليه .. ودعها بطرفه التي لامس برفق وجنتها .. محيط وجهها و غادر .. غادر تاركا إياها بصحبة القمر الذي اكتمل شامخا رغم السحاب المكتظ الذي يبدو أنه يهابه .. سكب ضوءه بقوة وسط المكان .. بين الزوايا وفوق الأغصان .. فراشات لا لون لها وجنيات لا هم لها سوى توسط الضوء ونثره .. أسماك طائرة .. ضفادع ذات إزار وبلابل أفاقت تشهد الحال .. استحال العشب الأخضر وانتزع الشجر رداءه وتبدل لون الحصى .. لون الندى والأزهار .. الوهج الأحمر يكتسح المكان وهي ترى مالا يعقل ولا يخطر على بال .. أتى البلبل .. بلبلها .. فز قلبها لدى رؤيته .. إنه من تمنت من القلب رؤيته .. لقاء لثوانٍ انتهى حينما .. نثر رذاذا فوق عينيها فغفت وعند الفجر استيقظت .. أين القفص الذي اكتنفها .. الأجواء الساحرة والوهج الأحمر الذي اكتسحها بل .. أين هي الآن؟ لا تزال في الغابة إلا أنها .. قرب المدخل .. سحبته إلى الخارج .. استدعتهما .. من لَم يتجرءا مطلقًا على اللحاق بها .. من أخذا منها عهدًا ألا .. تخبر أحدا ..حملاه وقفلوا راجعين إلى القصر ..
عادت كندة إلى جناحها وارتمت فوق سريرها تفكر حائرة بين ..
الحلم الذي رأته ثم اختفى ..
وبين الحلم الواقع بين يديها الآن ..


https://upload.rewity.com/uploads/1506984821194.gif
يجب ان ترد لمشاهدة المحتوى المخفي



كان هذا هو الفصل الأول .. أرجو أن يحوز على رضاكم أن ألقى منكم التشجيع الذي يدفعني للاستمرار دون توقف أو تقصير ..




https://upload.rewity.com/uploads/150698482125.gif

Mona1977 13-09-17 04:40 PM

غريبة بجوارك "الفصل الثاني"
 
غريبة بجوارك
" كنت إلى جوارك قريبة .. غير أني كنت غريبة "
( الفصل الثاني )


في الصباح الباكر أستدعيت كندة من قِبل الملكة إلى جناحها الخاص .. استقبلتها دون أن تنهض من مكانها .. إنها تبدو تعبة ذلك ما دل عليه حالها .. أطرافها متدلية .. هامتها مسكوبة خارج حدود الأريكة التي تستلقي فوقها وكأنها سقطت للتو من السماء .. طريقة تنهدها واصفرار وجهها جعل كندة تسألها: سيدتي .. هل أنت بخير؟
ــ نورهان المرأة التي تكبر كندة بأكثر من عشرين عاما لم تعيقها السنين عن الاحتفاظ بكامل أنوثتها: وهل أبدو لكي أني بخير .. إني تعبة .. تعبة لدرجة أني لا أستطيع النهوض .. سيقضي علي ذلك الأبله الذي يدعي الجنون ..
ــ لقد علمتِ ..
ــ لقد علمت وذاك ما قض مضجعي وأثقل كاهلي وجعلني أستدعيك .. أنتي لم تر ولم تسمع شيئا وما جرى البارحة .. اصنعي له حفرة في أعماق أعماقك واطمسيه .. لا يجب أن يخرج أبدا .. هل فهمتي؟
ــ بجدية ببرود تام أردفت "نعم" .. قالتها كندة بارتباك ثم استأذنت: سيدتي هل لي بسؤال؟
ــ ماذا؟
ــ إن كان هذا هو سيدي "أبان" فمن يكون إذن هذا الذي يجوب بموكبه الطرقات .. من يحبه الفقراء ويعشقه الناس وتدق الأجراس احتفالا بقدومه؟
ــ اكتنفت بذارعها محيط عينيها .. بامتعاض شديد: آآآآآآآآآآآآآآآآه يا له من حديث مؤلم يهد الأبدان ..
ــ عذرا سيدتي ..
ــ لولا مكانتك في قلبي وواجبي تجاهك وثقتي بأنك ستكتمين السر لما كنت أخبرتك مطلقا ..
ــ هذا كرم منك لا أستحقه ..
ــ من تحدثتي عنه ليس أبان بل هو" أسامة" ابن رئيس الوزراء شبيه أبان .. تطوع مشكورا القيام بالأمور التي تخلى ذلك الأحمق عن تنفيذها منذ عام تقريبا .. فكما شهدت فأبان لم يعد مؤهلا لأداء واجباته .. ولا عجب في ذلك .. فإهمال أبيه وتدليلي المستمر له وخوفي الشديد عليه جعل منه شابا منطويا على نفسه .. مهزوزا .. مسلوب الشخصية و مع هذا .. فقد كان هادئا بعيدا عن المشاكل إلا أنه فجأة وقبل سنة تقريبا .. انقلب رأسا على عقب .. لقد تخلى عن هدوئه .. عقله .. عن حياته .. لقد ركن نفسه جانبا .. مدعيا الجنون .. سائلا الجميع أن يصدقوا ادعاءه .. وأصدقك القول أني مع مرور الوقت بدأت أصدقه ..
ــ سيدتي .. أستميحك عذرا ولكني أرى بأن علاج سيدي الأمير بزواجه ..
ــ ومن قال لك بأني لم أفعل .. في مقتبل تلك السنة الآثمة زوجته مرتين .. طلقهن في أقل من يومين .. لقد كدن يصبن بالجنون بسبب تصرفاته .. أخبرتني إحداهن أنه أمرها أن ترقد فوق سرير محشو بالأفاعي أما الأخرى .. فقد جنت بالفعل أتصدقين ذلك .. لقد بذلت الكثير الكثير من المال لسد أفواههن .. لقد احتار الملك في أمره وأنا لم أعد قادرة على السيطرة عليه أو حمايته .. ولولا كونه ابني الوحيد لكنت .. نفيته إلى أرض نائية بعيدا عني ولينشغل حينها .. بجنونه كيفما شاء ..صمتت كندة طويلا وبعد تفكير عميق نطقت بالعجب العجاب:
سيدتي هلا منحتني فرصة؟
ــ ماذا تقصدين؟
ــ أعتقد أني قادرة على إعادة سيدي أبان إلى رشده وجعله يستقر ..
ــ كيف؟ ــ بتردد طفيف: بالزواج منه .. ــ هه..
ــ كندة التي كان يبدو جليا أنها .. قد اتخذت قرارها أن .. ترضي فضولها وتصنع انطلاقة حقيقية لحلمها: لا أعلم سيدتي إلا أنه .. إحساس قوي ممزوج بشيء من الثقة أني .. أستطيع مساعدته وأكدت: سيدتي .. لا تلقى بالا لانخفاض صوتي وطبيعة جسدي فقوامي .. لا يكسر بسهولة وصوتي .. واصل وفاصل ولن .. أمل الصبر حتى يملني إلا أن ذلك لن يكون إلا .. بالاقتراب كثيرا منه وملازمته والزواج برأيي .. هو الطريقة الأمثل لتحقيق ذلك ..
ــ أعرضت عنها قائلة: لا أعلم ولكني أعلم أن .. أوان ذلك قد فات فهو .. لم يعد يرغب بالزواج إلا .. أن تكوني إحدى وصيفاته ..
ــ قالتها جزافا فتفاجأت بالإجابة التي عكست توقعاتها: لا بأس ..
ــ ماذا تقولين؟ هل أنتي مجنونة؟ أنتي حرة .. والحرة لا تباع ولا تشترى ..
ــ ولأني كذلك سأجعل من نفسي ملكا للأمير إن كان في ذلك علاجه .. سأحاول مليكتي فلا تحرميني هذه الفرصة أرجوك ..
ــ أدنت نورهان رقبتها .. تحدق بها:
ما قصتك يا فتاة .. لِم كل هذا الإلحاح وأنت بالكاد قد رأيتِه؟
ــ نعم إلا أني .. وحاشاي أن أكذب عليك فقد .. أحببته ولم أزل حتى اللحظة .. أفكر به وأرغب بشكل جاد مساعدته .. أن أكون لصيقة به أن أجعله يراني أن .. يراني كما أشتهي في عينيه .. تشهد السموات والأرض على كلامي هذا .. فلتأذني بذلك لي مولاتي ..
ــ اتكأت جانبا .. نظرت إليها مليا .. هزت رأسها: حسنا إذن .. لتكن المحاولة الأخيرة ..

اتفقت كندة مع الملكة أن تباع في سوق النخاسات .. أن تشترى بثمن غال كي تصبح "الصفية" والصفية هي أغلى الوصيفات ثمنا .. هي كالزوجة دون حقوق وكالأميرة من دون واجبات أو حق في الحكم .. لها أن تدخل على سيدها دون استئذان .. غرفتها هي غرفته ومائدتها مائدته .. تصطحبه في المناسبات وترافقه في المناقب .. في المواكب والاحتفالات .. يطيعها الخدم والغلمان ويأتمر بأوامرها الجند .. تعامل كحرة لا كعبدة مشتراة .. هي باختصار .. الظل اللصيق لسيدها حتى تأتي صفية تعلوها سعرا أو زوجة تمنحها الحرية.

ودعت كنده والدها بعد أن عقد قرانا وهميا يربطها بالأمير .. لقد حز في نفسها أن تشترك مع الملكة بكذبة انطلت عليه .. أنها باتت زوجته ولها من الحقوق ما يحفظ لها كبرياءها وكرامتها كامرأة حرة إلا أن .. ما أوجعها حقا هو .. اشتراط الملكة إعلان الزواج بطفل تنجبه .. لقد أغاظه ما قالت وآلمه كثيرا جواب ابنته بأنها راضية فهي تحبه .. هدأ قليلا بعد أن وعدته الملكة بأن الانفصال إن حدث فإنها لن ترمى هكذا وكأنها لاشيء بل .. سيعتنى بها أشد الاعتناء و ستجازى خيرا بما يحفظ لها حقها .. غادر محملا بالأكاذيب التي كان ختامها .. عربة تسبقه مترعة بالذهب .. مهرها الوهمي الذي تصدقت به على أهل قريتها.

أتى اليوم المرتقب .. عرحت كندة على الملكة قبل رحيلها فأوصتها الملكة بكلمات من باب حرصها وكونها أدرى الناس بابنها: تخلي عن خجلك عن ضعفك وإياك ومغادرة فراشك ففراش المرأة هو .. سحرها الذي لا يستطيع الرجل إبطاله وهو السجن الذي يتلذذ بظلمته مهما بلغ ضيقه .. وكلما سقطتي انهضي وحافظي على هدوئك مهما بلغت حدة جنونه واعلمي أن للرجل جانبان .. جانب يبرز فيه قوته وجانب مهزوز متخاذل محبوس في دهاليز إن استطعت التسربل من خلالها فقد تمكنت منه وإنما هو .. قلب واحد إن استحوذت عليه فقد امتلكته بالكامل.

احتشد الحشد الذي خلا من اسم رجل وبدأ العرض الذي انتهى سريعا فالفتيات كن ذواتا جمال أخاذ يسلب الألباب كانت آخرهن كندة التي .. برزت من بين الستائر ترتدي ثوبا شبه عار أظهر مفاتنها أبهر الحضور أثار الهمز واللمز ..
ــ صدحت النخاسة تطرب بصوتها قائلة:
سيداتي ..
أنظرن هنا .. ألا ترون ما أرى .. أم أنني الوحيدة التي ترى ..
فتاة لم يخلق مثلها بعد .. هبة السماء وثناء الأرض فتاة ..
انحنى لها الجمال وتفرق النجم ليفضي لها مكانا بينها ..
زهرة مضيئة لما تناثر على صفحاتها قطرات من الندى ..
يهزها النسيم برفق ..
فتنثر أبيات شعرها بلا حياء فتصيب بسحرها من تشاء ..
لعاعة لغوس .. شمس غموس .. فرس شموس ..
وجه كالقمر ..
عيون دعجاء ولآلئ سوداء ..
أنف من العاج وخدود من المرمر ..
فم منمنم وشفاه قرمزية وشعر مصقول ..
يتهادى حول خصر من حرير ..
بيضاء كالثلج .. كندف الثلج قد تساقطت للتو من السماء آآآآآآآآآآآآآآآه يا ويلي ..
ماذا عساي أن أقول بعد ..
جسد من عالم الأحلام وقوام جيد حسان ..
صوت يدغدغ الأذهان وسحر ليس من هذا الزمان ..
عروس بحر تاه رداؤها وحورية من السماء تبحث عن جناحها ..
من امتلكها فقد امتلك الفردوس .. أسرار البحار .. بهجة اليوم وشباب الأمس ..
من امتلكها ..
فالحق والحق لابد من أن يقال ..
أنه امتلك الفتنة بكامل بريقها وقد صدقت ..
فقد ارتفعت المزايدات حتى بلغت أوجها والنخاسة التي أدت الدور المرسوم لها بانتظار مبعوثة الملكة أن تعلن عن نفسها بسعر يلجم الأفواه .. ظلت صامتة حتى اللحظة الأخيرة: ألف ألف درهم .. استتب السكون وتمت البيعة.

وفي القصر استقبلت كندة من قِبل وصيفاتها اللاتي انحنين احتراما لها بخلاف "كهرمان" الصفية التي أستبدل مكانها والتي فعلت ذلك وكأنها مرغمة .. ألبسنها ..هيأنها وجعلنها تبدو أكثر جمالا بل أكثر فتنة واصطحبنها إلى غرفتها .. غرفة الأمير بل هو المكان حيث كانا معا .. ولجت إلى الداخل .. إنها الغرفة ذاتها .. اللون الأبيض الذي اكتنفها .. الأركان التي كانت تتوارى خلفها كي لا يمسك بها والسرير لما قفزت .. لما قفز خلفها .. كان نائما فجلست بقربه ولما .. تكون بقربه فهي لا تتمالك نفسها أن .. تتأمل وجهه أن تداعب برفق أنامِلها وجنته وأرنبة أنفه إلا أن .. تلك اللمسات الرقيقة أيقظته .. صرخ فيها: من أنت وماذا تفعلين هنا؟
ــ أجابته بارتباك لم تستطع السيطرة عليه: أنا هي الصفية الجديدة وأدعى كندة ..
ــ آآآآآآآآه .. إذن فقد فعلتها أماه حسنا .. ليكن لك إذن ما أردت .. قذفها خارجا فارتطمت بالجدار المقابل ثم سقطت أرضا .. نفش شعرها .. مزق ثوبها .. كهرمان تبتسم بخبث وهن شاهدات لا حول لهن ولا قوة .. اغترف براحتيه ما استطاع من تراب من الحوض بقربه وبعثره عليها ثم جرها من شعرها كالماشية تساق إلى حتفها وهو يضحك بشكل هستيري وهي تصرخ من شدة الألم لا سبيل لإيقافه فلا أحد يعترض طريقه ولا نفع يرجى من مقاومته فالألم يزداد كلما حاولت لتؤثر الصمت حينها عل الصمت .. يوقفه في حين لم ينفع الصراخ ومضى حتى .. توقف مقتحما جناح والدته التي كاد أن يغمى عليها .. سحبها حتى أصبحت تحت قدميها .. جثا بعدها على ركبتيه من شدة التعب مبتسما ينظر إليها كالمجنون وهو يلتقط أنفاسه .. لم يزل على حاله البائسة تلك حتى .. نهضت تنفض الغبار عنها .. استأذنت الملكة بعباءة تسترها ثم غادرت بسكينة نحو مخدعها .. تفاجأ بها بل .. بالملكة التي سمع لصرختها دوِي ارتجت له أبواب القصر كلها: أخرج .. اختفى أبان بعدها ..
انتظرت كندة عودة سيدها حتى ساعة متأخرة من الليل حين أتى .. محمولا غارقا في النوم لكثرة ما شرِب .. تذكرت وصايا سيدتها السبع فدنت منه حتى .. التصقت به ثم احتضنته.

وفي الصباح الباكر طرق الباب .. كان أحد الغلمان – والغلمان هم زينة القصر وبهجته .. مرفوع عنهم القلم حتى يبلغوا سن الرشد وحينها .. عليهم أن ينخرطوا في حاشية الملك ويتلقوا الواجبات الموكلة بهم – أتى يستدعي سيده لتناول الغداء بحضور الملك وزوجته ولما .. لم يجد استجابة منه تسلل إلى الداخل .. ثوان وعاد يصحبه صحبه الذين عاثوا في الغرفة خرابا: أخرجوا قالها دون أن يفتح عينيه إلا أن .. إزعاجهم الشديد جعله يفعل ذلك مرغما .. كتفها العاري ورأسها المخبأ بين أضلعه والتصاقها اللصيق به جعله ينهض فزعا:
ماذا تفعل هذه هنا؟
ــ لقد كانت هنا ..
ــ منذ متى؟
ــ لا أعلم لنسألها .. تجمع الغلمان حولها يداعبنها حتى استيقظت .. نظرت إليه بأجفانها الناعسة .. رؤيتها وإن كانت كلت من النوم فالنوم لم يملها .. تشفي الأعمش وتسكن الأرمش وتروي العطشان إلا أنه لم يرتوِ من ذلك الماء العليل الذي هو في متناوله بل ظل ساكنا ينظر إليها فزعا ومالبثت .. أن عادت إلى النوم: من أنتِ؟ ماذا تفعلين هنا ومتى أتيتِ؟ سيل من الأسئلة التي عجز الفضول عن حصرها: ماذا تفعلون هنا؟
ــ الكل يمرر الإجابة إلى صاحبه حتى أجيبت: الملك والملكة بانتظاركم على مائدة الغداء .. تمددت فوق فراشها وكل حركة تصدر منها تعبر عن أنوثة تلقائية تستطيع أن تلهب مشاعرك وجوارحك في لحظة ولكن مالفائدة وقد بدا .. كتمثال حجري لايرى لايسمع ولا يتكلم .. لهت معهم لبعض الوقت .. تعرفت على أسمائهم استمعت إلى أحاديثهم من ثم .. سارت باتجاهه فتنحنى عنها جانبا بشكل أوحى لها وكأنها وباء .. استأذنته للاستعداد ثم غادرت.
امتنع أبان عن تناول الغداء إلا أنه .. رضخ في النهاية فالغلمان أمروا بإحضاره وإلا .. فإنهم سيحرموا من الطعام والشراب لبقية يومهم .. وهذا ظلم لم يستطع تحمله ..

أتى متململا وجلس متململا والملك الذي .. اتقد بصره لما رآها جعل يسترق النظر إليها خلسة وأبان المستند بوجنته على لحاف المائدة يراقبه عن كثب وكلما .. التقت أعينهم غض الطرف منشغلا بتناول طعامه أما أبان فقد تحول على جانبه الأيسر ينظر إليها بلا مبالاة ثم إليه فوجد ما كان منه منذ قليل والملكة تدرس تحركاته .. عقلها لا يكاد يسعفها .. إحساس مشؤوم بأن أمرا أشد شؤما سيحدث وقد كان فقد نهض أبان .. أمسك بها بشدة من حاشية ثوبها ثم رماها في حضنه: سيدي ومولاي ..مالي هو مالك .. افعل بها ما شئت ثم ارمها للكلاب قال ذلك قفل بعدها .. راجعا إلى غرفته بالهيئة كما أتى .. شعرت بالإحراج وتجمع الدمع عند مآقيها ثم انسكب .. استأذنت الملك باللحاق به .. جذب يدها ومسح دمعها وواساها بكلمات ثم أذِن لها .. تفاجأت الملكة فهي المرة الأولى التي تراه يمسك يد امرأة غيرها .. أن يمسح دمعها أن يواسيها بكلمات .. أن يصبح طعم الطعام رديئا برحيلها ألا يكمِله .. أن يتركها عابسا دون كلمة طيبة كما اعتادت جعلها .. تقاوم بقوة بوادر شك لم تؤمن بحدوثه .. يوما مطلقا.

كان في طريقه إلى غرفته عندما تجاوزته إليها .. لم تخرج ذلك اليوم ولم يعد هو أيضا وعلى مأدبة العشاء التي أقيمت بمناسبة شفاء الملك لم يكونا حاضرين .. أمرت الملكة أحد الغلمان باستدعائهما إلا أن الملك اعترضها متبنيا هذا الأمر متعللا بِحجتي .. التجول في أرجاء القصر فهو لم يفعل منذ مدة والتقرب من أبان وإصلاح الوضع بينهما بأن يذهب إليه بنفسه .. استغراب بسيط لم يصحبه معارضة من جانبها إلا أنها .. ولما نهضت لترافقه ولما .. منعها فمن غير اللائق ترك الضيوف لوحدهم حسب قولِه .. استحال ذلك الاستغراب البسيط في لحظة إلى .. غربة لم تجد موطنا في داخلها .. تجول قليلا مبديا بعض التعليقات هنا وهناك ليصل في النهاية إلى الجناح حيث أبان .. أبان الذي لم يكن هناك .. دخل بعد أن استأذنها أحد الغلمان .. انحنت احتراما له: كيف حالك بنيتي؟
ــ بخير .. ما دمت بخير مولاي ..
ــ ابتسم لردها ثم جلس وأجلسها بقربه .. مسح على رأسها مواسيا إياها: أبان فتى طيب .. إن تحملته قليلا فإنه سيعود كما كان ..
ــ أتمنى ذلك ..
ــ ما هذا؟
ــ لا شيء .. تركت جذبة أبان لحاشية ثوبها أثرا أسفل عنقها .. أمر الملك بالعلاج فأحضرته كهرمان التي .. نسخت كل ما جرى بعد ذلك لتصبه في آذان الملكة .. لقد عالجها بنفسه .. ضمها إلى صدره ووعدها .. مدعيا أبوته وبأنها الابنة التي لطالما تمناها بأنه .. سيحميها وسيكون دوما إلى جانبها فلا تقلق ثم اصطحبها خارجا .. إلى حديقة القصر كي يجلب الأنس والسكينة إلى نفسها المتأرجحة .. كان هناك مستندا على جذع شجرة بدت مألوفة لكندة التي تكدر خاطرها فأركان حلمها هي ذاتها لم تتغير بينما الريق البارد لحلمها كي ينبض بالحياة ..
هو .. وليس هو ..
متذبذب مترنح بين مد عال وجزر .. أوشك على السقوط أرضا .. حاولت كهرمان ولكن كندة كانت الأسبق إليه .. أسندته على صدرها وأسدلت رأسه بين نحرها وعاتقها ..
ــ بضيق واضح نهره: أبان أبان .. ماذا تفعل هنا؟ هيا قم ..
ــ أبان الذي لم يكن في وعيه فقناني الشراب الفارغة التي كانت بمحاذاته لا تبشر بخير: آآآآه يالها من رائحة زكية وما أحسنه من وجه .. استغراب يسير تبعه هلع بحجم جنونه فقد انكب عليها محاولا تقبيلها ..محاولا الاعتداء عليها .. أن يصنع بها كما يصنع الزوج بزوجته .. لا خجل ولا حياء .. أمام أعين الجميع .. أمام والده الذي حيره أمره وأثار غضبه ..
ــ انتزعنه بصعوبة منها .. هربت بعيدا عنه واختبأت خلف شجرة أخرى .. صاح فيه الملك الذي كان قد كتم غيظه طويلا حتى ضجر: ألا تخجل من نفسك؟
ــ بوقاحة: ولم الخجل ..إنهن ملك يميني .. أفعل بهن ما شئت متى شئت .. من عليه أن يخجل حقا هو أنت .. ألا تستحي أن ترافق حريم ابنك دون إذنه ..
ــ يا هذا ألا تعلم من تخاطب؟
ــ بلى بلى .. أعلم من .. أنت أبي .. لا لا لست كذلك .. بل أنت مولاي .. لا لا لست كذلك .. بل أنت مليكي .. لا لا لست كذلك .. إذن فمن تكون أنت ومن أكون أنا؟ نظمها أغنية وجعل يترنم بها طوال الطريق إلى السجن الذي .. ألقِي به عقابا له على جرأته ووقاحته ..
عادت كندة إلى جناحها .. لم تسمح لهن بالتخفيف عنها تركنها لوحدها تفتكر في حالها الذي تبعثر إلى أشلاء إلى .. التيه الذي وقعت فيه بسببه إلى .. الفجوة التي تزداد عمقا فعمقا بين جرحها الذي علا صوته وبين خيبة الأمل التي تنازعها ..
هو يوم واحد فكيف لي .. أن أتحمل أيام .. حسرة وندم اجتاحت أحلامها تلك الليلة سلبت .. من تحت جفنيها .. سلوى النعاس .. جعلتها في أرق لم ينقطع بل .. استمر مغرظا حتى الصباح.

غادر الملك المأدبة مبكرا وترك للملكة استقبال الهدايا .. لم ينم تلك الليلة هو أيضا بل ظل .. بانتظار الصباح ولم يهنأ له بال إلا بعد .. أن تناولت الإفطار بصحبته والملكة تراقبه وترى .. اهتمامه البالغ بها وتكتم غيظها كتما كمن .. يبتلع لقمة هي أقسى في مرورها من فتات خبز يابس: ما بالك بنيتي؟ ألم يعجبك الطعام؟
ــ لا .. ولكني لست جائعة ..
ــ لابأس .. كلي القليل لأجلي ..
ــ مدت يدها وما عتمت أن عادت إلى موضعها: مولاي .. هلا أفرجت عن سيدي ..
ــ ضرب المائدة بيده فارتجت الأطباق: أضيقك هذا كـله سببه ذلك اللعين أبان ..
ــ ...............
ــ غمزت لها الملكة فانحت ثم غادرت: مولاي .. اهدأ قليلا .. إنه لا يستحق غضبك ..
ــ نظر إليها شزرا: إن تمادى أكثر .. أقسم أني سأقتله .. ذلك اللعين .. كيف قبلت به وسمحت له بأن يولد قالها أثناء نهوضه .. رحل هو الآخر فالمتعة وهناء البال كانا قد رحلا برحيلها ..
ــ أجابته بهمس شابه بقايا غيظ وغضب: أقتله .. وسأقتلكما معا ..


كان هذا هو الفصل الثاني .. وحتى لقاء آخر .. دمتم أحبائي بصحة وسعادة ..

سما نور 1 14-09-17 11:39 AM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
صباح المسرة والرضا لك عزيزتي
أنرت قصر الكتابة الخيالية
بتمنى تتطلعي على قوانين القسم هنا https://www.rewity.com/forum/t220555.html

وبخصوص الغلاف ياريت تعطيني ملخص بسيط حتى نقدر نصمم لك ولو عندك صورة تناسب المحتوى بكون ممنونه

بين الورقة والقلم 17-09-17 03:11 PM

والله زماان عن القصص الخياليه بس روايتك مشوقه باسلوبك المتميز حبيت المقدمه اذهلني اسلوبك الممتع الحلم بالبدايه كثيير ابدعتي بوصفه بتابع معك باذن الله يا غاليه بحسب ظروفي واتمنا اني اشوفك باوائل صفوف الكاتبات المبدعات

Mona1977 17-09-17 08:55 PM

تسلمين يالغالية وشرف كبير لي إنك اتابعيني ..
ألف شكر لك ومنورة الرواية بوجودك ..

انت عشقي 18-09-17 01:55 PM

جميله جدا... اسلوب راقي وجذاب... ابارك لك بدايتك.. واتمني ان تتم علي خير...

Mona1977 18-09-17 03:32 PM

بإذن الله .. مشكورة يالغالية ونورينا أكثر بردودك الحلوة ..

