آخر 10 مشاركات
غمد السحاب *مكتملة* (الكاتـب : Aurora - )           »          لك بكل الحب (5) "رواية شرقية" بقلم: athenadelta *مميزة* ((كاملة)) (الكاتـب : athenadelta - )           »          287 - كذبة العاشق - كاتي ويليامز (الكاتـب : عنووود - )           »          284 - أنت الثمن - هيلين بيانش _ حلوة قوى قوى (الكاتـب : سماالياقوت - )           »          275 - قصر النار - إيما دارسي (الكاتـب : عنووود - )           »          269 - قطار النسيان - آن ميثر (الكاتـب : عنووود - )           »          263 - بيني وبينك - لوسي غوردون (الكاتـب : PEPOO - )           »          التقينـا فأشــرق الفـــؤاد *سلسلة إشراقة الفؤاد* مميزة ومكتملة * (الكاتـب : سما صافية - )           »          الإغراء الممنوع (171) للكاتبة Jennie Lucas الجزء 1 سلسلة إغراء فالكونيرى..كاملة+روابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          غيوم البعاد (2)__ سلسلة إشراقة الفؤاد (الكاتـب : سما صافية - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة ضمن سلاسل (وحي الاعضاء)

Like Tree5716Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 19-07-20, 02:01 PM   #591

هبه شناوي

? العضوٌ??? » 474939
?  التسِجيلٌ » Jul 2020
? مشَارَ?اتْي » 474
?  نُقآطِيْ » هبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond repute
افتراضي






هبه شناوي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 19-07-20, 07:42 PM   #592

وعد ومكتوب

? العضوٌ??? » 358750
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 260
?  نُقآطِيْ » وعد ومكتوب is on a distinguished road
افتراضي



وعد ومكتوب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 19-07-20, 07:44 PM   #593

وعد ومكتوب

? العضوٌ??? » 358750
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 260
?  نُقآطِيْ » وعد ومكتوب is on a distinguished road
افتراضي



وعد ومكتوب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-07-20, 12:53 PM   #594

نرمين نحمدالله

كاتبة في منتدى قلوب أحلام وفي قصص من وحي الاعضاء ، ملهمة كلاكيت ثاني مرة


? العضوٌ??? » 365929
?  التسِجيلٌ » Feb 2016
? مشَارَ?اتْي » 2,008
?  نُقآطِيْ » نرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond repute
افتراضي

سلامٌ عليكم ..طبتم ..
موعدنا اليوم باذن الله مع الفصلين الثامن والتاسع ..
مع اعتذار عن فصل الخميس القادم باذن الله ..
كل عام وانتم بخير ..
دمتم صحبة دنيا وجنة ..


نرمين نحمدالله غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-07-20, 09:14 PM   #595

ميمو٧٧

? العضوٌ??? » 416015
?  التسِجيلٌ » Jan 2018
? مشَارَ?اتْي » 700
?  نُقآطِيْ » ميمو٧٧ is on a distinguished road
افتراضي

بانتظارك يا جميل و تسلم ايدك مقدما

ميمو٧٧ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-07-20, 10:04 PM   #596

نرمين نحمدالله

كاتبة في منتدى قلوب أحلام وفي قصص من وحي الاعضاء ، ملهمة كلاكيت ثاني مرة


? العضوٌ??? » 365929
?  التسِجيلٌ » Feb 2016
? مشَارَ?اتْي » 2,008
?  نُقآطِيْ » نرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond repute
افتراضي

سيتم تنزيل الفصل الثامن الان ويليه التاسع بعد قليل

نرمين نحمدالله غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-07-20, 10:09 PM   #597

نرمين نحمدالله

كاتبة في منتدى قلوب أحلام وفي قصص من وحي الاعضاء ، ملهمة كلاكيت ثاني مرة


? العضوٌ??? » 365929
?  التسِجيلٌ » Feb 2016
? مشَارَ?اتْي » 2,008
?  نُقآطِيْ » نرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond repute
افتراضي

الطيف الثامن
=====
*برتقالي*
=====
_حمداً لله على سلامتك !
تهتف بها حسناء بودّ مرح وهي ترى طيف تفتح عينيها لتدور الأخيرة ببصرها في المكان محاولةً فهم ما حدث بينما حسناء مستمرة في ثرثرتها :
_لم أركِ منذ زمن طويل ..لكن زهرة لا تكف عن الحديث عنكِ ! تعلمين أنها عادت إلى مصر لتتزوج جهاد ؟! أسطورة "النحس" خاصتنا تنهدم ..لم يبقَ في شلتنا سواي أنا وأنتِ!

تقولها بشقاوتها المعهودة وهي تتذكر تلك الصدفة الغريبة التي جمعت الستة هنا في "أبو ظبي" منذ ما يزيد عن الثلاث سنوات ..
حسناء ،زهرة ،طيف ،دعاء،ماسة، جنة (أيام كانت مريم !)!

_كلهن عُدن إلى الوطن برجل يملأ العين ..العقبى لنا!
تهتف بها حسناء وهي ترفع كفيها في وضع الدعاء لترد طيف بفظاظتها المعهودة التي غلبت وهن صوتها :
_اخرسي! عودي أنتِ برجل أو حتى خنفساء لكن لا شأن لكِ بي! فليذهب رجال العالم كلهم للجحيم !
تضحك حسناء ضحكة عالية وهي تعدل لها وضع وسادتها لتساعدها في النهوض هاتفة بمكر :
_صحيح؟! لم أصدق أذني عندما أخبرتني زميلتي في مكتب الاستقبال أن طيف الصالح وصلت المشفى محمولة بين ذراعي رجل!

_ماذا؟!
صرختها الحادة تجفل حسناء للحظة قبل أن تنفجر ضاحكة من مظهرها بينما تكون طيف في وادٍ آخر تحاول تذكر ما كان قبل سقوطها ..ولاتزال حسناء مستمرة في ثرثرتها :
_وليس أي رجل! صاروخ أرض جو! زلزال بقوة خمسين ريختر ..بل مائة ريختر..أوه ! قلبي!

_اخرسي! اخرسي! أي مصيبة ألقت بك في طريقي اليوم ؟! هل عدم المشفى ممرضاته لتكوني أنتِ قدري؟!
تهتف بها طيف بحدة ساخطة فتتمالك حسناء ضحكتها وهي تطمئن لوضع المحلول الذي يسري عبر عروق صاحبتها المستلقية بوهن يناقض كل هذه الفظاظة التي تنضح منها ..

_العفو! لا شكر على واجب ! نحن صديقتان!
تهتف بها حسناء مغيظة إياها وحاجباها يتراقصان بمشاكسة لتهتف طيف بوجه مشتعل:
_اذهبي من وجهي..شياطين الدنيا كلها تتراقص في عيني الآن!
_صحيح؟! فلنستدعِ إذن الملاك الذي سيصرفهم !
تقولها حسناء بهيام مصطنع وهي تضم كفيها نحو صدرها لتعاود الضحك وهي تسمع سيل السباب الذي غادر فم طيف كطلقات مدفع رشاش ..
تتراجع بظهرها نحو الباب الذي فتحته لتخرج وتغلقه خلفها مع ضحكاتها الماكرة ..

فيما تغطي طيف فمها بكفها وهي تكاد تنفجر غيظاً ..وخجلاً!
هو حملها بين ذراعيه !!
ماذا عساه يظن فيها الآن؟!
في بلدتها بالصعيد كانوا يعدون مرض المرأة عيباً يعيرونها به !
هي بالذات كبرت وهي ترى أمها تعتبر مرضها فضيحة تخفيها كي لا يحرمونها من العمل في البيوت !
كبرت وهي تراها دوماً تدعي العافية ..حتى كان ذاك اليوم الذي سمحت لنفسها فيه بالسقوط تعباً ..فلم تقم بعده أبداً!!
"الدمع العزيز" يتكدس في عينيها وهي تتذكر يوم وفاة أمها ..
وقوفها هي ذاهلة شاخصة البصر وقد أدركت لأول مرة في حياتها معنى أن تواجه سهام النصيب وحدها ..دون درع يقي أو ظهرٍ يحمي !
لهذا تهاب المرض ..ربما بأكثر مما تهاب الموت!!

_ادخل!
تهتف بها بصوت مبحوح وهي تمسح عينيها بسرعة مع سماعها لصوت الطرقات الخافتة على الباب لتجدها خادمة مجد !

_صرتِ بخير؟!
تقولها ب"عربيتها الكسيرة" فتتنحنح طيف بخشونة وهي تشير لها بكفها أن تقترب ..
ولم تكد الخادمة تجاور فراشها حتى ازدردت هي ريقها لتسألها بتوجس:
_ما الذي حدث لي بالضبط بعدما فقدت وعيي ؟!
تهم الخادمة بالتحدث لتقاطعها طيف بصرامتها وهي تلوح بسبابتها في وجهها:
_بالتفصيل!

تبتسم لها الخادمة وهي تجيبها:
_لقد فوجئنا بكِ تسقطين ..مجد كانت تصرخ بهلع ..والسامييحيى كان قلقاً للغاية ..لما فشلت محاولاته في إفاقتك حملكِ هنا للمشفى ..السامييحيى كان قلقاً للغاية ومجد ألحت بإصرار أن تصطحبه ..السامييحيى كان قلقاً للغاية لكنهم هنا يؤكدون أن الأمر لا يستحق القلق!

"السامييحيى كان قلقاً للغاية" !
هل كانت الخادمة من تكررها وسط كلماتها عفوياً ؟!
أم أن عقلها هو ما كان يستحضرها جلية بين كل فكرة وأخرى!!
لماذا كان قلقاً؟!
هل هو خوفه من مسئوليته عنها وهو يقف بابنته أمام بيتها؟!
أم هو خوفه على مجد نفسها من أن تتأثر بمصابها هي مع قوة العلاقة المستحدثة بينهما ؟!
أم ..ماذا ؟! ماذا ؟!ماذا ؟!
لا تفسير آخر يا طيف !! لا تبيعي رأسك لمزيد من التخاريف!!

الخاطر الأخير تنهر به نفسها مانعةً إياها من الانجراف لهذا الشعور "اللذيذ" الذي يجتاحها الآن بضراوة ..
خفقات قلبها تعزف أكثر الألحان صخباً وهي تتخيل مشهدها بين ذراعيه ..
_خرب بيتك! خرب بيتك! خرب بيتك!!
لا تدري كم مرة همست بها سراً وهي تغطي وجهها براحتها فلا تعلم هل تخفي ضعفها ..خجلها ..أم هذا الشعور الذي يكتسحها كشمس عنيدة تأبى إلا أن تتم نورها ولو كره الظلام!!
تنتفض مكانها فجأة وهي تسمع صوت الطرقات من جديد على الباب مع هتاف الخادمة :
_ مجد المسكينة تكاد تموت رعباً !!السامييحيى يستأذنك في الدخول معها!

_يستأذن في الدخول ؟! لم أرَ في حسن أخلاقه !
تهتف بها لنفسها بسخط وهي تشعر بأن لسانها قد التصق بسقف حلقها ..
ترى الباب يفتح ليدخل هو منه فتتعلق عيناها بنظرته ..
عيناه "ذاتا القضبان" لا تزالان على عهد غموضهما المغيظ ..
وإن تفلتت بعض مشاعرهما من الحبس!
قلقٌ حقيقي فيهما تشربته روحها العطشى لمثل هذا الاهتمام منذ زمن بعيد !!
وبالذات من رجل بحنانه !!
حنانه الذي فاض في صوته وهو يخاطب مجد بقوله :
_لا تخافي "حبيبة بابا"! كل شيء على ما يرام ..ها هي ذي بصحة جيدة توشك أن تتقافز كالقرد !!
_من هذه القرد؟!
تهتف بها بحدة فيكتم ابتسامته وهو يرفع إليها عينيه الغامضتين جداً ..الدافئتين جداً ..والخطيرتين جداً جداً ..

هذا الذي استفزها لتهتف بحدة والصداع اللعين يكاد يفتك برأسها فتغفل عن وجود مجد :
_كيف تسمح لنفسك أن تحملني؟! كنت من بقية أهلي؟!
فيرتفع حاجباه بدهشة ثم ينعقدان بغضب يناسب قوله :
_كنتِ تفضلين أن أترككِ حتى تتعفني ساقطة أمام الباب ؟!
_أتعفن ؟! قلت أتعفن؟! اخرج ..اخرج من هنا ..
تهتف بها بحدة ساخطة وهي تلوح له بكفها فيكز على أسنانه بقوة وهو يهم بالخروج لكن مجد تتشبث بكفه بقوة وهي تخاطبها هي بقولها الذي اختنق بدموعه :
_خفتُ عليكِ!

تغمض طيف عينيها بقوة وهي لا تدري أيهم أشد فتكاً عليها الآن ..
صداع رأسها ؟!
رهبة خجلها وخوفها من ذاك المجهول الذي يكتسح مدينتها كإعصار؟!
أم دفء شعورها بهذه العاطفة البريئة التي تمطرها بها مجد ..
مجد التي تحركت بكرسيها نحوها ليتبعها يحيى مضطراً وهو يطرق بوجهه بنفس الغضب ..
لمسة مجد لكفها تكاد تصعقها وهي تتذكر أنها منذ ثوانٍ فقط كانت تمس كفه هو !!
فتنتفض مكانها بحدة وهي تشعر بكل هذا الذي يحدث يكاد يفقدها صوابها ..
فليعيدوها لصومعتها !!
لعزلتها خلف شاشتها حيث تجيد الاختباء والتخطيط قبل الكلام أو حتى تختار عدم الرد !!

_أنا بخير!
تغمغم بها كاذبة وهي ترفع كف الصغيرة نحو فمها لتقبله برقة تناقض فظاظة لهجتها المعهودة .

_كيف حالكِ الآن ؟! "عيني عليكِ باردة"!
كانت هذه حسناء التي دخلت الغرفة لتوها لتنقل بصرها بين يحيى وطيف التي كادت تقتلها بنظراتها لكنها لم تكترث وهي تقترب منها مبتسمة لتنتزع إبرة "الكانيولا" من كفها ثم تطهر مكانها هاتفة بخبث:
_لا بأس! هو هكذا "يدوّخ"!
_ما هو ؟!
تهتف بها طيف بحدة وهي تكاد تأكلها بنظراتها لترد حسناء ببراءة مصطنعة :
_الهيموجلوبين! نقصه يسبب الدوخة ! لكن لا تخافي ..علاجنا عالٍ ..عالٍ ..عالٍ!
ترمقها طيف بنظرة نارية وهي تود لو كان يمكنها أن تقفز مكانها فتلكم هذه المتظارفة في أنفها ..

_مساء الأنوار!
الهتاف عند الباب -بصوت نزار الذي قدم لتوه- يجعل طيف تطلق زفرة ساخطة مع تمتمها المستنكرة :
_الحظيرة كان ينقصها المزيد من الغنم !!

_سلامتك ! ألف سلامة !
يقولها بلهجته العابثة مفرطة الود فترمقه طيف بهذه النظرة السمجة فيما تتعلق عيناه هو بحسناء التي تفحصته بدورها ..

_أستاذة طيف! اسمحي لي أن أعترف! كنت أظن أن حظك في الخادمات رائع ..حتى رأيت حظك في الممرضات !
يهتف بها نزار بنفس النبرة فتخبط طيف رأسها في ظهر فراشها بسخط وهي ترفع عينيها لأعلى فيما تبتسم حسناء بدلال بينما هو يردف بنفس النبرة العابثة :
_ناريّ يا "أفندم"! ناريّ!!

تتصنع حسناء الضيق وهي تعبس بملامحها لتخاطب طيف بسؤالها :
_تحتاجين شيئاً؟!
ترمقها طيف بنظرة نارية فتكتم ابتسامتها وهي تخرج من الغرفة متجاهلة نظرات نزار التي تبعتها بتفحص ..
_تريدين بعض المثلجات يا "مجد"؟!
_مثلجات هنا في المشفى؟!
يسأله يحيى باستنكار ضائق ليغمزه بقوله :
_نسأل ! ومن يسأل لا يتوه !!

يقولها وهو يكتنف كرسي مجد بقبضتيه ليتحرك بها خارج الغرفة ومعهما خادمتها فينعقد حاجبا طيف بترقب وهي تتوقع أن يتبعه يحيى ..
لكنها تفاجأ به يقترب منها بخطواته الثقيلة ليجلس على الكرسي جوار فراشها ..
تتعلق عينيها بعينيه رغماً عنها وهي تشعر بهوّة نظراته تسحبها لقاعها من جديد ..
قبل أن ينحني هو بجذعه مستنداً بمرفقيه على ركبتيه لتتناقص المسافة بين وجهيهما ..بل وروحيهما!!
خفقات قلبها تعزف لحناً صاخباً يرسم الفراشات في حنايا روحها ..
لكن فظاظتها تخذلها كعهدها وهي تجد نفسها تهتف به بغلظة :
_ماذا تريد ؟!

نظراته لم تحد عنها بهذه القوة التي تثير رهبتها ..خجلها ..وما هو أكثر!
لتأتيها كلماته بعدها فتقذفها في بئر ماضي الوجع من جديد :
_اضطررت لأخذ بطاقتك من حقيبتك قبل دخولنا إلى هنا ..شعرت ببعض الدهشة من الاسم المكتوب فيها ..طيف الصالح ليس اسمك في الأوراق الرسمية .

_أنا اخترته ..كما اخترت كل ما أمكنني اختياره في حياتي ..ونجحت !
يشعر بغصة قوية في حلقه تتملكه وهو يسمعها تتحدث بهذه الطريقة بين عنفوان ومرارة ..
يتذكر جرأتها ذاك اليوم في الندوة وهي تصرح أمام الجميع أنها ليست ابنة شرعية ..
لا يدري هل يصفها بالجرأة أم الحماقة ..
لكن ما يثق به الآن أن روحه ترفع لها قبعة احترام!
خاصة وهي تستطرد بقوة هو خير من يدرك الآن أنها قناع روحها الهشة :
_هم منحوني اسماً صورياً في بطاقة هويتي ..وأخي عرض عليّ أن يعترف بي لأحمل اسم أبي الحقيقي ..لكنني ترفعت عن هذا وذاك ..أنا طيف الصالح ..صلح اسمي وصلحت سيرتي وصلح عملي ..ولن أسمح لكل هذا بعِوج !

يتهدج صوتها في عبارتها الأخيرة فيدرك كم تتكلف من تماسك لتنطق مثل هذه الكلمات ..
بينما كانت هي تشعر هي بالضيق من نفسها ..
لماذا صرحت له عن رغبة أخيها بدعمها ؟!
هل هي محاولتها لتجميل ما تشوه من وجهها ؟!
هل هي رغبتها في الظهور أفضل أمامه ؟!
أم هو شعورها أنه ليس بعيداً إلى هذا الحد ..أنها تريده أقرب!!
تباً له من رجل ! بل تباً لها هي ولخيالاتها المريضة به !!

