شبكة روايتي الثقافية

شبكة روايتي الثقافية (https://www.rewity.com/forum/index.php)
-   منتدى الروايات العربية المنقولة المكتملة (https://www.rewity.com/forum/f516/)
-   -   رواية بدوية الرحيل -[فصحى&عامية مصرية] -الكاتبة //ألاء محمود مكتملة (https://www.rewity.com/forum/t397837.html)

Just Faith 07-12-17 12:58 PM

رواية بدوية الرحيل -[فصحى&عامية مصرية] -الكاتبة //ألاء محمود مكتملة
 



https://upload.rewity.com/upfiles/RZx88645.png


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
صباحكم فل وريحان ومساكم عطر ومسك
اليوم معكم بناء على طلب حبيبة قلبي لامار
برواية تسألتم عنها كثيرا
رواية بدوية الرحيل
بقلم ألاء محمود
التي اجادت وابدعت باسلوب راقي منمق
يالا معاً نبحر بالرواية حتى نتمتع بها معاً
ونتعرف على بدوية الرحيل وهل الرحيل له بداوه وشراسة ما
حسب انتماء كل فرد منا
لنرى المغزى خلف الأسم
مع الغلاف

https://upload.rewity.com/uploads/1512640313241.jpg

مع المقدمة

https://upload.rewity.com/uploads/1512640313262.jpg

https://upload.rewity.com/uploads/1512640313273.jpg




Just Faith 18-12-17 12:30 PM

بـــــــــــدويــــــــــ ــــــــــــــــة الـــــــــــــرحــيـــــ ــــــــــــــــــــل
مــــــقــــــــــدمـــــ ـــــــــــــة
في قلبي تسكن بدوية
سوداء الشعر خمرية
عينيها بحورٍ عسلية
قالو عنها هي رجعية
ملبسها خيامٍ قَــــــــبَـــــــلِيَّة
تخفي به ألف خطية
قالوا تجهل العيش بمدنية
فلنشنق تلك البدوية
بحبالِ بهتانٍ عتية
فلترحل عنا البدوية
ما وهنت يومًا لفرية
بل رحلت بالحب قوية

Just Faith 18-12-17 12:31 PM

الجزء الأول
رحيــــــل الـبــــدايــــــــــــــ ــــــة (رحلة الذكريات)
أحيانًا نظن أننا أقوياء... أن أحلامنا في متناول يدنا... أننا لو فقط ننفرد بأنفسنا قليلاً... ستخرج قريحتنا أفضل ما في الوجود، لكن... بمجرد أن نختلي بأنفسنا.. يهاجمنا ذلك الرعب الدفين.. الرعب من الوحدة.. الرعب من المجهول... الرعب من تلك النفس التي تحتل جسدك و تشاركك وحدتك...! فنجلس في أماكننا غير قادرين على عمل أي شئ سوى تعليق أحلامنا على شماعة الغد الذي لا يأتي أبداً... فيمر بنا قطار العُمر يحملنا ونحن نشاهد العالم من خلف نافذة زجاجية فاغري الفاه نمني أنفسنا بغدٍ أفضل... لكن... تلك النفس لا تتحرك... لا تحاول مد يدها كي تصل إلى هذه النقطة من الضوء التي طالما حلمت بها.
آلاء محمود

Just Faith 18-12-17 12:34 PM

https://www.rewity.com/forum/data:im...lFTkSuQmCCAA==




أوركـــــــــــــــــــيـ ـــــــــــــــــــدة بـــــــيــــــــضـــاء

-1-

24 نوفمبر 2011،

الساعة 14:45

مطار جون إف كينيدي، نيويورك

تتحرش رائحة القهوة بذاكرتها حد الجنون ... فعندما تهرب من ذكريات واقعية ولَّت ... تختلق رائحة القهوة بداخلها ذكريات وأماكن لم تكن ... تذكرها بمقهى الشانزليزيه وفتيات باريس .... وعشق عابر في أروقة روما ... ويوم غائم على أعتاب لندن ... تذكرها بصلاة لم تقمها في القدس ... ورحلة حج مزعومة إلى مكة ... وطفلة جميلة ذات جدائل ذهبية...!!!

تحتضن كوبها بين أناملها بقوة علَّه يبعث في أوصالها دفئًا يشملها حتى ترحل عن تلك المدينة الباردة المقبضة، إلا أنها تدري أن برد هذه المدينة المجنونة الذي يصل تحت الصفر أحيانًا قد جمد شرايين دمائها وأنها ستحمل تلك البرودة معها أينما حلت. ترفع كوب القهوة السوداء إلى فمها ترتشف رشفة منها فتعود القهوة لتتلاعب بذاكرتها ... تتسلل الرائحة إلى عقلها تقلب في جنون في ملفات وصور حاولت جاهدة طيها في بئر الذاكرة الذي ظنته سحيقًا، إلا أنها كل حين وآخر تكتشف أنها كانت مخطئة ... وهاهي ذاكرتها تعانق رائحة القهوة وتمارس ألاعيبها مجددًا على قلبها المنهك.

20 يونيو 2003

أحد الأحياء الشعبية، القاهرة

... وكأنها ترى تلك الصبية تسير بحزم على جانب هاك الحارة الضيقة وقد عقدت حاجبيها تحاول تذكر ما خطته منذ قليل .. أكان صوابًا أم تراها وقعت في الخطأ سهوًا..؟ تسير ناظرة إلى الأرض دون تلفُّت وحارتها البسيطة الصغيرة التي تقطن بها تشيعها بالروائح المختلفة التي جمعت بين رائحة البن المطحون النابعة من محل البن الصغير ذاك ورائحة الفول والطعمية من عربة عم سيد ورائحة دخان الشيشة الصادر من ذاك المقهى الذي يحتل ناصية حارتها حيث اختلطت أصوات الباعة الجائلين ورواد المقهى وشباب ونساء يتحدثون بصوت مرتفع، إلا أنها لم تلق السمع فقد كانت شاردة في عالمها الخاص. تصل إلى البناية المتهالكة التي تسكن بها، تصعد بضع درجات من السلم و...

- "نوووور ... هااه .. عملتي إيه النهاردة..؟"

ترفع عينيها إلى محدثها ثم لم تلبث أن تخفضهما مجددًا في غضب وتنطلق دون أن ترد عليه فيقول بتهكم: - "براحة طيب أحسن يطق لك عرق .. أنا باسألك عن الامتحان مش عن لون شعرك..!"

صعدت درجات السلم مسرعة وقد ملأها الغيظ من ذلك الجار الذي لا يكل من توجيه الحديث إليها على الرغم من ثقته من أنها لن تقف لتتناقش معه عما خطته في اختبارها أو أي أمر من الأمور، و...

- "اااه... أ ... أ... أنا آسفة"

قالتها نور وهي تصطدم بشخص ما كان واقفًا أمام باب منزله قريبًا من الدرج الذي كانت منطلقة عليه، رد عليها:

- "لا ولا يهمك.. اتفضلي يا آنسة.."

لم تدر نور أنه كان يراقب الموقف الحاصل منذ قليل، لتصعد إلى أعلى البناية وتفتح منزلها ثم تدلف إلى منزل بسيط مرتب نظيف رغم تهاوي طلاء الجدران بفعل الرطوبة ورغم الأثاث غاية في البساطة المتناثر في أرجائه.

- "مالك يا نور فيه إيه..؟ الامتحان كان صعب والا إيه..؟"

تُقى ... تُقى الصغيرة الكبيرة التي تملأ المنزل فرحًا بمزحاتها ونكاتها وضحكاتها ... نعم هي شقيقتها الصغرى إلا أنها تحب كثيرًا أن تلعب دور امها منذ أن وطأت قدمي نور مرحلة الثانوية العامة وتُقى تتحمل عنها وعن امهما اعباء المنزل بجانب مذاكرتها. نعم تُقى شقيقتها الأصغر منها إلا أن قامتها النحيفة تتخطاها طولاً وبشرتها القمحية تميل إلى البياض بعكس نور التي تميل بشرتها الحنطية إلى السمار. تُقى التي لم تتعد الخمسة عشر عامًا تقف في قلق تسألها عن الامتحان وكأنها هي الأكبر..! حاولت نور طمأنتها بأنها أبلت بلاءًا حسنًا بالامتحان إلا أن تقى أصرت أن تعرف سر تغير ملامح نور التي لا تجيد إخفاء انفعالاتها، فوجهها مرآة صافية لروحها. لم يكن حديثًا جديدًا على تقى التي اعتادت تطفل الجيران واقتحامهم لحياتهن فقط لأنهن ... متحفظات منغلقات على أنفسهن ... نور وتقى وأمهما، فأقتضبت نور في ذكر ما حدث لها منذ قليل من جارٍ لا يراع حق الجوار ويصر على التعرض لها كلما طلعت أو نزلت...

- ما انت عارفة يا تقى رخامة اللي اسمه وليد ده .. في الطالعة والنازلة لازم يستهبل ..

قالت تقى بتأهب:

- عمل لك إيه البني آدم ده..؟

أعادت تقى ابتسامة شقيقتها إلى شفتيها بطريقتها في السؤال وكأنها ستقوم من فورها لتقضي عليه أو لتعاتبه، نعم .. هذه هي تقى .. شديدة الانفعال بصدد أي شيء يمس اسرتها لدرجة جعلت نور تقول لها يومًا ما "أنت يا تقى عصفوري الحارس، صحيح عصفورة صغننة بس أنت اللي بتاخدي بالك مني.." تحب أن تعرف تفصيل كل موقف لا تكتفي بالمختصر أو الكلام المبتور ... تحب تقى الاستفاضة في الأمور كلها. ولأن نور تدري أنها لن تتركها إلا بعد أن تعرف كل شيء قصت عليها حرفيًا الموقف الذي مرت به ثم فركت يدها في توتر وأكملت : - غاظني جدًا لدرجة أني وأنا طالعة خبطت في حد كان خارج من بيت طنط قدرية من غير قصد..

سألت تقى باهتمام: - مين اللي خبطتي فيه..؟

قالت نور: - مش فاكرة كان عمو حمدي واللا محمود طبعًا مابصيتش .. أنا اعتذرت وطلعت جري..

حاولت تقى تخمين هوية الشخص الذي اصطدم بنور ..

- أنا أقولك .. وانت طالعة كان دورهم ريحته مفحفحة بارفان كدة وتشرح والا عادي..؟

ضيقت نور عينيها متذكرة وهي تقول : - أيوة صح .. كان فيه ريحة بارفان على ما أتذكر... وبعدين أحنا مالنا بارفان واللا ما بارفان...

قالت تُقى وقد اتسعت ابتسامتها: - يبقى حضرتك يا عيني طيرتي الدكتور محمود..

الدكتور محمود حمدي جارهم الذي يقطن بالدور الثاني ابن صديقة امهما الوحيدة وهي من الثلة القليلة التي تحترم خصوصية جيرانها ولا تقحم نفسها قسرًا في حياة الآخرين كدأب الغالبية العظمى من الجيران ... الست قدرية.

- برافو عليكي ... ولا المفتش كولومبو ... بطلي فزلكة بقى وادخلي شوفي وراكي إيه قبل ما ماما ترجع من الشغل...

شهقت تقى قائلة: - هااااه... يانهااااار ... الرز...

هرولت تقى إلى المطبخ الذي امتلأ برائحة الأرز المحترق وقالت باكية: - منك لله يا نور.. قعدت ارغي معاكي ونسيت اوطي عالرز.. أهو شاط...

وقفت نور على باب المطبخ قائلة وهي تخرج لسانها: -أحسسسسن..

قذفت تقى عليها كوبًا بلاستيكيًا خفيفًا وهي تقول: - ماشي ماشي ... ليكي يوم.. ماهو انت مش هاتفضلي تمتحني ثانوية عامة على طول وسايباني شايلة البيت على راسي لوحدي.. بكرة تخلصي امتحانات وهاوريكي يا نور...

تعالت ضحكات نور الصافية النابعة من القلب وقتها التي عندما تطوف بذاكرتها تراها وكأنها محض خيال بعد أن صارت ضحكاتها كضحكات إنسان آلي.

***

24 نوفمبر 2011،

الساعة 15:00

مطار جون إف كينيدي، نيويورك

تأملت كوب القهوة الذي شردت عنه فبرد سريعًا.. رفعت عينيها المثقلتين بالهموم فاصطدمت بعينيه السوداوين العميقتين وحاجبيه المعقودين مع شفتيه المزمومتين، فأشاحت بوجهها سريعًا، فقد كان آخر ما ينقصها هو ذلك الشخص الذي لا يقل برودة عن تلك البلد. أما هو فقد ابتسم بسخرية قائلاً في نفسه:

- أقنعة ... كل ما ترتديه حتمًا أقنعة...

قالها متأملا حجابها الأبيض الفضفاض ووجهها الشاحب الخالي من أي مساحيق حيث كانت كائنًا غريبًا في مطار جون إف كينيدي الممتلئ بكل الأشكال والألوان والذي صار مزدحمًا بصورة زائدة نظرًا لإجازة عيد الشكر. غضب عندما وجد نفسه يتطلع إليها بتفحص وهي شاردة، حتى رفعت عينيها واكتشفت ذلك .. لمح في وجنتيها حمرة خفيفة قبل أن تعاود النظر في كوب القهوة الخاص بها مرة أخرى، كما لمح التماعة غير عادية في عينيها. لم يدر لماذا قفزت في ذهنه كلمة "أوركيد" وقتها...!! أشاح بوجهه وهو يعقد ذراعيه على صدره في غضب ليجد فتاة شقراء طويلة تجلس بجواره على مقعد من مقاعد انتظار الطائرات بتلك الساحة الفسيحة، كان يبدو أنها تتأمله باهتمام وقد اقتربت جدًا منه دون أن يلحظ ذلك.

- يو أر إيجيبشان...؟

خفض عينيه ونهض قائلاً: - إكسكيوز مي

ثم وجه حديثه إلى نور قائلاً: - هاشوف البوردينج هايبدأ أمتى.

وضع قدح القهوة الخاص به الذي كان قد انتهى من ارتشافه ثم انطلق مسرعًا، نهضت الشقراء بدورها، لم تنظر نور إلى حيث اتجه فهي تعرف دأب أغلب الرجال.. طاف بذاكرتها ذاك المقهى في نيويورك وتلك النادلة الشقراء الفاتنة التي تعمل به والتي كانت فيما يبدو تجني أضعاف راتبها من بعض سفهاء العرب الذين يقفون معها لالتقاط صورًا وهم يحتضنونها ويجزلون لها العطاء في مقابل صورة سيعرضونها بتفاخر على أقرانهم أو يضعونها على الفيس بوك أو تويتر بفخرٍ شديد ليروون للعالم السيناريو الخاص بهم والحكايا التي لفقوها عن علاقة كل منهم بتلك المخلوق الفضائي الفاتن رغم أنهم في استطاعتهم تركيب آلاف من تلك الصور بواسطة الفوتوشوب إلا أنها عقدة الخواجة العتيدة. غشت عينيها سحابة من الادمع المتجمدة وهي تذكر غزوات الشقراوات في عقر دارها و...

- "لـ...لكنني لا أؤمن بسانتا"

قاطع صغيرها استرسالها في ذكرياتها الموجعة بتلك الكلمات القلائل اللاتي نطقهن بتوتر، قالها لطفلٍ أمريكي في نفس عمره أو أكبر قليلاً، قال الطفل الآخر: - يا إلهي..! ولكن لماذا...؟ يمكنك أن تطلب منه أن يعيد والدك إلى الحياة..!

عبس صغيرها قائلاً: - لـ... لقد توفى أبي ولـ...لا يمكن أن يعود إلى الحياة...

قالها وهو ينظر إليها في شك.. فأومأت برأسها له في حنوٍ وألم بالغين تؤيد كلامه الذي علمته إياه ...

فأكمل :

- سـ...ـسانتا ليس الله سبحانه وتعالى ... ولا يمكننا أن نتوجه بالدعاء لأي شـ..شخص ليعطينا أي شيء... فـ.. فقط ندعو الله..

هو الوحيد الذي يستطيع أن يرسم على وجهها تلك الابتسامة المنحوتة والتي اتسعت عندما رأته لا يزال حافظًا ما علمته من أسس العقيدة.. أسعدها حديثه وتعبيره عن معتقده ... لقد ساهمت الأشهر الهادئة الأخيرة في حل عقدة لسانه إلى حدٍ ما حيث خفت لجلجته بنسبة كبيرة.

- لكن من هو الله..؟ أتعني المسيح..؟

تسائل الطفل الأمريكي حائرًا عن الله الذي يتحدث عنه صغيرها، هم ابنها أن يجيبه، إلا أن أم الصبي الأمريكي جاءت وحملته بعنف مطلقة عدة سبات ولعنات على أولئك المسلمين المتخلفين ..!!

توجه صغيرها إلى أحضانها، فقالت له بحب :- برافو عليك...

رفع رأسه إليها في سعادة فأردفت وهي تداعب شعره الأسود الناعم: - أنا بحبك أوي يا .. عيسى..

***

Just Faith 18-12-17 12:37 PM

-2-
24 نوفمبر 2011،
مطار جون إف كينيدي، نيويورك
الساعة 15:14
أحكم إغلاق معطفه الجلدي ثم عقد ذراعيه على صدره وهو يقف بقامته الفارعة مستندًا إلى مدخل بوابة الطائرة التي طال انتظارها، فقد بدأ البدوي الذي بداخله يتململ من كل تلكم الجدران الحديدية... أغمض عينيه بشدة.. لكم يفتقد بلده ومزرعته..! فتح عينيه لتقعا على نور عبر صالة المطار الجالسة في مكانها تحتضن ابنها ولازالت نظراتها معلقة ببقايا كوب القهوة الذي تمسكه بيدها غير الممسكة بعيسى.
عيسى..!! ياللمفارقة ... شتان بين أم المسيح الطاهرة البتول وتلك التي ...
- يور وايف..؟
تسائلت الشقراء الفارعة التي كانت تجلس بجواره منذ قليل وقد جائت لتقف حيث وقف تراقب نظراته إلى نور معتقدة أنها زوجته..! لم يكن شديد الوسامة إلا أنه كان يمتلك بشرة خمرية ملوحة وملامح رجولية واضحة وعينين سوداوين عميقتين يعلوهما حاجبين كثيفين.. لم ينظر إليها إلا أن رائحة عطرها النفاذة تسللت إليه، شعر بالاشمئزاز والنفور رغم فتنة وجمال الفتاة وجاذبية عطرها إلا أنه يشمئز من كل ما هو رخيص مبتذل.
- Good afternoon passengers. This is the pre-boarding announcement for flight 89B to Cairo. We are now inviting those passengers with small children, and any passengers requiring special assistance, to begin boarding at this time. Please have your boarding pass and identification ready. Regular boarding will begin in approximately ten minutes time. Thank you.
أنطلق ذلك النداء في أركان المطار يدعو الركاب ذوي الاطفال أو الاحتياجات الخاصة بالصعود إلى الطائرة. ابتعد عن الشقراء وتوجه إلى نور التي لم تتحرك من مكانها بعد حيث يبدو أن شرودها أخذها بعيدًا فلم تسمع النداء بالصعود إلى الطائرة، ناداها...
- ياللا لو سمحتي خلاص البوردينج بدأ..
لم تجبه فربت على كتفها.. – ياللا...
انتفضت وازاحت يده قائلة بحدة : - فيه إيه..؟
قال: - أنتِ اللي فيه إيه..؟ ياللا البوردينج بدأ..
زفر في عنف وهو يتسائل كيف سيُمضي أكثر من عشر ساعات معها في الطائرة، بل كيف سيُمضي ...!
إلا أنه طرد من رأسه التفكير فيما هو آتٍ كي لا يُجن من الموقف الذي وُضع به رغمًا عنه.
- بـ... بجد يا ماما أ.. أنا مبسوط أوي إني هاشوف مصر أخيرًا ..
قالها الصغير وهو يصفق فرحًا متخذًا مقعده في الطائرة وسطهما، ربطته أمه بإحكام فهمس لها:
- مـ... ماما ... د..دعاء السفر..
نظر إلى الصغير بدهشة وحدة ثم رفع نظره رغمًا عنه إلى أمه التي ابتسمت له بحنو قائلة:
- حاضر حبيبي مش هانسى ... مش أنت حافظه..؟ يالا قوله..
قال في نفسه: - يا ترى أنتِ اللي حافظاه واللا ....!
أنطلق الصغير يردد الدعاء بصوت منخفض متلجلج إلى حدٍ ما.
ثم رفع الصغير رأسه نحوه قائلاً: - عـ... عمو زين ... قـ...قلت دعاء السفر..؟
حاول أن يبتسم له إلا أن ملامحه ظلت جامدة وهو يقول: - آه يا عيسى .. قلته.
ابتسم الصغير ذو الخمس سنوات في رضا وهو يهز رجليه.
***
25 يونيو 2003
منزل نور وتقى ، القاهرة
كان الجو خانقًا شديد الحرارة وقد زاد الفرن من حرارة ذلك المطبخ الصغير الذي وقفت به نور تُشكل معجنات وتضعها بالفرن الساخن عندما سمعت صوت جرس الباب، وصوت أمها: - أهلاً أهلاً إحسان اتفضلي..
وبعد قليل دخلت عليها أمها وكانت امرأة ناحلة تبدو في العقد الخامس من العمر كما يبدو على وجهها آثار جمال ذابل قالت لها: - حبيبتي... طنط إحسان برة ... يا ريت تقدمي لها حاجة..
قبلتها نور قائلة: - عيوني يا ماما..
ابتسمت أمها قائلة: -تسلم لي عيونك يا نور حياتي وعُمري..
خرجت أمها ثم انهمكت نور في إعداد بعض الشاي عندما دخلت تُقى المطبخ قائلة:- يا الله .. إيه الحر ده...! بتاع مين الشاي ده يا نور..؟
قالت نور وهي تضع بعض المخبوزات الساخنة في طبق: - طنط إحسان..
قالت تُقى: - طنط إحسان..؟ يا بنتي قولي إفساد ... إظلام ... أي حااااجة تانية غير إحسان ... والله اللي سماها كدة ظلم الاسم..!
قالت نور موبخة: - حرام عليكي يا تقى ... مالناش دعوة بيها ...
قالت تقى: - يا نور أصل الست دي فظيعة .. حشرية أوي وكل شوية تنط لنا ..
قالت نور: - ياللا ياللا أديها حسناتك ... أهيه عمالة دلوقتي تاخد في حسناتك...
قالت تقى: - حسناتي..؟ لطنط إحسان...؟ لأ يا رب ... استغفر الله العظيم..
قالت نور وهي تحمل الصينية: - اللهم اغفر لنا ولها... ياللا يا توتة الصحون في انتظارك.. الدور عليكي النهاردة...
- لأاااا... انت تعجني وتخبزي وترمي عليا الغسيل..
قالت نور:- يا بنتي مانا كان الدور عليا امبارح وغسلت المهرجان اللي عملتيه بعد الكيك.. ياللا خلصي بسرعة عشان ماما ماتفكرش تيجي تعمل حاجة.. أنت عارفة هيا تعبانة قد ايه..
قالت تُقى بتبرم: - حاضر بس هاجيب المروحة عشان الجو حر جدا..
خرجت نور إلى صالة منزلهم حيث كانت تجلس أمها مع امرأة أربعينية بدينة ابتسمت السيدة لنور قائلة:
- يا أهلاً يا أهلاً بست العرايس إيه الحلاوة دي يا نور..؟ تعالي يا حبيبتي اقعدي جنبي ..
قدمت لها نور الشاي والمخبورزات فتناولتها قائلة: - اللللله ... حلو أوي تسلم الأيادي ... نَفَسكوا في الأكل حلو أوي يا بنات...
ثم التفتت إحسان إلى أم نور قائلة: - حاجات بناتك أحلى من أيتها مخبز أو حلواني .. هتلاقي سوق كبير.. الناس بتطلب منها بالاسم ...
قالت الأم: - أنا سايباهم يتسلوا في الصيف كدة لحد ما الدراسة تبدأ..
قالت إحسان بحماس: - عارفة ممكن يعملوه مشروع و...
قاطعتها الأم بحزم قائلة: - ربنا يسهل يا إحسان ربنا يسهل ..
التفتت إحسان إلى نور قائلة: - بس إيه يا نور ... الأكل الحلو ده مش قادر يتخنك شوية..؟ عايزينك كدة تتخني وتتدوري عشان تعجبي العريس ...
تضرج وجه نور بالحمرة ونهضت قائلة: - بعد إذنك يا طنط هاروح أشوف تُقى..
وبعد رحيل نور انحنت إحسان على أم نور قائلة: - إيه يا عُلا .. بنتك مش نِطْلة كدة ليه..؟ بناتك مش نطلين ومدردحين كدة..
قالت عُلا: - الحمد لله أنهم كدة يا إحسان ... ربنا يزيدهم ..
أشاحت إحسان بيدها قائلة: - يزيدهم إيه بس يا عُلا ...! معلش ياختي ... أنت حبيبتي وأحب أنصحك .. كدة مش هايخبط بابكم حد .. يعني لا مؤاخذة لا بناتك عندهم الجمال الرائع ولا المال ولا الحسب والنسب.. يعني لازم يتدردحوا ويبقوا لِونين كدهو عشان الشباب تاخد بالها منهم .. مش بنتك الخايبة تجري وتسيب الواد وليد واقف قفاه يأمر عيش ولا ترد عليه اما سألها عن الامتحان ... ينفع كدة يعني ..؟ والله أم وليد واخدة على خاطرها جدًا ..!
تنهدت علا قائلة: - يا إحسان .. اللي عايز يتجوز بنت من بناتي لازم يتجوزها عشان حاجتين مافيش غيرهم ... دينها وأخلاقها .. ولو عندنا الجمال الرائع واللا المال والحسب والنسب مش هانقبل أي حد يجي لبناتي عشان جمالهم واللا مالهم واللا حسبهم ونسبهم .. ولو كان أبوهم مات الله يرحمه، فأنا دايمًا أقولهم أن ولي أمرهم هو ربنا لأنه سبحانه وتعالى قل في القرآن ( إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين)... وبعدين نور حكيت لي على موقف وليد اللي حصل من كام يوم ساعة امتحان الفيزيا ... البنت ماغلطتش في حاجة وهيا أصلا لا بتكلم شباب ولا بتاخد وتدي معاهم يقف يكلمها ليه وهوا عارف كدة كويس...؟!!
لوت إحسان شفتيها وهي تقول : - والله يا عُلا أنك متشددة زيادة عن اللزوم وهاتعنسي البنات ...
ضحكت علا قائلة: - يا سيتي خليها على الله .. المهم سيبك أنت .. أخبار بناتك إيه ...؟
ابتسمت إحسان وهي تقول في سعادة: - الحمد لله ... كلام في سرك ... البت إيمان اتخطبت إمبارح عارفة لمين..؟
التمعت عيناها وهي تنحني عليها أكثر هامسة: - علي السعدني ... المهندس ده اللي ساكن في البرج الجديد ... خدنا أمبارح وفرجنا على شقته اللي هايتجوز فيها ... شقة تشرح القلب أربع مطارح حلللوة..
ابتسمت علا في سعادة: - ألف ألف ألف مبروك يا حبيبتي ربنا يقدر لها الخير كله ...
أخذت إحسان تُنهي طبقها وتشرب الشاي قائلة: - ياللا مش هاعطلك ... أنا عارفة أن عندك نبطشية بعد شوية الله يكون في عونك ... شقيانة يا حرام ..
قالت علا ولم تفارق الابتسامة شفتيها: - آه فعلا عندي نبطشية بعد نص ساعة ... الحمد لله يا إحسان أحنا في نعم كثيرة منَّ الله بها علينا ننام ونصحى آمنين في بيوتنا معافين في أجسادنا وعندنا قوت يومنا .. لأ .. مش يومنا بس .. عندنا قوت يومين تلاتة كمان .. وكأننا ملكنا الدنيا كلها زي ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم...
تمتمت إحسان بصوت منخفض في غيظ: - معافين في أجسادنا ..!
ثم حاولت النهوض من على تلك الأريكة المرتفعة يملئها الغيظ من تلك المرأة الصابرة السعيدة التي لا يغيظها شيء ولا يبدو عليها الحزن من أي ظروف تمر بها، نهضت إحسان وعانقت علا قائلة: - مع السلامة يا حبيبتي مع السلامة يا علا .. وأكيد هاتبقي معزومة في فرح إيمان..
قالت علا: - أكيد هاجي دي زي بنتي بالظبط ربنا يتمم لها بخير..
بعد خروج إحسان .. توجهت علا إلى غرفتها تستعد كي تذهب إلى عملها تتابعها عيني نور في قلق بالغ.
***
-3-
24 نوفمبر 2011، في الطائرة
الساعة 15:30
بدأت الطائرة ترتفع مودعة نيويورك التي اخذت في الابتعاد حتى تحولت إلى مجموعه من الجزر تبدو بها مربعات صغيره من اللون الاحمر القانى تحيط بها مساحات واسعه من اللون الاخضر ... شعرت نور بقبضة غريبة تعتصر قلبها وهي تستفيق من ذكرى باسمة بعيدة مودعة أخرى مؤلمة قريبة ومنطلقة إلى المجهول ..!
- مـ... ماما الجريدة..
ناولها صغيرها الجريدة التي وزعتها المضيفة لتوها ثم انهمك في التلوين بكتاب الرسومات والألوان الذي في يده. تأملت نور الأخبار في قلق ... فقد كانت على العكس من ابنها تخشى العودة إلى مصر بعد الأحداث الفجائية المتلاحقة بها منذ ثورة يناير حتى أحداث محمد محمود التي لم يمض عليها سوى عدة ايام..
" أهم تداعيات أحداث محمد محمود:
* استقالة حكومة الدكتور عصام شرف
* تكليف الدكتور كمال الجنزوري بتشكيل حكومة إنقاذ وطني
* إعلان المجلس الأعلي للقوات المسلحة عن تسريع الجدول الزمني لنقل السلطة في مصر بأن تتم انتخابات بحد أقصى منتصف عام 2012، على أن يتم وضع الدستور والاستفتاء عليه قبل ذلك في غضون شهرين من أول اجتماع مشترك لمجلسي الشعب والشورى في أبريل 2012."
كانت عناوين الأخبار تزيد من قلقها وتوترها ... حتى الصحافة الأمريكية تصف كل ما يجري على أرض مصر. أغلقت النيويورك تايمز وأخذت تستغفر سرًا ... علَّ الله ينزل على قلبها الوجل مما ينتظره من مصير مجهول سكينة تغشاه فيسكن ويهدأ .. لكم مر عليها من ليالٍ صعبةٍ وأيام طوال شعرت فيها وكأنها بين شقي رُحى يدور دون توقف لكنها استعانت بالله واعتصمت بحبله فهون عليها ووهبها ضوءًا وسط الظُلمة. فعندما تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن ... يجب على السفن تغيير اتجاها لتواتي الريح العاصفة وإلا ستتحطم وتتناثر كالهباء المنثور، فكم أتت الرياح بما نشتهي .. كم كانت الرياح مواتية والظروف... سعيدة.
***
15 يوليو 2003
المستشفى الإسلامي، القاهرة
- إيه يا مدام علا .. شكلك مش مركزة النهاردة.. أنت كويسة..؟
قالتها الدكتورة هالة لعُلا التي بدا عليها الشرود، قاومت عُلا زغللة عينيها وشدت قامتها ورسمت ابتسامة على شفتيها قائلة: - أصل نور راحت النهاردة تجيب النتيجة ولسة ماطمنتنيش عليها .. فتلاقيني سرحت فيها واللا حاجة...
قالت الدكتورة هالة: - نور بنتك دي ما شاء الله عليها نبيهة جدًا وإن شاء الله تطلع من المتفوقات وتدخل كلية الطب وساعتها أنا اللي هاساعدها في كل اللي تحتاجه..
قالت علا:- ربنا يكرمك يا دكتورة ويبارك فيكي ويحقق لنور اللي هيا عايزاه قادر يا كريم..
قالت هالة: - طيب ياللا انت شوفي المريضة اللي في غرفة 55 واكتبي لي تقرير عن حالتها وممكن تروَّحي بعدها تطمني على بنتك ..
قالت علا: - مافيش داعي يا دكتورة انا اتفقت مع نور تيجي على هنا على طول تطمني ..
قالت هالة في حزم: - خلاص لما تيجي خديها وروَّحوا احتفلوا ..
هنا سمعا أصوات فتيات يتحدثن بسعادة وقد وصلت إليهما أصواتهن فاستدارا ليجدا نور وتقى ومعهما فتاة ثالثة، اقبلن الفتيات على علا والدكتورة هالة، ابتدرتهن تقى بقولها: - بنتك دي ركبت لي الهسهس هيا وصحبتها الست نهى ...
قالتها وهي تنظر إلى الفتاة الثالثة التي لم تقل ملابسها حشمة عن نور وتقى ولم يقل حجابها طولاً عنهما، ثم أردفت تقى: – طول ما احنا مستنيين النتيجة وهما شغالين توتر ... حتى الاذكار بقوا يقولوها بتوتر ... لا يا ماما انا مش هاروح معاهم في حتة تاني ...
قالت عُلا بقلق وهي تنظر إلى نور: - طيب طمنوني الأول عملتوا ايه..؟
قبل ان تنطق نور قالت تقى: - يا أمي كفاية اقولك ان الفرَّاش اللي كان بيجيب لنا النتيجة ماكانش عايز ياخد اقل من 50 جنيه... بس على مين انا قلت له هما 20 تاخدهم والا نمشي .. وخدهم ورجله فوق رقبته..
قالت نور :- اسكتي شوية يا بنتي خلينا نفرح ماما ..
قالت تقى وهي تضع يدها على فمها بطريقة مسرحية: - اهوه اتخرست اتفضلي يا ست الموس..
قبلت نور يدي امها قائلة: - تمانية وتسعين ونص في المية ...
دمعت عينا علا واحتضنتها قائلة: - يا حبيييبتي يا حبيبتي يا حبيبتي... اللهم لك الحمد يا رب .. اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ...
ثم خرت علا ساجدة بينما باركت الدكتورة هالة لنور قائلة:- يالا يا نور شدي حيلك المستشفى في انتظارك..
ضحكت نور قائلة: - حاضر يا دكتور هما سبع تمن تسع سنين كدة واجيلها على طول ...
ضحكت الدكتورة قائلة: - ربنا يوفقك ...
نهضت علا ماسحة ادمعها وسألت نهى قائلة: - وانت يا نهى يا بنتي عملتي إيه...؟
قالت تقى: - يا ماما دي التوأم بتاعة اختي ... الاختين الحلوين نور ونهى زي ما بيقولوا عليهم في المدرسة ... يعني الاتنين موووووس ... مستنية منها ايه يعني ...!!
وكزتها امها برفق قائلة: - يا توتة خلي البنت تتكلم .. ها يا حبيبتي عملتي ايه..؟
قالت نهى مبتسمة: - جبت أربعة وتسعين في المية يا طنط ..
احتضنتها علا قائلة: - الف مبروك يا حبيبتي ... اكيد ماما وبابا فرحانين اوي ... ماقعدتيش معاهم ليه تفرحوا سوا ...؟
تلاشت ابتسامة نهى للحظة وبدا عليها التوتر ثم ابتسمت ابتسامة مصطنعة وهي تقول: - اااه .. منا مروحة على طول ان شاء الله ..
قالت الدكتورة هالة في حسم: - ياللا يا علا روَّحي مع بناتك ياللا وماتنسوناش في الشربات ..
قالت علا في امتنان: - متشكرة اوي يا دكتورة..
ثم توجهت مع بنتيها ونهى إلى مكتب الممرضات قائلة: - سلام عليكم ...
كان هنالك ممرضتين من نفس عمر علا وأخرتين تبدوان في مقتبل العمر يرتدين جميعهن ملابس التمريض وقد وضعن طرحة صغيرة اسفل قبعة الممرضات وقد بالغت كل منهن في وضع مساحيق التجميل حتى إن الناظر لوجوههن يعتقد أنه ينظر إلى لوحة زيتية ثرية الألوان.
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ايه الاخبار يا علا ..؟ نور عملت إيه..؟
قالتها إحدى زميلات علا وكانت تدعى فوزية، فردت علا: - الحمد لله يا فوزية جابت تمانية وتسعين في المية بفضل الله ..
اتسعت ابتسامة صفراء على وجه فوزية والسيدة الأخرى بينما قالت فوزية: - الف الف مبروك يا نور يا حبيبتي ..
قالت زميلتها الأخرى – وكانت تدعى نعمت- بنفس الابتسامة الصفراء: - مبروك يا علا .. مبروك يا نور عقبال العريس ...
واتسعت الابتسامة الصفراء، قالت نور بخجل: - الله يبارك فيكوا..
فرقعت إحدى الممرضتان الأصغر سنًا العلكة التي تلوكها في فيها قائلة بسخرية: - وانتي بقى عايزة تدخلي كلية إيه..؟ يكونش عايزة تدخلي كلية طب..؟
نظرت إليها نور قائلة بحيرة: - آه يا ابتسام نفسي من زماان أدخل كلية طب إيه المشكلة...؟
ضحكت ابتسام ساخرة وأشاحت بيدها قائلة: - لا مافيش مشكلة ولا حاجة بس ...
قاطعتها زميلتها الأخرى قائلة:- مبروك يا حبيبتي والله فرحت لك يا نور...
قالتها ثم قبلت نور التي قالت لها: - الله يبارك فيكي يا أسماء ...
وجهت علا كلامها إلى أسماء قائلة: - أسماء عايزاكي تمري على أوضة 55 وتغيري للمريضة على الجرح وتحطي محلول جديد لو القديم خلص وتعلقي لها المضاد الساعة 7 .. ماشي..؟
قالت أسماء مشيرة إلى عينيها: - عنيا يا أبلة علا ...
قالت علا: - تسلم عنيكي يا سمسمة .. وابقي كمان ...
إلا أنها قطعت حديثها عندما سمعت زرغودة قصيرة انطلقت من خلفها فنظرت بسرعة لتجد ..
- أم هشااام .. هشششش ... يا أم هشام احنا في مستشفى ...
أقبلت عاملة نظافة بسيطة تبدو على وجهها إمرات السعادة الحقة وهي تقول: - الف مليون مبروك لست البنات حبيبة قلبي نور يا ست علا..
قالت علا: - الله يبارك فيكي يا أم هشام بس بلاش زغاريد في المستشفى الله يكرمك .. فيه عيانين محتاجين راحة ..
قالت أم هشام:- عايزة افرَّح الآنسة نور زينة البنات ...
لوت كل من فوزية ونعمت وابتسام أفواههن في امتعاض، بينما قالت علا: - هاستناكي عندي في البيت نهيص وتعملي اللي نفسك فيه بس مش في المستشفى .. اتفقنا..؟
قالت أم هشام: - أكيد طبعا يا ست علا هوا أنا ديك الساعة أما تنجح الآنسة نور لازمن أجي وأزغرد وابل الشربات كمان عقبال ما تفرحي بيها ..
"أنا سمعت صوت زغاريد خلصت اللي في أيدي وجيت هوا ..؟ فيييه إيييه..؟"
التفتت علا قائلة : - أهلا أهلا يا محمود يا ابني الحمد لله نور ونهى نجحوا بتفوق ...
قالت نعمت بسرعة وقلق مصطنع: - دعواتك يا دكتور محمود لمنى بنتي لسة ما اطمنتش عليها ..
كان قد انضم إليهم الدكتور محمود حمدي جار علا وبنتيها وقد كان شابًا رياضي الجسم متوسط القامة غاية في الوسامة ذو عينين برسيميتين وشعر بني نحاسي كما كان لديه لحية خفيفة، وجَّه نظراته إلى نور قائلاً: - جبتي كام يا نور..؟
لم تنظر إليه، ثبتت نظرها إلى الأرض قائلة بصوت منخفض وقد تضرجت وجنتاها بالحمار: - تمانية وتسعين ونص في المية ..
قالت علا لنعمت التي لم يرد محمود عليها: - ربنا يطمنك على منى يا نعمت..
كان يبدو على نعمت الغيظ الشديد، هنا أقبلت فتاة تسبقها رائحة عطرها الثقيل ترتدي بنطالا من الجينز الضيق وبلوزة ضيقة وتغطي بعض شعرها بقطعة قماش صغيرة و-على غرار امها- لم تسلم رقعة صغيرة من وجهها من الأصباغ الصارخة.
- " ماماااا ... باركيلي مش مصدقة بجد ... إيه ده انت هنا يا محمود ..؟ ازيك يا باشا .. وانا اقول مكتب التمريض منور كدة ليه وريحته حلوة ... أموت واعرف البارفان بتاعك ده نوعه ايه..؟"
قالت نعمت : - تعالي يا حبيبتي عملتي إيه..؟
قالت منى: - نجحت الحمد لله بس ماحدش يسألني عن المجموع..
ثم أعقبتها بضحكة رنانة..
قال محمود: - مبروك يا منى
قالت علا: - مبروك يا منى يا حبيبتي ... عقبال الجامعة...
قالت نعمت وهي تعانق ابنتها : - مبروك يا منى عقبال ما افرح بيكي بقى ...
باركت لها فوزية وابتسام وأسماء ثم باركت لها نور قائلة: - ألف مبروك يا منى ...
قالت منى : - الله يبارك فيكم..
هنا استأذنت نور قائلة: - عن إذنكم .. هاسبقكم أنا يا ماما...
قالت علا وهي تجمع اشيائها: - ماشي يا حبيبتي ..
قالت نور لأم هشام: - تعالي يا أم هشام كنت عايزة اسألك على حاجة ...
قالت أم هشام: - عنيا يا ست البنات كلهم ..
أخذتها نور إلى آخر الرواق بعيدًا عن كل الأعين، إلا أنها لم تلحظ تلك العينين اللتين تابعتها ورأت ما تدسه نور في يد أم هشام لترتفع تلك اليد داعية لها بسعادة.
***
- "طبعًا .. لازم تجيب تمانية وتسعين في المية.."
كذا قالت فوزية لنعمت بعد رحيل الجميع عاداهما مع ابتسام وأسماء، فقالت نعمت مستفهمة: - قصدك إيه يا فوزية..؟ عايزة تقولي أن بنت عُلا بتعرف تذاكر وتتفوق وبنتي لأ..؟
انحنت فوزية عليها هامسة: - لأ طبعًا مين دي اللي بتعرف تذاكر ... دي بتعرف بس تعمل حركات تانية عشان توصل .. آه ... ماهي نسخة من امها ...
قالت نعمت بحقد: - اه طبعا ... أكيد اللي اسمها علا دي مقضياها سرمحة مع الدكاترة عشان يقدروها وينزلوا لها دايمًا حوافز كدة وأكيد بيساعدوا بنتها في المذاكرة ...
أضافت ابتسام في غل: - واللي اسمها نور دي أكيد برضه مقضياها مع المدرسين ... يعني إزاي تجيب مجموع كدة وهي لا بتاخد دروس خصوصية ولا بتشتري ملازم ...! وقال إيه عايزة تدخل كلية الطب ... أهم هايظهروا على حقيقتهم ... هاتجيب منين الست علا مصاريف كلية الطب لبنتها ومرتبها يادوب مكفيهم أكل وشرب..!
قالت أسماء: - لأ لأ يا جماعة ... حرام أحنا ماشوفناش على أبلة علا حاجة وحشة ..!
مصمصت فوزية شفتيها قائلة: - حاجة وحشة ..؟ أبسط حاجة ... تقدري تقولي لي ماتجوزتش ليه لحد دلوقت..؟ احنا ماشفنلهاش جوز من ساعة ما جت بعد ما اختفت شوية ورجعت جارة العيلتين دول في إيديها وقال ايه اتجوزت وجوزها مات ... طب نفرض انه مااات ... ماتجوزتش ليه تاني..؟ دي كان بيجيلها عرسان قد كدة، واللي اسمها علا دي حلوة ورفيعة كدة وتبان أصغر من سنها وتعجب ... ماتجوزتش راجل يلمها هيا وبناتها ليه بقى إن شاء الله إلا إذا كان الموضوع فيه إنة...؟
شردت أسماء، فقالت نعمت بسرعة: - آه ... والأدهى بقى أن إحسان أم إيمان صاحبتنا تبقى جارتها ومتابعاها ولا عمرها شافت حد من عيلة جوزها اللي بتحكي عنه ده لا جه ولا هوب ناحيتهم..! وتقولك قاعدة في حالها كدة ومقفلة وكأنها بتخبي حاجة كبيرة ...
قالت فوزية: - ياما تحت الساهي دواهي ...
قالت ابتسام: - آه ماهي بترسم الإيمان والتقوى ادامنا هيا وبناتها وفي الدرا بقى ... يالهوييي يا أبلة... مش بعيد أصلا بناتها دول يعني ... تكون جابتهم من غير جواز ولا يحزنون ... ماهي قادرة وعايشة لوحدها ومالهاش لا عيلة ولا كبير ولا راجل ...!
قالت نعمت وهي ترفع رأسها في ورع مصطنع: - خلاص يا جماعة .. ربنا يستر على ولايانا ...
قالتها ... لكن قالتها متأخرًا جدًا .. فالهواء يحمل الكلام والجدران لها آذان ... وبعض البشر بطبعهم يحبون الحكايا والقصص المشوقة حتى لو كانت قصصًا تمس أعراض أشخاصًا آخرين..!
***