Mona1977 20-09-17 12:56 PM

غريبة بجوارك (تم إضافة الفصل الثالث)
 
غريبة بجوارك
" كنت إلى جوارك قريبة .. غير أني كنت غريبة "
( الفصل الثالث )


مضى يومان وأبان لايزال قابعا في حبسه والملك لم يلتق بكنده بعدها ذلك أن الملكة .. استطاعت إقناعه ألا يحتك بها كثيرا من ناحية فالألسن .. قد بدأت ترتفع بما لا يحب سماعه .. ومن ناحية أخرى فقد .. دفعت بها للحاق بسيدها ليس حبا بها بل للتخلص منها لبعض الوقت ولتحصل على بعض الراحة فتفكيرها لم يهدأ منذ آخر لقاء تم بينهما .. حملت طعاما وسارت إليه .. تناهى إلى سمعها صوت صراخه: أنا رجل .. أنا رجل رغما عنك أسمعت .. أنا رجل وأثناء تقدمها التقت بشاب في عمر أبان يتمايز عنه باللحية والشارب .. قوة العضل وحدة النظرات .. بابتسامة عابث أكمل طريقه دون أن يلق بالا لها لا لصرخات أبان التي لا تنفك .. تعلو وتعلو كلما ابتعد .. ما أن رآها حتى استدعاها سألها سؤال متلهف: أنا رجل أليس كذلك؟
ــ انتظر قليلا .. أمرت الحارس أن يتركهما لبعض الوقت:
عذرا سيدتي ولكني مضطر لإقفال الباب ..
ــ لابأس .. ما أن التفتت إليه حتى عاد فسألها بإلحاح: أنا رجل أليس كذلك؟
ــ إن لم تكن رجلا .. فكيف يبدو الرجال؟
ــ لطخ وجهه بالرماد صانعا لحية وشاربا: بل هكذا يجب أن يبدو الرجال هكذا ولكن .. ما ذنبي أنا أن .. يأتي من يدعي أن لي .. بشرة ناعمة أني كالنساء .. لا ذنب لي أني ولدت هكذا ولا شأن لذلك بحقيقتي .. أنا رجل رغم أنف الجميع .. أنا رجل أليس كذلك أخبريني؟
ــ أومأت له برأسها تشفق عليه بنظراتها فقد كان يتحدث بطريقة يائسة تجلب الأسى ومع تلك الإيماءة .. اندفع نحو الباب وجعل يهز قضبانه بقوة صارخا: أنا رجل .. أسمعت .. أنا رجل ومع هذا .. خفت وتيرة صوته إلى ما هو أقرب إلى .. دعاء يبكي وهو يرتجي: قد تكون محقا وقد أكون مخطئا .. قاغفر لي ذلك وعد أرجوك .. سأغدو ما تريد وسأفعل أياما أريد فقط .. لا تتركني وحيدا وعد .. عد أرجوك عد .. وجعل يكررها حتى .. بح صوته وكل جسده .. هوى أرضا فتداركته .. هدأته بكلمات ومسحت دمعه .. قلما يبكي الرجال .. بل إنهم حين يفعلون ذلك فلأمر جلل قد ألم بهم: هل خفتي يوما أمرا أحببته في نفس الوقت .. لم تجبه فقد كان سؤالا ينم عن لؤم لا يلتئم معه ألم ولو لم يكن هذا مقصده وبدلا من الإجابة أدنت الطعام إليه ومدت يدها بلقمة إلى فمه .. نظر إليها متعجبا لتلتصق اللقمة بعدها بالجدار .. ناولته أخرى فبصقها في وجهها .. قدمت له الماء فنثره عليها .. كررت ما بدأت ليبتلع أنفاسها محملقا بها مثيرا الرعب في نفسها: هل أبدو لك مثيرا للشفقة إلى هذا الحد؟ حطم أحد الأطباق فتفاجأ بها تحطم الآخر .. صرخ بها فصرخت به: كفى .. علمت كندة أن التخاذل والاستسلام للحظات ضعفها لن يكون في صالحها عليها أن تكون صارمة أن تتحدث بجدية كي يستمع إليها وإن لم يكن هذا طبعها فهو أمر لابد منه ليقف عند حده: أتظن أنك بصراخك بإثارة الرعب في نفسي هكذا ستصبح رجلا كلا .. لقد أخطأت .. فكما يرتوي الأسد من زئيره فكذا الرجل .. يرتوي من صراخه وتسلطه كمخلوق خلقت المرأة منه والحقيقة أنه .. فكما البخار يأتي من الماء فالماء لا يأتي إلا منه فكذلك .. هو الرجل وكذلك هي المرأة .. سواء استشاطت القوى أو تنافرت العقول .. فإن الحال يبقى هكذا .. وما جعلت القوامة إلا رفقا بها وحفظا لها .. فلماذا يطغى الرجال وقد رفعت الأقلام وجفت الصحف .. لا تريدني بجوارك قلها فأبتعد .. ألا يكفي أنك مدع كبير .. نفضت بقايا الطعام عنها ثم انزوت في الركن المظلم المقابل له .. لم ينبس ببنت شفه .. استلقى هو الآخر ومضت الساعات: سيدي .. استيقظ لقد أفرج عنك .. أين هي سيدتي؟ فأشار إليها: سيدتي الملك يطلبك حالا ..
ــ سارت إلى حيث أبان .. اعتذرت منه عما بدر منها ثم وبابتسامة حلوة تطيب لها الخواطر استأذنته باستعادة عباءتها التي كانت تغطيه دون علمه: وأين هو الملك؟
ــ إنه في المكتبة ..
ــ سأذهب إليه بعد أن أستعد ..
ــ لا .. إنه يريد رؤيتك الآن ..
انطلقت بصحبته وأبان الذي كان يقفو أثر نعليها حتى اختفت .. اعتصر قلبه بيده:
يالك من قلب مريض ..
تحب من لا يجب عليك أن تحب وتكره ..
من وجب عليك حبه ..

كان الملك هناك جالسا يقرأ كمن لا يستطيع القراءة .. بدا متوترا وهو يجول المكتبة جيئة وذهابا يبحث كمن لا يعرف عماذا يبحث فلما .. أتت وبان محياها الطلق .. انطلقت ابتسامته الرثة ولتهجت ثنايا صفحته البالية بأهازيج الشباب الذي ولى مدبرا يأبى أن يعود .. ضمها إليه .. حزها إلى صدره .. كادت عظامه الواهية أن تفتت قوامها الغض والملكة التي كانت تختلس النظر .. أتت بعد أن علمت بواسطة كهرمان أمر التقائها به .. شهدت .. كتمت .. تكاد تنفجر .. أنفاسها لا تجاري كومة الشرور التي تندفع إلى السطح بكامل طاقتها .. يسمع لاحتكاك أسنانها صرير ولقبضتها أزيز ..
ــ معاتبا إياها: يومان .. يومان دون أن أراكي .. أهكذا تصنع الابنة بأبيها ..
ــ تمالكت الوجع قائلة: أعتذر سيدي ولكنك لم تستدعيني .. فكيف آتي دون أذن منك ..
ــ لا أرى بقولك هذا علاقة الابنة بأبيها بل علاقة المأمور بآمره .. أهكذا يكون جوابك وأنا الذي أفرجت عن ذلك الأبله لأجلك فقط كي .. لا يتكدر خاطرك ويصفو بالك ..
ــ الشكر الجزيل لك مولاي ..
ــ تلك الكلمات لن تبهجني كما ستصنع قبلة على وجنتي .. ألا أستحقها ..
ــ بارتباك: ولكنك الملك .. كيف لي أن أجرؤ ..
ــ لست الملك الآن بل أنا بمثابة والدك ألا يستحق هو الآخر مكافأة له جراء إبهاجه لك .. هيا لا تستح .. أعلم أنه خجلك لا جرأتك ..
ــ دنت منه ببطء .. بتردد يتطاول في البنيان: كندة أين كنت .. لقد بحثت عنك طويلا .. طأطأت رأسها احتراما: مولاي ثم استأذنته باصطحابها فهي تحتاجها لأمر جلل .. كندة التي شعرت بالراحة لحقت بها بدت كمن أفلت للتو من قبضة آسره .. حاولت مسايرة خطوات نورهان ولو أنها فعلت لكانت احترقت بالسموم المنبعث من ناظريها .. ولجتا إلى غرفة نائية في الركن الشرقي من القصر .. جعلت الملكة تحوم حولها كالمتحسرة تفرك يدا بيد .. حاولت كبت ضيقها الذي انفلت مزمجرا: هل أنت حمقاء؟
ــ ماذا؟
ــ ألا ترين أنه يريدك لنفسه ..
ــ من تقصدين؟
ــ حمقاء حقا أنتي أم أنك تدعين .. إني أتحدث عن ذلك الذي لو كنت قبلتيه لكان تمادى إلى ما هو أكثر من ذلك .. إنه الأبيض وأنا أكثر الناس معرفة به .. يدعي الطيبة وهو أقسى من الصخر ..
ــ سيدتي .. إنه بمثابة أبي فأنا حليلة ابنه ..
ــ بتأفف أعرضت عنها: إنه ليس من صلبه .. الأبيض عقيم .. ولكي يثبت دعائم ملكه كي لا ينتزعه منه انتزاعا أبناء عمومته .. زوجني سرا من رجل طلقني منه بعد أن ظهرت بوادر الحمل علي لأعود إليه ..
ــ ياإلهي .. وهل سيدي على علم بذلك ..
ــ لسوء الحظ .. نعم .. كان حينها قد بلغ الخامسة عشر .. كرهه للأبيض نابع من كره الأخير له فلأنه ليس من صلبه .. لم يعامله يوما كابن حقيقي له .. يكونان معا فلا يبدي اهتماما به .. يحتقره ويقلل من شأنه باستمرار بل .. وقد أبعدني عنه بحجة غيرته الشديدة منه هذا .. وأمام الملأ .. وجه آخر .. فهو ابنه المدلل المحبب إلى قلبه .. لا يرضى للشوكة أن تشاك بها قدمه .. يمهد له الطريق ويبسط له كل النعم في حضرته وعليه .. عاش أبان .. معظم الوقت وحيدا متخبطا دون إجابات وافية مني .. تشفي حيرته فلما علم السبب وراء ذلك الكره الدفين .. انطوى على نفسه أكثر .. أصبح مهزوزا .. متخاذلا بل تائها حتى .. أتى أسامة صديقه المقرب بل صديقه الأوحد أسامة الذي .. استطاع أن يخرجه من عزلته لبعض الوقت ليعتريه .. جنون لاحدود له بعد ذلك .. لقد أقسم الأبيض أمامي أنه إن تمادى أكثر فإنه .. سيقتله وقد أقسمت بعد رحيله إن قتل فإني .. سأقتلكما معا ..
ــ سيدتي .. أنك تخيفينني ..
ــ وهذا تماما ما أريده .. وبوحشية تبرأ منها لسانها أردفت وهي تمسك بقم ثوبها: إن لم تكون كفؤا للمهمة التي أوكلت لك فإياك ثم إياك والظن .. مجرد الظن أنك تستطيعين تركه بسلام والرجوع إلى قريتك .. سأقتلك لأنه حتما سيجري خلفك فذلك المتصابي يبدو أنه يعشقك .. ابتعدي عنه وانشغلي بمهمتك .. واعلمي أن لي أعينا تراقبك فاحذري .. أفلتت يدها برعونة وخرجت ..
تقرفصت كندة فوق السطح الأملس الذي اندلقت من أعلاه مشاعر دافئة كانت تحميها .. أطرافها التي ترتجف وقلبها المتعب الحزين جعل دمعها يختلج .. جعل البريق المشع من خلالها يتوارى خلف الجنون الذي أصاب الجميع ..
فهناك من يعشقها بجنون ..
من يريد قتلها بجنون ..
وهناك المجنون الذي يدعي الجنون ..
"كنت أسعى خلف حلمي .. لم أكن أعلم أني أجر نفسي .. نحو كابوس مريع"

عادت كندة إلى غرفتها لتجد أبان على غير عادته رابضا عند الباب مستندا مكتف الذراعين مطأطئ الرأس منشغلا بأفكاره وكأنه ينتظر .. لما رآها دخل إلى الغرفة وكأنه يطلب منها اللحاق به وبالرغم من حالها المزرية فقد لحقت به .. أمرها أن تقفل الباب أن تجلس فجلست عند طرف السرير بينما تحرك هو جانبا حتى أصبح خلفها مباشرة .. بهدوء لا سابق له: قلتي سابقا بأني مدع كبير ..
ــ نعم .. بثقة مترنحة بين الطمأنينة والذعر ..
ــ وكيف استنتجتي ذلك ..
ــ من تصرفاتك وردود فعلك .. فهي أقرب ما تكون إلى مدع منها إلى مجنون ..
ــ وما الفرق بين الجنون ومدعيه قالها وهو يرمق بأسى الحشود المجتمعة خارج أسوار القصر ترحب بعودة أميرها المحبوب منتصرا من أحد المعارك .. المزيف الذي يلوح لهم من شرفة غرفته ..
ــ إن الفرق بينهما هو خيط رفيع متى انقطع .. فإن التمييز بينهما سيكون واضحا وضوح الشمس .. ــ إذن فالفرق هو خيط رفيع .. ــ أجل ..
ــ وللتمييز بينهما لابد من قطعه ..
ــ امم .. دون أن تلتفت إليه ..
ــ آه .. لقد فهمت جيدا الآن .. صمت لثوان حمل بعدها .. كرسيا ضخما وعلى حين غرة منها .. ألقاه برعونة محطما زجاج النوافذ التي اكتنفت الجدار المحاذي له .. تفاجأت .. تشنجت من عظم ما رأت فأنا .. لأحد أن يتنبأ بمكنونات أبان أو أن .. يحسب خطوته القادمة .. ذلك صعب جدا حتى لأقرب المقربين إليه .. صعد النوافذ .. أدمى راحتيه .. قدميه .. جذب انتباه الحشود إليه: كيف حالكم .. أنا أميركم هنا .. انظروا هنا .. كيف الحال .. كان مستمتعا غير عابه بكونه متأرجحا قد يهوي في أي لحظة لا .. بالدماء التي كانت تسيل وما من مستجيب .. لم تهتم للزجاج المتناثر وأسرعت إليه .. أمسكته من الخلف لم تستطع جره خشية أن تؤذيه .. سألته برجاء أن يتوقف إلا أنه .. لم يفعل إلا بعد أن أتى الجند الذين اقتحموا الباب المقفل .. بطريقة ما استطاعوا تكتيف ذراعيه .. تثبيته فوق أرضية السرير .. لم يزل يقاوم .. يضحك ضحكات هستيرية يتحدث بلغة كوكبية حتى .. أتت الملكة يحملها حنقها الذي انفلتت رباطة جأشه .. وقفت تنظر إليه كالأبله يداوي بلهه بمزيد من الخبل .. صفعته .. أوجعته وبدلا من أن ينطق الألم نطق حاله المستبد منذ الأزل .. ضحكات .. صرخات .. هلوسات .. أرادت صفعه ثانية فكادت أن تقضم يدها وجعل يصك على أسنانه .. مرة تلو المرة في حركة دائرية لا متناهية وهكذا إلى أن اقتحم المكان .. جند لما رأتهم تهاوت فوق أقرب كرسي منها .. وجهها الذي تغشته راحة كفها .. تغشاه ما تغشاه من سوء حظها وقلة حيلتها .. ارتفع الهمز واللمز وكندة التي لا تعلم مالذي يجري حولها تتساءل:
من هؤلاء؟
وماذا يصنعون؟
قد قيدوا حركته بلفافة سوداء .. إنهم يحملونه فوق أكتافهم ولكن إلى أين؟
وما بال الملكة؟
لا تبدي حركة .. وكأنها أسيرة استسلام تام ..
علمت بعد أن استفسرت أنه منقاد إلى دهليز أسفل هذا القصر المنيف .. لا أحد يعلم مدى عمقه أو الطريق المؤدية إليه .. لا يحمل إليه إلا الأشقياء ومن يخرج منه فهو إما .. مفارق للحياة أو .. راغب في فراقها .. لجأت إلى الملكة وبهلع توسلتها أن تنظر في أمره ولما .. لم تجب نفضتها: هذا ما جنته يداه وأردفت: لقد حذرته مرارا وتكرارا إلا أن ذلك الأحمق ظل .. كالحجر الأملس ينزلق من فوق سطحه كل شيء .. لقد خرج الأمر من يدي إنه بيد الأبيض الآن .. ــ أرجوك حدثيه ..
ــ الآن ..لا أستطيع .. إن اقتربت منه سأحترق بنيران غضبه .. سأنتظره حتى يهدأ ..
ــ حينها قد يكون أبان قد فارق الحياة ..
ــ وقد لا يكون قالتها بيأس مشفق جعل كندة .. تنهض من مكانها مسرعة تقصد الأبيض دون مخافة أن .. يكون في ذلك نهاية أجلها ..
قد تنتهي الآجال فوق الفرش ..
قد تنتهي وقد كان معها هناء الحال وراحة البال ..
ولكن أن يكون أجلي قبل أجلك ..
ألا أراك ..
أن أعيش بقية العمر على رمض الذكريات ..
ذلك استنزاف للطاقات ..
وهدر للراحات ..
فأي هناء يأتي من بعدك ..
بل هو العناء ..

كان الملك حينها جالسا فوق عرشه الذي بدا مشعا .. تلك النيران التي تغلي من تحته وأسامة .. عند رأسه واجما يقف حذرا عندما ولجت كندة .. جثت تحت قدميه .. بدموعها المنهملة .. بتوسلاتها المبتهلة بخافقها الذي يبكي صارخا مسنتجدا .. حالها ونطق لسانها جرعات مضاعفة من الوجع ..شحذت سكين غضبه دون هوادة .. صرخ فيها: ما بالك؟ لم تفعلين كل ذلك؟ أمن أجل ذلك الأبله؟
ــ هزت رأسها: نعم من أجله سيدي .. أرجوك اعف عنه .. فأنا أحبه ولا أستطيع مفارقته ..
ــ آآه .. قالها متذمرا: ألم تعلم أن الحب أعمى وقد .. يجر صاحبه إلى التهلكة فاحذر ..
ــ أنا عمياء .. بكماء خرصاء لابأس ولكن .. أن أشعر بوجوده ذلك يكفيني ..
ــ لحظات كفصل الشتاء مرت ببطء وهو .. ينظر بسخط إليها انحنى بعدها إليها .. أدنى ذقنها إليه وبلطف تكبد عناءه قال: حسنا إذن .. اتركيه وسأتركه ..
ــ صمتت طويلا .. طويلا ترمقه بتشتت أصابها بذهول أربكها جعلها .. تفتكر في كلمات نورهان .. لقد صدقت ..إنه يريدني لنفسه .. ماذا عساي أفعل الآن؟ ففي تركه نهاية حلمي وفي البقاء معه .. نهايته .. نهض الأبيض بعد أن مل طول الانتظار مبتعدا عنها ناحية جناحه ولم تزل .. تلاحقه بنظراتها حتى نادته قبل أن يختفي بقليل مجيبة: سيدي حسنا .. سأترـ...
ــ ستتركين لهوك هذا وستبدئين من جديد .. ابني بأمس الحاجة إليك ولن تتركيه الآن وهو في مفترق الطريق .. أليس هذا ما كنت تودين قوله؟
ــ لم تجبها ولم يلق الأبيض بالا لها فبمجرد أن قاطعتها .. كان قد غادر:
سيدتي ماذا فعلت؟كنت أوشك على انقاذه ..
ــ وتدميري في نفس الوقت .. بدأت حقا أصدق بأنك حمقاء .. هه .. أحمق وحمقاء .. أعرضت عنها: أخرجي .. رؤيتك تتعبني ..
ــ ولكن .. سيـ .. حدجتها بنظرة حارقة خرجت على إثرها فلا مندوحة ترجى من بقائها خرجت .. تجر خلفها أذيال خيبتها تسير بلا هدى وسط فسحة جوفاء .. القصر الممتلأ أصبح فارغا فجأة كما القلب الندي الذي كان يقظا منذ لحظة .. تداعت الأركان من حولها وتقلصت الجدران .. أنفاسها تضييق وعقلها من قلبها حيران:
أهو العشق يا فتاة أم هو الهيام ..
كلاهما يجلب السأم ويقطع لذة الوئام ..
أم هي الأحلام التي نجري خلفها كالأيتام ..
تلقي بنا حيث الظلمة دون نظرة منها أو اهتمام ..
اهربي ..فالهروب سمة الأبطال ..
من خلفوا وراءهم ..
متاع الحب الزائل واكتناز الأوهام ..
وبينما هي تسير هكذا إذ بأحد الغلمان يشدها من يدها لتسير خلفه .. غرف .. دهاليز وممرات .. مسافات طويلة ومتاهات إلى أن توقف أمام جدار رخامي .. أبيض أملس كحال كل الجدران التي تكتنف قاعة أخرى لا تختلف عن كثير من أخريات يصول الصمت فيها ويجول: من هنا رأيتهم يدخلون .. انتظري قليلا علهم يخرجون .. قالها بارتباك انطلق كالهارب بعدها.

ظلت الملكة قرب أسامة .. ترمق عن كثب .. شبابه .. وسامته .. شهامته وابتسامة المتواضع التي يلوح بها للجمهور الغفير خارج أبواب القصر .. أفكار مجنونة خطرت ببالها بددتها حالا وتمنيات ودت لو تحققت .. وبعد رحيل الجموع جلست فسألها: سيدتي أتعلمين؟
ــ ماذا؟ ــ للمرأة أعداء ثلاثة .. الشيخوخة .. سوء حظها مع الرجال والقلق .. أما الشيخوخة فلا طريق لها إليك وجمالك يرتوي جمالا مع الأيام .. أما الرجال فقد حزت أفضلهم .. خوفي .. جل خوفي ممن يأتي عاريا ليخرج مشتملا .. حسنك .. لياليك وراحة بالك ..
ارتاحي أرجوك ولا داعي للقلق سيدتي .. سيعود أبان أفضل مما كان عليه أعدك ..
ــ أبان .. عمن تتحدث .. لم يعد لهذا الاسم وجود ..
ــ لم يفت الأوان بعد .. اذهبي وتحدثي إليه .. إنه يستمع إليك ..
ــ كان ولكن .. مذ نفذت تلك الحرباء بجلدها المرقط لم يعد .. يصطبغ إلا بألوانها ..
ــ من تقصدين؟ ــ ومن غيرها .. الشمطاء التي جثت عند قدميه .. تدعي حب أبان تدعي .. تركه لأجله ولولا تدخلي .. لاكتمل آخر فصل من عرضها البالي ..
ــ أطرديها إذن فهي ليست سوى جارية ..
ــ لا أستطيع .. فالأمر أكبر مما تظن ثم شاحت ببصرها عنه مردفة: إنك لا تعلم شيئا ومن الأفضل .. أن تظل هكذا .. لا تشغل رأسك بأمور أنت في غنى عنها .. يكفيك ما تصنع لأبان ..
ــ إذن .. ابتسمي سيدتي فأمرك يهمني ولا يعجبني رؤيتك في تكدر هكذا ..
ــ مدت يدها تداعب غرته إلا أنها .. توقفت سردت حديث يدها قائلة: هه .. كلماتك قد تأسر بها أي امرأة ومع هذا .. أعجب من قلب يرى حسنك وشبابك .. يستمع إليك ويهتم بكلماتك فلا ينتفض ويراه .. فيرتجف .. الحب أعمى بل .. هو أحمق وأنا حمقاء أخرى ..
ــ سيدتي لم أكن أقصد ما تعنين ..
ــ لا بأس .. دعني أعش السعادة لبعض الوقت حتى .. ولو كانت مجرد وهم أو خيال ..
غادرته بعد أن ودعته .. علها تستطيع التحدث معه الآن .. استغربت لما ولجت منظر غرفتها .. أثاث مبعثر .. بقايا تحف منتثرة والخدم المنتشر في الأرجاء يبحث عن حاجة للملك .. سألت فهمست لها إحداهن .. طلبت من الجميع المغادرة ثم توجهت إلى درج رفيع أسفل مرآة ضخمة: أهذا ما كنت تبحث عنه مولاي ..
ــ انتزعه من يدها انتزاعا وما لبث .. أن لجمها دون رحمة به ..أدمى طرف وجنتها .. حافة كتفها .. صرخت فصرخ بها: اصرخي .. أشعري بالألم كي لا تتدخلي مرة أخرى فيما لا يعنيك ألا تعلمين من أنا .. ــ أعتذر سيدي .. ــ سألتك أتعلمين من أنا؟
ــ نعم أعلم من أنت .. أنت سيدي ومولاي .. أنت قلبي وروحي التي لا تستطيع التحليق إلا بك .. أنت ابتسامتي ..
ــ باستهزاء مبطن: ابتسامتي .. أيهمك حقا رؤية ابتسامتي؟
ــ فهزت رأسها مجيبة: أجل ..
ــ لو كان هذا حقا لما كنت قاطعتها .. لكنت تركتها .. لو أنك تركتها لكانت تركته ولكنت أبتسم لك الآن .. عاد فصرخ بها: كاذبة .. كاذبة .. السوط في يده والغضب المستعر أفنى حلمه وأشعل جسده .. ارتعاش بين خافقيها وخوف يدك ساقيها .. حاولت الهرب إلا أن طرف سوطه كان الأسرع إليها .. ارتمت فوق ظهر السرير وسرعان ما انهالت الضربات فوقها .. كتمت صرخات الألم التي اقتحمت حنجرتها وهي تنظر بأسى إلى طيورها التي فارقت الحياة اعتصرتها لجاجة قبضته: مذ علمتي رغبتي بها .. لم يهدأ لك بال .. منحتك الفرصة تلو الأخرى علك تستوعبين حجمها إلا أنك .. لا تنفكين تبعدينها وتملئين رأسها بوساوسك .. لم يقرع باب قلبي أحد قط .. فلما فعل .. أتيت تفرضين سلطانك على مملكتي .. تزجين بأباليسك لإغلاق باب غرفة لم يلجها أحد .. أمن أجله أم لأجلك .. لايهم .. فكلاكما لا يهم المهم .. أنا ..
ومن أنا ..
نسيت من أنا ونسيت من أنت ..
أنا الأبيض بن الأشهب بن سلام وأنت .. حشرة أستطيع دوسها متى شئت ..
وبعد عدة ضربات توقف مكملا .. بنيران لم تنطفئ بعد:
لولا كونك فرض علي .. لن يتم ملكي إلا به لكانت .. أفعالك سببا في هلاكك ..
وبصرامة أثارت قلقها .. قلقلت أمنها ونفضت الغبار عن حقد لن يستقر إلا باستقرارها:
الزمي مكانك وإلا ..
كانت الملكة ..
وكنت الجارية ..

كان هذا هو الفصل الثالث .. أتمنى من القلب أن يحوز على إعجابكم ورضاكم ..

Mona1977 27-09-17 10:23 PM

غريبة بجوارك (تم إضافة الفصل الرابع)
 
غريبة بجوارك
" كنت إلى جوارك قريبة .. غير أني كنت غريبة "
( الفصل الرابع )


في الصباح الباكر .. أرسل الملك أحد الغلمان ليأتيه بكندة فأجابه بأنها لم تزل منذ البارحة مستلقية قرب جدار في أحد القاعات الشمالية المطلة على النهر .. لحظات أصدر الملك بعدها .. الأوامر بإطلاق سراح أبان خوفا .. أن يكون سببا في قتله أن .. يكون سببا صريحا لابتعادها عنه .. تحرك الجدار .. فتحت البوابة .. أيقظوها إذ كانت تعترض طريقهم.. تفاجأت لمشهد لم يخجل وهو .. يستقطب ما تبقى من نور يستسقي منه وجهها الذابل .. خرج محمولا فوق الأكتاف .. لم يعد متوشحا بالسواد فقط بل .. باللون الأحمر الذي انبرى من كل جزء بان لها أو لاح .. منسكب الرأس .. متورم الوجه .. هيئة مشرف على الهلاك ونظرات مودع ربما .. لم يعلم بوجودها وهو ينظر إليها فوعيه هو الآخر يبدو أنه .. قد تلطخ بالدماء بألوان العذاب التي .. شهدها في بؤرة الجحيم تلك التي يبدو .. أنها لم تشبع بعد من زوارها .. تفاقم همها: أبان أجبني وطفقت إليه تهزه .. تناديه دون إجابة منه تنجيها .. أبعدوها فعادت .. أبعدوها فكادت لولا إحداهن أمرتها .. أن تلحق بها فالملكة تريدها حالا ولما رفضت .. أمرت الجند فأرغموها وإلى حيث المكان المنشود ألقوها وبعد .. دقائق كالساعات كالثلج ينماث وما من شمس تختصر لحظات انتظارها أجابتها .. من خلف ستار ساتر فجروح البارحة لم تشف بعد: ما رأيته البارحة جعلني أجزم أمرا .. شككت فيه منذ البداية .. أنك اللعنة التي كنت أتلقى صفعاتها مرة تلو المرة مذ اقتحمت بخبث عالمي .. جررت ابني إلى الهلاك وزوجي إلى الجنون وتحاولين شل حركتي بكل ما تملكينه من شرور ولكنه ..
إما أنا أو أنت .. فاختاري ..
ــ سيدتي عن أي اختيار تتحدثين .. أنت سيدتي وأنا خادمتك طوع بنانك .. محال أن أخدعك .. أن أجازي إحسانك بالإساءة محال ..لا على هذا تربيت إلا أنه ..لا ذنب لي حقا .. فيما يختلج الملك من مشاعر لم أشعر بها مطلقا ذلك أني .. أحب ابنك لا غيره وأفعل لأجله أي شيء .. أحدثك وقلبي معه .. روحي تصحبه وخوفي .. لو تعلمين حجم خوفي عليه .. لقد رأيته .. ليتني لم أره .. كأنه يودعني كأني لن أره .. لحظات انتظاري تشتعل وخوفي .. يرتجي كلمة رضا منك تريحك من همك .. تبعد قلقك .. تقربني منك وإليه ..
ــ لحظات من الصمت ويكأنها الدهر حتى نطقت: حسنا إذن .. لنفترض صدق ما تقولين من أنك .. لا شأن لك بكل ما يجري هنا .. أنك ضحية لهوس زوجي وجنون ابني ومع هذا .. لابد لي من اختبار أتبين فيه حقيقتك .. فإن كنت تحبينه حقا .. حبا لا يهاب الموت فأمامك من الشراب كأسان أحدهما مسموم .. لن تخرجي من هذه الغرفة إلا ..باختيار أحدهما إما هذا وإما .. أن أنفيك إلى مكان لا يعلم الجن حتى بأمره وتذكري .. أن كل ثانية تضيعينها بالتفكير بينهما إنما .. تطيلين بذلك لحظات انتظارك .. ومع كل ثانية يسلب نفس .. وهو شخص يهمك أمره كما تدعين فهل .. يرضيك أن تنقضي أنفاسه دون أن يراك وحالا .. التقطت كأسا .. تناولتها بالكامل ثم نهضت تهم بالخروج فاستوقفتها .. كبرى الوصيفات: دعيها فلقد اختارت وهيه كندة .. إن كان السم من اخترت فالموت .. قد اختارك ..
أجابتها ببرود: لا بأس سيدتي .. هلا أذنت لي الآن بالمغادرة أرجوك ..
أذنت لها ليتفاجأن بها .. قد انطلقت كما الريح التي تجري .. لم يثنيها طول الطريق وكثرة التواءاته .. لم يثقلها حجم الغيم وعظم مساحاته .. لم يهزها لون الغبار وتكاثف سحاباته انطلقت .. لم تهتم ..
بما سيجري لها ..
إن كان سيكف عن اللحاق بها ..
إن كانت ستنتهي معاناتها .. لا يهم ..
كل ما كان يهم ..
هو الآن ..
أن أراك الآن ..
ــ سيدتي إنها صادقة .. ــ أعلم ذلك ..