_آسف!
تنفرج شفتاها بذهول واعتذاره يصلها قوياً مثله ..ومنهَكاً مثلها !!
لم يقلها مطرق الرأس أو زائغ النظرات بل زرعها صريحة في حدقتيها بعنفوان يليق بكليهما !

_آسف لما قلته يوم الندوة بشأن ظروف تعليمك ..آسف لأنني جعلتكِ وقتها تبوحين بما تكرهين ..وآسفٌ أكثر لأن اعتذاري هذا قد تأخر!
تفتح عينيها قدر استطاعتها وهي تتمنى لو ينبت لها في هذه اللحظة جناحان يلاحقان فيض حروفه هذه فلا ينفلت منها لها أثر ..أي أثر!!

بينما يبدو هو وكأنما أزاح حملاً ثقيلاً عن كاهله ..ووضع آخر!!
ينهض من مكانه ولاتزال عيناه "ذاتا القضبان" تطوقها بهذه النظرة الآسرة ..
بينما يبدو له "سديم" عينيها أكثر ضبابية ..أكثر لمعاناً ..أكثر تيهاً !

_سأنتظر بالخارج حتى يمكنكِ المغادرة كي أقلّكِ للبيت .
يقولها بهذه الحمية الرجولية التي "تهدهد" هذه الطفلة و"تدغدغ" هذه المراهقة و"تدلل" هذه الأنثى ..كلهن داخلها !!

لكن طبيعتها تلجم لسانها فلا تقوى حتى على شكر !
تراقب ظهره المنصرف وقلبها يقرع صدرها بمطارق من نار ..
هذا الشعور داخلها الآن كيف تصفه ؟!
يحسدونها على موهبة الكتابة والآن تدرك كم هي فقيرةٌ الحروف حين تقف في مواجهة سلطان العاطفة فتجثو على ركبتيها صاغرة !!

لا تدري كيف مرت بها الدقائق التالية ..كيف ودعتها حسناء بنظراتها الماكرة ..كيف تشبث بها كف مجد بقوة من يخشى الفقد ..كيف استقلت السيارة التي كان يقودها هو لتتلاقى عيونهما عبر المرآة الأمامية بينما تحتل هي المقعد الخلفي جوار مجد ..
ليبدو كلاهما في هذه اللحظة كنمرين يدور كل منهما حول صاحبه بتوجس في برد ليل قارص..كلاهما يخشى مخالب صاحبه إنما يرجو دفء قربه !!

تنبعث هذه الألحان من مشغل الموسيقا بسيارته بهذا اللحن لموال عراقي لكلمات لم تفهم معظمها إنما أحست هذا الشجن المنبعث فيها مع ذكر الغربة وفراق الأحباب ..
ترى ما حكايتك أيها "اليحيى العراقي" ؟!
وأي أنثى سممت دم الحب في عروقك فلم تذر بعدها لسواها مكاناً ؟!

تنقطع أفكارها والسيارة تصل بهم أخيراً للبيت فتترجل منها بتماسك قبل أن يتخذوا رحلة الصعود ..

_يمكنني أن أبيت معكِ الليلة ! كي أطمئن !
تهتف بها مجد بإلحاح فترفض هي بإصرار هاتفة :
_صرت بخير ..لا تخافي .
_يمكنني أن أبيت أنا معكِ !
تهتف بها خادمة مجد لكن طيف تهتف بفظاظتها المعهودة :
_ليست حفلة هي! قلت أنني صرت بخير ! طوال هذا العمر أعيش وحدي ولا أحتاج أن يبيت أحدهم معي!

يطلق نزار ضحكة مستمتعة يكتمها إزاء نظرتها الصاعقة التي حدجته بها ..
بينما يرمقها يحيى بنفس النظرة العجيبة التي تتجاهلها وهي تنحني لتقبّل مجد قبل أن تدخل شقتها لتصفق بابها بعنف!

_المادة الخام ل"قلة الذوق"دون أي إضافات!
يقولها نزار بخفوت وهو يميل على أذن يحيى ثم يزم شفتيه ببعض الاستياء قبل أن تعود له ضحكته باستطراده :
_ولو أنني لا أنكر أن مجرد مشاهدتها متعة توازي متعة متابعة "ناشيونال جيوجرافيك" مثلاً !
_زعطوط!
يلكزه بها يحيى في خاصرته بينما يغلق باب شقتهم خلفهم فتهتف به مجد بقلق:
_هي ستكون بخير "بابا"؟!
تغيم عيناه بنظرة غريبة قبل أن ينحني على ركبتيه أمامها ليقول بجدية لم يفارقها حنانه المعهود :
_لا تخافي حبيبة "بابا"! هي ستكون بخير ..إنما أريدكِ أن تتعلمي شيئاً ..لا تسرفي في التعلق بأي شخص ..لأن هذا ما يجعلنا نتألم .
_حبي لها لا يؤلمني.
_لكن فراقها سيؤلمك .
يقولها بحسم تسربت عبره مرارة طاغية جعلت نزار يتدخل بمرحه المعهود :
_من "ناشيونال جيوجرافيك" ل"روتانا دراما" ! يالحظّي!
يرفع إليه يحيى عينيه بنظرة استياء فيردف بتهكم:
_دع لي ميجو وادخل أنت غرفتك بأفكارك السوداوية هذه ! ابحث لك عن صَدَفة لتلوّنها بالأسود أو عن فأر لتخنقه أو عن قارورة لتكسرها ..أخبرك بالأفضل؟! اشنق نفسك برابطة عنقك !

وفي مكانها بغرفتها تستلقي طيف على فراشها مغمضةً عينيها ..
أناملها تتلمس ذراعها الذي مسّه هو يوماً قبل أن تتحسس ما طالته من جسدها ..
هو حملها !
حملها كما يفعل بمجد !!
نظرة القلق الحاني في عينيه كانت لها هي هذه المرة !!
هو اعتذر!!
ليس ذاك الاعتذار البارد المتعجرف إنما هذا الدافئ الوجِل!!
لأول مرة منذ زمن بعيد ..بعيد جداً ..
تجرب معنى أن يعتني بها أحدهم !!
أن يحمل مسئوليتها !!
أن تركن بظهر "أنوثتها" الواهن إلى جدار "رجولة" صلب فلا يسقط بها !!
لم تشكره !!
لسانها العصيّ أبى إنما كل جوارحها استجابت ..فاضت شكراً وامتناناً و...
وما هو أكثر!!

_لا لا لا ! أنتِ صرتِ خطرة على نفسك ! ما جو "المراهقة المتأخرة" هذا؟!
تهتف بها لنفسها بسخط وهي تفتح حاسوبها المحمول ..
حيث عالمها "الآمن" الذي يمكنها فيه الاختباء فلا تؤذي ولا تؤذَى!
لكن هاهو ذا يخترق عالمها الآمن كذلك !!
رسالته على حسابها المجهول منذ ساعات ..

(صباح الخير يا صديقي ..كيف أنت اليوم؟)
تزفر زفرة مشحونة وهي تراه قد أرفق سؤاله برابط لمباراة كرة قدم لإحدى الفرق التي كذبت بزعمها له أنها تتابعها كي تقنعه بعالمها الذكوري!

_كانت مباراة رائعة !
تكتبها له ليتأخر رده قليلاً قبل أن يصلها :
_لا أحب الكرة ..لكنني تذكرتك عندما رأيت رابط المباراة .
_ماذا تحب إذن ؟!
تكتبها له بسرعة وهي تشعر بالترقب ..
لكن رده يتأخر هذه المرة أيضاً ..يتأخر كثيراً حتى تظنه لن يرد ..
فتعاود إلقاء حجر جديد في المياه الراكدة :
_رجلٌ بأفكارك يبدو وكأنه عانى كثيراً وتعلّم الأكثر ..دعني أتعرف عليك أكثر !
_لا تقترب كثيراً يا صديقي ..كلنا في البُعد نبدو أفضل!

ينعقد حاجباها أخيراً بقوة مع رده الذي تكاد تسمعه مفعماٌ بمرارته ..
أي جرحٍ أوجعه لهذا الحد الذي كره لأجله كل النساء؟!
أي حياة يعيشها في غربته عن وطنه وأهله ؟!
وهل اختار هذا أم أجبر عليه ؟!
كان من المفترض أن تشعر بالضيق من كل هذا الغموض الذي يصر أن يحيط نفسه به ..
لكنها الآن كانت تغوص غوصاً في ملامحه التي استحضرتها ..
في وجهه الذي رسمته مخيلتها ..
تراه يقترب ..يقترب ..فيرتفع معه ذراعاها لتضمه بحنوّ لصدرها!!
ربما هي المرة الأولى التي تتخيل فيها نفسها تعطي الحنان ..لا تطلبه !!
=====
*أخضر*
=====
_وفي نهاية الحلقة أشكر كل الرسائل التي وصلتني على الإيميل وصفحة البرنامج تطمئن على سلامتي ..وسلامة (خطيبي)!
ابتسامتها المرتجفة تشبه أناملها التي كانت تتشبث بوشاحها الأخضر الذي صار أيقونتها منذ زمن بعيد ..كأنما تطارد هاهنا ما بقي من "قدس كمالها"!!
تدمع عيناها مع ضحكة مصطنعة نجحت في غرضها وهي تختم الحلقة بقولها :
_كانت معكم عزة الأنصاري ..برنامج (أكلتين وعافية)!

_شاحبة ..مصطنعة ..مذبذبة !!
يهتف بها مخرج برنامجها باستياء وهو يتوجه نحوها بعد انتهاء الحلقة لتأخذ نفساً عميقاً وهي تشيح بوجهها بينما يقترب هو أكثر ليزفر بسخط وهو ينتحي بها جانباً ليردف بنبرته العملية :
_أعرف ما يدور الآن ببالك ..أنا أعبر عن رأيي في آدائك بصراحة ولا أعاقبك لأنكِ رفضتِ عرضي بالزواج مقابل عرض خطيبك ..لأنني ببساطة أفهم سبب قبولك !
_ماذا تقصد ؟!
تهتف بها بحدة وهي ترفع إليه عينين دامعتين غضباً ويأساً !
_ليس هناك أي مبرر يدفع امرأة مثلك للزواج من رجل مثله إلا شعور الشفقة ! يمكنني تقدير هذا بل والرثاء لكِ ..لا أعرف ما الذي كان يمكنني فعله لو كنت مكانك ..لهذا لا أدري هل أصفكِ بالبطولة أم بالحماقة ..لكن دعينا نتجاوز أمورنا الشخصية لنكتفي بالعمل ..آداؤكِ لم يعد كالسابق ..ولولا اهتمام المتابعين المتعاطف معك بعد الحادث لسقطت نسبة مشاهدات البرنامج حد الفشل !

يقولها بنفس النبرة العملية التي تكاد تكون خالية من المشاعر ..
ألف رد يولد ويموت على شفتيها في نفس اللحظة !!
هو محق ..
بل هو مخطئ!!
تباً لهوّة "المنتصف" السحيقة التي تزل فيها قدمها أكثر وأكثر!!

_شركة (...)صاحبة الماركة الشهيرة لزيت الزيتون تطلب أن تكوني واجهتها الإعلانية ..أعرف أنكِ ترفضين هذه الأمور لكن الآن الوضع مختلف ..أنصحك كصديق ..أسهمك في هبوط ! تحتاجين انتعاشة !
تهز رأسها لأول وهلة رافضة العرض كالعادة ..قديماً كانت لا تحب التورط في مثل هذه الإعلانات رغم مكسبها الوافر..كانت تراها تقييداً لروحها التي أرادتها حرة ..
لكن الآن ..!!
تنازل خلف تنازل !!
لا بأس من المزيد من التنازلات !!
لهذا كان مشهدها هزلياً ورأسها يهتز برفض بينما لسانها يبدو وكأنه ذو إرادة حرة :
_موافقة!
ربما لهذا كان لنظرته المشفقة نحوها ما يبررها وهو يصمت طويلاً متفحصاً ملامحها الشاردة ..كأنها لا تزال تعيش صدمة إنكارها ..
_عزة! أنتِ لستِ بخير ..بعيداً عن علاقة العمل التي تجمعنا اسمحي لي بنصيحة ..موافقتك على هذه الخطبة بدافع الشفقة ظلم لنفسك وله هو قبلك ..
_لن يعرف ..لن يعرف أبداً ..لن يعرف..
تتمتم بها بخفوت ذاهل وعبراتها تسيل دون وعي على وجنتيها فيعقد حاجبيه عاجزاً عن سماع ما تقول وقد بدت له في هذه اللحظة كالمخابيل ..
خاصة وهي تغتصب ابتسامة واسعة تناقض خط دموعها الرفيع هذا بينما تتناول هاتفها من الجوار لتفتح له الصور ..

_انظر! انظر كم هو سعيد !! راضٍ!! متقبل لمصابه بهذه الروح التي طالما عهدتها فيه !! "الفاجومي" لا يبالي برأي الناس ! متصالح مع كل عيوبه ولا يعرف كيف يعبس في وجه الدنيا حتى ولو أصابه وجعها !! تراه كيف يضحك ؟! تراه ؟!

يرتعش صوتها في كلماتها الأخيرة التي امتزجت بشهقات بكائها المكتوم ليطرق برأسه دون رد بينما هي تستطرد بنفس الشرود الذاهل:
_أي ثمن زهيد أمام ضحكة رضاه هذه ! أي تنازل سأقبله !

_وهل يصلح الزواج بالتنازلات؟! أنتِ بالذات ظننتكِ لن تكرريها أبداً!!
كلماته تسكب الملح فوق جرحها الطازج فتتراجع عنه بظهرها كأنها تهرب من حقيقتها في عينيه !!
تتوجه نحو غرفتها بخطوات شبه راكضة لتتناول حقيبتها ..
تعلم أن بكاءها قد أفسد زينتها وأنها الآن أشبه بدمية ملطخة خاصةً أنها تستخدم الكثير من مساحيق التجميل الآن كي تخفي ما تبقى من أثر كدمات تلك الليلة الكارثية ..
تعلم أن دموعها تركت بقعها فوق "وشاحها المقدس" ..
تعلم أنها في طريقها الآن للخروج حيث ستتلقفها نظرات الناس ..
لكن ..لا بأس ..لا بأس!
تنازلٌ خلف تنازل!!

تستقل سيارتها لتغطي عينيها بنظارة شمس كبيرة ..
ساعتها ذات الماركة الشهيرة كانت قد سقطت منها بالأمس لينكسر زجاجها لكنها بقيت ترتديها هكذا ..
ترى السائس يمسح لها زجاج سيارتها بإهمال بهذه الفوطة المتسخة فلا تعنفه كالعادة ..
تسمع رنين هاتفها برقم ضابط الشرطة الذي يتابع التحقيق بشأن ذاك البلطجي :
_لم نتوصل لشيء! واثقة أنكِ لا تعرفين هوية من هاجمك ؟! سنضطر لتقييد الحادث ضد مجهول!

_لا ..لا أعرفه !!
بالكاد تلفظها مع خيط الدموع الرفيع الذي يتدفق متجدداً فوق خديها ..
لن تقول شيئاً ! لن تتهم أحداً !!بل إنها طلبت من إيهاب أن يؤازرها في هذا فاستجاب!
هل هو خوفها من ذاك المجرم ؟!
أم هو خوفها من أن يتحدث الناس أنها كانت مخطوبة لبلطجي يلاحقها شقيقه؟!
الناس!! هل عاد هناك ما تتركه لكلام الناس؟!
هاهي ذي لا تزال تهوي في بحر التنازلات !!

اتصالٌ آخر يجعلها تمسح خيط دموعها وهي تفتحه لتهتف بتماسك مصطنع:
_أنا بخير يا رؤى! لا ..لن أرد على هيام ..ولو ضغطتم عليّ فسأحظر رقمك أنتِ الأخرى ..اطمئني ..اطمئنوا جميعاً ..أخبريها أنني في طريقي للزواج كما كانت ترغب لأكون في كنف رجل يحميني ..فقط عندما يستعيد المزيد من عافيته !

تلقيها متتابعة دون فواصل كواجب ثقيل تزيحه من على كتفيها لكنها تفاجأ بالصوت الرجولي الخشن :
_أنا راغب يا عزة!

الصوت المألوف يلهب صدرها بسياط الذكرى ..
يدفعها لأن تهوي وتهوي أكثر ..
تتذكر قبلته اليتيمة لها ليلة زفافهما ..تتذكر قميصها الأبيض الذي بقيت تنتظره به في غرفتهما بينما كان هو قد فر ليلحق بامرأة قلبه ..
تتذكر اعترافه الذي سمعته لرؤى في المشفى أنه لن يظلمها وإن بقيت وزراً ثقيلاً على كاهله ..
تتذكر زيجة مع إيقاف التنفيذ لن تنسى مرارتها ما عاشت !!

_أنا حاولت اللحاق بذاك الوغد كي آخذ حقك لكن الجبان سافر وفرّ بفعلته ! لماذا لم تخبري الشرطة بحقيقته ؟!
_لا تتدخل في الأمر ! لم أعد تلك الضعيفة التي تبحث عن ركن تأوي إليه ..تلك التي تزوجتها أنت يوماً بدافع المروءة والشهامة ..الآن صرت أستطيع تولي أموري وحدي .
تتحدث ببرود آلي يناقض هذا السيل من الدموع الذي أغرق وجهها وهي تغلق الاتصال دون انتظار رده ..
تستند بوجهها على مقود السيارة وهي تخلع نظارتها لتحاول استجماع قوتها قبل أن تذهب في رحلتها اليومية لبيت إيهاب حيث تطمئن على آدائه لبرنامج إعادة التأهيل البدني الضروري له بعد الحادث ..
هذا الذي خضع له بعد أيام قليلة من الجراحة بدايةً ببعض التمارين البسيطة التي يمكنه بها الاستلقاء أو الجلوس ..مروراً بتشجيعه على التحرك باستخدام كرسي متحرك ..تمهيداٌ لاستخدام طرف اصطناعي في الأسابيع القادمة .

ترفع رأسها أخيراً لتعاود ارتداء نظارتها فتصطدم عيناها بمظهرها الرهيب في مرآة السيارة ..
هل هذه أنا ؟!

لا تريد الانخراط في مأساة جواب السؤال !
المزيد من الهويّ في بحر تنازلات تراه يبتلعها أكثر وأكثر!!

تتحرك بسيارتها نحو بيته ..تتوقف لتبتاع له بعض الهدايا ..قميصاً بلون أبيض تعلم أنه ذوقه ..سماعات أذن بلا أسلاك عالية الجودة تظنه يحتاجها ..وبعض المكسرات التي تعلم أنه يحبها مع شيكولاتة "دارك" منخفضة السعرات ! ما يناسب نظام الحمية الذي خضع له اضطرارياً بعد الحادث كي يتحرك بصورة أفضل!