Just Faith 18-12-17 12:40 PM

-4-
14 أغسطس 2003
صباح خميس صيفي مبهج ... حمل معه رائحة الأمل ... وطعم الإنجاز الذي شعرت به مع ذلك النداء المصحوب بتصفيق من يدي صاحبه ...
- "نور الهدى سليمان رحيل العربي ... بوووسطاااا"
هاقد وصل مفتاح البوابة السحرية ... جاء أخيرًا ... الخطاب الذي كانت تنتظره على أحر من الجمر ... نهضت نور وارتدت حجابها سريعًا ... فتحت الباب مهرولة لاستلام الخطاب بيدين مرتعشتين موقعة حيث أشار لها ساعي البريد ثم دخلت المنزل تفتح الخطاب في لهفة مغلقة الباب بقدمها، ثم ...
- "ماااااماااااااا .... تقى ...."
أسرعت نور إلى غرفة أمها تكاد تطير من على الأرض فرحة تبعتها تقى قائلة:
- إيه يا نور ..؟ لاقيتي كنز واللا إيه ..؟
متكئةٌ في إنهاك تحاول التماسك وتناسي صراخ خلاياها المحتلة بقرائة كتابٍ ما ... حتى دخلت صغيرتها التي رغم بلوغها السبعة عشر ربيعًا إلا أنها في عينيها ستبقى دائمًا تلك الصغيرة الهادئة ذات الابتسامة الساحرة ... دخلت تمسك بيدها ورقة وتخلع عنها غطاء رأسها ليتناثر شعرها الأسود الناعم حول وجهها .. عيناها تلتمعان بسعادة تشع لتبتلع آلامها وأرقها ... سعادة تنبئها أن ابنتها وقفت على أعتاب الحلم ... حلم الصغيرة الذي تضخم بداخلها فقط من أجلها ...!!!
مرت بعينيها على الكلمات التي فجرت ينبوعًا من الفرحة بقلب صغيرتها وابتسمت بدورها محتضنة ابنتها ... لكن ابتسامتها لم تكن بهاك الصفاء ... كانت مختلطة بحسابات وأرقام ومراجعات للنفس ... وسؤال يتردد بداخلها ... هل ستصمد أم ستتوقف فرحتها عند أسطر هذا الخطاب ...!
وكأنها قرأت أفكار أمها ... رفعت صغيرتها رأسها من بين ذراعيها ... نظراتها تخبرها في إصرار أنها ستتحدى كل الظروف والحسابات والأرقام ولن يخذلها القدير ... لقد بات الحلم قريبًا يا أمي ...
" فيه إيه يا جدعان ما تفهمونا .." قالتها تقى منتزعة الورقة من يد أمها، ثم استطردت عقب قرائتها:
- اااه بقيتي دكتورة رسمي ... ماحدش هايقدر يكلمك يا ست نور.. وأخيرًا جه جواب التنسيق المنتظر اللي كل شوية تسألينا عنه ...
وكزتها نور قائلة: - أديكي داخلة ثانوية عامة أهوه شيدي حيلك وحصليني..
صاحت تقى: - أحصلك فين يا اختي ... أنا لا بتاعة دح ولا طب ... وبعدين انا خلاص كتبت أدبي في الرغبات ... أنا باحب التاريخ والتدريس ... يا سلام لو أدخل آداب قسم تاريخ أو تربية .. كدة مية مية... مش طب وبتاع ...خليكي أنت في الطب ...
وكأن غيث السعادة لا يهطل إلا وتصحبه سحب الحزن القاتمة ..
وكأن فرحها الأبلج مولود بتوأم ملتصق من بؤس معتم ...
فكما كان باب منزلها بوابة للسعادة منذ دقائق... جاء رنينه يحمل صدى روحًا تتألم لم تجد سواه لتعبره بعذاب يضنيها منذ سنوات.
- "نهى..؟؟؟!"
كانت صديقتها نهى تقف بالباب يبدو عليها الإرهاق والتعب.
- "أهلا يا نهى جالك التنسيق واللا إيه..؟ اتفضلي اتفضلي ..." قالتها نور لصديقتها والقلق يعتصرها من هيئتها غير الطبيعية..! دخلت نهى وجلست في إرهاق على أول مقعد من مقاعد طاولة الطعام العتيقة القريبة من باب المنزل، كانت علا قد لحقت بابنتها وساورها القلق ذاته من هيئة نهى، فسألتها باهتمام:
- مالك يا بنتي ..؟ أنت تعبانة واللا حاجة...؟
قالت نور: - أنت جالك جواب التنسيق..؟ كنت لسة هاكلمك ...
قالت نهى بوهن: - أيوة جالي .. طب بيطري ..
ضحكت تقى قائلة: - وده اللي مزعلك أوي كدة..؟؟؟ ولاااا تزعلي نفسك ... هانبقى نخلي عم سيد اللي بيقف على عربية الفول يسمح لك أنك تكشفي على الحمار بتاعه ... أي خدمة ...
ابتسمت نهى ابتسامة سريعة باهتة وهي تقول: - بالعكس أنا مش زعلانة من التنسيق ... دي كانت رغبة من رغباتي الأوائل ...
أمسكت نور بيدها قائلة في قلق: - أمال مالك يا نهى ..؟ تحبي نقعد في أوضتي شوية و...
إلا أن نهى أجهشت بالبكاء قائلة: - خلااااص مش قااادرة يا نور ... تعبت ونفسيتي اتحطمت ... مش قادرة حتى أفرح بنتيجة التنسيق ولا نتيجة الثانوية العامة ...!
أخذت نور تربت على كتفها قائلة: - أهدي بس وقولي لي ايه اللي حصل ..؟؟؟
وبدأت نهى تقص على أسماعهن وسط شهقاتها وبكائها مأساتها. أخذت تخبرهن كيف أن أمها قد تركت المنزل منذ ما يزيد على الشهر وأنها هي التي تتحمل أعباء البيت ومطالب أبيها واخوتها الصغار ..
- طول عمرهم بيبتخانقوا وبتروح وترجع بس طولت أوي المرة دي... والضغط الكبير عليا أني أراضي في ده وده ...
بكت وهي تحكي عن أخاها الأكبر الذي صار يخرج من المنزل ولا يعود إلا في وقت متأخر وأحيانًا لا يرونه ولا يعرفون مكانه..! خرج صوتها من براثن انهيارها يخبرهن عن شقيقتها الصغرى التي لا تكف عن البكاء وقد تدمرت نفسيتها ... أما أخاها الأصغر ذو الأحد عشر عامًا ... فعاد للتبول اللاإرادي.
- مش عارفة أعمل إيه ... مش عارفة ... على طول صدى خناقاتهم اللي مابتخلصش في وداني ... على طول ألفاظ شتايمهم واتهامات كل واحد فيهم للتاني بتقطع في قلبي زي السكاكين...
بكت نهى بحرارة كأنها ترى إحدى خلافات أبويها النموذجية ... حيث يبدأ الأمر باختلاف حول المال .... عندما تطلب أمها أموالاً ويتمنع أباها متعللاً بأنه ليس معه حتى يتطور الأمر إلى تطاول بالألسن وأحيانًا بالأيدي من طرف أبيها. تضع نهى يديها على وجهها وكأنها تحاول منع ما تعرضه عليها ذاكرتها من ألغام يومية مدفونة بمنزلها بين أمٍ وأبٍ كطرفي سلكٍ عارٍ لا ينفك أن ينغرس بين ثنايا روحها محدثًا زلزالاً ضخمًا بكيانها. لكن الذكرى لم تكن تُعرض أمام عينيها، بل تثقل عقلها وقلبها فلم تملك نهى إلا أن تحرك بها لسانها علَّها تخف من وطئتها عليها...
- مد أيد بابا على ماما بيقطع فيا وحكايات ماما على مغامرات بابا النسائية وأنه غير أهل للمسئولية وعمره ما شال مسئولية بيتعبني ودايمًا حاسة بالقرف ...
صمتت نهى مستمرة في نشيج موجوع، فقالت تقى: - ثانية واحدة يا نهى عشان أنا مش فاهمة حاجة ... إزاي مامتك وباباكي بيتخانقوا عالفلوس وانتوا أصلا من الناس المحسودة في حتتنا ... يعني شقتكوا واسعة وعلى الشارع الرئيسي مش حارة زينا ومفروشة أحسن حاجة وعندكوا عربية وكماليات ... وبعدين مين ده اللي عنده علاقات نسائية ..؟ باباكي الحاج إسماعيل اللي بيصلي في المسجد...؟
صوبت علا نظرة عتاب إلى ابنتها تقى لتصمت، لكن نهى أخبرتها في حزن أن "كل هذا قشووور ..."، أخبرتها عن انعدام الحكمة في انفاق الأموال عندما يكون معهم بعضًا منها ... أخبرتها أن أباها يعمل يومًا ويجلس بالبيت عشرة لأنه "مش لاقي شغلانة تليق بجنابه" ... وإذا حدث ووجد وظيفة معقولة يبدد كل ما اكتسب على شراء سيارة أو تجديد ديكورات بالمنزل أو... أو ... أو... "ونرجع نعيش على الشحاتة تاني وفلوس الزكاة والصدقة". كانت موجوعة وكان الوجع هو المتحدث بلسانها.
- ... ماما اشتغلت شوية وماستحملتش تكمل شغل فاستسهلت مد الإيد لقرايبها وبابا خد على كدة ... ودايما خناقاتهم من هنا بتبدأ وبتطور ... أما حكاية بيصلي في المسجد دي... فمش عارفة إزاي إنسان يصلي في المسجد ويسب ويضرب كدة ...!! إزاي واحد ظاهره الدين كدة مطنش ابنه ومش حريص على دينه وسايبه يضيع ... قلبي واجعني على أخويا أوي... أ.. أنا بقيت أشد شعري ...
رفعت عينيها الزائغتين إليهم مكملة وهي تخلع حجابها: - بشد شعري فعلا من التعب من التفكير شوفي شعري مقطع ازاي ... بقيت من تعب تفكيري بأذي نفسي ... شوفي إيدي عاملة ازاي ... مش قادرة أكلمهم وأصارحهم أني تعبت من مشاكلهم ... مش قادرة أنطق يا جماعة ... طول عمري ممنوع أقول رأيي .. طول عمري أمي بتجاوب عني وبتتكلم عني لحد ما بقيت خرسة لا بعرف أعترض ولا أتكلم ....
أقولكوا سر ... مرة ركبت أتوبيس وجه واحد قذر حاول يقف بطريقة مش مظبوطة ورايا خفت أوي واترعبت وماعرفتش أتكلم حاولت أبعد عنه وخلاص ... طول عمري لعبة في إيديهم مش باعرف اتصرف ... حتى صوتي سرقووه ...
أخذتها عُلا بين ذراعيها وقد تأثرت بكلامها وأخذت تمسح على رأسها قائلة: - أهدي يا بنتي أهدي يا حبيبتي ...
رفعت نهى عينيها إلى علا هامسة: - من ساعة ما وعيت على الدنيا وهما بيتخانقوا ومافيش أي ذرة احترام شوفتها بينهم إلا الاحترام الزائف اللي بيمثلوه قدام الناس ... طيب ليه يخلفونا ...؟ حاسة أنهم كانوا واخدين موضوع الخلفة ده تسلية اما مايلاقوش حاجة يعملوها يخلفوا عيل ورا التاني عشان يرموه في نار خلافاتهم اللي مابتنتهيش وينتهي بيه الأمر في الشارع زي أخويا بالظبط ....!!!
كانت نهى تنتفض بشدة بين ذراعي علا التي ساندتها لتنهض قائلة: - قومي تعالي معايا جوة نتكلم براحتنا..
سارت معها تجر قدميها بينما قالت علا لابنتها: - نور لو سمحت أعملي لصاحبتك عصير ليمون ..
قالت نور بسرعة وقد دمعت عينيها لحال صديقة عمرها: - حاضر يا ماما ...
جلست علا على الفراش وأخذت نهى بين ذراعيها ووضعت يمناها على جبهتها وبدأت في قراءة آية الكرسي حتى انتهت. طرقت نور باب الغرفة ثم دخلت وضعت كوب العصير بجوار أمها التي نظرت إليها نظرة معناها أن تتركهما بمفردهما فخرجت نور على الفور من الغرفة بينما أكملت علا قرائة المعوذتين وسورة الإخلاص ثلاث مرات على رأس نهى التي بدأت تهدأ وتسكن ويخفت نشيجها المتألم.
أعتدلت علا في جلستها وساعدت نهى على الجلوس باعتدال قائلة بابتسامة خفيفة: - ها عاملة إيه دلوقتي..؟
خفضت نهى عينيها وقد أدركت ما تفوهت به منذ لحظات وكأنها قالته في غفلة من العقل أو تحت ضغط كبير جعلها تخرج عن صمتها وتلجأ لصديقة العمر، قالت نهى: - أحسن الحمد لله ... أنا بس كنت حاسة بيأس و..
قاطعتها علا وهي تناولها العصير: -حاسة بيكي يا حبيبتي ... حاسة بمدى ألمك وحزنك وأنت عايشة في بيت مش لاقية فيه أقل الاحتياجات الأساسية من الأمان والثقة من أهم أشخاص في حياتك .. بابا وماما وأخواتك ... كل واحد فينا محتاج اللي يثق فيه ويحبه بدون شروط ... أنا عارفة أنك أكيد بتحلمي أن يتغير ما بين ماما وبابا وتبقى العلاقة مثالية لكن يا نهى يا حبيبتي التغيير ده مش فرض عليكي أنتِ ... ومهما تمنيتِ التغيير فلازم يكون منهم هما ... وبعدين خلاص هما أختاروا أنهم يعيشوا بالصورة المحزنة دي، لكن هل لازم أنت كمان تختاري كدة..؟
أنزلت نهى كوب العصير بعد أن أخذت رشفة منه ونظرت إلى علا بغير فهم، فقالت تلك الأخيرة موضحة: - حبيبتي .. علاقة بابا وماما تجربة حية تتعلمي منها رغم الألم وتكتسبي منها مهارات تعينك كزوجة إن شاء الله .
ابتسمت نهى بسخرية قائلة: - زوجة ..؟؟؟!!!!
ربتت علا على يدها قائلة: - آه زوجة يا حبيبتي .. عارفة أن علاقة بابا وماما المتوترة ممكن تخنق جواكي أي علاقة مستقبلية حميمية مع رجل يحل مكان بابا لأن مكان بابا وصورته داخلك مشوشة وسلبية جدًا، وأكيد هاتأثر على رؤيتك لكل الرجال، والتجارب السيئة اللي بتحصل لك برة البيت مع المشاكل اللي جواه أكيد هزت ثقتك بنفسك وده اللي أنا عايزة أركز عليه معاكي دلوقتي ... الحقيقة اللي عايزاكي تفهميها كويس جدًا أن ماحدش يقدر يغير حد ... الشخص الوحيد اللي أقدر فعلاً أغيره ... هوا أنا ...
استمعت نهى إلى أم صديقتها باهتمام، فأكملت علا: - أنا مسئولة عن تغيير نفسي وتحدي كل الظروف اللي حوليا..
قالت نهى بإحباط: - إزاي بس ..!!
قالت علا: - هاقولك يا نهى ... أولا يا حبيبة قلبي أشتغلي على علاقتك مع ربنا اللي أكبر من الكل ويمتلك قلوب كل البشر ... قوِّي علاقتك بالله لأنه ربنا هوا السند اللي انت محتاجة له ... ربنا عايزك تكوني قوية تنجزي حاجات رائعة في حياتك بإذن الله. التزمي بالعبادات من صلاة وقيام وصوم .... والدعاء، الدعاء، الدعاء يا نهى فهو فرصتك للكلام مع ربنا تقولي له كل اللي في قلبك الصغير من حزن وتسأليه العون على تقبل اللي ما تقدريش على تغييره وتطلبي منه المساعدة في تغيير نفسك...
بدأ شبح ابتسامة مرتاحة يرتسم على شفتي نهى، بينما تكمل علا: - حبيبتي ركزي على تنمية ثقتك بنفسك وبناء شخصية خاصة بنهى اللي هيا مش زي ماما ومش زي حد... الشخصية اللي تشبه نهى بس.... وبعدين أنت ما شاء الله عليكي رغم الظروف الصعبة جايبة مجموع عالي وهاتدخلي كلية كبيرة كانت رغبة من رغباتك زي ما قلتي ... ركزي بقى كويس في دراستك لأن دراستك يا نهى جزء كبير منك ... وحاولي تتعرفي على صديقات جدد في الجامعة وتشتركي في أنشطة ... حبي اخواتك الصغيرين وقدمي لهم اللي تقدري عليه واحتسبي الأجر عند الله .. وطبعًا ده برضه هايكون له مردود لما تتجوزي وتخلفي إن شاء الله .. هايبقى عندك خبرة من رعاية اخواتك وهاتربي ولادك أحسن تربية ... وبعدين أبقي روحي مع نور وتقى حلقة الحفظ اللي في المسجد اللي في الشارع اللي ورانا المعلمات هناك رائعات وحفظ القرآن هايخلي قلبك دايمًا في سعادة وطاير بآيات القرآن حتى لو عندك هموم الدنيا كلها ... لأنك هاتكوني مع ربنا وهاتبعدي عن الشيطان اللي بيفرح اوي لما يحزن المؤمن .. فأحب شيء إلى الشيطان: أن يحزن العبد ليقطعه عن سيره ويوقفه عن سلوكه، عشان كدة هانبطل حزن ونغير من نفسنا ونركز في دراستنا ونحفظ قرآن ...
صمتت علا قليلا متأملة إمارات الراحة التي بدأت تذيب التوتر والوجل الذي كان مرتسمًا على ملامح نهى منذ قليل، ثم أردفت: - وعايزاكي تحطي في دماغك يا نهى أن جسمك كللله أمانة ربنا أدهالك ... يعني ماينفعش نشد شعرنا الجميل ده تاني ولا نجرح نفسنا عشان نحافظ على الأمانة اللي أئتمنا عليها ربنا ... أتفقنا..؟
أومأت نهى برأسها إيجابًا، فقالت علا: - حاجة كمان ... على قد ما تقدري ما تشتكيش إلا لربنا ... صلي في الثلث الأخير من الليل وتملقي ربنا وأحمديه وأشكريه وأدعيه وأشتكي له وكلميه ... هتلاقي نفسك مرتاحة جدا ومش محتاجة تشتكي لحد من البشر أبدًااا ... وطبعًا لو احتجتي حاجة أنا تحت أمرك يا قمر ..
ابتسمت نهى ونهضت محتضنة علا قائلة: - متشكرة ... متشكرة أوي يا طنط ... يياااه ... حضرتك عندك طاقة إيجابية قادرة على تغيير الإنسان اللي قدامك 180 درجة ... يا بخت بناتك بيكي ...
ابتسمت علا وهي تربت على كتفيها قائلة: - يا حبيبتي يا نهى أنت اللي جواكي طاقة حلوة تقدر تقهر أي صعوبات في الحياة بدليل تفوقك وتدينك رغم كل اللي انت فيه ... وعايزاكي تفهمي كويس أن كل انسان وعنده مشكلة في حياته ... ربك بيقسم الرزق بالتساوي بين عبيده يعني اللي عنده رزق أن أهله كويسين بيبقى ابتلاءه في حاجات تانية واللي عنده رزق أن معاه فلوس بيبقى ابتلاءه في حاجة تانية وهكذا ... المهم أن الإنسان يرضى عن ربنا ويحمده ويشكره ويعرف نعم الله عليه اللي لو حاول عدها .... مش هايعرف. ياللا بقى ادخلي الحمام اتوضي وظبطي حجابك عشان تنزلي مع نور وتقى تصلوا العصر في المسجد وتبدأي في حلقة حفظ من النهاردة ... ماشي.
قالت نهى بحماس: - ماشي ...
خرجت نهى من غرفة علا وكأنها إنسانة أخرى .. مبتسمة تقول في مرح: - أنا هاروح أتوضا عشان أروح معاكوا المسجد يا نور ...
وعندما دخلت دورة المياه كانت الدهشة تغمر نور وتقى فهمست تلك الأخيرة لأمها: - إيه يا ماما .. أنت سحرتي لها واللا إيه..؟ ده أنا كنت حاسة أنها أما دخلت معاكي كانت بتموت يا حرام ...
قالت علا: - خلاص يا تقى .. البنت كانت حزينة وفضفضت وارتاحت خلاص ...
قالت نور شاردة: - مسكينة أوي نهى ...
وخيم عليهم صمتٌ مثقل بالأفكار...
فقد أدركتا أن هنالك مصائب أكبر من غياب الأب ...
أحيانًا وجوده يكون هو المعضلة ...!!
***
24 نوفمبر 2011، في الطائرة
الساعة 19:00
عاد إلى مقعده بعد أن نهض ليتمشى قليلاً بالطائرة فلم يجد أيًا من نور أو عيسى، رفع عينيه ليراهما قادمين من الناحية الأخرى لممر الطائرة ... كانت تنحني نحو صغيرها .. تتحدث معه لا تبتسم إلا له .. لا تمل من لهجته الممطوطة ولعثمته واسئلته المتكررة حول كل شيء ... ظل واقفًا ليسمح لهما بالمرور فجلسا وعاد عيسى إلى ثرثرته ثم هتف قائلاً له بفخر: - عـ...عارف يا عمو .. الصلاة على الطيارة حـ... حلوة أوي ...
أنحنى زين نحو عيسى قائلاً: - أنت صليت امتى على الطيارة...؟
هتف عيسى: - د...دلوقتي يا عمو أنا وماما اتوضينا وروحنا عند الستارة اللي هـ... هناك دي صلينا عندها المغرب والعشاء ... هـ... هيا الطيارة كانت بتتهز شوية ... بس أنا ماخفتش وكملت صـ... صلاة مع ماما..
رفع عينيه إلى نور التي كانت منهمكة بإحكام ربط حزام المقعد حول ابنها قائلاً:
- وانتوا عرفتوا تحسبوا توقيت الصلاة...؟
رغم أنها لم ترفع رأسها نحوه قط إلا أنها عرفت أنه يقصدها بسؤاله ذاك، فأجابت بصوت لا يكاد يُسمع وهي تُخرج شيء ما من حقيبتها:
- المغرب مش محتاجة حسابات فلكية أو جغرافية يا باشمهندس ... احنا في السما ... قرب الشمس اللي اختفت من شوية بديهي جدًا انها غربت وحان وقت المغرب ... ولأننا على سفر وعشان ما اتلخبطش بحسابات وقت العشاء والفجر، جمعت العشاء مع المغرب ...
قالتها بكل بساطة ثم أخرجت كتابًا ما من حقيبتها وانهمكت في قرائته بينما عاد صغيرها إلى التلوين وتركيب بعض قطع الأحاجي التي أخرجتها له منذ قليل. كان زين على علم بتلك المعلومة وقد قام بالفعل بأداء الصلاة لكنه لم يتخيل أنها قد تحرص على الصلاة في الطائرة "تمثيليات ... بتأفلم وتعمل تمثيليات...!" ترددت تلك الكلمات في ذهنه ... تذكر كل ما قيل عنها وعن ... "أوركيد" ... تعود تلك الكلمة لتطغى على تفكيره مربكةً إياه..! فيمسك بكوب القهوة الذي عاد به بعد الصلاة و يرتشف منه متأملاً عيسى الصغير الذي يحاول جهده الحديث رغم تأتأته الواضحة التي لم تخف لغته العربية السليمة رغم ولادته ومعيشته الأمريكية، حدَّث زين نفسه أن عيسى لا يشبه أباه أبدًا فالفتى ذو الشعر الاسود الفاحم الناعم المنسدل حول وجهه الأبيض وهاك العينين العسليتين المتقدتين ذكاءًا لا يمتان بصلة لأبيه، أرجع زين رأسه إلى الوراء شابكًا يديه خلف رأسه وقد مرت به أطياف أعوام مضت ... أعوام تزيد عن عمر ذلك الصبي بعام أو اثنين.
***
يناير 2004، الواحات البحرية
في تلك البقعة من الواحات البحرية التي تقع جنوب غرب القاهرة وتبعد عنها بحوالى 360 كم، خاصة تلك المزرعة الشاسعة التي تحدها من كل صوب أشجار شاهقة الارتفاع، أخذ زين يجد السير وهو يتصبب عرقًا... يتفقد المزروعات يزيل بعض الأعشاب التي يصادفها حتى التقى بشاب طويل يرتدي جلبابًا واسعًا، قال له: - بدر .. الله يكرمك زي ما قولتلك ممنوع استخدام المبيدات الكيميائية ... ممنوع استخدام الأسمدة الكيميائية ... وممنووووع عزيق للأرض... فهمتني ..؟
قال بدر باسمًا: - فهمان عليك يا ولد عمي .. متخافش ما في ذرة سماد كيماوي هاتقرب من الزرع ... أني متابع المزرعة زين ..
ربت زين على كتفه قائلاً: - تسلم يا بدر ... برضه نبه على طلال والرجالة اللي معاكوا ... أنا هدفي ان المزرعة دي كلها تبقى أورجانيك بمعايير الجودة اللي أحنا متفقين عليها مع المستوردين في فرنسا وامريكا وشركات التوزيع في مصر هنا ... وزي ما وعدت الچدة هانطلع محصول من أفضل ما خرجته أرضنا في يوم من الأيام ..
قال بدر: - ما تعتل هم يا زين، أطمن يا خوي ...
قال زين وهو يستدير راحلاً: - أنا مطمن يا بدر بس كنت باأكد عليك ... ياللا أنا في مكتبي لو احتجت حاجة كلمني ..
وعندما رحل زين لم يلحظ اقتراب أحدهم من بدر قائلاً بصوت أجش وهو يعقد حاجبيه: - على إيش يؤمر ويتأمر سي زين ..؟ زيه زيينا في المزرعة ... واللا لأجل دراسته وعلامه هايعمل علينا سي الأستاذ...!!!!
التفت بدر قائلاً: - يا طلااال بزيااادة بقى ولا عاد تحط زين في راسك ... مش ابكيفك ولا بكيفي ولا حتى بكيفه اللي بيحصول أهنه ... كل أشي ابترسم له الچدة وأحنا ما علينا إلا التنفيذ ... فالأحسن يا خوي أنشوف شغلنا ومانشغل بالنا بحاجة ماإلنا فيها يد ...
شرد طلال قائلاً: - ما إلنا يد فيها ..! راح تشوف يا خوي كيف ما إلنا يد فيها..!
أما زين فقد دخل منهكًا إلى مكتبه في المزرعة الموجود في مبنى متوسط السعة مكون من طابق واحد ومدخلين، كان المدخل إلى المكتب هو المدخل الخلفي، دخل زين ليفاجأ بوجود شخص ما في مكتبه يجلس على المقعد خلف المكتب ويمد رجليه على المكتب الذي أمامه عابثًا ببعض الأقلام، قال له زين في دهشة:
- زكريا...؟؟؟ أنت رجعت من القاهرة امتى..؟؟؟
قال زكريا مبتسمًا: - أنا هنا من الفجر يا باشا ...
قال زين: - أنت امتحاناتك خلصت يا ابني عشان تيجي ..؟ مش عندك امتحان بكرة..؟ كنت تخليك في القاهرة لحد ما تخلص امتحانات ... أنت عارف أنت بقالك اد ايه مش عارف تاخد تالتة تجارة...؟ يا ابني اخلص بقى ...
ضحك زكريا ضحكة طويلة ونهض قائلاً: - يا عم أنسى الجامعة والكلية والامتحانات ... أنا خلاااص .. عرفت طريقي ...
قالها ثم أخرج سيجارة وشرع في إشعالها، فأوقفه زين بصرامة قائلاً: - مش هنا يا زكريا ... أطفيها من فضلك ...
اطفأ زكريا سيجارته في عصبية قائلاً: - هوا لا هنا ولا في البيت الكبير...! إيه الخنقة دي..!
قال زين مغيرًا الموضوع: - مش فاهم تقصد إيه بأنك هاتنسى الجامعة والامتحانات، وطريقك إيه بقى اللي أنت عرفته ...؟؟
قال زكريا: - مش الچدة امبارح قررت معاك انها هاتفتح مكتب صغير في أمريكا يبقى تبعنا ويتولى التعاقد مع الشركات الأوروبية والأمريكية وتوزيع منتجاتنا اللي بتطلب بالاسم مننا...؟
اتسعت عينا زين قائلاً بدهشة شديدة: - أنت عرفت منيين الكلام ده..؟ الموضوع ده لسة حاصل امبارح ومايعرفش بيه إلا أنا وأبوك والچدة... ده حتى امك ماتعرفش...!!!
ضحك زكريا وقال وهو يضع يده على كتفي زين: - زين يا حبيبي انت صحيح أخويا الكبير ... بس أنا داير عنك يا معلم وأعرف أجيب المعلومة اللي عايزها من المكان اللي عايزه ..
قال زين: - والله ..؟ طيب يا عم الداير والفاهم .. إيه دخل ده بامتحاناتك...؟
أمسك زكريا بياقتيه بكلتا يديه قائلا بزهو: - ماهو أخوك هوا اللي هايمسك الشغل هناك بأمر الله .. أنت نسيت الكام سنة اللي قضيتهم في أمريكا واللا إيه .. يااااه على أمريكا ومزز أمرييكا ... احلى فكرة فكرت فيها يا اخويا اننا نفتح مكتب يدير شغلنا هناك...
قال زين بامتعاض: - مُزز..؟؟؟ يا اخي انتقي الفاظك وخاف ربنا شوية ...
هتف زكريا: - لااااا يا باشمهندس بلاش انت تبدأ في التنظير ... انت نسيت انا شوفتك في الجامعة واقف مع مين واللا ايه..؟ حتة مزة تحل من على حبل المشنقة ... بلونداية كدة بعيون زرق وقوام رشيق ولا مزز امريكا ... فامتبصليش انا في ...
قاطعه زين بحدة: - زكريا لو سمحت انا ماسمحلكش ... البنت دي بنت الدكتور عمر هجرس المشرف على رسالة الماجستير بتاعتي وكانت في مكتب باباها وانا عنده وحصل اني نسيت الرسالة بتاعتي واوراقي عند الدكتور عمر في المكتب فجت ورايا تديهالي بس .. ولا اعرفها ولا شوفتها قبل كدة ...
ربت زكريا على كتف اخيه قائلا: - بس هنيالك يا زين البنت قمرررر...
ازاح زين يده بحدة قائلا: - يعني ايه هنيالي..؟؟ باقولك اول مرة اشوفها..
قال زكريا:- وانا باقولك من نظرة خبير ان نظراتها ليك بعيونها الزُرق دول معناها انه هنيالك يا عم وبكرة تقول زيكو اخويا الله يمسيه بالخير هوا اللي بشرني، اصلا يا عم دي ماتتسابش لو ماكنتش مرتبطة..
صمت زين لحظات ثم قال: - طيب خلصني عايز ايه مني دلوقتي عشان ورايا شغل ومذاكرة كتير..
قال زكريا:- عايز فلوس بصراحة ...
اتسعت عينا زين في دهشة قائلاً: - فلوس إيه ...؟ بتهرج صح..؟
قال له زين: - لا طبعا مش باهرج ... انت عارف أبوك الشيخ سليم رحيل العربي ... شيخ العرب ... هو والچدة مابيدوش إلا في حدود التكلفة بس ... يعني خنقة ... وأمريكا محتاجة وجاهة وشوية مصاريف زيادة وحبشتكنات وكدة ...
نظر إليه زين مليًا ثم قال: - ماتطلب من أبوك ...
قال زكريا:- ييي .. مانا باقولك مش هايديني حاجة .. طلبت منه وقالي اللي معاك كفاية للشغل... وطيب انا يا حاج ومصاريفي طززز شوية فكة ماينفعوش.. ياللا يا زين بقى أديني مبلغ كدة محترم وهاردهولك اما اشتغل في امريكا..
تردد زين قليلا، ثم قال: - شوف يا زكريا .. انا أولا مش هاقدر اديك مبلغ كبير ثانيا لو اديتك فلوس اوعدني انك مش هاتصرفهم في حاجة تغضب ربنا.. يعني لا سجاير ولا حاجة من دي ...
قال زكريا بسرعة: - طبعًا طبعًا يا زيزو ... أنت فاكر ايه .. انا عايز اجيب كام طقم زيادة كدة لزوم الأناقة انت عارف اخوك مابيجبش إلا الماركات الجامدة ...
أخرج زين من درج مكتبه مبلغًا ماليًا أعطاه لأخيه قائلاً: - اتفضل يا سيدي اتمنجه براحتك ..
اختطف زكريا الأمول من أخيه ثم ارتدى منظارًا شمسيًا قائلا وهو يدور على عقبيه راحلاً: - متشكر اوي يا أخووووي تسلم يا عم زين ... ياللا اسيبك انا بقى تكمل شغل ومذاكرة .. سلاااااام
جلس زين على مقعد مكتبه وابتسم بجانب فمه الأيسر كعادته لتبدو غمازة طويلة بجانب فمه وهو يتمتم:
- عمرك ما هتتغير يا زكريا .. ربنا يهديك ...
أما زكريا فقد خرج من مكتب أخيه وقفز في سيارة جيب مكشوفة قادها عابرًا أراضي زراعية شاسعة ممتلئة بالنخيل حتى وصل إلى بوابة حديدية ضخمة فتحها له غفير ما فدخل مسرعًا حيث تراءى على جانبي الطريق حديقة رائعة الجمال ذات نخيل باسقة ومساحات خضراء حتى انتهى به المطاف أمام منزل يقع على مساحة كبيرة من الأرض مكون من طابق واحد غير الأرضي، دار حول المنزل وأوقف السيارة خلفه، أخرج سيجارة أشعلها ثم أخذ ينفث دخانها وهو يعد ما معه من أموال.
لم يكن ثمة أتفاق في الشكل أو الشخصية بين الأخوين سوى القامة الطويلة فقط، حيث كان زكريا شديد النحافة بينما يتمتع زين بجسد متناسق، كما كان زكريا أسمر البشرة ذو شعر مجعد أسود بينما كان زين ذو بشرة خمرية ملوحة وشعر اسود ناعم قصير وملامح رجولية منحوتة.
- "بسسسس ... بسسسسس"
انتفض زكريا وهو يسمع تلك الهمسات، أخذ يبحث حوله عن مصدرها حتى رأى شبح لشخص ما يتوارى خلف أحد الأبواب، ترجل زكريا من سيارته المكشوفة مبتسمًا في مكر وهو يتجه نحو الصوت..
- و ... حـ ... شـ ... تـ ... يـ ... نـ ... ـي..
قالها وهو ينفث دخان سيجارته نحو حسنائه البرونزية التي أطلت من خلف الباب بجديلتيها الممسكتين بعقال شعر حالك مموج طويل لم يفلح ذاك الوشاح الذي القته على رأسها كيفما اتفق في تغطيتهما تمامًا أو تغطية خصلاتها السوداء الثائرة التي انسدلت نحو عينين لوزيتين سوداوين كحيليتين.
- "لا والله ما هو باين اهه .. من ساعة ما نزلت مصر ما عاد نشوفك و لا اتكلمنا ... ورجعت الفجر وكمان لا شفتك ..." كذا همست تلك الفتاة، فتناول زكريا يدها الباردة كالثلج قائلاً: - يا حبيبتي يا حسناء أنتِ الأصل يا قمر ...
سرت ببدنها قشعريرة باردة وقالت وهي تسحب يدها من بين يديه: - لا يا ولد خالي .. ماهو لو أنا الأصل كيف ما بتحكي كنت سألت علي وحاولت تشوفني زي ما بعمل المستحيل عشان اشوفك ..
قال زكريا ممعنًا النظر في عينيها: - حبيبتي يا سنسن أنا كنت عايز اقابلك لوحدنا عشان انت ليكي هدية عندي كنت عايز اديهالك في جو رومانسي جميل مكافئة ليكي على اللي عملتيه عشان خاطر حبيبك زيكو، أنا خلاص يا حسناء مسافر أمريكا هاشتغل هناك ...
عبست حسناء قائلة: - أمريكا ...؟؟!! يالهوي ... أمريكا مرة واحدة يا ولد خالي .. ده انت بتروح مصر ببقى هاتجنن ومابعرف أشوفك اتروح أمريكا ..؟؟ يا خيبتك يا حسناء يا ريتني ما اتجسست ولا سمعت كلام الچدة وخالي سليم مع اخوك ولا قلتهولك .. أنا اللي استاهل .. أنا اللي ..
قاطعها زكريا: - اييه اييه انت هاتندبي واللا إيه ... يا بت افهمي .. أنا خلاص لا ورايا دراسة ولا مذاكرة ولا هاستنى اتخرج عشان نتجوز ... أنا هاروح اظبط شقة الزوجية بتاعتنا يا قمر وارستأ نفسي وكلها كام شهر واجي اخطفك على امريكا وانت مراتي حبيبتي .. هاجي نتجوز ونسافر على طوول .. جهزي نفسك بقى من دلوقتي يا حسناء مفهوم..
قالها مداعبا ارنبة انفها بسبابته، فخفق قلبها والتمعت عينيها بأمل زائف ثم قالت: - صوح..؟ صوح فعلاً يا زكريا ..؟
قال زكريا :- أنا عمري وعدتك بحاجة ومنفذتهاش..؟
هزت رأسها يمينًا ويسارًا أن لا، فقال: - أهوه .. أديكي قلتي .. يبقى نجهز نفسنا عشان كلها كام شهر بالكتير وانزل عشان نتجوز يا حبيبتي وتروحي أمريكا معايا .. هاتتبسطي في أمريكا أوي يا حسناء .. هاتلبسي اللي انت عايزاه وتروحي الاماكن اللي عايزاها ... هاظبطك هناك ... ودلوقتي بقى ماتنسينيش .. غمضي عنيكي عشان أديكي هديتك ..
أغمضت حسناء عينيها وقلبها يكاد يزغرد من الفرحة .. يكاد يقفز من مكانه وهي تشعر بذراعي زكريا يحيطان عنقها ثم يداعبان شعرها من الخلف، ثم يقول:- فتح يا جمييييل...فتحت عينيها لتجد قلادة فضية يتدلى منها قلب قد احاط زكريا عنقها بها، قال لها في وله: - خلي بالك من قلبي واوعي تشيليه من رقبتك أبدًا..
شعرت حسناء بسعادة بالغة ... شعرت وكأنها تعيش في فيلم من الأفلام الأبيض والاسود التي تدمنها.. أومأت له في استسلام قائلة: - حاضر..
إلا أن عينيها اتسعت في رعب وهي تنظر خلف كتفي زكريا ورفعت وشاح رأسها تغطي وجهها وهي تقول منصرفة: - سلام بقى يا زكريا احسن ياسر اخوي جاي من هناك اهوه .. اخاف يشوفني ..
أمسكها زكريا من ذراعها قائلاً: - ماتنسيش ... تبعتي لي كل شيء بيدور في البيت هنا . كل دبة نملة زي ما علمتك على النت مفهوم يا حسناء..؟
قالت بسرعة: - ما تقلق يا زكريا مش هانسى بس سيبني اخويا قرب منينا ..
اطلق زكريا سراحها لتجري مسرعة بينما يلقي هو بسيجارته أرضًا داهسًا إياها بقدمه عندما أقبل عليه شابًا في منتصف العشرينات متوسط القامة ذو بشرة بيضاء يرتدي عوينات طبية، قال له زكريا:
- ازيك يا دكترة ..
عدل ياسر من وضع عويناته وهو ينظر خلف زكريا قائلاً: - أهلا يا زكريا، هوا ... انت واقف عند باب المطبخ كدة ليه ..؟؟
قال زكريا: - مافيش يا سيدي كان في ايدي سيجارة قلت أخلصها هنا قبل ما ادخل وعمك الشيخ سليم يقفشني ... وأديني رميتها اهوه ... أنت بقى ايه اللي بيدخلك من باب المطبخ يا خبيييث..؟
قال ياسر: - أنا بحب أول ما أدخل أشوف أمي ... وهيا بتبقى قاعدة في المطبخ مع زينب أغلب الوقت، فبدخل اسلم عليها وأطلع أوضتي ...
قال زكريا: - ماشي يا عم ياللا بينا وأهي فرصة اسلم على عمتي قبل ما امشي ...
قالها ثم دلف كل منهما إلى داخل البيت الكبير.
***
-5-
”الشجاعة هي أن لا نخاف من لحظات خوفنا. درّب قلبك على مجابهة الأشياء التي تخيفه“
محمد الرطيان، وصايا
***
24 نوفمبر 2011، في الطائرة
الساعة 19:30
من نيويورك إلى القاهرة ... آلاف الأميال .. تجلب إلى الذاكرة المنهكة آلاف الذكريات ... وتجتاح مخيلتك آلاف الأفكار، أثني عشر ساعة كاملة بين السماء