عند وصولها كانت اللجنة الطبية المشرفة على علاجه قد خرجت للتو من عنده .. وقفت عند رأسه .. تأملته لثوان سألت بعدها - بأنفاس متقطعة – كهرمان التي كانت تشرف على رعايته فترة غيابها فأجابتها .. بضيق كاد ينخر أنفها: بخير ولكنه .. بحاجة إلى بعض الراحة فهلا .. تركته يرتاح لقد بت المسؤولة هنا فلا داعي لوجودك وبضيق أشد: وعودي من حيث أتيت .. كان ينظر إليها بطرف عينه دون أن تلحظه إلى أن .. صدت عنه فصد عنها إلا أنها .. وعند الباب توقفت وما لبثت أن .. خفت الخطى نحوه .. استدارت حول السرير لتندس بقربه أسفل لحافه .. كهرمان التي تفاجأت كما أبان الذي .. لم يتوقع حدوث أمر كهذا جعلها .. تفقد السيطرة على نفسها جعلها .. تشتعل .. نهرتها من دون خجل وأمرتها .. بالانسحاب حالا فلما .. لم تجد الكلمات معها نفعا ..حاولت بقوة جذبها نزعها منه بكل ما أوتيت من طاقة إلا أنه .. لا طائل يرجى من محاولاتها فقد كانت .. متشبثة بفراشها تشبث الأم بطفلها .. التفت إليها .. اعتصارها .. مكابدتها للتشبث به بالرغم من كل ما كان ينولها وكأنها .. في صراع من أجل البقاء من أجل أن .. تبقى بقربه جعله يأمرها .. كهرمان بالخروج وخصوصا .. بعد أن بدأت بشد شعرها .. أمرها صارخا بها: أخرجي ..
ــ تدحرجت صخرة من أعلى الجبل لتسقط تماما فوق رأسها .. فغرت ثغرها .. حاولت المماطلة بإسم الأوامر التي تلقتها إلا أنه .. ألجم لسان سخفها بصرخة أخرى منه جعلتها .. تهرول خارج الغرفة هاربة .. فلما خرجت .. أرخت كندة دفاعها لينسل أبان منها .. ليركن نفسه بعيدا عنها عند الزاوية .. أسدل جفنيه يبتغي شيئا من الراحة والهدوء وإذ بذاك الذي .. يتأبط ذراعه .. يدس أرنبة أنفه بين نحره وعنقه .. يهمس إليه سرا كهمس الندى فجرا: لا تسألن الابتعاد عنك .. فابتعادي لن يزيدني إلا التصاقا بك .. أنت تعب وأنا كذلك .. انسي وجودي لهنيهة ودعني .. أشعر بوجودك لبعض الوقت .. أرخت رأسها فوق كتفه غير عابئة لردة فعله .. تمتمت بصوت نعس: لقد تجرعت السم لأجلك فهلا .. تجرعت قليلا من الصبر لأجلي ..
كلمات .. لم يدر معناها حروفها ..قد نفذت بصعوبة عبر ممر ضيق .. تسير بتؤدة نحو القلب الذي .. تغلفه بعمق .. حراشف هي أقسى من الصخر .. أذابت بعضها باليسير الذي حملته بالبعض الذي .. ألزمه مكانه .. جعله يجيبها لما سألت ومع هذا ..
فهو لم يستطع ..
نسيان وجودها كيف وهو ..
كلما ابتعد اقتربت وكلما اقتربت ..
شعر بوجودها ..

في الصباح التالي استيقظت كندة على أثر صوت شخص يهز كتفها بطرف سبابته ويأمرها أن تخرج بلهجة رديئة .. خرجت بعد أن أومأ لها أبان أن تفعل .. تركتهما معا أبان وأسامة الذي بدا منزعجا قد خالط انزعاجه شيء من الضيق تحرر برحيلها .. وبعد دقائق عدة خرج وكعادته كلما خرج من عنده .. ابتسامة خبيث ونظرات عابث مستيقن وصرخات أبان تناديه باسمه .. يحاول النهوض .. اللحاق به والتعب يقعده .. كندة التي كانت تنتظر .. كم رغبت بشدة اللحاق به والتحدث معه إلا أنها .. لم تفعل بل .. لم تستطع .. نفذت حالا وإليه تنظر أمره .. كالبئر المطموسة .. صرخات يائس يختنق .. وظلام يغمر لاحظيه .. تخبطات يديه .. دمعه الذي انسكب .. قوامه الذي يكاد يفنى شيئا فشيئا وروحه التي .. شعرت بها تنتزع بلا رحمة لتقدم فوق طبق من ذهب .. رؤيته هكذا أدمت فؤادها فما كان منها إلا أن .. عانقته بشدة عله يشعر بحبها عله .. يهدأ حينها فيرتاح .. حاول الإفلات منها فشدت قبضتها ليتذكر كلماتها: " لا تسألني الابتعاد عنك .. فابتعادي لن يزيدني إلا التصاقا بك .. " لحظات استسلم بعدها قائلا .. يعيد على مسمعها سؤالا .. كان قد طرحه عليها منذ البداية:
هل خفتي يوما أمرا أحببته في نفس الوقت؟
ــ نعم .. أنت وأردفت .. بعد هنيهة تسرد أسباب وجودها واستمرارها في عالم مجنون كهذا:
لقد كنت أعيش في سلام ضمن حدود واقع كنت فيه على خير ما يرام .. قانعة .. راضية تمام الرضا حتى اقتحم .. ذات ليلة ليالي طارق لم يستأذن بالدخول ولم .. أمنعه من ذلك بل منحته المفتاح ليزورني كل ليلة .. كنت أظن كأغلب الظن أن .. الأحلام ما هي إلا تصاريف لعقلنا الباطن حتى .. تجسدت أمامي حقيقة في لحظة أراك .. وأرغب بشغف تصديق ذلك .. فالكل يرغب مني فعل ذلك إلا أنه .. وحتى اللحظة وأنا .. أعانقك لا أزال أعتقد بأنك حلم وأن حلمي .. قد تمادى كثيرا ولابد وأستيقظ ..
ــ إذن استيقظي ..
ـ بطرف ثوبها مسحت شفته المجروحة .. أجابته تتحدث بالنيابة عنها جراحها: لا أريد أن أستيقظ .. أريد معرفة النهاية ورؤية ما سيجري هل ..
سنكون معا سويا تتساقط علينا الثلوج من السقف ..
أم أن الأرض ستتصدع من تحتي ليبتلعني القاع كما يحدث دائما وأكملت .. بأسى بنظرات تحوم حوله دون أن تلتقي به وأناملها من قذته .. وجنته .. شفته .. مقدمة ثوبه إلى راحة يده: أستغرب تعاستك وقد كنا معا تغمرنا السعادة .. أسترخي فوق أحضانك فتداعبني بقبلاتك .. تحملني فوق ذراعيك وتلاحقني بابتساماتك .. القصر ذاته .. الغرفة ذاتها .. أركان حلمي تجسدت واقعا حيا ملموسا أمامي إلا أن الأساس لذلك أن يتم .. لا يبدو أنه يشعر بوجودي وأنا التي .. بعت حريتي لأجل قلبي المثغم بهواه كي .. يقترب كي .. تلين خفقاته فيلتفت إلي إلا أن .. جواره لم يزدني إلا غربة وهنا .. التقت به مردفة: فكلما اقتربت ابتعد .. كلما اقتربت ابتعد .. لقد بت أشعر بالإرهاق بالتعب ومع هذا .. لا بأس .. لا تنظر إلى قلبي إن لم يكن يهمك أمره ولكن .. ألا ينهي هذا الجنون ومدت يدها إلى راحته وساقتها إلى وجنتها: حرير يفتقدك وشفاه .. تشتاق لك وجيد ينتظرك ثم .. أرخت كفه فوق صدرها: وأنفاس .. تلهج باسمك .. أمنيتي .. أن تشعر بهذا القلب الذي يرتجف كلما رآك أن .. تراه كما يراك ومع هذا .. فلا بأس .. فإن لم تكن تهواني فهلا .. رأيتني كامرأة تهواك لا ضير عندها .. من بذل سبب رخيص كالجسد من أجل أن تبقى معك .. من أجل أن تستيقظ كل يوم لا ..
لرؤية الشمس بل ..
كي تراك ..
ومن لديه حيلة فليحتال إلا أنها ..
لم تكن حيلة ولا تمت صلة .. بأي نوع من أنواع كيد النساء ..
لقد كانت تتحدث بصدق ..
بالصدق الذي لا يضمر كذبا ..
يالكذب الذي تكاسل متعمدا ليمنح الحقيقة بعض الوقت ..
إذن فهو الوقت ..
والترقب لحدوثه ..
والأمل ألا يطول ..
إجابة شافية منه قد ..
تنهي هذا الجنون وقد ..
تجعله يتمادى ..
كانت ترتدي ثوبا من الدمسق الموشى .. مزموم الوسط .. مسجى الأكتاف حينما .. وبتردد مد يده وبأطراف أنامله كشف .. الستر عن أحد الأكتاف ثم ابتعد .. غض البصر وما عتم أن عاد محدقا .. فالقليل الذي انكشف أزال الستر عن قليل من كثير .. لم تصله الأيادي بعد ولم تنعم بالنظر إليه .. أعين مجتليه كيف وهو ..
الصيد المحرم اصطياده ..
والندى الذي يصعب التقاطه وهو الحسن .. قد تأسى بها حسنا فهي الحسناء ..
من تهواها الأشجان ويستميت لامتلاكها اللحن ..
لخلق أغنية لم يسمع بها ..
تناجي الأرواح منها قبل البدن ..
لقد منحته الحق لأن يفعل بها ما يشاء ويشتهي ..
أن يسترق السمع إلى أشجانها وأن يمتلك دون عناء أعذب اللحن ..
إنها تناجيك من دون البشر فهلا .. ناجيتها فهلا ..
اجتذبتها إلى صدرك .. فلا تفارقه ..
وإلى قلبك المقبور .. فتؤنسه ..
وإلى كلماتها التي نطقت بها وفي كنهها .. مذلة وندم ..
هلا أشعرتها .. أن بذلها لم يذهب هباء ..
تجرأ أخيرا بعد طول عناء .. مد يده ثانية بحذر .. نحو المكان حيث اللحن .. ينتظر بتلهف وقع أنامله ليكتمل الشجن الذي .. أنا له أن يتكون أو يكون وقد .. قاطعهم ثلاثة من الغلمان يحومون حولهم كالغربان .. ينظرون بفضول إليهم .. يتدافعون بينهم .. مفسدين تلك اللحظة التي لو تمت لربما .. تبدل الحال .. بضيق نهرتهم .. أمرتهم بالخروج فأبو فالملك قد أمرهم بإحضارها بعد أن تتهيأ رغبة منه .. لاصطحابها معه خارج القصر في جولة حول المدينة .. لم تنصع لرغبته وطالبتهم بالخروج حالا .. تظاهروا بعدم سماعها وجعلوا يكررون عليها "هيا .. هيا .." يتغنون بها ويعيثون في المكان كما اعتادوا فسادا كلما .. عصى أحد كلامهم مسببين إزعاجا .. لا منطق ولا مطلق له فهم .. محصنين من أي أذى إلا .. بأمر من الملك أو الملكة .. فلما طال الأمر وتعدى حدوده وأصبح لا يطاق .. تحدث أبان الذي كان قد صمت طويلا خجلا وطلب منها .. أن تذهب مستطردا قائلا قبل أن يستقر بمشقة فوق سريره: إن كان بذلك لجسدك سبب رخيص فبذله لأجلي .. سبب أرخص ..

أثناء طريقها أحست كندة بالدوار فأولت ذلك إلى الجوع الذي .. لا يوال ينهش معدتها منذ البارحة .. طلبت من الغلمان أن يذهبوا لإحضار بعض الطعام إليها على .. أن تنتظرهم هنا فلما عادوا .. لم تكن هنا .. لقد هربت .. اختبأت بعيدا عنهم .. لقد باتت تخشى الاختلاء بالملك معتبرة بقاءها معه .. خيانة لأميرها ومضرة له وهو .. من القرب منها ما بات وشيكا في ظنها بالرغم .. من كلماته الأخيرة التي أوحت عكس ذلك ربما .. أنها أسندت يقينها ذاك على اللحظة تلك التي .. كانت بينهما .. بحثوا طويلا عنها حتى إذا ما يئسوا .. عادوا إلى الملك فأخبروه .. كان حينها يستعد للخروج فرحا .. فهاهو يتطيب ببحر من العطور .. يشذب لحيته وينتقي أسورته .. أجواء فاخرة من الترف هدت فالخبر كان صاعقا جعله يفقد اتزانه .. حالا أمر الجند بإيجادها إلا أنه لا أثر .. فما كان منه إلا أن أشرف على عملية البحث بنفسه فكان أول مكان يتفقده هو حيث أبان .. أبان الذي كان مستلقيا يداعب بنظراته الذابلة لون الغروب تفاجأ .. بالكم جالب الهم من اقتحم عليه تأمله وسكينته .. جدوا في البحث حتى انتهوا عند مليكهم ألا أثر حينها سأله .. بشرر يستعر بنيران من فمه كالشرار المستعر: أين هي؟
ــ بلامبالاة لم تبال حال محدثها لا لرنين غضبه: من؟ ــ كندة أيها الملعون ..
ــ آه .. إنها لحظات الانتصار التي تأتي بعد طول انتظار .. ابتسامة معبرة قد تكفي لإحداث ضرر دائم بالمرارة مادامت النشوة ولذة الانتصار: لا أعلم ثم كانت تلك الابتسامة التي فجعت قلبه الأرعن ..
ــ جذبه من قم قميصه هزه بعنف مكررا: أين خبأتها؟ أين هي؟
ــ إلا أنه لا ينفك يلوح له بتلك الابتسامة حتى حانت لحظة ودعته بها إليه تحمل بين طياتها اعتذارا مغلفا يتعتع غدرا وخيانة: سيدي لقد وجدناها ..
ــ سأل مبتسما فرحا باستقرارها بغيابها عن محياه: أين؟
ــ في السقيفة أعلى مخزن المؤونة .. سيدي .. لقد وجدناها مغميا عليها فهي .. لم تأكل منذ البارحة حسب قول أحد الغلمان .. إنها في الطريق إلى هنا الآن مولاي ..
ــ لا .. بل خذوها إلى جناحي فأبان تعب ولا أريد .. أن أرهقه أكثر سأعتني بها بدلا عنه .. قالها يتصنع إشفاقا قد تبلور ضاحكا استخفافا به وسخرية منه ثم ..
تركه ..
أبان الذي حاول جاهدا ألا يشغله أمرها ..
لم يستطع الادعاء أكثر وتصنع اللامبالاة ..
فلو أن كل شيء من حوله تداعى ..
كل شيء بال ..
ربما تكون هي ..
قطرة الندى تلك التي ..
احتفظت بالضوء داخلها من ثم تجمدت ..
تنتظر اللحظة ..
حين تكون بين يديه ..
كي تنماث وتغمره بنورها ..
حاول النهوض واللحاق بها إلا أن صرخات أوجاع عظامه أقعدته جعلته يستقر في مكانه مجددا بلا حول منه أو قوة.

وهناك .. كانت اللحظة التي اشرأبت لها أعناق العاشقين بجنون أمثاله لا حدود لرغباتهم ولا أمل من شفائهم .. اقترب منها بحذر فاقتنصته أنفاسها .. رائحة عطرها ووجهها الأزهر الوضاء .. كانت الملكة في الطريق إلى حيث هي .. قد تناست آلامها .. تتدارك أمرها .. تمشي على عجل .. تخشى أن الأوان قد فات وأن قطعة فخارها الأثرية تلك قد سرقت وللأبد .. لما ولجت شهقت بصوت مكتوم وكادت أن تقع .. لم يشعر بها فقد .. كان غافلا يتكفكف طريقه بالأثر المتناثر من سحرها وقد تمادى فهاهو قد مد أرنبة لسانه دانيا من شفاهها .. لم تتحمل أكثر فخرجت .. كبدها يتفتفت وقلبها يحترق .. عقلها في دوامة وشبابها الدائم قد .. فقد ديمومته إنه .. يشيب باستفاضة مع كل انتفاضة يهتز لها جسدها .. ما أن وصلت حتى سألت كبرى وصيفاتها: كم تبقى لها؟
ــ القليل سيدتي القليل .. لا تخشي شيئا .. فقد غمستهما بالسم غمسا وملأتهما به ..

طرق الباب .. لقد أتى الطبيب الذي قطع على الملك خلوته وجعله يتراجع ويبتعد .. اسيقظت لتفز بعدها مذعورة إلا أنها سرعان ما انهارت فجسدها الهالك من الجوع والسم الذي .. يسري داخله دون رحمة جعلها تتداعى مجددا .. بادرها الطبيب بمشروب سكري وببعض الحقن .. في بضع أجزاء من ذراعها وشيئا فشيئا بدأت .. تستفيق حتى استعادت شيئا من طاقتها .. استأذنت الملك حينها بالرجوع إلى جناحها شاكرة إياه إلا أنه رفض .. وبلطف سألها بصيغة أمر مبطنة بأن .. تستريح قليلا كي ترافقه هذا المساء في جولة حول المدينة .. انصاعت للأمر مرغمة وعند المساء .. مفغمة بالهم والضيق غادرت بصحبته .. حاول الملك إمتاعها .. تجاذب أطراف الحديث معها بما يملكه من مخزون شعري وقصصي .. إثارة إعجابها بردة فعل الجمهور وهتافاته إلا أنه .. عاد خائب الظن مغتاظا فقد كانت .. شاردة الذهن معظم الوقت في واد .. غير واديه تراقب الوقت وتترقب .. حين الأيبة ظاهرها .. معه وقلبها مع من .. ما أن وطأت قدماها أرضه حتى .. أسرعت إليه خفقاتها .. قبل نظراتها تبحث عنه .. لقد غادر هو الآخر بعد هنيهة من مغادرتها .. غادر بصبحة أسامة الذي اصطحبه إلى جناحه ليرعاه.

شعرت كندة بالحرج والتقصير فهي من كان عليها أن ترعاه .. لقد قررت تعويضه .. سألت فتحلقن من حولها همسن لها فتفاجأت واحمرت خجلا .. رفضت بداية لترضخ في النهاية .. جميلة هي الفكرة إلا أنها .. بحاجة إلى كمية وافرة من الجرأة للتنفيذ ..
لقد قبلت أن تكون الطعم للصياد الذي .. عليه أن يرأف نتفة بحالها شرط أن ..
تعشقني ..
هذا كل ما أريد ..
اعشقني مرة فقط ..
ثم انسى أمري بعدها ..

كان هذا هو الفصل الرابع ولا أعلم ..
هل أحداثي لاتزال مثيرة للإعجاب أم أنها .. باردة كالثلج القاسي ..
لا تحرموني من ردودكم وتشجيعكم ..
دمتم بصحة وسعادة حتى موعدنا القادم ..

انت عشقي 28-09-17 03:41 PM

جميل جدا.. الاحداث جذابه ممتعه وتشد القراء وبقوه... استمري بنثر سحرأبداعك وأنا معك لأخير..

Mona1977 28-09-17 05:23 PM

شكرا جزيلا وسحري سيكتمل بمتابعتك الطيبة ..
ربي يعطيك العافية ..

هنا 445 03-10-17 09:57 PM

موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .

Mona1977 04-10-17 12:22 PM

ربي يعطيك العافية مشكورة ..

Mona1977 04-10-17 12:24 PM

سما نور ربي يعطيك العافية على هذا الغلاف .. حلو عجبني .. تسلم ايدك يالغالية ما قصرتي ..

سما نور 1 04-10-17 01:39 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة mona1977 (المشاركة 12688508)
سما نور ربي يعطيك العافية على هذا الغلاف .. حلو عجبني .. تسلم ايدك يالغالية ما قصرتي ..

و يعطيك يارب الصحة و السعادة
أحم أحم بكل خجل اقولك التصاميم من يد الجميلة دلال ( ديلو ) المشرفة و المصممة الي تشاركني مسؤلية القسم ياوردة

Mona1977 04-10-17 05:04 PM

وصلي لدلال تحياتي وقوليلها تسلم إيدك مشكورة يالغالية ..

Mona1977 04-10-17 05:10 PM

غريبة بجوارك (تم إضافة الفصل الخامس)
 
بسم الله الرحمن الرحيم
غريبة بجوارك
" كنت إلى جوارك قريبة .. غير أني كنت غريبة "
( الفصل الخامس)


لم تره منذ يومين منذ أكثر من يومين لقد كانت .. في شوق مندفع إليه شوق .. يشتاق باشتياق إليه قد انبعث .. من حلم ماض تحول .. إلى حب من النظرة الأولى إلى عشق بعد لحظات عشق ينمو عدد اللهفات .. إنها شيئا فشيئا تهيم به وربما .. أتى يوم ترى فيه جنونه عين الصواب .. لقد كانت في انتظاره وقد انتظرته طويلا حتى .. تناهى إلى سمعها أنه قادم .. كل شيء جاهز ماعداها .. لقد كانت بحاجة إلى بعض الوقت .. أرسلت الصبية لاشغاله واستعدت .. خرجن بعد أن أعددنها .. غمزن لها .. تمنيات وقبلات .. همسات وتشوف لمعرفة النتائج ليست كحجم خوفها وارتجاف أطرافها .. أتى شبه مخمور كأسه بيده .. ابتسم لابتساماتهن .. استغرب حالهن وقبل أن يبادر بادرن فدفعنه إلى الداخل .. الطريق المرصوف بالقواقع بالأصداف الندية برائحة البحر المنبثقة من الشموع المعلقة في السقف الذي .. تكدس بالنجوم تستمد ضوءها من ضوئها .. فرش رملية وكنوز عند الأطراف مرمية والقمر الذي .. تدلى فوق فاكهة ذهبية وكؤوس فضية فوق مائدة من ثمار البحر الشهية .. مشهد لم يكتمل وأنا له .. أن يفعل واللآلئ التي حالت بينها وبينه .. تود لو أن زمام أمرها كان بيدها .. أن تنفتل من خيطها الذي أحكم نظمها فتتدحرج أرضا .. تجري إليها .. كي تعانقها بشدة .. تمتص بريقها .. شبابها وربما اقتنصت روحها طمعا في الحصول على جسدها .. تلتف حوله .. تعالج كل بقعة مكشوفة منه .. تحنطه .. تتشكل به لتختفي بعدها داخل .. صدفة عملاقة مدفونة وسط أعماق الأعماق ..
يالها من لآلئ جشعة وياله ..
من حسن .. أعجب الجشع وجوده وأكمل الطريق المؤدي إلى غرفة أخرى .. مخترقا اللآلئ إلى الظلمة التي .. أبهجتها أضواء تسبح .. في جدول عج بأسماك صغيرة ملونة يحيط مغطسا .. من القرميد المشع الزاخر بأزهار برية .. صفراء .. بيضاء وزهرية .. العطر الفواح .. عبق الأرواح والتماس الارتياح قد .. تجسد فيمن اتكأت واسترخت الطرف البارز قد تهيأت .. صدرها المكسو بالأصداف .. ذيلها الذهبي الناعس فوق أحد الأطراف .. وحاشية جسدها التي نقشت بالقشور البراقة وامتدت حتى العنق وتجاوزت أرنبة أذنها وارتدت .. نحو الذراع بأكملها واستعدت .. مضت نحو الخنصر وعند الطرف حطت .. خجلها .. سكونها لما رأته والكلمات التي اصطفت أمامه كي ينطق بها ..
إنها ليلة من ألف ليلة وليلة ..
تروى كل ليلة ..
ترويها بلسانها وإن لم ينطق فبلسان حالها ..
حالها الذي يثير بصمته رواية ..
رواية تشتعل إثارة مع كل كلمة ينطق بها ..
ومهما علا صياح الديك ..
ومهما بلغت الشمس عنان السماء ..
فالظل الظليل لسحرها ..
لا ينتهي ..
بل يدوم ..
حتى تكتمل ألف ليلة وليلة ..
ويدوم ..
عضت اللآلئ أناملها كمدا وتنحى الجشع جانبا إكراما لها لمنحه .. فرصة عله يكون أهلا لها .. فما كان منه إلا أن .. اقترب منها سائلا بصيغة تهكم اشمأزت صنيعه بها: من أنتي يا حسناء؟
ــ بصوت عذب كابد حياءه ليخرج كالنغم: أنا حورية البحر التي .. تنتظر بصبر أميرها ..
ــ ولم أنت بانتظاره ..
ــ ناس ذيلها الناعس وانتغشت .. خصلات شعرها الذابل تداعبها مطأطئة بصرها خجلة منه أشد الخجل: أنا بانتظاره كي يحملني بين ذراعيه إلى الشاطئ كي .. يقبلني ويحولني إلى أميرة ..
أرخت هامتها تنظر إليه وبجرأة - لم تجد صداها لم تستطع إيقاف تجدد الران الذي يغشي بصره قلبه جوارحه كلما رآها - مدت أناملها نحو شفاهه تحثها على الإقبال وتغريها .. بأكثر من ذلك: لقد طال انتظاري حبيبي وأنا الآن في خطر .. فلم تعد المياه ترويني كما سترويني أنفاسك .. إقبل حبي وأقبل .. كن حنونا علي ولا تدبر ..
ــ تنظر إليها وإليه .. تلك النظرات التي .. خلعت ستر السماء جعلت .. قلوب العشاق التي اكتظت .. تتساقط نحو الأرض التي ارتجت تتهافت .. لتقبيل شفافها أو التنعم بقربها تلك .. نعم جليلة لا تنجلي لأي كان إلا أن .. نفسه العصية أبت فكان .. أيا كان .. أمسك يدها مستهزئا قائلا: آآآآآآآه .. يا للمسكينة .. إذن أنت بحاجة إلى أمير كي .. يحملك بل .. ويقبلك أيضا لتتحولي إلى أميرة .. قالها وهو يلوح بسبابته مأرجحا رأسه: ولكن .. من هو المغفل هذا الذي .. سيفعل لك ذلك كله؟ سؤال وقح من شخص .. تأثر بكل ما رأى إلا أنه .. وفي كل مرة يتصنع عكس ذلك بمهارة بالغة لا تترك أثر .. لم تجبه فصرخ بها .. معتصرا يدها معتصرا .. جرأتها والأمل الذي يرتجف داخلها: من؟ ــ أنت بخوف يترصده خيبة أمل أخرى ..
ــ آه .. نعم .. صدقتي .. وهل هناك أمير مغفل غيري هنا ومع هذا .. سأساعدك على النهوض وسأحولك .. دون الحاجة إلى تقبيلك .. حملها ثم ألقاها وسط المياه التي هاجت وارتجت .. سكب الخمر فوق رأسها وفاض الجدول .. بالزيت المندلق من المصابيح المعلقة وسط سفن الأضواء الصغيرة التي .. غرقت حال الأسماك التي طفت وسرعان .. ما اشتعلت النيران من حولها .. تلفتت فلم تجد مخرجا إلا أنها .. لاحظته كيف يبدو مستمتعا بالرغم من كل ما يجول في داخله من صراع عظيم .. بين الحق والباطل .. بطل سحرها الذي مرغ بالتراب وتحقق له ما أراد وفي تلك اللحظة بالذات .. فقدت قدرتها على النطق واستمات الصبر الذي كان يبلل ريقها من حين إلى حين وانكب .. هواها على رأسه في سلة المهملات يصحبه .. سيل عارم من الألم والحسرات ..نكست رأسها وتقرفصت في المنتصف .. تلبد الدخان وتطاول الألسنة في البنيان وضحكاته التي نستشف من خلالها إحساسه الشديد بالندم ذلك الإحساس الذي .. كان مختصرا حول بقعة معينة لم يتكبد عناء الرحيل إلى بقعة أخرى تكاثفت الخيبات فوقها واندست .. بين الضلوع تعتصر القلب الذي كان مثغما بالفرح قبل مدة .. هتن الدمع فو ق الأوجان التي .. تناثرت أعلاها ذرات الرماد .. وانحسر صوت كالنغم ولم يعد .. لذلك القلب أي أمنيات .. كان بانتظارها أن تخرج ولكنها .. لم تفعل فهمها الثقيل أقعدها والجو الخانق أحكم خناقه حول رقبتها والسم الذي .. أخذ بعنف يستشري هاهو .. ماثل في سوق الحياة يشتري .. آخر نبضة من نبضاتها .. لم يعد باستطاعته رؤيتها وقد حال الدخان بينها وبينه .. فز من مكانه وأسرع إليها .. بعد أن تآكلت الستائر ووقعت أجزاء كبيرة منها حيث هي وحملها بعيدا.. يتلمس طريقه عبر الدخان .. القلب المدعي تحجرا وغرورا نراه .. قد لان قد رضخ بعد جهد جهيد للواقع المرير الذي صنعه بها - لسعات النيران وذيلها الذهبي الذي احترق والضوء الباهر الذي انخمد فتيله لما ولج - حاول إيقاظها دون فائدة أصابه الجنون بحق هذه المرة .. من المحتمل أن يجلب الأذية لغيره ولكن أن يتسبب في موته .. ذلك لا يعقل .. ارتعدت بواطنه التي جعلت .. تنبش ذكريات الماضي بعنف .. تلك الذكريات القليلة التي جمعت بينهما فاتقدت عيناه بالدمع يهزها صارخا فيها: استيقظي استيقظي .. لم يكن .. حال المنادى عليه بأسوء حال من المنادي فنداءاته ومحاولاته .. لم تزد الوضع إلا سوءا فجسدها العليل .. يزرق وهناك صديد يسيل من أذنيها .. أبعد يده وتراجع إلى الوراء .. تخبط أرضا وهو يجري نحو الباب الذي .. فتح فالغرفة كانت تحترق دون إحساس منه أو شعور فهواجسه التي .. تحولت في لحظة إلى مخاوف جعلته .. يندس تحت جنح اللاوعي عله يفلت مما ألم به .. اندفع الجند والصبية إلى الداخل وتجمهرت الوصيفات عند المدخل .. حملوه وحملوها خارجا .. تركوه وأسرعوا بها إلى المشفى الخاص بالقصر فلم تكن بحال يسر الناظرين .. هناك من ينظر إليه يستسقي منه إجابة على تساؤلات عديدة من أفواه لم تكل حتى كلت .. فبصره الشاخص وفمه الفاغر وهيئته التي لا تبشر بخير .. تنذر بجنون حقيقي هذه المرة ..
أبان .. لقد ضاعت كل فرصك .. هل سمعتني؟ لقد انتهت هذه المرة ..