ترن جرس البيت لتفتح لها خديجة -أمه- بهذه النظرة التي لا تفارقها نحوها بين توجس وامتنان ..كأنما تدرك أن هلاك ابنها ونجاته يرتبط بهذه المرأة !

يتبادلان تحية تقليدية لتغلق عزة الباب خلفها متهيئة لارتداء قناعها اليومي أمامه ..
لكن خديجة تنتحي بها جانباً لتهمس لها بنبرتها الصارمة التي اكتسبتها من عملها ك-مديرة مدرسة- والتي يتخللها الآن طيف رجاء:
_لو انسحبتِ الآن فلن يلومك أحد ..إنما لو تركتِه بعدما منحتِه الأمل فستقتلينه حياً ..اصدقيني القول ..هل تريدين الاستمرار حقاً ؟!
تغمض عينيها بألم وابتسامة ساخرة تعصف بروحها !!
هل لديها فعلاً حق الاختيار!!
هو اشتراها بأغلى ثمن يمكن أن يدفعه فبأي حق تعود هي في البيعة ؟!

_خطيبك؟! هل تعنينها حقاً يا عزة؟! أم أنكِ تظنين نفسكِ مدينةً لي بعدما كان ؟!
_سأبقى مدينةً لك طوال عمري يا إيهاب ،لكن لا علاقة لهذا بقبولي الزواج منك ..ليلة الحادث كنت سأخبرك بقراري ..كنت سأخبرك أنني أحبك ..وأريد الزواج منك ! والآن لا أريد الزواج منك فقط لأنني أحبك ..بل لكي تحميني ..أنا التي أحتاجك الآن وليس العكس!

تتذكر كذبتها تلك والتي واجهته بها ذاك اليوم في المشفى لتعيش بها ولها طوال الأيام السابقة ..
والتي ستبقى تعيش بها معه !
لا خيار!!
هو طوقها بهذا القيد الذي لن يمكنها الخلاص منه العمر كله !!

_لماذا أنتِ صامتة؟! لو أردتِ الانسحاب اخرجي الآن وأنا سأتولى شأن ابني ..لن أسمح لكِ أن ترتبطي به فقط بداعي الشفقة !
_أنا ..أحبه !!
تقولها بنفس "الآلية" التي برمجت بها نفسها طوال الأيام السابقة ..فتعاود خديجة سؤالها :
_واثقة ؟!
_بلا شك !
تتنهد الأم بحرارة وهي ترفع رأسها لأعلى في وجه الدعاء قبل أن تتوجه معها نحو غرفة إيهاب ..تطرق الباب لتدخل ..
_خوخة !!
يهتف بها إيهاب بمرحه الظاهر وهو يفتح لها ذراعيه فتغمض عينيها الدامعتين وقلب الأم داخلها يتمنى لو كانت مكانه وسلِم هو ..
بينما يردف هو بنفس المرح مخاطباً عزة :
_حبيبتي! في موعدك ككل يوم !
تغتصب عزة ضحكتها "الآلية" وهي تتوجه نحوه لتصافحه فتشعر بكفيه يتشبثان بها بهذه الطريقة التي كانت لتشعرها بالدفء في أي موضع آخر ..
لكنها الآن تشعر بهما قيداً فوق قيد !!

_سأعد لك العصير .
تهتف بها الأم مخاطبة عزة بهذا التوجس الراجي ليهتف إيهاب بمرحه المعهود :
_عذبوا "المسكين" المحروم من هذه الأشياء! ليس هكذا! ارحموا عزيز قوم "خسّ"!
يقول عبارته الأخيرة مشيراً لفقدانه وزنه فتهتف عزة بسرعة :
_سأشربه دون سكر ..مثلك ..تعلم أني أحبه كذلك .
يرمقها بنظرة غريبة وشفتاه تنفرجان كأنه على وشك قول شيئ تراجع عنه ..
بينما ترمقهما الأم بنفس النظرة الوجلة قبل أن تتحرك لتغادر ..
_انظر ماذا أحضرت لك؟!
تهتف بها عزة بنفس المرح الآلي وهي تسحب كرسياً لتجلس جواره رافعة أكياسها ..لكنه يضعها جانباً قبل أن يقترب منها بجذعه ..أنامله تتحسس وجهها برقة وعيناه "المقنعتان" بمرحه الظاهر تتفحصان ملامحها ..
_لم يزل أثر الكدمات تماماً ..
تهمس بها هي بارتباك هاربةً من لقاء عينيه لكنه يتحاشى الحديث عن الأمر ..تماماً كما يتحاشى ذكر ليلة الحادث تماماً ..
_كنتِ تبكين؟!
_لا!
_عزة!
يهمس بها عاتباً بحنوّ بهذه النبرة الخبيرة لصديق قديم صارت حقاً تفتقده وسط الحرب الباردة التي تعيشها هذه ..
فتنهار مقاومتها وهي تخفي وجهها بين كفيها لتشعر به يضمها بذراعه نحوه ..
منذ أعلنت له موافقتها على خطبتهما وهي تشعر بأنه يحب ضمها بهذه الطريقة القوية ..يحب مصافحتها بهذا التشبث الغريب ..كأنه يخشى أن تنفلت من بين ذراعيه !
عناقه لها كان ليبدو لها أكثر حميمية في وقت آخر لكنها الآن صارت تراه سجناً من نار !!

_ماذا يؤرقكِ؟! أنا؟!
يهمس بها بحنوّ مشيراً لصدره لترفع إليه عينيها فيردف بنفس المرح الظاهر:
_أنا بألف خير ..الجرح اقترب من التماثل للشفاء ..هأنذا في طريقي للعمل على برنامج تمارين مع أخصائي العلاج الطبيعي في صالة الألعاب الرياضية لمساعدتي على الحفاظ على حركتي وقوتي العضلية ..فقدت بعض الوزن وأتهيأ للمزيد ..وقريباً أستخدم ساقاً اصطناعية فلا أشعر بفارق ..ربما سأحتاج بعض الوقت للتأقلم لكن لا بأس ..حتى عملي الذي خسرته في الشركة سأعوضه ..صديقٌ لي في إحدى شركات قطاع العام أخبرني أنه يمكنني تسلم بعض الأعمال الإدارية .

تتسع عيناها ببعض الدهشة من هذه البساطة التي يتحدث بها عن الأمر ..
لقد كانت تخشى عليه هذه الفترة الاكتئابية التي يحكون عنها عقب ظروف كهذه ..
لكنه يخالف كل ظنونها بهذه البساطة المرحة التي يتقبل بها الأمر ..
بل إنه يتجاهل الحديث عن تلك الليلة المشئومة تماماّ مكتفياً بمزاحه المعهود ..
تراه يتعمد هذا كي لا يثير المزيد من شجون أمه وشجونها ؟!
كي لا يشعرها بالمزيد من الذنب؟!
أم أنه لايزال في مرحلة إنكاره للصدمة !!
أم هي طبيعته المتجاهلة لعيوبه والمتصالحة مع ذاته ؟!

_لو تعلمين كم أحب عينيكِ عندما تتسعان بهذه الطريقة ..تبدين لي كطفلة لازالت تخشى عبور الطريق وحدها وتنتظر يدي كي تمنحها الأمان !
يهمس بها بعمق عاطفته وهو يرفع كفها نحو شفتيه بقبلات متتابعة فتسحبه منه بسرعة لتغير الموضوع هاتفة بمرحها "الآلي":
_أنظر ماذا أحضرت لك؟! قميصاً بلونك المفضل ..
تقولها وهي تفرده له فوق صدره ..
ثم تستخرج سماعات الأذن وتلوح له بها بخفة قبل أن تستخرج كيس المكسرات لتردف بنفس النبرة :
_"الكاجو" الذي تحبه ! طبيبك سمح به في نظام الحمية خاصتك .
_شيكولاتة dark طعمها يعلم الفضيلة!
يهتف بها باشمئزاز فتهتف بنفس النبرة الآلية :
_ستعتادها ! غداً يمكنك تناول كل ما تريده !
_أنتِ كل ما أريد !
يهتف بها بنبرة امتزجت عاطفتها بمرحها فتغنيها عن كل معاني شكره وامتنانه ..لتغتصب نفس الضحكة الآلية وهي تردها له :
_وأنت كل ما أريد !
_تحبينني!
لم يكن يسأل بل كان يقولها بنبرة تقرير من لا يحتمل الشك !!
_أحبك!
تقولها بنبرتها الآلية التي وطنت نفسها عليها طيلة الأيام السابقة ..
ويبدو أنها ستفعل لأيام طوال قادمة ..وربما لعمر كامل!!
أنامله تمتد لتحتضن كفها البارد وهو يريح رأسها على كتفه هامساً :
_احكي لي كيف كان يومك !
تنفرج شفتاها كأنما هي على وشك البوح كالسابق لكنها تجد نفسها تبتلع كلماتها ..
هو فقد دوره القديم ك"صديق" منذ ليلة الحادث !!
لم يعد له الآن سوى دور الحبيب المزيف الذي اختارته الظروف ورضيت هي به !
تنساب شفتاها بثرثرة "آلية" تروي له تفاصيل عادية تكاد تتشابه كل يوم ..
فيما تتشبث أناملها الحرة بوشاح "قدس كمالها" فوق صدرها ..
لتراه بعين خيالها ملطخاً بالبقع!
======
_أراك غداً .
تهتف بها عزة بابتسامتها المرتجفة وهي تودعه لدى الباب فيرمقها بنظرة طويلة غريبة قبل أن يطرق بوجهه ..
وعلى عكس مرحه المعتاد تتسرب كلماته هذه المرة متثاقلة كأنه يعدها عداً :
_في كل مرة أودعكِ فيها خلف هذا الباب أخشى يوماً لا تعودين فيه !
تعض شفتها السفلى بألم وهي تغمض عينيها على دموعها الحبيسة ..
ثم تعاود فتحهما لتنحني على ركبتيها أمامه ..
تتناول كفه بين راحتيها ..تراه يرفع إليها عينيه فتهرب منهما هامسة :
_لن يأتي هذا اليوم أبداً ..ليس وفي صدري نفسٌ يتردد ..ما بيننا لم يعد صداقة ولا حتى حباً ..كلانا صار للآخر قدراً ..والمرء لا يهرب من قدره .
_أنتِ أجمل أقداري!
يهمس بها وعيناه تشردان عنها في فراغ كبير لا يود الاستسلام له ..
لكنها لا تعينه على مراده وهي تغتصب ابتسامة كبيرة ألقتها على شفتيها مع قولها بمرح يشبه مرحه :
_أرجو من سيادتك التعجيل بعقد القران ..سمعتي صارت على المحك .
_تريدين ذلك حقاً ؟!
يسألها بنفس النبرة المتثاقلة وكلاهما يهرب من لقاء عيني الآخر لتهتف هي بنبرتها الآلية :
_بالطبع ! لماذا نتباطأ؟! بعد كل هذه السنوات لم تعد مشاعرنا تحتاج لتأكيد !
هنا فقط يسمح لنظراته أن تعانق عينيها ..
أن تتلقف كل هذا الوجع الذي ينبض فيهما فيسأل نفسه ..
هل هو له أم منه ؟! أم تراهما معاً ؟!

_كن بخير! أنا فخورة بك لأن "الفاجومي" أثبت للجميع أنه أقوى من كل شيء .

تقولها وهي تعاود الاستقامة بجسدها فتشعر بكفه يتشبث بها بهذه الطريقة التي تثير شجونها ..لهذا لا تسحب كفها منه قبل أن يقرر هو تركه ..
ابتسامته المرحة بظاهرها تودعها قبل أن يغلق الباب بينهما ..
فيطلق أخيراً زفرة حارقة سامحاً لقناعه بالتشقق!!
يتحرك بكرسيه المتحرك نحو غرفة أمه المجاورة فيراها عبر شق الباب -شبه المغلق- تؤدي صلاتها وقد أطالت في سجودها ليدرك من اهتزاز جسدها المرتجف أنها تبكي !
يعلم أنها عادتها اليومية في الصلاة في هذا الوقت والتي تطيلها لما يزيد عن الساعة فيدرك أنها فرصته هو الآخر للاختلاء بنفسه ..

يبتلع غصة حلقه وهو يعاود التحرك بكرسيه نحو غرفته ..
يغلقها خلفه ثم يطرق برأسه ..
أنامله تمتد لطرف سرواله في موضع ساقه المبتورة ليغمض عينيه على دمعة متحجرة قبل أن يعاود فتحهما ليركزهما على تلك الخزانة السفلية هناك ..
يهز رأسه بقوة كأنه ينفض عنه ثقل أفكار لا يحتملها قبل أن يتوجه إليها ليفتحها ..
مجموعة من "شرائط الكاسيت" تراصت فوق بعضها ..
بعضها قديم وبعضها حديث ..
كلها بصوته !!

_"استرجل" يا ولد ! تسجل لي "شرائط كاسيت"؟! ماذا تركت للفتيات المائعات يا إيهاب؟!
بصوت إياد العاتب -دوماً- يسمعها كذاك اليوم ..فتجتاحه الذكرى:
_قل الصدق ! لم تعجبك الفكرة يا إياد ؟! لم تؤنسك في ليالي الخدمة الطويلة في "الجيش"؟!
ابتسامة إياد الصامتة -دوماً- تحمل له امتنانه الكتوم حتى وهو يهتف بخشونة نبرته المعهودة :
_لا تكررها! جعلتني سخرية الزملاء في الكتيبة !
لكنه كان يعلم أنها دعوة صامتة له أن يكررها ..أن يرسل له بصوته كل أخبار العائلة التي تفوته ..
شجارات "ست الناظرة" في المدرسة مع المعلمين والطالبات ..
مكافحة أبيه للتدخين كي لا تتأثر رئتاه أكثر مع مرضه الأخير الذي كان سبب موته بعدها ..اخر مغامرات إيهاب العاطفية مع زميلة دراسته ..
وأخيراً ما يعلم أنه يهمّه بشكل خاص ..ابنة عمه-هو- "ورد"!

لهذا كان يكررها حتى صارت علامة فارقة في تاريخهما الأخويّ الذي كتب له القدر أن يكون متأخراً بحكم كونهما أخّين غير شقيقين ..

_تراه ذنبك يا إياد ؟! رده لي القدر في مصابي؟! تراك لم تغفر لي بعد كل هذه السنوات ؟!

يقولها بخفوت بصوته الذي غاب عنه الآن كل أثر للمرح المصطنع بعدما وضع أحد الأشرطة الفارغة في مكانه بهذا الجهاز القديم ليسجل له شريطاً جديداً لا يعلم متى سيسمعه ..
لكنه يود متى عاد أن يخبره بتلك التفاصيل التي فاتته ..
أن يشعره أنه لم ينسَ ولن يفعل !
أن يطلب منه سماحاً لا يثق أنه يستحقه رغم مرور كل هذه السنوات !!

_ماذا أقول ؟! تراني أخفي عنك كما أفعل مع الجميع هنا ؟! لا ..لن أفعل ..ربما لأنني أستحق أن أنزف وجعي أمامك لعلك تصفح ..وربما لأنني -رغم ما كل ما كان بيننا- لازلت أعتبرك قدوتي وصديقي لا أخي الأكبر فحسب! ..لعنتك لا تزال تطاردني يا أخي ..كنت أشعر أن القدر العادل لن يمنحني سعادة بحبٍ حرمتُك أنا منه ..هاقد صرت رجلاً عاجزاً لا يستجلب إلا مشاعر الشفقة ممن حوله ! فهل يكفيك هذا كي تصفح ؟! كي تعود ؟!

دمعة وجع يحتجزها جفناه وهو يستعيد ملامح أخاه الغائب ..
والذي يستحضر صورته كل مرة بهذه الطريقة ..
يعلم أن شرائط الكاسيت الفارغة هذه قد بطلت "موضتها" لكنه يشعر أن مدلولها بينهما لم ولن يزول أثره ..
أو هكذا يظن!!

_ماذا تريد أن تعرف؟! عن أمي؟! لا تزال خديجة "الصلبة" -كما كان يحلو لك تسميتها- وخوخة "الحنون" -كما كنت أفضل أنا أن أصفها- ..تتعامل مع مصابي بلوعة "أم" و حزم "قائدة" ..تظهر انخداعها بهذا المرح الذي أدعيه لكنها تشعر ..كعهدها تشعر بنا ..لا تظنها تحبني أكثر منك كما كنتَ دوماً تزعم ..رحيلك فجع قلبها ..وأخشى أن يزيد مصابي ثقل الحمل على كتفيها ..أن يهدم ما تبقى من جدار تماسكها ..لهذا سأبقى أتظاهر رغم يقيني أنها لا تصدق ..

الدمعة المحتجزة تتحرر أخيراً لتبلل وجنته فيمسحها بسرعة وأنامله تتلمس موضع ساقه المبتورة فوق سرواله ..بينما يستطرد بنفس الخفوت:
_عزة ؟! هل ستصفني بالأنانية -كما اتهمتني في آخر لقاء بيننا منذ سنوات- لو علمت أنني رضيت ببقائها معي؟! هل سيدور في بالك أنني أريد احتجازها في سجني ثمناً لما فقدته لأجلها ؟! هل تظنها تبقى معي فقط امتناناً وشفقة ؟! لا ..! هي تحبني ..تحبني ولو لم تكن تعلم ! تحبني لأنها لا يمكنها ألا تفعل!!
يزداد صوته انفعالاً في كلماته الأخيرة قبل أن تخنقه غصته وهو يستطرد بنفس الحرارة :
_أنت لن تفهم! لن تفهم مالم تجرب ما أنا فيه !! أنا عرضت عليها أن ترحل ..أن تتركني لمصيري ..لكنها تشبثت بي ..كيف أبعدها؟! كيف وأنا أكثر من يعلم أنها تحتاجني كما أحتاجها ..أنها تحبني كما أحبها ..أنها خلف كل هذا الضباب الذي يشوش تفكيرها لن تجد أمانها إلا معي ..ليس شفقة يا إياد ..حب ..حب ..حب!!

يعلو بها صوته أكثر كأنه يغرسها في أرض يقينه أكثر وأكثر !!
_كيف بعد كل هذا أتركها ؟! لمن ؟! لمن؟! من أحق بها مني؟! من سيحبها مثلي؟! ليتني كنت بمثل قوتك عندما قررت أن تترك كل شيء خلفك وتسافر ! ليتني كنت أقوى على إبعادها وهي تتشبث بي بهذه القوة ..هي نفسها لا تعلم كم تحبني ..تسجن نفسها داخل فكرة الخوف من الارتباط ..كما عشت أنا نفسي طوال هذا العمر بعد رحيلك ..فلماذا لا يكون كلانا حلاً لرباط صاحبه من هذه الفكرة؟!