Just Faith 18-12-17 12:42 PM

يجب ان ترد لمشاهدة المحتوى المخفي

Just Faith 18-12-17 12:43 PM

-6-
“إياك ان تحلم إلى الدرجة التي تنسى فيها الواقع، وإياك أن يحاصرك الواقع إلى الدرجة التي تنسى فيها أحلامك.”
محمد الرطيان – وصايا
******
28 يونيو 2004، الساعة العاشرة مساءًا
القاهرة
رُغم قصر لياليه، إلا أن تلك الليلة من شهر حزيران بدت طويلة كأمد الدهر! فهاهو القمر يكشف عن شيء من وجهه الناصع باديًا وسط الغمام وكأنه ينظر إليها مشفقًا، يتأمل خطواتها البطيئة المحملة بأطنان أحلام تمطت وتحركت من مكمنها كجني مصباح حيث كان ما رأته اليوم من أحداث كفيل بفرك هاك الفانوس الصدئ بداخلها مطلقًا العنان لكل أحلامها المكبوتة التي حبستها في قمقم الاستحالة وألقته بإهمال بغياهب جُب معاناتها اليومية؛ إلا أن مياه البئر الآسنة فاضت وطفى الفانوس على سطحها لتمتد ذكرى ما حدث اليوم فتفركه بعنف لينطلق المارد من محبسه ويسيطر على وجدانها بأسره فلا تجد مفرًا من تعاطي شيء من هاك المخدر الشرعي. صوَّر لها ماردها فارس... يعشق كل تفصيلة بها... يذيبها بمعسول كلامه وشجاعة إقدامه.. يحارب العالم من أجلها... ينتشلها من بئر معاناتها الآسنةُ مائه إلى محيطٍ برحابة كون. تسير في أحد الأزقة الخلفية المقفرة لحي بولاق الدكرور.. تتأمل واحدة من تلك البنايات العشوائية التي تم وقف بنائها والتي دائمًا ما كانت تغيظها.. إلا أن أشباح الليل وغيوم القمر جعلت ماردها يصورها قصرًا تبصر به حياة هانئة بينها وبين رجل قلبه أكثر خضارًا من عينيه. أرتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها لم تلبث أن تختفي وينقبض قلبها وهي تفتح باب منزلها عندما وصلها صوت غليظ يصيح "يعني إيييه مافيييش أكل..؟؟؟ عايز أتنيل أطفح ..!"
دخلت وأغلقت الباب وقد تبددت أحلامها كفقاقيع هواء خاوية ليصلها صوت أمها.. "والله عايز تاكل سيب فلوس أشتري بيها أكل.. قال أطبخي يا جارية يا سيدي كلف.. ويا ريتني محصلة جارية... ده أنا باخدم فيك انت وولادك ولا باخد منكم لا كلمة حلوة ولا أي حاجة عدلة.."
صاح أبيها.. "هوا أنا مش لسة سايب لك خمسين جنيه أمبارح يا ولية أنت..؟"
قالت أمها بسخرية.. "خمسييين جنيه..؟؟ ودول يقضوا إيه بقى إن شاء الله..؟؟ فطار واللا غدا واللا عشا لعيالك..؟ ما انا جبت...
- قلت لك دبري نفسك معيييش فلوس اليومين دول... لكن تدبري إيه... ما هو لو أنت ست زي بقيت الستات كان زمانك عارفة تدبري عيشتك.. لكن طول عمري عايش في القرف ده.. لا بلاقي لقمة عدلة ولا بيت متنيل نضيف... ماوراكيش غير الرغي مع الجارات وفلانة عملت وعلانة سوت...
- يا راجل اتقي الله وبوس إيدك وش وضهر إني رضيت أرجعلك أنت وعيالك.. وبدل ما تصرف فلوسك على السرمحة ورا النسوان تعالى اقعد في بيتك وحاجي على عيالك.. شوف أخواتك بيعملوا إيه مع عيالهم واتعلم منهم... ممعاكش فلوس وانت بتخرج كل يوم من صباحية ربنا لحد بالليل وقال إيه في الشغل..؟ شغل إيه ده اللي مابيأكلش عيش حاف..؟؟
صاح أبيها بغلظة أكبر: - أحترمي نفسك يا ولية احسن ليلتك مش فايتة... مين ده اللي بيتسرمح ورا النسوان..؟؟ الحق عليا إني باخرج الف على شغل هنا وهنا عشان أصرف عليكم...!!
- هي هيء.. شغل..؟ سلامات يا بو شغل.. ده أنا اللي شايلة مصاريف البيت ده من زماان.. دايمًا ذاللني وحاوجني ومخليني أمد إيدي للي يسوى واللي مايسواش لحد ما خلاص مابقاش حد يديني حاجة ولا يبص في وشي..
حاولت نهى سد أذنيها وكتم ادمعها بداخل المقل... تمنت لو تمتلك ترف فقدان الوعي... تمنت لو طار عقلها أو فقدت القدرة على الاستيعاب.. إلا أنها لازال صوت أبيها الغليظ المرتفع يصلها وهو يصرخ:
- ما تهرتليش في الكلام وتكذبي على نفسك... طول عمري وأنا باصرف عليكم... ولمي نفسك وقولي يا مسا احسن لك...
- لا والله..؟ ناوي تعمل فيا إيه أكتر من كدة..؟ كل يوم طولة لسان وشتيمة وإهانة وأنت المفروض تحمد ربنا وتبوس ايدك وش وضهر انك متجوز واحدة زيي ماتطولهاش ولا حتى في أحلامك... أحسن منك ويتمنى لي الرضا أرضى بس أعمل إيه في قسمتي...
صاح أبيها بهياج: - مين ده اللي أحسن مني..؟ أنطقي ...
صرخت أمها: - بترفع إيدك عليا .. ياللا كملها وأضربني اضربني يا إسماعيل ..
انتفضت نهى لصراخ أمها وخرجت من غرفتها التي لاذت بها مسرعة لتجد أخاها الأكبر قد أمسك بذراع أبيهم المرفوعة على أمهم محاولاً تهدئته وهو يقول : - خلاص يا حج بقى خلاص حقك عليا كبر دماغك...
دفعه أبيه بعنف ليسقط على الأرض ويصيح به: - مين ده اللي يكبر دماغه ياض يابن الـ***... أحترم نفسك وكلم أبوك عدل ..
ثم قام أبوها بخلع حزام بنطاله وهوى به على أخيها صارخًا: - مش بكفاية عمال تسقط لي في الكلية اليتيمة اللي قبلتك وولا هامك.. عامل زي العجل ماوراكش غير الأكل والشرب يا ***.. أكل ومرعى وقلة صنعة... وفي الآخر جاي تقولي كبر دماغك يا ابن الـ***....
جرت اختها الصغرى هاتفة: - يا بابا سيب أخويا حرام عليك... كفاية كدة بقى...
دفعها أبوها هي الأخرى بقوة لتسقط أرضًا فأخذت أمهم تصرخ وهي تلطم وجهها: - ألحقوووني يا ناااس هايضيع لي عيالي... يا مصيييبتيييي.... منك لله يا إسماعيل...
نهض أخوها مهانًا وعيناه تطق شرارًا ثم توجه مهرولاً نحو بابا المنزل، أسرعت نهى بارتداء حجابها مرة أخرى لتخرج من المنزل جريًا وراء أخيها خوفًا من أن يصيبه مكروه بعد ما فعله به أباه، وجدته ينضم إلى زمرة أصدقاء، فاقتربت أكثر دون أن يراها تحاول الاطمئنان عليه..
- ماااجد باشا أزيك يا اسطى... مستنينك من بدري... كنت فين..؟
قال أخوها ماجد : - مافيش.. أبويا بس كان في البيت.. المهم جبت الحاجة..؟
أخرج احدهم ورق ما أخذ يلف بداخله مسحوق لم تتبينه جيدًا قائلاً: - أمسك يا معلم .. أضرب دي وهاتنسيك نفسك.. مش سيجارة عادية دي... أمسك يا غالي... ولع له ياض يا عدلي...
أمسك أخوها السيجارة بين أصبعيه وقام آخر بإشعالها وهو يقول: - تعالى معانا بقى نعرفك على البت ناني صاحبة جي جي صاحبتي... بت صاروخ وهاتعجبك..
ضحك ماجد قائلاً وهو يسير معهم: - ياللا بينا على نااااانيييي ... أاناااني ...
سار مبتعدًا عنها وهو يصيح بطريقة غريبة مع أولئك الأشخاص... لا... بل مع أولئك الشياطين. فاضت عيناها بالدمع وقد أشتعل قلبها بنيران تلك السيجارة. إنها تشهد شقيقها ينزلق في هوة سحيقة ولا توجد ثمة يد تمتد لتخرجه منها. دومًا هارب من بيت يلفظه بكل من فيه ليتسكع في الطرقات تتقاذفه الأزقة الضيقة يبحث عن حياة.. أي (حياة) يهرب بها من موتٍ في صورة بيت. وأول حياة وقع في براثنها يبدو أنه وجدها مع تلكم الرفقة التي اتسعت لطيبته وسذاجته وصار هو يعلق عليهم كما يبدو سعادته.
عادت أدراجها إلى المنزل وهي تفكر ماذا عساها أن تفعل..؟ أتخبر أباها الذي لن يعرف سوى ضرب شقيقها الذي تخطى العشرين من العمر..؟ أم تخبر أمها التي لا تملك أن تفعل شيئًا ولن يزيدها هذا الأمر سوى المزيد من الحزن وندب الحظ السيء..؟!! صعدت السلم متحاشية النظر إلى تلك الجارة.. لا تريد أن تعرف هل تنظر إليها بشفقة أم بشماتة..! فتحت باب منزلها ودخلت لتجد أن أصوات أبويها قد اختفت ليحل محلها الصوت المرتفع للتلفاز الذي جلس أمامه أبيها وناداها قائلاً: - بت يا نهى.. أنتِ يا بت يا نهى..
ذهبت إلى أبيها قائلة بوجع: - نعم يا بابا...
قال لها: - كنتي فين..؟
أجابته: - كنت بحاول اطمن على ماجد..
صاح أبيها في حدة: - ماتجيبيليش سيرته خالص الواد ده.. ولا تجبي لي سيرة البت بنت الـ*** التانية دي اللي لسانها مترين زي أمها مش عايز اشوفها ولا أشوف أمك الساعة دي.. ولية هم وغم ونكد لازم على طول ترفع لي الضغط ...
ردت عليه بصمت موجوع وعين يكسرها الألم، فقال بحدة: - فهمتي..؟
كادت تصرخ به كيف تريدني ألا أتحدث معك عن ابنائك وزوجتك..؟ رعيتك..!! كيف تريد أن تنسى ابنك الذي ستُسأل عنه يوم القيامة..؟ كيف ستقف أمام رب العباد..؟ ماذا ستقول له عندما يسألك عن برك بأبنائك...؟ إلا أنها تمتمت بخفوت: - أيوة..
أسند ظهره إلى الأريكة قائلاً بكلمات كالخناجر تمزق قلبها: - كويس.. روحي بقى شوفي لي أي طفح أطفحه.. حسبي الله ونعم الوكيل في امك مش عاملة لقمة عدلة ناكلها... هاتي لي أي حاجة إن شاالله لقمة بجبنة وشوية فول ماكلتش من صباحية ربنا....
حبست أدمعها وهي تقول بخفوت: - حاضر...
سارت مبتعدة عنه ودخلت تطمئن على أخيها الأصغر لتجده منزويًا في سريره يبكي ويئن وقد التف على نفسه متخذًا وضع الجنين، لم تجد بها القدرة على أن تحتضنه وتربت على كتفه في حين تحتاج هي إلى من ترتمي في حضنه وتبكي بكاءًا طويلاً.. تحتاج إلى من يربت على كتفها هي فقد امتلأ قلبها عن آخره بالألم والوجع والحسرة. أنطلقت إلى غرفة أمها المغلقة تفتحها لتجد اختها تربت على كتف أمها الباكية التي تولول: - معلش يا ولاد... أنا السبب.. أنا اللي وكستكوا بأب مبيعرفش يشيل مسئولية.. راجل ميهمهوش غير بطنه وشهواته وبس.. حسبي الله ونعم الوكيل فيه... ربنا ينتقم منه...
خرجت بهدوء وأغلقت الباب مرة أخرى ذاهبة إلى المطبخ.. حاولت الإمساك بالأطباق أو الطعام إلا أن يداها المرتعشتان أخبرتاها أنها لن تستطيع منعها أكثر من ذلك.. فالهطول آتٍ لا محالة... فتهاوت على الأرض في زاوية من المطبخ وضمت رجليها إلى صدرها وأخذت تبكي بكاءًا مريرًا وتنتفض. أخذت جاهدة تحاول طرد ما سمعته ورأته منذ قليل من مخيلتها، أخذت تضرب رأسها بكلتا يديها بقوة علَّ تلك الأفكار تختفي ... إلا أنها انتفضت عندما جاءها صوت أبيها يصيح بغلظة:
- أنت يا بت يا نهى... فيييين الأكللل...؟؟
نهضت بسرعة تعد لأبيها الطعام بيد مرتعشة، متمنية أن ترحل في أقرب وقت عن هذا المنزل.. كانت تبكي دون توقف حتى أن الطعام قد امتزج ببعض دموعها الحارة.
*******
29 يونيو 2004، الساعة الثانية فجرًا
منزل نور وتقى، القاهرة
أخذت نور تذرع الردهة بمنزلهمن جيئة وذهابًا في توتر حتى سمعت من يفتح الباب فهرعت نحو تقى التي دخلت لتوها لاهثة ثم بادرتها قائلة: - كنت فين كل ده..؟
- بادور على الحقنة ماحدش راضي يديهاني ...
صاحت نور بحدة: - يعني إيه ماحدش راضي يديهالك..؟ ماتروحي للصيدلية بتاعة الدكتور يعقوب..!
قالت تقى: - والله روحت بس الدكتور يعقوب مش موجود.. وكل الصيدليات التانية اللي فاتحة دلوقت بيقولوا لي المُسكن ده مابيتباعش إلا بروشتة... تعالي نروح لأي دكتور في المستشفى يكتب لنا روشتة وخلاص...
قالت نور بقلق: - دكتور مين اللي هايكتب على مسكن زي ده دلوقتي من غير كشف..؟ أقولك .. ياللا نجيب تاكسي ونشيل ماما عالمستشفى ...
كانت تقى خائفة جدًا فأخذت تبكي قائلة: - طب لحد ما نروح المستشفى عايزين نلحق نديها حقنة مسكن..
هتفتت نور بعصبية: - هانعمل إيه يعني إذا كانوا مش راضيين إلا بوصفة عليها إمضاء وختم طبيب والروشتة بتاعة ماما مش لاقيينها... نجيب روشتة منين دلوقت..؟ خلينا نوديها المستشفى ...
صاحت تقى: - روشتة.. روشتة... أنا هانزل عند طنط قدرية اخلي محمود يكتب لنا روشتة مش هوا دكتور...؟ وممكن كمان يكون عنده الحقن أصلاً...
قالت نور في تردد: - ماشي.. ياللا بسرعة وانا هادخل أطمن على ماما...
دخلت نور إلى أمها التي وضعتها منذ قليل في فراشها؛ كان ذعرهما شديدًا عندما سمعتا صوت ارتطام خارج غرفتيهما فخرجتا لتجدا أمهما فاقدة الوعي، حملتها نور بين ذراعيها ووضعتها على أقرب فراش، كانت أمها خفيفة الوزن إلى حد كبير فمنذ أصابها ذلك الداء اللعين وهي تخسر وزنها شيئًا فشيئًا حتى صارت نحيفة جدًا.
جلست نور جوار عُلا على فراش تلك الأولى تمسح على رأس أمها المغطى بالحجاب متأملة وجهها الأبيض الشاحب وتنشج في صمت.. أدمعها تنهمر كغيثٍ مالحٍ على صفحة هاك الوجه شديد الامتقاع أمامها بينما لسانها لا يفتر عن دعاء واستجداء ممن وحده بيده الشفاء بعدم طي صفحة العُمُر الآن. حاولت استدعاء أمانيها الخائفة.. وبث شيء من الأمل بأحلامها التالفة، إلا أن مساعيها كانت تُمنَّى بالفشل القاتل كلما حانت منها ألتفاتة إلى أمها المسجاة والتي يبدو جليًا عليها كم أرتشف المرض من وجنتي روحها. لم تجد سوى أن ترفع رأسها وترسل بصرها خارج النافذة حيث جنح الليل الهادئ... تبتهل في سكون... أنا في رحابك يا إلهي ضعيفةٌ... مأسورةٌ بخوفٍ عقيم، فهب لي رحمةً يا ربِ ونجها من هاك المرض المرير.
نعم.. فعُلا يسري عبد العال ليست مجرد أم بل هي دائمًا شمسٌ مشعةٌ عَشِقَت الحياة رغم آلامها فبددت كل الظلمات التي قد تكتنف طريقها أو طريق فتاتيها.. هي قلبٌ محبٌ يمنحهما شعورًا بالأمان.. صدرٌ واسعٌ يبتلع كل همومهما ومخاوفهما.. روحٌ تصيخ السمع لنبض قلبيهما كل صباح وتلف روحيهما بالدعاء والصلاة عند المساء.
من لي سواكِ يا أماه يكون لي قلبًا راحمًا كلما أشتد البلاء؟ من ذا يدللني كطفلةٍ صغيرةٍ مهما كبرتُ وسار بي طيف الحياة؟ من من شأنه يسابقني في صيامٍ ودعاءٍ وصلاة..؟
لم تملك سوى قلبها الذي توضأ بمزن المآقي وأرتفع فوق حدود الغيوم والقمر، وأطلق سهام دعائه حارة.. صادقة..
.. ترتفع صوت طرقات على باب المنزل.. تعجبت.. إن تقى تملك مفتاحًا فمن عساه يطرق بابهن في ذلك الوقت...؟؟ سارت نحو الباب في حذر متسائلة: - مين...؟
أتاها صوت تقى قائلة: - أنا تقى يا نور..
فتحت الباب قائلة: - ايه يا بنتي مش معاكي المفتـ....
قاطعتها تقى وهي تمسك بالباب تمنعه من أن يُفتح: - معايا ناس البسي الحجاب..
ارتدت نور عبائتها الفضفاضة المخصصة للصلاة بسرعة ثم فتحت الباب لتجد تقى يقف معها جارهن الدكتور محمود مرتديًا منامة سوداء وخف منزلي يقف على مسافة معقولة من تقى ناظرًا إلى الأرض. عقدت حاجبيها في شدة فقالت تقى بتوتر: - الـ.. الدكتور محمود أما عرف اللي حصل صمم أنه يجي يشوف ماما بنفسه ويكشف عليها ..
بسرعة البرق دارت بعقلها معادلات المكان وحيثيات الجيران.. فتاتان وأم لا يعلم بمرضها القاتل أحد وحدهن وشاب يقبل عليهن بجنح الليل والنتيجة.. سيرتهن هي قصة السمر لهذا الصيف تلوكها ألسنة قاطني وقاطنات حيهن الشعبي. سمحت نور لاختها بالدخول ثم قالت لمحمود في حزم: - أنا آسفة يا دكتور... حضرتك ممكن تديني الحقن لو موجودة معاك أنا باديهالها على طول؛ أو تكتب لي روشتة بيهم. هيا أكيد فقدت وعيها من الألم لأنها بصراحة بقالها كام يوم مابتنامش ولا بتاكل كويس من ساعة جلسة الراديوثيرابي..
رفع محمود رأسه نحوها قائلاً وقد لفت انتباهه عيناها الحمراوين وقد بدا عليهما أثر البكاء:
- معلش يا دكتورة.. لازم أفحصها الأول قبل ما اكتب الدوا.. انتِ عارفة انه مورفين.. مش حاجة بسيطة..
قالت بعند وهي تنظر أرضًا:
- خلاص مش مشكلة أحنا هناخدها المستشفى.. آسفين عالإزعاج.. سلام عليكم...
نعم.. عنيدةٌ هي ورأسها يابس، تلك التي يحفظها كظهر يده.. فكم حملها وهي ابنة العامين عندما عادت عُلا عقب وفاة زوجها إلى بيت أمها. تذهب عُلا إلى العمل.. تهتم الجدة بالرضيعة ويهتم هو بصغيرته ذات الجدائل الطويلة يأخذها ليبتاع لها حلوى فلا يعجبها شيء وتجعله يدور على كل المتاجر حتى تجد بُغيتها؛ هو فتى العاشرة الذي كان يحكي لها الأقاصيص متقمصًا دور الكبار، أصبح بعد ثلاثة أعوام فقط ينبهر بخيالها وهي تقف بشرفتها - المجاورة لشرفة منزله غير أنها أعلى- تحكي له حكايا من نسج خيالها عن أميرة جميلة دون أمير... عن سندريلا لم تفقد حذائها.. عن فتاة العسل التي لا تفقد جرتها الأثيرة من العسل مهما واجهت من صعاب ومن شدة عشقها للعسل ورثت عينيها لونه الصافي وتبعثرت بشعرها الحالك خصلاتٍ تلبست بنفس اللون، وتلك كانت حكايته لها التي حفظتها عن ظهر قلب. نعم.. نور طفلته التي بدأت تنأى في خجل كلما كبرت حتى باتت تختبئ خلف ألف حاجز شيدته حول ذاتها، لكنها – بالنسبة له - مجرد حواجز زجاجية غاية في الشفافية.. لقد كبرت على يديه، مهما اختبأت.. سيعرف متى تكون غاضبة.. خائفة... بل متى تقول "لا" وبداخلها ألف نعم..!
كادت تغلق الباب إلا أنه أمسك به قائلاً في صرامة: - أستني يا نور... ماينفعش تنزلوا لوحدكوا كدة الساعة دي... ماتتحركيش من مكانك.. هانزل أصحي ماما ونطلع .. ماشي..؟
تعلقت عينيه بها وهي تومئ في استسلام قائلة دون أن ترفع نظرها إليه: - ماشي.. متشكرة أوي ..
وما هي إلا دقائق معدودة حتى كانت طرقات الباب تتناهى إلى سمعيهما، فتحت تقى لتدخل جارتهن قدرية بوجهها الأبيض المستدير وجسدها الممتلئ إلى حد ما واضعة حجابًا كيفما أتفق على جلبابها منزلي وقد كان القلق باديًا على وجهها الذي لازالت آثار النعاس متعلقة به.
- "كفى الله الشر يا بنتي سلامة ماما ألف سلامة.." كذا بادرت قدرية تُقى محتضنة إياها، ثم تبعتها هي وابنها حيث قادتهما تقى إلى غرفتها هي ونور حيث تستلقي أمها على سرير تلك الأخيرة. شعر محمود بمدى معاناة نور التي كانت تجلس جوار أمها بنظراتٍ تائهة ممسكة بيدها، لم يملك سوى أن يحتضنها بعينيه مع امه التي احتضنتها فعليًا قائلة: - تعالي يا حبيبتي تعالي يا بنتي خير إن شاء الله.. دلوقت محمود يكشف عليها وتفوق وتبقى زي الفل..
أفسحت نور المجال ليمر محمود ويضع حقيبته مخرجًا سماعته الطبية وجهاز قياس الضغط ويبدأ في فحص أمها، وعندما انتهى قال: - النبض ضعيف جدًا والضغط منخفض... لازم نعلق محلول الأول ونشوف كدة هل هاتحتاج تتنقل للمستشفى واللا لأ.. أنا هانزل اشتري اللازم وأرجع فورًا..
نهضت نور توصله إلى باب المنزل المفتوح أصلاً، فاستدار قبل أن ينزل ونظر إليها بعمق قائلاً بصدق:
- ماتخافيش يا نور..
حانت منها التفاتة لتلمح عيناه الخضراوان اللتان طالما سخرت منهما وهي صغيرة...
عيناه اللتان كانتا منبعًا للأمان بالنسبة لطفلة لا أب لها ولا أخ، طفلة لم تجد في حياتها سواه يحنو عليها..
عيناه اللتان عادتا يشملانها بنظراتٍ عميقة حاولت تلاشيها منذ زمن إلا أن تلك الألتفاتة السريعة كانت كافية...
كافية ليعاودها شعور الطفلة ذات الخمس سنوات المتشبثة بيد محمود الكبيرة في أمان..
كافية لتبدد جبال الجليد التي انتشرت بكيانها وتهبها دفئًا عجيبًا، حيث أخذت بقايا الأمل المحطمة بداخلها تنفض عن نفسها البرد وتزدهر في هذا الدفئ المفاجئ. قرع قلبها طبول الإنذار، فخفضت رأسها في خجل متمتمة: - شكرًا..
هبط الدرج بسرعة مُخلِّـفًا بقايا عطره لتعود إلى أمها محملة بها، تنظر إليها ثم تنحني إلى أذنها هامسة:
- "قلتي لي أثق في سهام الليل يا أمي.. وأنا واثقة.. أنك راجعة... مطمنة.. وهاطمنك.."
***