علم الأبيض فاستشاط غضبا وكاد قلبه النابض باسمها أن .. يقف ردة فعل مغايرة للملكة التي .. فرحت أشد الفرح ونازعت .. حزنها نزعا فاقتلعته من جذوره .. أمر الجند حالا بأن يبحثوا عنه ويعيدوه إلى الدهليز ذاك شرط ألا .. يخرج منه أبدا هذه المرة .. لم يعد يخشى شيئا لا نورهان وقد .. كان يبقيه إكراما لها قبل أن تلج أخرى إلى قلبه لا .. قومها الذين لا يتجاسرون على هز عرشه وقد .. قويت شوكته أو كندة التي .. إن كتبت لها الحياة فمن المؤكد أنه .. آخر شخص تود سماع اسمه أو رؤيته إلا أنه .. لم يكن في أي مكان .. لقد هرب.

يومان كاملان وكندة .. تنازع والأطباء في حيرة من أمرهم .. إنهم النخبة ومع هذا .. فهم عاجزين عن إنقاذها واستخراج السم منها .. أوصلوا للملك الخبر المفجع بأنها .. تحتضر وقد تفنى في أي لحظة كما نقلوا إليه .. استغرابهم شأن مقاومتها للموت وهو .. جاثم فوق أنفاسها ربما أن .. هناك أسبابا أخرى تدعوها إلى البقاء تمدها .. بالقوة لدفع شبح الموت عنها بضع خطوات.

يوم آخر مر مرا على البعض .. هنيئا مريئا على البعض الآخر .. فرح في فرح وشدة في شدة وكلما .. اشتدت الشدة أتى الفرح وكلما .. علت الفرحة كانت الشدة .. أتت الممرضة التي .. كانت تراقبها على عجل تحمل بيدها ورقة كتب على سطحها بخط أحنف متقطع مبتور أحرفا تحاول جاهدة أن .. تتصل لتصل بمضمونها إلى قارئها وبعد عناء وتدقيق .. كانت المفاجأة التي .. أيقظتهم وأشارت إلى سبب كان غائبا عن أذهانهم ..
" أبي "
نعم .. لم كان هذا السبب غائبا عنهم .. إنها بلا شك .. كندة ابنة موسى شيخ العطارين .. من يستطيع نسيان هذا الاسم الذي .. ذاع صيته ولاح حتى .. عارك صداه الصدى الساكن قلب الوديان وأرواح كالألواح وحالا .. أرسلوا إليه من يشرح له حالها دون ذكر اسمها خوفا عليه أن يهلك وهو شيخ كبير .. ليلة أخرى وأنفاس لم تعد أنفاس ودقات هاهي تعرض نفسها مجددا بثمن بخس حتى أتى البشير حاملا الخبر الشافي .. محيلا العرض البالي .. موسعا دركات الأمل .. فطنة موسى وخبرته العريقة حملت العلاج إلى ابنته فلذة كبده كندة وهو لا يعلم .. إنه سم فتاك لأفعى تدعى .. "نافث" تسكن جوف البراكين نادر وجودها أخبرهم .. أن يستعدوا فهذا السم لن يخرج دون عراك .. ناولوها العلاج .. رعاية فائقة وعناية شديدة بأمر من الملك نفسه ويوما بعد يوم .. هاهي كندة تستعيد شيئا فشيئا عافيتها ..
إنها تتحسن وستصبح أفضل بعد عدة أيام.

أسبوع كامل ولا تزال قابعة في غرفتها المظلمة حالها وهي صامتة .. هائمة بأفكارها .. مشاعل تشتعل .. غم وهم كلما .. تذكرت ذلك اليوم والآثار التي كانت ولازالت ..
هناك من يأتي .. للاطمئنان عليها .. للتحدث معها ..
الملك .. الصبية .. الوصيفات ..
تتحدث قليلا .. إجابات مقتضبة إلا أنها .. وفي كل مرة يذكر فيها اسمه .. أبان ..
تصمت ..
تشيح ببصرها بعيدا ..
يغشيها الألم والحزن ..
تتذكر ..
حلما كان ذات يوم سببا لرسم ابتسامتها ..
استحال ..
كابوسا ..
سرقها وهو يبتسم ..

يومان آخران واستحال القصر هو الآخر إلى .. كابوس مريع جثم على قلوب الكل .. لقد استدعى الملك حاشية القصر كلها من حرس وخدم ووصيفات وصبية ما عدا كندة .. ثلاثمئة شخص إلى القاعة الكبرى وأوصد الأبواب .. حمل كل واحد منهم كأسا من الماء واصطف جانبا .. بأمر من الحاجب الذي تكلم في النهاية صادحا بصوته: خمس كؤوس تحمل سما تهد جملا في لحظة .. فمن خشي على نفسه فليتحدث .. من دس السم في كأس كندة صفية الأمير أبان؟ .. ثم حمل كأسه واتخذ مكانه حاله حال الجميع .. الملك في انتظار جواب .. والملكة قد شيعت وصيفاتها بنظرة خاصة .. نظرة رجاء ألا يفضحوا أمرها .. إنها ليست من يحمل الموت بيده مسترخيا فوق عرشه عكسهن .. حاولن التحمل باسم الولاء والبراء .. تحملا انقطع إذ لم ينفع الرجاء واختيار الملك العشوائي .. جعل أحدهم يسقط ميتا ..ببرود تام ودون أن يطرف له جفن أشار بصولجانه إليهن .. تصببن عرقا .. ارتجفن هلعا وشفاههن .. لم تعد بعد قادرة على صد نداء الرحمة الصادر من أرواحهن .. كن على وشك النطق باسمها حينما .. نهضت وتوجهت بقامتها الطويلة إليه .. دنت من أذنه ثم همست إليه:
لم كل هذا الإرهاب لكل .. تلك الضمائر المعذبة وأنت .. تعلم يقينا بأنها .. أنا فإن كنت لا تعلم فها أنا أخبرك .. إنها أنا فتوقف وأرسل خلفي .. من يأتيني بكأس .. مترع بالسم .. أتجرعه أمامك وحدك كي .. يهنأ بالك أخيرا وترتاح .. نهضت لتعود مجددا: فإن كنت تتساءل فقد .. فعلتها لأني .. أمقتك بل .. أمقت بشدة .. ذلك الرمد اللعين الذي فارقك وقد .. كنت تراني حينها .. قالت ذلك ثم غادت .. غادر الجميع بعدها.

استرخت الملكة فوق أريكتها المخملية تستعد نفسيا تنتظر بتوتر شديد .. عقابها الآتي لا محالة .. كانت هكذا حينما .. ورغما عنها بل .. ودون إحساس منها .. تناثر دمعها فوق خدودها التي جفت .. تدمي لمرارتها جروحا لم تجف بعد بل .. هاضت كمدا واهضلت .. أول لقاء .. أول لمسة بل .. أول مرة نظق بها وسحرت به وبها .. لا تزال تبتسم وهي تتذكر .. اسما تذبذب رنينه بقدومها ولن .. يكون له أثر عما قريب .. باختفائها: نور .. أنت نوري .. كان هذا حال نورهان أما الأبيض فبالرغم من علمه المسبق بأمرها فقد .. أغاظه بشدة ما قالت وجرأتها .. أرسل من يخبرها أن تبقى حبيسة غرفتها حتى يأذن لها وآخر .. يأمر كندة أن تأتي لزيارته كي يصفى ذهنه وتسلى روحه .. كان الخبر صاعقا عندما علم أنها هي الأخرى .. قد ضربت بكونه الملك عرض الحائط لتخرج من دون أخذ إذن منه .. اضطرمت نيران غضبه فوق الضرم التي أخمدت للتو .. أمر الجند .. حرس القصر .. فيالق الجيش ألا يتركوا شبرا واحدا .. فصا صغيرا إلا ويبحثوا فيه .. يريدها اليوم أمامه اليوم وإلا .. أرسلوا جميعا إلى حيث الجحيم ..
طال بحثهم واستمر لساعات ..
ــ استأذنه أحدهم: سيدي ومولاي .. أعتقد بأني أعلم أين هم؟
ــ هم .. من تقصد؟
ــ سيدي أبان وصفيته ..

توغلت كندة داخل الغابة المسحورة تبحث عنه .. علمت من إحدى وصيفاتها أن رأسه مهددة بالاقتلاع بسببها فآثرت إنقاذه .. إرجاعه إلى القصر معها وطلب المغفرة عسى أن يغفر له على أن تحمل ذنبه طيلة العمر .. كانت تخطو بحذر تناديه بصوت خافت يعلو تدريجيا حتى إذا ما نادته بصوت مسموع " أباااااان " .. تفاجأت بالطيف العاشق أمامها .. متوهجا بلون الحب قلبا وقالبا .. مصطبغا بألوانه .. منفعلا لذاته وأسبابه .. مد وجهه .. أطرافه .. لقد عادت إليه .. هذا ما آمن به وارتاح له إلا أنها .. ما انفكت حتى ابتعدت سائلة: أبان .. هل رأيت أبان؟
ــ تبدلت سحنته واكفهرت ألوان جسده .. بصوت متشرذم مدقع بالأسى: ألم تعودي إلي!
ــ ساءها حاله أجابته متعاطفة معه: أعتذر .. فقد جئت بحثا عنه ..
ــ وما حاجتك به لشخص دائم الهرب منك .. لا رغبة له مطلقا في البقاء بقربك .. لقد أصابها في الصميم فحقا والحق يقال .. أن بقاؤها بقربه .. لم يجلب لها سوى التعاسة والمزيد منها وأردف قائلا: إن منحتني حبك فأعدك أن أجعل منك أجمل طيف سكن عالم الأطياف .. أعدك .. سنعيش بسعادة معا إلى الأبد ..
ــ لم يطل صمتها: لا أعتقد ذلك .. فهذا القلب المجنون أشد جنونا من جنون أبان نفسه .. إن حجم كرهي له ..لا يوازي حجم حبي له .. إنه يفرض علي أن أتبعه طواعيه .. بمنحه الفرصة تلو الأخرى .. أعلم أنه يجرني نحو الهاوية غير أنه .. لا طاقة لي في ردعه ..
ثارت النيران في ذيله واحمرت إلا أنها .. سرعان ما انطفأت تدريجيا حتى خمدت حينما .. تراجعت إلى الوراء خوفا منه وكادت أن تتعثر .. هز ذيله يمنة وشمالا كالجرو الصغير وهو يبتسم لتطمئن قليلا فلما فعلت .. سألها أن تثق به أن تغمض عينيها شرطه الوحيد لنقلها حيث أبان .. فتحت عينيها .. إنها لا تزال في البقعة ذاتها ما عداه .. الطيف الذي .. لم يترك أثرا لزواله اللهم إلا .. سهما فضيا يشير إلى بقعة أخرى مضيئة .. لما ولجت .. وجدته مستندا مكتفا ذراعيه خلف جذع شجرة أوراقها .. كحال كل الأوراق هناك .. ألوانها في تبدل دائم وأغصانها .. تتمايل بهجة وانشراح .. كان هناك مستندا مبتسما متأملا عرس أحد الأطياف .. مخلوقات غريبة .. مراسيم عجيبة لم يستنكرها بتاتا بل .. أحبها هذا ما دلت عليه هالته ومحياه .. أحس بوجودها فالتفت إليها: كنت بانتظارك .. أمسك يدها وسار بها ..
ــ أبان .. إلى أين؟
ـ توقف مجيبا بتفاؤل: إلى هناك .. لنعقد قرانا جديدا .. لنصنع عرسا جميلا كتلك الأطياف ..
ــ مالذي جرى لك؟
ــ لقد أفقت .. هذا ما جرى لي .. اختبائي هنا لبعض الوقت جعلني أدرك .. بأن الجنون الذي كنت أدعيه لم يكن إلا بسبب الحب الذي كنت أصده .. لقد أحببتك مذ رأيتك واعتقادي .. بأني لا أستحق هذه الكمية الوافرة من الحب .. زاد غضبي فارتفعت حدة جنوني .. ثقي بي .. لن أتركك بعد الآن وأرحل .. لقد قررت البقاء هنا إلى الأبد .. لنعش بسعادة معا إلى الأبد .. أليس هذا ما ترغبين به أيضا .. هزت رأسها وكل ما فيها يدعو إلى الشك والاستغراب .. اكتنف وجنتيها براحة كفيه واستطرد قائلا بفرحة تعلوه: أحبك .. أريد أن أسمعها تصدر من فمك .. أنعمت النظر إليه تفتكر .. تتساءل " أين قرع الطبول كلما اقتربت .. أين حرارة جسدك التي أشعر بها مهما ابتعدت .." لم ينتظرها أن تنطق بها ومد شفاهه لتقبيلها فسألته .. مقطبة حاجبيها: من أنت؟ توقف لبرهة أكمل بعدها .. بدا مستعجلا همه .. إكمال ما أهمه لتدفعه .. بعيدا عنها بعد أن قاومته لبعض الوقت: من أنت؟ أنت لست أبان .. وفي اللحظة التي صدته بها .. اختفى الحضور .. صوت المغنيين .. تمايل الأغصان والضوء البهيج الذي كان يعم المكان .. بدت أطرافه فعاتبته قائلة:
أيها الطيف .. لقد وثقت بك ..
ــ متخاذلا خجلا من فعلته: لقد كنت أحاول الحصول على قلبك ..
ــ بل كنت تحاول سرقة ما ليس لك بحق ..
ــ أتمنحين قلبك لشخص تعلمين علم اليقين .. أنه سيؤذيك ..
ــ لا بأس .. فأنا سأتألم به ومن دونه .. أليس هذا هو الحب ..
ــ نعم بكم من الإحباط عكر ألوانه: إنه الحب .. أصدق كلماتك فهذا .. ما أشعر به وأراه وبحماس مصطنع فضحه .. عدم تبدل حاله: حسنا إذن .. سوف أمنح هذا الشقي فرصة أخرى لعلمي .. بأن سعادتك لن تكون إلا معه ولكن حذار .. إن عدت مرة أخرى للبحث عنه فإني أعدك .. أعدك بأني لن أدعك ترحلين كان قلبك لي .. حينها أم لا .. هدأ قليلا ثم أردف قائلا: سأشتاق لك .. ابتسمت فأكمل فرحا: هذا ما كنت بحاجة إليه كي أرحل .. غمرته ألوان الحب مجددا .. اشتط لهيب ذيله الأحمر .. توهج خليط بدنه فأزهر .. اندفع نحوها فرحا .. سكن جسدها لثوان ثم وخب عاليا نحو السماء منتزعا أحزانها .. غضبها .. حروقا أصابتها .. مخترقا أغصان الشجرة العظيمة التي كانت تظلها .. تحولت ثمارها إلى أجراس جعلت تهتز تعزف بجرسها نداءا إلى العربة التي حطت .. خيول مكسوة بالنجوم تجر مركبة صنعت من الغيوم .. فتح الباب .. تقدم البواب .. حصان بحر يعتمر عمامة سندسية يتوشح مهدورة براقة يمنية طمأنها .. بعد أن أخبرها بأنه مكلف من قبل سيده أن .. يأخذها إلى حيث أبان .. صهلت الخيول وبدلا .. من أن تصعد بها إلى السماء قفزت .. إلى الأسفل نحو النفق المظلم الذي لاح أمامها .. الظلمة حالكة إلا أن النجوم التي .. كانت تتطاير في كل اتجاه كلما .. دكت الخيول الأرض بحوافرها .. أضاءت تلك العتمة .. وزينتها .. كانت تجري تشق طريقها عبر مشاهد حية .. تعكس ماضيها .. الحاضر والمستقبل .. طفولة كندة .. ضحكاتها .. تغريد طائرها .. حلمها الجميل .. لحظات من الماضي تعج بالسعادة .. حاضر يغص بالآلام .. يستنزف البسمات .. يبتلع النسمات .. ينثر الملح فوق الجروح ولا يبالي .. صوتها تنادي .. تصرخ تستنجد .. أبان الذي .. يظهر في أحد المشاهد .. محشورا في زاوية محاطا بقاني فارغة .. تفوح من حاله رائحة الموت بل بدا .. وكأنما قد فارق الحياة .. قاربت الرحلة على الانتهاء .. أخذت الغيوم تنقشع تدرجيا وكذلك .. النجوم التي تناثرت في الهواء فلما .. بلغت الوجهة تفاجأت بنفسها .. جالسة فوق جذع شجرة .. تلفتت حولها لتجده جالسا أمامها .. على مسافة منها فوق صخرة قرب بحيرة تكتنفها .. أشجار الكرز التي يدعو تصرفها الغريب إلى شيء من العجب فهي .. ما أن تزهر حتى تجف أوراقها .. تتساقط .. تتعرى أغصانها .. يولد الزغب .. يبتهج غصنها .. تتكاثف أوراقها ويبتسم الزهر ليتساقط من جديد في دورة لا تنتهي جعلت .. تلك البقعة في حد ذاتها أعجوبة .. ظلت جالسة ترمقه.. لم تتجرأ على الاقتراب منه أنه .. خوفها منه الذي لم يزل .. أن يكون اقترابها .. مدعاة لأذيتها وقد اتضح لها .. المرة تلو الأخرى كم أنه يهوى ذلك وربما يعشقه ولذلك نراها .. وقد التزمت مكانها حتى الوقت الذي استطاعت فيه مواجهة خوفها .. بحذر تقدمت .. انعكست صورتها على سطح الماء .. لم يصدق كونها على قيد الحياة فبعثرها إلا أنها عادت لتزيل شكه قائلة:

كان هذا هو الفصل الخامس ..
لا تحرموني من ردودكم وتشجيعكم ..
دمتم بصحة وسعادة حتى موعدنا القادم ..

Mona1977 11-10-17 03:02 PM

غريبة بجوارك (تم إضافة الفصل السادس)
 
بسم الله الرحمن الرحيم

غريبة بجوارك
" كنت إلى جوارك قريبة .. غير أني كنت غريبة "
( الفصل السادس)