يصمت قليلاً وعقله يغيب في شرود قصير ..لا يفكر قبل أن يتحدث ..ولا يعنيه أن تكون جمله مترابطة ..ما يعنيه أن تكون صادقة كي يشعر بها أخوه عندما يعود ..حتماً سيعود !!

_لن أفكر! لا أريد أن أفكر! "الفاجومي" الذي يعرفه الناس سيبقى كما هو ..لن أتذكر الحادث ..لن أتذكر ما فقدت وما سأفقد ..لن أكترث لنظرات تنقص من شأني ..أنا لازلت أنا ..لم يتغير شيء ..لم يتغير شيء ..يجب أن أقتنع أنا كي أقنعهم ..يجب أن أحتمل ..

يقطع عبارته بآهة ألم وهو يصمت للحظة ليردف:
_شيء واحد لن أحتمله ..نظرة شماتة في عينيك ..أنت بالذات ..لا تفعلها بي يا أخي! لا تفعلها وإن كنت أستحقها !!

حروفه تنقطع بخيط رفيع من الدمع سال على وجنته وهو يوقف التسجيل عند هذا الحد ..
يضع الشريط مكانه مع أشباهه ثم يغلق الخزانة ليتحرك بكرسيه نحو الجوار حيث هدية عزة ..
القميص الأبيض الذي دارت عليه أنامله وهو يهمس لها كأنها تسمعه :
_سامحيني إن جعلتك رهاني الأخير ولو لم أكن رهانك الأفضل ..ما في قلبينا يستحق المقامرة !

وخلف الباب المغلق كانت خديجة تقف تسترق السمع ووجهها غارق في بحر من الدموع ..
يحسبها غافلة عما يفعله كل يوم وقلبها الأعلم بعذاب ابنها -بل ابنيها- يكاد يئن بثقل وزره ..
لا تدري هل ستكون عزة هذه مكافأة القدر له ..أم عقابه !!
=====
*أحمر*
=====
_يسرا الصباحي تبيع خبز وترتدي ثياب الفلاحات !
بسخرية مريرة متنمرة تنطقها وهي تتفقد شكلها أمام مرآة غرفتها التي تتشاركها مع هبة ..هبة التي غادرتها منذ دقائق فقط لتلحق بموعدها في الجامعة ..فيما تبقى هي هنا لتعمل في "فرن"!
أي هراء هذا الذي تلقين نفسك فيه يا امرأة ؟!
بل أي لعبة ؟!
تفتقد عملها بالمحل حيث ترى الأطفال ..تلبسهم ثيابهم ..تشم رائحتهم عن قرب ..قبل أن يرحلوا !
لماذا تخلت عن هذا؟!
لماذا حادت عن قواعد اللعبة ؟!
تراها سعيدة حقاً بهذه الارتجالية ؟!
افتقدت أمها !!
افتقدت نظرتها الحانية وهي تذكرها ..لا هذه المشتتة الزائغة وهي لا تميز حضورها !!
تباً! لماذا تبدأ يومها بهذه السلبية ؟!
كل شيئ سيكون على مايرام ..اللعبة تتخذ منحنى أغرب فمرحباً بالمزيد من التشويق .
تتفقد صورتها للمرة الأخيرة في المرآة ..قميصها الأحمر المحتشم بكميه الطويلين واتساعه الذي يعجز عن مداراة مفاتنها ..
تنورتها الطويلة من الجينز الرخيص ..صندل قدميها الذي تبدو منه بشرتها الناعمة ..
وأخيراً وشاح رأسها بلونه الكحلي القاتم الذي يتحدى نصاعة بشرتها الصافية ويحدد ملامح وجهها الخالي من الأصباغ .
الغريب أنها في هذه اللحظة لم ترَ نفسها تشبه سمرا ..ولا حتى يسرا ..
كانت تشعر وكأنها امرأة أخرى ولدت من جديد عندما دخلت هذا الحي!

(مستر ربيع)!
تبتسم عفوياً وهي تذكر ملامح الرجل الطيبة ..كلماته التي تمزج حنانه بحزمه ..مسبحته البيضاء التي تنافس شيب لحيته ..وعناقه -لإبراهيم- الذي تود لو تجرب مذاقه !

_مخبولة! لم أعرفك يوماً تميلين للعجائز!
تنهر بها نفسها سراً وهي تضبط حالها بهذه اللهفة للقاء ربيع ..ربما بأكثر من لهفتها لإتمام لعبتها مع إبراهيم !!
تغادر الشقة لتغلق بابها خلفها فيداعب عينيها ضوء الصباح ..
تتنهد باستمتاع حقيقي وهي تشعر بحميمية ضوء الشمس هنا تختلف تماماً عن قسوة صفعه إياها عندما كانت تستيقظ وهي "يسرا"!
ربما لهذا كانت تعشق الليل أكثر ..كانت تراه يليق بسواد باطنها ..يالله ! لا تريد أن تتذكر ..فلتنسَ! فلتنسَ!!

تبتسم ابتسامة حقيقية وهي تتفحص السطح النظيف حولها والذي جعلته هبة رائعاً بهذه الزهور التي زرعتها في أُصص متجاورة بألوان متباينة زهري ..أحمر ..برتقالي ..أصفر ..سماوي..بنفسجي ..أبيض ..كأنها قوس قزح !
تمد أناملها فوقها بخفة تتحسس نعومة بتلاتها لتتسع ابتسامتها وهي تذكر ملمساً مشابهاً ..
وجنة ابنها الممتلئة التي كان يحلو لها تقبيلها!!
ابتسامتها تستحيل لدمعة كبيرة تغمض عليها عينيها لكنها تعاود فتحهما وهي تتحرك نحو السور ترقب الشارع القديم من أعلى ..
تلك المباني الأثرية التي بدت لها من بعيد لتمنحها شعوراً بالعراقة ..
والتي امتزجت ببعض البيوت حديثة الطراز التي لم تحب تدخلها في هذه اللوحة العتيقة !!

ترى من مكانها ربيع وقد وقف خارج الفرن الذي هو أسفل بيتها مباشرة فتشهق بلهفة وهي تكاد تركض لتهبط الدرج نحو الأسفل حيث الفرن ..
_صباح الخير يا (مستر ربيع)!
تقولها بود لا تدعيه وهي تتوجه نحو الرجل الذي تفحصها بنظراته الخبيرة ليرد بنبرته الحنون :
_صباح الخير يا ابنتي! كيف حالك اليوم؟!
_بألف خير!
تقولها بدلال تجيده فيبتسم وهو يشير لها نحو الداخل كي تتبعه ..
تجفل لأول لحظة وهي تشعر بحرارة المكان من الداخل تكاد تصفعها لأول وهلة ..
فتهتف باستنكار:
_لا "مكيف هواء" هنا؟!
لكنه يضحك باستمتاع وهو يتخذ مقعده فوق الكرسي العالي في ركن المحل ليقول بمكر:
_ظننتكِ من الكادحين الذين يعتبرون حرارة الجو أهون مشاكلهم !
_أنا كذلك! فقط ..اعتدت ..المحل الذي كنت أعمل فيه كان دوماً مكيفاٌ ..تعلم أن الواحد يتأقلم مع ظروف المكان الذي هو فيه !
تقولها ببعض الارتباك الذي تحاول مداراته بابتسامتها قبل أن تدور ببصرها في المكان الذي بدا لها شديد التواضع ..شديد الحر ..شديد القدم ..
فتشعر ببعض الضيق لكن لا بأس! اللعبة تستحق!!
_ماذا سأعمل هنا؟!
_تتناولين "صاجات" الخبز من العمال بالداخل تباعاً ..تنتظرين حتى يبرد ..ثم تعبئينه في الأكياس ..وتبيعينه للزبائن .
_كل هذا وحدي؟!
_كل هذا ..وبسرعة ..كي لا ينتظر الزبائن طويلاً!
استنكارها يقابل حزمه الذي لان قليلاً وهو يردف:
_للأسف نعاني نقصاً في العمالة ..إبراهيم كان يقوم بهذا طيلة الأيام السابقة لكنه هو الآخر له عمله ولا أريد أن أعطله !

تهز رأسها بطاعة ظاهرة وهي تحاول تجاهل شعورها بالحر الشديد بينما تدلف للداخل قليلاً ..
تتناول "الصاج" الأول للخبز فيكاد يسقط منها لكنها تتشبث به ف..ينكسر ظفرها!!
تزفر بسخط وهي تضعه مكانه ..تحاول لمس الخبز فتلسعها حرارته ..العرق الغزير تشعر به يغرق ظهرها ويسري مدغدغاً تحت ملابسها ..
تسمع الزبائن وقد بدأوا يتوافدون فتعبئ الخبز الذي برد قليلاً بسرعة في الأكياس محاولةً تنفيذ طلباتهم بسرعة ..
تتحرك كالنحلة التي لا تكل وهي تشعر أن الأمر ليس بهذه السهولة التي كانت تتوقعها ..
تباً ! ظفر آخر ينكسر!!
لو بقي الحال هكذا فستفقد أظافرها كلها!!

_بجنيه واحد يا "روبانزل"!
تهتف بها تلك الفتاة التي بدت في الثامنة عشرة من عمرها تقربباً وهي تمد لها بالنقود ..
كانت حركة البيع قد هدأت نسبياً لتبتسم يسرا عفوياً ببعض الارتياح وهي تسألها:
_روبانزل؟!
_لا تعرفين روبانزل؟! لا تشاهدين ال"كارتون"؟! إنها تلك الطفلة ذات الشعر الأشقر الطويل التي هربت من بيتها لتستكشف العالم .
_وكيف عرفتِ أن شعري أشقر؟!
تسألها بتعجب فتشير الفتاة بعينيها نحو وشاح يسرا الذي تهاوى لتظهر خلفه خصلات شعرها مشعثة متعرقة وقد التصقت بجبينها كما رأتها في مرآة قريبة ..بل جزء من مرآة مكسورة لو صح التعبير كانت معلقة على الحائط الذي تلوث أعلاه ب"هَباب الفرن" !
_ياللقرف! ياللقرف!!

تهتف بها لنفسها وحاجباها لوهلة باشمئزاز من كل هذا الوضع الذي تحياه ..تود الآن لو تزيح هذا الوشاح بل تخلع ملابسها كاملة لتغتسل ..بل لا ..لن يكفيها مجرد اغتسال ..هي تحتاج الذهاب إلى spa حيث تترك جسدها لبخار "الساونا" وأنامل "ماساج" خبيرة تزيح عن جسدها هذا تعبه ..
_عندما ترتدين حجابك فاربطيه جيداً بدبوس مثلي كي لا يتهاوى ..هذا لو كنتِ ترتدينه عن اقتناع كما كان يعلمنا إبراهيم في الدرس!
ذكر إبراهيم يدفعها للاهتمام قليلاٌ فتحكم ربط وشاحها مدارية خصلات شعرها وهي تسأل الفتاة باهتمام :
_هل يعطي إبراهيم دروس؟!
تلتفت بنظرة مختلسة نحو ربيع الذي بدا منهمكاً مع العمال بالداخل قبل أن تصلها إجابة الفتاة العفوية:
_كل جمعة ! يعطي "الصبيان" دروساً في المسجد ونسمعها نحن الفتيات من خلف الستار ..نحن نحبه لأنه يفهمنا الأمور ببساطة دون تعقيد ..يكافئنا لو أحسننا ولا يقسو علينا لو قصرنا ..
ينعقد حاجبا يسرا باهتمام وهي تشعر أن ثمة شيئاً ما خطأ في حساباتها ..
لو كان إبراهيم بهذه التقوى وحسن العبادة فكيف يرتبط بامرأة متزوجة ويضع لها هذه الصورة وقد وقفا متعانقين بنظرة حب ؟!
تراه يخدعهم ؟!
وما العجب ألم تفعلها هي مثله ؟!
كلاهما إذن مراوغ يختفي خلف واجهة خادعة أو كما يقولون :
"مفيش حد أحسن من حدّ"!

أفكارها المشتتة تتركز تماماً وهي ترى الطفل الصغير الذي وقف جوار الفتاة يتعلق بجلبابها فتناوله رغيفاً يأكله بنهَم وهو يرمق يسرا بعينيه الواسعتين ..
في ظروف أخرى لربما كانت تشعر بالمزيد من الاشمئزاز من ثياب الطفل البالية ..شعره الأشعث ..ووجهه الذي تفترشه قسوة الفقر قبل الحزن ..
لكنها الآن لم تكن تبصر سوى عينين بسعة السماء..ذكرتها بالغالي الراحل ..
_أخي سامي..ليس لأحدنا سوى الآخر بعدما توفى أبوانا ..أنا صاحبة هذا "الكشك" على الناصية .."مستر ربيع" جزاه الله خيراً ساعدنا في فتحه .."نفّعينا" واشتري منّا ..صباحك "عنب"!
تهتف بها الفتاة وهي تتحدث بهذه الطريقة السريعة بينما ظلت عينا يسرا على تعلقهما بعيني الصغير ..
فلم تشعر بنفسها إلا وهي ترفعه بين ذراعيها أمام ذاك الحوض هناك ..تغسل له وجهه وشعره ويديه ..ثم تحضر له المزيد من الطعام ..تعانقه بقوة ..تغمض عينيها تتشمم رائحة شعره ..الرائحة التي تتشابه مهما اختلفت الوجوه ..رائحة البراءة النقية التي صارت أبعد ما تكون عن عالمها !

_يعجبكِ سامي؟! البنت "سندس" أكلت "دماغك"؟!
يقولها ربيع وعيناه الخبيرتان تتفحصانها بتمعن يناقض هذا المرح الحنون الذي كان يتحدث به ..
_أبداً والله يا "مستر ربيع"! هي التي حملته من نفسها ! الولد سامي هذا محظوظ ! رزقه في القبول ! لا يراه أحد إلا يحبه !! ربنا كريم عالم بحالنا !
_كفي عن الثرثرة ودعيها لعملها !
يهتف بها ربيع بحزمه الرؤوف وهو يتناول سامي الصغير من بين ذراعي يسرا التي بدت له في هذه اللحظة كأنها أسيرة عالم آخر ..والحقيقة أنها كانت حقاً كذلك !!
يشعر بذراعيها يتشبثان بالصغير قليلاً كأنها لا تريد إفلاته لكنها تعود لوعيها فتبتسم ابتسامة مصطنعة وهي تواجه الفتاة بقولها :
_لطيفة "سندس"!
_سترينني هنا كل يوم! وسأنتظركِ في "الكشك" ..لا داعي لأن تأتي بنفسك ،أرسلي أحدهم بما تريدين ..شيكولاتة ..عصير ..بسكويت ..عندي أيضاً مستحضرات تجميل سعرها "مهاود" ..لو تحبين المستورد لديّ زبدة كاكاو" رائعة تستحق شفتيكِ الحلوتين هاتين !!

تهتف بها الفتاة بنفس الطريقة السريعة وهي تحمل أخاها لتخرج به من المحل بينما بقيت عينا يسرا معلقتين به وهي تتحرك خلفهما كالمسحورة تراقب سندس وهي تضع الصغير على كرسي جوار الكشك البسيط قبل أن تلوح لها بكفها ..

_سبحان من هذا قضاؤه ! أبوها كان يتمنى طوال عمره أن يكون له ولد وعندما رزقه الله بالولد توفي مع أمهما وتركاه لسندس ..تخيلي مراهقة في السادسة عشرة من عمرها تضطر لتحمل هم طفل رضيع هو كل من تبقى لها من عائلتها ..كلنا وقفنا معها لكن تبقى مرارة اليتم لا تمحوها حلاوة بعدها !

يزداد تكاثف الدموع في عينيها وهي تود لو تصرخ به أنها جربتها ..
جربت مرارة اليتم هذه حتى عندما كان أبوها على قيد الحياة ..
جربتها في كل موقف احتاجته فيه فلم تجد سوى خوفها من قسوته يحول بينهما!
جربتها في كل مرة قالت له فيها "نعم" وهي تقصد "لا" ..فلم يفهمها!!
جربتها في كل ألم كانت تخفيه كي لا يحملها مسئوليته !!
أجل! يتيمة الأب عاشت هي منذ سنوات توازي عمرها فلم تشكل "شهادة وفاته" أي فارق ..
بل إنها تعترف ..أراحتها!!

_الحرافيش وصلوا ! هذا ما كنت أخشاه !
يتمتم بها ربيع لنفسه ببعض المكر وهو يرى أبناء أخيه يدخلون تباعا عبر مدخل "الفرن" ..
فيهتف بهم بغلظة :
_لماذا استيقظتم مبكرا؟! لا تصحون في العادة قبل العصر وعندما تكل يدي من الطرق على بابكم !
_لم ننم أصلا!
يقولها أحدهم وعيناه معلقتان بيسرا التي تجاهلت نظراته وهي تجد نفسها تقترب عفويا من ربيع كأنها تنشد أمانا معه ..
_سمرا!
يقولها ربيع معرفا أياها ليهتف كبيرهم بلهفة عابثة :
_وهل يخفى القمر ؟!
ثم يشير نحو صدره وأخويه تباعا ليكمل التعارف:
_قيس ..عنتر ..روميو !

تكتم ضحكتها بكفها تفاعلا مع اسمائهم الغريبة بينما يزفر ربيع بسخط وهو يسمع ابن أخيه يستطرد بنبرته العابثة:
_أبي كان شديد الرومانسية لهذا اختار لنا هذه الأسماء ..الحب في عائلتنا وراثة .. يجري في دمنا ..

لم يكد يتم عبارته حتى تأوه بقوة وهو يفاجأ بقبضة ابراهبم تهوي على مؤخرة رأسه من الخلف ليبدو وكأنه ظهر فجأة من العدم :
_لا داعي لسيرة "الدم" هذه! تفتح شهيتي لأشياء كثيرة لن ترضيك !

تحرر يسرا ضحكتها هذه المرة وهي تشعر بارتباك غريب من ظهوره ..ارتباك لا تدري مبعثه الأمان أم الخوف!
ارتباك يجعلها لا إرادياً تقترب من ربيع الذي كان يضحك هاتفاً بخشونة مصطنعة:
_ستحولون "الفرن" إلى سيرك ؟! ماذا تريدون ؟!
يقولوها مشيراً لقيس -كبير الحرافيش- الذي كان لايزال يتحسس مؤخرة عنقه موضع ضربة إبراهيم الذي بقي واقفاً مكانه ..
عيناه تهجران النظر نحو "الرامية القرمزية" ..إنما يشعر أن قلبه بأكمله يطيل النظر!!

_نريد خبزاً طازجاٌ ! جوعَى ! يرضيك يا عمي أن نبقى جوعى؟!
يهتف بها قيس بنبرته العابثة لتصله زمجرة إبراهيم المهددة فيردف بسرعة :
_ثلاثون رغيفاً فقط ونرحل!
_ثلاثون رغيفاً؟! ستفطرون بثلاثين رغيفاً؟!
يهتف بها ربيع باستنكار ليرد عنتر هذه المرة بلهفة:
_لو لم تكن الكمية جاهزة نجلس هنا ننتظر!