Just Faith 18-12-17 12:44 PM

- 7-
"أحب فجازته الخلائق بالأسى
وفى فأجابته الخلائق بالغدر
إذا قال: أهوى كذبته تجارب
مخضية بالحزن والألم المر
- غازي القصيبي"
*****
24 نوفمبر 2011، بالطائرة
الساعة 22:30
أستيقظ من غفوته القصيرة ليجد نفسه مازال بالطائرة.. نظر عن يمينه ليجد نور قد غفت بدورها مستندة إلى نافذة الطائرة محتضنة ابنها بكلتي يديها، غفا عيسى على صدرها وقد تساقط شعره الأسود الناعم على حجاب أمه. تأمل زين ما يبدو له من وجهها وهو يتذكر مجددًا ما سمعه عنها؛ بدا وجهها هادئًا رقيقًا تغشاه سحابة من الألم تبدو في زمة شفتيها الدقيقتين والانعقاد الخفيف لحاجبيها.. تمعن في وجه عيسى ليجده يحمل شيء من ملامح أمه إلا أنه يتمتع ببشرة بيضاء وحاجبين كثيفين بالنسبة لعمره وغمازة ذقن. لم يلبث أن استهجن ما يفعله فأشاح بوجهه عنها في سرعة لترتفع عيناه نحو الشاشة التي أمامه حيث يتم عرض خط سير الطائرة التي مرت في أجواء إيطاليا وشمال بعض الدول الأوروبية حتى اقتربت من اليونان. "اليونااان.." تمتم زين وقد استدعت اليونان بعض الذكريات التي لازالت خنجرًا مغروسًا بين أضلعه. هاهو يزورها من علوٍ شاهق مع امرأة أخرى، نظر بطرف عينه إلى نور الغافية بهدوء ثم ابتسم بسخرية بجانب فمه الأيسر كعادته متمتمًا: - كلهم وااااحد ... مايفرقوش عن بعض ...!
أستند بمرفقه إلى ذراع مقعده بالطائرة ثم أسند جانب جبهته على أنامله بينما الذكريات تدور بجنون داخل رأسه كطيرٍ حبيس. هاقد أتت ذكراها ترفرف حوله للمرة التي أقسم أن يجعلها الأخيرة.. سيطردها... سيلقي بها من هذا الارتفاع لترقد للأبد حيث كان من المفترض أن تكون بداية حياة.. اليونان.
***
يناير 2005،
كلية الزراعة، جامعة القاهر
كان يومًا من أيام شهر يناير الباردة.. ارتدى زين معطفه الجلدي الأثير وشملة صوفية زادت من أناقته وهو يعبر ممرات كلية الزراعة جامعة القاهرة في سرعة متوجهًا إلى مكتب الدكتور عمر هجرس ليناقش معه التعديلات النهائية برسالته التي شارفت على الانتهاء، لذا انتقل زين إلى الإقامة بالمنزل الذي أثثه له أبوه بالقاهرة حتى يحين موعد مناقشة رسالته. وصل زين إلى مكتب الدكتور عمر وطرق الباب بخفة حتى سمع الدكتور يسمح له بالدخول. دلف زين إلى المكتب الفخم المؤثث بعناية. كان الدكتور عمر هجرس رجلاً وسيمًا في العقد السادس من العمر طويل القامة ذو شعر فضي وقور يرتدي دائمًا حُلل أنيقة ويضع منظارًا بسيط وأنيق. صافح زين قائلاً: - أهلاً بتلميذي النجيب.. أول مرة تتأخر عن موعدك 5 دقائق...
صافحه زين وهو يقول بأدب: - آسف جدًا يا دكتور.. المحور كان مقفول تمامًا و...
"خلاص يا پاپي.. ماجتش من 5 دقايق.. أنت عارف الدنيا زحمة قد إيه..."
جاء ذلك الصوت من خلفه.. يعلم هو مصدره جيدًا، فمنذ أن رآها أول مرة وهو يراها في كل مرة يأتي فيها إلى مكتب الدكتور عمر. أستدار زين وقال خافضًا بصره إلى الأرض : - معلش يا آنسة كارمن ما أخدتش بالي أنك...
أرتسمت ابتسامة واثقة على شفتيها الورديتين المكتنزتين وهي تنظر إلى الدهشة الشديدة التي يطالعها بها زين الذي تعجب جدًا من ذلك التغير في طريقة ملبسها. شرد زين لحظات وهو يذكر تلك الفتاة التي قابلها أول مرة في مكتب الدكتور عمر والتي عرَّفها له الدكتور عمر بقوله... "كارمن بنتي... تانية إدارة أعمال إيه يو سي" كانت أول نظرة خاطفة كفيلة بجعل زين يتعمد تحاشى النظر إليها تمامًا طوال تلك المرات التي قابلها بها في مكتب الدكتور عمر، فذلك الجينز القصير الضيق جدًا الذي يبدي أكثر مما يخفي وهاك البلوزة الضيقة بدورها ووجهها الفاتن بشفتيها الورديتين اللتين ترفضا اللقاء حيث ترتفع الشفة العليا دائمًا مُشَكِّلة قوس صغير على الشفة السفلى وذلك الأنف الدقيق المرتفع وجسدها الطويل الرشيق ذو الملامح الأنثوية الصارخة والذي تبدو كل تفصيلة فيه بوضوح أسفل ملابسها الضيقة، كل ذلك جعله شديد التمسك أكثر من ذي قبل بالنظر إلى الأرض حين تحادثه وشديد الصرامة حين تحاول المزاح معه وعندما مدت يدها لتصافحه عند التعارف أخبرها صراحة وهو ينظر إلى الأرض "أنا مابسلمش" وقتها لم ير زين تلك النظرة العجيبة التي اشتعلت في عينيها الزرقاوين... نظرة كانت تجمع بين الدهشة والغضب والسخرية. أما اليوم فهاهي ذي كارمن بقامتها الممشوقة الفارعة تقف بجوار نافذة المكتب لتسقط أشعة شمس الشتاء الناعسة على ذلك الثوب الأبيض الطويل المزدان بزهورٍ دقيقة ذات لون أزرق فاتح وهذا الحجاب الأبيض المائل للزرقة الملفوف حول وجهها مخفيًا شعرها الذي كان يتناثر حول وجهها كسلاسل من الذهب. لم يكن حجابًا جدًا فضفاضاً لكنه كان يُعتبر تغييرًا جذريًا بالنسبة لكارمن.
- "هيييه يا باشمهندس.. روحت فين..؟"
قالها الدكتور عمر ضاحكًا.. فاستدار له زين قائلاً في حرج: - معاك يا دكتور... الـ.. التعديلات اللي حضرتك قلت عليها عملت بحث و...
- سيبك من ده دلوقتي يا زين ... أنا عايزك في موضوع تاني وبعدين نبقى نتناقش في تعديلات الرسالة..
نظر زين باهتمام إلى الدكتور عمر قائلاً: - اتفضل حضرتك يا دكتور أنا تحت أمرك...
أشعل الدكتور عمر سيجارًا فاخرًا ثم قال وهو يضعه بين شفتيه: - "كنت عايز..." صمت قليلًا ثم نفث دخان السيجار مكملاً بتمهل: - كنت عايز اشتري أرض عندكوا في الواحات ...
"وااااو يا پاپي... ونروح نعيش هناك...؟؟؟"
هتفت كارمن في فرح ... عقد الدكتور عمر حاجبيه قائلاً: - روكي ... من فضلك ماتقاطعينيش وانا باتكلم... ولو كنت خلصت الموضوع بتاعك اتفضلي انت..."
قالت كارمن في تذمر مصطنع : - بس يا پاپي انت عارف ان عربيتي اتعطلت برة... مش عارفة اعمل إيه وعندي معاد مهم مع اصحابي بعد ساعتين... استناك واللا..؟
الدكتور عمر: - لا ساعتين إيه... أنا لسة عندي شغل كتير ماقدرش أمشي دلوقت...
ثم استدار إلى زين قائلاً: - ممكن تبقى توصل روكي معاك يا زين..؟
عقد زين حاجبيه وهو يقول بتردد:- حاضر يا دكتور...
استدار الدكتور عمر إلى ابنته قائلاً: - خلاص يا روكي... ممكن بقى تستني زين برة لحد ما نخلص كلامنا..؟
قالت: - آه يا پاپي منا هستناه مع هايدي صاحبتي برة...
ثم نظرت إلى زين بثبات مردفة: - ماهي هاتيجي معايا...
قالتها ثم خرجت، فقال الدكتور عمر: - خلينا في موضوعنا... كنت عايز اشتري أرض في الواحات استثمرها...
قال زين: - بصراحة يا دكتور... الموضوع مش بالسهولة دي...
تسائل الدكتور عمر: - ليه يا زين..؟
أجابه: - لو رحت اشتريت قطعة ارض فى الواحات لازم تدفع اتاوه للعرب هناك علشان يسيبوا لك الارض ده متعارف عليه... ومش بالساهل يسيبوها كمان... طلباتهم صعبة أوي...
ضيق الدكتور عمر عينيه قائلاً: - مش مشكلة... انا ليا معارفي في...
قاطعه زين: - الحكومة والجيش والداخليه ميقدروش يعملوا معاهم حاجه وكمان بيكبروا دماغهم طلما القبائل دى مش بتلعب سياسه... النظام هنا بيسايسهم جامد...
نفث الدكتور عمر دخان سيجاره قائلاً: - انت مش عارف إن أنا النظام واللا إيه...؟؟؟
قالها ثم قهقه بصوت مرتفع أردف بعدها: - انت كل اللي عليك أنك ترشح لي قطعة أرض كويسة ويا ريت تكون بعيدة عن الناس...
قال زين:- مادام كدة.... ماشي...
قال الدكتور عمر: - تمام ... خلينا بقى نتكلم في الرسالة...
أما كارمن فقد خرجت من مكتب أبيها لتجد صديقتها تجلس على مقعد في إحدى الحدائق على مقربة، نهضت هايدي نحوها قائلة:- انت فين يا روكي... كل ده...!
جلست كارمن قائلة: - إيه يا دودي مانت عارفة أنا فين... كنت عند پاپي في المكتب...
قالت صديقتها : - خلاص يعني..؟ ما ياللا بينا ...
وضعت كارمن ساقًا فوق الأخرى قائلة: - اقعدي يا هايد ... انا عربيتي باظت ..
نظرت إليها صديقتها قائلة بدهشة: - امتى ده..؟ ماهي كانت كويسة وواصلين بيها وهيا زي الفل...!!
غمزت لها كارمن قائلة: - ماهو زين هايوصلنا..
صاحت هايدي: - يو آر كرييزي... أنت واحدة مجنونة يا روكي ... مش عارفة إيه سر إعجابك بالشخص ده... مش هاندسم يعني ولا ستايل ولا أي حاجة.... اللي يخليكي تغيري ستايلك كدة ولابسة هدوم بتجرجر في الأرض و تغطي شعرك... فين روكي الروشة بتاعة زمان...؟ يا بنتي ده انت كل يوم بيحاول شباب أحلى وأغنى وأشيك منه مليون مرة أنهم بس يتعرفوا عليكي ...
قالت كارمن شاردة: - فيه حاجة شداني أوي ليه... تحسي كدة أن فيه رجولة مش موجودة في أي شاب من الشباب اللي بتتكلمي عنهم دول... رجولة في كلامه.. رجولة في عينيه اللي مابتقابلش عيني إلا ويبعدها... رجولة كدة أول مرة أشوفها واتعرف عليها...
قالتها ثم نظرت إلى صديقتها مردفة: - ومش أنا راهنتك إني ألفت نظره جامد وأجبره إنه يبص لي...! أهو النهاردة بس كسبت الرهان يا هايدي وهاتشوفي بعنيكي...
قالت هايدي: - ماشي يا روكي اديكي كسبتي الرهان... فكك منه بقى.. وارجعي روكي الروشة اللذيذة اللي اعرفها..
قالت كارمن: - أرجع إيه ... ده أحنا لسة بنقول يا هادي ...
ثم التمعت عينيها مردفة: - أنا قلت عايزاه... وهاخده... وأنا عمري ما طلبت حاجة وحد منعها عني... أما زين... فهايبقى ليا وهاتشوفي.
******
مارس 2005،
كلية الزراعة، جامعة القاهرة
الجامعة ... ذلك المدرج الذي امتلأ تقريبًا ... الإعلان على الرسالة ..
"تعلن كلية الزراعة عن مناقشة رسالة الماجستير
المقدمة من الدارس/ زين العابدين سليم رحيل العربي
المسجل لدرجة الماجستير (محاصيل)
وعنوان رسالته
(استراتيجيات الزراعة المستدامة في مصر)"
ظل زين واقفًا على باب القاعة في انتظارها على أمل أن تظهر... لم تخلف وعدًا قطعته على نفسها قط.... لم يتخيل أن تتركه وحيدًا وقد كانت تشجعه على المضي قدمًا في الرسالة وتقدم له كل ما يطلب من عون في سبيل تجاربه.
"إيه يا زين.. ياللا ادخل المناقشة هاتبدأ... فيه إيه..؟؟"
كذا هتفت كارمن من خلفه وهي قادمة نحوه من داخل القاعة، استدار إليها في يأس... شق طريقه نحو المنصة وأحداث الأيام الفائتة تحدث ضجة في رأسه منذ أن أبدى رغبته في الارتباط بكارمن. لم يدر زين لمَ هو منجذب بقوة إليها..! لم تكن كارمن يومًا قريبة من أفكاره، إلا أنه انجذب إليها عندما شعر فيها خيرًا عندما غيرت من طريقة ملبسها وحديثها.. ظن أنه قد يأخذ بيدها رغم كل شيء. لمَّح للدكتور عمر الذي لم يبدر منه أي اعتراض.. لمَّح لأبويه ثم أخبرها. نظر إلى حيث يجلس أفراد اسرته... مقعدها في الصف الأول خالٍ، إنها غاضبة... حتمًا غاضبة.
مارس 2005،
الواحات البحرية
وبينما انهمك زين في مناقشة رسالته، كانت هي في غرفتها بدار الشيخ رحيل العربي... تتأمل من على فراشها ضوء الشمس الراحل مقبٍّلاً النخيل الباسقة المنتشرة بأراضيهم... أراضي الشيخ رحيل..! لم تخرج من غرفتها منذ عدة ليال... يأتيها طعامها حيث هي لا تقابل أو تتحدث مع أحد سوى زينب التي تعمل عندهم. لقد وعدته أن تشهد مناقشته لرسالته رغم إنها نادرًا ما تخرج من دارها، إلا أن زين أعاد تأجيج نارًا ظنت أنها خمدت في صدرها. هاهو يسلك نفس الدرب، هاهو ذا يصدمها بخطأ فراستها..! لقد انتظرتها من أي حفيد... إلا الحبيب القريب زين... الذي يفهمها من نظرة عينيها... انتظرتها من زكريا... من الدكتور ياسر... حتى إنها قد تتوقعها من طلال أو بدر، لكن زين... زين العاقل الراسي الذي ترى فيه المرحوم الشيخ رحيل العربي يقع فريسة لسحر بنات مصر..؟؟ نهضت من على فراشها بقامتها النحيفة لتقف أمام النافذة تتأمل الغروب في حزن. إنها الجدة حنة... سيدة نساء الواحات خاصة نجع العربي التي يشورها الكل ويأخذ برأيها تسلبها بنات مصر رجلين من عائلتها..؟ لقد رحل الغالي عن الدنيا وهو بعيد... هل يسلك زين درب عمه..؟ هل يبعد ويبعد حتى يحفر أخاديد تتحول لبحور من البعد والجفاء والريبة...؟ تنهدت في عمق وأغلقت عينيها وهي تعيد التفكير في الأمر مرارًا كحالها منذ أن اخبرها زين بنيته. سليم وعتمان والغالي الراحل... لم تر في أيٍ من ابنائها صفات الشيخ رحيل، وعندما بدأ زين يشب... صارت وكأنها ترى زوجها الراحل يعود للحياة... ورث زين عن جده الصلابة والعناد والرجولة والغيرة والطموح المتقد والعمل الدؤوب والذكاء الحاد، حتى قسمات وجهه تشي بجده في شبابه لكنه أيضًا ورث عنه الاندفاع والتسرع اللذين كانت تهذبهما في قرارات وحياة زوجها بحكمتها وتريثها في الأمر كله. ومن قلب الحزن المحفور على وجهها نبتت شبه ابتسامة وهي تذكره عندما كانت ابنة الأربعة عشر ربيعًا... ابنة الجارية كما تحب زوجات أبيها نعتها.. الناقة النافرة التي لم تُجد أعمال النساء من الطبخ والخبز فأرسلنها إلى الحقول تجمع نوار القطن... تذكر هاك اليوم جيدًا عندما سقط الحزام المنتفخ بنوار القطن من على وسطها بعد ان افزعها ركب جمال مهيب مر من أرضهم... يتقدمه رجل ضخم على فرسه لم تنس نظرته التي صوبها إليها قبل أن يرحل وينصب خيامه على مقربة من أرضهم، وتدور الحكايا بين زوجات أبيها عن شيخ العرب وجماله المترحلة بتجارة ضخمة بين الشرق والغرب... لم تنكر أنها كانت منبوذة... كمالة عدد.. ابنة الزوجة الرابعة التي ماتت عقب ولادتها فكانت تتلقى معاملة الخادمات من زوجات أبيها، لذا هي على الدوام نافرة من البيت إما تعمل بالحقل وإما تدور في أرجاء القرية تتسمع أخبارها، لكنها تلك الليلة لا تدري لماذا قادها فضولها إلى تلك الخيام المنصوبة جوار التلال بقريتها.. جذبها صوت الحادي الذي ارتفع بأغنية ذات أصل عربي قبل أن تُنسب للتراث النوبي ..
" خضارك زى جنينة وطرحت تينات
عودك فى مشيتة عاملّو منحنيات
عضامك لينة لايقين على التنيات
تانية واتنين تلاتة واربع خمس تنيات
يا ام عقدين دهب تلاتة وتلاتين طارة
ما عيناً رأت ما وردت على بكارة
يوم طلت علينا الكل وقعو سكارى
سقطت فى الحليب ما بينتلو عكارة"
تذكر تجولها بعينيها بين أولئك الجالسين حول النيران حتى اصطدمت بعينيه الحادتين.. قامته فارعة.. شاربه مفتول... سماره لامع... يعرف موقعها ويتأملها دون أن يرمش بينما الحادي يكمل ليسمر الرجال.
" يا ست البنات ماحلى الجمال الفيكي
مهما اعمل واسوّي ف الوصف ما يكفيكي
الروح والجسد تاخدي وما يكفيكي
بسْ خلي العيون علشان تعاين فيكي
رايد اكلمك كل ساعة ف وَسَعتنا
من بعد الضُهُر نركب ضهَر ناقتنا
قالت نعمل ايه لو العرب شافتنا
قولي وليد عمي وساقته جار ساقتنا.."
تذكر أنها تعثرت أكثر من مرة وهي تجري بسرعة وقلبها ينتفض.. لم تذق غمضًا.. حتى خرجت فجرًا لتعاود جمع القطن ليفاجئها شيخ العرب بمروره من جوارها بغطرته وعقاله... يمسكها من ذراعها ويحملها على فرسه هامسًا: - اللي مثلك يا ست البنات ما انخلقت لتعمل في الأرض... اللي مثلك انخلقت لتكون معززة مصانة... لتكون مرت شيخ العرب...
تذكر شهقتها المصدومة... تذكر أباها الكهل ينظر بسعادة لصرة المال التي ألقاها إليه شيخ العرب رحيل.. تذكر كيف تزوجها في القرية وكيف دللها وكيف رغم حدة طباعه حافظ عليها من أعين البشر أكثر حتى من أبيها. تذكر عندما انتفخ بطنها بولدها البكر كيف مال شيخ العرب لحياة الاستقرار ونبذ الترحال... تذكر كيف وصلوا إلى الواحات واستقروا عند عين ماء سخية بجوار أحد جبال الواحة المهيبة فاستشعروا بركة المكان وسخائه فدقوا أوتاد الخيم ثم تعلموا أصول الفلاحة من حنة التي تعلمت الكثير من عملها بالأرض مع أبيها... وطاب لهم الاستقرار بعد أن كبر النخيل ونمت الزروع ووضعت حنة ولدها سليم بالغرفة البدائية التي بناها لها زوجها... كبرت أراضيه وصار المكان يُنسب إليه بنجع العربي... شيد الشيخ رحيل العربي بيتًا شاسعًا عندما حملت امرأته للمرة الثانية ووضعت حنة ولدها عتمان... كانت فرحة الشيخ رحيل لا توصف بولديه وعندما هفت نفسه لبنية تحنو عليه جادت له الأقدار بسنية التي لم تكد تبلغ عامها الثاني حتى رحل عنها وعن ابنيه وعن ثالث كان ينمو بأحشاء حنة... حنة التي كان عليها إلقاء احزانها على حبيب روحها بأعمق بئر والوقوف بصلادة لتذود عن إرثه حتى يشب أولادها عن الطوق ويستلمون الراية منها. منذ ذلك الحين وهي الست حنة الصلبة القوية التي لا يجرؤ أي شخص يعمل عندها على تعدي أوامرها خاصة وأنها قد عرفت بحكمتها وعقلها، ووضعت حنة الصغير سليمان الذي ولد في غياب الأب ليكون ثمرة فؤادها، لكنه ابتعد عنها.. سافر ليدرس ويتزوج بعيدا حتى التهمه الردى.
ثم أتى زين ليرمم بعض روحها التي تصدعت بعد موت عمه بعيدا عنها... زين الذي تعلقت به أكثر من أي ابن أو حفيد... تولَّت تعليمه الحكمة وإرشاده إلى الصواب، كانت تسقيه خبرة السنين التي رسمت أخاديد على وجهها وصبغت شعرها باللون الأبيض... لكن... وياللمفارقة... هاهو ذا وكأنه لم يسمع منها حرفًا.. الجدة حنة التي يتمنى الجميع الحديث إليها ويحسدونه على قربه منها حيث أنها لم تكن كثيرة الكلام، يُلقي زين بكل نصائحها وإرشادتها عرض الحائط.
- "لا .. زين ما هو سليمان...!"
كذا حدثت نفسها ... نعم..! زين طباعه تختلف عن الغالي الراحل... سليمان كان أحن ابنائها.. لا تدري من أين تعلم تلك الرقة وهاك الحنان الفائض وهي التي ربتهم تربية قاسية، فلم تكن تبتسم ولا تبكي إلا في ما ندر... وجاء صغيرها مفرط في الضحك مفرط في البكاء... شديد الحساسية.. عاطفي... يكتب الشعر.... ذهب ليتعلم في مصر حتى سقط ضحية السحر الذي تمارسه النساء هناك..!!! تعترف أنها افتقدت حنوه عليها وحبه المتقد الذي كان يعبر عنه لها دائمًا بعكس اخويه سليم وعتمان حتى شقيقتهم ابنتها الوحيدة سنية كانت على غرار امها في الشدة والقسوة. أما زين... ليس بالشخصية الخيالية العاطفية الذي قد تسحبه بحار الهوى بعيدًا عن موطنه، إن زين كالسمك ومزرعته وبلده بالنسبة له هي المياه التي إن خرج منها يموت. لا.. لن تتركه يضيع منها بدوره... لن تخنقه بإرادتها.. فلتنتظر وترى، ستقف متفرجة عليه يخوض تجربة اختارها بإرادته الحرة لا يدري أحد كيف ستكون عواقبها. سمعت الجدة طرقًا على الباب ثم أتاها صوت ابنها سليم:
- ممكن أدخل يا أم..؟
- تعال يا سليم..
فتح الشيخ سليم الباب وقد كان رجلاً في نهاية الخمسينات من العمر ذو لحية مشذبة قصيرة يشوبها بعض الشيب يرتدي جلبابًا أبيضًا عليه معطف أسود وطاقية رأس سوداء ممسكًا بيده سبحة.
- إيش سوى زين اليوم...؟
سليم: - والله زين حالته حاله وزاد حزنه لما مالاقاكيش جيتي معانا ...
الجدة: - قصر الحديث يا ولدي ... إيش تبغى...؟
سليم: - زين يا أم رجع على غرفته ولا وكل ولا شرب وحالته لا تسر عدو ولاحبيب رغم تفوقه في مناقشة الرسالة اليوم إلا إنه جد حزين.. أنا باقول يا أم انسايسه لحين ما...
قاطعته الجدة حنة قائلة في صرامة: - شوف متى بده يتقدم لها البنية وعلى بركة الله..
لم يصدق سليم نفسه، التمعت عينيه فرحًا وقبَّل يد أمه ثم قال: - ربنا يبارك فيكي يا أم ... بروح أبشره .. ربنا يبارك فيكي يا أم ...
كان سليم يتألم لألم ابنه... لأن زين ما كان في يوم من الأيام متطلبًا كأخيه... كان بسيطًا مريحًا يعمل في صمت ونادرًا ما يطلب أمرًا ما، لذا ود الشيخ سليم تحقيق أول مطلب يصر عليه ابنه هكذا حتى وإن خالف رغبته، كان سليم يثق في زين وفي رجاحة عقله، لذا شعر بسعادة غامرة أن مشكلة زين قد تم حلها أخيرًا، فذهب سريعًا إلى غرفة ابنه يبشره بالخبر.
******
25 نوفمبر 2011، بالطائرة
الساعة 00:05
كان قد وضع على عينيه قناع حجب الضوء محاولاً النوم كي يفر من ذكرى تمزقه كلما طافت على ذاكرته، تذكره بكذبة كبرى وقع بها كالغُر الساذج؛ إلا أنه لم يستغرق بالنوم كدأبه كلما سافر... لذا شعر بها عندما نهضت بهدوء ووقفت قليلاً في حيرة ثم همست...
- "عن إذنك لو سمحت.."
رفع زين قناع النوم ونظر إلى يمينه حيث كانت نور قد نهضت من على مقعدها بالطائرة ووسدت عيسى الغافي على مقعديهما بعد أن رفعت يد الكرسي التي بينهما ودثرته بغطاء ما. رفع أحد حاجبيه ونظر إليها متسائلاً فقالت بهدوء مشيرة إلى الشاشة الكبرى في مقدمة الطائرة: - احنا حاليًا فوق اليونان والفجر بأقصى توقيت لليونان أذن من نص ساعة...
تطلع زين إلى ساعة يده فوجدها تشير إلى الثانية عشر وخمس دقائق ليلاً بتوقيت نيويورك مما يعني انها الآن السابعة وخمس دقائق صباحًا بتوقيت أثينا... إنها على حق... لم يتبق الكثير على شروق الشمس كما لم يتبق الكثير على نهاية رحلتهم.
أوركيدة..
أوركيدة..!!!!
تثائب زين ثم نهض مفسحًا لها الطريق حيث توجهت إلى دورة المياه الموجودة في آخر الممر بالطائرة، وبعد قليل خرجت وتحدثت إلى المضيفة قليلاً ثم اختفت خلف ستارة ما. عادت نور بعد عدة دقائق إلى مقعدها فنهض زين مفسحًا لها الطريق لتحمل صغيرها بحنو بالغ ثم تجلس واضعة رأسه على رجلها متمتمة ببعض الهمهمات غير المفهومة وهي تمسح على شعره الفاحم ثم تخرج من جيب المقعد الذي أمامها الكتاب الذي كانت تقرأ فيه مع بداية الرحلة مكملة قراءته.
رفع زين أحد حاجبيه في تعجب ناظرًا إلى نور التي بدت في عالم آخر مستغرقة تمامًا في الكتاب الذي بين يديها، حاول زين قراءة ما كتب على الغلاف... "أوراق الورد". تعجب من تلك الشخصية الممتلئة بالمتناقضات...! "أوركيدة" لم يدر سببًا لإصرار تلك الكلمة على ذهنه، لكنه تناساها ونهض يصلي بدوره فقد اقترب شروق الشمس ولم يؤد صلاة الفجر بعد. وقف في آخر الطائرة يحدد القبلة عن طريق البوصلة الموجودة بهاتفه الذكي ثم صلى ركعتي الفجر اتبعهما بركعتي الصبح. ولازالت الشاشات تشير إلى تحليقهم فوق اليونان ... ابتسم في سخرية .... لكم شهدت تلك البلد على حماقته...!!
*******
أبريل 2005،
فيلا الدكتور عمر هجرس، القاهرة
"يا أهلاً يا أهلاً بالشيخ سليم وأهلاً بالجدة أهلاً يا جماعة.. اتفضلوا.."
دلف كل من الشيخ سليم ومعه زوجته نجاة والجدة وزين إلى تلك الفيلا شديدة الأناقة حيث كان في استقبالهم الدكتور عمر هجرس مرحبًا هو وزوجته السيدة سوزان الإفرنجي. أتخذ كل منهم مجلسهم في غرفة الصالون الفخم حيث بدأت نظرات كل من الاسرتين تستكشف الأسرة الأخرى قبيل الكلمات. كانت والدة كارمن سيدة بشوشة... عند رؤيتها تدرك من أين اتت كارمن بعينيها الزرقاوين وشعرها الأشقر، إلا أن كارمن لم ترث ملامح أمها الضخمة إلى حدٍ ما. كانت السيدة سوزان ترتدي بنطالاً من الجينز عليه قميصًا ذو خطوط طولية وقد التف شعرها الأشقر المجعد حول وجهها دون قيد.
- كيف ما بتعرف يا داكتور عمر... هيذي أمي الجدة حنة أم سليم... وهيذي زوجتي أم زين..
قالها الشيخ سليم، فقال الدكتور عمر: - يا أهلاً وسهلاً نورتونا... دي بقى يا سيدي –مشيرًا إلى زوجته- المدام.. الدكتورة سوزان الإفرنجي... طبيبة...
قاطعته زوجته ضاحكة: - لااا يا عمر هلأ ماني طبيبة ولا إشي...
وأمام نظراتهم المستفهمة أكملت: - أنا تركت الطب من زمن بعيد... واتفرغت لهوايتي... أنا بالأصل رسامة وكتير عملت معارض في أمريكا وهون بمصر... أكيد بافرجيكن اشي من لوحاتي..
قال الدكتور عمر موضحًا: - سوزان فلسطينية أمريكية قابلتها في أمريكا وانا بادرس الدكتوراه هناك...
وهنا جاءت كارمن تتهادى في مشيتها وقد ارتدت تنورة سوداء وقميص وردي اللون ووضعت على شعرها حجابًا أسود أبرز بياض بشرتها بينما تناغمت شفتيها الورديتين مع لون قميصها قالت كارمن بهدوء: "مساء الخير.."
كانت تتبعها خادمة ما تدفع عربة تقديم الشاي امامها قدمت لهم الشاي مع بعض الحلوى، وبينما انهمك الجميع في تناول الشاي كانت الجدة تتأمل كارمن مليًا بعين انهكها الزمن ورأت كثيرًا حتى صارت تستشف الشخص الذي أمامها.. وقع في نفسها أن ثمة شيئًا غير صحيح في كل ما تفعله كارمن.. شيء زائف.. إلى أقصى حد..!!
كان الدكتور عمر منهمك مع الشيخ سليم في الحديث عن الواحات والأراضي بينما أخذت كل من أم كارمن وأم زين تتعارفا على بعض بشكل أعمق...
- زين هذا ابني الكابير بعده زكريا في كلية تجارة وبعدين فاطمة الزهراء أو زهرة كيف ما بناديها والصغيرة زهوة..
كذا قالت ام زين، فقالت سوزان: - واو... زهوة هيدا اسم تبعنا نحنا الفلسطينين.. هههه.. هيدي أكيد علامة... لك شوفي أنا ما جبت إلا بنتين الله يخلي لي ياهن يا رب ... كلارا الكبيرة بأمريكا عم تشتغل في مجال الإنشورانس.. التأمين يعني...
قاطعتها أم زين مستنكرة:- لحالها ..؟
ضحكت سوزان قائلة:- ههههه .. لا .. هيا مع أمي وبيي... عندنا هنيك بيت كبير فيه أمي وبيي ونحنا كل ما نروح عا أمريكا بننزل عندهن حتى كارمن كل شوي عم بتسافر لهم تضل شي كام يوم وترد..
أما زين فقد خفق قلبه بشدة عندما جلست كارمن على المقعد المجاور له... رفع عينيه عمدًا لأول مرة نحوها ليجدها هي تنظر إلى الأرض.. يالله.. لكم تغيرت.. لقد اختفت نظراتها الجريئة التي كانت تضايقه... لقد تبدلت بحق... إنه يريد ان يختطفها من ذلك المجتمع الآسن الذي تحيا فيه ليزرعها في عالمه ويرويها بدقات قلبه التي ستقُبلها صباحًا ومسائًا... لتنمو زهرةً جميلةً في حديقة عمره له وحده فقط دون رجال الأرض... يريد أن ينعزل بها عن ذلك العالم الصاخب حولهما... يبعدها عن جواذب الشر التي أحاطت بها يومًا... يُنسيها تاريخها ويخط بحبه الطاهر لها تاريخًا جديدًا نقيًا لمستقبلٍ أحلى... نعم.. إنها هي.... هي التي سيهبها كل مشاعره التي حفظها يومًا لأجل امرأة واحدة فقط... تلك التي ستكون زوجته.
- نفسي أعرف إجابة على سؤال واحد بس...
سألها هامسًا... فرفعت عينيها الزرقاوين اللتين قد ارتسم على صفحتيهما كل إمارات البراءة متسائلة، فأردف:
- ليه...؟
- ...........!
- ليه التغير الجامد المفاجيء ده...؟ إيه الشرارة اللي خلتك تتغيري كدة...؟ انت تقريبًا اتغيرتي 180 درجة..!
تمتمت : - وده تغير للأحسن...؟
قال بسرعة: - آه طبعًا... طبعًا للأحسن... صحيح لسة ناقص شوية حاجات بس مش مهم تيجي مع الوقت.. المهم أن انت اتغيرتي عن قناعة تامة مش عشان حاجة او شخص...
شردت بعينيها بعيدًا قائلة: - مش عارفة... حسيت إني عايزة أعمل كدة فمشيت ورا إحساسي...
هم أن يقول شيء ما، إلا أن والدتها هتفت في مرح وهي تنهض: - ياللا اتفضلوا تافرجيكن لوحاتي..
نهض الدكتور عمر قائلاً: - ياللا بينا اتفضل يا شيخ سليم...
نهض سليم فنهضت زوجته ونهض زين بدوره إلا أن الجدة استندت على عصاها قائلة:
- أنا ماليش في الحديت هاد.. روحوا انتوا واني ناظرتكوا اهنه...
خرج الجميع من الغرفة فرفعت كارمن رأسها بحدة نحو الجدة، كانت تدري جيدًا أنها تراقبها طوال فترة جلوسها لكنها لم تشأ أن تنظر إليها كي لا يلاحظ زين شيئًا.. تحولت نظرات كارمن الحانية إلى نظرات حادة وكأنها ترسل برسائل صامتة إلى الجدة... تخبرها أنها ستحظى به رغمًا عن كل شيء وقد نجحت تقريبًا في ذلك. عندها أدركت الجدة كنه السحر الذي تم ممارسته على حفيدها الحبيب القريب... لقد تمكنت تلك المصراوية من إتقان اللعبة ولف الحبل جيدًا حول عنق زين لتجذبه نحوها. وضعت الجدة جبهتها على يديها المستندتين على عصاها في يأس.. فما من مفر من تلك الزيجة... نعم... ما من سحر يبطل سحر تلك الفتاة سوى الدعاء.
***
أبريل 2005،
منزل زين بمدينة السادس من أكتوبر، القاهرة
- "شوف يا ولدي... أنا عندي كلمتين بدي أقولهم لك عشان أخلص ذمتي.."
كذا قالت له أمه في غرفته بذلك المنزل الذي ابتاعه له أباه في مدينة السادس من أكتوبر حيث قضوا جميعًا ليلتهم به بعد أن أنتهوا من زيارة الدكتور عمر التي تمت كما يشاء زين... لقد أبدى الجميع موافقتهم ورغم أن الدكتور عمر أخبرهم أنه سيشاور ابنته ثم يرد عليهم إلا أنها بدت موافقة والدكتور عمر يعرف زين جيدًا ويبدو سعيدًا بتلك الزيجة. كاد زين يطير من الفرحة طوال طريق عودته حتى وصل إلى المنزل وجلس على فراشه يحلم بذاك اليوم حتى دخلت عليه أمه. أعتدل زين في جلسته قائلاً: - اتفضلي يا أمي...
- زين يا وليدي... هادي البنت هيا وعيلتها عالم تاني غير عالمنا... لا هما متربيين في طيننا ولا مسقيين من ميتنا.. تقاليد مختلفة وعادات غيرنا.... حياتك أنت وهيا تمام كيف خطوط السكة الحديد... هيذا في طريق وهيذا في طريق تاني... مستحيل يتلاقوا....
ابتسم زين وأمسك بيد أمه قائلاً: - وأهم أتلاقوا يا ست الكل والمستحيل حصل... ماشوفتيهاش ازاي هيا مختلفة عن أهلها وموافقاني في كل حاجة...؟
ابتسمت امه بطيبة قائلة: - أنا مقدرة يا زين كيف انت متعلق بيها بس كل اللي ابغاه انك تفكر زين قبل ما تكمل هيدا الطريق لأن الرجوع صعب يا وليدي... الطريق هادا وعر والرجوع بعد الخطى فيه هايجرح ويسبب الألم لكل واحد فيكوا... أنت عادتك انك تدرس وتفكر في كل خطوة قبل ما تخطيها... فكر يا ولدي... فكر زين... يا زين...
ضحك زين قائلاً: - حاضر يا أمي... هافكر مرة واتنين وتلاتة... بس أنا عارف النتيجة مقدمًا... وماتقلقيش انت يا ست الكل وادعي لي بس...
نظرت إليه بقلق وحسرة وهي تقول: - داعيالك يا ولد بطني ليل نهار داعيالك... ربنا يوفقك ويسدد خطاك ويبعد عنك ولاد الحرام...
قبل زين يدها قائلاً بسعادة: - أيوة كدة يا ست الكل ... ركزي انت بس في الدعاء وكل شيء هايبقى تمام التمام إن شاء الله..
***

Just Faith 18-12-17 12:45 PM

- 8 –

" قد يكون أدق خيط من خيوط آمالنا، هو أغلظ حبل من حبال أوهامنا ...! "

مصطفى صادق الرافعي، أوراق الورد

***

24 نوفمبر 2011، في الطائرة

الساعة 00:30

رفعت رأسها عن تلك الكلمات التي كلما قرأتها طارت بها دون الحاجة إلى طائرة، تنظر من النافذة لتطالعها أولى خيوط الشمس الغضة التي تجاهد لاختراق السحب المنشرة حول الطائرة كحقول بيضاء خرافية، نظرت نور إلى وجهها المنعكس بزجاج النافذة على هاك المشهد الساحر لتشعر وكأن روحها قد حررتها تلك الكلمات الفياضة بالمشاعر والأحاسيس وتخطت حدود الطائرة لترفرف بالخارج حتى أنهت آخر كلمة من كلمات الرافعي الذي كلما قرأت له كتابه هذا انتشلها من تكابل الأحزان وشيء من اليأس يتسلل إلى قلبها، أغلقت الكتاب وهبطت رحلتها الجوية الخاصة في فلك الرافعي إلى عالم الواقع. صغيرها لا يزال يغط في سبات عميق على رجليها ومقعده... أما مقعد زين فيبدو شاغرًا، لم تدر متى نهض لكنها تمكنت من التطلع إلى الطائرة الضخمة وبعض ركابها. الكثير من البشر بمختلف الجنسيات والتوجهات والأعمار قد اجتمعوا في مكانٍ واحد إلى وجهة واحدة، وأخذ كل منهم يزجي وقته بطريقته الخاصة.. منهم من يقرأ كتابًا ومنهم من يطالع جريدة ومنهم من انهمك باللعب على جواله ومنهم من راح في سبات عميق ومنهم... ومنهم من هما في عالم آخر على ما يبدو. كان يبدو أنهما زوجين شابين حديثي الزواج... كان يحيط كتفيها بذراع ويمسك بيده الأخرى كفها بينما أسندت رأسها على كتفه تتحدث حديثًا لا يسمعه إلاه. الخاتم الذهبي يتلألأ بخنصرها حيث يضغط عليه بيده ليبدو خاتمه الفضي بدوره. ارتسمت على شفتي نور ابتسامة باهتة... ابتسامة مريرة.. بينما تنهمر الذكرى كالمطر على قلبها المعبأ بالهموم.. ذكرى أول خاتم طوق خنصرها.

***

1 أبريل 2005،

منزل نور وتقى، القاهرة

الدوار.. الإغماء.. التوهان... الآلام المبرحة... كلها صارت روتينًا يوميًا لعلا التي بدأ المرض الخبيث ينتشر بجسدها ويستولي على كل منطقة به رافعًا راية الألم. تركت العمل ولم تغادر فراشها منذ أن عالجها الدكتور محمود جارهن حيث إنها لم تخرج من دوامة الآلام والإغماءات. كان قلقها على بنتيها كبير وهي تعلم يقينًا أن أيامها في الحياة صارت معدودة.. تعلم جيدًا أن الله أحن منها عليهما، فكانت تستودعهما الله وتدعو لهما أن يرزقهما من عبيده من يكون سندًا لهما في حياتهما. حتى جاء اليوم الذي ظنت به علا أن دعواتها قد استجابت عندما دخل عليها الغرفة محمود ومعه امه قدرية للاطمئنان عليها.

- لاااا شكلك أحسن النهاردة يا علا وشك منور باسم الله ما شاء الله ...

قدرية بخمارها الرمادي وعبائتها الكحلي ووجهها الأبيض الممتلئ المبتسم الذي لم يكف عن الإطلال عليها بين الحين والآخر، ابتسمت علا لتلك الجارة والصديقة التي كانت تثبت استمرارية تطبيق القاعدة التي تقتضي الحب بين الجيران والاصدقاء دون منفعة او مصلحة تذكر بعد أن كثر شواذ تلك القاعدة حتى ليظن المرء أن البعد والجفاء وعلاقات المصالح صارت هي القاعدة وأن المشاعر الطيبة لامرأة مثل قدرية هي شواذها.

- الحمد لله على كل حال وفي كل الأوقات على السراء والضراء...

انتهى محمود من فحص علا ثم قال: - ربنا يرفع عنك يا خالتي ويجعل ايامك كلها سرور..

قالها ثم جلس على مقعد مجاور للفراش بجوار أمه ناظرًا إلى الأرض، فقالت قدرية بسعادة: - لا إن شاء الله تبقى الأيام الجاية كلها فرح وسرور وشربات وزغاريد...

نظرت إليها علا بعينين منهكتين مستفهمة ثم قالت: - مش فاهمة يا قدرية قصدك إيه...؟!

ضحكت قدرية ثم وكزت ابنها وهي تقول: - ما تتكلم يا دكتور... قول لخالتك الشعر اللي سمعتهولي امبارح...

نهض محمود قائلاً: - أ ... أنا هامشي دلوقتي وهاستناكي تحت يا أمي...

ضحكت قدرية بينما قالت علا: - فيه إيه يا قدرية ماتفهميني...

- على بلاطة كدة يا علا محمود ابني عايز يخطب نور بنتك... قلتي إيييه..؟

صمتت علا وقد غمرتها الفرحة... نعم... إنها لا تتمنى لنور أكثر من ذلك... إنها تعرف محمود منذ أن كان طفلاً صغيرًا... تعرف عنه الكثير هو واسرته الطيبة... كانت تخشى أن تتزوج إحدى بناتها من شخص غريب تمامًا وتخوض تجربة مريرة لا تريد علا لأي من بنتيها أن تقع فيها بدورها، لكم جاهدت كي تحفظ قلبيهما الصغيرين كي لا يخفقا إلا للشخص الصحيح في الإطار الصحيح... وهاهو محمود... لن تطلب منه سوى أن يحافظ على ابنتها وتوقن جيدًا أنه لن يخذلها.. ستعقد آمالها عليه، فهو كما تعتقد.. رجلٌ يُعتمد عليه وهي أهم خصلة فيمن تريده زوجًا لابنتها. أبدت علا لجارتها عدم ممانعتها لطلبها، إلا أنها يجب أن تسأل ابنتها قبل أن تعطيهم ردًا نهائيًا.

وعرفت علا رد نور عندما عادت من الكلية وعرضت الأمر عليها فتورد خديها بحمرة الخجل ونظرت إلى الأرض وكادت علا أن تسمع ضجيج دقات قلبها.

- يعني موافقة..؟

لم ترفع نور عينيها من على الأرض وهي تتمتم: - اللي حضرتك تشوفيه يا ماما ...

هتفت تقى متنغمة بمرح: - اللي حضرتك تشوفيه يا ماما.. إيه ده يا ختي ده... ماهي واضحة اهه زي الشمس... مـ و ا فـ قـ ـة...

ضحكت علا قائلة: - بطلي بقى يا غلباوية عقبالك كدة ونشوف هاتقولي إيه أما حد يتقدم لك...

قالتها ثم شردت مردفة في ألم: - ده لو ربنا أحياني لحد ما اشوف اليوم ده..

هرعت كل من نور وتقى إلى أمهما يحتضناها وقالت تقى بسرعة: - ربنا يبارك في عمرك ويديكي الصحة وطولة العمر لحد ما تشوفي ولادنا وولاد ولادنا كمان...

دمعت عينا نور وهي تقول: - ربنا يخليكي لينا يا ماما..

مسحت علا الأدمع الهاربة رغمًا عنها من عينيها وهي تقول: - إيه ده.. أحنا هانحول الفرح لدموع واللا إيه..؟ ياللا يا نور صلي استخارة وبلغيني بردك النهائي عشان أبقى أرد على أم محمود أصلها موصياني أبلغها بالرد أوام أحسن الدكتور قاعد تحت على نار...

ازداد احمرار وجه نور وأشاحت بعينيها متمتمة: - حاضر يا ماما

بينما قالت تقى: - أيوة يا عم ماشية معاااك...

استأذنت نور أمها ثم خرجت من الغرفة وقلبها يخفق بجنون كطبول إفريقية.. لم تدر أهي سعيدة أم خائفة.. لكنها كانت متأكدة من شيء واحد فقط... إنها مطمئنة... مطمئنة بقلبها وعقلها معًا... محمود الذي حملها طفلة وأحاطها برعايته سيستمر في ذلك... محمود يعرف حالة أمها ولن يمانع من بقائها بجوارها أبدًا... كما إنه طبيب وسيساعدها على إتمام دراستها التي تعشقها. ذهبت نور للتوضأ كي تستخير الله في ذلك الأمر وتسأله أن يقدر لها الخير حيث كان... ويرضها به.

***

25 إبريل 2005،

منزل نور وتقى، القاهرة

وهاهي ذي نور بحجابها المحتشم الأنيق تجلس في ردهة منزلها البسيطة التي تم تزيينها ببساطة يلتف حولها أمها واختها وصديقة عمرها نهى وصديقات الكلية الجدد وجارتها إحسان وبعض الممرضات زميلات علا فوزية ونعمت واسماء وابتسام وأم هشام عاملة النظافة... بينما تجلس بجوار نور الست قدرية يليها ابنها محمود ثم أبيه الأستاذ حمدي واخته رحاب وعمته القادمة من بلدتهم بالمنصورة.

"جمع ووفق... بنت الأصول لابن الأصول

جمع ووفق.... طيب وينول طيبة وتنول

عيلة ونسب وجمال وحسب... جمع ووفق

وكفاية الاتنين عندهم الدين... ويا رب يوفق

يا رب يوفق ..."

انسابت الأناشيد العذبة من جهاز تسجيل قريب بينما تحيط أم محمود أصبع نور بخاتم الزواج الذهبي ثم تستدير لتضع في اصبع ابنها خاتمه الفضي وتطلق أم هشام الزغاريد وتقدم الشربات.

"من بين بنااات وبناات وبنااات

حبها هيا الوحيدة

وإن شالله يجيبوا صبيان وبنات

صبيان وبنات

ويعيشوا في دنيا سعيدة

جمع ووفق .."

كان الجميع يصفق مع الأناشيد ويبتسم لكن ما كانت تحمله تلك الابتسامات من مشاعر هو الأهم.. فبعضهم كان يبتسم فرحًا حقًا والبعض يبتسم حسرة وآخرون يبتسمون غلاً وحسدًا.. لم تتمكن أي من نور أو علا اكتشاف كنه تلك الوجوه الباسمة التي تحيط بهم والتي قد تصير ابتسامتها لاحقًا.. خنجرًا مسمومًا.

انتهى حفل الخطبة وبعد تناول العصير والشاي والكيك والمخبوزات التي أعدتها كل من نور وتقى رحل الجميع ثم نهضت اسرة محمود تستعد للرحيل فأخذت علا تودعهم، إلا أن محمود لم ينهض ونظر إلى نور عبر مكان أمه الفارغ بالأريكة قائلاً: - مبروك يا عروسة...

ابتسمت نور في خجل وهمست مطرقة برأسها: - الله يبارك فيك..

عبس مازحًا وهو يقول بغضب مصطنع: - كان نفسي تلبسيني الدبلة...

لم تحر نور جوابًا إلا أن خديها زادا اشتعلاً، فأردف: - خلاص يا ستي.. ملحوقة.. بعد كتب الكتاب إن شاء الله مش هاقبل إلا أنك تلبسيني دبلتي وانا البسك دبلتك...

أومأت نور في خجل شديد ألجم لسانها وجعلها غير قادرة على تبادل الحديث معه، حين نادته أمه قائلة:

- ياللا يا عريس .. والا انت ناوي تقعد هنا للصبح..؟

نهض وعينيه لازلتا معلقتين بنور قائلاً: - مع السلامة يا أحلى حاجة في حياتي.. أبقي بصي كويس على سريرك قبل ما تنامي... تصبحي على خير..

قالها ثم رحل فنهضت نور مسرعة إلى فراشها لتجد باقة ورد جميلة عليها بطاقة مكتوب عليها "إلى أجمل وردة رأتها عيناي.. تصبحي على ورد وريحان"

عقدت حاجبيها في تعجب ثم نظرت متسائلة إلى تقى التي دخلت الغرفة لتوها وهي تقول: - الواحد هلك عشان خطوبة الست نور ولاااا كأني في تالتة ثانوي ولا اي حاجة و...

قطعت حديثها عندما رأت نظرات الاستغراب على وجه نور فضحكت قائلة: - عارفة هاتسأليني إزاي وصل الورد لهنا... سي روميو بتاعك أول ما وصل قالي أحطه على سريرك من غير ما تاخدي بالك.. ممكن تسيبيني ارتاح شوية بقى..؟؟

كاد قلب نور يطير من الفرحة.. لأول مرة تتذوق طعم السعادة هكذا.. لقد جُنت دقات قلبها الرزينة وصارت تدوي بعنف من فرط السعادة. استلقت على فراشها محتضنة باقة الزهور تحلم بحياتها القادمة الممتلئة بالسعادة مع زوج يحبها ويبادلها ودًا ورحمة.

***

25 يونيو 2005،

مجمع محال أثواب الزفاف، القاهرة

الآن صارت الحياة ترتدي أروع حُللها...

الآن اختلف مذاق كل شيء... وصارت مخاوفها أشباحًا حمقاء لا تخيف دمية...

الآن لم يعد يفصلها عن أن تكون في كنف فارسها سوى أيام قليلة...

ذلك الفارس الذي أرسله القدر فجأة لتتمثل به آمالها وينتشلها من دوامة القلق والخوف الأبدية...

نعم كان محمود "على قد حاله" كما يقول وأنها ستعيش مع أبويه واخته في نفس البيت... لكن من قال أنها حلمت يومًا بكنوز كسرى أو قصور قيصر..؟؟ فكل ما تمنته من الحياة أن يرزقها الله برجل يتقيه ويحافظ على حدوده ويمكِّنها من رعاية أمها وأختها وإكمال دراستها... وهاهو محمود يأتي ويسكنها حيث أمها واختها لن يفصلها عنهم سوى بضع درجات. كانت نور تحلق في عالم من السعادة وردي اللون مخملي الملمس. منذ خطبتهما ولم يكف محمود عن محاولاته للتعبير عن مشاعره لها... كل الأفعال الصبيانية منها والمتعقلة أتاها... ورغم صدودها عنه إلا أنه كان دائمًا ما ينتزع ابتسامة شفتيها وقلبها.

- "ياللا يا نور قرري أنا تعبت من اللف والله ..."

قالتها نهى بملل.. صديقة العمر التي تقف معها دائمًا ولا تتركها لحظة... كانت ترافقها وهي تبحث في محلات إيجار أـثواب العرس لتستأجر ثوبًا لعقد زواجها الذي أصر محمود أن يتم بعد أن تنهي نور اختبارات هذا العام التي ستنتهي بعد أيام معدودة، أما تقى فقد كانت مع أمهما ترعاها بجانب استذكارها فهي في مرحلة الاختبارات بدورها.

- مش عارفة يا نهى مش لاقية حاجة شداني... الفساتين كلها مكشوفة أوي ومبالغة في الزينة...

قالت نهى: - مكشوفة أوي..؟؟ أحب افكرك يا دكتورة أن العقد هايبقى في مسجد يعني النساء في مكان والرجال في مكان تاني...

- عارفة المعلومة دي والله يا دكتورة... برضه حتى قدام النساء مايصحش العري الزائد ده... بالإضافة إلى أنه أصلاً الأذواق كلها مش عاجباني أنا بحب البساطة وكل المحلات اللي شوفناها مبالغة أوي في أشكال الفساتين وأسعارها ...

قالت نهى: - أممممم... طيب... تعالي نكلم شروق بنت عمي.. كانت مأجرة فستان بسيط وروعة في فرحها وكان سعره كويس... صحيح احنا مقاطعينهم بس عشان خاطر عيونك يا قمر أكلمهالك...

تمتمت نور: - الله يهديكي يا نهى.... ليه بس كدة..؟

قلبت نهى شفتها وهي تقول: - ماعدناش عارفين سر القطيعة بينا وبين أغلب قرايبنا... هما بابا وماما مقاطعينهم وخلاص... ما علينا... تعالي نتكلم في التليفون من الكُشك ده...

أخذت نهى العنوان من ابنة عمها ورافقت نور إليه وبالفعل كان محلاً جديدًا في منطقة بعيدة إلى حد ما وكان يحتوي على أثواب تناسب أغلب الأذواق وبأسعار مناسبة... استقرت نور على فستان و...

"تدفعي إيجاره وتسيبي بطاقتك حضرتك ... " كذا قالت البائعة لنور

ضحكت نهى قائلة: - حضرتك مافهمتينيش واللا إيه..؟ باقولك دي العروسة يعني محتاجة بطاقتها... اتفضلي بطاقتي أنا يا ستي..

احتضنت نور ثوبها الرائع الذي كان كريمي اللون في سعادة بالغة بعد أن نقدت البائعة ثمن استئجاره ورحلت مع نهى قائلة: - يااللا بسرعة عشان الحق اراجع شوية... عندي امتحان شفوي بكرة ...

وصلت إلى البيت.. دلفت مع نهى إلى مدخل بنايتها.. ثم صعدت الدرج... لم تدر نور وهي تمر محتضنة ثوبها الكريمي اللون من أمام منزل جارتها إحسان بالدور الأرضي أي حديثٍ يدور هنالك... بل أي شوكٍ يُزرع باقتدار بأيدٍ خبيثة حاقدة.

***

"مع السلامة يا نعمت ... آنستي ونورتي يا حبيبتي .."

قالتها إحسان مودعة ضيفتها التي خرجت لتوها من باب منزلها وكادت ترحل، إلا أنها توقفت ثم استدارت إلى إحسان قائلة : - والله ياختي ماكنت ناوية أفتح بقى بكلمة لولا أنها أمانة وشهادة حق لوجه الله... وحياة بنتي أنا قلبي بيتقطع وأنا بحكي لك كل كلمة...

عقدت إحسان حاجبيها في تأثر مصطنع وقالت تجاريها في تلك التمثيلية: - عارفة ياختي والنبي عارفة.... يوووه هوا أنت عشرة امبارح يا أم عصام... دي عشرة عمر... يعني هوا أنا اللي هاين عليا أسمع الكلام ده..؟ بس نقول إيه بقى أهي شهادة حق هانتحاسب عليها.. أدينا بنعمل الخير ونرميه البحر..

بدا شبح ابتسامة على وجه نعمت وهي تقول: - يعني... هاتبلغيهم...؟

رفعت إحسان أحد حاجبيها الرفيعين قائلة: - أكيد...

أومأت نعمت في رضا ثم قالت: - طيب.. أما امشي أنا بقى الحق أعمل الغدا قبل ما أبو عصام يرجع..

ودعتها إحسان ثم أخرجت مفتاح باب منزلها وأغلقت الباب خلفها و... صعدت الدرج حيث يقبع منزل محمود وأسرته. طرقت إحسان الباب لينفتح وتطالعها رحاب شقيقة محمود التي تصغره بأربعة أعوام، هتفت رحاب: - طنط إحساااان... أهلاً يا طنط... اتفضلي... اتفضلي...

قبلتها إحسان في حرارة وهي تقول كلماتها المعتادة على غرار "والله كبرتي واحلويتي... ايه الحلاوة ديه.. عقبى لما نفرح بيكي... "

- اتفضلي في الصالون على ما أنادي ماما...

دلفت إحسان إلى غرفة الضيوف التي تحوي صالونًا مغطى بكسوة صفراء وجلست متمتمة: "والله البيت شرح وبرح ومفروش أحلى من أيوها بيت في العمارة... خسارة فيها..."

- "أهلاً وسهلاً يا أم إيمان نورتينا والله.. عاش من شافك..."