سيدي .. هلا عدت معي ..
ــ استدار .. حاول لمسها فابتعدت ولو لم تكن هي ما فعلت فوحدها التي .. ستبتعد عنه اتقاءا لشره: ألا تزالين على قيد الحياة .. يالك من امرأة شقية .. إنك أسوء من قطة ومع هذا .. فالحمد لله .. لقد كان حملا ثقيلا أزحته عن كاهلي وبوقاحة .. عاد إلى ما كان عليه دون أن يعتذر أو يبدي ذرة ندم ..
ـ تعابير وجهه التي طغى عليها الجمود والوجوم .. شحوبه .. رداءة حاله جعلها بشكل من الأشكال تتعاطف معه .. شعرت بأنه يخفي ألمه .. إحساسه بالندم ورغبته بالاعتذار بين هذه الكلمات: عد معي واطلب المغفرة ..
ــ كيف علمتي بهذا المكان؟ ــ لقد كنا معا في المرة السابقة ..
ــ حقا .. ــ نعم ..
ــ اممم .. وأنا الذي كنت أظن بأني أحلم .. قالها وهو يهم ناهضا .. خلع ملابسه فأعرضت عنه نحو الجهة التي بدت .. وكأنها مدرج عرض .. حوريات وجنيات يسلبن القلب منك قبل البصر لم .. يعرضن ولم يصرفن عنه النظر .. عادت فجلست حيث كانت تنتظره ريثما ينتهي لتكمل معه بقية الحديث .. تفاجأت بقدوم أرنب عملاق قرمزي اللون .. عيون ذهبية وقرون فضية .. التقط بفمه الضخم هندامه وهرب قافزا .. نحو مجمع المعجبات .. أحرقنه في لحظة ثم .. ملأن جيبه بكمية هائلة من الخضراوات .. احتارت في أمرها .. إنه على وشك الانتهاء ويهم بالخروج .. لن تستطيع الاقتراب منهن ولكنها .. حتما لن تسمح لهن بالاستمتاع أكثر على حسابها .. هذا ما أقرته ومن أجله تحلت بالشجاعة ..
ــ أسرعت إليه .. أوقفته: لقد سرق هندامك .. ــ من سرقه؟
ــ خشيت ألا يصدقها ومن ذا الذي .. سيصدق أن أرنبا فعل ذلك: أحدهم وهي تحوم بطرفها يمنة وشمالا ..
ــ إنه أنت .. فليس هناك غيرنا .. هيا أخرجيه والا خرجت لك عاريا ..
ــ طلبت منه الانتظار بهلع: لقد كان أرنبا ..
ــ همس مبتسما: لقد فعلها ثانية إذن صرح بعدها قائلا .. متلاعبا مجددا بشكل فظ بأحاسيسها ومشاعرها: وأنا لأرنب فعل ذلك .. أنت كاذبة وهم بالخروج ..
ــ بشدة ألزمته غرزه: لقد كان أرنبا ضخما قرمزي اللون هرب بهندامك إلى هناك .. ألا ترى ما أرى .. تلك المخلوقات العديمة الحياء أحرقنه وبلهجة أشد سخطا أكملت: وسواء صدقتني أم لا .. فالحقيقة أنه لم يعد لديك ما ترتدي .. فخذ عباءتي وكفى ..
ــ مبتهجا لغضبها مصرا على استفاضة المزيد منه: هيه رويدك .. أنت صفيتي وأنا سيدك .. من يعطي الأوامر هنا .. هو أنا لا أنت .. فهلم إلي هيا وألبسيني إياه وإياك ومجادلتي وإلا .. ضربت بكلماتك عرض الحائط وخرجت ففي النهاية أنا .. لست سوى مجنون .. أستطيع فعل ما أشاء دون خوف أو ملامة أليس كذلك؟ .. ظلت واقفة تفتكر في حالها صامتة " إلى متى سأكون مطية جنونك؟ " .. واستطرد قائلا: ألا يهمك أمري .. أترغبين حقا .. أن أخرج عاريا أمام هذه المخلوقات العديمة الحياء .. حسنا إذا .. هم فهمت .. تنهدت طويلا ثم نزلت إلى الماء .. تقدمت قليلا فتراجع قليلا .. تقدمت أكثر ليتراجع أكثر فأكثر بابتسامة علت محياه ببغض ازفرت له أساريرها حتى إذا .. ما بلغت المياه أوج عنقها ولم يعد باستطاعتها التقدم أكثر .. توقف مقتربا منها .. شملته بعباءتها فلما انتهت .. استدارت .. منعها إذ أحاطتها ذراعيه بشدة وألصقتها به .. بش في وجهها الذاهل عابثا كعادته: ما رأيك .. لنمت معا؟ لم ينتظر ردها وسمح للقاع أن .. يستقطب جسده .. جسدها رغما عنها إلى الأسفل حين تخلى .. عن رغبته بالحياة .. كندة التي .. تنظر إليه مذهولة .. تخاطب ابتسامته السخيفة .. تصرفه الأرعن واستجابتها الحمقاء له .. بوابل من اللوم من الندم والحسرات .. نراها تكتم أنفاسها .. تحاول الإفلات من قبضته التي يبدو أنها .. تستمد قوتها من رغبتها المستميتة للبقاء فلما .. استنفدت كامل محاولاتها ولم تعد قادرة بعد .. أطلقت العنان لرئتيها أن تروي ظمأها أن تمتلئ قدر ما شاءت .. طعم الموت الراصد عند بابها باستمرار إلا أن المفاجأة كانت .. أن أنفاسها جعلت تجيء وتذهب بشكل طبيعي .. التفتت سريعا إليه .. محتفظا بابتسامته التي باتت أعرض مبرزة غمز شدقيه .. هز رأسه ثم جعل ينظر حوله وكأنه يدعوها إلى ذلك .. مخلوقات فضولية كرأس الدبوس تمتطي .. أصدافا تحمل أضواء أتت تداعبهم ترحب بالقادم الجديد .. أزواج القناديل التي غمرت الأجواء بألوانها الزاهية .. برقصاتها بصوتها المحبب اللطيف .. أسماك البحيرة التي .. تصطبغ ألوانها بلون شعبة المرجان التي خرجت منها .. سلاحف بلون الماء وتيارات تحمل فقاقيع الهواء وأشعة القاع الساطعة تخترقهم بلطف نحو السماء وأسرار البحيرة التي .. كشفت اللثام عن خباياها دون مخافة أو حياء وكندة التي .. بدت مستمتعة شعرت .. بأن ما يجري حولها هي طريقته المثلى للتعبير عن أسفه وتقديم اعتذار .. أرخت وجنتها على صدره لما .. أحست بالأمان واستسلمت لذراعيه .. لحظات جميلة جمعتهما معا انقضت لما صعد بها إلى الأعلى فالوقت المسموح لهما بالبقاء يوشك على الانقضاء .. إنها ليست مرته الأولى هنا ذلك واضح جدا من تصرفه .. صدم عندما .. اصطدم قحف رأسه بالجليد الذي تكون دون معرفة سابقة منه بل إن الصدمة الحقيقية كانت .. شرك البحيرة المخفي عن العيون .. قاعها الذي فتح يسحب بقوة إعصار كل شيء في طريقه .. ليست تلك عادتها .. لابد من وجود سبب ما .. ربما أنها طريقتها في التنظيف .. مبرر منطقي لاختفاء مخلوقاتها .. إنها تصر إصرارا ويصر إصرارا على الهرب وإنقاذ كندة إلا أن الوضع يزداد سوءا .. سطح الجليد الذي يتضاعف أضعافا كلما حاول تحطيمه .. فم البحيرة الذي يزداد اتساعا كلما قاوم أكثر والمياه التي .. بدأت تغزو أنفاسهم شيئا فشيئا .. إنهم هالكون لا محالة .. هذا ما اعتقده أبان الذي .. حاول أن يندفع لمرة أخيرة بقوة نحو الأعلى بل هي القوة المستمدة من خوفه عليها .. لقد أراها هذا العالم .. ليقدم اعتذارا لها لا لتقديم تعازيه .. وفي اللحظة التي اندفع بها مجددا تحطم الجليد حطمه .. أرنب عملاق قرمزي اللون .. عيون ذهبية وقرون فضية .. قضم إزاره وانطلق بهما خارجا إلى بر الأمان .. قفز عائدا نحوهن .. أكرمنه ثم اختفى .. هدأ قليلا ثم أسرع إليها يتفقدها .. إنها أسوء حالا منه فلا أثر هناك لأي نفس أو حركة .. حاول دفع الماء الذي ابتلعته خارجا .. حاول وحاول حتى استجابت أخيرا لمحاولاته .. جعلت تسعل بشدة حتى إذا ما هدأت .. سقط قربها كالمغمي عليه .. ظلا قرب بعضيهما صامتين لبعض الوقت أما أبان .. فقد أغمض عينيه ليرتاح وأما كندة التي كانت ترتجف .. فقد تقرفصت تستجلب الدفء إليها بضم أطرافها:
اقتربي فأنا أشعر بالبرد ..
يا إلهي ..
في مثل هذه الظروف ..
أليس من عادة الرجل أن يكون سيدها ..
أن يتسيد قلب المرأة ببساطة دون عناء ..
أحمقا .. لبيبا كان أم رجل عصابات ..
إن كان يتمتع بشيء من رجولته ..
فلن يستصغر إذن ..
نزع معطفه .. ضمها إليه أو ربما ..
إشعال ضرمة من النار إن كان يتمتع بشيء من رجولته ..
لقد اعتقد أبان الذي منعه كبرياؤه .. خجله أو ربما خشيته .. أن تظن ظنها أنه يتودد إليها بالاقتراب منها فقال ما قال .. أبان الذي غاب عن ذهنه أن كندة ليست بتلك السذاجة التي يعتقدها ..لن تقدم على عمل يجعله يشعر بأنها بحاجة إليه .. لن ترضى بأن تعامل بأقل مما تستحق .. لن تكون دميته بعد الآن هذا ما عاهدت عليه نفسها قبل أن تلج هذا المكان ..
فالحب ..
يسير عسر .. حلو مر ..
خرافة قد تصبح حقيقة ..
أو أسطورة قد تتناقلها الأجيال ..
إلا أنه يبقى ..
مهينا .. وضيعا عندما ..
أنحني ..
ساجدا ..
أقبل قحف نعليك فقط ..
لتبقى معي ..
وأبقى معك ..
ــ اقتربي فلم تفعل بل وحاولت النهوض .. منعها .. أحكم قبضتيه على معصميها محبطا كل محاولة لها للإفلات منه .. التفتت إليه سريعا .. بغيظ مصطنع: قلت اقتربي فلم العناد؟ حملقت فيه مطولا تستهجن وقاحته وبغض كلماته التي يبدو .. ألا أمد لها لتصد عنه في النهاية .. تلك كانت .. ثوان فقط .. ثوان بينهما كانت كافية بل .. قد تكفلت بذاتها لصنع تغيير .. شعرها المبتل .. جيدها المتلألأ .. قوامها الذي يخلو من عيب ووجهها الغاضب يبدو أجمل من دون ريب .. جعلته والحديث هنا للراشي حسنها والمرتشي هو أنت يا من ترتشي من حسنها دون حد أو حيد .. جعلته ينعم النظر .. شعفته نفسه التواقة أن يقبل عليها دون قيد وأنا لها .. ألا تكون كذلك والفتنة فتنتها تدلو دلوها بين شبيبة وشيب .. قلبه الكسيح ظل عاصيا بينما أدركت جوارحه .. حجم النعمة الملقاة بين يديها .. يكاد سحرها يفتك به .. يكاد ذلك العاصي أن .. يخضع له ولو أنه أطال النظر لغدا عبدا له .. إلا أنه وكعادة المتغطرس دائما .. سل سيفه ناحرا كل رغبة شقية هفت إليها نفسه كلما .. تاقت إليه .. من تراه يا ترى .. سكن مكانها في جوفه .. يعصي لأجله ذلك الحسن وينحر فداءا له كل تلك الرغبات ومع هذا .. فمن خادن الجمر فلن يأمن شظاياه .. لم تزل غاضبة ترتجف حتى شعرت بالدف .. رغبة خفية ملحة لم يستطع سيفه أن يقف في وجهها جعلته يضع جانبا .. كبرياؤه .. خجله .. ظنونه .. لم يزل محكما قبضتيه على معصميها حتى انحنى بجسده راقدا خلفها مرخيا ذراعيه حول خصرها ونحرها .. همس قائلا: لم يخبرني أحد كيف أشعل نارا .. أعتذر .. تلك هي طريقتي الوحيدة لتدفئتك .. شخصت عيناها .. لم تصدق .. إنه يبدو لطيفا .. إنها المرة الأولى التي يكون فيها هكذا .. إنه يعاملها بلطف يخاطبها بلطف لطالما تمنته .. هي لحظة تمنت فيها لو استدارت لترى وجهه .. ربما أنه الفتى من حلمها .. ربما أنه سيقع هذه المرة في غرامها .. هناك من يستمع لها وقد لبى نداءها .. فئران ظريفة يبدو أنها في سباق تجري مسرعة على أقدامها .. تجري باندفاع نحوها .. تكاد تصطدم بها حينما .. وثبت عاليا أعلاها فاستدارت هي لحظة .. دب من بعدها في تلك البقعة بالذات .. صوت خفقات .. خفقاته .. خفقاتها .. لا أحد يعلم .. إنما كانت خفقات .. جعلت الندى فوق البتلات يرتفع عاليا .. ينشطر إلى ذرات .. جعلت أشجار الكرز .. تتوقف ..تميل بأغصانها .. تسترق السمع .. لا يهم ولو كانت بضع كليمات .. لم يستطعن البقاء هناك صامتات فاقتربن يسترقن النظر هن الأخريات .. لقد بدا متوترا ربما .. أنه هو الآخر تمنى لو استدارت .. لو التقى بها مجددا للحظات .. هو حديث لم تنطق به شفاههم .. طبع فوق سطح الماء:
ــ " أيها القلب القاسي .. أيها العاصي .. إلى متى ستظل واجما تقف كالأرعن أمام حسنها الماثل بين يديك دون مقابل ..
ــ أبان لا تنظر إلي هكذا .. إنك تجعل قلبي يرتعش ..
ــ آه يا كندة .. لو أن مكانك في قلبي لم يسكنه ساكن قبلك لتركت ذلك النابض يمضي في حبك دون هوادة .. أعلم بأني الخاسر الوحيد هنا ..
ــ إنما هو أنت من يجعل أشواقي بين كفة تطفو وتميل .. إنك تجعلني في حيرة ..
ــ لا أعلم لم .. أظل حائرا هكذا .. من السهل الوقوع في حبك .. أتراني أخدع نفسي ..
ــ أبان .. أحقا ما أراه جليا في عينيك .. في لغة جسدك التي تخاطبني .. سأنسى ما صنعت .. سأستجيب لك لكني أرجوك .. لا تجعلني أندم " ..
أتى الآتي يخطم جباههم .. عاشقة وشبه عاشق شديد الانفعال .. يجتذبها إليه بجرأة جوارحه التي امتدت .. حيث لم يعتقد ولم تعهد .. يمسك بها كمن يخشى أن تفلت من بين يديه .. تغشيها نظراته التي .. لم تعد حقا لديه .. أدناها منه أكثر فاستجابت إليه .. تمازجت أنفاسهم .. تقاربت أجسادهم .. ارتفعت حدة توترهم .. إنها اللحظة التي بدأت توشك أن تنتهي بردة فعل قد .. تحقق حلمها وتنهي جنونه .. إلا أن المكان سرعان ما ارتج .. سرعان ما هاج وماج فالغابة تحترق .. قذائف نارية تلتهمها دون رحمة تقذف .. من قبل الجنود الذين تربصوا حولها خارجا .. تنفيذا لأمر الملك أن تحرق بمن فيها عن بكرة أبيها .. فاضت مياه البحيرة تطفأ ما استطاعت وتحركت الريح تبعدها قدر الإمكان .. الكل يحاول جاهدا حتى كندة وأبان إلا أن الوضع يزداد سوءا فالقذائف .. لا يبدو أنها ستتوقف حتى تختفي هذه الغابة تماما حتى .. تطمس معها جميع الآثار .. لحظات عصيبة مرت توقف الكل بعدها عن الحركة .. أنين أخذ يعلو من أفواههم .. يعلو شيئا فشيئا .. يدعو المنقذ أن يأتي في الحال .. ثوان حتى نهض من وسط الغابة طائران عملاقان .. زوجان من النعام .. لامست أقدامهم سطح الأرض بينما عانقت رؤوسهم .. كبد السماء .. تلفتوا حولهم .. بدوا غاضبين .. أحاطوا المكان تحتهم بظلال أجنحتهم .. نفشوا أبدانهم .. أطلقوا صيحة على إثرها .. انفجرت كومة هائلة من الريش الملون اللامع غشت المكان .. تحلل الريش سريعا واختفى ذلك العالم الساحر بأهله ما عداهم ..
كندة وأبان ..

مثل الاثنان أمامه مكبلان جنبا إلى جنب مما أثار حفيظة الملك وغيرته .. أخذها جانبا .. أمر ففكت قيودها ثم وبجرأة ضمها ضما إليه: ماذا تفعل؟ سؤال من شقين صنع في صدغه القريب شقين حينما .. صفعه بخاتم الحكم بقوة حملت .. غيظه أعلنت جهرا كرهه فأصابه فأدماه فأوقعه أرضا .. أسرعت إليه كندة التي منعت ودفعت بعيدا .. ثارت ثائرته عندما .. لوى ذراعها مرغما إياها على الإلتصاق به هامسا في أذنها: قاومي أكثر .. وسأؤذيه أكثر فأكثر ولا ألذ لدي من فعل ذلك ثم .. التهم سمعها لما .. ألصق شفاهه البالية بمحيط أذنها قائلا مستجلبا عطفها ملقيا .. عبء نزعه فوق سقف الهوى الذي هد ثم ابتلعته الأرض ابتلاعا: حبيبتي .. قد بلغت من الكبر عتيا وهو شاب .. في مقتبل العمر فهلا .. تكرمت علي وحققت حلم عاشق قد دب الحب بين أضلعه فجأة أرجوك .. انتزعت بما امتلكت من قوة جانبها الذي ابتل مشمئزا براحة نفسه ورذاذ لعابه النتن .. بطرف كمها أزالت .. ما استطاعت مما كان منه وبلسانها الذي .. انبرى متلفظا دون تفكير أو تدبر للعواقب كمن .. تلفظ للتو بصعوبة .. منشفة متسخة كانت قد حشرت في داخله حشرا رغما عنه: بل أنا من ترجوك أن تبتعد .. ما تشعر به لا أشعر به بل .. وأشعر بالقرف بمجرد التفكير به فابتعد أرجوك .. كلمات قد تصنع في قلب متيم خرقا غير أنها .. قد تصنع في قلب رجل مثله اعتاد امتلاك كل شيء .. حربا أشار برأسه إليه فأخرج سيفه رفعه عاليا يريد انتزاع رأسه فأوقفته لما .. ارتمت بين أحضانه تعتذر وتعتذر وتلعن طيشها وتشتم لسانها وتقسم له أنها .. ستفعل ما يريد بل وستكون كما يريد فقط .. أتركه وحاله .. كان قد هدأ بمجرد أن لامسته .. ذلك العجوز عاشق بحق إلا أنه .. ربما كان جاهلا وربما لا .. أن ترغم أحدا أن يحبك أن .. تأخذ منه غصبا دون أن يعطيك طواعيه .. أن تشرب الماء ساخنا على معدة خاوية ومع هذا .. فقد ظل محتفظا بصورة الجبار المتسلط حينما دنا منها مجددا هامسا: أعلم بأنه أنفاسك وأنت أنفاسي .. إن لم تمنحيني ما أريد .. خطفت أنفاسه بدلا من أنفاسك .. سأقبلك الآن فاثبتي وإلا .. جززت عنقه أمامك ولا أبالي .. ستغادرين بعدها إلى غرفتك وتنتظرين أوامري .. أبان الذي كان يصرخ بشدة يحاول الإفلات من قبضتهم خارت قواه عندما .. رآه قد قبلها عندما .. رآه قد هتن فوق وجنتها .. دمعها الذي يعتذر .. قلبه الذي يعتصر وأسامة الذي .. ينظر إليه مبهوتا غير مصدق .. لم يعجبه حال صاحبه فقد كان مستاءا بشدة .. بشدة تكاد تفجر معها أركان المكان مغتاظا يشعر بالألم .. أمسك يده .. سحبه خلفه .. سحبه بقوة خلفه .. غادر قبل أن تغادر بهنيهة مستأذنا الملك أن يبقى تحت رعايته حتى يبت في أمره .. لم يخلع ناظريه عنها .. كندة التي نكست رأسها .. تواسي الحال بدمعها .. بقلة حيلتها .. بضعفها ..
استصغرت في تلك اللحظة ..
كيدها ..
لعنت ..
جمالها ..
تهافت القلوب إليها ..
إنما هو قلب واحد أريده ..
كي أحصل عليه ..
هل علي أن ..
أختفي في بؤبؤ عينيك ..
فلا يراني سواك ..
ولا أرى سواك ..

بعد رحيل كندة .. توجه الملك إلى جناح نورهان التي كانت .. في حال يرثى لها .. قلقة خائفة مستلقية فوق سريرها .. تتقلب يمنة وشمالا تقلب الراقد فوق الجمر كلما تراءى أمامها .. كل ألوان العذاب التي قد تخطر على باله .. كانت تفكر بجدية مخرجا لها وربما كان الهرب .. هو أنجى طريق بالنسبة لها فلا طاقة لها في صده لاسيما وأنها .. قد باتت الآن في نظره لا تساوي جناح بعوضة وقد .. آل قلبه إلى غير محله .. كانت في غمرة من هذا حينما .. ولج الأبيض على حين غفلة منها .. فزت ذعرة من مكانها وكادت أن تقع .. كان واجما عندما اقترب منها مبتسما .. قبل يدها .. اعتذر منها: كنت أعمى .. أبصرت للتو .. أعتذر حبيبتي فقد أغراني شبابها إلا أنه أنت ..أنت ولا أحد سواك من أشعر بالراحة بقربه .. إني متيم بك .. أعشق صوتك وهمساتك .. أعشق رائحة عطرك وبسماتك .. حبيبتي بل نوري .. اغفري زلة شيخ .. تعثر ثم نهض شابا لما رآك ..
ــ سـ سـ سيدي .. ــ سأستحم الآن وسأخرج لأجدك أجمل عروس ..
تركها .. قطعة الثلج تلك التي انماثت بمجرد أن تركها .. كلامه المعسول .. صدق فيه أم كذب .. جعلها بل جعل الهوى المتلجلج داخلها يشرق ساطعا من لاحظيها .. إنها في قمة التوتر .. ترتجف .. أشبه بمن أصابته حمى ..
إنه الثمن الذي تدفعه باهضا ..
أن تكون عاشقا ..


كان هذا هو الفصل السادس ..
لا تحرموني من ردودكم وتشجيعكم ..
دمتم بصحة وسعادة حتى موعدنا القادم ..

Mona1977 18-10-17 09:49 PM

غريبة بجوارك (تم إضافة الفصل السابع)
 
بسم الله الرحمن الرحيم

غريبة بجوارك
" كنت إلى جوارك قريبة .. غير أني كنت غريبة "
( الفصل السابع)

أمسية ساخنة كان ختامها تلك الليلة التي حضرها القاصي والداني من أصقاع الأرض وأطرافها بدعوة من الملك لحضور .. حفله المقام على شرفه والذي ضم عدة مناسبات .. فهم يوم توليه للحكم .. عيد زواجه ومرور ثمانين عاما على تتويجه .. اكتظت القاعة بالحضور .. بهدايا أقرب إلى عالم الخيال بل إن الأقرب إلى ذلك المسمى من .. رصعت من رأسها حتى أخمص قدميها بالياقوت الأخضر والماس بالجواهر التي اكتنفت .. قوامها بمزيج العسجد والفضة الذي زين جيدها .. بها وقد أتت تمشي على هون حتى انحنت أمام مليكها .. فاجأها لما .. لثم بلطف شفاهها على غير عادته يجهر علانية أمام الملأ أنها .. لا سواها حبيبته ومليكته الأبدية .. ألبسها شوذقا يلفت الأنظار – تلك الأنظار التي تأكل يدها كمدا تود لو أن مكانها مكانها - ثم أجلسها قربه .. أعلن بعدها بدء الفعاليات .. كان الوضع على أحسن ما يرام يبشر بتباشير تفضي على وئام حينما .. نادى المنادي يعلن بصوته قدوم ولي العهد أبان يصحبه أسامة ابن رئيس الوزراء الراحل الذي .. قدم فروض الطاعة والولاء حالا ما أن مثل بين يديه بينما .. ظل الآخر متسمرا في مكانه ينظر إليه كمن .. ينظر إلى جيفة .. مد الأبيض يده .. نورهان التي تتصبب عرقا يلهج لسانها بالدعاء والرجاء .. أن يقبل ذلك الأحمق يده ألا يفسد عليها لحظتها .. صفع أبان جبينه .. أصدر صفير ندم .. مبتسما بسخرية تقدم .. أدنى ذقنه حتى لم يبق بينه وبين أرنبة سبابته سوى خيط رفيع .. رفع بصره إليه .. تلك النظرة التي تنذر بالخطر أيقنتها بصيرة نورهان وجحدها بصر الأبيض بن سلام .. لم يسعفها الوقت فقد فات الأوان .. انقض على يده فاقتضمها .. صك عليها بأسنانه بقوة فكيه .. بلهيب غضبه بالشرر المتطاير من بسمات عينيه .. بالذكريات المؤلمة التي لم ولن تزول .. بالألم الذي لن يزول بزوالها .. انتزعوه انتزاعا .. فمه الملطخ بالدماء ويد الأبيض التي تفسخ جلدها وبانت عظامها جعلت الهمز واللمز يعلو بين الجمع: امممم .. أبي .. ما ألذ طعم دماءك ترى مالسبب؟ أتراك تتناول عسلا كل يوم .. نورهان التي كانت تشرف على علاج زوجها .. قامت إليه فصفعته علمت .. أن صفعتها لن تكون صفعة الواقع تلك التي ترجو أن تعيد إليه رشده بل ربما .. حقنة الجنون التي ستحفز داء هبله من جديد وهذا ما جرى .. أمرتهم أن يخرجوه فأوقفها الأبيض: أيها الملأ أنصتوا .. هذا ولي عهدكم .. هذا نسلي الذي لا أتشرف به وقد أقسمت اليوم .. أن أتبرأ منه .. فأنى له أن يكون أهلا لهذا العرش وقد رأيتم جنونه وشهدتم عليه .. أمرهم أن يخرجوه ثم ضرب الأرض بصولجانه معلنا: أعلن أنا .. الأبيض بن الأشهب بن سلام .. أني سأكون آخر ملوك بن سلام ومن بعدي .. ستكون مليكتي ومن بعدها .. لكم الاختيار .. لا تجادلوني فهو قرار لم أبذل جهدا في اتخاذه فهي .. ذات حنكة ورجاحة عقل وشعبية بين الناس أنحني أمامها .. قد بايعتها فاشهدوا .. إني قد تخليت اللحظة عن هذا المنصب لها .. فقد طعنت في السن وبحاجة إلى الراحة .. خلع خاتم ملكه وألبسه إياها .. نورهان التي كانت ترتجف فكل ما يحدث كان خارج نطاق تفكيرها وكيدها .. سجدت .. قبلت قدميه .. فرفعها إليه وأجلسها مكانه .. صاح فيهم: انحنوا أمام مليكتكم .. تردد قصير انقطع لما .. ضرب بصولجانه ثانية سلمها إياه قبل جبينها ثم .. غادر إلى جناحه لإتمام علاجه.

ألقى الجنود أبان في أحد غرف القصر الجانبية ليدخل أسامة بعد قليل خلفه ويغلق الباب .. لم يطل البقاء خرج تاركا إياه في أحد الزوايا حاملا خنجرا .. مذهولا .. متشتت الذهن .. مبعثر الهندام لا ينفك يردد: لا أستطيع .. لا أستطيع .. خرج أسامة موصدا الباب بقفل سميك .. أعطى مفتاحه لأحد الجند .. غمز له هامسا: الليلة .. نهض أبان مترنحا فواجهته المرآة .. جعل ينظر إلى نفسه آسفا حين تراءت له كندة .. شعر برغبة عارمة لرؤيتها فحاول الخروج إلا أن الباب كما أسلفنا سابقا .. كان موصدا فاضطر للتسلل عبر ممر سري أوصله إلى جناحه سالما .. كانت كندة حينها متقرفصة فوق سريرها قرب الشباك المفتوح والقمر المكتمل .. تحدق في الرداء الذي لا يستر عيبا إهداء من الملك ورجاء خاص منه .. أن ترتديه الليلة لتتزين به بل لأجله .. هذا ما أيقنته دون الحاجة لإثباته .. مدت يدها بتذبذب أسفل وسادتها ثم أغرقت وجهها الباكي طرفها .. لم تبك بل كانت تزفر أنفاسا ساخنة متلاحقة عكست .. يأسها ونفاذ حيلتها .. لحظات نهضت بعدها .. كانت تهم برمي الرداء خارجا حينما .. فاجأها نافذا إلى الداخل مغلقا المدخل بإحكام .. اندفع في وجهها قائلا: هل أنت بخير؟
ــ أبان ..
ــ هل أنت بخير؟ فهزت رأسها مجيبة: ذلك جيد .. بدا قلقا .. ابتعد عنها .. أشار بيده إليها ألا تقترب منه ثم جعل يذرع الغرفة جيئة وذهابا: لا أستطيع .. لا أستطيع ..
ــ أبان .. أبان .. بحدة: أبان ..
ــ توقف .. استدار نحو الحائط وبعد هنيهة .. علا صوت نشيجه ..
ــ أبان لم تبك .. ما بالك؟ ــ إني خائف ..
ــ مم ؟ ولما لم يجب عادت فسألته: مم؟ ــ منه ..
ــ من تقصد .. الأبيض؟
ــ اقتربت منه أكثر .. هزته تناديه .. شخصت عيناه .. لقد كان جسده مشحونا .. كان حائرا .. في قمة توتره مذعورا فقذفها بعيدا .. ارتطمت بالحائط المقابل ثم سقطت أرضا: كندة .. كندة استيقظي فاستيقظت: هل أنت بخير؟
ــ نعم قالتها وهي تحاول الجلوس باعتدال ..
ــ ألم أخبرك ألا تقتربي لم فعلت؟ حاول الابتعاد مجددا فأمسكت معصمه وشدت عليه .. بحسم نطق به صوتها المنهك .. بلطفها الذي شعر به يتجدد: أخبرني .. ممن أنت خائف؟ أخبرني وثق بي .. سأساعدك حتما ..
ــ خشعت ملامحه أخيرا واستكانت حاله فأجابها .. كان بحاجة إلى أذن تسمعه ولهذا السبب أتى فهي الشخص الوحيد الذي يهتم لأمره مؤخرا: أسامة .. ــ لم أفهم ..
ــ سبق وسألتك " هل خفت يوما أمرا أحببته في نفس الوقت؟" من أخافه من أحبه هو أسامة .. نحو معا منذ مدة نعيش رتوش خطة محكمة لاغتيال الأبيض ..
ــ شهقت:أبان .. ماذا تقول؟
ــ لا تحكمي علي سريعا واستمعي لي حتى النهاية .. منذ صغري وأنا لاشيء بالرغم من كل شيء .. أحمل شخصية فارغة تهتز لأدنى التوافه لا تستطيع الوقوف في وجه أي شيء .. مدلل من قبل أمه .. مهمل من أب ليس بأبيه .. كنت وحيدا محبوسا في هذا القصر بلا صاحب ما عدا الجدران التي .. لم تنطق يوما أو صديق ما عدا المرآة التي كانت .. هوسي الوحيد حتى أتى أسامة الذي .. عوضني عن كل ما فقدته .. لقد كان محبا صادقا وحنونا .. لقد تعلقت به نعم .. تعلقت به كثيرا كيف وقد .. أراني مالم يستطع أحد أن يريني إياه .. عالم من المشاعر الدافئة التي كنت بحاجة ماسة إليها .. لقد تشبثت به تشبث المتشبث بالحياة .. كنت لا أشبع حتى يشبع ولا أهنأ بالنوم حتى .. يأتيني ويتحدث إلي .. أمرض إذا مرض وأشعر بأحاسيسه بمجرد الاقتراب منه كنا هكذا حتى .. إذا ما بلغنا مبلغ الشباب .. أخبرني أنه متبنى وأن الأبيض هو من قتل والداه ظلما وجورا .. أنكرت ما قاله حالا ولم أزل أفعل حتى اصطحبني إلى القرية حيث عاش وبشهادة الشهود آمنت وصدقت .. صرح لي علانية بأنه يرغب في قتله حينما تحين الفرصة وحذرني .. إن أنا صددته فسيهجرني بل .. وسيمحو أي أثر لوجودي في حياته إن أنا فعلت .. صمت آملا أن يعود إلى رشده في وقت قريب إلا أن الوضع ازداد سوؤا .. أتاني قبل سنة يخبرني أنه سيرحل إلى بلد بعيدة ويرغب بشدة أخذي معه فلا طاقة له للتخلي عني وقد بت .. جزءا لا يتجزأ منه إلا أن ذلك لن يكون قبل تنفيذ طلبه بل .. لنقل أمره الذي أمرني به .. قتله .. فالوصول إليه صعب للغاية وعن طريقي .. سيكون أسهل بكثير .. أكد وللمرة الأخيرة وبردة فعل غاضبة منه لم أشهدها قط .. تخليه عني إن لم أفعل ما يريد حتى ولو كان ضد رغبتي وحدود قدرتي .. صمت مجددا فمن المحال أن أفقده وقد وجدته .. فرض علي فرضا أن أخضع لخطته .. "إنه قاتل ويستحق القتل" .. هذا ما جعل يكرره على مسمعي في اليوم ألف مرة وأكثر ما شجعني بعدها .. للمضي قدما ومنذ ذلك الحين وأنا أتصرف هكذا .. مجنون بلا سبب وعاقل .. يحبس في داخله كومة هائلة من الجنون .. تبرأ الأبيض الليلة مني واعترف بجنوني ذاك وبت خارج نطاق سيطرته .. الليلة ثم نكس رأسه خجلا: من المفترض أن أقتله فلن يلام ولي العهد الذي فقد عقله على قتل والده .. سينفى ومن ثم سأهرب معه ومع هذا .. فأنا أشعر بأني لست كفؤا لهذه المهمة فأنا .. لا أجرؤ على قتل ذبابة فكيف لي بقتله أخبرته بذلك إلا أنه وكالعادة .. سد أذنيه منكرا رغبتي صراخي في وجهه وصدي له .. واثقا من ردة فعلي وبأني .. سأرضخ في النهاية له .. لقد تغير كثيرا .. لقد بات قاسيا .. إنه يحدثني بلهجة عنيفة ويعاملني بأسلوب رديء .. يوبخني معظم الوقت ويثير غضبي باستمرار حينما يدعي بأني .. لست رجلا كفاية ليقف بجانبه .. لا بأس بذلك ولكن الأسوأ من ذلك كله هو .. تهديدي أنه سيقتله بأي حال من الأحوال إن لم أفعل وليحدث بعدها ما يحدث .. أعلم بأنه يريد أن أكون هو كما .. هو لي أن تتأجج الرغبة في داخلي كما هي داخله ولكن .. كندة .. لا رغبة لي حقا بفعل ذلك .. أريد الهرب معه ليس إلا والابتعاد قدر الإمكان .. عن كل تلك الفوضى التي أعيشها .. أخبريني أرجوك .. ماذا علي أن أفعل .. إن قلبي متعلق به ليس هو .. من لا يستطيع العيش من دوني بل أنا .. أنا من لا يستطيع العيش من دونه .. لم يرفع رأسه خشية أن يرى في عينيها ما يخشاه من خزي واستحقار .. تفاجأ بها عندما اكتنفت وجنتيه براحة كفيها الرطبتين: قلبك متعلق به لا حبا له بل خوفا منه .. أن تفقده وقد كان الوحيد الذي أخرجك من عزلتك وأحس بوجودك .. أفهم ما تشعر به ولكن .. ليس هذا فعل من يحب ..
ــ ماذا؟
ــ إنه يجرك نحو الهاوية .. أهذا فعل من يحب .. افتح عينيك جيدا وانظر حولك .. لقد صنع حبي منك سيدا بينما صنع حبه لك .. خادما لرغباته .. تقاطر دمعها ..
ــ كندة ..
ــ لم .. وأنا التي تحاول باجتهاد .. الوصول إليك فتصبح الطريق وعرة محفوفة بالمخاطر لم .. وأنا التي كابدت .. لم أسألك مالا .. ملكا أو أن تقتل لأجلي .. لم أطلب منك شيئا ومع هذا .. فأنت لا تزال تشعرني بالغربة كلما كنت بجوارك .. لا أدعي الغرور ولكن .. يؤلمني بصدق ما تقول .. أمن الصعب حقا .. الوقوع في حبي ..
ــ كندة ..
ــ قبلني ..
ــ هه ..
ــ قبلني .. وبشدة وضعت حدا أردفت: ولا تخلع ناظريك عني .. حطم كل صورة له وأبدلني مكانها .. امح كل لحظة قضيتها معه ولتكن لحظاتي بحلوها ومرها .. سأقولها وللمرة الأخيرة .. لست أنت من لا يستطيع العيش من دونه بل أنا .. من لا أستطيع العيش من دونك .. أنت .. حلمي .. أبان .. أنت ملكي منذ الأزل .. قبلني واستمع لنبضات قلبك التي حثتك على المجيء فأنت .. لم تأت لتطمئن على حالي تكذب .. بل جئت رغبة في رؤيتي .. أنت حائر بيني وبينه .. أتركه وسأكون لك الصاحب والصديق .. سأعوضك عن وجوده .. لن أتركك وأرحل .. ثق بأني لن أفعل .. أعلم أنك تبادلني ذات الشعور فلا تصده أكثر .. صمتت لهنيهة .. هدأت قليلا واستطردت: وأقبل ..فإما أن تشعر بي .. أو أن أرحل ..
كانت لكلماتها ذلك الوقع الذي جعل دوامة حيرته ترتخي لبعض الوقت .. دنا منها أراد أن يختبر صدق ما قالت .. لامست شفاهه شفاهها .. جعل ينظر إليها مليا دون أن يرمش .. طبع قبلة خفيفة ثم ابتعد قليلا ليقبل بعدها .. مقبلا إياها بشغف ..
لقد صدقت ..
ذلك العاصي الرابض بين جنباته ..
دج صارخا باسمها ..
مج قانعا اسمه الذي ولى هاربا ..
ذلك الصب الجاهل لم يعلم بل علم جاهلا فتجاهل أنه هو الآخر ..
يعشقها بجنون ..
ــ كانت أجواءا حميمية تلك التي بترت جذور الشك لدى كندة وأيقظت يقين أبان ..
تلك التي جمعتهما دون سابق إنذار ..
أشعلت الأماني الراقدة والأمل المنقطع قد رست به عند بر الأمان ..
كانا في غمرة .. منشغلين .. لم يشعرا بالأضواء قد تخافتت من حولهما شيئا فشيئا حتى أظلم المكان .. لا بأسامة الذي ولج دون علمهما .. يستضيء بشمعة ويحمل خنجرا .. صرخ فيه مناديا إياه: ماذا تفعل؟
ــ أسامة .. بارتباك شديد أسامة الذي .. دفعه بقوة جانبا وثبتها جيدا بالجدار .. كان على وشك غرزه أوقفه قائلا باستسلام تام: لا تفعل أرجوك .. فإني أحبها ..
كلمات .. لم تجد صداها عنده بل ربما .. أججت نيران غضبه فها هو الخنجر يمضي في طريقه نحو نحرها دون هوادة .. حاول ثنيه .. تهدئته ولما لم يجد حيلة انقض عليه بجسده .. تعاركا .. هو عراك لن ينتهي بخير جعل كندة تصرخ بالجند تناديهم .. جعل أبان يهرول خلف أسامة الذي ولى هاربا إثر فعلها.