_ستجلسون هنا فعلاً !
_حقاً يا عمي؟!
_نعم! ثلاثتكم ستجلسون هنا معي تساعدونني ريثما تعود سمرا من مشوارها مع إبراهيم !

الصدمة الخائبة تظلل وجوه ثلاثتهم فيما يبتسم إبراهيم ابتسامته "المنقوصة" التي وقعت في قلب يسرا موقعاً ليس بهيّن !
ابتسامته التي تجلت لها كنجم شارد فقد قمره فبدا وسط ظلمة الليل غريباً !!
وعلى عكسه هو وقفت هي تتفحص ملامحه بجرأة لا تنقصها ..
حسناً ..لا تزال هناك فرصة في أن تختلي به في "مستوى" أعلى من اللعبة ..
اللعبة التي تحلو أكثر وأكثر!!
=======
*أبيض*
=====
_الأمور مشوشة يا رحمة !
تقولها ماسة بخفوت وهي تخاطبها عبر الهاتف بينما تراقب عاصي عبر نافذة البيت وقد جلس على رمال الشاطئ مستقبلاً شمس الشروق ..لتردف بنبرة أكثر قلقاً:
_ظهور هذه المرأة الآن قد يكون منحة وقد يكون لعنة ..لا تتصوري كم تعلق بها سند منذ رآها ..طبيبه -دكتور كنان- طلب مقابلتها فذهبنا إليه ..اختلى بها مع الصغير ساعة كاملة ثم أوصى مبدئياً أن يبتعد الولد عن عاصي هذه الفترة ويبقى معها هي مادام هذا ممكناّ.
_وهل وافق عاصي؟!
تسألها رحمة بقلق مشابه لتتنهد ماسة بحرارة وهي لاتزال تراقب عاصي الذي وقف على قدميه أخيراً ليسير مبتعداً ..
_منذ عدنا إلى هنا مع تلك المرأة وهو صامت ..لا أدري ماذا سيفعل! أخبريني عن جهاد ! ماذا صنع؟!
_ترك البيت بالطبع رغم أن عزيز كاد يرجوه أن يبقى ! لم يكن يعرف شيئاً عن أمر الصورة هذا ! بالتأكيد يشعر بالكثير من الحرج الآن !
_اعتذري له يا أمي! رباه ! لا أدري أي صدفة وضعتنا في هذا الموقف وبعد كل هذه السنوات !
_دعكِ من هذا الآن واهتمي بعاصي! لا تعاتبيه ولا تجادليه في أي قرار يتخذه الآن مهما بدا لكِ مخطئاً ..هو الآن يحتاج الخروج من شرنقته ولو لطريق مبهَم ..المهم أن يخرج !

تنهي مكالمتها مع رحمة بطلبها منها بركة الدعاء كالعادة ثم تتوجه لغرفة الصغيرين تطمئن لنومهما ..قبل أن تتوجه للغرفة الأخرى التي تشغلها ديمة مع سند فتقف أمام بابها بتردد ..
لن يصح أن يبقى الوضع هكذا شرعاً ولا عرفاً !!
ترى ما يكمن خلف ديمة هذه ؟! وما قصتها؟!
هل يمكن أن تحب صديقتها إلى هذا الحد فتعلن مسئوليتها عن ابنها؟!
هاجسٌ من قلق يدفعها لأن تفتح باب الغرفة ببطء حذر لتتسع عيناها بدهشة قبل أن يغلبها التأثر وهي ترى الجسدين النائمين والمتعانقين بتشبثّ لا يميز أيهما أكثر احتياجاً لصاحبه !

تغلق الباب ثانية ببطء بحذر ثم تأخذ طريقها نحو الخارج حيث عاصي الذي لحقت به ..
تشبك أناملها بأنامله محافظةً على سيرها البطيئ جواره على الشاطئ فيسودهما صمت قصير تقطعه بقولها:
_نحن والشروق! قصة لن يفهمها سوانا!

يتوقف عن السير فجأة وكأنما منحته كلماتها البسيطة ذات المغزى ما كان يحتاجه ..
فيلتفت نحوها لتلتمع شموسه الزيتونية بألَق عاطفته للحظات ..
يمد أنامله ليتحسس بطنها قبل أن يقول بنبرة غامضة :
_كنت أتمنى لو يولد كل أولادي هنا ..في هذا المكان !

ترمقه بنظرة متسائلة لكنه يتجاوزها وهو يعيد الالتفات نحو البحر الذي تلاطمت أمواجه :
_ديمة ضرغام ..أرملة غازي خضر ..الرجل الذي أخذ مكاني عرفياً في زعامة البلدة ..الرجل الذي كان يكرهني كما كنت أكرهه ..والذي أعرف عن ماضيه الأسود ما يكفي لملء مجلدات!

تعقد حاجبيها وقد شعرت بانقباض صدرها من سيرة الرجل لكنها كعهدها تفضل الصمت مقابل استرسال عاصي ببوحه النادر عن ماضيه :
_لقد سألت عن تلك المرأة ..علمت أنه لم يكن معها استثنائياً عما عهدته من غلظة طباعه ..علمت أنه اختارها زوجة ثانية ليكون جحيمها الثاني في غربة كانت جحيمها الأول ..ما يتناقله الناس عن إهاناته لها في العلن ينبئ ببساطة عن أي نار كانت تحترق بها معه خلف الأبواب المغلقة !
_مسكينة !
تتمتم بها ماسة بإشفاق ليلتفت نحوها بهمهمة غامضة سبقت قوله :
_ليس تماماً ..هذه "المسكينة" ادعت أنها قتلته ..لكن تحقيق النيابة برأها ..ادعت انها كانت تضع له السم الذي اتضح أنه مجرد ملح طعام !
_غريب!
_فعلاً غريب! إما أنها مختلة أو ..
يقطع عبارته دون أن يكملها فتسأله بتوجس وأناملها تشتد حول أنامله :
_أو ماذا ؟!
_الحكم سابقٌ لأوانه !
يقولها باقتضاب وقد عاد يتوارى خلف أسوار كتمانه فتزدرد ريقها بتوتر هامسة :
_الولد متعلق بها ولا يمكننا إبقاءها هنا معنا !
_سنجد حلاً!
يقولها بنفس الاقتضاب وغابات زيتونه تشتعل بهذه المرارة العاجزة التي تعرفها فينتابها هاجسٌ ما يجعلها تسأله فجأة :
_هل تفكر أن تتزوجها ؟!
يلتفت نحوها فجأة مع انعقاد حاجبيه فتردف وعيناها تغيمان في نظرة بعيدة ..كأنما عادت هي الأخرى لسجون ماضيها:
_هذه المرة أيضاً ستجد المبرر ..كما كان منذ سنوات ..هل تفكر أن هذا هو الحل الوحيد كي تبقيها وسند معنا ..كي تريح ضميرك و..
تقطع عبارتها وهي تشعر بأنامله تحتضن وجهها فجأة لتقربه منه حد امتزاج أنفاسهما ..
أمواج فضتها تزأر بغضب مكتوم ربما لا يزال حياً حتى بعد هذه السنوات ..
لكن السد ينزاح أخيراً عن فيض كتمانه مع كلماته التي وصلتها بحرارة باطنه مشتعلة حارقة :
_بمَ تهذين أنتِ؟! لن أطعنكِ بهذا النصل من جديد ولو احتمل ظهري في المقابل ألف طعنة ! ماستي خط أحمر قد أقبل خلفه أي تضحية لكنني أبداً ..أبداً لن أتجاوزه !!

تطلق زفرة قصيرة وهي تشعر بنظرته العاتبة تهزم كل مخاوفها فتريح رأسها على كتفه قائلة :
_آسفة! يبدو أن الحمل والضغوط جعلوني غير متوازنة .
يربت على ظهرها برفق فتبسط أناملها على صدره ثم تقبّل موضع خافقه بهذه الطريقة التي تعلم كم يعشقها :
_سيد الأضداد لايزال قادراً على زرع زهور عشقه وسط شوك غضبه !
_وماستي لا تزال تجيد التوهج رغم كثرة الخدوش .
يهمس بها بصوته الذي يجيد مزج هيمنته بحنانه لكنه لايزال متشحاً بهذا القلق الغامض وكأنه يشعر أن القدر لايزال يدخر له المزيد من الاختبارات ..
_أرجوك يا عاصي! أخبرني ماذا يدور برأسك !
تهمس بها وهي تتفقد نبض قلبه أمام شفتيها يتقافز بهذه الوتيرة العالية التي تثير قلقها ..
ليرمق المكان حوله بنظرة طويلة قبل أن يلتفت نحوها قائلاً :
_لو لم نكن قادرين على إبقائها هي هنا ..فسنذهب نحن معها ..
تتهلل أساريرها بلهفة مع هتافها:
_تعني أننا ..؟!
فيجيبها وهو يشعر أنه يفتح على نفسه أبواب جحيم غير مرئية :
_كما كنتِ ترغبين ..سننتقل للسكنى في العاصمة .
=======
انتهى الفصل الثامن


نرمين نحمدالله غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-07-20, 10:37 PM   #598

نرمين نحمدالله

كاتبة في منتدى قلوب أحلام وفي قصص من وحي الاعضاء ، ملهمة كلاكيت ثاني مرة


? العضوٌ??? » 365929
?  التسِجيلٌ » Feb 2016
? مشَارَ?اتْي » 2,008
?  نُقآطِيْ » نرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond repute
افتراضي

الطيف التاسع
========
*أحمر*
=====
_لا تخافي! سأكون معك خطوة بخطوة !
يقولها إبراهيم بحميته المعهودة وهو يستقل سيارته معها وقد وصل بها إلى الحي الذي كانت تسكنه ك"سمرا" ..
لم تكن تحتاج حقاً لشيء من هنا لكنها وجدتها فرصتها لتختلي به !
الفرصة التي لم تجدها بهذا الحجم وهو يصر على صمته المتحفظ طوال الطريق مهما حاولت جره للكلام ..
لهذا تطلق زفرة ضيق حقيقية وهي تغادر السيارة لتصعد نحو الأعلى حيث بيتها المفترض هاتفة :
_لن أتأخر!
تجمع بعض الملابس والأشياء التي لا تهتم لها حقاً قبل أن تتناول هاتفها لتجري اتصالاً :
_أنا قادمة الآن يا "كوثر" لرؤية أمي ..تدبري الأمر مع "سمرا" كالمعتاد !

تنهي الاتصال لتتأهب للمغادرة لكنها تلمح هذه "البلاطة المكسورة" في أرض الغرفة والتي بدا كسرها غير طبيعي فتنحني لتزيحها كي تستخرج ما تحتها ...

وفي مكانه بالسيارة كان يبدو شديد القلق وهو يدور ببصره في المكان حوله ..
يود لو يمر الوقت بسرعة فيعود بها لمأمنه في حيّه هو !
يغمض عينيه بتعب وهو يشعر أن مقاومته لها تخفت يوماً بعد يوم ..
"الدرويش" وقع في فخ التعلق!!
ليته يبقى مجرد تعلق فحسب!!

يلمحها قادمة فيتنهد أخيراً بارتياح وهو يعيد تشغيل السيارة التي استقلت مقعدها الخلفي لينطلق بها ولم يكد يفعل حتى هتفت به برجاء:
_مشوار واحد فقط ..أحتاجه أيضاً!
_أي مشوار؟!
يسألها بضيق لترد كاذبة :
_إحدى معارفي تعمل في بيت أحد الأثرياء ..ستقرضني بعض المال .
_وهل بخلنا عليكِ بشيء؟!
يهتف بها بحميته المعهودة لترد بابتسامة امتنان حقيقية :
_أبداً ! لكنها مدينة لي!
_تقترضين منها أم مدينةٌ لك؟!
يسألها بشك لترد بسرعة :
_تعلم كم تتداخل هذه الأمور أحياناً فلا تدري من بدأ..أرجوك ..أحتاج زيارتها .

يتردد قليلاً لكنه يهز رأسه أخيراً بطاعة فتشيح بوجهها وهي تشعر ببعض الارتياح ..
لا تدري كيف ستتمكن من زيارة أمها في الفترة القادمة وبأي حجة تغادر الحي وقد أخبرتهم أنها لا أهل لها ولا معارف..
لكن لا بأس ..فلتستمر اللعبة ..
ألم تعلن مراراً أن ارتجاليتها سر شغفها بها؟!

تعطيه العنوان فيتوجه إليه ليتوقف بالقرب من البوابة فينعقد حاجباه وهو يميز البيت الفخم الذي بدا له كالقصر ..واللافتة التي علقت على بابه ..

_اللواء رفعت الصباحي؟!
يهتف بها وقد انعقد حاجباه بشدة لتلتفت نحوه بملامح شاحبة :
_تعرفه ؟!
يكز على أسنانه بقوة ثم يشيح بوجهه قائلاً :
_ليست معرفة شخصية ..لكنه أحد الأسماء المشبوهة والمتورطة في قتل المتظاهرين!

يزداد شحوب ملامحها وهي تسمع منه الأمر لأول مرة ..
لكنها تؤثر الهروب فتقول بسرعة :
_وما شأننا به ؟! سأرى المرأة ونغادر! لن أتأخر!

يهز رأسه دون رد قبل أن يلتفت ليراقبها وهي تدخل البيت شاعراً بالخوف عليها ..
طالما تبدو له البيوت بهذا الشكل مجرد مصيدة فاخرة المنظر ..
وبالذات لو كانت لواحد مثل رفعت الصباحي ذاك !!
يغمض عينيه بألم وهو يشعر بصورة حسن تجتاحه ..
ابتسامته السمحة ..وعيناه اللتان كانتا تشاطرانه أحلامه ..طموحاته..جنون شغفه ..
قبل ان تنطفئا فينطفئ معهما كل هذا !!
=======
_تأخرت؟!
تهتف بها وهي تعاود استقلال السيارة معه من جديد فتتعلق عيناه رغماً عنه -عبر المرآة الأمامية -بعينيها المحمرتين الواشيتين ببكائها ..قبل أن يهتف بقلق:
_ماذا حدث ؟!
_لا شيء! أعطتني المال !
تقولها بابتسامة مصطنعة ليرد بقلق أكبر:
_كنتِ تبكين؟! هل ضايقكِ أحدهم ؟!
تغمض عينيها بامتنان حقيقي لهذه الحمية التي تعلم أنه لا يدعيها ..لترد عبر جفنيها المغمضين:
_تذكرت حالي فقط وأنا أحكي للمرأة بالداخل عما حدث لي .

_لا تحملي هماً! الله الذي يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء لن يعجزه تدبير أمرك ..فقط توكلي واحتسبي!

ترمقه بنظرة غريبة كعهدها كلما سمعته يتحدث بهذه الطريقة ..
كأنه يتحدث بلغة غير التي تفهمها ..
لغة قد لا تتبين مرادفاتها إنما تمسها بصدق شعوره هو بها !!
هل هو حقاً بهذا التدين؟!
ما سر جنة الرشيدي إذن ؟!

_فلنغادر هذا المكان ..يصيبني بالغثيان !
يقولها بضيق مقاطعاً أفكارها لتحاول جره للحديث بسؤالها:
_كل هذا لأجل المتظاهرين؟! أنت من المهتمين بالسياسة ؟!
_السياسة ؟!
يقولها باستنكار مرير وهو ينطلق بالسيارة مردفاً :
_تعرفين المقولة الشهيرة (السياسيون كالقرود ..إذا تعاركوا أفسدوا الزرع وإذا تصالحوا أكلوا المحصول) ..لا ..لم أعد مهتماً بالسياسة ..لها ناسها ولست منهم ..إنما هو الوطن ..الناس ..الوجوه الكادحة التي تستحق راحة لا تجدها قبل الموت ..الدين الذي غابت حقيقته وهم يلبسون ثوبه لمن تهواه أمزجتهم ضالين ومضلين ! الدماء التي هي حرمتها عند الله أكبر من هدم الكعبة حجراً حجراً ! كل هذا لا يسمى سياسة ..اسمه حياة ! مسئولية ! أمانة سنحاسب عليها أمام خالقنا عندما يسألنا عن عمرنا فيما أفنيناه !!

لايزال يتحدث بهذه اللغة التي لا تفهمها فتغمض عينيها على دموعها الحبيسة ولايزال منظر أمها المستلقية على فراشها لا تذكرها بل ولا تذكر أي شيئ يرميها في ظلمات يأسها أكثر وأكثر ..

_كل هذا لأجل سيرة رفعت الصباحي؟! تكرهه إلى هذا الحد ؟!
_لقد أفضى إلى ما قدم ..عند الله تجتمع الخصوم !
يقولها بضيق لم يستطع كتمه لتتنهد بحرارة ثم تغير الموضوع قائلة :
_تعلمت ألا أغتر بالمظاهر ! لا تعلم كم هي قاسية أحياناً حياة هؤلاء الناس ..الأثرياء!
يختلس نظرة جديدة نحوها عبر المرآة وهو يحاول التركيز في الطريق بينما تغوص هي في مقعدها أكثر مغمضةً عينيها ..
تربت على أحد كفيها المتشابكين في حجرها بالآخر كأنما تمنح نفسها طمأنينة ..
صورة أمها التي عانقتها منذ قليل وهي لا تكاد تعرفها تسحبها للمزيد من الغرق في بحار الماضي ..

_أعرف منهم واحدة ..كان الناس يسمونها "كاملة الأوصاف"..الجمال ..المال ..النسب ..النفوذ ..لكن أباها لم يكن يتعامل معها إلا كسلعة رائجة ..اختار لها المرة الأولى الرجل المناسب الذي ظنّه سيكون خليفته في عمله ..لم تكن راضية عن هذه الزيجة لهذا لم تكد تعلم أن زوجها لا يمكنه الإنجاب حتى انتزعت حريتها منه ..المرة الثانية اختار لها أيضاً ما يتوافر مع طموحه ..الغريب أنها كانت راضية تماماً بالأمر وقد ظنت الدنيا ستضحك لها أخيراً ..لكنها فوجئت أن الزوج الثاني لا يراها لأنه يحب غيرها ..واستردت حريتها من جديد ..إنما عادت لتنغمس في ظلماتها ..ظلمة خلف ظلمة ..أسلمتها للإدمان ..

يختلس نظرة أخرى جانبية لها وهو يشعر أنها انفصلت عن العالم مع حكايتها هذه ..
والحقيقة أنها كانت كذلك !!