أقبلت قدرية بملابس الصلاة ووجها المستدير الباسم مرحبة بجارتها في حرارة.. فقالت إحسان:

- يا سلام... ماهو لو أنا ماسألتش مابتسألوش...

ضحكت قدرية قائلة: - أعذريني والله يا أم إيمان أنت عارفة بقى كتب كتاب محمود كمان كام يوم وكنا محتاسين ببنبيض أوضته عشان أوضة النوم الجديدة هاتوصل من دمياط بعد اسبوع وبنستعد لكتب الكتاب عقبى لبناتك يا رب...

تغيرت ملامح إحسان وهي تتمتم: - ماهو أنا جايالك عشان الموضوع ده...

عقدت قدرية حاجبيها في غير فهم قائلة: - موضوع إيه..؟ كتب الكتاب ... انت طبعًا أول المعازيم.. ده أنت صاحبة الفرح يا إحسان..

زفرت إحسان قائلة: - والله ما أنا عارفة أبدأ منين واللا منين الموضوع زي صخرة تقيلة على صدري بس لازم تعرفي...

دخلت رحاب تحمل صفحة عليها أكواب عصير قائلة: - اتفضلوا..

إلا أن أحدًا لم يلتفت إليها، حيث قالت أمها في قلق: - هاتقلقيني ليه يا إحسان..؟ مالك ياختي ..؟ انت كويسة والبنات كويسين..؟

قالت إحسان بسرعة: - أحنا الحمد لله... أنا جاية اكلمك على بنت تانية مش حد من بناتي كفالله الشر...

جلست رحاب وقد شعرت بفضول لتعرف أي موضوع تحمله إحسان، فهي كلما أتت كانت تتحدث عن أهل الحارة كلهم وتعرف عنهم أسرارًا لا يعرفها أحد وكانت رحاب تستمتع بحكاياها.

- بنت مين ديه اللي جاية تتكلمي عنها يا إحسان..؟ ماتوضحي كلامك وبلاش ألغاز...

وضعت إحسان يدها على رجل قدرية قائلة: -أيوااااا... عليكي نور... بنت مين... أنت تعرفي هيا بنت مين واللا أصلها وفصلها إيه...؟

زفرت قدرية قائلة: - اللهم طولك يا روح... أنت بتتكلمي عن مين يا إحسان والله مانا فاهمة حاجة...

أرجعت إحسان ظهرها واستندت إلى ظهر الأريكة وعقدت ذراعيها على صدرها ثم مصمصت شفتيها قائلة: - الدكتورة... عروسة ابنك يا قدرية...

اقتربت رحاب تستمع في اهتمام بينما توتر وجه قدرية وهي تقول: - بتقولي إيه...؟ قصدك إيه..؟ مالها نور..؟

عادت إحسان تنحني نحو قدرية الجالسة على الكرسي المجاور لها وتهمس بلهجة توحي بالخطورة: - أنتوا تعرفوا مين أبوها...؟ مين عيلتها...؟

قالت قدرية وقد زاد توترها: - ما الكل عارف أن ابوها ميت وكان فيه مشاكل بينه وبين أهله فـ...

قاطعتها إحسان: - لا.. لا... سيبك من الحكاية الفارغة دي اللي ماتقنعش عيل صغير وفكري معايا بالعقل... الست علا كانت عايشة مع الحاجة أمها فوق وفجأة.. اختفت... سمعنا كام زغرودة كدة وقالوا اتجوزت... ورجعت جارة عيل تعيش مع امها تاني وبدأت تشتغل في المستشفى وبعدها برضه فجأة... أختفت وسابت الشغل شوية صغيرين ورجعت البيت والشغل وكان معاها بنتين والعيل الأولاني مالوش أثر... كانوا بناتها وقتها واحدة حتة لحمة حمرا والتانية سنتين واللا زيادة حاجة بسيطة وأسمع أن كان فيه راجل أستغفر الله العظيم بيشوفوه أحيانًا طالع ونازل من عندها و...

- ما يمكن يكون جوزها ...!

كانت هذه هي رحاب التي قالت تلك الجملة، فاستدارت إليها المرأتان وكأنهما يلاحظا وجودها لأول مرة، همت قدرية على تعنيف بنتها وإخراجها من الغرفة، إلا أن إحسان ربتت على فخذ رحاب وهي تقول:

- لا يا حبيبتي ... جوزها كان أبيض وقمر إيمة وسيمة وطول بعرض ناس من الحتة أول مرة بعد الزغرودتين شافوهم مع بعض وعرفتهمم عليه أنه جوزها إنما دوكها... بيقولوا أسمر ومش طويل...

قالتها ثم ألتفتت إلى قدرية مكملة: - وماتت الحاجة أم علا وقعدت علا لوحدها مع البنات وكان اللي يسألها على جوزها تقول أنه مات وما رضيتش تتجوز أبدًا...

بُهتت قدرية ولم تستطع أن تنبس ببنت شفة، بينما أكملت إحسان وقد اسعدها أثر حديثها على وجه جارتها:

- الكل في المستشفى بيجمع أنها كل الدكاترة والعمال بيعملولها حساب وهيا أصلاً على قدها في الشغل... احتاروا في تفسيره... لحد ما أكتشفت زميلتها نعمت والبت ابتسام أنها بتراضي كل دكتور وموظف شويتين عشان تمشي حالها... وإلا تفسري منين انها تدخل بنتها كلية طب اللي محتاجة مصاريف ياما ومرتبها أصلا ما بيكفيهمش لحد آخر الشهر أكل وشرب..؟؟

تمتمت قدرية بصوت مبحوح: - تمشي حالها...؟ تراضي كل دكتور...؟

وخزتها إحسان بيدها قائلة: - يوووه يا ختي تمشي حالها... أفهميها بقى البت قاعدة...

ضحكت رحاب قائلة: - يعني تصاحبهم يعني يا ماما وتمشي معاهم وممكن تبات معاهم...

أخرجت قدرية كل ما يفتعل في صدرها وصبت جام أنفعالاتها على ابنتها وهي تصرخ بها: -أمشي أطلعي برة يا قليلة الحيا ... أمشي من هنا وأقفلي الباب وراكي وإلا هاوريكي...

نهضت رحاب في ميوعة وهي تقول: - حاضر حاضر ماتزقيش...

وضعت قدرية يديها على رأسها وهي تقول لإحسان: - شوية شوية عليا يا إحسان أحسن دماغي لفت والله..

تناولت إحسان كوبًا من العصير وأخذت ترشف منه عدة رشفات ثم قالت: - إيه اللي يأكد لك أن بناتها دول بنات حلال مصفي...؟ إيه اللي يأكد لنا أنها اتجوزت أصلاً..؟؟ ليه دايمًا مقفلة على نفسها وبناتها كدة..؟ خايفة الناس تعرف إيه عنهم..؟ ليه ترفض عرسان تتمناهم أي بنت مش أرملة..؟!! أي واحدة طبيعية مكانها كانت أتجوزت راجل يحاجي عليها وعلى بناتها... لكن دي... أبدًا... طبعًا... ماهي عايزة تبقى حرة... المشي البطال بيكسب أكتر...

كادت عيني قدرية تدمع وهي تقول: - يا إحسان... الست مريضة مرض قاتل...

مصمصت إحسان شفتيها قائلة: - أهي دي أخرة المشي البطال... ربنا يمهل ولا يهمل...

تسائلت قدرية وهي تكاد تجن: - طب والحجاب والصلاة ..؟

هتفت إحسان: - كل ده تمثيل في تمثيل... تمويه كدة بس عشان تاخد راحتها في اللي بتعمله في السر... ياختي باقولك كانوا بيشوفوا راجل غريب طالع نازل عندها... أستغفر الله العظيم... الواحد جسمه بيقشعر أما يفكر ايه اللي عملته ده في بيت الحاجة امها الله يرحمها..!

لم تستطع قدرية أن تتحدث... هربت منها الكلمات أمام تلك الصدمات، أكملت إحسان عصيرها قائلة:

- أنا قولت أبلغك بس من باب الأمانة ده جواز يا أختي آه أمال إيه... الست نعمت الله يبارك فيها وفي بنتها القمر منى وعيتني وفطمتني على سيرة اللي اسمها علا دي في المستشفى...

قالتها ثم نهضت مكملة: - أسيبك أنا بقى يا أم محمود... فتك بعافية...

صافحتها قدرية بحركة آلية ومازالت واجمة لا تتكلم... حتى إنها لم ترافقها إلى الباب فتوجهت إليه إحسان وفتحته لتجد محمود أمامها ينظر إليها بعينيه البرسيميتين وابتسامته المشرقة فقال حيث رآها: - أهلاً أزيك يا خالتي أنت ماشية واللا إيه..

قالت في توتر: - أ.. أه يا محمود يا بني عن إذنك...

قال لها: - أكيد جيتي تشوفي لون دهان أوضة نومي الجديد مافيش حاجة تخفى عليكي طبعًا... حلو جدًا مش كدة..؟ ده ذوق نور اللي هاتبقى في خلال يومين مراتي حبيبتي... طبعًا أنت جاية كتب الكتاب يا خالتي مش محتاجة عزومة... شوفي أنا جبت البدلة خلاص..

كان يرفع يده إلى كتفه يحمل بها جرابًا أنيقًا يتدلى خلف ظهره به حُلة العرس على ما يبدو، أنسلت إحسان من الباب وتمتمت وهي تخرج: - إن شاء الله ... ربنا معاك.. آ.. آ... مبروك..

ثم هرولت تنزل درجات السلم نحو منزلها، دخل محمود متعجبًا وهو يقول: - مالها دي..؟

وقع نظره على أمه الجالسة في الصالون القريب فذهب إليها وهو يضحك قائلاً: - مالها الست إحسان يا أمي..؟ مش على بعضها كدة وبتتكلم كلام مش مفهوم...

أنتبه محمود إلى الحالة التي عليها أمه من الوجوم وملامح وجهها التي يبدو عليها الحزن وآثار الدموع بمقلتيها، فهتف في قلق: - ماما... مالك فيه إيه..؟ أنت كويسة يا أمي..؟

رفعت عينيها إليه غير قادرة على النطق، فعاد يتسائل: - يا ماما.. أرجوكي قولي لي مالك يا حبيبتي...؟؟ إيه اللي حصل لك..؟

"أصلها عرفت قصة الست هانم اللي هاتبقى مراتك يا دكتور..."

كذا قالت رحاب التي كانت واقفة بجوار باب الغرفة تضع يدًا على خاصرها وترفع الأخرى مستندة إلى الباب وقد عقدت رجليها وأرتسمت في عينيها نظرات التشفي.

*****

Just Faith 18-12-17 01:00 PM

- 9 -
25 يونيو 2005،
منزل نور وتقى، القاهرة
أمها وتقى ونهى... ثلاث أعمدة كانت ترتكز عليها روحها... من دونهن غدت ورقة تطايرت في الفضاء هائمةٌ على وجهها، لم يتمكن أي شخصٍ كان من ملئ تلك الفجوة بداخلها التي أخذت تتسع لتتلاشى روحها التي كانت ذات يوم سعيدة وأصبحت تحيا على ذكرى الأيام التي قضتها معهن تقتات خبز فقدها كالتعساء إلى أن جاء عيسى وبدأ في ترميم تشوهات روحها.
لن تنسى أبدًا ذلك الجو المرح الذي كانت تبثه تقى بتناغمٍ رائعٍ مع نهى دائمة الحضور في أغلب أحداث حياتها ووجه أمها بنظراتها الطيبة المحبة الذي كان يفجر دائمًا ينبوعًا من السعادة بداخلها رغم صعوبات الحياة.
" إيه ده يا نور ..؟ إيه الفستان ده..؟ ماتلبسي حجاب بالمرة..!"
قالتها تقى وهي تشاهد نور التي ارتدت ثوبها بعد إلحاح من اختها كي تراها به، ضحكت نهى قائلة:
- والله يا توتة قولت لها كدة ما سمعتش كلامي...
قالت تقى: - صدره مقفل أوي يا نور إيه ده ...؟
قالت نور: - أنا غلطانة أني سمعت كلامك ولبسته افرجك عليه... أمشي روحي ذاكري ياللا ...
قالت تقى: - والله العظيم محمود ده ليه الجنة أنه هايتجوز واحدة زيك... يا عيني الراجل صابر طول شهرين الخطوبة منشفة ريقه عشان تكلميه واللا تقعدوا مع بعض... حتى لو عايز يفرجك على حاجة واللا ياخد رأيك في حاجة من ترتيبات الفرح لازم يا أنا يا رحاب يا طنط قدرية يا ماما نبقى معاك وهما كلمتين وبس... وفي الآخر جاية في كتب الكتاب تقفلي الدنيا... كدة أوفر يا نور والله...
قالت نهى: - بصراحة يا نور... أختك معاها حق...
قالت نور بعند: - هوا كدة لو كان عاجبه ...!
ضحكت تقى قائلة: - آه يا بنتي ما المصيبة أنه عاجبه وأصر أنه يعجل بكتب الكتاب عشان بس يقعد يتكلم معاكي شوية براحته من غير طرف تالت قاعد في النص... لأن سيادك يجي يقولك كلمة حلوة يسرقها كدة من ورا الطرف التالت تكشري وتقومي وتقولي له حرام كدة وأحنا لسة أغراب عن بعض وحلال وحرام... يجيب لك ورد ويسيبهولك عالباب... ولاااا الهوا... ولا تشكريه ولا تقولي له عجبني ولا أي حاجة لحد ما الراجل يا عيني يشك أنك أخدتيه ولما يسألك.. أيوة.. ماشي ... كويس...
قذفت نور الوسادة على اختها بمرح قائلة: - أديكي قولتيها... هوا عاجبه... أنت مالك بقى ...
قالت تقى لنهى: - شوفتي يا نهى أديها باعتنا في أول محطة... يعني نخرج منها أحنا... ماشي يا نور...
قالت نهى: - بصراحة يا توتة اختك معاها حق... الراجل عارفها وحافظها ومصر على الجواز... خلاص يا ستي ربنا يهني سعيد بسعيدة ... مالناش دعوة ...
أخرجت نور لسانها لهما ثم قالت: - أيوة مالكوش دعوة ... هاروح أفرج الفستان لمامتي وهيا اللي هاتنصفني فيكو ...
خرجت نور من غرفتها متجهة نحو غرفة والدتها في سعادة بينما قالت تقى: - مجنونة ...!! الله يكون في عونك يا دكتور محمود ...
لم تدر أيًا منهما أن محمود في تلك اللحظة كان حقًا في أمس الحاجة لمعونة إلهية تنتشله من بئر الحيرة والتردد الثائر الذي سقط به عقب ما سمع من أمه وشقيقته من ما حملته إحسان من أخبار. كان جالسًا على أريكة الصالون دافنًا وجهه بين كفيه. قالت له رحاب بلا مبالاة: - سيبك منها يا محمود ... أصلاً أنا كنت مش مستريحالها من الأول ...!
رفع رأسه نحوها في عنف هاتفًا: - يعني إيه أسيبني منها...؟ يعني إيه مش مستريحالها...؟ هوا أنت اللي هاتتجوزيها واللا أنا..؟
صاحت رحاب بدورها: - طب براحة شوية وما تزعقليش... أنا مش عارفة إيه اللي عاجبك فيها دي أصلاً مش حلوة ولا جميلة أوي عشان تتمسك بيها كدة ... عادية جدًا ... ده أنت أحلى منها يا أخي ... وطبعًا هيا مش هاتيجي حاجة في جمالي ... بس قولنا بنت يتيمة ومسكينة ونعمل فيها خير ونسيبك تتجوزها ... لكن صياعة وقلة أدب ... مابدهاش بقى ... مش ناقصين أحنا مسخرة و...
قاطعها محمود بصفعة قوية على وجهها وأمسك ذراعها هاتفًا بحدة: - مين دي اللي صايعة ومش جميلة...؟ نور دي متربية على إيدينا ... نور دي مابترضاش تسلم عليا واحنا مخطوبين ولا تخرج معايا لوحدها ... نور دي عمري ماسمعتها بتتكلم على حد وحش واللا بتغتاب حد ... نور دي رفضت دكتور غني بدون تطويل في التفكير حفاظًا على دينها وكرامتها ... نور دي اللي بتتكلمي عنها كدة تسوى عشرة زيك ... نور واللي زيها هما اللي ينفعوا زوجات يصونوا بيتهم وأزواجهم ... أما أنت واللي زيك بالأخلاق دي اللي طول عمري بانصحك تسيبيها ... ما تنفعوش غير للفتارين ... عرايس حلاوة فقط لا غير ...
بكت رحاب وحاولت التملص من قبضته المطبقة على ذراعها دون جدوى فقالت لأمها: - شايفة يا ماما ... شايفة ابنك بيعمل فيا إيه ..؟ إذا كان كدة من قبل ما يتجوزها أمال اما يتجوزوا هايعمل فينا إيه...؟ هايرمينا كلنا برة..
أسندت أمها رأسها على يدها قائلة بغضب: - ماهو لا أنتِ ولا هوا محترمين أمكوا اللي قاعدة بينكوا... خلاص بقى وجودي مالوش لازمة ...
ترك محمود ذراع أخته وانحنى نحو أمه قائلاً: - أنا آسف يا أمي ... أصلها هيا اللي هيا استفزتني جامد.. وأنا فيا اللي مكفيني أصلاً ...
أومأت أمه في تفهم ثم قالت لرحاب بحزم: - أمشي من هنا دلوقت يا رحاب وأقفلي الباب وراكي ... ومش عايزاكي تتكلمي في الموضوع ده تاني ...
خرجت رحاب متمتمة: - والله لوريك يا محمود، أنا وانت والزمن طويل ...
أستدارت قدرية إلى محمود الذي عاد ليجلس على الأريكة وأرجع رأسه إلى الخلف متأملاً سقف الغرفة شاردًا في ذاك الكلام الذي يتناقل حول خطيبته وأمها، قالت له قدرية: - هاااه يا ابني ناوي على إيه..؟
رفع محمود رأسه ونظر إلى أمه قائلاً وهو يحاول إيجاد بصيص أمل: - ما يمكن الكلام ده كله غلط يا ماما..!
قالت له: - ويمكن يكون صح ...
صمت محمود في حيرة، فربتت أمه على رجله بحنو وهي تقول: - أنا عارفة اللي أنت فيه ... لأني أنا كمان مش مصدقة ... دي علا دي صاحبتي ... ونور وتقى زيك أنت واختك بالنسبالي تمام ... بس يا ابني ... مافيش دخان من غير نار ...
نظر محمود إليها بيأس قائلاً: - قصدك إيه...؟
قالت بحيرة: - أنا بافكر معاك بصوت عالي يا ابني ومش عارفة برضه نعمل إيه ... مش عايزين نظلم حد...
صمت محمود في حيرة وألم، فقالت له أمه بعد برهة: - ما تروح تعرض الأمر على الشيخ عبد المنعم في المسجد تحت على أنها مشكلة واحد صاحبك ...
لمعت في عيني محمود بارقة أمل وهو ينهض هاتفًا: - حاضر ... هانزل دلوقتي ...
ونزل محمود وما هي إلا ربع ساعة إلا وعاد ليجد أمه في موضعها تسأله بلهفة: - هاااه ... قال لك إيه..؟
تهاوى محمود على أول مقعد .. وقد امتلأت عيناه بالعبرات وهو يخلع خاتم الزواج الفضي الخاص به معطيًا إياه لأمه وهو يقول: - روحي اعتذري لهم يا ماما ...
ابتلعت أمه ريقها محاولة التغلب على تلك الغصة بحلقها وهي تقول: - هوا الشيخ قال لك كدة..؟
أغمض محمود عينيه بشدة لتتهاوى منهما بعض العبرات وهو يقول: - قالي قول لصاحبك كلمتين ... "تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس" فلازم الواحد يتخير لنسبه ونسب ذريته النساء الطيبات والأصول المعروفة بالخير ... غير المشكوك في صلاحها ... وأن النساء كثيرات ... والأفضل أنه يترك تلك المشكوك في أمرها ...
وكان حكمًا بالإعدام مِن مَن يُحسب على الدين شيخًا متجرئًا على إطلاق الأحكام دون تروي أو بحث، فنهضت قدرية بتثاقل لتحاول تنفيذ تلك المهمة الصعبة.
***
شعرت بها تحتضنها بعينيها... تكاد تكون لمست فرحة مطلة منهما... فرحة حقة تلمسها في عيني أمها لأول مرة ...! نحت علا جانبًا هاك الدفتر الذي كانت منهمكة في الكتابة فيه، ثم قالت لنور بسعادة:
- جميلة أوي في الفستان يا نور ... ربنا يتمم لك على خير يا بنتي ...
ابتسمت نور قائلة وهي تقبل أمها: - طبعًا جميلة زي مامتي ... صحيح يا ماما ... مش هاتقولي لي بقى إيه اللي كل ما ندخل عليكي نلاقيكي بتكتبيه ده...؟ انت بتذاكري من ورانا واللا إيه...؟
همت علا أن تقول شيء ما، إلا أن جرس الباب قاطعها ... سمعت تقى ترحب بقدرية، فابتسمت نور قائلة:
- أكيد طنط قدرية جاية تشوف الفستان ... منا قلت لها قبل ما انزل إني هاجيبه النهاردة ...
لم تمض سوى لحظات حتى دلفت قدرية إلى غرفة علا بوجه واجم ممتقع، قالت لها نور:
- جيتي في وقتك يا طنط ... شوفي ... إيه رأيك ...؟
تأملتها قدرية وهي تدور حول نفسها بالثوب الناصع وكأنها تراها من وراء غمامتين مثقلتين بدموعها، كيف ستقتل تلك الفرحة التي تراها في بيت علا وعينيها لأول مرة ...؟ لكنها خائفة ... نعم خائفة من تلك الثرثرة التي ستطولهم حتمًا وتطول ابنتها فلربما لا تتمكن ابنتها من الزواج بسبب تلك الأحاديث الحائمة حول علا وبنتيها إذا ما اقترن اسم أيٍ منهن باسم ابنها واسمهم... إنها تفعل ذلك من أجل المحافظة على بيتها ومستقبل ابنتها ناصع البياض.
- نور حبيبتي ... ممكن تسيبيني مع ماما شوية...؟
تأملتها نور في غير فهم... بوجهها الواجم وكأنما هبطت عليها صاعقة...! أنَّى ترتسم على وجهها ملامح الألم تلك ومن المفترض أنها أيام تملؤها السعادة..! أقنعت نور نفسها أنها لربما تعاني من شيء ما لا تريد أحد الإطلاع عليه سوى صديقتها علا، فتمتمت نور قائلة: - حاضر يا طنط اتفضلي ...
قالتها ثم خرجت شاردة متوجهة إلى غرفتها تبدل ثوبها وتعيده بحرص إلى غلافه، ثم جلست إلى مكتبها تحاول المذاكرة إلا أن عقلها كان يشرد منها إلى تقاسيم وجه قدرية ويغوص في تفاصيله محاولاً إيجاد مبررًا لتلك النظرات التي ارتسمت في عينيها وانعقاد حاجبيها وانزمام شفتيها وعدم ردها عليها بفرحة طيبة كعادتها.
لم يمض الكثير من الوقت حتى سمعت صوت باب المنزل يتم إغلاقه، نهضت نور من على مقعد مكتبها متوجهة إلى أمها وقد أنضم إليها كل من نهى وتقى اللتين كانتا تستذكران في ردهة المنزل. إحساس عام بالأنقباض راودها مذ أن وقعت عينيها على أمها وكأنما صار وجهها كصفحةٍ بيضاء باهتة تتأمل الفراغ في ألم. شيءٌ ما بداخل نور لم يكن يريد أن يسأل أمها عمَّا حدث منذ قليل... يجذبها إلى الخلف... يجذبها إلى وجه أمها السعيد الضاحك تمامًا قبل لحظة دخول قدرية إليها.
- ماما أنت كويسة...؟ إيه اللي حصل ...؟
لكنها قالتها وتسائلت، كانت تقى تقف خلفها في قلق ومعها نهى، تأملتها أمها في نظرات صامتة ثم فتحت ذراعيها تدعوها إليهما... فوضعت نور رأسها على صدر أمها محتضنة إياها فأحاطتها بذراعيها في حنان ثم همست لها: - عارفة أجمل حاجتين فيكي إيه يا نور..؟
رفعت نور عينيها إليها في غير فهم، فأردفت أمها: - إيمانك وقوتك ... أوعديني أنك دايمًا تكوني قوية مهما حصل...
كانت علا تخشى على قلب صغيرتها الغض من الانفطار... هاك القلب الرقيق الذي طالما دافعت عن سلامته باستماتة... لأن أي خدشة به ستقتلها؛ لكنها أخطأت كثيرًا عندما بنت آمالها على بشريٍ أيًا كان، أحيانًا يؤدي بنا الخوف من أمر ما إلى السير بخطىً حثيثةٍ نحوه ونحن نظن أننا نفر منه..! لقد خافت علا على بنتيها من الوحدة والإنكسار بعدها وفرحت كثيرًا عندما تمت خطبة نور إلى شخص ظنت أنه هو الذي سيحمي ابنتها من الوحدة والإنكسار... وهاهو ذي نفسه الذي قد يتسبب في إنكسار قلب ابنتها ووئد فرحتها في مهدها.
قالت نور وهي لا تدري ماذا يحدث: - حاضر يا ماما... بس قولي لي فيه....
لكنها قطعت سؤالها وقد وقعت عينيها عليه قابعًا على الفراش بجوار أمها... إنها تعرفه جيدًا فقد شاركت في اختياره.. إنه لامع فضي ذو شكل مميز... اصطدم بعينيها عندما خفضتهما... كان رائعًا وهو يحيط بخنصره... نعم... إنه خاتم الزواج الفضي الخاص بمحمود...! شعرت بغصة في حلقها وجزء من عقلها يحاول تبرير سبب وجود خاتم محمود هاهنا بأنه قد يكون قد صار ضيقًا عليه أو حدث له شيء ما...! لكنها إذا ما جمعت الأحداث سويًا كقطع أحجية ... ستصل إلى حقيقة واحدة لا مجال لمناقشتها. مدت يدٍ مرتعشة تتناول الخاتم، فوضعت أمها يدها على فمها في جزع وقد رأتها قد لاحظته قبل أن تنهي لها التمهيد لما حدث... قالت علا مكملة كلامها: - أنت صليتي استخارة يا حبيبتي أكتر من مرة ... وربنا بيقدر الخير كله... أكيد مش خير ليكي أنك تتجوزيه... ربنا أكيد شايل لك عنده حد أحسن... فربنا لطيف بعباده يا نور... عايزاكي تركزي في عبادتك ودراستك وتحاولي تنسي الموضوع ده ...
هتفت تقى بحنق شديد: - إيه الحركة بنت التييييت دي..؟ هوا فاكر نفسه إيه يعني ولا عمره هايلاقي زي نور في حياته ... أتجنن ده واللا إيه ...!
ووسط دقات قلبها المتسارعة وغصة حلقها القاتلة... ضحكت... نعم... ضحكت نور وهزت كتفيها متظاهرة باللامبالاة وهي تقول: - عادي يا جماعة... بتحصل كتير ... واحد وحس قبل كتب كتابه بيومين أن مش دي الإنسانة اللي عايزها زوجة... عادي ما تكبروش الموضوع ...
تعلقت أعينهم الحزينة الحانقة بنور في دهشة وهي تخلع خاتم الزواج الخاص بها قائلة: - اتفضلي يا ماما.. أدي دبلته ...
خيم الصمت على الجميع وهم في دهشة من أفعالها، إلا أنها رممت أنكسار روحها أمامهم بكبرياء زائف ومرح مصطنع وهي تقول: - ياللا يا نهى عندنا امتحان بكرة ... عن إذنك يا ماما هاروح أذاكر ... عايزة حاجة مني..؟
قالت علا: - لا يا حبيبتي عايزة سلامتك ...
تبعتها نهى في دهشة وكذا سارت تقى خلفها تراقبها في شك ... وحدها كانت علا تعرف جيدًا أن نور ليست كأي فتاة عادية تُبدي حزنها أو دموعها أمام أي شخص ... لم تكن لتدع أي شيء يكسرها على الملأ ... لكنها كانت خائفة من كبتها لمشاعرها.
كانت تقى أيضًا تعرف أن اختها لا تحب أن يطلع أي شخص على انكساراتها وتقوض مظاهر المرح وسقوط قناع الكبرياء الزائف لذلك تظاهرت بالنوم وهي تدرك جيدًا أن نور تدفن وجهها في وسادتها تبثها ما يعتمل في صدرها وتسقيها بدموعٍ لا يطلع عليها أحد سوى تلك الوسادة، كانت تعرف أنها لم تنم فأنفاسها المتلاحقة تصل إليها عبر ظلام الغرفة وصمت الليل كسهام أحزان تصيب قلبها ... إنها حزينة من أجلها ... لا تدر لم أقدم محمود على حماقة كتلك قبل عقد الزواج بيومين...! لم يمض كثيرًا حتى شعرت تقى بنور تنهض من على فراشها إلى الخارج، وعندما تأخرت في العودة... نهضت تقى تسير على أطراف أصابعها تتطلع أمر نور لتراها على ضوء القمر الفضي المتسلل من النافذة قد وقفت في ظلمة الليل بين يدي الله تبثه حزنها وترفع يد الضراعة إليه علَّه يمن عليها بالرضا التام على كل أقداره.
لم تنم نور ليلتها حتى أذن الفجر ... أيقظت تقى التي كانت تتظاهر بالنوم بدورها لتصلي وساعدت أمها على الصلاة ثم بدأت في الاستعداد للذهاب إلى الجامعة.
***
26 يونيو 2005،
كلية الطب، جامعة القاهرة
على باب لجنة الاختبار ... كانت كل طالبتين تدخل ليتم اختبارهما اختبارًا شفهيًا.
- " يااااه ... كنت مرعوبة ... بس الحمد لله الدكتور بيسأل اسئلة سهلة .. اطمنوا يا بنات ... كل اللي دخلوا بيقولوا كدة..."
قالتها أروى لزميلاتها عقب خروجها من لجنة الاختبار، ولم يمر وقت طويل حتى جاء دور نور مع زميلة لها تُدعى نسمة. جلست بالمقعد المواجه للأستاذ الممتحن... شردت للحظات لم تسمع ماذا كان سؤال نسمة الذي اجابته سريعًا، فتوجه الأستاذ إلى نور الشاردة وألقى إليها سؤالها ... لم تسمعه ... فهزتها نسمة قائلة:
- نور ... كلمي الدكتور ...
رفعت نور عينين منهكتين إلى الدكتور قائلة بأدب: - آسفة يا دكتور ...
عدل الدكتور الستيني منظاره على أنفه قائلاً: - قولي يا ستي ... كم نسبة البلازما في الدم ...؟
قالت نور شاردة: - كتير ...
قال الدكتور: - يا بنتي قولي الإجابة كام...؟
شعرت نور وكأن غمامة من الأفكار تحيط بعقلها تمنعها من استحضار الإجابة الصحيحة التي تحفظها عن ظهر قلب ... كانت تحاور الدكتور بوعي غائب ... حيث أن وعيها كان يجري حوارًا آخر بداخلها..!
- 60...؟
- ستين إيه...؟
وبداخلها كانت تقول ستون يومًا كاملين هي عمر سعادة كاذبة ولجت بها رغمًا عنها... سعادة كانت تشي بها الأيام أُجهضت قبل موعدها... لم تطلب منه ورودًا أو كلامًا معسولاً طوال ستين يومًا... كانت ترجوه أن يظل بعيدًا حاولت أن تبدو كالحائط الصد أمام نظرات اشتياق يغلفها بها وهدايا عشاق ليست من حقها .. لكنها في الخفاء كان لتلك الأشياء تأثير الماء في الصخر... أخذت تنحت صلابتها الصخرية وتتسلل كماء يروي ظمئها للسعادة... فرفعت رايات بيضاء واستسلمت لخمر السعادة الوهمية يغزو قلبها الصغير..! ارتشف قلبها منه ناسيًا أنه ليس كخمر الجنة الحلال بل هو خمر الدنيا المغيب للعقل...
- يا بنتي احنا ماقدمناش اليوم كله لو سمحتي جاوبي على السؤال بسرعة... كم نسبة البلازما في الدم..؟
- دم...؟
وأكملت حوارها الداخلي... أي دمٌ بارد ذاك الذي يستبيح قلبها باستنزاف مشاعره ثم طعنه من الخلف..؟ أي دمٌ بارد ذاك الذي يئد فرحتها وفرحة أختها وفرحة أمها التي تراها جلية واضحة ربما لأول مرة في حياتها ... كانت فرحة علا بزواج نور أكبر حتى من فرحتها بمجموعها في الثانوية العامة أو قبولها في كلية طب...! نعم... حاولت علا أن تجد لابنتيها بديلاً عنها إذا رحلت... وسقطت علا ومعها نور سهوًا في فخاخ إسائة الظن بالرب الخالق والمُدبر عندما ظنتا أن لا أحد غير محمود يمكنهن الاعتماد عليه... وجاء الابتلاء شديدًا علَّه يمحص قلوبهن مما ألم بها من مرض التعلق ببشريٍ فان.
- أيوة في الدم يا بنتي هاتزهقيني لييه ... قولي بقى كاااام نسبة البلاازما....؟ هاااه...؟ كااام...؟
- 80...
- تمانين إيييييه...؟ مش عايز رقم عاييز تمييز...
ومرة أخرى تغلفها غمامة أفكارها وتنقلها لحوارٍ داخلي لا يسمعه سواها... تخبره أنهن ثمانون زهرة متعددة الأشكال والألوان في ثمان باقاتٍ مغلفاتٍ بالتل الأحمر والأبيض والبنفسجي والوردي... على مدى شهرين كان يحضر لها كل أسبوع باقة ورد مكونة من عشر وردات حتى أنها اعتادت الأمر وصارت تنتظر الباقة كل يوم جمعة بعد الصلاة ... تنتظرها في ترقب كتموين أسبوعي لشحنة السعادة الوهمية..!
- لو ماجوبتنيش دلوقتي حالاً يبقى تتفضلي تطلعي يا آنسة ... أنا مش فاضي لك ...
- 200..؟
تسائلت في نفسها أكنَّ مائتي نجمة أولئك النجمات اللائي قامت بعدهن في السماء الليلة الماضية أم أكثر..؟ كانت تعد النجمات مع الاستغفار وكأنهن قد انتظمن في عقدٍ براقٍ كمسبحةٍ سماويةٍ ...
- قلت لك مش عايز أرقام عايز تمييز ...
كانت نسمة تهمس بشيء ما التقتطه أذني نور لتردده بآلية في حوارها اللاواعي مع الدكتور المُمتحن.
- لتر...
صاح الدكتور: - ميتين لتر ليه يا آنسة..؟ هوا دم الإنسان كام لتر...؟ دم الإنسان كله على بعضه 5 لتر... هوا انا باقول لك دم الفيل واللا حاجة...؟ والله العظيم أنتوا ناس خسارة فيكوا الطب ده احنا لسة بنقول باسم الله الرحمن الرحيم وأنت ...
- أنا آسفة يا دكتور ... تشكل بلازما الدم حوالي 55% من إجمالي حجم الدم في جسم الإنسان.
أنتزعها صياح الدكتور من حوارها الداخلي وبدد الغيوم حول عقلها فحاولت قدر الإمكان شحذ إنتباهها والتركيز في الاختبارات فقط ... لا غير.
***