كانت نورهان في ذلك الوقت .. تجلس مستمتعة متربعة فوق عرشها حينما .. طاشت الدماء فجأة أمامها وتفجرت كالعيون الصغيرة .. قطع الكريستال الحادة التي رصع السقف بها واكتظ .. لم يلحظها أحد وقد بدأت ترتجف حتى هوت فوق رؤوسهم كالمطر الغزير .. أظلم المكان ولم يرى بعدها إلا .. وميض السيوف وهي تدق الأعناق وتصلم أصداء الصيحات التي .. ضجت فلا لا منجى لها ولا مسمع وكل المنافذ في وجهها .. قد صدت من قبل سيد أؤلئك الأوباش .. الأبيض من قتل الجميع حتى أصدقاءه في سبيل التخلص من أعدائه .. لقد أثبت بتصرفه هذا .. كم هو سادي .. عديم الإحساس حالك السواد حاله حال أمثاله من يرى .. أن النوم .. فوق فراش من جماجم أزخى وأرخى عنده من .. فراش من القطن الناعم الوفير إن كان ذلك .. سيحقق له في النهاية مآربه وأهدافه .. ألقت نورهان كل أحمالها من لامع وثمين .. خاتم الحكم وصولجانه اللعين وحاولت الهرب عبر ممر سري مع بعض وصيفاتها إلا أنهم تبعوها وسرعان ما داهموها ولأن الدهليز كان مظلما .. لم يتركوا أحدا على قيد الحياة.

لحقت كندة بأبان الذي كان يجرى خلف أسامة يناديه ويصرخ باسمه .. غادر الأخير أسوار القصر .. تبعه أبان ومن خلفهم كانت كندة التي تخلفت عنهم قليلا بسبب الظلمة الحالكة .. خشيت أن تتيه وخصوصا أنها لم تعد تراهم فحبذت الانتظار في غرفتها آملة منه برجاء أن يعود .. في الصباح التالي كانت الأوضاع في القصر لم تزل كما كانت .. مختضة مرتجة .. جرس الإنذار لم يهدأ بعد ونواميس الخطر تدق بلا هوادة وخصوصا .. بعد توافد الوفود تسأل عن الخطب بإلحاح وغضب .. تسللت كهرمان عبر الباب المفتوح إلى حيث كندة .. هالها حال الغرفة المقلوب رأسا على عقب .. الحطام المتناثر في كل مكان والهواء المنبعث من داخل يسم الأبدان .. أبان المرمي خارجا قرب المدخل .. محشورا في زاوية محاطا بقاني فارغة .. تفوح من حاله رائحة الموت بل بدا وكأنه .. قد فارق الحياة وكندة .. مبعثرة فوق سريرها .. منكبة على وجهها بذراع قد تدلت وملابس قد تمزقت وقطع من الدم تلون فراشها .. هزتها فلم تفق إلا أنها .. وبعد أن خرجت مهرولة استيقظت .. اتكأت فوق راحتيها تحاول النهوض إلا أنها لم تستطع لتسقط منهارة .. جعلت تحدق بأجفان ذابلة في الشمس التي تقاوم جاهدة عبر الغيوم كي لا تختفي ابتسامتها .. في البلابل التي تغرد عند شباكها وكأن شيئا لم يكن .. في النسيم الممزوج برائحة المطر يداعب دمعها وآثار دمعها .. طمأنة منه أن الحياة فيها من الجمال ما يدعو للعيش فيها ..
عذرا لك أيتها الأشياء الجميلة ..
فهمي كبير وحزني ..حزن تنوء به الجبال ..
لن تواسيني تلك الدمعة التي هبطت ولن تبعد همي .. ابتسامة كاذبة ..
مضى من الوقت اليسير حينما .. تفاجأت بكوكبة من النساء غشينها على رأسهم نورهان .. نورهان التي استطاعت التسلل عبر ممر سري آخر بعد أن أصيبت إصابة جانبية طفيفة .. ولأن المكان كان مظلما فلم يستدلوا عليها من بينهن ولأنهم احتاروا في عددهن .. أجهزوا عليهن مرة أخرى وانصرفوا فرحين .. مستبشرين بجائزة الملك التي صرحوا بها علانية قرب مسمعها ..
عندما أتتها كهرمان مهرولة وأخبرتها بما رأت .. انتعشت - وفزت من قبرها المدقع برماد الحقد وغبار الكراهية ورذاذ الإنتقام - لذلك الخاطر الذي مر في ذهنها أشرق له ما بين شدقيها ولمع له .. بصيص ناظريها وانتشى لأجله الشر اللعوب داخلها ليستشري جليا على محاياها الذي تلطخ بسواده .. أمرت الجند أن يصحبوها على الفور إلى ساحة المدينة لتحاكم .. أمام الخلق على جريمة اختلقتها .. شاءت أم أبت .. ستصنع بها ما تحسن صنعه رغما عنها .. ستتهما بهتانا وستخلق زورا وستبت في حكمها على عجل فأمور الشعب وشؤون القصر الداخلية .. منوط بها وحدها لا شأن للملك بها .. والفرصة هنا سانحة وقد أتت فوق طبق من ذهب فهو .. في جناحه ولن يخرج منه إلا بعد عدة أيام بعد أن تستتب الأمور داخل القصر وخارجه .. سحبنها بشدة من ذراعيها فصرخت ألما لتصرخ فيهم بعدها .. تدافع عن نفسها: ماذا تفعلن بل ماذا فعلت أنا؟ والآذان يبدو أنها .. قد سدت بران ثقيل غشي قلوبهن قبل أسماعهن .. لم يلتفتن لها ولم .. يلتفت هو الآخر لها بل .. ظل يتجرع السم الذي بين يديه بشراهة متمتما .. بحديث لا يفهمه سواه وربما لا: أباااااان .. أبان .. شفاه تتحرك ببطء .. ونظرات تحدق في العالم الآخر:
أبان استيقظ أرجوك .. أنقذني .. من بحاجة إلى منقذ يا ترى ..
تلك التي تجر وأقدامها تسبح في الهواء ..
أم ذاك الذي .. تلبدت عنده أوصاف الأمل فأصبحت هي واليأس سواء ..
سد فمها .. وانحصر صراخها وعما قليل ..
لن يكون لوجودها معنى ..
ولحلمها بقاء ..

بعد ساعة تقريبا فز أبان يقظا على صوت الصبية والوصيفات اللاتي سكبن دلوا من الماء البارد فوقه .. أخبرنه بما جرى .. لم يستوعب بداية إلا أنه انتفض بعدها ليقوم جاريا .. متخبطا بالجدران .. يقع وينهض .. لقد تذكر .. لقد كان هو .. لقد أتاها البارحة مخمورا غاضبا فأسامة الذي تخلى عنه والإشاعة أن نورهان قد قتلت .. جعلته يفقد صوابه جعلته .. يحملها وزر ما جرى فلولا .. رغبة الأبيض الشديدة بها ما كان قد جرى ما جرى .. في تلك الليلة .. كان أبان قد جن حقيقة .. لقد مزق كل شيء حوله إربا إربا فكانت هي .. من ضمن ما مزق.

كان في طريقه إليها عندما اعترضه أسامة .. توقف بابتسامة: لقد عدت .. أسامة الذي لم يلق بالا لتلك الابتسامة أعرض عنه مستاءا ثم طلب منه أن يترجل حالا فهناك ما يود التحدث معه بشأنه .. اعتذر منه فأمر جلل يستدعيه واعدا إياه أن يعود إليه ما أن ينتهي برجاء أن ينتظره حتى ذلك الحين .. قال ذلك ثم انطلق ليلحق به .. همز جواده في بطنه فصهل ناهضا ملقيا إياه على الأرض .. جثى بجثته فوقه مثبتا جذعه .. ذراعيه بقوة ساقيه .. أدنى خنجره قريبا من أرنبة أنفه ثم جعل يثرثر على غير عادته فقد عرف عنه قلة الكلام:
أرسلتني نورهان لمساعدتك على الهرب .. لقد هربت وتأمل أن تلحق بها .. ستفعل ولكن أسرع مما تظن .. لقد كان اتفاقي مع الأبيض أن أخلصه منك هه .. كيف هذا نعم كيف وهو قاتل أبي .. تلك حقيقة لن أدعيها إلا أن ذلك كان قد تغير كله منذ فترة وجيزة .. لقد كشف الأبيض أمري وبدلا من معاقبتي .. أغراني بالثريا حتى ضمني إلى جانبه فوعوده لي أن يتبناني .. أن أتسيد الحكم من بعده والكنوز التي أهداني إياها جعلني أعفو وأغفر وأنصاع لرغبته .. اعذرني .. ولكنها أحلام إن لم أقتنصها اليوم وقد حانت فلن تكون غدا .. كانت الخطة تسير على خير ما يرام إلا أنك أفلت وكذلك كندة التي .. لن تفلت اليوم .. أتيت البارحة لقتلها فوجودها خطر علي وخصوصا أن ذلك العاشق المتهالك متيم بها .. وخز رقبته بطرف خنجره ثم دنا منه هامسا: ليس بيني وبين حلمي الآن إلا أنت .. لقد حانت نهايتك .. إلى اللقاء صديقي ..لقد كان أبان مستسلما للغاية ما جعل أسامة يتردد قليلا: أمن كلمات أخيرة لديك؟
ــ أجابه: لم أكن أبغي الحياة حتى أتيت فإن .. لم يتبق شيء من أسامة الذي أعرفه فلن .. يتبق لي شيء أنا أيضا ..
ــ صمت لهنيهة متأثرا ثم أردف: وماذا عنها .. ألست تحبها حسب قولك؟
ــ مستهزءا: عن أي حب تتحدث .. ملعونة هي أمي التي أنجبتني .. وملعون أنت الذي رافقتني وملعونة .. تلك الحمقاء التي .. اتخذت مني لسوء حظها فارسا لأحلامها .. تلك التي أعتقد ..أنها لم يتبق منها شيء هي الأخرى .. أسامة .. اصنع ما شئت ولا تعتذر .. فقد عانيت بقدر ما عانيت وربما أكثر ..
الكلمة التي تقال بصدق ..
عجيبة من عجائب الدنيا السبع ..
تطرق بابك فإما أن ..
تفتح لها الباب وترحب بها وإما أن ..
تغلق الباب في وجهها منكرا بجهد جهيد وجودها وإما أن ..
تجعلها تنتظر خارجا ولا يهم كم .. فهي لن تبرح مكانها ..
اختلج الدمع في عينيه فاستدار قائلا: اذهب .. دنا منه فصرخ فيه: اذهب قبل أن يتجمد ذلك القلب ثانية ويقتلك .. هم إلى جواده فاعتلاه وإلى الآخر فأمسكه من رسنه لما ناداه: خذه معك خشية أن ألحق بك وربما تحتاجه .. هز رأسه شاكرا ثم جرى به بعيدا:
ملعون .. بل كلنا ملاعين ما عداك .. قالها ساخرا ثم استلقى على العشب وأغمض عينيه ..


كان هذا هو الفصل السابع ..
لا تحرموني من ردودكم وتشجيعكم ..
دمتم بصحة وسعادة حتى موعدنا القادم ..

فراس الاصيل 19-10-17 10:19 PM


لجهودكم باقات من الشكر والتقدير
رواية جميلة واحداث رائعة
دمت بحفظ الرحمن

https://www.shuuf.com/shof/uploads/20...903a5f3a43.jpg

انت عشقي 20-10-17 07:54 AM

كن الروايه شارفت علي نهايتها واتمني انو لا.. لانها جميله جدا.. الاحداث انكشفت.. والشخصيات بانت دسائس عقلها ونفسها...
متشوقه للقادم.. دمتي بخير..

Mona1977 20-10-17 01:06 PM

ربي يعطيكم العافية أجمعين ..
شاكرة لكم تشجيعكم المستمر لي ..
ما قصرتم يالغاليين ..
:chirolp_krackr:

أميرة الوفاء 21-10-17 12:44 AM


رواية رائعة ..
أسلوب شيق ..
أحداث مثيرة ومشوقة ..
ماذا سيحدث بعد كل هذا ..
كندة ما مصيرها يا ترى ..
نورهان لفقت التهم لتتخلص منها ..
فهل نفذ الحكم ..
أم سيصل منقذها قبل فوات الأوان ..
xأبان اعترف بحبه لها ..
الأبيض تخلى عن الحكم ..
أسامة اتضحت نواياه السيئة ..
حتى أنه فكر في التخلص من أبان وحده الذي تعلق به بشدة ..
عكس الآخر الذي كان يخطط فقط لتحقيق أهدافه وانتقامه من الأبيض ..
أما أبان فقد كان مستسلم لمصيره ..
فماذا سيخسر أكثر ..
وماذا تبق له وأسامة الذي تعلق به لتلك الدرجة ظهر على حقيقته ولن يعد كما عرفه ..
كان سيرمي به إلى الهاوية دون تردد ..
أو يقضي عليه قبل أن يتراجع بآخر لحظة ويخلي سبيله ..
فهل سيصل إلى كندة ..
أم فات الأوان على إنقاذها من حكم نورهان ..x
بانتظار القادم ..
بالتوفيق بإذن الله ..
..

Mona1977 21-10-17 12:19 PM

أحداث القصة باختصار هذا ما كتبتيه ..
مشكورة يالغالية على اهتمامك البالغ .. وردك الجميل ..
تسلمين يالغالية ..
:wow11:

*تاج راسي* 25-10-17 10:42 AM

شكرا جزيلا وفقكي الله لكل خير واسعدك ...

Mona1977 25-10-17 11:26 AM

الشكر الجزيل لك وربي يسعدك دوم :sm92:

Mona1977 25-10-17 04:59 PM

غريبة بجوارك (تم إضافة الفصل الثامن)
 
بسم الله الرحمن الرحيم

غريبة بجوارك
" كنت إلى جوارك قريبة .. غير أني كنت غريبة "
( الفصل الثامن)

ربما أنني أعشق الوحدة ..
غير أنك مذ ولجت وحدتي ..
لم تعد وحدتي وحدة ..
إنه الشوق إليك فيه حدة وشدة ..
لا انفصال عنك مهما طالت المدة ..
كم تمنيت ..
أن تصبحي ملكي .. أن أصبح ملكك ..
أن تدور من حولنا ..
أفلاك السماء ..
أن نتوسط قطرها ..
أن نحلق في أرجائها بحرية ..
أن نتعاهد ألا نلمس الأرض ولو بعد مدة ..
غير أنك أبيت فهجرتني ..
تركتني وحيدا ..
ليست المشكلة في تركي وحيدا فكما أسلفت ..
فأنا أعشق الوحدة ..
المشكلة أنه بات لوحدتي طعم مر ..
إنه طعم الغربة ..
كنت وحيدا وأصبحت غريبا ..
وسأظل غريبا حتى ألقاك ..
أو ألقى ..
ربما صدفة ..
وحيدا تائها مثلي ..
يسكن قلبي ..
يؤنس وحدتي ..
يزيل غربتي ..
ويطمس أثرك ..
خلجات بل زفرات اخترقت لواعج صدره المتصلبة إثر عوامل الصد والنكران .. ها هي تتهاوى زمرا زمرا لتتراكم جماعات جماعات فوق سطح لاعجه الذي .. تنبه أخيرا أن يفتح الباب للطارق الذي أتى قبل زمن ينتظر .. ولكن متى .. بعد فوات الأوان ..
ذلك الوحيد الذي بات غريبا .. لما وصل وجد المكان خاليا يصفر من اسم كائن كان ..
أيها التائه ستظل تائها .. لن يسكن قلبك ولن يؤنس وحدتك ولن يزيل غربتك ولن تطمس أثرها الصدفة .. فرب صدفة خير من ألف ميعاد وهل ظننت .. أن أمثالها يأتي صدفة ..
تمنى .. ليس لك إلا .. أن تتمنى ..
إن لم تأتك صدفة ..
فلعلها أتتك في الأحلام وتذكر اسمها ..
كندة ..
تلك الفتاة ..
من أحبت فاجتهدت ..
أن تصل إلى قلب محبوبها فصبرت ..
من صبرت فندمت ..
من صلبت ثم جلدت أمام جموع الناس ..
من صرخت .. بكت واستنجدت جموعا فقدت إحساسها بالإحساس ..
مئة جلدة .. اختفت من بعدها ..
واختفى من بعد إختفائها جموع الناس ..
جثى أبان على ساقيه فوق الأرض المبتلة .. يذرف الدمع تلو الدمع نادما أشد الندم .. يندب حظه راجيا أن تعود ولو .. لحظة .. يقسم بينه وبين نفسه .. بينه وبين السماء التي لم يتوقف هطلها لحظة .. أن تكون لحظة بألف لحظة ..
كيف وقد كانت لحظات وقد أتلفتها .. في لحظة ..
كانت ترجو منك أجرة ..
بقاؤها غربية بجوارك فترة ..
أنكرتها .. مزقتها .. أحببتها بعد فوات الأوان ثم اختفت تلك كانت الأجرة ..
عار عليك .. أن تندم .. أن تندب حظك أن ترجو أن تعود ولو بعد فترة ..
فالحب عزيزي ..
كنسيج العنكبوت .. يتداعى بسهولة إن لم تتمسك به بقوة ..
كالسراب لا وجود له .. إن لم تؤمن بوجوده ..
كالندى يختفي .. إن لم تحرص عليه ..
كالقدح المثغم بماء الحياة ..
إن لم ترتشف منه حالا ..
تحول إلى سم فتاك ..
لن يرحمك ..
ولن يتركك في حالك ..
ذق طعم العذاب الذي ذاقته مرارا وتحطم .. عند أعتاب العزاء الفاني وتندم .. انعى أساك وتذكر .. جمال وجهها الأخاذ .. نأمة صوتها الآسر ولطفها حين أحبتك .. وأنت لا تستحق.

كان صباحا معتما .. كئيبا بسحبه المدججة بلبك عظام من أمطار نصف قطرها يساوي قطر حبة قمح مكتملة النمو .. كان أبان حينها لا يزال على كما كان .. جاثيا .. مطأطئ الرأس .. يرثي حاله .. يبكي بصمت حينما شد انتباهه رجلان .. خرجا من خلف التلال .. مهرولين متدثرين بأستارهم .. حاملين مجارف بأياديهم .. تذكر ما جعله يفز من مكانه صعقا إلى حيث كانوا فلما وصل وألقى نظرة عليه .. ارتفع صدره المثقل بالهموم بتنهيدة عميقة عبرت عن مزيد منها .. وخب ببصره إلى السماء تمنى راجيا .. بقلب يلهج بصدق الدعاء أن تصيبه هنا .. في المكان ذاته في ذات الزمان .. صاعقة بل صواعق .. تقصم روحه .. تسلب بصره .. تختم أنفاسه وتحرق بدنه .. إنها مقبرة الجناة وهذا قبرها .. قد ألقيت فيه هكذا دون مبالاة وباهمال .. دون كفن أو صلاة .. دون ذكر يبقيها أو دعاء ينجيها .. كانت أشبه بالجيفة إلا أنها وبدل أن تلقى في العراء لتأكلها السباع ألقيت بين ظلمات ثلاث .. من قبل كانت ظلمة جفائه ومن ثم ظلمة ظلمها وهاهي الآن .. في الظلمة ليس من بعدها ظلمة .. لتأكلها ديدان الورى ولتلهو ببقاياها شياطين الأرض .. تلك كانت نظرتهم بل ذلك جل جهلهم .. نزل إلى قبرها الذي لم يكتمل ردمه بسبب الأمطار التي كانت تهطل بشدة كالغضب النازل أفواجا أفواج .. توقف لهنيهة يرمق بأسى أثر الجروح التي لم تهدأ بعد .. لم تزل تنزف تنوح عوضا عنها ..أبعد ما استطاع من طين اختلط عناؤه بعنائها فلما وقع بصره عليها .. انتفض جسده وارتعشت لواحظه لما تذكر .. بسماتها .. النظرات التي اختصته بها وذلك القلب الذي داس عليه ردحا من الزمن ..
ارتجفت أنامله بل شعرت بالألم لما لامست وجنتها ..
لا حياة هناك أبان .. بل مجرد ذكريات ..
وما أسوء الذكريات ..
إنها النعيم الذي يخبأ في جوفه الجحيم ..
إنها الجحيم ذاته لمن ظن .. أنها النعيم ..
فما نفع الذكريات .. وليس هناك من يحييها ..
لم يزل يزيل البقايا عن وجهها دون أن يصرف النظر عنها حتى استلقى بقربها .. ووجهه إلى وجهها يريد أن يعبأ شغفه لرؤيتها ..
أي شغف هذا الذي تتحدث عنه وقد فات أوان الندم ..
كم هي غريبة هذه الحياة ..
ألا نوظفها فيمن نحب وهم أحياء ..
نسلب بسماتهم ..
ننسى بذلهم ..
ولا نستغل وجودهم ..
ظنا منا بأنهم باقين .. بأن الفرصة لا تزال ..
ظنا منا أنا لن يتآكلنا الندم ..
كيف وقد خرجوا من دائرة الحياة ..
أوهام في أوهام ..
اقترب منها أكثر فأكثر داعيا السماء أن تمطر أشد فأكثر .. أن تغرقه .. أن يرحلا معا .. فلا طاقة له لنزع جسده من قربها فهو لم يشبع بعد من رؤيتها وظل هكذا .. ملاصقا لها ينظر إليها ببؤس بعيون باكية حتى خفق ثانية .. في جسده الرغبة في التمسك بالحياة لما أحس .. بأنفاسها الضعيفة تناديه .. تشجعه على البقاء .. فز موقظا إياها ولما لم تفعل .. علم أن عليها حالا مغادرة هذا المكان .. تلفت حوله فلم يجد إلا العربة التي نقلت بها .. حملها برفق ثم وضعها وإلى جواده أحضره ثم سار بها إلى كوخ قريب لأحد العبيد الذي عرف سيده فأنزله منزلا طيبا .. طلب من زوجته أن تعتني بها فلحق بها يسألها المرة تلو المرة: هل ستعيش؟ هل ستعيش؟ حتى إذا ما تجاوز الأمر حدود المنطق اصطحبه زوجها خارجا: سأحضر طبيبا ..
ــ سيدي انتظر .. لا داعي .. فزوجتي ماهرة وخصوصا .. في مثل هذا النوع من الجروح ..
ــ حسنا إذن صمت ثم أردف سائلا يدفعه قلقه الشديد: باش .. أخبرني حقيقة .. هل ستعيش؟
ــ حقا سيدي .. لا أعلم .. كل ما أعلمه .. أن عليك بالدعاء .. إنها ليلة طويلة إن تجاوزتها .. لربما استطاعت البقاء ..

يومان متتاليان وأبان يداوي جراحها ويعتني بها ..
لم يرقأ له جفن ولم يهنأ بطعم أقسم ..
ألا يرتشف كأس السعادة حتى تأذن له بذلك ..
ألا يصرف بصره عنها حتى ولو أذنت له بذلك ..
أن يقبلها مئة قبلة وأخرى غيرها ولو لم تأذن له بذلك ..
استفاقت .. كان خلفها يغير ضمادها .. لاحظتها دليلة زوجة باش فنادته: سيدي .. لقد استفاقت .. كان منهمكا فلم يسمعها فنادته ثانية ..
ــ هه .. ــ أشارت إليها بلاحظها: لقد استفاقت ..
تلك الصاعقة التي تمنى لو أصابته .. قد أصابته .. جعلت خوفه يختض ..جعلت شوقه يتقلب بين نعم ولا .. أن أراها فأندم ألا أراها .. فيكون الندم وبينما هو في صراعه ذاك إذ بها تلتفت إليه .. أعتصرت أشواقه الحائرة بين قبضتي الندم وانسكب المزيج باردا فوق سطح الخوف الأملس اللزج واندفعت أسوء الاحتمالات تعين هذا وتبطل ذاك .. لم كل هذا الاضطراب .. لم لا يكون وقد .. شيعته لهنيهة .. بتلك النظرة التي أصابته بألف سهم ثم أشاحت ببصرها عنه .. تمنى لو أن الارض ابتلعته .. لو أن السماء اقتلعته .. لو أنه ظل غافلا عن هواها لمزيد من الوقت .. طلبت منه دليلة أن يغادر أن يرتاح قليلا فلا طائلة ترجى من مناجاتها في مثل هذا الوقت فهي .. تعبة .. متألمة .. ومن الواضح جليا ألا رغبة لديها في رؤيته.

ظل أبان طوال الليل ساهرا يتحدث إلى باش الذي كان يبادله الحديث شبه نائم يجيب على تساؤلاته .. يحبط مخاوفه ويرسم له أملا بعنوان جديد عندما .. نفذت دليلة إلى الغرفة على حين غفلة تسأل عن كندة بشيء من القلق ولما لم تجدها .. فزا يبحثان عنها .. لم تكن في أي مكان فامتطى أبان جواده على الفور وجال .. هنا وهناك يبحث عنها .. رمقها عن بعد .. تمشي بترنح .. تقترب من حافة هوة عظيمة .. ناداها .. ترجل عن جواده راجيا إياها .. لم تعره اهتماما همها .. تلك الحافة أن تبلغها علها تكون النهاية لهمها .. لم تتريث .. لم يستطع إنقاذها .. ابتسمت .. ألقت جثتها بين أحضان الفجر الذي بادلها الابتسامة مرحبا بها .. صرخ أبان باسمها: كندة ليستيقظ بعدها فزعا .. أنفاس متلاحقة ونظرات شاخصة .. ألقى جانبا كأس الماء الذي أحضره باش وأسرع إليها يتفقدها ممنيا النفس أن يجدها .. لم يجدها ولم تكن في الجوار .. تماسك قليلا .. تتبع دلائل حلمه .. لم تكن هناك ارتاح قليلا ومع هذا ولكي يطمئن أكثر .. قرر إلقاء نظرة .. ضربات قلبه المتسارعة والأوهام التي اتخذت لها مجرى يسري في عروقه مجرى الدم والصراع القديم بين اليقين والشك كل ذلك جعله .. يقف متصلبا لبعض الوقت حتى إذا ما استجمع شجاعته وتقدم .. زهد بتلك اللحظة وتمنى لو لم تكن .. تلك السهام التي أطلقتها هاهي تندفع داخله عميقا .. تمزقه إلى أشلاء ..
لقد كانت بالأسفل هناك .. ملطخة بالدماء ..
لقد انتهى الأمر ..
أجزعت أم صبرت ..
تلك هي الحقيقة المرة ..
لن تزول مرارتها بزوال الآلام أو بمرور الأيام ..
فعش أو تعايش معها ..
بل ذلك هو المحال ..