_حتى قتلت ابنها !
_ماذا؟!
يهتف بها باستنكار وانفعاله يكاد يجعله يصطدم بالسيارة التي أمامه لولا أن سيطر على سيارته هو في اللحظة الأخيرة ..
لكنها بدت غافلة تماماً عن كل هذا ولايزال أحد كفيها يربت بهذه الحركة الرتيبة فوق الآخر:
_ابنها من زوجها الثالث ..تركته يوماً وحده لتذهب كي تحضر ذاك المخدر ..لم تكن تميز شيئاً وقتها سوى المادة السحرية التي كانت تبقيها فوق غمام سعادة الوهم ..كان بالكاد قد تجاوز عامه الأول ..لعله افتقدها ..لعله ناداها فلم ترد ..لعله ذهب للشرفة يبحث عنها ..لعله صعد لذاك الكرسي كي يلوح لها ..لعله أسقط أحد ألعابه فرمى نفسه خلفها ..لا تعلم..ولن تعلم أبداً ..هي عادت لتجد جسده الساكن ملطخاً بدمه ..حملته لتجري به نحو المشفى القريب رغم يقينها من موته ..لكنها كانت تطارد بقايا أمل ..مات الصغير .
يستغفر الله بصوت مسموع وهو يعاود النظر نحوها متسائلاً:
_وهي؟!
تفتح عينيها المغمضتين لتلتقي عيناهما أخيراً بجوابها :
_ماتت بعده !

ينعقد حاجباه بقوة للحظة وهو يرى "العندليب الأخرس" في عينيها يكاد يصرخ وجعاً ..
بينما تشعر هي أنها نزفت المزيد من دماء جرحها التي ظنتها قد جفت ..
لماذا حكت له ؟!
لماذا تذكر نفسها؟!
ألم ترهن ما بقي من عمرها للّعب؟!
للّهو؟!
لماذا عادت "الماريونيت" تشبك خيوطها بنفسها ؟!
أما اكتفت من قيود الماضي؟!!

_تعرفينها ؟!
سؤاله المشفق ينتزعها من شرودها لترد بفتور:
_كانت صديقتي!
تقولها وهي تتمالك نفسها أخيراً لتغتصب ابتسامة مصطنعة مع قولها :
_أعتذر لو ضايقتك ..أثقلت عليك كثيراً اليوم !
_لا بأس! أدرك جيداً مرارة شعور الفقد هذا ..لكن الأشد مرارة هو محاولة تجاوزها ..أنا أيضاً فقدت شقيقي ..توأمي ..ربما استطعت تقبل حقيقة رحيله لكنني لم أتقبل بعد كيف نساه الناس بعدها ..حتى أقرب من كانوا إليه !
يهتف بها بمرارة فينعقد حاجباها لتتمتم بدهشة :
_توأمك؟! تعني أنكما متشابهان ؟!
تسأله وقد بدأت الحقيقة تسطع في ذهنها فجأة وهي تتذكر ما تعلمه عن جنة الرشيدي ..
كانت مرتبطة قبل فهد ..خطيبها قد مات !!

بينما يهز هو رأسه بإيجاب ليردف بنفس المرارة :
_خطيبته تزوجت بعده ..تزوجت واحداً ممن قامت الثورة ضد أشباهه !!

تتسع عيناها وهي تشعر بالحقيقة تصدمها!!
إذن هذه الصورة لم تكن لجنة مع إبراهيم ..
كانت مع شقيقه الراحل!!
فسدت اللعبة إذن !!
هل ستعود للمستوى الأول؟!!

الخيبة تخرسها طوال الطريق لكن الدفء الحقيقي الذي ملأ قلبها لدى دخولها للحي يمنحها بعض العوض ..
ماذا لو فسدت اللعبة ؟!!
فلتبحث عن أخرى ..هاهنا حياة بأكملها !!

_لن تشتري اليوم "النعناع" يا إبراهيم؟!
تهتف بها المرأة بسيطة الحال والتي دفعت بحزمة من النعناع الآخر عبر زجاج السيارة التي توقف بها إبراهيم أمام الحي والذي نقدها المال مضاعفاً لتدعو له بالبركة قبل أن يستمر في طريقه ..
يبتسم هو ابتسامته المنقوصة وهو يقول مفسراٌ لها :
_"مستر ربيع" لديه ارتباط شرطي بين النعناع والسعادة ..ولا يعترف به مجففاً أبداً ..عندما كنا صغاراً كان يضع لنا النعناع في الشاي كمكافأة زاعماً أن هذه الوريقات هدايا الأرض لمن صلح من أبنائها وعلامة طهرهم ..كبر وكبرنا لتبقى رائحة النعناع علامةً حقاً ..إنما لنقاء ذاك الرجل الطيب !

ابتسامته تنتقل عفوياً إليها رغم مزيج الألم والخيبة الذي يملأها:
_يبدو أنك تحبه كثيراً!
_هو أبي وصديقي وشيخي ..عمري كله فداء له !

يقولها بحرارة تخز قلبها وهي تراه لأول مرة يتحدث بعيداً عن قناع تحفظه المعهود ..
تود لو تطيل الجلوس معه أكثر لكنهما يصلان أخيراً فيترجلا من السيارة ..
_حمداً لله على السلامة !

يهتف بها ربيع بود وهو يستقبلها بينما يراقب إبراهيم الذي حمل حقيبتها التي عادت بها من بيتها القديم ليذهب بها للأعلى ..
بينما تتقدم هي لداخل الفرن وهي تشعر أنها تعود لتستقبل عزيزاً ..
الغريب أنها لم تشعر بحرارة الجو كما كان صباحاً بل شعرت أنها تريد الانغماس في العمل أكثر ..
_كيف تشربين الشاي؟!
يسألها ربيع باهتمام وهو يتناول الصينية من صبي القهوة المجاورة فتجيبه وهي تنظر للكوب ببعض التوجس:
_دون سكر .
يضحك ربيع وهو يقلب الشاي في الكوب هاتفاً ببعض المكر:
_لا تحملي هم نظافة الأكواب! "الولد" يغسلهم جيداٌ ..تحبين أن أوصيهم بكوب بلاستيكي لكِ ؟!
_سيكون هذا أفضل!
تقولها باستحسان وعيناها تقعان على سامي الصغير الذي جلس في مكانه جوار كشك سندس التي كانت تلوح لها بود ..
لتستند على الطاولة وهي ترمقهما من بعيد بنظرة فاضت بعاطفتها ..
نظرة شاردة بهذا الحزن الذي تصدعت معه جدران روحها ..
نظرة تخضبت بهذه الدمعة المذنبة المشنوقة بحبلها بين صورتين ..
أمها ..وابنها !

_ماما!
_قتلتِ ابنك يا مجرمة !
صفعة فادي من جديد كأنها تهوي فوق قلبها فينتفض جسدها بقوة لكنها تفاجأ بهذه الورقة الخضراء الصغيرة تسقط في كوبها ..
ورقة نعناع!!

ترفع عينيها نحوه ببعض الدهشة فلم تنتبه لعودته من أعلى ليصلها صوته الذي تسرب حنانه عبر أسوار تحفظه :
_هكذا تجدين المذاق أفضل..لا تبكي..
يهمس بها بخفوت ثم يغادرها بخفة ليفعل المثل بكوب أبيه الذي ابتسم بحذر وهو ينقل بصره بينهما لكن إبراهيم يتحرك ليغادر مستقلاً سيارته التي انطلق بها نحو عمله يلاحقه زوجان من العيون ..
أبوه الذي كان يشعر بمزيج من حذر ولهفة وهو يتأكد من صدق حدسه بخصوصهما ..
وهي التي رفعت الكوب لفمها متناسية ملاحظتها بشأن الكوب الزجاجي ..مذاق النعناع الطازج في فمها يجعلها تغمض عينيها باستمتاع يشبه شعورها بهمس حنانه ..
لم يكن يكذب ..هكذا حقاً تجد المذاق أفضل!
=======
*برتقالي*
======
أمام مرآتها تقف طيف تتفحص مظهرها الأنيق ..ثوبها الكريمي بهذه الزهور الرقيقة متناهية الصغر باللونين البرتقالي والأصفر على حافة صدره وكمّيه القصيرين ..مع حزام خصر عريض بلون أصفر ..قرط وعقد من الأحجار بلون برتقالي ..حذاء بكعبٍ عالٍ جداً بلونٍ كريمي وحقيبة يد صغيرة بلون برتقالي لامع ..
كعهدها لا تحب أدوات التجميل لكنها تعشق بهوس أناقة ثيابها بهذه الماركات العالمية الشهيرة ..
تمشط شعرها الناعم فترفع أحد جانبيه بحلية بسيطة ليبدو قرط أذنها أوضح ..

تعود خطوة للوراء تتفحص شكلها ثم خطوة للأمام ..
قبل أن تتنهد بحرارة ..

(أمشي في السكة أشوف نفسي
كده حلوة وروحي عاجباني
وأتمنى أقابله ولو صدفة ..
ويشوف تسريحتي وفستاني ..)

لا تدري من أين طفت كلمات هذه الغنوة اللعينة لذاكرتها !!
تطلق سبة عابرة وهي تتجاهل خواطرها بينما تتحرك لتغادر شقتها ..
لابد أن تخرج !
منذ دخول مجد في حياتها وقد صار يومها بأكمله محتلاً ب"هذا الرجل" أو بكل ما يتعلق به ..
مجد لا تكف عن الحديث عنه ..كأنها تحكي لها تقريراً مفصلاً عن يومه ..
متى جاء ..ماذا أكل ..ماذا شرب ..كيف قضى بقية يومه معها بعد انتهاء عمله ..
والغريب أنها لا تمنع الصغيرة من فعلها كل يوم ..
بل ..تبدو وكأنها تنتظر هذه التفاصيل لتكمل لوحته الغامضة في ذهنها ..
ورغم أنها لم تره منذ ذاك اليوم الذي حملها فيه للمشفى لكنها تشعر أنه حقاً صار يعيش معها ..
إن لم يكن في تفاصيل مجد اليومية ..
ففي حديثها معه عبر "حسابها المزيف" !
عندما سألها يوماً عن اسمها -كرجل- وجدت نفسها رغماً عنها تختار اسم "ضياء" !
ابن عاصي!!
ربما لأنها برغم ظاهر تمردها تتمنى بداخلها لو تنتمي ل"عائلة"!
هكذا صار يحيى صديق "ضياء"!
يتبدلان الحوارات اليومية لمدة قصيرة لا تتجاوز بضع دقائق قبل أن يعتذر أحدهما ..إما هو انشغالاً وإما هي هروباّ!

مجد أخبرتها أنه في رحلة سفر قصيرة لكنها لا تعرف تفاصيل ..
ربما لهذا تشعر ببعض الضيق كأنما فقد عالمها بعض توازنه !!
هل صارت مهووسة به حقاً إلى هذا الحد ؟!
ما الذي فعلته بنفسها ؟!

تضغط زر المصعد لتنتظره فتفاجأ به يغلق باب شقته ليتوجه نحوها ..
هل عاد ؟!
اللهفة المجنونة في عينيها تناقض حركتها وهي تشيح بوجهها بينما تتجاهل حتى إلقاء السلام ..فيردها لها بمثلها!
المصعد يبدو لها شديد الضيق ..شديد الضيق حقاً وهو يحتوي كليهما حتى أنها تشعر بتلاحق أنفاسها مع رائحة عطره التي تكتسحها كإعصار ..
لكنه كذلك يبدو لها شديد الاتساع ..شديد الاتساع حقاً وهو ينبت لها جناحين كي تحلق بهما في سماء بعيدة افتقدتها منذ زمن ..
سماء اسمها "الأمل"!

ذبذبات التوتر بينهما تملأ المكان حتى يصل المصعد أخيراً للأسفل لتشعر به يتجاوزها بخطوات سريعة حتى يختفي عن ناظريها فتعقد حاجبيها بخيبة لم تنكرها وهي تتمنى ..
ماذا ؟! ماذا تتمنى؟!

تتجاهل جواب السؤال وهي حائرة في وجهتها ..
التسوق؟! ربما قبل أن تلتقيه الآن كانت لديها شهية !!
أما الآن ..فهي تشعر أنها تود لو تعود لتختبئ في بيتها ..خلف شاشة حاسوبها ..تحيك مصائر أبطالها وتنغمس في حيواتهم لعلها تنسى حياتها هي!
إذن تمسك العصا من المنتصف كما يقولون ..
ستذهب لمقهاها المفضل بالجوار كي تشرب قهوتها ..تراقب بعض الوجوه لعلها تستلهم منها قصصاً كعهدها ..ثم تعود لصومعتها ..
لكن المفاجأة كانت من نصيبها أيضاً هذه المرة وهي تدخل المقهى الفاخر لتجده جالساً !!
ورغم أنه كان يعطيها ظهره لكنها لن تجهل تفاصيله !!

يرتعد قلبها بلهفة لم تعرفها منذ زمن "حسام القاضي" ..كأنما السنين تعاود منحها هذه اللذة المراهقة لرجفة الحب الأول ..
عقلها العصيّ يحذرها آمراً إياها بالتراجع نحو صومعتها الآمنة لكنها تسير كالمغيبة نحوه ..
تقترب بخطوات بطيئة متمهلة مستغلة غفلته عنها ..
تراه يفتح حاسوبه المحمول فتتسع عيناها بلهفة تحولت لغيرة غير منطقية وهي ترى الصورة الكبيرة التي كان يحدق فيها عبر الشاشة وقد شبك أصابعه ليستند عليها بذقنه أمامها ..
صورة امرأة فاتنة ..بل اثنتين!!

تكز على أسنانها بقوة تكاد تحطمها وهي تتجاوزه بسرعة لتتخذ مقعدها أمامه ..
أجل أمامه !! بهذه الصورة المتحدية له ولنفسها قبله !!

تستخرج من حقيبتها سيجارة لتشعلها ..
تلتقي نظراتهما وقد انتبه لها أخيراً فتنفث دخانها نحوه قبل أن تشيح بوجهها ..
اهدئي يا طيف! اهدئي!!
هو ليس من هذا النوع اللعوب وأنت تأكدتِ بنفسك!!
فكري!!
ربما هاتين هما سبب عقدته !!
رجلٌ كهذا لن يكره النساء هكذا من العدم !!
ماذا عساها قصتهما؟!
اثنتان!! اثنتان !!

تنقطع أفكارها فجأة وهي تراه يحتل الكرسي المقابل لها على مائدتها فجأة فينعقد حاجباها بغضب يناقض حمرة الخجل التي تخضبت بها وجنتاها !!

_من أذن لك بالجلوس؟!
تهتف بها بفظاظة بدت هزلية حقاً في موقفها هذا وكل خفقة من خفقاتها تكاد تجن لهفة لهذا الاقتحام "اللذيذ"!!
_أنتِ!
يقولها بنبرته الواثقة التي اصطدمت بصيحتها الاستنكارية لكنه يبتسم هذه الابتسامة المغيظة وهو يرد بنفس النبرة الواثقة :
_أنتِ رأيتني بالتأكيد عندما دخلتِ وتعمدتِ الجلوس أمامي ..كان يمكنكِ المغادرة أو الجلوس في مكان آخر لو لم تكوني راغبة في استفزازي لمجالستك!
منطقه يخرسها للحظة وهي تثق بصدق كل كلمة قالها لكنها تهتف بالمزيد من المكابرة بينما تنفث المزيد من دخانها في وجهه :
_لا شأن لي بتهيؤاتك وهلوساتك ..أنا حرة في الجلوس أينما شئت ووقتما شئت!
عيناه "ذاتا القضبان" ترمقانها بهذه النظرة النافذة التي تشعر أنها تصيبها بالقشعريرة!!
تخترق دواخلها بهذه الخبرة الواثقة لتلقيها في وادي التيه الذي يبعثر تماسكها!!

_لا أستسيغ الجلوس مع امرأة مدخنة .
يقولها ببطء كأنه لم يكترث بما قالته ..
ضاغطاً كل حرف من حروف كلماته وعيناه لا تحيدان عن عينيها مثقال ذرة ..
فتشعر بهذا الوهن الذي يدفعها للمزيد من الشراسة :
_هذه المرأة المدخنة لم تطلب منك الجلوس معها أصلاً !
_أطفئيها وسأعتبرها دعوة منكِ!
بنفس النبرة الواثقة التي تخللها الآن جذلٌ مستمتع لم يستطع إخفاء جذوته في عينيه ..
لكنها تعاود نفث دخانها في وجهه بإشارة صريحة لم يتجاهلها وهو يقف مكانه فجأة متأهباً للمغادرة ..
هنا لم تشعر هي بنفسها وهي تفاجأ -قبله- بأناملها تطفئ السيجارة !!

_خرب بيتك !! بل خرب بيتي أنا!! ما هذا الذي أصابني؟! ما الذي أصابني؟!

تهتف بها لنفسها في سخط وهي تشعر بقطرات عرق خفيفة تريق المزيد من دماء كرامتها فوق جبينها ..
حرجاً ..ارتباكاّ..وخجلاً !!

لكن ابتسامته الحقيقية -التي حملت الكثير من رضا- جزتها خير الجزاء عن كل هذا وهو يعيد الجلوس بينما عيناه "ذاتا القضبان" تعاودان غزوهما الصامت لها ..

_تقبلته !
تهتف بها وهي ترفع أنفها بكبرياء فيعقد حاجبيه بتساؤل عما تعنيه لتردف وهي تتراجع بظهرها لتضع أحد ساقيها فوق الأخرى:
_اعتذارك الذي قدمته لي في المشفى!

تتسع ابتسامته بإعجاب طفيف وهو يراها تقلب الأمور بعدما كان من حركة إطفائها السيجارة ..
كأنها تجيد التلاعب دوماً ب"المربعات الملونة" كي تضع مربعها هي في المكان الذي تريده بالضبط!!
المكان الأعلى!!

لهذا ترك لها التمتع بلعبتها وهو يرى نظراتها الظافرة تذكره باعتذاره ..
يرى النادل يتقدم ليسألهما عما يشربان ..فتطلب هي قهوتها غالية الثمن عامدة فيما يطلب هو ..مثلجات !!

_يبدو أنك أخطأت "الطلب" ! ظننت مجد هنا؟!
تقولها بتهكم تداري به تأثرها ليرد بثقة وهو يقترب بجذعه ليسند ذراعيه على المائدة وقد استند بذقنه على كفيه المتشابكين :
_لم أخطئ الطلب!
_إذن فالكاتب العظيم صاحب الكتاب الأعلى مبيعاّ ورجل الأعمال صاحب الشركة الكبيره لا يخجل من تناول المثلجات أمام العامة ؟!
تقولها بالمزيد من التهكم الظاهر لتشعر بعينيه تحتكران نظراتها أكثر وهو يرد :
_هذا هو الفارق بيننا ..أنتِ تطلبين القهوة غالية الثمن ..تنقدين البواب أمامي ورقة مالية بقيمة كبيرة ..ترتدين هذه الملابس ذات الماركات العالمية ..كل هذه الأفعال التي تفضح رغبتك في التمرد على ماضيكِ كأنما تستمدين نظرتك لنفسك من نظرات الناس ..أما أنا فلم يعد يعنيني هذا الأمر ..صرت أعيش لنفسي ولمن أحبهم ..فحسب!