Just Faith 18-12-17 01:01 PM

يجب ان ترد لمشاهدة المحتوى المخفي

Just Faith 18-12-17 01:03 PM

- 11 –
25 نوفمبر 2011،مطار القاهرة الدولي
الساعة 8:30 بتوقيت القاهرة
"سيداتي سادتي... أسعد الله صباحكم بكل خير ومرحبًا بكم في مطار القاهرة الدولي، تشير الساعة الآن إلى الثامة وثلاثون دقيقة، درجة الحرارة بالخارج هي عشرون درجة مئوية. لسلامتكم وراحتكم الرجاء الإبقاء على أحزمة المقاعد وعدم النهوض من أماكنكم حتى تتوقف الطائرة عن الحركة تمامًا."
بعد تحليق دام أحد عشر ساعة كاملة لامست إطارات الطائرة الضخمة أرض الوطن، كان ارتطام إطارات الطائرة بالأرض هو الهزة التي أيقظت كلٍ من نور وزين ليهبطا بدورهما من عالم الذكريات إلى عالم الواقع.
تمطى زين ثم التفت ينظر إلى النافذة بجوار نور وكأنه يتأكد من وصولهم فعلاًّ..! في طريقهما إلى النافذة وقعت عيناه على نور... كانت مغمضة العينين في قوة تعض على شفتها السفلى بألم وتبدو على وجنتيها آثار دموع جافة. تردد في سؤالها عما بها، وحينما حسم في ضيق أمره بأن يسألها إن كانت مريضة أوشيء من هذا القبيل هتف عيسى وهو يحل حزام مقعده ناهضًا: - خلاص و..وصلنا ياللا بقى ..
أمسكه زين من ذراعه الأيسر في الوقت الذي كانت نور بالفعل تمسك ذراع صغيرها الأيمن وفتحت عينيها بسرعة قائلة بحسم: - لسة يا عيسى... مش دلوقتي...
جلس الصغير مرة أخرى في ملل، بينما ارتبكت نور عندما وجدت زين مازال يتفحصها، فقال مبررًا:
- أنتِ كويسة..؟!
أعتدلت في جلستها وضبطت حجابها ثم عقدت حاجبيها وقالت بحزم وهي تشيح برأسها: - أيوة ...
أخذت الطائرة تتجول في مساراتها الشاسعة إلى أن تهدأ سرعتها وتصل بسلام إلى بوابة المطار، لكن أنَّى له الهدوء والسلام ولازالت الذكريات تعصف به، ففي ذلك اليوم عندما هبطت طائرة أخرى إلى مطار آخر في بلد آخر... ظن زين أنه مقبلٌ على أسعد أيام عمره وأنه سيقضي أجمل أسبوعين في أجمل مكان حلم به يومًا؛ لم يتخيل يومها أن الأسبوعان سيصبحا يومان... وأن السعادة المزعومة ستُضحي محض خيال..!
*******
28 يونيو 2005
مطار أثينا الدولي، اليونان
"اليونان...!!! اليونان يا زين...؟؟!!!"
تسائلت كارمن في إحباط وهي تلوي فمها، أجابها زين باسمًا وهو يضع حقائبهما على عربة الحقائب:
- إيه رأيك في المفاجأة دي بقى...؟
قالت بتنهيدة: - حلوة... على الأقل الواحد يعمل شوبيج في أثينا...
ضحك زين وأحاط كتفيها بذراعيه قائلاً: - لاااا... أحنا مش رايحين أثينا... لسة فيه مفاجأة تانية...
قالت بسخرية: - يا مفجآتك..!
قال زين ولم يلحظ السخرية في صوتها: - تعالي بس نروح القاعة التانية في المطار...
هتفت: - على كدة بقى المفاجأة التانية أن أحنا هانقضي الهاني مون في المطااار...؟؟
ضحك زين ثانية وهو يدفع عربة الحقائب ثم قال: - لا يا حبيبتي... أحنا رايحين نلحق الطيارة التانية.. طيران داخلي يوصلنا لجزيرة الأحلام ...
قضت كارمن ساعة ونصف طوال رحلتهما الأخرى محاولة تخمين في أي منتجع حجز زين بجزيرة ميكونوس التي أعلنت المضيفة توجههم إليها منذ قليل، إنها تحفظ اليونان جيدًا فكم زارتها في رحلات مع أصدقائها ونزلت في الكثير من المنتجعات الرائعة بها. أخيرًا حطت الطائرة على أرض الجزيرة اليونانية التي كانت تزدحم بمختلف السائحين في ذلك الوقت من العام. أستلم زين الحقائب ثم توجه لاستئجار سيارة نيسان صغيرة قادها في أرجاء الجزيرة متجهًا إلى أطرافها.
- أنت رايح فين يا زين...؟
تسائلت كارمن بقلق، فأجابها زين ضاحكًا: - هاخطفك...
أتخذ زين طريقًا ضيقًا محاطًا بالجبال والبحر من الجانبين سار به ساعة تقريبًا حتى وصل إلى مدخل متسع قليلًا دلف به وسط ممر أكثر اتساعًا إلى حدٍ ما ثم وصل إلى بوابة كبيرة يقف أمامها شخص ما. أوقف زين السيارة وترجل منها متجهًا إلى هاك الرجل تبادل معه عدة كلمات ثم فتح لهما البوابة ورحل. عاد زين إلى السيارة... سار بها إلى الداخل ثم أوقفها وهبط يغلق البوابة الضخمة عاد بعد ذلك إلى كارمن وفتح لها الباب قائلاً: - اتفضلي يا أميرتي...
رفعت رأسها الجميل إلى زين الواقف خارج باب مقعدها تسقط عليه أشعة الشمس فكأنها تزيده طولاً.... كان يرتدي تي شيرت بولو أبيض بسيط وبنطالاً من الجينز وحذاء رياضي وقد أخفى عينيه السوداوين بمنظارٍ شمسي ضخم. ترجلت كارمن من السيارة الصغيرة وهي تتأمل المكان في حذر، فأمسك زين بيدها قائلاً:
- هاااه... إيه رأيك بقى... الجمال ده كله لينا لوحدنا...
قالها وهو يشير بيده إلى المساحات الخضراء المحيطة بمسبح جميل وقد أحاطهما البحر من كل جانب ماعدا حيث أتيا، كل ذلك كان يتوسطه مبنى أنيق مكون من طابق واحد فقط من الصخر الأبيض. سار زين نحو شرفة المبنى حيث كانت تشتمل على منضدة وبعض الكراس؛ فتح زين النافذة الألوميتال الضخمة ودلف إلى الداخل. كانت النوافذ متناثرة بالفيلا الصغيرة من الداخل ليستمر مشهد البحر في احتضناهما من كل مكان. كان مكانًا بسيطًا ذو سقف مرتفع تتناثر به الأرائك ذات الأقمشة والتصاميم المريحة بشكل عفوي مما خلق جوًا دافئًا بينما يغطي سجادًا هنديًا ذو ألوان مبهجة الأرضية المصنوعة من الطين المشوي وتتطاير الستائر البيضاء في مشهد جعل زين يتنفس بسعادة قائلاً: - المكان فعلاً رائع...
قالها ثم استدار إلى كارمن مردفًا: - شبه الجزيرة الصغيرة دي يملكها رجل أعمال يوناني دماغه مختلفة شوية... بدل ما يبني عليها منتجع ويكسب ثروات... بنى عليها فيلل صغيرة جميلة هادية لأي حد عايز يتمتع بالجمال لوحده بعيد عن الصخب والدوشة... ليا صديق هنا في اليونان أجرلي الفيلا دي منه بسعر كويس طول فترة وجودنا...
قالت كارمن في توتر: - مافيش تي في..؟ ولا انترنت ...؟ إيه ده ...؟؟ مافيهاش أي نوادي أو مطاعم...؟؟
خلع زين نظارته الشمسية وأحاط كتفيها هامسًا: - مش قولت لك هاخطفك...؟
أبتعدت عنه كارمن قائلة بعصبية: - لا... لأ يا زين... مش هاينفع نقعد هنا...
تعجب زين من حدتها المفاجئة متسائلاً: - ليه يا حبيبتي...؟ فيه إيه..؟
زاد شعور كارمن بالاختناق وهي تقول: - مابحبش اقعد بعيد عن الناس كدة... مـ ... مابحبش الانعزال ... أرجوك...
قالتها وهي تجري إلى الخارج، فتبعها زين هاتفًا: - فيه إيه بس يا كارمن..؟ دي كلها ساعة ونوصل ميكونوس.. أنت صدقت أني هاخطفك بجد...؟
حاول أن يضحك مخففًا من توترها، إلا أنها أسرعت بالعودة إلى السيارة وهي تقول: - مش عاجباني يا زين.. بجد مقبوضة منها... أنت عايزني أقعد متضايقة ومقبوضة في شهر العسل كمان...؟
كان زين يتبعها في دهشة متزايدة، سألها: - للدرجة دي..؟
فتحت باب السيارة بعنف هاتفة: - أيوة يا زين للدرجة دي... مابحبش العزلة أبدًا... سميه مرض... عقدة... سميه اللي تسميه... أسمع.. أنا اعرف منتجع أكتر من رائع في ميكونوس نزلت فيه قبل كدة هايعجبك قوي... أركب وطلع الخريطة اللي معاك دور فيها على ميكونوس جراند اوتيل أند ريزورت ...
ركب زين السيارة وكله دهشة مما أصاب زوجته التي تحولت إلى شخص آخر وكأن شياطين العالم السفلي كلها تطاردها، فلم يجد سوى الإذعان لها وتنفيذ رغبتها محاولاً قدر جهده إسعادها وإخراجها من تلك الحالة. ***
29 يونيو 2005
ميكونوس جراند أوتيل أند ريزورت، اليونان
على ضوء القمر المتسلل عبر زجاج الشرفة التي تحتل الحائط يمين الفراش، تأملت ملامحه في صمت... لكم يحيرها ذلك الشخص بكل ما يحمل من متناقضات..! إنه في أغلب الأحيان حنون رقيق يعاملها برفق ولا يأخذ منها شيء عنوة، مذ زفافهما وهي تخبره أنها مريضة فيشفق عليها ويسألها كيف يساعدها دون أن يطالب بحقٍ أصيل له، في حين أنها تذكر كم من شخص عرفت فيما مضى كان يسرق منها أشياء قسرًا دون حق وكثيرًا دون حتى رغبة منها..! أما زين الغافي بهدوء بجوارها فكان يمسك كفيها برقة ويحاول جهده إسعادها دون الضغط عليها في أي شيء؛ إلا إنها عندما تحاول الخروج قليلاً عن سياج أفكاره الضيق الذي يكاد يخنقها... يتحول مائة وثمانون درجة... ترتسم في عينيه نظرة تخيفها وتكتسي نبرات صوته بصرامة يقشعر لها بدنها. تسائلت... ما تلك العقلية البالية التي أسقطت نفسها في براثنها...!! لقد خططت وقامت بدورها على أكمل وجه كي تجتذبه إليها... لماذا هو..؟ لماذا شعرت كارمن أنها ستجد الفردوس المفقود بين يدي زين العابدين سليم...؟!! ألأنه مختلف..؟ أم لأنها كانت قد جربت كل شيء بحثًا عن السعادة التائهة منها ولم تجدها فظنت أنها ستجدها في نظرة حب يشملها بها رجل كان يغض طرفه عنها في إصرار كلما رآها..!!! نهضت كارمن برشاقة من على الفراش متوجهة إلى الشرفة، أمسكت بسورها القصير وأرجعت رأسها إلى الوراء مغمضة عينيها ولازالت تلك الاسئلة تطوف بعقلها... لماذا هي تعيسة إلى أقصى حد...؟ إن لديها تقريبًا كل ما قد تحسدها عليه أي فتاة أخرى... الجمال الخلاب الذي يدير رؤوس كل الرجال وحتى النساء... المال... الشهرة والعائلة الراقية... فهي ابنة الدكتور عمر هجرس رجل الأعمال والأستاذ بكلية الزراعة والعضو البارز في الحزب الوطني الذي تصل دائرة معارفه إلى جمال مبارك شخصيًا... وأبنة الدكتورة سوزان إفرنجي الفنانة الشهيرة التي جمعت بين الطب والفن والتي دائمًا ما تثير معارضها ضجة في الأوساط الفنية ويعتبر الجاليري الخاص بها في الزمالك هو الأشهر من نوعه... لماذا ذلك الضيق وهاك الانقباض وهي.. – كارمن هجرس – لا ترتدي إلا الملابس المنتقاة بعناية من الماركات العالمية...؟! لماذا تشعر وكأنها تختنق وقد تمتعت دائمًا بحرية لا حد لها... تسافر وقتما تحب وتخرج حيثما أرادت وتصاحب من يعجبها، إلا أنها لم تجد سعادتها وراحتها بعد... جربت كل أنواع التدخين وسقطت فترة في دائرة تعاطي المخدرات والخمور فأرسلها أبيها إلى تلك المصحة في سويسرا حيث كادت تفقد عقلها أثناء علاجها من الإدمان... كانت تحدث جدران غرفتها... كانت تود لو تخرج وتنطلق وتلقى أي إنسان تتحدث معه إلا أن أباها نظرًا لمسئولياته الضخمة كان قد تركها بمفردها هناك ونبَّه على الأطباء ألا يدعوها تخرج إلا بعد تمام العلاج... لم ترى أمها طوال عام إلا مرتين فهي بدورها مشغولة إلى أقصى حد...! وخرجت من المصحة.. حقًا كانت قد تم علاجها من الإدمان إلا أنها صارت تخاف... تخاف من الأماكن المغلقة والمنعزلة... تخاف من أن تبقى وحيدة... لذلك كانت ترافق أكبر عدد ممكن من الأصدقاء شبابًا وفتايات... تدري جيدًا أن أغلبهم يتواجد معها رياءًا وشهرة، لكنها قررت أن تستغل جمالها وشهرتها ومالها كي لا تبقى وحيدة أبدًا.. لكنهم كانوا يرحلون رغم كل شيء وكأن الوحدة هي قدرها المحتوم..!
فتحت كارمن عينيها ونظرت إلى أسفل إلى البحر الذي تنعكس عليه أضواء القمر... إلى طاولات المنتجع المتناثرة هنا وهناك يحتل أغلبها بعض النزلاء حيث يتمتعون بهاك الحفل الذي يقيمه المنتجع حتى الساعات الأولى من صباح اليوم التالي...! إنحنت بقامتها الفارعة إلى أسفل... تأملت البحر بمياهه المظلمة اللهم إلا من بعض خيوط من ضوء القمر الفضي... "هايحصل إيه لو نطيت في البحر من هنا...!" تسائلت وهي تميل إلى الخارج أكثر، إلا أنها اعتدلت فجأة وتراجعت في ذعر رافعة يديها أمامها وهي تنظر إلى سور الشرفة القصير وكأنه وحش سينقض عليها..! "هوا أنا جبت معايا دوا الاكتئاب واللا لأ...؟؟" تسائلت في نفسها، إلا أنها تدري جيدًا أنها لم تحضر أقراص الاكتئاب معها عمدًا... فقد ظنت أن وجودها بجوار زين سيغنيها عنهم...! "غلط ... غلط.." تمتمت لنفسها... نعم... وجودها بجواره لم يزدها إلا اختناقًا بمبادئ بالية، فرغم حنوه عليها إلا أن أفكاره تراها كارمن ضيقة على روحها الوثابة المنطلقة. سمعت أنغام الموسيقى تأتي من أسفل، فابتسمت في انتصار... نعم... ستنزل إلى ذاك الحفل وترقص حتى الصباح... سترتدي فستانها الرائع ماركة جوتشي وترتدي حذائها ذو الكعب العالي ماركة شانيل وتضع زخات من عطر كوكو مدموازيل... نعم... تلك هي السعادة... أن ترتدي ثيابها الرائعة وتضع عطرها الباهظ ثم تهبط تتهادى بين الساهرين بذاك الحفل فتدير رؤوسهم جميعًا.
تسللت كارمن إلى الغرفة بهدوء شديد وأخرجت ثوبها من خزانة الثياب وقبل أن تتسلل إلى دورة المياه الفسيحة تناولت زجاجة ما من الميني بار بالغرفة ثم دلفت إليها. أرتدت ثوبها الرائع القصير ذي اللون السماوي الذي يحمل لون عينيها والذي يغطي أحد كتفيها بحمالة عريضة بينما يترك الكتف الآخر يشع جمالاً دون قيد. نظرت إلى الزجاجة التي أحضرتها من الميني بار ثم ابتسمت ساخرة متذكرة زين وهو يطالب خدمة الغرف بإخلاء غرفته من كل ما بها من خمور ووعدوه بفعل ذلك لكن يبدو أنهم قد نسوا تلك الصغيرة. فتحت كارمن قنينة من التيكيلا ثم أخذت ترتشف منها بينما تكمل ارتداء ذلك الحذاء الأسود الأنيق الذي يتدلى منه علامة شانيل حرف الـS باللون الذهبي ثم بدأت في وضع مساحيق التجميل عندما...
"كارمن...؟؟؟"
قالها مضيقًا عينيه عندما فتح الباب ووجدها تقف تتغنى مع نغمات الموسيقى الدائرة بأسفل حيث يصل إليهم شيء منها عبر الشرفة التي لم تحكم كارمن إغلاقها. ألقت كارمن الزجاجة التي بيدها بسرعة في سلة المهملات بطريقة خاطفة ثم أزاحتها أسفل الحوض بقدمها وهي تقول: - أنا صحيتك...؟؟ سوري بيبي...
قال وهو يتأمل ثوبها القصير الذي يكشف عن أحد كتفيها كاملاً حيث سقط عليه شعرها يعانقه في فتنة:
- بتعملي إيه...؟
قالت بتوتر وقد بدأت الخمر تتلاعب برأسها: - بـ... باعمل لك مفاجأة....
عاد ليسأل مرة أخرى: - مفاجأة..؟؟؟!! بس أنا كنت نايم...!
ضحكت بميوعة وهي تتمايل قائلة: - يعني هوا مين اللي فتح البلكون عشان يصحيك...؟؟ بصراحة حسيت أني عايزة أعمل حاجة مجنونة...
بدأت الابتسامة ترتسم على شفتيه وهو يقول: - يعني بقينا كويسين مش تعبانين لأ وعايزين نتجنن كمان...
ضحكت مرة أخرى بصوتٍ عالٍ وسارت نحوه بخطوات غير متزنة وهي تقول: - هوا حرام واللا عيب أما أتجنن معاك...؟
مرر أصابعه السمراء الطويلة في شعرها الذهبي وغاص بعينيها الزرقاوين وهو يقول: - لا حرام ولا عيب.. بالعكس ده فيه أجر كمان... وبعدين أنا مستني الجنان ده من بدري ...
**********
ثم .... لا شيء...!!!
ظنها نائمة، فنهض زين من على الفراش متوجهًا إلى الحمام... وقف أسفل المياه الدافئة محاولاً جمع شتات نفسه وما يدور بذهنه من أفكار تكاد تعصف به. أنهى حمامه وأرتدى ملابسه على عجالة... تكاد الشمس أن تشرق... أدى صلاة الفجر ثم خرج من الغرفة.
إلا أنها لم تكن نائمة... بمجرد خروجه نهضت بآلية... جلست على الفراش محتضنة ساقيها وقد بدأت الدموع تتساقط من عينيها... تسائلت في نفسها... لماذا لا تشعر بشيء...؟ لقد قررت أن تخوض آخر تجربة لها مع زين علَّها تجد سعادتها الضائعة... لماذا حتى لذة الوجود بين يدي رجل مثله سُلبت منها...! تحولت دموعها الصامتة إلى عويل حاد وأخذت تصرخ بكلمات غير مفهومة... فكلما لاحقت السعادة وجدت قلبها أكثر إنقباضًا عن ذي قبل بل لم تعد تشعر بقلبها أصلاً...!! تأملت أنعكاس صورتها بالمرآه وقد تجعدت ملامح وجهها عابسة وسال كحل عينيها الكثيف مشكلاً وديانًا سوداء على وجنتيها الورديتين... تسائلت... أي شيطان يطاردها مانعًا إياها من الشعور بالسعادة في أي شيء على الإطلاق...!! لماذا تشعر دومًا أن ثمة من يضع يده حول عنقها يخنقها في بطئ..! أمسكت بزجاجة عطر كوكو مدموزيل الأثير لديها وقذفت به المرآة بكل ما بها من ضيق لتنشرخ المرآة وتتهشم في عدة مواضع مما أساء إنعكاس صورتها أكثر من ذي قبل، فهرعت مبتعدة عنها ... توجهت نحو خزانة الملابس وقد عقدت العزم على أن تضرب بكل شيء يخنقها.. عرض الحائط... وليذهب كل شيء إلى الجحيم.
كان قد ابتعد عن المنتجع إلى حدٍ ما، منطلقًا بالسيارة التي استأجرها من مطار ميكونوس من طراز Nissan Micra c+c وقد فتح سقفها تمامًا سامحًا لهواء الصباح البكر النقي بالارتطام بوجهه علَّه يخرج من رأسه تلك الافكار الحمقاء. أوقف زين السيارة عند بعض المرتفعات الصخرية التي تتكسر الأمواج عند أقدامها، ثم حل حزام مقعده ونزل متوجهًا إلى تلك الصخور... تسلقها ثم جلس يرقب شروق الشمس غارقًا في أفكاره. في ذلك الحين سدد إليه عقله طعنة بسؤال مسنون كان يخبئه طوال الوقت وقد ظن أنه آن أوانه..
"لماذ...؟ لماذا تزوجتها...؟ لماذا بتلك السرعة...؟؟!"
تنهد زين متذكرًا كارمن التي كانت بين يديه منذ قليل كجثة هامدة... لا تُبدي شيئًا على الإطلاق ولا حتى وجعًا...! تشاهده بعينين فارغتين وكأنها تشاهد فيلمًا مكررًا للمرة المليون...!
"أستغفر الله العظيم ..."
تمتم بها زين متذكرًا كلمات أمه "بالهداوة عالبنية يا ولدي... بعدها صغيرة وطايشة... خدها بالحكمة يا زين.." كذا أوصته أمه وقد حاول جاهدًا تنفيذ وصيتها.
"لماذا يا زين....؟؟؟"
عاد عقله يطرح عليه السؤال في إلحاح... تأمل زين الشمس التي بدأت تظهر في الأفق على استحياء متذكرًا كارمن... نعم... هي جميلة كأشعة الشمس الذهبية... كل ما فيها رائع لكن هاك الجمال لم يكن ليجذبه... هو لا يعشق إلا جمالاً من نوع آخر يرتسم في الأعين الخجلى المنخفضة والروح المرفرفة والهشاشة التي تبحث عمن يكملها ويحميها ليكون سندها وداعمها. وهذا ما رآه – أو ظن أنه رآه – في كارمن ذلك اليوم بمكتب أبيها وطوال أيام الخطبة... عندما ابتعدت عن ملابسها المكشوفة عندما بدأت تتعامل برقة عندما كانت تنظر إليه مستنجدة به لم يملك إلا أن يلبي ندائها...! عندما أخبرته في فترة الخطبة أنها تحتاج إليه لتخرج من حالة يأس وكآبة... تحتاج إلى من يدعمها وأنها على استعداد أن تذهب معه إلى أي مكان وأن تنفذ كل ما يطلبه منها فقط لتجد سعادتها.
"مسكينٌ أنت... أنصعت وراء الشفقة لتبني بيتًا سيكون كبيت كالعنكبوت أو أكثر ضعفًا... أنسيت يا عزيزي أن الشفقة لا تبني بيوتًا... بل تهدمها إذا كانت وحدها الأساس...!"
هاتفه عقله في استفزاز... فضرب زين الصخر بقبضته في غضب، لا... هو لم ينصع وراء الشفقة... لقد كانت كارمن تائبة من مستنقع الحرية الزائدة والبعد عن الحق... كانت قد خرجت لتوها من هاك المستنقع العفن فكان من الطبيعي أن يعلق بها شيء من أوساخه وبقاياه، لذا مد لها يده ينفض عنها تلك البقايا الضالة... لهذا السبب أيضًا لن يتوان عن دعمها والوقوف بجانبها كما وعدها حتى تعود لها الروح... روحها التي خلقها لها ربها قبل أن تلوثها بانغماسها في هاك المستنقع... سيحاول أن يجعل السعادة تتراقص في عينيها الزرقاوين ويطمس منهما تلك النظرة الفارغة... سيجاهد كي تستعيد روحها مرة أخرى... حينها ستولد من جديد... ستصير ابنته وزوجته وبإذن الله أم ابنائه.
"لكن الأمر ليس بالسهولة التي تظنها يا عزيزي... فموقف الليلة الفائتة ستراه مئات المرات مع غيره من المواقف الصعبة... هل ستصمد...؟؟!"
نهض زين في عزم وقد وعد عقله أن يصمد... سيضع أساس بيته من جديد... سيعيد بنائها ليستقيم البناء. كارمن ليست بذلك السوء... سيجد بداخلها نقطة الضوء التي سينطلق منها.
ركب زين سيارته مرة أخرى متوجهًا في حماس إلى زوجته... إلى كارمن التي كانت في ذلك الوقت في مكان آخر تمامًا.
كانت المياه رغم برودتها إلى حدٍ ما في ساعات الصباح الأولى تلك إلا أن السباحة بها كانت رائعة عملت على تعديل مزاجها وتهدئتها إلى حدٍ ما. خرجت كارمن من البحر شاعرة بانتعاش كبير وسارت حيث وضعت حقيبتها أعلى المرتفع الصخري الذي يحد الشاطئ شرقًا حيث كانت قد نزلت البحر عند أقصى حدود المنتجع الشرقية.
"أنا بجد مش مصدق عيني.... كارمن هجرس...؟؟؟"
سمعت ذلك الصوت العميق فارتجف جسدها والتفتت لتنعكس الشمس في عينيها وهي تنظر إليه بقامته الفارعة ومنكبيه العريضين وصدره العريض القوي. ضيقت عينيها وهي تتمتم: - حساام...؟؟!!!
كان يرتدي ملابس السباحة ويبدو أنه خرج لتوه من البحر مثلها، تقدم نحوها وهو يشملها بعينين ضيقتين كعيني صقر قائلاً: - أنا أما شوفتك من بعيد ماصدقتش أنك كارمن... إيه اللي أنت عاملاه في نفسك ده..!
قالها مشيرًا إلى ملابس السباحة التي كانت ترتديها، فنظرت بدورها إليها... كانت ترتدي ملابس سباحة مكونة من بنطال وردي يمتد إلى ما بعد الركبة بقليل وبلوزة ذات أكمام قصيرة يصل طولها إلى نصف فخذها -تقريبًا- من اللونين الوردي والاسود بينما تضم شعرها أسفل غطاء الرأس الخاص بالسباحة. أردف حسام مازحًا: - أمال فين البكيني الأحمر...؟
رفعت يديها وقد همت أن تشرح له، إلا أنه فهم بسرعة، فقال ناظرًا إلى خاتم الزواج بخنصرها الأيسر:
- اااااه... فهمت..!
سألته: - أنت بتعمل إيه هنا...؟ أجازة...؟
أجابها: - إجازة قصيرة جدًا لمدة يومين هاكمل شغل بعدها.
عادت تسأله: - أنت بتشتغل هنا..؟ بتشتغل إيه...؟
ابتسم قائلاً في مرح: - قدامك الكابتن طيار حسام صقر...
ابتسمت كارمن بدورها قائلة: - والله وبقيت طيار يا حسام زي ما كنت عايز...
أخبرها: - أونكل صبري ظبطني في مصر للطيران ... وأديني اهوه مفحوت شغل...
أونكل صبري وطنط شاهيناز...! ابتسمت حالمة وهي تذكر ذلك اليوم حيث بدأ كل شيء... حفل يوم ميلاد صديقتها باكينام في فيلتها التي لا تبعد كثيرًا عن فيلا هجرس. باكينام صديقتها في جميع مراحلها بالمدرسة الأمريكية في القاهرة C.A.C كانتا حينها في الصف الثاني عشر آخر صف لهما بالمدرسة، وكان حفل ميلاد باكينام ذاك مختلفًا حيث ألتقت كارمن عندها حسام... حسام ابن خالة باكينام الذي عاد لتوه مع اسرته من الخليج، كان ملتحقًا بكلية العلوم لكنه كان يهدف إلى شيء مختلف تمامًا. كان حسام هو أول كل شيء... اقترب منها وقتها سريعًا شعرت أنها تذوب به عشقًا... كانت تلتقيه مع باكينام ثم صارا يلتقيا بمفردهما.
- "أول ما نزلت اليونان... جريت على المنتجع ده..."
قالها متأملاً عينيها الزرقاوين، فقالت بسرعة دون تفكير: - وأنا أول ما عرفت إني جاية هنا أصريت على المنتجع ده...
ابسم ابتسامة صغيرة وهو يمسك بيدها. لم تبتعد عنه أو تحاول سحبها... إنه حسام..!! لقد أنضم سريعًا إلى زمرة أصدقائها الذين كانوا يسافرون كثيرًا داخل وخارج البلاد. رتبت مجموعة أصدقائها رحلة إلى اليونان.. إلى منتجع ميكونوس جراند أوتيل أند ريزورت وكان حسام معهم بالطبع... لكم سارت على هاك الشاطيء وكفها يغفو بين كفه أو كتفيها يستظلان بذراعه القوية أو ذلك اليوم عندما طبع قبلة على شفتيها.
- ليه يا حسام... ليه مشيت وسيبتني...؟
سألته بصوت مبحوح، فاقترب منها مرة أخرى هامسًا: - مش انت اللي طلبتي مني كدة..!
قالت بصوت يخنقه البكاء: - ما انت اللي طلبت مني حاجة ماقدرش عليها...
عقد حاجبيه قائلاً: - طلبت منك نتجوز يا كارمن ..!
قالت بألم: - عرفي... طلبت نتجوز عرفي...
قال: - ما انت عارفة أنا كانت ظروفي إيه... ماكنتش في مستوى خالتي طنط شاهيناز وأونكل صبري... والفلوس اللي رجعنا بيها من الإمارات دفعتها كلها في معهد الطيران المدني...
قالت وقد بدأت بالفعل تبكي: - قلت لك مش عايزة منك فلوس.. قلت لك أتقدم لپاپي وكان هايوافق...
قال بهدوء: - على أساس إني هاسيب باباكي يصرف عليا... مش راجل أنا..!!! عامة أنا سافرت أدرس وقلت لك أما أرجع نبقى نفكر... ورجعت ومالقيتكيش... كنتي سافرتي مع الدكتور يحيى نجم أمريكا... مش هوا ده اللي اتجوزتيه ...!
عضت كارمن شفتيها في اختناق متذكرة يحيى... يحيى الذي ظنته حب العمر كله بعد أن خيرها حسام بين الزواج العرفي أو تركها وعندما اختارت البكاء صامتة تركها دون إبطاء..! ثم جاء ذلك اليوم عندما قررت أمها الذهاب إلى الدكتور شريف نجم لعلاج أسنانها وفوجئت بابنه الشاب يحيى قد أخذ مكانه لسفر الدكتور شريف إلى أمريكا حيث تقيم والدة يحيى الأمريكية. يحيى الطبيب الشاب الوسيم الذي تعلق نظره بكارمن في إعجاب شديد بينما ابتسمت كارمن وقتها في نفسها بثقة... لقد أعجبت به هي الأخرى ولم يكن هناك من داعٍ كي تحتار هل هو منجذب إليها أم لا... إنها قطعة فنية نادرة وحقٌ على من يراها أن ينجذب إليها في شدة. كان طبيبًا من عائلة معروفة لن تواجه معه أي صعوبات لاقتها مع حسام... لقد بدأت عامها الجامعي الثاني حلمت بخطبة بعد الاختبارات في فيلتهم الجميلة ثم زيجة في.... إلا أن سوزان قاطعت أفكارها معلنة الرحيل من العيادة. وبالفعل... تعددت مرات خروجها مع يحيى وأصطحابها له في رحلاتها داخل مصر أخبرها أنه يعشق انطلاقها وجرئتها وخفة دمها... أسمعها من الكلام الجميل ما جعلها تكاد أن تطير، لكن... لم تكد تمر بضعة أشهر إلا وكان أبيه يتصل به مطالبًا إياه بسرعة المجيء إلى أمريكا فأمه تحتضر. أصرت كارمن على مرافقته إلى أمريكا متعللة أنها بدورها تريد رؤية اختها وجديها هناك، وهكذا سافرت بصحبته... ملتصقة به وكأنها طوق نجاتها. و... لم يمر يومان على وصولهما إلا وفاضت روح أمه ثم اختفى يحيى... سألت عنه أباه أخبرها أنه عاد إلى مصر... عادت بسرعة فلم تجد له أثر... حتى... حتى رأته قدرًا في النادي بعدها بعدة أشهر... همت أن تجري نحوه إلا أنها وجدت امرأة تتأبط ذراعه في سعادة، ومع ذلك أكملت كارمن طريقها إليه ليعرفها على استحياء بـ "شيري" زوجته.
تذكرت كارمن كيف انحدرت بعد ذلك إلى التدخين وتنقلت من شخص لآخر باحثة عن حب عمرها حتى وقعت في باسم طالب الفرقة الرابعة الذي أحبها بطريقةٍ أخرى... كان يُحضر كل أنواع المخدرات والخمور ويتقاسماها معًا... أسقطها في هوةٍ سحيقة ودائرة مفرغة من الإدمان الذي كاد يودي بحياتها لولا تدخل أباها. وعادت من سويسرا بعد عام من العلاج... استأنفت دراستها و... قابلت زين.
- أنا عمري ما نسيتك يا رونيتا...
همس حسام وقد لاحظ شرودها، فرفعت عينيها نحوه وهي تقول في محاولة خرقاء منها أن تبدو مرحة:
- أكيد طبعًا... أنا ماتنسيش... وبعدين إيه ده أنت لسة فاكر اسم الدلع اللي كنت بتناديني بيه..!
في تلك الأثناء كان زين قد وصل إلى الشاليه الخاص بهما بالمنتجع... نادى على كارمن وبحث عنها إلا أنه لم يجدها، وعندما رأى المرآه المكسورة انقبض قلبه قلقًا، فدلف إلى الشرفة محاولاً مسح المكان بعينيه علَّه يجدها حتى... رآها... تلك الحقيبة ماركة نايك ذات اللونين الوردي والفضي اللامع تحت أشعة الشمس.
- "إيه الشنطة دي...؟ دي بتنور في الضلمة واللا إيه ..!"
- "أنت مش فاهم حاجة... دي أحدث موديل من نايك لسة مانزلش منها كتير... ناني بعتتهالي من أمريكا... أصلها عارفة ذوقي"
تذكر ذلك الحوار بينهما في الموفنبيك عندما كانت كارمن تتمم على أشيائها قبل السفر ورأى زين حينها حقيبتها الرياضية تلك.... الملقاة أمامه الآن بإهمال على مرتفعٍ صخري. شعر بخوف يدب في أوصاله وهو يعاتب نفسه أن تركها... كيف يتركها هكذا...! إذا حدث لها مكروه لن يغفر لنفسه... سيكون هو السبب. هبط زين بسرعة إلى الشاطئ يجري حيث حقيبتها والقلق يتزايد بداخله.
أما كارمن فقد كانت حينها تخبر حسام: - حسام... أنا دلوقتي متجوزة... يا ريت نبقى أصحاب وننسى اللي فات...
ابتسم ابتسامته الماكرة وهو يقول: - أكيد يا رونيتا... أصحاب بس...
أخرجت كارمن هاتفها الجوال من حقيبتها وهي تقول: - أديني رقمك وأنا هابعت لك رقمي المصري في رسالة... ابقى اتصل.. ماشي...
أخذت رقمه ثم أرسلت الرسالة واستدارت إليه قائلة: - عن إذنك بقى أما الحق ارجع الشاليه...
طبع قبلة على خدها مودعًا إياها وهو يقول: - سلام يا أحلى رونيتا...
قالها ثم استدار راحلاً، في نفس اللحظة التي وصل فيها زين هاتفًا: - كارمن... أنت كويسـ..ـة...؟
بدأ قلقه يخبو ليحل محله غضب عارم، فيهتف: - إيه اللي انت لابساه ده يا هانم...!
قالت ببرود: - إيه ...؟ أهوه بونيه ومايوه طويل... وبعدين أنا جاية مكان ماحدش....
قاطعها بغضب: - مايوه طويل إيه وبتاع إيه...؟ وماحدش إيه...؟؟ البلاج ملك للكل هنا ممكن تلاقي حد معدي غصب عنك... ألبسي هدومك بسرعة يا كارمن...
تناولت ثوبها الطويل من على مقعد البحر وارتدته ثم قامت بفك اسر شعرها ليتطاير في الهواء ويزداد زين غيظًا وهو يهتف: - ألبسي الحجاب بسرعة ماينفعش اللي بتعمليه ده...
ألقت كارمن بوشاحها على رأسها وهي تهتف في غيظ: - إيه الخنقة دي..! بجد أنت كدة أوفر يا زين...
قال زين محاولاً تهدئة نفسه: - منا كنت جايب فيلا لينا لوحدنا وبلاج لينا لوحدنا ماعجبكيش....!
قالت بغضب: - بتعايرني بعقدي النفسية كمان... أنا ما بحبش الأماكن المنعزلة... عندي فوبيا يا أخي...
وبعدين الرحلة كدة بقت رخمة جدًا... يا ريت نرجع مصر...
نظر إليها في دهشة شديدة ثم قال: - أنا آسف يا كارمن لو أتعصبت عليكي بس يا حبيبتي أنا....
قاطعته في صرامة وهي ترحل متوجهة نحو الشاليه: - قلت لك عايزة انزل مصر... مامي وپاپي وحشوني قوي...
تمتم زين: - حاضر يا كارمن... هاغير الحجز...
وسار خلفها محاولاً التحمل لأقصى حد وفاءًا بعهده لها ولعقله... سيصبر على غرابة أطوارها علَّ روحها ترجع لها وينتشر الضوء بداخل قلبها.
**********
تقاطرت المياه من وجهها الذي تأملت انعكاسه في تلك المرآة خلف المغسلة... وجهها الخمري الشاحب الذي ترتسم به هالات سوداء حول عينيها العسليتين... لكم يُخَلِّف الألم من آثار على الروح والجسد عند مروره. ذلك الوجه التعب هو نتاج سنوات من المعاناة والظلم والقهر... هو أنعكاس آلام روحها وجسدها و... كرامتها.
- "خـ...خلاص يا ماما ياللا بينا ..."
قالها عيسى وهو يفتح أحد الأبواب خلفها خارجًا متوجهًا إلى مغسلة أخرى بجوارها، يفتح الصنبور ويغسل يداه. نظرت إليه في حبٍ كعادتها... رغم سعادتها بوجوده في حياتها... إلا أن خوفها عليه أعظم.. إنها تخاف عليه من تلك الحياة التي لا تدري لها معالم ولا يمكن التكهن بأحداثها. أمسكت يده وخرجا من دورة المياه بالمطار متوجهين إلى منطقة استلام الأمتعة حيث ينتظرهما زين. وصلت فوجدته واقفًا خلف عربة وضع عليها حقائبها وحين اقتربت منه أشار إلى الحقائب قائلاً: - شوفي كدة لو ناقص حاجة..
عبرت بعينيها على الحقائب ثم قالت: - لا كدة تمام...
أومأ برأسه دونما كلمة أخرى ثم وضع على عينيه منظارًا شمسيًا ضخمًا أخفى عينيه السوداوين وحاجبيه المنعقدين وسار دافعًا العربة أمامه، فتبعاه في صمت حتى خرج من المطار ليهرع إليه رجل ما هاتفًا:
- حمدًا لله على السلامة يا باشمهندس...
أجابه: - الله يسلمك يا عم محمد... جبت لي العربية..؟
فقال عم محمد: - عربيتك موجودة يا باشمهندس وتحت أمرك ولو تحبني أوصلك كمان لحد النجع عنيا ليك..
ربت زين على كتفه قائلاً: - متشكر يا عم محمد... ماتتعبش نفسك أنت... أنا هاسافر بيها...
كان عم محمد قد أخذ منه عربة الحقائب وشرع في دفعها حتى وصل إلى سيارة جيب شيروكي سوداء طراز عام 2003، وضع عم محمد الحقائب بالسيارة ثم سلم المفاتيح لزين قائلاً:
-خدمة تانية يا باشمهندس..؟
أخرج زين بعض المال ووضعه في جيب قميص عم محمد قائلاً:
-تشكر يا راجل يا طيب...
قال عم محمد في حرج: - ليه كدة بس يا باشمهندس انت خيرك مغرقنا... ده أحنا نخدمك بعنينا...
ربت زين على كتفه مودعًا إياه ثم توجه إلى نور قائلاً: -اتفضلوا ..
كانت أولى خطوات نور على أرض الوطن مصحوبة برهبة وخوف... أجتاحتها نسمة من الهواء الجميل فشعرت وكأن بلدها تحتضنها وأدَّعى عقلها أن ثمة من فقدها هاهنا... حتى لو كانت بضع نسمات من الهواء..! ركبت نور بالمقعد الخلفي بينما أخذ عيسى يطلب من أمه هامسًا بإلحاح أن يجلس بجوار زين بالمقعد الأمامي ونور تحاول إقناعه أن يظل بجوارها، حتى استقر زين خلف عجلة القيادة ورفع رأسه إليهما في مرآة السيارة ثم قال بهدوء وهو ينظر إليها من خلف منظاره الشمسي: - خليه يجي...
تصايح عيسى فرحًا وقفز بسعادة إلى المقعد الأمامي فأحاطه زين بالحزام في صمت ثم... أنطلق بالسيارة. شعرت نور بشيء من الراحة عندما أبدى زين شيئًا ما نحو عيسى، فهي لم تستطع أن تفهم أبدًا سر تلك المعاملة الجافة التي يعاملها بها زين..! إنها لم تنتظر قط معاملة متحررة من قبله أو من قبل أي رجل أجنبي عنها، لكن على الأقل إحترام وتقدير لزوجة أخيه الراحل وبعض الحنو على ابنه اليتيم..!
ألقت نور بنظرها من النافذة التي بجوارها وهي تتسائل عن ذلك الرجل الغامض الذي تمتليء عينيه السوداوين بمزيج عجيب من الحزن والغضب مع نظرة غير مفهومة يلقيها عليها كلما تحدث معها أو إلتقت أعينهما، ولولا بعض من حسن ظن بقى لديها لقالت أنه يشملها بنظرات إزدراء منذ أن كان على عتبة بيتها في نيويورك..!! كان يبدو إليها كصندوقٍ أسود بارد، لم ترتح كثيرًا في التواجد معه رغم سعادتها عندما رأته في نيويورك يفصح عن أنه (زين العابدين سليم رحيل العربي) الأخ الأكبر لزوجها الراحل..! تعلق قلبها بأمل أن هناك من جاء أخيرًا لينتشلها من دوامة التخبط والحيرة التي سقطت بها شهور عدة عقب وفاة زكريا، إلا أن جفاف زين وبروده ونظراته الغامضة إليها جعلها تتمنى لو تنتهي تلك الرحلة سريعًا كي تتخلص من رفقته التي ما زادتها إلا حيرةً... وغضبًا.
وهاهي ذي الجيب السوداء تشق الطرقات وتنطلق غربًا نحو واحاتٍ لم تزرها في حياتها سوى مرة واحدة إلا أن بها كانت بداية قصتها وقصة أبيها وأختها وزوجها حتى أمها أصابها من تلك الواحة ما أصابها...! تسائلت في نفسها... أستسقط لعنة تلك الواحات على ابنها أيضًا...؟؟!! شعرت بغصة في حلقها وعاودها خوفها على صغيرها من نهاية تلك الرحلة... تلك الرحلة ذاتها التي خاضتها يومًا ما منذ ست سنوات لكن في سيارة عمها المرسيدس العتيقة ذهبية اللون... بصحبة تقى... كانت وقتها تحمل فقط حزنًا و... ترقبًا.
********
نهاية الجزء الأول

Just Faith 18-12-17 01:06 PM

الجزء الثاني
رحيــــــل الأوجــــــــاع
إن صدى ضحكاتنا يختفي بعد لحظات، لكن دماء جراحنا دائما ما تترك آثارها على خارطة الحياة و تسفر لنا عن وجهها بين ذكرى و أخرى و تباغتنا بين نسيان و آخر، فقط لتخبرنا أن رصيدنا من الألم لم ينتهي بعد.
آلاء محمود