إني أحلم ..أحلم .. نطق بها صارخا من الجوف الذي أرم مبكرا أضناه سوء الحال .. صرخة أخرى .. استيقظ بعدها .. أيقظه باش الذي جعل يهدأه محاولا إعطاءه قليلا من الماء الذي .. دفعه ثانية جانبا ناهضا نحو المكان الوحيد الذي إما ..
أن يجعله يستسلم أو ربما ..
يمنحه السلام ..
ألقى نظرة .. أمعن بعدها النظر في النائم بسلام متدثرا بغطاء ثقيل قرب دليلة التي لم تشعر بوجوده .. لم يصدق بعد .. أغرق رأسه عميقا في حوض الماء البارد .. عاد متمعنا محدقا .. شعر بالسكينة لما .. أكد له باش مطمئنا إياه أن ما رآه ليس حلما بل حقيقة ومع هذا .. لم يستطع إقناعه بالقدوم معه لأخذ قسط من الراحة .. فضل النوم عند عتبات بابها .. أن يكون قريبا منها قدر المستطاع .. فقد اعتاد منها الجوار اللصيق الدافيء .. أن يبتعد .. تلك هي الغربة التي لن يحتملها كيف وقد .. استيقظ مؤخرا فيه .. شخص المتيم العاشق ..

مضى الليل هادئا مغمورا بالسكينة التي غشت الجميع ليقبل الفجر وفي خضم جنباته فزع شديد استيقظ على إثره أبان هلعا .. لقد اختفت كندة ولا أثر .. كابوس البارحة لم يكن خيالا ابتدعه خوفه المفرط عليها بل .. كان تنبؤا ينذره .. بالقادم مشتملا عباءة الإخفاء منتظرا الفجر .. كي يكشف ستره كي ينثر ذعره فوق أركان الواقف متصلبا شاخص البصر نحو الغطاء الفارغ من اسم بشر ..
حلما كان أم حقيقة ..
لن أدعك وحدك ..
معا ..
أو أن نرحل معا ..

امتطى جواده وحالا نحو الهوة التي لم تغب عن ذهنه لحظة .. لم تكن هناك .. اتكأ أعلى مخاوفه .. مد رقبته .. لقد كانت هوة عظيمة صعب الوصول إلى قعرها بمجرد النظر .. هبط إلى الأسفل .. بحث جيدا .. بحث مطولا .. أحس بالراحة إذ لم تكن هناك بالقلق المزعج المدعوك بالتشاؤم طارد أدنى ذرات التفاؤل مع شيء .. من الشرار المتطاير قض مضجعه جعله يجد في بحثه سائلا هذا .. متمسكا بخيط دله عليه ذاك ..
ولكن .. أين هي؟
تمشي على غير هدى .. عبر الطرقات .. من خلال القرى .. بين البيوت التي أوصدت أبوابها لتنطق النوافذ التي .. كانت تسترق النظر إلى الماشي بتؤدة دون هدف .. هيئة تجلب الموت طواعية .. وهالة سوداء لن تنجلي ولو اجتمع لإبطالها الشمس والقمر .. منهم من عرفها من اندفع لرؤيتها من دعاها للمجيء إلى ناديه .. أمسك يدها فانقادت خلفه دون أن يبذل جهدا لإرغامها .. ذلك أنها لم تعد تشعر بشيء وقد استوى عندها كل شيء .. أبعد يده بشدة .. جذبها إليه برفق .. منحه مالا ليكف عن عراكه فكف .. جرها خلفه وخلف أحد الجدران توقف .. احتضنها بشدة .. اعتصر حدود صدرها لتنكمش بين أضلعه التي باتت هشة .. تلك الملامح التي انبسط فوق سطحها أسباب عدة .. أفرغت النفس من الروح التي بدت وكأنما في عدة .. حداد لن ينقضي بانقضاء المدة .. انهملت الدموع من المآقي التي جعلت تذرفها بشدة .. لا لسبب سوى ذاك الجسد الذي شعرت برغبته .. بقلبه .. تلك النبضات التي انتفضت بعد انقضاء المدة .. تبكي بحرقة بنشيج متعثر ينم عن عذاب وشدة يعلو كلما اعتصرها أكثر وقد فعل كلما .. لامست دموعه وجنتها مستغرقا بإحساسه الشديد بالندم: آسف حبيبتي .. كنت جاهلا علم للتو .. سامحيني .. دفعته بضعفها المستميت لإبقائها ثابتة فوق أرض تهتز تحتها كلما اقترب .. تهالكت قرب الجدار الذي تصدع حزنا على حزنها .. تلك الدموع التي لم تزل تمضي في طريقها الوعر .. حاول مسحها فصرخت فيه عاليا صرخة ألم: ابتعد ابتعد .. إني أشعر بالألم ..
ــ كندة ..
ــ لا تنادي باسمي لا تنبس بحرف منه .. فما ثمة من شيء هناك بيننا .. كل شيء قد اختفى ..
ذلك الشوق الذي كنت احتفظ به لك طويلا ..
ذلك الأمل ..
تلك اللذة التي كنت أشعر بها عن بعد ..
لم تعد كما كانت ..
فكل ذرة منك .. تجلب لي المزيد من الألم ..
تقرفص بعيدا عنها متمعنا قد احتقن هو الآخر بين حدود وجهه الآسفة .. صرخة ألم ..
بسببي أنا ..
تشعرين بالألم ..
ليتني كنت الشعور بالألم ..
للقيت حتفي خنقا قبل أن تشعري بالألم ..
هدأت قليلا .. نهضت .. تمضي في الطريق الذي تسير به على غير هدى .. بتؤدة دون هدف وهو من خلفها .. بعيدا كفاية قريبا جدا إذا ما أحس بالخطر بجانبها .. كلما وأينما غفت .. عند الطرف الخفي كلما استيقظت كلما مضت مجددا في الطريق ذاته على ذات الحال .. غير آبهة بقطع الخبز بالشراب البارد عند مقدمة رأسها لا بالعباءة التي كانت تغطيها تحميها من برد الليل الذي يبدو .. أنه تخاذل متقهقرا أمام لهيب أوجاعها .. بمعدة خاوية .. بقلب توقف عن الصراخ بنية اختصرت متع الحياة بنظرة ذابلة نحو العاصفة الهوجاء القادمة من تلك الصحراء .. فتحت ذراعيها لمن فتحت ذراعيها هي الأخرى للراغبين بالموت دون عناء .. حاول منعها إلا أن الغبار الكثيف المندفع بقوة ألزمه غرزه ..
فلما هدأت .. كانت قد اختفت ..
كان هذا هو الفصل الثامن ..
لا تحرموني من ردودكم وتشجيعكم ..
دمتم بصحة وسعادة حتى موعدنا القادم ..

Mona1977 25-10-17 05:12 PM

:chirolp_krackr::chirolp_krackr::chirolp_krackr::c hirolp_krackr::chirolp_krackr:

Mona1977 02-11-17 01:01 PM

رد: غريبة بجوارك (تم إضافة الفصل التاسع)
 
بسم الله الرحمن الرحيم


غريبة بجوارك
" كنت إلى جوارك قريبة .. غير أني كنت غريبة "
( الفصل التاسع )

خيال امرأة ..
تكتسي بالسواد ..
في مكان كالجحيم تقف ..
كالجدار المتآكل على وشك الانهيار ..
إطلالة مرعبة ..
وهيئة رثة تنذر بالشؤم ..
حجيرات قلبها الباردة مغلقة ..
وأبواب النور عبر مسالك الضوء موصدة ..
تتمايل .. تهتز ..
تتلاعب بصدى أوجاعها رياح عطشة ..
تكاد تهوي بها ..
تكاد تقذف نفسها بين أفواه الضباع الجائعة ..
قد التهمت ظلها ..
تحوم حولها ..
تترقب بصبر وهي ترمق ابتسامتها ..
إما هالكة أو متهالكة امرأة ..
يئست من الحياة ..
فابتسمت للموت ..
إنها فارغة تماما من الداخل .. متمسكة بأذيال الردى .. تشبعه رغبة اللاحياة التي تغمرها كل حين إلا أنه .. لا يستجيب إذ تخاذلت تلك السباع اللاهثة خلف الطعام نحو الجيفة التي لم تعد طازجة .. فهي غير خائفة بل معبأة بذخيرة حية من اللامبالاة التي كانت كافية لإثارة الرعب الذي دب في لحظة وسط أجوافهم الخالية .. مضت فساروا من خلفها .. بانتظار أن تقع فينالوا منها فنبضها الضعيف وجسدها الهزيل ينبأ بسقوطها في أي لحظة .. جعل يلوح بعصاه يمنة وشمالا في كل اتجاه .. أبان الذي كان يبحث عنها النهار بطوله .. سرق بشهامة دورها في العرض الذي لن ينتهي كما رسمت له بل .. كما خطط لها .. اندفعت الضباع في وجهه فهي لم تعد خائفة كما كانت فخوفه .. كان كفيلا بإعادة الثقة التي سلبتها تلك الابتسامة المتهالكة .. يناديها من بعيد أن تتوقف .. كندة التي لم تتكبد عناء الالتفات خلفها .. لم تهتم بتلك الشجاعة الفذة التي أصابته بإصابات عدة تمضي في الطريق الذي تتمنى .. أن يبتلعها قبل أن تصل إلى نهايته .. استطاع التغلب بصعوبة على تلك المجموعة التي ولت هاربة والتي .. تركته بجراح مفتوحة بدماء تنزف منها لم يشعر بها وهو يجري بحثا عنها كالمذعور .. رمقها من بعيد تسقط أرضا فجد في جريه.

أنفاس تتوارى ببطء مطمئنة رسمت الرضا فوق الملامح التي .. تكاد تغمرها رمال الصحراء تكاد .. تفتك بالجسد الدامي الرابض قربها .. كابتا هوجاء جنونه .. مرغما الأمل أن يبرز كالكدنة البيضاء من بين ركام ركونه .. حملها فوق ظهره .. قافلا بها .. حملها طويلا ليتهالك بعدها ..
لم تسعفه جراحه التي كانت هي الأخرى ..
بحاجة لمن يحملها ..

إنما كانت سويعات إلا أنه .. وبدلا من أن تبتلعهم رمال تلك الصحراء العطشة فقد روت .. عطش أبدانهم الجافة غيمة بحجم السماء الممتدة .. مترعة بالقطرات الندية .. سقت تلك الشفاه التي تشققت جعلت تلك الأجفان التي أقسمت ألا تستفيق أن تنهض من جديد .. كانت بالقرب منه ومن حاله التي تحدثت من تلقاء نفسها مكنتها أخيرا من رؤية ذلك العاشق الذي لم يعد يبالي بالموت ..
حبيبتي ..
لن تبالي الحياة بي ..
إن سلبك الموت مني ..
فأي ذكرى منك ستسليني ..
ولم تشهدي معي سوى ..
الألم ..
تنهدت عميقا وهي تبكي بصمت ..
ترمق بسلام تلك الملامح التي أسرتها بشكل خيالي منذ القدم ..
أكان علي سلوك هذه الطريق الوعرة حبيبي ..
كي تشعر بوجودي ..
إلا أنه لا وجود لوجودي بعد الآن ..
قد كنت في نظرك لا شيء ..
وقد بت حقيقة لا شيء ..
فأن تتمسك بلا شيء ..
تلك مضيعة للوقت الذي أهدرته عندما كنت في وقت من الأوقات ..
شيء ..
حملت جثتها بعيدا عنه .. بعيدا جدا عنه فلا تراه .. سمحت من بعدها للسحاب المكتظ أن يغضب كيفما شاء .. أوقفني عن المسير .. اطمس نور عيني .. الرمق المتبعثر بين نبضي .. نفسي .. انزع الروح من الجسد البالي الذي .. لم يعد صالحا أن تعيش فيه وهي حرة ..
افعل ذلك ..
وسأكون شاكرة ..

تمكنت نورهان من الوصول سالمة إلى مسقط رأسها بين أهلها وأصحابها إلا أنها مع ذلك .. لم تشعر بالراحة كيف وأبان ليس بجوارها .. خشيت عليه من الأبيض الذي لما علم بما فعلت جن جنونه .. أمر الجيش بكامل عدته وعتاده أن يستعد للهجوم على أراضيها كما أرسل .. العديد من العيون وعلى رأسهم أسامة للبحث عنهم .. في ذلك الوقت كان هو الآخر في وضع شاعري مزري ينوح على حاله .. قابع في جناحها .. يتشمم فراشها .. رداءها .. كل بقايا من أثرها عندما ولجت ولسوء حظها إحدى الوصيفات تحمل شرابه بين يديها .. أمرها أن تنزع ثيابها أن تنصاع لأمره .. فعلت .. إلا أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد بل .. تمادى ليتعدى فتيات القصر كافة .. يخرجن من عنده باكيات فيترددن الأخريات .. يأبين ومن تصر تدق رقبتها في الحال .. إنه يهمس باسمها ..كندة التي يحاول جاهدا رؤيتها في كل ضحية تقع بين ذراعيه .. يمزقها إربا إربا ببشاعة برعونة قتلت الحب لايزال في مهده .. مشبعا ملذات رغبات جسده اللامتناهية .. حماقة قلبه الذي .. نهض متأخرا من زين لعقله متعة ليست بمتناوله بينها وبينه .. آلاف الأميال ..
فلما اكتفى .. بكى ..
فلم تشبع إحداهن رغبته ..

استيقظ أبان ليجد نفسه مصلوبا وسط ظلمة حالكة اللهم من .. ضوء خافت يتقدم ناحيته .. لم يكن القادم سوى أسامة الذي أتى .. يصحبه مجموعة من العمالقة المقنعين .. يبدو من طول أظفارهم وحدتها من لونها المشبع بالدماء من العدة التي اعتدوا بها والغلظة والقسوة التي .. اسودت أعينهم بها أنهم .. مردة مؤجورون طردوا من وكر الشيطان إلى مكان ليس بأسوء منه .. يعشقون العذاب إنما هو متاعهم الوحيد .. جعل ينظر إليه وفي نظراته رجاء يرجوه أن يجيب .. سأله عن مكانها ..
ــ لا أعلم .. أجاب ليتنهد خائبا ليلتفت بعدها وكأنما التفت مرغما .. جروا أحدهم .. آخر بجواره حبيس كحاله أحضروه .. ومن دون رحمة اقتلعوا عينيه ..
ــ عاد فسأله: أين هي؟ ــ بنبرة ترتجف: أسامة ماذا تفعل؟
ــ أحضورا آخر فتنازعوه بينهم حتى مزقوه: أين هي؟
ــ صدقني لا أعلم .. كانت بصحبتي وعندما استيقظت .. استيقظت هنا .. صهر الزئبق الساخن آخر .. لم يترك منه شيئا فصرخ فيه: لا أعلم .. قلت لك لا أعلم توقف .. أرجوك توقف أليس في قلبك رحمة ..
ــ أين هي؟ السؤال ذاته .. الإجابة ذاتها وذاتية اللارحمة التي يبدو .. أنها تتحرك من تلقاء نفسها وقد طال الإستجواب .. ألوان التعذيب ومدة العذاب .. أبان الذي ظل يصرخ كمن يصرخ وسط مجموعة من الصم البكم لا يسمعون ولا يعقلون ركن نفسه إلى الصمت فلا فائدة ترجى من الصراخ فلما صمت .. صمت أسامة أخيرا عن إصدار الأوامر .. مضى ومن خلفه كلابه المسعورة .. سويعات وعادوا .. عادوا من دونه يحملون فوق أكتافهم .. عشرة من غلمان القصر المقيدين بإحكام وحالا ودونما إنذار .. حلق نصف جسد أحدهم أمام أعين صحبه أمام عينيه: أيها الأوغاد .. إنهم مجرد أطفال وقبل أن ينبس ببنت شفة أخرى كان آخر .. قد فارق الحياة إثر ضربة عنيفة ألصقته بالجدار .. كانوا على وشك الفتك بأصغرهم حينما .. أوقفهم أسامة: أين هي؟ أبان الذي كان يبكي يرمق صاحبه بنظرة أسف .. اضطر للكذب .. عله بذلك يقتنص بعضا من الوقت لإنقاذ نفسه وربما .. من تبقى معه .. كيف وقد شد وثاقه وقد ترك .. معزولا اللهم من تلك الجثث التي شعر بها تلعنه تحمله وزر ما جرى لها.

يومان كاملان بلا طعام أو شراب .. بلا ضوء أو بارقة أمل .. شاحبا .. متجهما .. غارقا في غضبه حتى الثمالة أتى .. من خلفه أسامة .. مجموعة جديدة من كلابه المسعورة .. بدا وكأنه شاخ فوق شيخه عشر سنين زيادة .. كان أشبه بقطعة قماش مهترئة ملئى بالتجاعيد التي تشق طريقها وسط بعضها البعض وكأنها في نزاع غير قابلة للفرد أو للطي .. لأعمال النظافة أو التعديل .. حدق به طويلا .. يزفر في وجهه .. أنفاس تخرج من جوفه مغتاظة .. يسمع لصوت زفيرها صرير .. حادة مزعجة شديدة العمق .. اعتصر بكفه محيط فكه قائلا: أتتجرأ على الكذب علي .. أيها الملعون .. لم تكن هناك .. لم يره أحد .. أين هي .. أخبرني وإلا أقسمت أنه بكل حرف أنطق به .. أخطف به روحا من أمام ناظريك .. حتى إذا ما خلت الأرض من اسم بشر .. انتزعتها من كل ذي نفس .. أعلاها .. أسفل منها وأعدك .. لن يوقفني أحد ..
ــ حـ حـ حسنا حسنا سأخبرك الحقيقة .. لقد أرسلتها مع أحدهم إلى مكان بعيد جدا ..
ــ إلى أين؟ ــ إلى الشمال إلى مكان مهجور هناك قرب النهر ..
ــ وإن كنت تكذب ..
ــ بحزم: لست أكذب .. فلا طائل يرجى من الكذب وقد رأيت ما يكفي ..
ــ إن كنت كاذبا فأنت لم تر شيئا وإن كنت صادقا .. فلن تصدق مما ستراه شيئا ..
تركه وحاله .. تركه منطلقا بصحبة أسامة للبحث عنها فشغفه المستميت لرؤيتها حرمه الراحة .. التفكير بثبات والاحتفاظ بهيبته فقد رحل .. باحثا عن فتاة .. تنهد أبان طويلا .. يحملق بنظراته الحائرة في كل اتجاه بحثا عن منفذ عن مخرج له .. من الكذبة التي عاجلا أم آجلا ستفوح رائحتها .. استطاع أحد الغلمان الإفلات من قيده .. أطلقوا سراحه .. ساروا من خلفه بحذر عبر الدهليز الضيق الذي لا مجال فيه للإختباء .. هناك أحد ما قادم نحو المدخل الذي يفصله عنهم بضع خطوات .. التصق بالجدار يلتقط أنفاسه يفكر سريعا بالطريقة المثلى للنجاة من دون إثارة للشبهات .. يوشك القادم أن يصل .. توشك نيران ظله الحارقة أن تلسع حواف أقدامهم البارزة .. فزع عن يمينه .. قلق شديد عن شماله فهم في رقبته الآن وقد أوكلوا إليه أمر إنقاذهم .. تمالك نفسه .. همس لهم فأطاعوه .. حملوا في أيديهم ما وسعته راحة أكفهم .. اندفعوا ككتلة متكتلة في وجهه .. أسقطوه .. وبالحجارة التي حملوها .. أدموه .. جعلوه يرحل زاحفا نحو عالم آخر أسوء من الجحيم الذي عاشوه وأكملوا طريقهم .. المكان أشبه بمتاهة عظيمة تدور حول نفسها ذلك أنهم يجرون عبر ممرات وردهات منذ سويعات ولا أمل .. وبينما هم كذلك إذ بأحدهم يلمحهم عن بعد .. أطلق صرخة استنفر لها الكل .. مخلوقات خالفت قوانين البشر .. لعنتها الطبيعة .. احتقرها البهائم واستنكرتها رذائل الأشياء تجري خلفهم .. الأرض من تحتهم تهتز .. وقلوب كالفراش المذعور تختض .. لم يكن أمامهم سوى غرفة فنفذوا إليها حالا وأوصدوا الباب خلفهم دون وعي منهم أنهم .. قد حشروا بين جدران اكتظت بل ضجرت بهم ..أي نفس هذا الذي تبقى كي يسعفهم بل أي ساق تلك التي ستحملهم وقد خارت قواهم .. الصيحات في الخارج تدعوهم للإمساك بهم وصرير الباب يتضرع راجيا منهم الهرب فلم يعد قادرا على المقاومة بعد .. المكان مغلق تماما حتى أن الهواء غير مسموح له بالدخول هنا .. هنا حيث اختفى نصفهم .. نصف الغلمان الذين انتشروا هربا من حكم الموت الذي اصدر من دون حق بحقهم .. أبان الذي ينظر وقد شلت يداه يحاول جاهدا الإفلات من تلك المطرقة العظيمة التي ما إن تهوي حتى ترتفع حالا للإطاحة به .. تلك المطرقة التي صنعت فوهة في جدار .. سطع من خلالها الضوء الذي أراه يلوح مبتسما للأمل المتضائل داخلهم .. صاح فيهم: من هنا .. واحدا تلو الآخر كان هو آخرهم .. خرج حاملا أحدهم أصيب في ساقه .. أنقذه قبل ان يلقى حتفه .. كانت الفتحة ضيقة .. لا تصل عرض أكتافهم ..
حتى إذا ما وسعتهم كان أبان ومن معه قد ابتعدوا كفاية فلا يصلوا إليهم ..
حقيقة .. أنهم كانوا عظاما جسام ..
إلا أنهم كانوا ذوو عقول صغيرة فارغة ولولا ذلك .. لما استطاع أبان النفاذ مطلقا ..

ترك أبان من بعهدته بعهدة باش وزوجته .. حمل ما استطاع من متاع وانطلق هو الآخر باحثا عنها .. نحو الصحراء التي شهدت آخر لقاء تم بينهما .. جد في بحثه .. ثلاث ليال يجوبها طولا وعرضا .. سائلا القوافل المارة .. عابري السبيل الصخر والشجر المتناثر هنا وهناك دون إجابة وافية تفغمه سرورا دون تلميح .. يركنه إلى ذاك المصير ومع هذا .. فقد ظل جاهدا في سعيه حتى تناقل إلى مسمعه أمر إشاعة مفادها .. أن امرأة تكتسي بالسواد وجدت ممزقة أشلاء أشلاء قرب الصخور الرملية بالركن الجنوبي من هذه الصحراء ..
معتصرا قلبه بيده .. أن لا تهلع ..
سائرا نحو الحقيقة التي إما ..
أن يدفن بقربها حيا وإما ..
أن تجعله ينهض ..
ممزقة أشلاء أشلاء .. مزقت مواطن الهلع داخله جعلته يسقط أرضا ينحب بالبكاء ..
رداؤها الأسود .. شعرها الطويل ومعالم وجهها التي اختفت تماما ..
لم لم تنتظر أكثر حبيبتي .. هلا تمهلت لهنيهة .. عل صدق إحساسي يصل إليك فتتمسك بالحياة ..كنت أغار من كل شيء حولك .. من أنفاسك من خصلات شعرك التي تداعب جبينك .. من دفء كفيك وابتسامتك التي تشاركين بها أحدا غيري .. ومن نفسي التي أحبتك منذ الأزل وقد صددتها أما الآن .. فإني أغار من الموت الذي اختطفك ولم يبحث عني ألم يعلم أني .. أنا الآخر ..
مولع بك .. أحبك أعشقك ولا حياة لي .. من دونك ..
أرخى يده القابضة على صدره أرضا واقترب من بقاياها عل بقاياه بذلك تستجمع قواها عله يجد بذلك القرب سلوى .. تلك الدموع التي تنهمل لن تجد لها مأوى .. محدقا في العظام التي لن تكتسي باللحم .. لن تخاط بالجلد .. في العود الذي لن يصلب في المرأى الذي لن يتراءى له حتى في الأحلام ..
يالها من ذكرى تلك التي .. كانت خاتمة هذا المشوار القصير الذي كان بيننا ..
أوشكت الشمس على المغيب وأبان على حاله متسمرا أمامها .. لا طاقة لديه لدفنها أو النهوض .. آملا متأملا أن معجزة تحدث .. أن أحدا ما يصفعه فيستفيق:
يا أخ .. مالذي تفعله أمام جثمان زوجتي؟
ــ التفت إليه .. لم يبالي بسؤاله ليعود إلى حاله ليعود السائل سائلا بشيء من الرعونة أيقظته: أعد .. علي .. ما قلت ..
ــ مستغربا مستجيبا: مالذي تفعله أمام جثمان زوجتي؟
تلك الكلمات الصاعقة التي جعلت ..
ذلك الفتيل الخامد في بياض عينيه .. يتقد ..
ذلك البائس اليائس المتخاذل بين أضلعه .. يرتعد ..
يوشك مخزونه المفزوع أن يفرغ من كل نسمات الهواء العالقة في مجرى تنفسه ..
يوشك أن يقبل آتيه بالخبر ..
ــ أعد علي ما قلت ؟ نعته بالجنون ثم أعرض عنه .. ضحكات .. قهقهات ملأت الأرجاء .. تلك فرحة لن يسعها سوى القلب الذي اكتظ بالنور .. ذلك النور الساطع الذي اخترق عنان السماء .. عاد فسأله أن يطلب وله ما يريد فأجابه: امنح الحياة لذلك الرفات فيستفيق ..
ــ ما الخبر يا فتى؟ لم كل هذا الندم؟
ــ بوجه شاحب بصوت يتهالك مع كل كلمة يلقيها: إن لم يكن باستطاعتك منحها الحياة .. فسأترك لك أمر دفنها دفنا لائقا يليق بها فلا طاقة لدي لفعل ذلك .. امتطى فرسه وقبل أن يهم بالمغادرة التفت إليه ناصحا: إياك إياك وترك من .. تحب .. من يعني لك ولو شيئا بسيطا .. من يهمك حقا أمره الاعتناء به .. من يعتني بك وأنت لا تعلم بعهدة أي كان .. حتى ولو كان .. ولو كان .. بصوت متحشرج: أبوك .. لقد فقدت الشعور بالطمأنينة .. فقدتها ولذة النظر إلى وجهها .. تلك نعمة لم أحرص عليها فاحرص عليها مادامت في متناول يدك .. انحنى بفرسه على ركبتيه أمام جثمانها .. مطأطئا رأسه .. محتفطا بدمعه لنفسه بكلمات الأسف والاعتذار التي اقتحمت حنجرته ولم تبرز .. غادر هائما على وجهه تقوده فرسه التي أراها .. تقف عند رأس صاحبها الذي فارق الحياة .. أراها ملقاة بعد أيام بقربه .. لم تطق فراقه .. رحلت هي الأخرى وفاءا لذكراه ..
ننظر دائما إلى من نحب ..
ننسى دائما من أحب فينا شيئا من أحبنا للاشيء ..
يرحلون فنرحل معهم ..
نرحل فيرحلون معنا ..
يا لنا من قساة متوهمين ..
نعتقد أنا نعيش بهم إلا أن الحقيقة هي ..
أنا نشعر بالحياة بسببهم أؤلئك ..
الذين يعلمون بأمرنا .. ولا نعلم بأمرهم ..
كان هذا هو الفصل التاسع وعذرا على التأخير ..
لا تحرموني من ردودكم وتشجيعكم .. دمتم بصحة وسعادة حتى موعدنا القادم ..

:sm92::sm92::sm92::sm92::sm92:

prue 05-11-17 12:42 PM

الرواية تحفةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةة ةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةة ةةةةة
مش ممكن الابداع داه
انا من من عشاق الاسلوب السهل الممتنع بالكتابة
وصفك للاماكن والاحاسيس ودواخل كل فرد يجنن

Mona1977 06-11-17 01:28 PM

تسلمين يالغالية وأتمنى اتباعين الفصل الأخير وتعطيني رايك فيه ..
ربي يعطيك العافية وما قصرتي ..