لا تدري لماذا تكدست الدموع في عينيها فجأة قبل أن تشيح بوجهها عنه !
هل هو اقترابه شديد الخطورة كعهده من مقدسات ماضيها؟!
هل هو يقينها الخجول من صحة ما يقول؟!
أم هي المرارة المتوجعة التي نضحت من كلماته هو رغم ما يحاول تغليفها به من ثقة غير مبالية؟!
أجل! لأول مرة بينهما تشعر أنها ليست خجلة من ماضيها أمامه بل تشاطره نفس الألم !!

_مجد تقول إنكم كثيرو الأسفار !
تغير بها الموضوع وهي ترى النادل قد عاد بما طلباه ..
ترتشف رشفة من قهوتها ليصلها جوابه :
_لا أحب البقاء في مكان واحد لمدة طويلة ..أكبر ذنب يقترفه المرء في حق نفسه أن يقع في فخ "التعلق"!

كلماته تصيب وتراً خاصاً في نفسها وهي تشعر أنها تقترب من حدود مأساته ..ترفع عينيها نحوه لتصدم بمظهره وهو يقرب ملعقة المثلجات من فمه ..
تتخيلها وهي تذوب بين شفتيه !!
خيالاتها المهووسة تسحبها لمشهد آخر بعيد ..فتراه يجلسها فوق،ساقيه مثل مجد ..تطلب منه أن يطعمها المثلجات ..فيهمس لها بحنانه الآسر"تدللي" ..يطعمها إياها بنفسه ثم يضم رأسها لصدره فلا تدري أيهما ألذ ..مذاق المثلجات أم حنان عناقه ؟!

أفكارها الخطرة تنقطع وهي تلاحظ انتباهه لتحديقها فيه فتخفض عينيها بسرعة وهي تود الآن -رغم السعادة الخفية التي تركض في حقولها الآن- أن تهرب بعيداً لصومعتها الآمنة من جديد !!

بينما يشعر هو أنه يقرأها ككتاب مفتوح!!
حمرة خجلها هذه تناقض تحديقها الواضح فيه ..لكنه يتفهم كليهما !!
تبدو له كقطة برية متوحشة اعتادت الخمش بأظافرها لكنها تفتقد من يربت على ظهرها لتموء بنعومة بين ذراعيه !
لا ! لا تشبه أي امرأة قابلها من قبل !!
ربما لأنها لم تكتشف أسرار أنوثتها بعد !!
أجل هي فقط ترتدي عباءة امرأة متحررة لكنها تخفي تحتها طفلة منبوذة تخشى الغرباء كما يخشونها !!

_تعني أنك لن تمكثوا هنا طويلاً؟!
سؤالها يقاطع أفكاره فتلتقي نظراتهما ..
"سديم " عينيها بفوضاه الضبابية يتمخض واعداً بألف نجمة وليدة ..
بينما تبقى عيناه "ذاتا القضبان" منطوية على ما فيها ..
يتصارع فيها أمل وألم!!

_لا أدري!!
يقولها أخيراً وهو يلوح بكفه الذي اصطدم عفوياً بكأس المثلجات فكاد يسقطه ليمتد كفاهما معاً في نفس اللحظة كي يمنعا هذا ..
تتلامس أطراف أناملهما للحظة لكنها كانت كافية لتشعل هذه الشرارة داخلهما معاً !!
تتراجع مكانها بحركة نافرة وهي تشعر بوجنتيها تكادان تحترقان ..
ليرمق هو ارتباكها بنظرة متفحصة كأنه يقرأ خباياها ..
مظهرها ..ملبسها ..أسلوبها ..كل هذا يضعها في خانة امرأة متحررة جريئة ..
فلو أضاف لهذا سكناها وحدها لجمح خياله في ربوع سوء الظن بها لا محالة ..
لكن هذا الخجل الغريب الذي يوقن أنها لا تدعيه مع فظاظتها البرية يجعله يضعها في خانة مغايرة تماماّ!!

_أبلغني فقط قبل نيتم بالسفر بمدة مناسبة ..أنا لا أحب المفاجآت ولا أنكر أني تعلقت بابنتك .
تقولها بصوت مرتجف رغم ما تحاول ادعاءه من فظاظة وهي ترتشف رشفة من قهوتها ..
ليرد ولايزال يغزو حصونها باقتدار:
_أحب عندما تدعينها "ابنتي" وليس باسمها المجرد !
_تستحقها!
تقولها مسبلة جفنيها لتردف بمرارة خفية :
_الأبوة ليست اسماً في شهادة ميلاد ..الأبوة مسئولية ..حنان ..قوة تعرف متى تتحرك لتكون تارة في ظهرك وتارة تحمي صدرك وتارة تدور حولك ..ربما لم أجرب هذا الشعور لكنني ..أقدره !

يعقد حاجبيه بقوة وقد بدت له في هذه اللحظة أشد هشاشة مما قد يدور بباله ..
أم هو الذي كذلك وهي تضرب بعفويتها على أكثر مناطق جرحه وجعاً؟!!
الأبوة ؟!
ما الذي يمكنه هو قوله عن هذه الكلمة التي ذبحت ماضيه وستبقى تذبح يومه وغده لآخر يوم في عمره ؟!
"القضبان" في عينيه تتلاشى أمام هذا الغضب الذي أشعلته الذكرى..
صوت زجاجة العطر لايزال يدوي في أذنه كيومها وهي تسقط من يده لتتحطم ..
لونها الأحمر يصبغ كل شيء حوله ..
المقبض الذي اشتدت عليه أنامله ..
الباب الذي تهاوى عليه ظهره ..
لن يبالغ لو زعم أنه إلى الآن لايزال يهوي!!
جرحٌ كهذا يبقى طوال العمر جمرة بين الضلوع!!

ترفع عينيها فجأة ليروعها هذا الغضب الأسود الذي سكنهما لتدرك بحدسها أنها أصابت حجراً في مياهه الراكدة ..
لكن "القضبان" تعود لتحتجز نظراته خلف عينين عادتا لجمودهما !!

تراه يقف فجأة كأنه يهرب من شبح يطارده ..لهجته الواثقة تهتز نوعاً مع قوله :
_بما أنكِ ذكرتِ الأمر ..فسأخبركِ كما رغبتِ ..سنسافر مع مجد غداّ.
_أين ؟!
تسأله بتوجس وهي تشعر بانقباض قلبها ليرد باقتضاب وعيناه تحيدان نحو حاسوبه الذي تركه هناك على المنضدة الأخرى:
_بغداد!
_ستعودون؟!
تلتقي عيناهما للحظة فينثر الخوف بذوره في عينيهما بالتساوي ..كأنهما يتشاطرانه بالعدل!
هي التي كانت تشعر أنها على وشك فقد جزء من نفسها لن تسترده بسهولة ..
وهو الذي كان يشعر أن سفره هذا سيفتح عليه أبواب جحيم ظن أنه قد أغلقها للأبد !
إنما ..لا مفر!!

_ثلاثة أيام فقط!
يقولها بنفس الاقتضاب فتتنهد بارتياح لم تخفِه وهي تشيح بوجهها ..بينما يصلها صوته :
_مجد ستودعك بالتأكيد قبل سفرها وأظنها سترغب أن تكون أول من تزور عند عودتنا ..شكراً لوقتك .
يقولها وهو يهم بالمغادرة لكنها تستوقفه بهتافها:
_انتظر.
يلتفت نحوها لتشيح بوجهها هاتفة بفظاظتها التي حاولت تخفيفها قليلاً:
_لا أجيد عبارات الشكر ومثل هذه الأمور ..لكن ..وقوفك جواري يوم المشفى أنت وصاحبك "فرقع لوز" ذاك حينها كان ..كان موقفاً جيداً ..يبدو أن الدنيا لاتزال بخير كما يزعمون !
تقولها ثم تعاود الالتفات نحوه بحذر كأنها تختبر وقع كلماتها عليه ليرمقها بنظرة طويلة سبقت قوله :
_لا داعي للشكر ..كما أنه لا داعي لهذه الحرب الباردة بيننا ..أعرف أن تفكيرنا مختلف وشخصياتنا متناقضة ..لكن لنحاول التكيف معاً ..لأجل مجد .
_ستسمح لها بالاتصال بي؟!
سؤالها يتأرجح بين أمر فظ ورجاء خفي لكنه يتقبل كليهما وهو يبتسم ابتسامة واهنة ليهز رأسه هزة خفيفة قبل أن يغادرها ليرحل ..
تاركاً إياها خلفه تراقب بقايا المثلجات التي انصهرت تماماً في كأسها ..
خاطر غريبٌ يجتاح رأسها وأناملها تمتد لتلامس الملعقة فتقلب بها مزيج المثلجات الذي تداخلت ألوانه ..
لو كان لهذا الكيان الكريمي أن ينطق فبما يصف شعوره وقد جرب لذة دفئه قبل أن يتركه هكذا دون أن يكمله ..ويرحل؟!
=======
بغداد !
معشوقته التي سيبقى يبكيها العمر دما بدل الدموع !!
العتيقة المتجددة ..العروس متغضنة الملامح ..
الطفلة المذعورة والأم الحنون ..
الصاخبة حد الاشتعال ..والصامتة حد الموت ..
الصابرة التي لا تزيدها ضربات الأيام إلا عزة !
كل الهواء هواء إلا هواءها ...حياة!
كل التراب تراب إلا ترابها ..سكن!
كل الناس ناس إلا ناسها ..أهل!
كل البلاد بلاد إلا هي ..جنة !

جنة لُفِظ منها بخطيئة ليست خطيئته إنما بقي ثمنها في عنقه وحده !!

_هل ستبقى شارداً هكذا ؟! لهذا لم أكن راغباً في العودة إلى هنا!
يهتف بها نزار بجدية غريبة على طبعه العابث وكأنه هو الآخر يرزح تحت عبء العودة للوطن ..
ورغم كونه "نصف مصري ..نصف عراقي" لكن العراق بقي وطنه الذي عاش فيه أغلب سنوات عمره فغلب له انتماؤه .

يلتفت نحوه يحيى من شروده وهو يقف في نافذة غرفة الفندق الفخم في بغداد ..
فيقترب منه نزار أكثر ليربت على كتفه قائلاً :
_لا داعي لهذه الزيارة ! أنت رميت كل الماضي خلفك؟!
_هل تظن هذا حقاً؟!
يهتف بها بمزيج من غضب وألم ليطرق نزار برأسه بينما يردف يحيى الذي بدا كوحش سجين وهو يلوح بذراعيه بعجز:
_تعلم منذ متى انتظرت هذه اللحظة ؟! أن أقف في وجهه ..أضع عيني في عينيه ..أخبره ..أنني ..كنت أعلم..أنني لست مغفلاً كالذي ..!
يقطع عبارته قهراً وهو يشعر بهذه الغصة التي استحكمت حلقه ..
يلقي برأسه فوق كتف نزار لكن الأخير يهزه بقوة وهو يمسك بعضديه هاتفاً بقوة غريبة على طبيعته العابثة :
_إياك أن تخفض رأسك في موضع كهذا أبداّ..أبداً ..حتى ولو أمامي أنا ..ارفع رأسك يا يحيى ..ارفعه !
لكن يحيى يشيح بوجهه قليلاً مخفياً هذه الدمعة العجوز !
اجل ..عجوزٌ هرمة ولدت منذ سنوات وتزداد تجاعيدها القبيحة كلما أخفاها !
ويخشى أن يأتي هذا اليوم الذي تسقط فيه عجوزه الهرمة فيسقط معها ما بقي من كبريائه !

ولا يدري لماذا الآن في هذا الموضع بالذات تذكرها هي ..
طيف!
هل يمكنه الاعتراف أنها -وبرغم كل هشاشتها- تمنحه قبساً من قوة ؟!

_اعتنِ بمجد حتى أعود ..لن أتأخر!
يقولها أخيراً وهو يربت على كتف نزار الذي منحه نظرة مؤازرة قبل أن يلقي نظرة أخيرة على المرآة ..
هل هو هو؟!
هو يحيى العراقي الذي غادر بغداد منذ سنوات مطعوناً بخنجر غدر؟!
ومتى ؟! في اليوم الذي ظنه وقتها أسعد أيام حياته ؟!
نعم ..هو !
عاد ليرتشف أخيراً كأس انتقامه !!


خواطره لا ترحمه طوال الطريق ..
تصفعه بهذا الكف القاسي الذي عهده طوال هذه السنوات ..
الجهل رحمة ! رحمة لم تكن من نصيبه للأسف!!

تتوقف بها السيارة التي استأجرها أمام مبنى السجن الذي تعلقت عيناه بلافتته للحظات قبل أن تستمر خطواته عبر الطرق المفترضة ويده تشتد حول تصريح الزيارة الذي حصل عليه ..

هاهو ذا أخيراً يقف أمام الرجل الذي تقدم خافضاً جبينه بخزي ..
عيناهما تتشابهان شكلاً إنما تتناقضان في هذا الإحساس الذي سكن حدقتيهما ..
غضب الأول إزاء دهشة الثاني ..
تشفي الأول إزاء خزي الثاني ..
قوة الأول إزاء وهن الثاني ..
وإن تشارك كليهما في مرارة من أدرك نهاية السباق خاسراً !
أجل ..رغم كل شيئ لم يستطع يحيى منع شعوره بالخسارة ..
من الحروب ما هي مَغْنمها كمَغْرمها ..كلاهما هزيمة !!

_يحيى؟! أين كنت؟! أخيراً عدت !
يهتف بها الرجل الذي بدت على ملامحه أمارات عزيز قوم ذلّ ..
لتقسو ملامح يحيى وهو يجيبه ببرود :
_لم أعد ..ولن أفعل ..جئت فقط كي أراك !
_هل علمتَ ما حدث ؟!
يهتف بها الرجل بخزي ليرد يحيى بابتسامة تهكم مريرة :
_بل أنا ...أنا دبرت ما حدث !
تتسع عينا الرجل بصدمة وهو يتراجع خطوة للخلف هاتفاً باستنكار:
_ماذا ؟!
لكن يحيى يقول بنفس النبرة التي يصطرع على أرصفتها خصمان متساويان من غضب وألم :
_أنا دبرت هذا ..أنا ابتعدت كل هذه السنوات كي أستطيع التخطيط لما فعلته ..الآن أذيقك مرارة السجن الذي ستحياه لبضع سنوات من عمرك ..قصاصٌ ليس بعادل مقابل السجن الذي وضعتني أنت فيه طوال عمري ..ما سبق وما لحق!
تشتعل ملامح الرجل بغضب أهوج وهو يهتف به بانفعال:
_بماذا تهذي أيها الأحمق؟! هل فقدت عقلك ؟! عن أي شيء تتحدث ؟!
_عن الحقيقة ! ليست حقيقة أعمالك المشبوهة التي أجدتَ إخفاءها بخبرة مجرم طوال هذه السنوات ..إنما الحقيقة الأخرى التي تخصني ..أنا !
تزيغ عينا الرجل بينما تتلاحق أنفاسه وهو يرمقه بنظرة فأر مذعور سقط لتوه في مصيدة ..
لكن يحيى يرمقه بنظرة طويلة استباحتها "دمعته العجوز" رفيقة سنواته الأخيرة ..
هذه النظرة التي لم يحتملها الرجل وهو يلوح بسبابته المرتجفة في وجهه هاتفاً بحدة :
_اخرج ..اخرج من هنا ولا تعد ..لا أريد رؤيتك من جديد أبداً ..هل عدت بعد هذه السنوات لتلقي في وجهي هذه الافتراءات والألغاز ؟!
لكن يحيى يبتلع غصة حلقه ليتفحص ملامح الرجل كأنما يريد أن يطفئ بها بعضاً من هذه النيران التي تضطرم في حناياه ..
ثم يردف أخيراً بنبرة "مهزوم منتصر":
_بل جئت لأراك للمرة الأخيرة قبل أن أختفي ثانية ..لكن ليس قبل أن أذيقك سمّ اعترافي ..أنا من يقف خلف سجنك هنا ! أنا ..
ثم يصمت لحظة ليلقي سهم حقيقته الأخير والذي جعل ملامح الرجل تشحب حد الموت:
_أنا يا .."أبي"!
========
(ما رأيت وحشاً أشد فتكاً من الاشتياق عندما يغرس مخالبه في صدورنا ! ألا رفقاً بنا أيها الحنين ! يبقى الورد مجرد بتلات ناعمة مهما توارى خلف قسوة أشواكه !!)

تكتبها صباحاً عقب استيقاظها من النوم على لسان إحدى بطلاتها في مشهد تبقيه "في الدرج" -كما يسمونه- مع أشباهه ينتظر أن تكتمل له حكاية ..لكنها وحدها تعلم أنه الآن "كل"الحكاية !

اليوم الثالث لرحيلهم ..تغادر فراشها لتتحرك نحو النافذة القريبة ..تراقب نافذة مجد من مكانها رغم يقينها من ظلمة غيابها !!

هل جربت مذاق هذا "الغياب" الذي يجعلك تتساءل كيف كانت الحياة قبل "الحضور"؟!
هذا المذاق الذي يفتقد المذاق!! كأن حواسك كلها تنتظر العصا السحرية التي ستعيد لها الحياة !!
هذا بالضبط ما كانت تشعر به منذ رحيلهم والذي تفاقم كثيراً هذا الصباح وهي تستعيد كل كلمة دارت بينهما في آخر لقاء ..
تقارن دون وعي بين مشاعرها معه ومشاعرها مع حسام القاضي ..
يشتركان في روعة السحر الأول ..إنما يختلفان في أثره ..
عندما أحبت حسام كانت تبدو كطفلة تتعلق بجلباب هذا العشق كي لا تتوه وسط زحام الطريق ..
لكنها مع يحيى تشعر أنها عجوز تنظر في مرآة هذا الحب لتمنحها التعويذة السحرية التي تعيد لها شبابها ..
فكم بينهما؟!

مهلاً! هل تعترف إذن أنها أحبت يحيى حقاً؟!

_ لا لا لا ! انسي! ليس قبل أن يعترف هو أولاً ..
تهمس بها لنفسها بحزم وهي تغلق ستار نافذتها ثم تتوجه نحو مرآتها لتبتسم وهي تغمغم بشرود :
_قريباً ..سيفعل ..

لا تدري من أين أتتها هذه الثقة ؟!
حدس أم أمل؟!
لا تدري! لكن ما هي واثقة منه أنها مست قفلاً عنيداً ل"قضبان عينيه"!
تتنهد بحرارة عند الخاطر الأخير وهي تتوجه نحو المطبخ ..تعد قهوتها "الرخيصة" التي تحب مذاقها متجاهلةً تلك غالية الثمن كأنما وعت درسها الأخير في آخر لقاء لها معه ..