اليهودي التائه
- 1 –
"مركز الواحات البحرية ومدينة الباويطي"
للمرة الثانية تواجهها تلك اللافتة المكتوبة بالأزرق على هاك البوابة ذات اللونين الأصفر والأبيض المزخرفة برسوم بدوية زرقاء. تدلف الشيروكي السوداء إلى الواحات ويختلج قلب نور في صدرها وكأنها عادت بالزمن ست سنوات إلى الوراء... إلى ذلك اليوم الحزين الذي رحلت فيه أمها وجاء عمها سليم بسيارته المرسيدس الذهبية التي احتلت حارتهم الصغيرة. عندما حاولت نور ذات التسع عشر ربيعًا وتقى التي كانت قد أتمت وقتها سبعة عشر عامًا لملمة كل ما استطاعتا حمله من أشياء هامة لكنهما لم تتمكنا من لملمة كل الذكريات التي يعبق البيت بها... كيف تلملما حياتهما في حقيبة..؟ كيف تجمعا أيام صباهما التي شهدت عليها جدران هذا المنزل مع أغلى مخلوقة عليهما في الوجود... أمهما...؟؟!!! لكنهما أدركتا أن ليس أمامهما حلاً آخر وأنه لابد وأن ينصاعا لرغبة أمهما الأخيرة التي نفذتها دون حتى الرجوع إليهما.
لاح في الأفق هاك المنزل الفسيح المكون من طابق واحد غير الأرضي والمحاط بزروع وأشجار ونخيلٍ باسقات فسرت في جسد نور قشعريرة باردة وذكرت أول مرة خطت فيها بهذا البيت وكأنها الأمس.
***
في ذلك اليوم البعيد من عام 2005 سارت نور متشبثة بأختها خلف عمهما الذي ترجل من السيارة المرسيدس صاعدًا تلك الدرجات المؤدية إلى منزلهم الكبير. فتح الشيخ سليم الباب وناداهما قائلاً:
- تعالوا يا بنات.. بيتكم ومطرحكم...
دلفتا إلى تلك الردهة الفسيحة التي تتناثر بها الأرائك والمقاعد الأرابيسك وطاولة كبيرة للطعام ويتوسطها سلم. على يمين الباب الكبير للبيت كانت تجلس امرأة مسنة ترتدي جلبابًا اسودًا وعلى رأسها شالاً من نفس اللون... على ذقنها وشمٌ أخضر وعلى ظهر يدها مزيد من نقوش الوشم... تستند إلى عصاها وتنظر نحوهما مضيقة عينيها.
- "إصباح الخير يا أم..."
قالها الشيخ سليم وهو ينحني على كف أمه مقبلاً إياه ثم التفت إلى نور وتقى قائلاً:
- تعالو يا بنات... هذي الچَدة حنة.. أم أبوكم الله يرحمه...
تقدمت نور نحو الجدة التي نهضت وأمسكت بكتفيها ناظرة إليها طويلاً ثم احتضنتها بقوة قائلة:
- الباقي الله يا بنيتي... والله صدق من قال... اللي خلف ماماتشي... كأني شايفة الغالي سليمان ...
قالت نور: - إزي حضرتك يا تيتة...
أفلتتها الجدة ثم احتضنت تقى التي قالت:
- إزيك يا تيتة... من زمان وأنا نفسي أشوف حضرتك...
تركتها الجدة متمتمة: - ونحنا من زمان نفسنا نجمعكوا تحت جناحنا... بس إيش نقول... الله يسامح اللي كان السبب..!
ضحك الشيخ سليم مغيرًا الموضوع وهو يقول:
- تعالو يا بنات... هيذا عمكم عتمان أبو طلال ومرته الست فاطمة أم طلال و هاذول ولاده طلال وبدر...
صافحت كل من نور وتقى عمهما الواقف على يمين الجدة مرتديًا جلبابًا واسعًا وطاقية بيضاء والذي رحب بهما في سعادة وزوجته الممتلئة القوام التي احتضنتهما مرحبة في حرارة وعندما مد طلال ابنه فارع الطول الذي يرتدي بدوره جلبابًا واسعًا يده إلى نور مسلمًا، خفضت عينيها قائلة:
- آسفة مابسلمش على رجالة...
أعاد طلال يده في غيظ بينما هتف بدر:
- أمنورين بنات عمي... منورين البحرية كلاتها...
قال الشيخ سليم: - هاذي عمتكم سنية يا بنات وولادها الدكتور ياسر وحسنا وياسين...
توجهت نور وخلفها تقى إلى تلك السيدة الطويلة ذات الملامح الحادة الواقفة يسار الجدة مرتدية جلبابًا أسود ووشاح أسود، سلمت نور عليها قائلة:
- إزي حضرتك يا عمتو...
شملتها سنية بنظرة متفحصة ثم قالت:
- زينة الحمد لله... أنتوا بقى... بنات... علا...؟
أومأت نور برأسها في إنكسار، بينما هتف الشيخ سليم:
- الله يرحمها ويرحم أخوي...
كانت حسناء تقريبًا في مثل عمر نور سلمت عليهما بسرعة ثم أنسلت سائرة بعيدًا بينما اكتفى الدكتور ياسر بالنظر أرضًا وهو يقول:
- البقاء لله لوفاة والدتكم... أهلا بيكم في بيتكم...
أما ياسين ذو الأثني عشر عامًا فكان يبدو أنه يعاني من شيء ما حيث كان يتحدث بصعوبة وبكلمات غير مترابطة ونظرات مشتتة.
- أما هاذي... الست نجاة أم زين... مرتي يا بنات وهاذول بناتي فاطمة الزهراء وزهوة...
قالها الشيخ سليم فاستدارت نور إلى امرأة سمراء ذات ملامح هادئة تكاد عينيها تنطقان باشتياق عجيب رغم أنها المرة الأولى التي تراهما بها، احتضنتهما نجاة طويلاً وهي تقول بصوت متهدج:
- رحمة الله على أمكم... والله زمااان... كان بدي أشوفها وأشوفكم... الله يبارك فيكم يا بنات...
بعد سلام زوجة عمهما الحار وحضنها الدافئ توجهت كل من نور وتقى للسلام على ابنتي عمهما، قالت نور: - أزيك يا فاطمة ...؟
ضحكت ابنة عمها قائلة: - لاااا... فاطمة دي تبقى مراة عمي عتمان... أنا هنا الكل بيناديني زهرة عشان اللخبطة بس... أنت نور مش كدة...؟ وأنا أقول إيه النور ده كله النهاردة... أتاريكي عندنا في البحرية..
كانت زهرة فتاة خمرية متوسطة الطول ذات ضحكة صافية تنير وجهها بأكمله، كانت ترتدي عبائة وحجاب عرفت نور فيما بعد أنها تكبرها بأربعة أعوام، ابتسمت نور قائلة:
- ده نور ضحكتك الحلوة يا زهرة... متشكرة أوي...
وسلمت زهرة على تقى قائلة: - أنت بقى أكيد تقى مش كدة...؟ لاااا ده أنت طويلة أوي... الواحد لازم يشب عشان يسلم عليكي...
ابتسمت تقى وهي تنحني نحوها قائلة: - لااا ... ولا تتعبي نفسك ... أنا أنزل لك ...
ثم سلمت نور وتقى على الصغيرة زهوة التي كانت في عمر تقى تقريبًا. وضع الشيخ سليم أحد ذراعيه على كتفي نور وأحاط بالأخر كتفي تقى قائلاً: - أنا عندي ولدين أكبر من زهرة... زين الكبير سافر البارحة شهر العسل مع مرته وزكريا بيشتغل في أمريكا..
ابتسمت نور بإرهاق قائلة: - ربنا يخليهم لك يا عمي...
قال الشيخ سليم: - أنتم لازمن تعبتوا من الطريق الطويل... أطلعوا الحين مطرحكم على ما الغدا يجهز..
ثم نادى على زينب التي أقبلت مهرولة قائلاً: - زينب... قولي لبهلول جوزك يطلع حاجة البنات وأطلعي وريهم مطرحهم ...
سارت كل من نور وتقى مع زينب صاعدين السلم إلى الدور العلوي، بينما قالت الجدة في حزم:
- سليم.. عتمان.. سنية... أبغاكم في موضوع... تعالوا على المندرة ..
وعندما دخلوا جميعهم إلى المندرة الفسيحة ... أغلق الشيخ سليم الباب ثم استدار إلى الجدة قائلاً:
- خير يا أم..؟
وقفت الجدة بقامتها الطويلة قائلة بحزم:
- البنات هاذول بنات المصراوية ... لازمن نربطهن بالأرض والبيت هذا وما نتركهن يطلبوا ورث ابوهن ويبيعوا أرضنا ويرحلوا ...
عقد الشيخ سليم حاجبيه محاولاً فهم ما ترمي إليه أمه بينما التمعت عينا سنية في انتصار وقد بدا أن ما قالته لأمها قد أتى ثماره... بينما قال عتمان وهو يهرش في رأسه بغير فهم:
- كيف يعني يا أم...؟
رفعت الجدة رأسها قائلة بحزم:
- كتب كتابهن على اتنين من ولادنا يكون السبوع الجاي...
قال الشيخ سليم معترضًا: - لكن يا أم... أمهم لساتها...
قاطعته بحزم: - الحي أبقى من الميت يا ساليم... نحنا ما بنرجع في حديتنا... اللي قولته يتنفذ...
هتفت سنية بانتصار: - معك حق يا أم... وكمان عشان يبقى ليهم رجالة يحكموهن الله أعلم بنات مصر هاذول أخلاقهن كيف... وأنا مستعدة يا أم أقدم أبني يتجوز الصغيرة...
قالت الجدة في حسم: - خلاص... والكبيرة نجوزها واحد تاني من ولادنا ونضمن أن لا بناتنا ولا أرضنا راح يخرجوا براتنا..
قالتها ثم نهضت راحلة وخلفها الشيخ سليم وأخيه عتمان وقد تملكهما الدهشة بينما أطلت سنية من باب المندرة هاتفة:
- ياسر... تعال يا داكتور أبغى أتحدت معك...
أقبل ياسر ومعه شقيقه ياسين بينما ظهرت حسناء من أحد الأركان وهرولت مع شقيقيها حيث أمها ودخلت مغلقة الباب خلفها.
- شوف يا وليدي... أنا خلاص لاقيت لك عروس....
قالتها سنية لابنها في حسم... عدل ياسر منظاره الطبي على عينيه وهو يقول باستنكار:
- عروس..؟ مين دي يا أمي...؟ ومين قالك إني بادور على عروسة أصلا..؟
قالت أمه بحزم: - لساتك شايفها يا وليدي... بت عمك سليمان...
هتف ياسر مستنكرا:
- أنا ما شوفتش حد يا أمي... وبعدين أنا مابفكرش في الجواز دلوقتي لسة ورايا ماجستير و...
قاطعته حسناء باستمتاع: - مين فيهم يا أمي...؟
نظر شقيقها إليها في غيظ، بينما قالت سنية:
- أنا قلت الصغيرة عشان يبقى سهل نشكلها كيف ما بدنا...
هتف ياسر ممتعضًا:
- نشكلها..؟ إيه الكلام ده يا أمي...؟ وبعدين دي عيلة وأنا مش في دماغي الجواز دلوقتي خالص...
هتفت سنية: - خلاص يا داكتور... مابقاش عاجبك كلام أمك...!
قال ياسر في أدب: - حاشَا لله يا أمي... مش قصدي والله أنا آسف...
هتفت أمه مرة أخرى: - يبقى تنفذ اللي قلت لك عليه ...
قال ياسر برجاء:
- إزاي يا ماما عايزة تجوزيني واحدة ماعرفهاش... وأنت نفسك ياما اتكلمتي على أمها أنها...
قاطعته: - الحين الأمر مختلف... المصلحة تغلب يا وليدي... وعشان اكده قلت ناخد الصغيرة نربيها من جديد لو تربيتها مايلة...
قال ياسر في غير فهم: - مصلحة ايه اللي تغلب...؟
هتفت حسناء: - ورث عمك سليمان يا ياسر...
اشتعلت عينا ياسر غضبًا وهو يقول:
- يعني كل ده يا أمي عشان فلوس واللا أرض...؟ يا أمي إحنا عندنا اللي مكفينا وزيادة الحمد لله... بلاش تغصبي ابنك على حاجة مش قابلها وتظلمي معايا البنت المسكينة دي و...
هتفت أمه في حدة: - إيش تبغى تقول يا داكتور يا محترم..؟ تبغى تقول أن أمك طماعة...؟ على فكرة بقى... ده أمر من الجدة ولازمن اتنفذه ولو رفضت لا أنت ابني ولا اعرفك وهاغضب عليك ليوم الدين... وأنت سيد العارفين يا داكتور لو غضبت كيف راح يكون مصيري بقلبي الضعيف هاد...
قالتها ثم رحلت متأوهة ممسكة بقلبها، فرحل ياسر بدوره هادرًا وعندما تأكدت حسناء من عدم وجود أحد بقربها أخرجت من جيب جلبابها هاتف جوال همست به:
- سمعت طبعًا كل حاجة... تعرف يا حبيبي... أحنا من رجعنا من فرح أخوك وأحنا ماعرفينش ننام... ومن ساعة ما الجدة حكت الموضوع لأمي وهيا بتخطط وبعدين كلمت الجدة وأهي لسة مكلمة ياسر... والله أنا فرحانة فيه فرحة... هايتدبس في جوازة وهايحل عني...
قالتها ثم ضحكت بميوعة قائلة: - زكريا... زكريا وينك...؟؟ متى بقى ترجع يا حبيبي ونتجوز أحنا كمان... أني أهه حايشة التلفون اللي عطيتهولي وباقول لك كل حاجة أول بأول... مبسوط حبيبي..؟
لم ترى حسناء عبر الأثير التماعة عيني زكريا الذي قال بنشوة:
- ألا مبسوط... ده أنا هاطير من الفرحة... ياللا أقفلي دلوقتي عشان عندي مكالمة مهمة جدًا....
أغلق زكريا الهاتف بسرعة دون أن ينتظر منها ردًا ودفع تلك الشقراء التي كانت بين يديه فهتفت:
- ماذا هناك...؟
وضع زكريا قميصه على جذعه العار قائلاً بالإنجليزية:
- سأجري مكالمة هامة ثم أعود سريعًا...
ووقف أمام نافذة زجاجية ضخمة وهو يطلب رقم أبيه... الشيخ سليم رحيل العربي.
***
"يا هلا ومرحبا يا هلا ومرحبا بالست نور.."
هتفت زينب مستقبلة نور على باب بيت آل رحيل، رفعت نور صغيرها عيسى جيدًا على كتفها وهي تسلم على زينب بينما هرول بهلول لينزل حقائب نور مدخلاً إياها بالبيت الكبير ثم رحل فانطلق زين مبتعدًا دونما أي كلمة. وقفت نور خائفة مترددة تتسائل... ترى ماذا يخبئ لها هذا البيت بعد..؟ إنها مازالت تدور في دوامة قاتلة منذ أن وطأته أول مرة..! ظلت واقفة مكانها قليلاً حتى رأت باب البيت الكبير ينفتح و... تخرج منه... إنها هي... نعم... مازالت تمتلك ملامحها الجميلة التي تركتها بها منذ ست سنوات كاملات إلا أن تلك النظرة المشاغبة اختفت من عينيها وحل محلها نظرة هادئة رزينة، بينما امتلأ جسدها النحيف وتدور وصارت امرأة كاملة الأنوثة، لكنها لازالت كما هي في اندفاع مشاعرها... حيث هرولت نحوها بسرعة... بشوق السنين الجارف.... لا تدري ماذا تخبرها سوى أن احتضنتها بشدة هاتفة وسط دموعها:
- نور .... نور ... نور ... أنا مش مصدقة أني شايفاكي قدامي .... ماتتخيليش قد إيه كنت هاتجنن عليكي ...
كانت نور قد أنزلت عيسى من بين ذراعيها وارتمت بين ذراعي شقيقتها محتضنة إياها وهي تقول في لهفة:
- وحشتيني يا عصفورتي الحارسة... وحشتيني يا توتة يا جميلة... وحشتيني قوي...
ظلتا متعانقتين تبكيان لفترة ليست بقصيرة حتى هتف عيسى: - مـ... ماما ...أ..أ.. أنا تعبت..
وكأنها تلحظ وجوده لأول مرة، انحنت إليه تقى وهي تقول في غير تصدق:
- ده عيسى يا نور...؟
قالت نور: - آه يا حبيبتي... هوا ده بقى عيسى... مش كنت بابعت لك صوره عالنت...
هتفت تقى وهي تحمله:
- لا... هوا في الواقع أحلى كتير... قمر اللهم بارك يا عيسى... فعلا زي ما قلت لك... فيه شبه كبير من ماما الله يرحمها...
قالتها ثم جذبت تقى من يدها قائلة: - تعالي ندخل ياللا ....
سارتا جنبًا إلى جنب نحو الباب الكبير وتقى تكمل حديثها:
- أنا قلت أنتوا مش هاتوصلوا قبل الساعة اتنين.. رغم كدة كنت كل شوية أبص من البلكونة وأدخل... لحد ما شفتك وماصدقتش عنيا...
كان البيت يغمره السكون من الداخل نفس الأثاث الذي رأيتاه منذ ست أعوام إلا أنه لم يكن هنالك سوى الجدة التي بدى الكبر عليها أكثر... تجلس في مقعدها الأثير ممسكة بمسبحتها. توجهت إليها نور.. قالت وهي تنحني عليها: - إزي حضرتك يا تيتة ...
لم تفقد بعد نظراتها الصارمة... احتضنتها رابتة على كتفها بيد مرتعشة وهي تقول:
- حمدًا لله على السلامة يا بنيتي...
أبتسمت رغمًا عنها وهي تقول: - الله يسلم حضرتك...
هنا همست تقى لأختها قائلة: - هاروح أقول لطنط نجاة أنكوا رجعتوا... دي مستنياكوا من بدري هيا وعمي سليم بس عمي جاله ناس وقاعد معاهم في أوضة المكتب... هانادي طنط نجاة...
وما هي إلا لحظات حتى أقبلت نجاة مهرولة بينما كانت الجدة تحتضن عيسى قائلة:
- ولدك جميل يا بت ولدي... هيذا هو عيسى...؟
أومأت نور قائلة: - أيوة يا تيتة ...
هنا هتفت نجاة بشوق وحب بالغ: - نووور... عيسى ..
قالتها ثم احتضنت نور بحرارة كعادتها وأخذت تبكي متمتة:
- مات من غير ما اشوفه... ولدي مات من غير ما اشوفه...
قالت لها نور بخفوت: - أدعي له حضرتك... هوا محتاج دلوقتي لدعائك أكتر...
أنحنت نجاة على عيسى قائلة: - يا ولد ولدي يا غالي...
وأخذت تقبله وتحتضنه في جنون وهو ينظر إليهم في دهشة فقالت له نور:
- دي يا حبيبي جدتك... مامة بابا...
هز عيسى رأسه في غير اكتراث ثم ألتصق برجل أمه وقد فاجئه كل هاك النسوة اللائي يحتضنه ويردن لو يطرن به من على الأرض. هنا قالت تقى:
- بعد إذن حضرتك يا چدة بعد إذن حضرتك يا طنط نجاة... هاخلي نور تطلع أوضتها هيا وعيسى يستريحوا ...
أومأت لها الجدة موافقة بينما قالت نجاة: - ولو إني لساتني ما شبعت من ولد ولدي... لكن روحي يا بنيتي شكلك تعبانة من السفر الطويل انت وولدك... ريحي شوي ونشوفكوا بعد ما ترتاحوا...
أومأت نور لها في صمت ثم تبعت شقيقتها إلى غرفتها. همست لها تقى ضاحكة وهما تصعدان السلم:
- لسة بتقولي تيتة... اتعلمي بقى... اسمها الچدة... ههههه
أكتفت نور بابتسامة صغيرة وهي تصل إلى الغرفة... نعم هي نفس الغرفة التي شاركت تقى بها منذ ست سنوات... هي ذات النافذة المطلة على الحديقة والتي تعانقها شجرة البرتقال باعثة رائحة جميلة بداخل الحجرة. هما ذات الفراشين الذي جلس عمها سليم على أحدهما في ذلك اليوم و....
*******
"كيفكم اليوم يا بنات...؟"
سألهما الشيخ سليم بتردد في صباح اليوم التالي لمجيئهما... كان ممسكًا جواله بيد ويبدو على محياه أن لديه الكثير ليقوله...
تمطت تقى وهي تقول ولازال أثر النعاس عليها: - ياااااه يا عمو... هدوووء... أحلى حاجة هنا الهدوء... أول مرة أنام بعمق كدة ..
قال الشيخ سليم: - نوم العافية يا بنيتي...
ثم فتح فمه ليقول شيء ما إلا أنه تراجع. فقالت نور تستحثه على الحديث:
- عمو... هوا... فيه حاجة حضرتك عايز تقولها...؟
نظر إليها نظرات مشفقة ثم حسم أمره قائلاً: - آه يا بت أخوي... الچدة قررت موضوع كدة يخصكوا...
هتفت تقى بمرح: - موضوع إيه ده ...؟ ده أحنا لسة...
أشارت إليها نور وقد أدركت من تقاسيم وجه عمها أن الموضوع لا يحتمل المرح وقالت بجدية:
- أتفضل حضرتك قول... موضوع إيه..؟
أخذ الشيخ سليم نفسًا عميقًا قبل أن يجيب:
- أنت واختك اتخطبتوا والجدة وافقت وكتب كتابكم يوم التلاتا القادم...
كانت نور تميل نحوه في أهتمام... إلا أنه بمجرد ما تفوه بتلك الكلمات... أرجعت رأسها إلى الخلف في فزع وكأنه كان يلقي عليها حجارة من سجيل، بينما هتفت تقى في غير تصديق:
- بتهزر يا عمي صح...؟
أطرق برأسه قائلاً: - الدكتور ياسر خطبك يا تقى وولدي زكريا كل يوم يتصل يبغى يتزوجك في أقرب فرصة يا نور... المواضيع هذي ما فيها هزار...
هتفت تقى بأندفاع: - إيه الكلام الفارغ ده...؟ إزاي يعني...؟ إزاي واحد لسة شايفاه امبارح يخطبني وواحد ماشافش نور خالص عايز يتجوزها خبط لزق كدة...
رفع الشيخ سليم رأسه إلى تقى في غضب بينما نظرت لها نور وهي تقول موبخة:
- أسكتي يا تقى عيب كدة..
ثم استدارت إلى عمها قائلة: - إحنا آسفين يا عمو معلش امسحها فيا...
قال الشيخ سليم وهو ينهض: - ماشي يا بت أخوي... خلاص... جهزوا نفسيكوا عشان كتب الكتاب...
قالت نور بهدوء: - معلش يا عمو... بس إحنا أمنا لسة متوفاه مابلقهاش كام يوم ده غير أن أنا عندي جامعة وتقى لسة صغيرة... إزاي يعني نتجوز دلوقتي...؟ ثم يا عمي... إزاي نتجوز شخص لا قابلناه ولا قعدنا معاه ولا أتكلمنا معاه...؟
قال الشيخ سليم وقد اتسعت عيناه: - قعدتوا مع مين واتكلمتوا مع مين...؟ عيب يا بت أخوي...
ابتسمت نور محاولة التغلب على توترها علَّها تقنع عمها الذي شعرت أن به من العقل والحكمة أكثر من كل من رأتهم هنا ببيت آل رحيل، ثم قالت له:
- أحنا ما بناخدش بالعيب واللي مايصحش طالما ده حق أصيل من حقوقنا في الشرع يا عمي... الزواج ده حاجة كبيرة أوي وعشرة هاتدوم العمر كله... عشان كدة ربنا أدى للراجل والست حق إنهم يقعدوا مع بعض قبل الزواج... حضرتك فيه صحابي من الصحابة على أيام الرسول صلى الله عليه وسلم كان خطب امرأة... فسأله النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان نظر إليها واللا لأ فقال له أنه لم ينظر إليها... عارف النبي صلى الله عليه وسلم قاله إيه...؟ قال له (أنظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) يعني يروح ويقعد معاها عشان يُوفق ويؤلف بينهم ....
غشت وجه الشيخ سليم غمامة من الهم ثم قال بعد زفرة طويلة:
- شوفي يا بنيتي... هيذا أمر الجدة وما في حدا يقدر يخالفه واصل...
عقدت نور حاجبيها وخفق قلبها بعنف وكادت تبكي وهي تقول:
- إزاي يعني...؟ إزاي الجدة تجبرنا عالجواز كدة ..؟ عشان إحنا يتامى ولا أم ولا أب...؟ ده ما يرضيش ربنا والله... الرسول عليه الصلاة والسلام قالها ووصى بيها أولياء اليتامى... يا عمي الرسول صلى الله عليه وسلم قال ( تُستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها ) ...
كان الشيخ سليم قد نهض بالفعل، فسار خارجًا من الغرفة وهو يقول:
- عليه أفضل الصلاة والسلام، معلش يا بنات... راح تعرفوا بعدين إن هيذا لصالحكوا..
كان قد خرج وأغلق الباب خلفه فهرعت تقى إلى أختها هاتفة وقد غلبها البكاء بدورها:
- نور... هانعمل إيه...؟ أنا إستحالة اتجوز بالطريقة دي...!!! وبعدين جواز...؟؟ جواز إيه ده...؟ أنا ...
إلا أن نور كانت وكأنها لا تسمع لها... نهضت متوجهة إلى النافذة حيث شجرة البرتقال التي تتمايل أغصانها مع نسمات الهواء... كانت أدمعها تنساب على وجنتيها في صمت... ما أكثر المطارق التي لازالت تهوي على قلبها منذ عدة أيام... يتركها رجل ظنت أنها تحبه... ثم ترحل أمها... ثم يأتي رجل لا تدري عنه شيئًا يصر على الزواج منها بين ليلة وضحاها...!!! تسائل قلبها في يأس... "أأصدرت أخيرًا الحياة حكمها النهائي عليها بالشقاء..!!" أجاب عقلها "وما تلك الحياة الدنيا يا صغيرتي إلا دار ابتلاء وتعب.."
- نور... أنا باكلمك... ممكن تردي عليا...؟؟
هتفت تقى في حدة، فأستدرات إليها نور وقد أغرقت الدموع وجهها... دموع نور النادرة كحبات الؤلؤ التي لم ترها تقى سوى مرات معدودة جعلت شقيقتها تلين في حديثها إلى حدٍ ما وهي تقول:
- حبيبتي عايزين نفكر هانخرج إزاي من الورطة دي...؟
حركت نور يديها في حيرة ثم قالت بيأس: - مش عارفة...!!! يظهر أن ده قدرنا....!
هتفت تقى: - لأ... قدرنا إيه ...؟ دي مصيبة أو هلاك هانقع فيه... ماينفعش نبقى شايفين حفرة قدامنا ونسيب نفسنا نقع فيها ونقول قدرنا...
نور: - وممكن الحفرة دي تبقى باب لشيء من السعادة الله أعلم...
تقى بعند: - لا... إستحالة... الكتاب بيبان من عنوانه... أحنا قدامنا حفرة عايزين يدفنونا فيها بالحيا يا نور... لازم نهرب...
أشارت نور من النافذة قائلة بحدة: - نهرب فين وإزاي...؟ أنت مش شايفة إحنا فين...؟ إحنا في وسط الصحرا يا تقى...!
قالت تقى وهي تفتح حقيبة السفر التي كانت تحوي أشيائها أمس:
- حتى لو كنا فين... لازم نخرج من البيت ده ناخد أي عربية ونرجع بيتنا القديم كأننا لا قابلنا عمنا ده ولا شوفناه...!
أمسكت نور يدها لتوقفها قائلة: - أهدي يا تقى وفكري كويس... إحنا كل الفلوس اللي لاقيناها في البيت أول عن آخر بعد ما رجعنا من المستشفى هما 300 جنيه ودول اللي معانا... هانركب بيهم واللا هناكل بيهم واللا هانكمل دراستنا بيهم...؟
أزاحت تقى يد نور من على ذراعها وبدأت في وضع ملابسها في الحقيبة قائلة:
- نشتغل يا نور... نشتغل ونذاكر... أحنا مش هانغلب...
قالت نور في مرارة: - نشتغل إيه بس...؟ وهما الناس هايسيبونا في حالنا...؟ إذا كنا وماما موجودة كان بيوصلنا شيء من أذاهم أمال أما نبقى بنتين لوحدنا...!!! تقدري إزاي تجزمي إن أحنا برضه لو هربنا من هنا ممكن نقع مش في حفرة بس... ممكن نقع في نار موقدة نتعذب فيها...!! مش يمكن الجواز اللي إحنا رافضينه هنا يجي وأحنا لوحدنا اللي يفرض علينا حاجات من غير جواز ويبهدلنا...؟ على الأقل هنا هانتجوز ابن عمنا وابن عمتنا.... لكن لو بقينا لوحدنا الله أعلم مين اللي هايحاول ينهش فينا أو يستغلنا مقابل قرشين...
هتفت تقى بذعر: - إيه الكلام ده يا نور...؟ لأ طبعا أنت متشائمة ليه كدة...؟ أكيد هنلاقي ناس كويسين يساعدونا.... أحنا مش في غابة...!
أغمضت نور عينيها بقوة وهي تقول:
- لأ بقت غابة يا تقى... غابة والكل بينهش في التاني بدون رحمة..!
صاحت تقى: - فين حلمك الكبير أنك تبقى دكتورة...؟ نور... مش عشان محمود سابك تبقى الدنيا كلها وحشة... لأ.. أنت ماشوفتيش الدكتورة هالة ساعدت ماما في تعبها قد إيه..؟ ماشوفتيش الناس اللي صلوا عليها قد إيه...؟
لم تدرك تقى مدى قسوة كلماتها إلا بعد أن فتحت نور عينيها ونظرت إليها بإنكسار وهي تقول:
- الموضوع مالوش دعوة بمحمود يا تقى... هيا دي الحقيقة... أحنا لو خرجنا من هنا هانبقى لوحدنا تمامًا... الدكتورة هالة الوحيدة اللي وقفت جنبنا برضه حالها على قده ولو ساعدتنا هاتبقى صدقات بسيطة... أما الناس اللي صلوا على ماما وسمعناهم وهما بيدعولها... فأغلبهم المساكين اللي كانت أمي مابتنساهمش من الصدقات رغم ضيق حالنا...! الله يرحمها ويكتب أجرها...
جلست تقى على فراشها في يأس واضعة يدها أسفل ذقنها وقلبها يختلج بين أضلعها بشدة كعصفور طليق وُضع بقفص ضيق فصار يرفرف لافظًا أنفاس حريته الأخيرة. إلا أنها بعد عدة دقائق... نهضت باسمة وهي تهتف بإنتصار وعينيها تلتمعان جذلاً: - لاقيتها...!
*******