Mona1977 08-11-17 01:37 PM

رد: غريبة بجوارك (تم إضافة الفصل الأخير)
 
بسم الله الرحمن الرحيم


غريبة بجوارك
" كنت إلى جوارك قريبة .. غير أني كنت غريبة "
( الفصل الأخير)

ــ ساعدتها على النهوض .. سقتها بضع رشفات .. أطعمتها بضع لقيمات: من أنت بنيتي؟
ــ أنا .. ــ نعم .. من أنت بنيتي؟
ــ صيحات وذكريات موحشة كالفيضان الجارف اندفعت .. جعلت تلك المآقي التي قسرت البصر بحد ذاته أن يخضع طرفه أنا له .. أن ينعم النظر في المفرق الذي أغوى القمر في الإحساس الذي .. ولو بلغ ذراه لن يتهاوى وهناك من يحمله فوق أكتافه .. اغرورقت تلك المآقي التي جف نهلها تناجي: أبي .. أبي .. حملت نفسها تهم بالمغادرة فأقعدتها المرأة العجوز التي سألتها أن ترتاح قليلا .. بنأمة جافة محطمة ترجو: أبي .. أريد رؤية أبي .. طمأنتها .. وعدتها خيرا شرط أن تستلقي لبعض الوقت حتى يصلوا إلى وجهتهم .. انضمت السيدة إلى زوجها في المقدمة تحمل إليه خبرها .. حالها الذي يفتت العضد .. لن تتركها وستفي بوعدها .. هذا ما اتفقا عليه.

في اليوم التالي وعند المنطقة الفاصلة بين العاصمة والحدود الشمالية .. تفاجؤوا برتل من المركبات أمامهم .. الطريق معطلة والسبب .. حملة التفتيش التي يرأسها أسامة باحثا عنها بالطبع .. فلما بلغت الشمس أوج رؤوسهم كان قد حان دورهم: ما بالها؟ وما بال ذلك الرماد الأبيض الذي يحيط بها؟
ــ تلك هي ابنتي .. مصابة بمرض سام .. وذلك الرماد المنثور حولها إنما هو وقاية لنا ولك من العدوى أن تنتقل إلينا .. سيدي .. لم يتبق لها الكثير وإن لم نستعجل .. ستفلت حقا من بين أيدينا .. أرجوك سيدي .. من علينا بعطفك فليس لنا سواها .. لقدكان كلاما منمقا بإسلوب مقنع بإحساس صادق بأداء مدروس جعل أسامة الذي غطى أنفه بمنديله يأذن لهما حالا بالرحيل .. أسامة الذي انطوت عليه تلك الخدعة التي لولاها لما استطاعا إنقاذ كندة .. فالمواصفات التي كان يبحث عنها كانت تشير حتما إليها ولذا .. قاما بحمايتها بصنع مقلب محكم الإتقان بالغ الدقة مقيد بالنجاح الأكيد وهذا ما حدث.

ساعة أخرى وإذ بالمركبة التي تقلها تحط رحالها قريبا من الباحة التي تعج بالناس من مختلف الأجناس .. أجلستها العجوز فوق صخرة قريبة وسألتها .. أن تنتظر قليلا ريثما تشتري بعض المؤن الضرورية لإكمال الطريق فلما عادت .. لم تجدها ووجدت أسامة قريبا من مركبتها من زوجها الذي ناداها .. لقد كان يعلم منذ البداية أنها هي إلا أنه .. تظاهر بغير ذلك خوفا عليهما أن .. يبتعدا كفاية أن .. يلقي القبض عليها حينها .. سألها مهددا فأجابته .. كانت هناك ثم اختفت .. كندة التي كانت مستغرقة بالنظر إليهم .. إلى الصبية الذين كانوا يلعبون بجوارها حينما .. شد انتباهها صوت امرأة تناديه باسمه الذي جعلها تفارق مكانها - من دون شعور - سعيا خلفه ربما أنها .. الحمى قد غلبتها فغلبها شوقها إليه لم يمت بعد وربما .. أنه قلقها عليه وقد كان من سوء الحال ما رأت : أبااااان .. أباااااااان .. أين أنت؟ ولازالت تنادي وهي من خلفها حتى بلغت أرضا خواءا بين جدارين اللهم .. من شجرة شعواء في المنتصف .. توقفت .. استدارت .. كان مختبئا خلفها .. تقدمت منه .. انحنت ناحيته .. تأملته لهنيهة .. ابتسم فابتسمت له وهي تداعب غرته .. طفل الثالثة الذي شعر بالخجل مالبثت أقدامه أن ارتفعت عاليا .. تجري لوحدها في الهواء ككلمات الرجاء التي .. لم تجد أذنا صاغية كالأم التي حلقت روحها بسهم قاتل قبل أن تصل إلى وليدها الذي لحق بها في الحال .. سماعها تناديه .. رؤيتها وقد تهلل وجهها بالبشر وهي تلاقيه .. تبتسم له تداعبه وتناغيه .. جعله يفرز خارج أديم بشرته العفن .. سموم حقده الدفينة .. لم تراع سنا .. لم تحمل هما .. بل اتخذت لنفسها سلما ارتقه .. استصغرت الموت أسفلها وظنت .. بأنها تملك الحياة بل إنها الحياة .. ذلك العاشق الأبله من استحوذ على عقله .. جنون العاصين الداجيين أمثاله خلف أهوائهم دون حذر أو مخافة .. قلبه الأحمق أصدر أوامره فانصاع إليها .. أعمى بصيرته .. شل حكمته وأودى به دركات الخاسرين .. سقطت أرضا ترنو ببصرها نحو المشهد الخانق للعبرات المستفيض للنبضات من يحثها حثا .. أن تنفجر صارخة في وجه ذلك الطغيان الأرعن الذي تمثل بشكله واندمج بروحه .. أغمي عليها قبل أن تصل يده إليها .. فلما أفاقت كانت في الطريق نحو عرينه .. تجرها عربته .. ملقاة بين أحضانه .. يعتصرها بين ذراعيه ألا تفلت .. داسا أنفاسه بين خصلات شعرها يلعق بلسانه وجنتها يقبل بشفاهه القانطة جيدها .. ينتظر بلهفة .. اللحظة .. أن يختلي بها .. أن تهمد نيران رغبته .. أن يفرغ عداد شهوته .. حاولت الإفلات .. حاولت فهمس في أذنها بلؤم قائلا: أبان عزيزتي .. لم يعد موجودا .. لقد مزقته بيدي .. لم يعد هناك .. سواي أنا فقط .. من يحبك ..
توقفت .. بدت كمن هوى من الأعلى .. فشلت ..
لم يعد بمقدورها .. فاستسلمت ..
استسلمت .. تلك لحظات .. نتمنى فيها من الموت أن يكون ..
كالغيم الأبيض في السماء .. نأذن له فيأتينا ..
يحمل أرواحنا بسلام يخرجها من بين أضلعنا ..
أو كالصاعقة تأتينا ..
لا تبقي شيئا ولا تذر إن استدعى الأمر ..
إن كان فيه نهاية عاجلة لمعاناتنا ..
فلا بأس ..
فما معنى الحياة ..
وقد فقدنا الإحساس فيها ..

وقبيل مغيب الشمس بدقائق .. كانوا قد بلغوا " اللجين " .. قصر مكسو بالفضة يتوسط قلب دوحة غناء .. قلب مدينة شقراء كلما أقبلت الشمس عليها .. أشرقت وتوهجت والفضل في ذلك يعود إلى الأسقف إلى المداخل النحاسية المطلية كلها .. بالذهب أهلها .. غاية في الترف .. ليلهم نهار ونهارهم سمته النوم والكسل ذلك أنهم يعشقون الطرب والسهر .. وبالرغم من ذلك كان عليهم النهوض واستقبال مليكهم .. هذا ما استهجنه أسامة ونقله حالا إلى الأبيض الذي أوكل إليه أمر استئصال رؤوسهم فور استيقاظهم .. أن ينجز ذلك الأمر دون الرجوع إليه البتة وإلا .. حلقت رقبته هو الآخر فالليلة .. هي الليلة التي لا يريد لشاغل أن يشغله عنها ..
إنها الليلة التي لطالما حلم بها ..
والحلم العتيق الذي .. امتد به طويلا حبل الرجاء أن يتحقق .. حتى ظن أنه انقطع ..
اغتسل .. تعطر .. ارتدى روبه المكسو بريش النعام .. تقدم على عجل كاد أن يقع فلما ولج .. احمرت وجنتاه وهو ينظر إليها بثوبها بلون السكر الفاتر إلى .. تلك الأطراف العارية وذلك العود الغض المقيد .. فوق الفراش من سيجمعهما أخيرا .. معا .. نزع روبه معتليا الحدود بمنامته الفضفاضة البيضاء يحبو .. كتيس عجوز حاشرا ساقيها بين ساقيه .. منكبيها بين كفيه ينظر من الأعلى .. نحو المغنى البارز من دعاه فأغراه .. دس أنفه بين طيات صدرها يشتم برعونة رائحة عطرها الذي .. أغواه فأخرج لسانه كالكلب اللاهث لن ترويه سوى .. قطرات دمعها التي جاشت .. ذرات العرق من جبينها وقد فاضت واستفاضت .. يسير بتأن مستمتعا متجاوزا صاما أذنيه عن سماع النبضات التي .. كلما تقدم خبت .. نحو الشفاه التي كانت قد أعرضت: أبي ..
بنأمة نائية بنفس روحها باتت جاثية جعلت تناجيه فرد عليها وهو بعد لم يفق من كبوة غفوته:
بودي .. إلا أن الساكن ذاك وسط أحشائي .. أبصرك كحبيبة لا كإبنة له ..
أرغم تلك الشفاه التي جافته .. أن تستقبل تلك التي هامت به بل عبدته .. حينما حاصرها بين راحتيه .. أسدلت جفنيها بانتظار الأجل الذي دنا .. بالقبلة التي ستعتصره عصرا ستدفعه خارجا جاثما فوق الجسد الذي اشتاق .. أن يفترشه الثرى .. أقبل رويدا رويدا .. يتأمل في خيالاته - فاغرا فمه ضاحكا – حجم اللذة التي سيشعر بها .. عدد المرات التي هي طوع أمره .. والوقت الذي لن ينفذ وهناك متسع .. فلما كان بينه وبينها حجم الحصاة الصغيرة الملقاة طرق الباب طارق .. طرقه بقوة جعله يتوقف صارخا فيه:من؟
ــ أسامة الذي أذن لنفسه بالدخول .. اندفع هلعا مخاطبا سيده من خلف الستار محذرا:
سيدي .. أعتذر بشدة .. ولكن علينا الرحيل في الحال ..
ــ ماذا تقول؟ أجننت؟
ــ سيدي .. أهل المدينة ليسوا في بيوتهم نائمين .. لقد غادروها منذ حين .. المدينة مثغمة بالطاعون .. الماشية الكلاب .. لا حياة هناك لمن تنادي بل هو الموت المتربص بنا في كل مكان .. سيدي .. إن لم نرحل الآن .. فلن يبقى لنا في هذا العالم مكان ..
ــ بشيء من الريبة والخوف: وماذا قال الطبيب؟
ــ لقد نصحنا بالخروج حالا كي نطوي المسافة بيننا وبين البعثة الطبية التي أرسل لإحضارها على جناح السرعة حيث اللقاحات المناسبة لإنقاذنا ..
ــ لم يطل صمته .. أبعد طرفا من الستار آمرا إياه أن يحضر من يحمل كندة ..
ــ أجابه وكان قد استرق النظر: لا أنصحك بذلك سيدي فحالها .. لا يبشر بخير .. انظر إليها مليا .. إن الأعراض تتآكلها .. لم يصدق مقالته فأرسل إلى الطبيب الذي أكد له صدق ما قال مردفا ما أثار الرعب في نفسه: ابتعد .. ابتعد سيدي فابتعد: أراها وقد أوشك أن يتمثل بها .. بنيتها الضعيفة .. أنفاسها المتوارية خلف رائحة الموت التي .. تفوح منها جعل منها لقمة سائغة للطاعون الذي .. لن يتهاون في إهلاكها إما عاجلا أو آجلا سيدي .. تلك المرأة .. لن تبقى طويلا وإن لحقت بنا .. فلن نرى الصباح ..
ــ لهنيهة جعل يحملق فيها كالمشدوه غير مصدق أن تلك هي الحقيقة .. يا لمرارة طعمها .. يا لسلاطة لسانها وشدة بأسها الذي جعله يتهالك أرضا .. مطأطئ الرأس .. خائب الأمل .. ساهم البصر .. أتاه أسامة ناصحا مطمئنا: سيدي .. أعلم حجم اليأس الذي تشعر به إلا أنك رجل ذو مكانة .. من الجنون حقا أن تتخلى عن ذلك كله من أجل فتاة مثلها الكثير ..
ــ أسامة .. ماذا تقول .. ليس كمثلها أحد .. تساقط دمعه فاحتضن يده:
سيدي .. هيا أرجوك .. جاش بالبكاء صارخا:
لا طاقة لدي على تركها لا طاقة لدي .. إن فعلت .. فإني ميت لا محالة .. لو تعلم كم انتظرت قالها بيأس اتسعت رقعته حينما .. نهضت ومالبثت أن سعلت أمامه .. دما أسودا تناثر حولها في كل مكان أسقطها فوق السرير كالأموات .. بهلع جعل يرجوه مقبلا يمينه ويسراه:
أسامة .. لا أقوى على الحراك .. احملني أو اتركني بصحبتها .. أمر الجند حالا فحملوه خارجا دون أدنى مقاومة منه ودون أن .. يخلع ناظريه عنها .. يهفو إلى التفاتة أخيرة منها تودعه كما .. ودعها: عذرا حبيبتي ولكن .. علي البقاء .. لوح لها بيده ثم مضى ..
حملوه وإنما كانت دقائق حتى صفرت المدينة منهم اللهم إلا من " عباد " الخادم الأصم الذي خلفه الأبيض لرعايتها .. كان أصما لم يكن غبيا .. أبصر المستور الذي ظنوا أنه لن يدركه فاختفى هو الآخر بعد ساعة من رحيلهم ..
ياااااه .. إنها حلاوة الروح ..
تلك الغادة التي لن يضاهي حسنها حسن ..
لن يماطل في وجهها سلطان فقر برحيلها إحسان ..
إنها الخاطر الذي يسبق الفكرة ..
واللاشعور الذي يغلب الشعور ..
تحملنا أن نحملها دون وعي منا كلما أحست بالخطر ..
نتعرض للخطر فتجازينا بالرحيل عنوة مردفة بابتسامة حلوة: إنها الحياة لامفر ..

كما أسلفنا سابقا .. أن أبان وبعد تركه للغلمان بعهدة باش وزوجته .. حمل متاعه باحثا عنها مخبئا الأمل في جيبه الأول بالشوق المحرك لذلك الأمل بين طيات متاعه .. وبعد مسيرة أيام وبينما كان سالكا للطريق الذي أرشده إليه البعض التقى صدفة .. بالخادم الهارب عباد .. سأله فأجابه فانطلق حالا غير عابه بالصيحات التي كانت تناديه تنذره ..
أيتها المشاعر من كل صنف ونوع ..
لا بأس عليك أن تشعري بالغيرة ..
فهو الشعور الذي مزق إربا ..
حديث الخوف ..
تردد التردد ..
غرور الحياة ..
تمرد الموت فأخضعه ..
أن تحب بصدق حتى النخاع ذلك يعني ..
أنك بت الأسير الذي لن يفلت من قبضته إلا بمعجزة ومع ذلك ..
فلا بأس عليك ..
فأن تحب بصدق ذلك يعني أيضا ..
أنك لا تزال على قيد الحياة ..
فتح الأبواب كلها .. باحثا عنها .. يناديها بأعلى صوته حتى توقف فجأة عن الحراك فقد .. وقعت عيناه على الراقد هناك صامتا بالكاد يبصره بدت منهكة وقد .. بسط المرض شروره فوق كل بقعة من جسدها .. قد امتحل شبابها وجعلها تبدو .. كالنجم الساقط من السماء ..
وقف عند رأسها وقد حاول جاهدا أن يستقر مكانه لما رآها هكذا ..
وهل يملك المحب وهو يرى .. من يحب على هذه الحال وفي تلك اللحظات إلا أن ..
ينقاد إلى ضعفه مستسلما ..
أن يذرف الدمع مرغما ..
أن يتفطر القلب ندما على كل لحظة مضت من دونه وأن ..
تتفلت الكلمات من بين شفاهه فتفقد .. بريقها ولمعانها ..
ــ كندة ..
ــ يبدو أن ساعتي قد قربت .. فها أنا الآن أرى أشباح ..
ــ لست شبحا .. إنه أنا .. أبان ..
ــ تأملته للحظات ثم أردفت: أبان ..
ــ نعم أبان ..
ــ لقد مت .. لقد أخبرني الأبيض بذلك ..
ــ بل لقد اعتقد ذلك .. لقد أفلت من قبضته ..
ــ بدت النظر إليه جاهدة ثم أرسلت يدها فأمسكها على عجل جالسا إلى جوارها .. بابتسامة خافتة بدموع من الجوف انبرت صادقة: أبان .. يا لسعادتي .. كنت أتمنى رؤية أحدكما قبل أن أرحل .. وقد تحقق لي ما أردت ولن أطمع بالمزيد .. علي أن أكون شاكرة وأنا كذلك ثم أبعدت يدها مردفة: والآن .. غادر قبل أن تصاب بالعدوى ..
ــ لن أغادر مالم تغادري بصحبتي .. لقد أقسمت إن وجدتك ألا أتركك فاستسلمي ..
ــ أغمضت عينيها .. تنهدت طويلا من ثم حاولت بصعوبة النهوض من مضجعها – حاول فأبت مساعدته لحاجة في نفسها - وما كادت تقف حتى تهاوت ليلتقطها بين ذراعيه قريبا من الأرض: هل تريد حقا .. امرأة لم يتبق لها .. سوى مكان واحد ترحل إليه ..
ــ إذن .. فسنرحل إليه معا ..
ــ اغرورقت عيناها بالدموع إثر كلماته .. دنا منها فصدته وما كادت حتى .. سعلت مجددا فلما ارتاحت قليلا أكملت: أبان .. إن كان ذلك بسبب ضميرك الذي يؤنبك فقد غفرت لك منذ اللحظة التي عانقتني واعترفت لي بها بحبك .. أبان .. أبان .. لم يجبها بل كان مشغولا بآثار السعال بإزالة ما استطاع منه .. أمسكت يده: أبان .. أرجوك عد .. .
ــ كندة بملامح غلبها الحزن بحزن شديد انفطر له قلبها: أجيبيني .. بل أجيبي ذلك الشك الذي يساورني وقد فعلت بك ما فعلت .. ألا تزالين كما عهدتك .. ألا تزالين تحـ......
ــ أغلقت فمه بطرف راحتها قائلة بصوت متحشرج بالكاد يسمع:
بل إني أعشقك .. لم يمنحها الفرصة و ..
أناخ مطاياه عند مبسمها الحر عند الجرح الذي ..
لم يندمل بعد حتى التقى بها ..
لقاء .. قد تمسك بتلابيب الشعور العميق الذي لم يفارقه ..
فراق .. لن يكون وقد أفضى الزمان للمكان .. إن تسأم فلن أسأم منهما ..
كانت قبلة رقيقة لامست رقة شعورهما .. منحت الدفء لأجسادهم الباردة .. الطاقة لتلك الأجواف التي شاخت قبل أوانها أن تنبض بقوة .. أن تستلذ مجددا بطعم الحياة ..
افتر ثغرها الجميل عن ابتسامة رضا عن إيحاء له .. باقتراب وقت الرحيل ..
أجفانها تذبل وأنفاسها تسلب من الحياة رمقها الأخير ..
نعاها بصمته وما تقاطر من دمعه: حبيبتي ..
محتفظة بابتسامتها محتضنة بشدة يده استسلمت .. للموت الذي هاهو يختم مشوارها القصير بشكل يسير .. فلما كان نفسها الأخير تفاجأ أبان بالنور الساطع من الثغرة بحجم القبضة والتي انبرت من أرضية المكان .. كالبرق اندفع من خلالها مثيرا ذلك الضوء الساطع ملألأ الأرجاء .. البلبل من لبث في مكانه لهنيهة ليرفرف بعد ذلك فوق رأسيهما في الحال .. ناثرا رذاذا مشعا جاعلا الطاعون الأسود يفر هاربا خارج أبدانهم يبحث عن منفذ له عبر الباب .. ثغرات أخرى وجنيات جعلت تعبث بأياديها صنعت فقاعة من الماس النقي تطفو .. اكتنفتهم .. لحظات وارتج المكان من حولهم .. الجدران .. الأسقف .. النوافذ .. كل شيء يمضي نحو الأسفل .. ابتلعته تلك الثغرات التي تحولت إلى فوهة عظيمة .. اتسعت واتسعت حتى أهلكت المدينة .. هدأ الوضع لثوان سرعان ما عاد .. ارتج مجددا إثر قوة هائلة تندفع من الأسفل نحو الأعلى بسرعة فائقة .. زوجان من النعام .. لا مست أقدامهم سطح الأرض بينما عانقت رؤوسهم كبد السماء .. تلفتوا حولهم .. بدووا في غاية الرضا فها هم يتعانقون يتداعبون بمناقيرهم الكبيرة .. مضى شيء من الوقت .. توقفوا .. وخبوا بأبصارهم نحو الشمس المشرقة أحاطوا بعدها الأرض تحتهم بظلال أجنحتهم .. نفشوا أبدانهم .. أطلقوا صيحة على إثرها انفجرت كومة هائلة من الريش غشت المكان .. تحلل الريش سريعا ليظهر جملة واحدة .. ذلك العالم الساحر المفقود بأهله بأشجاره بمخلوقاته الغريبة بكل ما فيه ..
أتى الطيف العاشق وبطرفه .. بدد الفقاعة أناخهما فوق فراش داثر تكتنفه ظلة من الشجر الزاهر .. لامس بلطف وجنتها قائلا: لحسن حظها إني قد وقعت في غرامها وإلا .. لما تكبدت عناء إنقاذها .. لو أنك لم تأت لكانت لي ولكنك .. أتيت ولذا .. تنهد طويلا بغصة باستسلام واضح: فهي لك .. ستستفيق عما قريب .. فكن إلى جوارها فلما فعلت سألته: هل نحن في الجنة؟
ــ فابتسم مردفا: نعم .. نحن كذلك .. نوعا ما ..

وجد الأبيض بجل قافلته بمن فيهم أسامة .. على قارعة الطريق قد ندت أرواحهم بعيدا خارج أبدانهم التي .. التهمها الطاعون التهاما ..
ادعى حبا أقسم أن يفترش روحه متكئا لها ..
فلما تواجها معا ..
حبه الذي ادعاه وأنفاسه الغالية التي أقسم بها ..
طاشت الكفة وانتصر الحب الذي لم يكن يوما قد ادعاه ..
حب الحياة بغرورها الزائف ..
إلا أنه كان حبا قاسيا ..
ولى هاربا .. تركه نادما عدد السنين التي مضت على الوقت بين الأجلين الذي أفناه ..
لو أنه استمع لقلبه .. بر بقسمه .. ظل بجوارها ..
لكان أوفى إليه من طول الأمد الذي .. أنصت إليه فأغراه فأفناه ..

استولت كهرمان على الملك وما أن تربعت فوق العرش حتى .. أرسلت العيون للبحث عن أبان وإحضاره حالا ليتخذ مكانه بقربها إلا أنه .. لا أثر ومع هذا فلم تستسلم .. وبعد مضي سنة كاملة تفاجأت صباحا برسالة ملقاة عند طرف شرفتها .. فلما قرأتها وانتهت أرسلت الأمر للمنادي أن ينادي في الناس أن اجتمعوا .. فلما اجتمعوا اعتلت المنبر وألقت كلمتها التي كانت موجهة إلى كندة .. فقد كان شرطه الوحيد الاعتذار منها ورفع التهمة عنها أمام الملأ كي يعود وما أن فعلت حتى .. جاشت مآقيها بالدمع الذي بلل كلماتها التي كانت بحرقة ترتجيه: أبان .. بني .. لقد اشتقت لك؟
ــ تفرق الجمهور ليمر من خلاله ذلك الشاب الذي تقدم بثقة حتى أصبح قبالتها .. مسح دمعها .. قبل جبينها .. خاتم الملك قائلا: وأنا كذلك ..

لم يمض وقت طويل حتى عادت كندة التي كانت قد قضت تلك الفترة في زيارة لأبيها .. كندة التي حظت باستقبال حار من الشعب بترحيب صادق خاص من قبل الملكة التي .. عبرت عن أسفها عن فرحتها البالغة بها حينما .. وضعت تاجها الغالي جانبا حينما .. مشت إليها حافية القدمين وانحنت .. تقبل يدها كاعتذار رسمي منها لم تكمل .. فقد احتضنتها كندة قبل أن تفعل .. بنفس راضية بابتسامة حلوة شافية سألتها: كيف الحال أماه؟

في ذلك اليوم كان أبان مشغولا طوال الوقت ومع هذا .. فقد عاهدها حتما أنه .. سيلاقيها الليلة ولأجلها استعدت .. دهنت بالعسل بالورد برذاذ الريحان .. اغتسلت بماء الندى الممزوج برائحة البابونج وحبات الرمان .. تعطرت .. تهيأت .. تدثرت بملاءتها البيضاء ثم زفت إلى مخدعها الذي بدا .. وكأنها وللمرة الأولى تراه ..
إلى غرفة بيضاء .. إلى الثلوج تهبط من السماء ..
إليها وقد تسمرت في مكانها مشدوهة .. حقيقة ما أراه أم خيال ..
إليه وقد أتاها من الخلف يسترق النظر .. يسرق قبلة أخرى على عجل إلا أنها ..
باغتته وهربت ..
لحق بها محاولا اصطيادها ..
راوغته .. ناوشته ..
ومن خلف عمود إلى آخر ومن زاوية إلى أخرى ..
كاد أن يمسك بها أن تقع بين يديه ..
قفزت فوق سريرها فقفز خلفها ..
حاصرها بذراعيه ..
ولا حدود لناظريها .. سوى ناظريه ..
لم تزل الثلوج على حالها تهبط بانسجام ..
ولم تزل تتأمل بسكون تقاسيم وجهه التي بدت لها وكأنها .. أبيات شعر مرتلة ..
بانتظار كلمة ينطق بها أو حركة يقوم بها ..
تطفئ لهيب شوقها أو لهفة جوارحها تمتم قائلا: ما رأيك؟
ــ إنه حلمي الذي لم أنطق لك به يوما ..
ــ إلا أنه ليس حلما حبيبتي .. هامسا في أذنها: بل حقيقة ..

.." تمت بحمد الله "..



كان هذا هو الفصل الأخير ..
مشوار قصير جميل ذاك الذي .. عشته بصحبتكم في هذا المنتدى الرائع الأكثر من رائع ..
سلمتم لي يالغاليين وشكرا لكم ..
من القلب وتحية ..
خالصة شافية وافية لكم وعلى أمل ..
أن ألقاكم مجددا .. دمتم بحفظ الله ورعايته بل .. بسعادة تغمركم أبد الآبدين ..
هذا وأبشركم فوجهكم خير علي ..
لقد تكرمت (المكتبة العربية للنشر) وبفضل من الله وحده .. بنشر إحدى رواياتي وتدعى (بين قلبين) .. أرجو لها النجاح والتوفيق فلا تنسوها بالدعاء والتشجيع ..
ومع السلامة أحبيتي ..

:sm92::sm92::sm92::sm92::sm92:

Jih 08-11-17 09:01 PM

يعطيكي الف عافية علي رواية مميزه ومختلفة بطابعها اللغوي أتمنى ان نلقاكي في رواية اخري.

Mona1977 09-11-17 12:19 PM

تسلمين يالغالية وما قصرتي ..

سما نور 1 09-11-17 02:19 PM


تم تمييز الرواية لما تحتويه من أفكار ولغة رئعة

وسيتم توزيع وسام التفاعل لكل المتابعين




https://upload.rewity.com/uploads/1506986679621.gif
الف الف الف مبروك غاليتي الختام و التمييز

رواية بديعة تشدك لعالم ثاني و اللغة قوية جدا ..و شكر خاص لاستمرارك و التزامك بالتنزيل رغم كل الظروف

سما نور 1 09-11-17 03:17 PM

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 18 ( الأعضاء 5 والزوار 13)
‏سما نور 1*, ‏زبيده جحيم, ‏خوخ و شهد, ‏م ام زياد, ‏chanson

سمية ميتو 09-11-17 10:35 PM

جميل جدا اسلوبك في البداية احسست بالغرابة لكن سرعانما اندمجت مع احداث القصة
الملك ما حبيته .... مش مرتاحتله أبدا

سمية ميتو 09-11-17 11:15 PM

روووعة
تسلم ايدك على الفصل المليئ بالأحداث

Mona1977 10-11-17 12:25 PM

شكرا لكم عزيزاتي وربي ما يحرمني منكم ..
أنتم الوسام الحقيقي وسعادتي هي ردودكم تلك التي تثلج صدري ..
شاكرة لكم من القلب مليون مرة يا مميزات يا مبدعات بحق ..

سمية ميتو 10-11-17 07:11 PM

خلصت الرواية من دقائق فعلا رووووووووعة
كتابة واسلوب وأفكار مميزة وفريدة من نوعها لم اقرا مثلها من قبل
تذكرني فصاحتك فحكايا ألف ليلة وليلة

ألف مبروك الك على تميز الرواية ومبروك نشر روايتك * بين قلبين* أتمنالك دوام النجاح والتوفيق ونقرالك المزيد ن الابداع ان شاء الله


الساعة الآن 05:29 PM

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.