تشم رائحتها باستمتاع وهي تضغط بأطراف أناملها على الفنجان الذي تذكرها نقوشه بنقش فنجان قديم كان لسيدة ما ممن عملت لديهن أمها وقد أعلنت الأخيرة يومها إعجابها به ..اشترته كأنما هو هديتها لها ..ولو بعد موتها !!

لكن ضغطة أناملها على الفنجان تذكرها الآن كذلك بموقف آخر ..
تماس أناملها معه هو !!

ترتشف رشفة أخرى مستمتعة وهي تعود لغرفتها نحو حاسوبها ..
منذ سفره وقد انقطع عن التحدث لها ك"ضياء"..
إنما وجدته قد شارك بهذه القصيدة ل"كريم العراقي" الشاعر المعروف :

يالروحي التي دمرتني ..تسألين وما وجدتِ جوابا..
إن تحنّي إلي الديار فابكي ..قد غُصبنا علي الرحيل اغتصابا ..
لا حبيبتي معي ولا بلادي ..ضائعٌ كم طرقت باباً فبابا ..
واحتراقي أيستمر لأني خيط شمع لطول ما ضاء ذابا ..
فرجوعي هو الدمار لنفسي ..وهروبي أشد عذابا..
كان لي فيها ذات يوم حبيب ..مثلما تذهب الطفولة غابا ..
كاذب إن نسيت أو أتناسى ..كيف ينسى سرب الحمام القبابا ..
أيها المقهورون يا أصدقائي ..كم كتبنا للزمان خطابا ..
هل لنا من بعض الأماني نصيب ..أم سنقضي هذه الحياة اغترابا


تدمع عيناها بتأثر وهي تتخيل الكلمات بصوته ..بلهجته العراقية ..
الآن فقط تدرك أن كليهما منغمسٌ في دوامة غربته ..
وإن كانت هي اختارتها بإرادتها ..فيبدو أنه قد غُصب عليها !!

تنتفض مكانها فجأة وهي تسمع رنين جرس الباب فتهرع إليه بلهفة ..
هل عادت مجد ؟!

تطلق صيحة فرحة لم تستطع إخفاءها وهي ترى الصغيرة أمامها تفتح لها ذراعيها فتنحني لتضمها إليها بقوة ..
تكتم تأوهات انفعالها وأناملها تغوص بين خصلات شعر الصغيرة القصير تغرس رأسها في صدرها هي أكثر وأكثر ..
_افتقدتكِ جداً ! وصلنا لتوّنا ! طلبت من "بابا" أن أزوركِ قبل حتى أن أعود للبيت !
تهتف بها مجد بعمق عاطفتها العفوية فيما يعجز لسان طيف عن الحديث لأول وهلة قبل أن تقبل وجنتها لتهمس أمام عينيها :
_لا بأس ..اذهبي واستريحي ..وعودي متى تشائين .

ترفع الصغيرة بصرها نحو نزار "المبتسم دوماّ" ويحيى الذي بدا متجهماً مطرق الرأس ثم تعود ببصرها نحو طيف قائلة :
_هل يمكن أن نعود كلنا لنحتفل بعيد ميلادك كما فعلتِ معي؟!

_عيد ميلادي؟! من أخبركِ عن عيد ميلادي ؟!
تهتف بها طيف بغرابة وهي تسمح لنفسها أخيراً بالنظر ليحيى لكنه بقي محافظاٌ على إطراقة وجهه بمظهر بائس غريب عن طبيعته المعهودة ..

_"أنكل نزار"!
تهتف بها مجد بعفوية فيشير نزار لصدره ببعض الفخر قبل أن يقول بخبث:
_فرقع لوز!

تزم طيف شفتيها بحرج وهي ترمق يحيى بنظرة عاتبة ..إذن فقد أخبره !!

بينما تردف مجد بنفس العفوية :
_هو تابع حسابك على "الفيسبوك" وعلم منه تاريخ مولدك ..وأنا أصررت أن نعود اليوم صباحاّ كي نحتفل معاً به .

_لا أحتفل بهذا اليوم !
تقولها طيف بفظاظة وهي تشعر بمزيج من سعادة خفية وترقب خطر ..
لكن مجد تهتف بها برجاء :
_لأجل خاطري ! أنا افتقدتكِ وأريد الاحتفال!
_لا تضغطي عليها يا مجد ! يمكنكِ زيارتها غداّ أو في أي يوم !

يقولها يحيى أخيراً وقد انفكت عقدة لسانه ..لتشعر بقلبها ينقبض مع هذه اللهجة المنهكة التي احتضنت حروفه ..
ما الذي أطفأ هذه الجذوة المشتعلة دوماً خلف "قضبان عينيه"؟!!
ما سبب سفره لبغداد؟! ولماذا عاد منها بهذه الصورة ؟!

يزداد انعقاد حاجبيها وهي ترى نظرة الخيبة التي ظللت ملامح مجد التي تحركت بكرسيها مبتعدة ليلحقها نزار ويحيى ..
فوقفت مكانها مترددة للحظات قبل أن تهتف لها أخيراً:
_حسناً ! موافقة ! استريحي فقط من تعب السفر .
======
حول المائدة في صالة بيتها يغنون أغنية عيد الميلاد الشهيرة ..
مجد وخادمتها ونزار الأكثر حماسة ..فيما أطبق يحيى شفتيه مكتفياً بنظرته الغامضة نحوها ..
بينما دمعت عيناها هي بعاطفة لم تستطع التحكم فيها ..
عيناها معلقتان بالشموع كأنها ترى فيها سنوات العمر الفائتة ..
شمعة ..ترى فيها أمها بجلباب قديم وقد انحنى ظهرها تعباّ..
شمعة ..ترى فيها زيارتها لقصر الرفاعي وصراخ حماد المرعب المدوي في أذنيها يسبق طرده لهما ..
شمعة ..ترى فيها صورتها هي وقد ورثت خطيئة أمها بل وعملها أيضاً ..
شمعة ..ترى فيها صورة حسام وقد اختطف منها كتابها فوق سطح بيته لتلتمع في عينه أول نظرة حب ..
شمعة ..ترى فيها صورتها وقد أبعدتها أمه عن العمل في بيتها بعدما شعرت به من عاطفة بينهما ..
شمعة ..ترى فيها صورته وقد تزوج ابنة الرجل العظيم ..الفاتنة ذات الحسب والنسب ..وتركها هي خلفه هباء منثوراً ..
شمعة ..ترى فيها عودة عاصي بعرضه الهزيل بنقود أبيها دون اسمه ..
شمعة ..ترى فيها تلاعبها هي بكليهما وهي تفر من مصر بالنقود تاركةً لحسام شعلة انتقامها ..
شمعة ..ثم شمعة ..ثم شمعة ..ترى فيها تباعاً صور عمرها المسكوب هنا في هذا البلد ..في غربة تدعي أنها اختارتها ..وكم من مغصوب زعم أن كان له اختيار!!

_هيا ..أطفئي الشموع!
هتاف مجد المرح ينتزعها من شرودها فتهز رأسها بما حمل معنى الرفض ..
ليتها حقاً تستطيع إطفاء كل هذه الشموع!!

_هديتك ..كل عام وأنتِ بخير!
تقولها مجد وهي تقدم لها هذه الكريستالة المربعة التي بدت لها شديدة اللمعان والتي تحتجز داخلها رسماً لطائر "فلامنجو" أبيض تلون ريشه بالبرتقالي وقد وقف رافعاً رأسه ..

_أحسكِ -مثلي- كلانا نشبه "الفلامنجو" ! بابا يقول أنه يجيد الوقوف على قدم واحدة ..وأنا قد أستطيع يوماّ الوقوف دون قدمين !
تقولها مجد ببراءتها البائسة فتزداد كثافة الدمع العصي في عيني طيف التي عادت تتأمل المربع الكريستالي بشجن ..
"فلامنجو" يقف على قدم واحدة ..وقد انثنت الأخرى ..انثنت وجعاّ و قهراً!

_وهذه هدية متواضعة لا تليق بمقامك الرفيع! كل عام وأنتِ بخير!
يقولها نزار بنبرته العابثة وهو يقدم لها علبة مغلفة تناولتها هي بعدم اكتراث لتضعها جانباً فتنحنح بحرج هاتفاّ:
_أستاذة طيف! لماذا أشعر أنكِ لا تطيقينني؟!
_تشعر؟! وماذا ينقصك كي تتأكد ؟!
تهتف بها بفظاظتها المعهودة دون أن تتكلف المجاملة ليرتفع حاجبا نزار بدهشة للحظة قبل أن يتمتم بخفوت :
_"جكمة"! والله ما كذبت!!

تقدم لها الخادمة هديتها كذلك ..باقة زهر رقيقة فتقبلها دون شكر وقد فقد لسانها كلماته مع هذه الفوضى التي تعيث فساداً بجوانبها ..

ترى الخادمة تناولهم أطباقهم من الحلوى وقد انغمست مجد في مشاهدة فيديو صاخب مع نزار ..بينما انتحى يحيى جانباً وقد بدا هو الآخر منشغلاً بمكالمة هاتفية ..
هنا شعرت بعجزها عن التحكم في المزيد من انفعالاتها فتحركت مبتعدة نحو الشرفة القريبة لتعطي ظهرها لكل هذا !!
ترقب السماء التي خلت من نجومها عدا واحداً كان يومض من بعيد ببطء متثاقل ..
فيشبه هذه الخفقة "الموجعة" في صدرها !!

الدمع العصي يوشك أن يخون فيسيل دون رادع !!
كأنها هاهنا فقط تدرك أنها كانت في سباق طويل ..طويل جداّ..يوشك أن ينتهي فلا يعنيها فوز أو خسارة ..
إنما ..هل كان المضمار حقاً لها ؟!
هل تستحق الجائزة كل هذا التعب؟!!

ولا تدري لماذا الآن تذكر عناق عاصي الرفاعي؟!!!
ربما ..ربما لأنه كان إحدى الحقائق القليلة في عالم مليئ بالضلالات !!
آآآه !
تطلقها صاخبة ساكتة!!
ومن مثلها أقدر على فعلها ؟!!!

هو ..خلفها !!
تشعر به قبل أن تشم عطره !!
قبل أن يصلها صوته الذي تستبيحه هذه المرارة المنهَكة :
_لم تحتفلي بيوم ميلادك من قبل ؟!

لا تلتفت نحوه ..بل تبقى عيناها معلقتين بالنجم البعيد ..
وفي خلفية الصورة يقف طائر فلامنجو أبيض على قدم واحدة !
ربما لهذا يأتي الجواب سريعاً كأنما يلفظه صدرها بعد طول تحمل ..

_مرة واحدة ..مع ..حبيب قديم !!
حماقة ؟!
شجاعة ؟!
أم هو فقط السد الذي انزاح فجأة لينهمر من خلفه فيض البوح ؟!!!
تلتفت نحوه مع جوابها لتلمح ما لم ترِد تصديقه !!
ضيقٌ يلتحف بغيرة ويفترش العينين ذاتي القضبان !!

_هو سبب كراهيتك للرجال؟!
نبرته لا تزال منهكة مختنقة بينما تكتسي نبرتها بقسوة حقيقية وهي تعود للشرود في النجم البعيد :
_ربما! لكن لا تضعني في إطار الضحية المظلومة ..أنت لا تدري ماذا فعلت به !
يزداد انعقاد حاجبيه مع هذا الفخر الظاهر الذي ظلل قسوتها وهي تحكي له عن ..حسام !!
القصة كاملة !!
الدهشة تصيب سهمها في قلبه وهو يراها تفضي بكل هذا دون تحفظ ..
لكنه كان يعلم أنها الآن ليست في حالتها الطبيعية ..
هذه الليلة مست شيئاً بداخلها ..
ألقت كرة الثلج الصغيرة من فوق الجبل لتكبر شيئاً فشيئاّ حتى صارت تدمر كل ما في طريقها !!

تصمت أخيراً ولاتزال تراقب النجم البعيد ..
ربما إلى الآن لا تدرك أنها تكلمت ..تكلمت بصوت عالٍ!

بينما كان هو خلفها يشعر أنه بحاجة أن يقترب أكثر ..
ورجلٌ مثله لا يبرح حتى يبلغ!!
يقترب حتى يكاد يلاصقها ..
خصلات شعرها الأسود الطويلة تتطاير مع الهواء فيشعر بها تصفع صدره ..قبل أن يستقر بعضها فوق كتفيه طالباً حق اللجوء!!
ربما لهذا يكره الشعر الطويل ..يبدو له كحبائل تجيد نصب الفخاخ ..
وهو لن يرضى لنفسه يوماً بالمزيد من الخديعة !!

إنما هذه المرأة تبدو مختلفة ..
امرأة لا تتخفى خلف قناع تبرج أو غنج ..
لا تخجل من الاعتراف بماضٍ أو خطأ ..
لا تستحي من البوح بحقيقة فتجملها ..
إنما تصعد الدرج بخطوات ثابتة رامية كل شيء خلفها كأنها لا تبصر سوى القمة !!

قسوة انتقامها الذي عرفه عن ماضيها تبدو له مخيفة ..
لكن ..ماذا عنه هو ؟!
هل كان انتقامه أقل قسوة ؟!!
الآن فقط يدرك كم كان صادقاً شعوره وهو يصفها بأنها "توأم روحه" ..
توأم الجرح ..توأم الماضي ..توأم القسوة !!

تلتفت نحوه فجأة من شرودها لتتسع عيناها بدهشة للحظة وكأنما أفاقت لتوها من حلم غريب ..
هل باحت له حقاً بكل هذا؟!
وبكل هذه الشفافية ؟!!
أي لعنة ألقاها عليها حتى تفعلها ؟!!
لكن لا بأس!!
فليبقَ رأسها مرفوعاً!!
هي لا تخجل من شيء من ماضيها ..أي شيء!!

الحمية الفائرة التي تسري الآن في عروقها تنسيها اقترابه الخطر ..
كأنه في هذه اللحظة في مكانه الطبيعي الذي وضعته روحها داخلها منذ حين ..
بهذا القرب ..وبهذه الخطورة ..فما العجب؟!!

"القضبان" في عينيه تتهاوى ببطء ..
و"السديم" في عينيها يزداد لمعاناً ..وفوضوية !!
الصمت الصاخب يشتعل في هذه السنتيمترات القليلة التي تفصل بينهما ..
الوجهان ما عادا وجهين ...بل انعكاسي مرآة متطابقيْن!

أنامله تمتد ليستقر كل كف فوق جيب من جيبي سترته ..
الأيسر يحوي هذا الخاتم الماسي الفخم الذي يدرك أنه سيرضي شغفها بهذه الأشياء عالية القيمة ..
والأيمن الذي يحوي هذه الهدية الأخرى التي لا يدري بأي سخفٍ صنعها ..
الهدية الرخيصة جداّ..والغالية جداً جداً ..
أرخص -ربما- من أن تنال رضاها ..
وأغلى -ربما- من أن تستحقها ..
فماذا عساه يختار؟!

_هديتك!
يقولها أخيراً وقد حسم اختياره باقتضاب يناقض كل هذه الثرثرة الصامتة في عينين تهاوت قضبانهما ..
لتتسع عيناها المحتلتين بهذا "الدمع العصي" الذي شوش رؤيتها للحظات ..
فبين أنامله كانت سلسلة تعلقت في دلايتها صدفة ..صدفة صغيرة تشبه هذه التي ترتديها مجد دوماً وقد أخبرتها يوماً أنه هو من صنعها لها ..
صدفة مجد لم تكن ملونة كأنه تركها لجمال فطرتها ..
إنما هذه في يديه حملت اللون البرتقالي ..
تراه خمن أنه لونها المفضل ؟!

"الدمع العصي" ينذر بالمزيد من الخيانة فتسبل جفنيها وهي تنتبه أخيراً لتقاربهما هذا فتبتعد للخلف ..
_تشبه سلسلة مجد؟!
تهمس بها بصوت متحشرج وقلبها يخفق بجنون ..
ليصلها صوته بكبريائه الرصين إنما مختنقاً بهذه النبرة المنهكة :
_أن أهديكِ إياها يعني أنني أمنحكِ ما لم أمنحه لامرأة منذ عهد بعيد ..

ترفع إليه عينيها بترقب وهي تشعر بهذه الرعدة في جسدها ليردف باقتضاب:
_احترامي!

تغمض عينيها للحظة برهبة وهي تضغط شفتيها قبل أن تمتد أناملها لتسحب منه السلسلة ببعض العنف الذي تفرضه طبيعتها !

تقبض أناملها على السلسلة بقوة دون أن تنطق بكلمة شكر لتشيح بوجهها بعدها دون رد ..
فيتراجع ليعطيها ظهره قائلاً :
_سنرحل الآن ..مجد لم تسترح تماماً من تعب السفر!

تراقب ظهره المغادر للحظات بفورة عاطفتها قبل أن تهتف فجأة :
_انتظر!

يلتفت نحوها بترقب لتقترب منه هاتفة بفظاظتها المعهودة :
_كنت أريد شيئاً !
ينعقد حاجباه مع هذا التردد الذي أخرسها للحظة كأنها تخشى الرفض ..
قبل أن تقول بما بدا كرجاء لولا خشونة لهجتها الفطرية :
_دع مجد تبيت معي هذه الليلة ..افتقدتها !

صمتٌ قصير يسود بينهما ينذرها بالرفض ..
لكن الجواب الذي يأتيها يستحق الانتظار ..
والكلمة الآسرة تخصها هي هذه المرة :
_تدللي!
========
انتهي الفصل التاسع


نرمين نحمدالله غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-07-20, 10:39 PM   #599

Ektimal yasine

? العضوٌ??? » 449669
?  التسِجيلٌ » Jul 2019
? مشَارَ?اتْي » 1,965
?  نُقآطِيْ » Ektimal yasine has a reputation beyond reputeEktimal yasine has a reputation beyond reputeEktimal yasine has a reputation beyond reputeEktimal yasine has a reputation beyond reputeEktimal yasine has a reputation beyond reputeEktimal yasine has a reputation beyond reputeEktimal yasine has a reputation beyond reputeEktimal yasine has a reputation beyond reputeEktimal yasine has a reputation beyond reputeEktimal yasine has a reputation beyond reputeEktimal yasine has a reputation beyond repute
افتراضي

تسجيل حضووور لأحلى نيمو

Ektimal yasine متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-07-20, 10:47 PM   #600

MaRo.2014.

? العضوٌ??? » 323149
?  التسِجيلٌ » Aug 2014
? مشَارَ?اتْي » 632
?  نُقآطِيْ » MaRo.2014. is on a distinguished road
افتراضي

السلآم عليكم ورحمة الله وبركاته
نرمين كاتبة مميزة قرات لك كل رواياتك بلا إستثناء ولاكثر من مرة
دمت مبدعة


MaRo.2014. غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:40 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.