Just Faith 18-12-17 01:07 PM

- 2 -
"لازمن تتفضل معانا يا شيخ مناع... مايصوحش إكده أنتم بيت كرم برضه.."
سمعت نور عمها سليم يصيح بضيفه الذي خرج لتوه من غرفة المكتب وخلفه الشيخ سليم، بينما كانت نور تحمل عيسى وتهبط درج البيت عقب إعلامها بأن الغداء مُعد.
- "مرة تانية يا شيخ ساليم... إن شا الله أما نيجي انبارك لك..."
قالها ضيف عمها ذو الصوت الجهوري متجهًا إلى الباب، فضحك الشيخ سليم ثم قال:
- يبقى هانشوفك تاني قريب قوي يا مناع...
أستدار الشيخ مناع بقامته الطويلة ليواجه الشيخ سليم فرأت نور جانب وجهه بشاربه الكث وسمعته يقول لعمها بثبات:
- الله العالم يا ساليم... ماتبقاش متأكد قوي اكده... ياما الأيام بتفاجئنا وكلام الناس مابيخلوصش...
قالها الشيخ مناع ثم نظر حيث تقف نور فجأة، فأرتبكت نور وأسرعت إلى المطبخ وهي لا تدري لماذا أرعبتها نظرات هذا الرجل الثاقبة. كان كلٍ من تقى وزهرة تقفان بالمطبخ مع نجاة زوجة عمها سليم وعمتها سنية وفاطمة زوجة عمها عتمان بينما كانت زينب تتابع أوامر سنية في إعداد الطعام.
"نووور... حمدا لله على سلامتك حبيبتي.."
هتفت زهرة ابنة عمها سليم وقد لحظت وقوف نور على باب المطبخ، استدارت عمتها نحوها ثم اقتربت قائلة:
- حمدًا لله على سلامتك يا بت أخوي...
كانت زهرة مرحة كعادتها، ونظرات عمتها ونبرة صوتها حادين كعادتها... وأقبلت فاطمة زوجة عمها عتمان بوجهها الممتلئ الباسم قائلة: - يا مرحبا بيكي يا بتي...
وكانت فاطمة باسمة كعادتها، ابتسمت نور قائلة: - الله يسلمكم...
حملت زهرة عيسى قائلة:
- ده بقى اللي هاينولني لقب عمتو...؟ أنا لسة واخدة لقب خالتو قريب...
ابتسمت نور في هدوء قائلة: - أيوة هوا ده اللي هايقولك يا عمتو... هيا زهوة أتجوزت واللا إيه...
أقبلت نجاة وقالت وهي تداعب عيسى الذي تحمله ابنتها:
- اااه... اتجوزت ومعاها حسن...
قالت نور: – عقبى لك يا زهرة ...
ضحكت زهرة قائلة: - لاااا أنا كفاية عليا عيالكوا...
قالتها ثم استدارت إلى أمها قائلة: - ماما... تعرفي... عيسى فيه شبه كبير من زين وهوا صغير... حواجبه والغمازة الوحيدة الطويلة على خده الشمال وغمازة دقنه ورسمة عيونه...
هتفت تقى: - لأ يا زهورة... عيسى فيه من أمي الله يرحمها كتير أوي... نفس لون بشرتها وشعرها الأسود الناعم ولون عنيها العسلي...
لوت سنية فمها وهتفت بزينب التي وقفت تتابع الحديث بشغف:
- أتحركي يا بت يا زينب روحي حطي الوكل برة... الجدة والشيخ سليم وعتمان أخوي مستنظرين...
أما نجاة فقد تناولت عيسى وأحتضنته هاتفة: - كفاياك أنت وهيا... بزيادة تمقيق في ولد ولدي الغالي...
قالتها وأغرورقت عينيها بالدموع وهي تحتضن عيسى متذكرة أباه الراحل. وعندما تململ عيسى محاولاً أن يحرر نفسه من بين ذراعيها ناولته لأمه قائلة: - خدي ولدك يا بتي وروحي أقعدي مع الجدة وعمامك... أنت لساتك واصلة من السفر تعبانة...
تناولت نور عيسى الذي سار بجوارها ممسكًا يدها بشدة وكأنه يخاف أن يأخذه منها شخص آخر حتى رآها الشيخ سليم الذي كان عائدًا لتوه من توديع ضيفه... فنقل نظره بينها وبين عيسى غير مصدق ثم أخذها بين ذراعيه وهو يقول: - حمدًا لله على سلامتك يا بتي... حمدا لله على سلامتك يا أم عيسى..
ابتسمت نور قائلة: - الله يسلمك يا عمي...
حمل الشيخ سليم عيسى وأخذ يتأمل ملامحه التي وكأنها رفضت أن تشي له بشيء من ابنه الراحل، إلا أنه احتضنه في حب وسار مع نور إلى المائدة التي ترؤسها الجدة وعلى يسارها ابنها عتمان فجلس الشيخ سليم في مواجهة أمه من الناحية الأخرى للمائدة وأجلس عيسى على رجليه، لتجلس نور على يساره.
تأملت نور المائدة الطويلة ناظرة إلى الجدة التي ازداد وجهها تغضنًا إلا أن عينيها لازالتا تحتفظان بنظراتهما القوية اللامعة.... نفس النظرات التي شملتها بها طويلاً قبل أن تفجر في وجهها تلك المفاجئة ذلك اليوم البعيد.
*******
كان المساء قد حل... وبعد نقاش طويل... قررت نور تنفيذ فكرة تقى علَّها تكون منقذتهما من حياة وحيدة محفوفة بالمخاطر أو زيجة عمياء لا تدري كيف تم التخطيط لها. وقفت مع شقيقتها على باب الجدة هامسة: - خليني أنا اللي اتكلم ماشي..؟
أومأت تقى موافقة فطرقت نور على باب غرفة الجدة ثم دخلت بعد أن سمعت الإذن بالدخول. كانت الجدة قد أنهت صلاة العشاء لتوها وأمسكت بمسبحتها الخشبية تسبح عليها.
- سلام عليكم يا تيتة... إزي حضرتك...
قالتها نور بينما التزمت تقى السكون حيث كانت ممتلئة غيظًا من تلك العجوز التي تريد أن تأمر فيُطاع أمرها بغض النظر عن أي شيء.
- أنا زينة الحمد لله... كيفكن انتم يا عرايس...؟
عضت تقى على شفتيها وضمت قبضتها في غيظ شديد بينما قالت نور باسمة:
- أحنا كنا جايين نسأل حضرتك على حاجة كدة ..
الجدة: - أسألي يا بت الغالي...
تنحنحت نور قائلة: - أحم... تيتة.. حضرتك عارفة إن أحنا عيشنا حياة بسيطة وطول عمرنا كنا بنسأل عنكوا... وماكوناش عارفين ليه أحنا بعاد عن بعض أو مش لاقيين بعض كدة... بغض النظر عن أي حاجة حصلت في الماضي أو أي مشاكل... فأحنا بنات أبنك الغالي زي ما انت لسة قايلة... أنا اتوقعت أنك أول ما هتشوفينا هاتخدينا في حضنك ومش هاتسيبينا و.... هاتعوضينا عن اللي فات...
أزداد انعقاد حاجبي الجدة حنة وضيقت عينيها وكأنها تسبر أغوار نور... وكأنها تقريبًا فهمت ما ترمي إليه حفيدتها إلا أنها قالت: - وهيذا هوا اللي حوصل.. !! واللا إيش ..؟؟
أزدردت نور لعابها وحاولت السيطرة على ارتعاشة يدها وجمع قواها وهي تقول بسرعة:
- لا يا تيتة... حضرتك أنا قصدي... كنا عايزين الأول ناخد نصيبنا من ورث بابا قبل ما نتكلم في أي جواز أو عرس...!
تأملتها الجدة طويلاً قبل أن تنهض بقامتها الفارعة النحيفة متجهة إلى النافذة.. نظرت منها في صمت قليلاً ثم عادت تنظر إلى نور وتقى قبل أن تقول بتمهل:
- أبوكم... ما له ورث...
هتفت تقى: - إزاي يعني...؟؟؟
وكزتها نور بكوعها لتصمت ثم قالت بهدوء: - إزاي مالوش ورث حضرتك...؟
زفرت الجدة قبل أن تقول: - مادامكوا فتحتوا اللي فات... راح أقول لكم... يوم ما جه أبوكم يتجوز أمكم.. ماكنت راضية أبدًا عن الجوازة هاذي... وشرطت عليه أنه يتنازل عن ورثه لو مصر أنه يتمم الجوازة فكتب لي ورقة أنه متنازل لي عن كل ورثه من الشيخ رحيل...
أتسعت عينا تقى وهي تقول: - إيييه...؟؟؟ إزاي ...؟ إزاي حد ممكن يتنازل عن حقه كدة...؟؟ فين الورقة دي ...؟
وكزتها نور مرة أخرى بقوة ثم قالت: - لـ ... لأ.. تقى مش قصدها تكذب حضرتك واللا حاجة... هيا بس متفاجئة..
توجهت الجدة إلى الكومود على يمين فراشها الخشبي الكبير ذو الأعمدة وفتحت درج ما مخرجة ورقة مطوية وهي تقول: - هذي الورقة كتبها أبوكم بخط يده وهوا قاعد معي في الأوضة هيذي من أكتر من عشرين سنة ولساتها مكانها... ما خرجت من مكانها...
قالتها وهي تناولهما ورقة مصفرة إلى حد مان فألتقطتها تقى من يدها ومرت على سطورها بعينين ذاهلتين ثم أعطتها لنور هاتفة: - وأحنا إزاي نصدق بقى أن الورقة دي حقيقية...؟؟
دفعتها نور إلى الخارج وهي تضع الورقة على الفراش قائلة:
- مـ... معلش يا تيتة... إحنا آسفين على إزعاج حضرتك... تصبحي على خير... عن إذنك...
خرجت نور بعد أن أخرجت تقى وأغلقت الباب خلفها، لم تر أيًا منهما الجدة حنة وقد غشى وجهها حزن عميق وهي تمسك بالورقة التي وضعتها نور على الفراش والتي تذكرها بقسوتها على أصغر ابنائها منذ زمن طويل ورحيله بعدها بعدة أعوام. رفعت الجدة يديها و... مزقت الورقة لتتحول إلى قطع كثيرة صغيرة انسابت من بين أصابعها المتغضنة إلى سلة المهملات بالغرفة.
******
وجاء الثلاثاء الموعود بسرعة... قضت نور وتقى الأيام حتى مجيئه بين شدٍ وجذب... تحاول تقى الرجوع لفكرة الهرب مرة أخرى بينما تقنعها نور بالتسليم باستسلامها اليائس. كانت نور تشعر أن عمها سليم يتحاشاهما مما يدل على أنه أيضًا غير راضٍ عما يجري، أما نجاة زوجته فكانت تحاول أن تتصنع الفرحة بزواج ابنها دون وجوده..! لقد أرسل زكريا توكيلاً لأبيه كي يزوجه من ابنة عمه ويرسلها إليه في أول طائرة..! أما عمتهما سنية فكانت تشرف على إعداد كل شيء لإتمام طقوس العرس الواحاتي الأصيل حيث قررت أن تجعل فرحتها فرحتان رغم كل شيء.
كانت كل من نور وتقى تظنان أن الحزن يسكن غرفتيهما فقط... لم يعلما أن ثمة غرفتان آخرتان بمنزل آل رحيل الكبير قد عشش الحزن على إحداها أما الغرفة الأخرى التي تجاور غرفتهما تمامًا... يكاد الغضب ينفجر منها.
"والله لاوريك يا زكريا... أنا اللي غلطانة... أنا اللي قدمت لك السكين اللي تطعني بيها على طبق من فضة.... أنا اللي قولت لك على بنات عمك اللي نزلوا علينا كيف القضا المستعجل..."
كانت حسناء تصيح في حدة بهاتفها لزكريا الذي قال لها:
- بطلي هبل يا حسناء... قلت لك ميت مرة أن جوازتي منها مش هاتستمر... أول ما أخليها تعملي توكيل عام هاطلب ورثها من عمي سليم وأبيعه لنفسي وبعدين نتجوز براحتنا بقى يا قمر...
هتفت حسناء باكية: - لا يا شيخ... بيخيل عليا أنا الكلام ده...
قال زكريا بنفاذ صبر: - لازم تتأكدي من كلامي يا حسناء لأني لا شفت البت دي اللي هايجوزوهالي النهاردة ولا أعرفها، أنا كل اللي عاوزه ورث عمي سليمان اللي هايوصل لملايين... الحياة غالية أوي في أمريكا ولازم اللي عايز يعيش صح يبقى معاه فلوس زي الرز...
قالت باكية: - طب وأنا أعمل إيه في أمي اللي قررت توافق على خطوبتي من طلال...؟ بتقولي طلال ابن عمي عتمان متكلم عليا من زمان وعايزني...؟ وأنا عارفة كدة كويس وقلت لك يا ابن خالي أن نظراته ليا ماباحبهاشي...
قال زكريا ببساطة: - أرفضيه يا حسناء وماتوجعيش دماغي...
صاحت: - منا جيت أرفضه أمي مسكت قلبها وقالت لي أن أخويا الراجل سمع كلامها وهاجي أنا أسببلها أزمة تاني...! ومعلش يا ابن خالي كنت فاكراك بتحبني ماكنتش أعرف أني باوجع لك دماغك...
زفر زكريا بملل ثم ابتسم في مداهنة وهو يقول:
- والله باحبك يا قمر ومش قصدي خالص.. وبعدين ماكنتش أزمة قلبية اللي جت لعمتي دي وخليتها تمشيكوا على مزاجها..! المهم هاوديها وأهي خطوبة يا سنسن مش جواز لحد ما أقشط ورث عمي سليمان ونتمرغ سوا في العز... ماشي يا حبي...؟ ياللا بقى سلام عشان عندي شغل كتير...
أغلق الهاتف وألقاه كيفما أتفق ثم استدار إلى الأريكة الموجودة خلفه وقد اتسعت ابتسامته وهو يقول بمرح لتلك الشقراء المستلقية عليها: - شغل كتير أوي... أوي... مش كدة يا مزة..؟
تعالت ضحكات الشقراء التي خمنت فحوى كلامه بالعربية وهو مقبلٌ عليها.
*******
لولا الجرح العميق الذي تسببت به تلك العائلة لها، لكانت نور سعيدة وهي تشعر بدفئ عائلتها الملتفة حولها على مائدة الغداء يتبادلون الحديث والمزاح... لكانت في قمة سعادتها وهي ترى ابنها كالملك المتوج الكل يحاول حمله ومداعبته وهو يجلس على رجلي جده مستكينًا.
- "وينهم زين وحسنا يا ولاد...؟"
تسائل الشيخ سليم، فأجابته زهرة وهي تغرف بعض الطعام بطبقها:
- زين كان راح يبص عالمزرعة وجاي في الطريق، وحسناء زي ما انت عارف يا بابا... نايمة وتعبانة...
ألتفت الشيخ سليم إلى طلال قائلاً: - إيش بها حسنا...؟
قال طلال وقد امتلأ فمه بالطعام: - العادي يا عمي ما تشغل بالك..
الجدة... عمها عتمان وبجواره امرأته... عمتها... ثم نجاة زوجة عمها... عمها سليم... طلال.. ياسين... تقى... زهرة... ثم ...
"سلام عليكم ..."
قالها زين الذي كان قد عاد لتوه ووقف بجوار مقعد أبيه الذي قال له:
- وعليكم السلام... حمدا لله على السلامة يا باشمهندس...
ضحكت زهرة قائلة: - خلاص يا زين بقى مالكش مكان... نور أخدت مكانك...
توترت نور وهمت أن تنهض، إلا أن نجاة هتفت:
- كفاياكي عاد يا زهرة الكراسي كتير والحمد لله تعال يا ابني اقعد حدي....
جلس زين على يمين الشيخ سليم ليصبح في مواجهة نور. ملأت أمه له طبقه قائلة:
- خد يا ولدي أنت راجع من السفر تعبان...
ابتسم زين بجانب فمه الأيسر قائلاً:
- إيه كل ده يا أمي...؟ انتوا عاملين وليمة...؟
هتفت شقيقته بمرحها المعهود:
- أيوة يا أخويا... طبعًا وليمة مش نور وعيسى منورينا النهاردة...؟ أحنا كلنا كنا واقفين النهاردة في المطبخ من الصبح... لأ صبح إيه...؟ ده من أمبارح وأحنا بنجهز الأكل...
قالت نور في حرج: - تسلم إيديكوا ماكنش ليه لازمة والله تتعبوا نفسكوا...
قالت نجاة بحب: - ده احنا مستنظرين اليوم ده من زمان يا بتي.... من زمان وأنا متشوقة اشوفك وأشوف ولد ولدي الغالي...
قالت زهرة: - آه بقى خاصة أني خلاص بقيت عمتو رسمي....
نظرت نجاة إلى زهرة عبر المائدة عاتبة فصمتت زهرة في ندم، ثم عادت نجاة لتنظر إلى زين الجالس على يسارها والذي تظاهر أنه لم يلحظ ما قيل رغم أنه كان قد نفذ إلى أعماق قلبه الجريح حيث قال لأبيه:
- بهلول قال لي أن الشيخ مناع كان هنا... ده إيه اللي جابه ده يا بابا...؟
قال الشيخ سليم وهو يداعب شعر عيسى:
- كان يبغى يتوكد من قراري بخصوص المجلس...
تسائل زين: - وقلت له إيه ...؟؟
قال أبوه: - ماعدش ينفع انخبي شيء يا ولدي... قلت له كل شيء بصراحة..
شرد زين في أمر ذلك الرجل وهو يتابع ابن أخيه الذي يحتضنه أباه في حب ويطعمه في حنوٍ بالغ وتذكر كلمات اخته التي أصابته بغصة في قلبه وهو يتذكر ما مضى.
*******
لم يعلم أحد بعودته السريعة من شهر العسل تجنبًا للاسئلة والمزاح الذي لا يحبه، قبع زين أسبوعًا بمنزله في مدينة السادس من أكتوبر الذي ملأته كارمن بالمرايا والصالونات المذهبة والتابلوهات الثمينة الفخمة حتى غرفة النوم كانت فاخرة إلى حد لا يوصف بالفراش الأبيض ذو الأطراف المذهبة والظهر المنجد والحشوات فائقة النعومة. رغم كل ذلك إلا أن زين لم يكن يشعر بالراحة إلا في الشرفة المطلة على الحديقة الصغيرة التي يهتم بها إلى أقصى حد وقد ملئها بمختلف أنواع الزهور. كان جالسًا في الشرفة منهمكًا في القراءة عندما دخلت كارمن وأنحنت عليه قائلة: - هاي حبيبي...
رفع زين عينيه إليها قائلاً: - حمدا لله على السلامة يا مدام...
كانت كارمن قد ذهبت إلى بيت أبيها مذ عودتهما من شهر العسل ومكثت به أسبوعًا، قالت له وهي تخلع حجابها: - الله يسلمك يا زين... ياااه... كل البنات وأصحابنا جم يباركولي... تعبت...
قال بهدوء: - طيب يعني هانروح النجع أمتى...؟
زفرت قائلة: - أوووف يا زين... باقولك تعبت... وبعدين أنت ماروحتش ليه وأنا عند پاپي...؟
وضع زين الكتاب على الطاولة التي أمامه وهو يقول:
- ماروحتش عشان مستنيكي... الكل هناك مستنينكي وعايزين يشوفوكي يا كارمن...
دخلت كارمن وهي تقول: - أوكي.. يومين تلاتة كدة يا بيبي... أكون ريحت شوية...
كاد زين أن يهاتف أباه، إلا أنه تراجع عن ذلك وقرر أن يهاتفه عندما يقررا السفر إلى الواحات.
وبعد عدة أيام... كان زين يضع حاجياته هو وكارمن في سيارته الجيب السوداء وينطلق إلى الواحات التي افتقدها كثيرًا. لم يكد يصل مع كارمن إلا وتجمع حوله وحول زوجته أفراد عائلته في تظاهرة حب يعشقها.
- "أمال فين أبويا الشيخ سليم...؟"
تسائل في دهشة، فأجابته أمه: - راح يوصل بت عمك عروسة أخوك المطار...
رفع زين أحد حاجبيه متسائلاً في سخرية:
- هوا عمي خلف بنت على كبر كدة وكمان سافرت مع أبويا وعروسة اخويا...؟ صحيح... هوا زكريا نزل مصر أمتى...؟ واتجوز أمتى...؟
غرق الجميع في الضحك حتى قالت زهرة وسط ضحكاتها: - أنا هاشرح لك يا زين...
وأخذت زهرة تقص عليه ما حدث وهو يستمع إليها باهتمام حتى تحولت ابتسامته إلى حاجبين منعقدين وهو يقول: - طب إزاي بنات عمي سليمان الله يرحمه أمهم لسة متوفاة ويتجوزوا على طول كدة...؟ وبعدين هل الدكتور ياسر لحق يحدد في اليومين دول أنه فعلا عايز يتجوز واحدة منهم...؟ طب وزكريا أخويا إزاي يتجوز واحدة ماشفهاش...؟ ده زكريا ده ذوقه يعني...
- "زييين..."
قاطعه نداء عمته التي نهضت وصوبت له نظرات حادة، فقال لها: - أيوة يا عمتي...
أشارت له قائلة في صرامة: - أبغى أتحدت معك شوي...
نهض زين سائرًا خلفها حتى دخلا المندرة وأغلقت بابها قائلة: - شوف يا ولد اخوي.. من الآخر اكده... الجوازة هيذي الجدة هيا اللي مرتبالها لاجل ما تطمن على بنات عمك.... وما نبغى حدا يتحدت في الموضوع هيذا وااصل...
تسائل زين: - طيب ليه يعني...؟ أنا مش فاهم حاجة...؟ إيه علاقة أنها تطمن عليهم وأنها تجوزهم...؟ وإزاي زكريا يتجوز واحدة ماشافهاش أصلاً...!!
قالت عمته هامسة: - كلام في سرك الجدة خايفة لايطلعوا كيف امهم...
تسائل زين بغير فهم: - يعني إيه...؟ يطلعوا لها إزاي يعني...؟
أجابته: - أنت خابر يا ولدي امهم كانت بتشتغل إيه...؟
هز زين رأسه نفيًا، فقالت: - أستغفر الله العظيم... ممرضة...
أرجع زين رأسه إلى الخلف وابتسم بسخرية قائلاً: - لأ بجد...!! فعلاً... أستغفر الله العظيم بجد... فيه إيه يا عمتي... مالهم الممرضات ..؟ ما اهو ابنك بيشتغل مع ممرضات...
قالت عمته هامسة بطريقة توحي بخطورة الموضوع: - لا يا ولدي... اللي سمعته زمان من زميلة مرت سليمان أخويا الله يرحمه ويسامحه بقى أنها كانت سيرتها مش ولابد... الله يرحمها...
بدا الامتعاض على وجه زين وهو يقول: - طب خلاص يا عمتي كفاية الست ميتة... الله يرحمها ويغفر لها... عن إذنك...
قالها ثم خرج بينما زفرت سنية متمتمة: - الحمد لله أن الجوازة تمت قبل ما ترجع وإلا كنت عرفت تقنع الجدة بحديتك الماسخ هيذا..
أما زين فبحث بعينيه عن كارمن التي وجدها مع حسناء... كانت كارمن تشاهد المنزل وحسناء تتفحص طريقة ملابس كارمن وزينتها قطعة قطعة. أبتسم زين ثم توجه إليهما قائلاً وهو يحيط كتفي كارمن بذراعه:
- عن إذنك بقى يا حسناء خليني افرج كارمن عالمزرعة...
ابتسمت حسناء قائلة: - أتفضلوا يا زين... مع السلامة يا كارمن..
أشارت لها كارمن قائلة: - باي...
كان زين قد توجه إلى سيارته إلا أنه استدار مرة أخرى نحو حسناء قائلاً: - صحيح ... مبروك الخطوبة ..
تحولت ابتسامة حسناء عبوسًا بينما وضع زين منظاره الشمسي على عينيه وهو يقول لكارمن بعد أن ركبا السيارة:
- هاوريكي بقى بيت المزرعة... البيت ده بارتاح فيه اوي... أنا اللي بنيته جنب مكتبي هناك وفرشته حتة حتة... كتير اوي باقعد هناك بالأيام أما أحب أصفي بالي أو أذاكر أو أقرا.... هوا بيت صغير بس مريح...
أخذت كارمن تعبث بمكيف الهواء بالسيارة قائلة: - أووف.. الجو حر جدًا هنا يا زين مش ممكن...
كان يبدو أنها لم تسمع حرفًا مما قال، فالتزم زين الصمت حتى وصلا إلى بيت المزرعة الصغير أنزلها زين عند البيت وفتح لها الباب، إلا أنه لاحظ نافذة مكتبه مفتوحة، فقال لكارمن:
- أدخلي كدة على ما أشوف حاجة في المكتب...
قالها ثم دار حول البيت حتى وصل إلى باب المكتب فتحه و....
-" ياسر...؟؟؟"
هتف زين مستنكرًا وهو يطالع ياسر المستلقي باسترخاء على الأريكة الجلدية بغرفة المكتب.
- "فيه عريس يسيب عروسته ويقعد في المكتب كدة...؟؟"
تسائل زين مرة أخرى ففتح ياسر عينيه المنتفختين قائلاً:
- حمدًا لله على السلامة يا زين... رجعت أمتى..؟
تأمل زين ملابسه غير المهندمة وذقنه النامية ثم قال: - سيبك مني دلوقتي يا دكتور وقولي مالك...!
هتف ياسر: - ماكنتش أتوقع أن أمي تورطني في جوازة كدة أبدًا... حاسس إني ماليش رأي في حاجة... واللي زاد وغطى البنت اللي اتجوزتها ماكملتش تمنتاشر سنة... من كام يوم كان فرحنا وخطوبة حسناء على طلال... بعد الفرح دخلوها أوضتي وقفلوا علينا وهيا قعدت تعيط بطريقة وجعت لي قلبي يا زين... ماعرفتش أعمل إيه... مشيت وسيبت البيت وقاعد هنا من ساعتها...
رفع زين أحد حاجبيه قائلاً: - وده اسمه كلام يا ياسر...! مافكرتش الناس هاتقول إيه على البنت الغلبانة دي...
وضع ياسر رأسه بين كفيه قائلاً: - طيب أعمل إيه...؟
صمت زين لحظات مفكرًا قبل أن يقول: - أنا هاقول لك تعمل إيه...
*******
بعد يوم حافل وبعد أن جلست مع شقيقتها قليلاً حتى بدأ التعب والنعاس يغلبها هي وابنها الرائع عيسى، رحلت تقى إلى غرفتها متثائبة... وقفت أمام دولاب ملابسها كي تخرج منامتها و...
- "بتعملي إيه...؟"
انتفضت فزعًا عندما وجدت هذا الصوت يصيح بأذنها وثمة يد تحيط بها من الخلف، فاستدارت عابسة وهي تقول:
- ياسر... مش هاتبطل بقى الحركات بتاعتك دي...؟ وبعدين حبيبة لسة منيماها عارف لو صحيت هاسيبهالك وأنام....
ضحك ياسر وهو يقول: - والله شكلك حلو أوي وأنت بتهددي بحاجات مش هاتحصل كدة... قال هاسيبهالك وأنام قال.. نسيتي أن عندي نبطشية واللا إيه...؟
أخرجت تقى منامتها وأزاحته من أمامها قائلة: - طيب سيبني أنام وروح نبطشيتك بقى...
رد عليها: - تقى ماتبقيش رخمة لسة شوية على النبطشية... أقعدي معايا...
نظرت إليه بإرهاق قائلة: - بتهزر صح...؟ يعني حبيبة نايمة وأنا مانمتش من الفجر وهموت من التعب... أنا عايزة أنام وماحدش يصحيني حتى لو انطبقت السما على الأرض... أصلك نمت براحتك وهاتفوق لي بقى... أقول لك حاجة يا ياسر يا حبيبي... عمتي سنية اللي هيا مامتك بتحب تسهر أوي... روح أقعد معاها... تصبح على خير...
كانت قد أبدلت ملابسها فأسرعت إلى الفراش وتدثرت بالأغطية ثم راحت في سبات عميق. أرتسمت ابتسامة حالمة على شفتي ياسر الذي أخذ يطالعها وهي نائمة متذكرًا تلك الطفلة التي شبت على يديه وتحول كرههما المتبادل إلى حب عميق في غفلةٍ منهما.
*******
في ذلك اليوم عندما أخبره زين بما يتعيتن عليه فعله... عاد ياسر إلى البيت الكبير ليجد أمه جالسة في شرفة الدور الأرضي وقد لفت حول كتفيها شالاً خفيفًا.
- "توك راجع يا عريس ...!"
قالتها له بنبرةٍ أغاظته فأكمل طريقه إلى غرفته دون أن يرد عليها لتكمل حديثها وقد لحقت به إلى الداخل:
- كنت عارفة أنك راح ترجع بعد ما زين ومرته يروحوا بيت المزرعة... آه... هيذا بيته وبكرة تكون هيذي مزرعته... وشوي وهاياجي زكريا يحط يده عالباقي... أما نشوف شطارتك بقى يا ولد عويس...
عض ياسر على شفتيه قائلاً: - مش فاهم يا أمي حضرتك عايزة إيه بالظبط...؟
قالت: - أبغاك تبقى راجل على مرتك وتساعدها تاخد حقها في ورث ابوها الله يرحمه ...
قال ياسر: - حاضر يا أمي ... عن إذنك بقى عشان هاطلع أنام ...
صعد ياسر إلى غرفته وهو يكاد ينفجر غيظًا، عندما وصل إلى الغرفة طرق الباب ووقف قليلاً ثم طرقه مرات أخرى حتى فتحت له تقى وقد بدا وجهها ذابلاً وعينيها منتفختين... وقفت أمامه لحظاتٍ متسائلة قبل أن تدرك أنها غرفته هو، فأفسحت له الطريق ليدخل. خطى ياسر إلى غرفته ثم جلس على أريكة ما مواجهة للفراش بينما ظلت تقى كما هي تقف في خوفٍ ممسكة بمقبض باب الغرفة. رفع ياسر رأسه نحوها قائلاً:
- من فضلك أقفلي الباب وتعالي نتكلم شوية...
أغلقت تقى الباب كما طلب منها وسارت إليه بخطا بطيئة وجلة ثم جلست على مقعد بعيد عنه إلى حدٍ ما، فتنحنح قائلاً: - شوفي يا آنسة تقى... أنا عارف أنك اتجوزتيني على غير إرادتك... أنا كمان... ماكنتش عايز اتجوز كدة... عشان كدة... أنا مستعد أعمل لك اللي انت عايزاه...
رفعت عينيها إليه قائلة بلهفة: - هاتسيبني...؟
عدل ياسر من وضع منظاره الطبي على أنفه قائلاً:
- حاضر لو ده هايريحك هاعمله بس مش هاينفع أطلقك بعد الجواز كده على طول عشان سمعتك... أنا عن نفسي هانام في البلكونة وهاسيب لك الأوضة وأنا أصلا مش بارجع من الشغل إلا متأخر... فمش هاضايقك نهائي...
سألته بتوتر: - طب الوضع ده هايستمر أد إيه..؟
شعر أنها تتعجل شيء ما، فسألها: - أنت في دماغك حاجة معينة عايزة تعمليها...؟
فاضت عينيها بالدمع وهي تقول: - عايزة أدخل الجامعة... أنا لسة مخلصة ثانوي وعايزة اقدم في التنسيق..
ابتسم قائلاً: - طيب حاضر هاخدك تقدمي في التنسيق ...
رفعت عينيها إليه قائلة بفرحة: - بجد...؟ طيب والجدة و...
قاطعها: - خلاص يا بنت خالي ... ماحدش له كلمة عليكي دلوقتي إلا أنا ومادمت أنا وافقت أنك تكملي تعليمك.. خلاص مش هايقولوا حاجة...
زفرت قائلة: - متشكرة أوي...
وتوالت الأيام وياسر منشغل برسالة الماجستير الخاصة به بينما تم قبول تقى بكلية التربية وتخصصت بقسم التربية الخاصة وكأن القدر ساقها لها كي تصير هي الوحيدة بمنزل آل رحيل التي تفهم ياسين ابن عمتها المصاب بالتوحد منذ صغره. كانت تذهب مع ياسر إلى منزل أبيه الراحل بالجيزة يدرسا سويًا ويذهبا إلى الجامعة سويًا. كان ياسر كل يوم يكتشف بها شيئًا جديدًا يشده إليها.. خفة ظلها.. قفشاتها المرحة... حنانها البالغ على أخيه الذي لا يفهمه أحد ولا يهتم أحد بفهمه... مهارتها في إعداد وجبات سريعة له. رآها متحملة لتقلبات عمتها وحدة مزاجها حتى جاء ذلك اليوم الذي رآها فيه تنتحي بنفسها جانبًا في المطبخ و... تبكي... لم يدر ياسر لماذا عندما دخل المطبخ ليبحث عن أمه كعادته أنخلع قلبه لنشيجها المتألم فاقترب نحوها وحاول أن يعرف ما بها، وبعد مراوغة منها والتعلل بأسباب واهية، أمسكها من كتفيها وأدارها إليه متسائلاً في حزم: - مالك بجد يا تقى..؟ من فضلك قولي لي فيه إيه..؟؟!!
مسحت عينيها وهي تقول: - مافيش... أنا بس قلقانة من الامتحان بكرة ... دي آخر سنة أنت عارف ...
هتف ياسر: - أمتحان بكرة..؟ طب وواقفة بتعملي إيه هنا..؟
همست: - مافيش.. بس عمتي قالت لي إني لازم أشطب المطبخ وأشرف على زينب وهيا بتعمل الغدا..
جذبها ياسر من يدها خارجًا من المطبخ وهو يقول: - وأنا باقول لك ياللا جهزي نفسك عشان رايحين على شقة الجيزة ...
شعرت تقى بسعادة من تصرفه إلا أنها قالت: - طب و.. والمطبخ ...؟؟؟
هتف بها: - تبقى عمتك تحرك بنتها واللا أي حد هنا يعمله بدالك... أحنا مش هانضيع تعب أربع سنين على الفاضي..
كان يجرها خلفه على الدرج، فصعدت وقلبها يخفق في عنف وكأنه يقفز معه درجات السلم.
و... كان حفل التخرج... تخرجت تقى بتقدير عالٍ وفي أقصى القاعة كان يجلس يتابعها بعينيه... تصعد على المنصة بملابسها الواسعة وحجابها الطويل ومعطف وقبعة التخرج لتأخذ شهادتها وترفعها وتتسع ابتسامتها على شفتيها بسعادة... إنها تنظر إليه عبر القاعة... يدري أنها تبتسم له... تهديه نجاحها، فقرر وقتها أنه لن ينتظر أكثر من هذا ليتأكد من مشاعره نحو تلك الطفلة التي كبرت بين يديه وهاهي ذي تتخرج بتقدير عال.
- "حاسة إني طايرة طايرة ... مش مصدقة نفسي يا ياسر ... أنت أخدت الماجستير بتقدير جيد جدًا وأنا امتياز مع مرتبة الشرف... "
قالتها في سعادة وهي تجلس بجواره في سيارته المتواضعة، نظر إليها بطرف عينيه وهو يقول باسمًا:
- مبروك يا تقى...أنت إنسانة مجتهدة وتستاهلي أعلى تقدير...
ثم أدار ياسر مقود السيارة قائلاً: - وبالمناسبات السعيدة دي... لازم نحتفل...
قالت تقى وهي تنظر إلى الشارع الذي انحرف إليه ياسر: - ياسر... البيت مش كدة أنت دخلت غلط..
مد يده ليمسك بكفها الذي بجواره... لم تسحب يدها كعادتها... بل شعر بها ترتعد بين يده، فقال بابتسامة واثقة: - لأ يا تقى... دخلت صح...!
توقف أمام أحد الفنادق الفاخرة وهو يقول: - تسمحي أعزمك على حفلة صغننة كدة...
نظرت إليه تقى قائلة: - حفلة إيه...؟؟
أخرج بطاقة ما وأعطاها إياها قائلاً: - الدور التاسع غرفة 119... أسبقيني...
عقدت تقى حاجبيها وهي تتناول منه البطاقة قائلة: - إيه جو الأكشن ده...! ماشي يا عم أما نشوف الحفلة بتاعتك دي إيه...!
صعدت تقى إلى الغرفة التي ذكرها ياسر، فتحتها... لتجدها ممتلئة ببالونات هيليوم وردية وورود... وعلى المنضدة كان قد تم وضع كعكة صغيرة بها شمعة واحدة وبجوارها علبة من القطيفة فتحتها تقى لتجد بها خاتم زواج من الذهب يجاوره محبس قمة في الرقة والجمال... ابتسمت تقى ابتسامة واسعة وهي تنظر إلى الفستان الأبيض الكريمي الموضوع على الفراش وعليه بطاقة ما فتحتها لتجد مكتوب بها كلمة واحدة فقط "تتجوزيني..؟" تمتمت تقى: - مجنون..!
صعد ياسر إلى الغرفة فلم يجد تقى... بحث بعينيه في قلق بأرجاء الغرفة حتى... وجدها تخرج من الحمام الملحق في هدوء وهي تنظر إلى الأرض... لأول مرة يراها هكذا في كامل زينتها وشعرها يتهاوى على كتفيها الذين فشل الثوب في تغطيتهما تمامًا. توجه إليها وأمسك يديها قائلاً: - قريتي الورقة ...؟
اتسعت ابتسامتها وهي تقول: - أنت بتسألني إيه يا ياسر... ما أحنا فعلاً ....
وضع أصابعه على شفتيها وهو يقول: - شششش... لا يا تقى... أنت فاهماني...
فرفعت عينيها نحوه قائلة بحب: - وأنت شايف إيه...؟
ضم يديها إلى صدره قائلاً: - شايف القمر..
سحبت يديها في خجل وهي تقول: - ياسر... بس بقى...
جذبها إليه مرة أخرى وهو يقول: - بس إيه... بس إيه ده أنا ضربت الرقم القياسي في الصبر... أربع سنين.. أربع سنين يا تقى... أنتي اللي بس بقى....!
*******

Just Faith 18-12-17 01:08 PM

- 3 -
"كانت إيميلاتك يا تقى وأخبارك السعيدة هيا اللي مهونة عليا الحياة والغربة في نيويورك ..."
قالتها نور بعد أن أدت صلاة الفجر مع شقيقتها التي كانت تجلس بجوارها عند النافذة المطلة على شجرة البرتقال. كانت تقى تحمل طفلة جميلة تبدو في عامها الأول أخذت تهمهم بكلمات غير مفهومة بينما تقى تقول بحنان:
- لسة مش عايزة تحكي لي إيه اللي جرى لك خلال الست سنين اللي فاتوا دول يا نور...؟
قالت نور باسمة: - منا كنت باحكي لك يا توتة ... عايزة إيه تاني..؟
قالت تقى وهي تربت على يدها: - أنتِ كنت بتحكي لي عن كل حاجة في رسايلك إلا عن حياتك أنت وزكريا... أنا حاسة أن جواكي جرح كبير أوي... حاولي تتكلمي وتفضفضي يمكن تخففي عن نفسك الحمل شوية ...
شردت نور قائلة: - لا يا تقى ... خلي الجروح مقفولة يمكن تتداوى ... مش عايزة افتح فيها أرجوكي ..
كانت تقى تشعر بشقيقتها وبتلك الغصة التي تتحدث بها... وكأنها كانت تسير على أشواك طوال الست سنوات المنصرمة. قالت نور مغيرة مجرى الحديث محاولة أن تكسي صوتها بأكبر قدر من المرح:
- خلاص بقى دلوقتي بقيتي دكتورة رسمي صح...؟
ضحكت تقى قائلة: - يا سلاااام... يسمع من بقك ربنا واخد الدكتوراه بقى... لا يا نور.. ده أنا لسة ما أخدتش الماجستير... ده أنا بالعافية خلصت دبلوم مهني تخاطب ودبلوم خاص في التربية الخاصة اللي لازم أخدهم قبل الماجستير... من ساعة ما شرفت الآنسة حبيبة وأنا مابقتش عارفة أعمل حاجة خالص... حتى لسة ماسجلتش الرسالة رغم أن ياسر عمال يلح عليا إني اروح معاه الجامعة في يوم بس حاسة إني تعبانة يا نور... حبيبة ما بتسبنيش في حالي لحظة ...
ضحكت نور وهي تداعب الصغيرة قائلة:
- حرام عليكي ... ماهي جميلة وهادية وزي القمر أهيه ...
هتفت تقى: - جميلة وهادية وزي القمر كمان...؟ يا بنتي حرام عليكي ده ابنك أرق منها وخجول كدة وعسل..
شردت نور قائلة: - أنت ماشوفتيش عيسى ده من كام شهر فاتوا... كان دايما ساكت ومتقوقع جوا نفسه وأما يتكلم مايعرفش يعبر عن نفسه ويتلخبط ويتلجلج... لدرجة أني افتكرته أوتيستيك...
أرسلت تقى نظرة على ابن اختها النائم في وداعة ثم قالت:
- لأ طبعًا... مش أوتيستك خالص... أنت جيتي في ملعبي أنا بقى كدة... الولد خجول شوية بس...
أومأت نور قائلة: - فعلاً... كنت باكلمه وأشجعه أنه يتكلم... كنت باحكي له كل حاجة رغم أنه كان ممكن مايبقاش فاهم بس كنت باكلمه كتير وباقرا له قصص ... وبرضه مكانش بيتكلم إلا بلجلجة لكن أما دخل الروضة وبدأ يحتك بأطفال مختلفين مع جو مستقر شوية في البيت ... بدأ يتخلص شوية من خجله المرضي وخفت لجلجته إلى حد كبير ...
قالت تقى: - برافو عليكي يا نور ... أنت فعلا عملتي اللي المفروض كان يتعمل و...
هنا أخذت حبيبة الصغيرة تبكي وتجذب ملابس أمها في عنف وتصيح، فقالت تقى:
- مش قولت لك .. متشردة البت دي ...
أخذتها نور هاتفة: - لاااا ... ده أنت هاتطلعي عليها سمعة مش كويسة خليها معايا أحسن ...
ضحكت تقى قائلة: - يا سلاااام ... خليها معاكي ... بس باقول لك إيه ... البضاعة المباعة لا تُرد ولا تُستبدل ... ماتجيش تقولي لي أكلت دراع ابني واللا قطعت لي شعري ...
ضحكت نور بدورها وهمت أن ترد عليها لولا أن باب الغرفة انفتح فجأة وأطلت عمتهما من خلفه وهي تقول بحدة: - الله الله ... قاعدة تتسامري وتضحكي وناسية الجدة والرجال اللي بدهم يفطروا ...
همت نور أن تتحدث لولا أن قالت تقى بسرعة:
- حاضر يا عمتي نازلة حالاً ...
ألقت سنية عليهما إحدى نظراتها الحادة ثم رحلت، فقالت تقى هامسة كي تلطف الجو:
- هيا عمتك صحيح نسخة طبق الأصل من نجمة إبراهيم... بس قلبها أبيض... وأديني متعايشة معاها...
ابتسمت لها نور بينما نهضت تقى وهمت أن تاخذ حبيبة من بين ذراعي شقيقتها إلا ان نور قالت لها:
- خليها معايا...
ضحكت تقى قائلة في مرح:
- هل أنت في كامل قواك العقلية وانت بتطلبي الطلب ده..؟؟
أبتسمت نور قائلة: - يا بنتي بطلي تطلعي على بنتك الكلام ده وروحي لعمتك ياللا ...
همت تقى أن ترحل إلا أنها توقفت كمن تذكر شيء ما ثم انحنت على نور قائلة:
- ماشي.. بس لينا قعدة تانية يا نور ... لازم تحكي لي وتطلقي سراح الأحزان المحفورة في عنيكي والألم اللي ملون ملامحك ده ..
هزت نور رأسها قائلة:
- مافيش فايدة فيكي ... هاتفضلي زي ما أنت طول عمرك... روحي يا تقى دلوقتي وسيبيني مع حبيبة... حبيبة خالتو دي...
رحلت تقى وأغلقت الباب خلفها بينما احتضنت نور حبيبة التي استكانت بين ذراعيها عندما أخذت نور تهزها بهدوء حاني وهي تتأمل أشعة الشمس البكر التي بدأت تشرق على استحياء مقبلة قمم الأشجار والنخيل المحيطة بمنزل آل رحيل... أهتزت أغصان شجرة البرتقال القابعة أمام المنزل بينما كانت نور تتسائل في نفسها ... "آااهٍ يا تقى ...! ما الذي تودين معرفته ..؟ دعي الجروح غافية..."
إلا أن جروحها أبت إلا أن تنفتح من جديد عندما عادت بها الذاكرة إلى ذلك اليوم عندما كانت تسير برهبة وتوتر في مطار نيو آرك بنيو جيرسي تحاول تحسس مسارها وسط جموع المسافرين والقادمين الغفيرة ... قلبها يخفق بعنف وهي تخطو إلى بلد مجهولة ورجل لم تره قبلاً من المفترض أنه زوجها.
كانت مجرد فتاة في التاسعة عشر من عمرها تم وضعها على متن طائرة ألقت بها إلى هاك البلد الغريب المزدحم ببشر من مختلف الأعراق والألوان. تمكنت أخيرًا من معرفة مكان استلام الحقائب وحملت حقيبتيها على عربة دفعتها أمامها وقلبها الوجل يرتجف بين أضلعها كلما شارفت على الخروج من المطار للقاء رجل في انتظارها ليأخذها إلى بيته زوجةً له.
وحيدة كانت... خائفة... خرجت إلى الصالة الخارجية تتلفت حولها لا تدري إلى أين تذهب... كيف ستعرفه وكيف سيعرفها...؟ ودت لو تهرع إلى الطائرة ثانية لتعود بها إلى بلدها ...! لكن تلك اللافتة التي تحمل اسمها جعلتها تتجه إلى من يحملها.
- " أ ... أنا ... نور.."
أخرجت صوتها بالكاد وهي تقف أمامه مرتجفة كورقة في مهب الريح. رفع منظاره الشمسي على شعره الأجعد متوسط الطول وتأملها مليًا. رفعت عينيها ببطئ نحوه... كان يرتدي بنطالاً قصيرًا من الجينز حائل اللون وتي شيرت أبيض مفتوح الصدر تبدو من أسفله قلادة فضية يتدلى منها مفتاح النيل.
- أهلاً وسهلاً يا عروسة منورة أمريكا كلها يا قمر ...
قالها وهو يمسك بعربة حقائبها دافعًا إياها أمامه لتلحظ نور هاك السوار النحاسي الذي يحيط بمعصمه. سارت خلفه في صمت محبط وقد شعرت بغصة في حلقها بينما تجمعت غيوم التكهنات السلبية لتحيط بعقلها... فالجواب – كما يقولون- قد ظهر من عنوانه... ذلك الرجل الذي أمامها والذي تزوجته رغمًا عنها.. أبعد ما يكون عن الرجل الذي تمنت أن يكون زوجها يومًا.
وضع زكريا منظاره على عينيه وهو يفتح لها باب السيارة فركبت دونما كلمة واحدة، وبدأ في طريقه متوجهًا إلى مانهاتن حيث يقطن. لم تشعر نور بالراحة لأول وهلة لها في نيويورك... فقد كانت تكاد تشعر بالدوار منذ أن خرجت من مطار نيوآرك وكأنها تركت الماضي بين ثنايا حيها المتواضع حيها المتواضع في مصر وجاءت في إطلالة كئيبة على المستقبل. كانت تتأمل الشوارع من نافذة السيارة... كل شيء فيها يهرول بسرعة خارقة. "مدينة تنبض بالحيوية، لكن بالنفايات الحية" كما وصفتها غادة السمان ذات يوم. شعرت نور وكأن ناطحات السحاب تطبق على أنفاسها ... الزحام ... إشارات المرور التي ما إن تتلون باللون الأحمر للسيارات إلا ويهرع المشاة في سباق مع الزمن يعبرون بكل سرعة. زفر زكريا بشدة متوقفًا مرة أخرى بعد تلون إشارة المرور باللون الأحمر. أطلق سبة أمريكية بذيئة التقطتها أذني نور فشعرت بامتعاض شديد وقد زاد نفورها عندما أخرج زكريا سيجارة وأشعلها وهو يصيح: - الشوارع زحمة بطريقة زبالة ... الطريق أصلاً مايخدش نص ساعة بس زحمة نيويورك بتضاعف الوقت ... أوووف ...
دخان السجائر ... الأزدحام الشديد ... ناطحات السحاب التي حجبت أغلب مشهد السماء ... نفورها الشديد من زكريا الجالس بجوارها ورغبتها الملحة في الفرار من كل ذلك ... كانت عوامل متراكمة جعلتها تشعر بضيق في التنفس وألم بمعدتها مع رغبة في التقيؤ ... مادت بها الموجودات حولها وظنت أنها ستفقد الوعي.. ودت لو طالبته بالكف عن التدخين لكنها كانت تدري أنها إذا فتحت فاها فإنها إما ستنخرط في بكاء حاد أو إنها ستتقيء، فآثرت الصمت وإغلاق عينيها محاولة السيطرة على آلامها وخيبتها.
وبعد مرور ساعة وربع كانت سيارة زكريا التيوتا بريوس الفضية طراز العام (2005) تعبر جسر جورج واشنطن المار أعلى نهر هيدسون فقال زكريا:
- خلاص ... قربنا نوصل ...
ثم أشار بيده اليسرى يسارًا مردفًا:
- ده بقى شارع برودواي بيقولوا أنه أطول شارع في العالم ... ويعتبر عاصمة المسرح الغنائي ...
قالها ثم نظر بطرف عينيه إلى نور بعبائتها الفضفاضة وحجابها الطويل الواسع وابتسم ساخرًا وهو يقول:
- واللا انت مالكيش في المسارح ...؟
عقدت نور حاجبيها بحدة دون أن تنبس ببنت شفة حيث ازداد ضيق تنفسها فصارت تلهث وكأنها كانت تركض كما ازدادت تقلصات معدتها وشعرت بانقباض شديد في قلبها ودت لو تصرخ وتبكي... فأخذت تبتهل سرًا إلى الله أن يخرجها مما هي فيه... أخذت تستغفر وتحوقل متجاهلة إياه تمامًا مرسلة بصرها من النافذة التي بجوارها مما أغاظ زكريا الذي ألقى ببقية سيجارته من النافذة في حدة مشعلاً واحدة أخرى.
بعد قليل... وجدت نور نفسها تستقل مصعدًا يرتفع بهما إلى الدور الخامس عشر بناطحة السحاب تلك الواقعة بحي واشنطن هايتس في مانهاتن. سارت في الممر الطويل المؤدي إلى شقته وهي تكاد تفقد وعيها.. لم تتمعن في ملامح تلك الجارة الشقراء الفارعة التي وقفت على باب منزلها بسروال قصير جدًا وبلوزة ضيقة لا تكاد تغطي جذعها تتبعهما بنظرات ساخرة. فتح زكريا الباب وأدخل الحقائب قائلاً:
- أتفضلي يا نورا ...
تضاعف ألمها... إنه حتى لا يتذكر اسمها..! لماذا رغب في الزواج بها ..؟ لماذا ...؟ تردد بداخلها سؤالاً لم تدر أنها ستعرف إجابته قريبًا جدًا.
لم تتمكن من تأمل المنزل المؤثث على أحدث طراز... كانت الموجودات أمام عينيها المتعبتان تتراقص. قادها زكريا من يدها حتى غرفة نوم شاسعة قائلاً:
- اتفضلي يا عروسة ... Make yourself at home
سارت نور خلفه كالمخدرة، وضع حقيبتيها على منضدة ما بالغرفة وفرك يديه وقال وهو يلتهمها بعينيه:
- عايزك تغيري هدومك بقى بسرعة ... مش عايز حركات بنات مصر ومكسوفة وماعرفش إيه ... عايز قميص نوم مولع هاااه..؟ بسرعة يا قطة ...
قالها ثم خرج وأغلق الباب عليها متوجهًا إلى بار في ردهة المنزل وأخذ يحتسي عدة كؤوس من الشامبانيا وقد عقد العزم على فعل أي شيء ليُخضع تلك الطفلة التي بالداخل إليه... يجب أن يحصل على إرثها في أسرع وقت فالعمل يغرق في فوضى كما لا يكف مهند - الشاب الذي عينه لمتابعة العمل- عن إخباره ... وإذا علم أباه أو الجدة بذلك فسينقطع كل شيء ويعود إلى مصر وبلدته الفقيرة. هز رأسه بعنف وهو يبتلع بعض الأقراص ونهض مترنمًا: - Baby, I got your money
فتح باب الغرفة ليجد نور جالسة مكانها ترتعد كعصفور مبلل بماء المطر، فأشتعل غضبه وذهب إليها مترنحًا جاذبًا ذراعها وهو يهتف: - ماغيرتيش ليه...؟
كانت تهتز في يده كدمية لا تفقه شيئًا مما حولها... فخلع زكريا قميصه وازدادت عيناه احمرارًا وهو يصيح:
- ماهو أنا لازم أعلِّم عليكي... عشان تبقي تسمعي الكلام بعد كدة ...
دفعها بعنف على الفراش وأخذ يخلع عنها ملابسها عنوة... ازدادت نبضات قلب نور وألم معدتها ولم تستطع تحريك إصبع أو رد انتهاكه لها... مادت الأرض تحتها وبدأت الموجودات تغرق في ظلام عميق و.. فقدت الوعي ... تمامًا.
***
كانت نيرانها تزداد اشتعالاً منذ أن علمت بقدومها... لذا تحاشت الاحتكاك بها كي لا تجذبها من شعرها أمام الجميع وتخنقها بيديها ولن يهمها أحد حينئذٍ... فغضبها أعظم من أي تعقل. تأملت زوجها المستلقي بأقصى الفراش مستأثرًا باللحاف متدثرًا به تمامًا بعد أن انهى مهمته معها...! لكم تبغضه هو الآخر... لا يعرف سوى العمل بالأرض طوال اليوم كما البهائم ثم يعود ليلتهم كل ما أمامه من طعام ويصعد إليها بفم ينضح بصلاً وثومًا وجسدًا ينز عرقًا ليأخذها كيفما أتفق ثم يسقط في سبات عميق. تتأمل بطنها المنتفخ... نعم ... هي في الشهر الخامس مكرهةً بعد أن اكتشف أقراص منع الحمل التي بخزانتها وفضحها أمام كل من بالبيت مع بعض الصفعات والركلات الدامية أرغمها على التخلي عما تفعله فهو يريد إنجاب "ست سبع تمن عيال... العيال عزوة" كما قال... وحملت مرة ثم اجهضت نفسها في الخفاء... لكنها تلك المرة لم تعرف كيف تتخلص من ذلك الجنين غير المرغوب فيه والذي سيوطد علاقتها بزوجها أكثر هي التي تسعى إلى الفكاك منه. عقدت حاجبيها الجميلين في حقد وهي تتمتم "هيا السبب..".
نعم .. لقد كانت ترى نور سببًا مباشرًا في كل ما تعانيه الآن مع زوج تبغضه بعد أن اختطفت منها حبيبها العاشق الذي لم تسمع من أحدٍ بعده غزل كالذي كان يتلوه على قلبها كلما التقيا. نهضت حسناء من فراشها تتأمل نفسها أمام المرآة بقميص نومها الأحمر وشعرها الناعم الطويل الليلي... نعم هي رائعة الجمال... كان ينبغي أن تكون هي أرملة زكريا... لا تلك الحمقاء التي قتلته ثم عادت بكل برود.
أخرجت الهاتف الذي كان قد أعطاها إياه وضمته إلى صدرها وهي تتمتم بألم: "واااه يا حبيب القلب.." لقد علمها كيف تستخدم الهاتف الجوال والإنترنت كما لو كانت فتاة جامعات، لكم تفتقده... إن مكالماتهما لم تنقطع حتى بعد زواجه وزواجها... لم تستطع حسناء الفكاك من سحره رغم زواجه بنور وزواجها بطلال... كانت دائمًا ما تشتاق لغزله الجرئ الذي كان يدغدغ حواسها لذا منذ وفاته من أربعة أشهر وهي تشعر بتخبط وضياع كما يشعر مدمن المخدر بأعراض الانسحاب. لكن حسناء لم تيأس وبحثت حتى عثرت على نوع آخر من المخدرات وما أكثرها. علا ثغرها ابتسامة خبيثة، فتدثرت بروبٍ منزلي ثقيل وخرجت بخفة من غرفتها على أطراف أصابعها إلى المنزل الغارق في الظلام حيث ذهب الجميع إلى النوم، متوجهة إلى مكتب خالها الشيخ سليم.
مرت بغرفة نور المغلقة فنظرت إليها بحقدٍ لازال يشتعل بداخلها حتى أتى على كل مشاعرها الأخرى فلم يتبق سواه ... و.. طاف بذهنها أول مكالمة أجرتها لزكريا بعد زواجه.
***
- "صباحية مباركة يا عريس ..."
- مين ...؟
- كمااان نسيت صوتي يا عريس الغفلة ... ماكانش العشم برضه ...
- حـ... حسناء ... أنتي إيه اللي مخليكي تتصلي بدري كدة...؟
- بدري من عمرك يا سي زكريا... إيه.... قلقت منامك يا عريس...؟ واللا قلقت منام الست الهانم العروسة...؟
- العروسة ...؟ يا نهار أسـ** ... أقفلي دلوقتي يا حسناء أما أشوف المصيبة اللي أنا فيها ...
- مصيبة إيه يا زكريا ماتاخدنيش في دوكة ... هاتطلقها متى ...
- أطلق مين الله يخرب بيتك أما أشوفها عايشة دي واللا ماتت... أنا كنت شارب امبارح ويا دوب لسة فاكر إنها وقعت ماحطتش منطق ...
لم يمهلها زكريا وألقى بهاتفه بسرعة ونهض من على الأرض حيث كان مستلقيًا بجوار البار عاريًا إلا من سروال داخلي قصير وزجاجات الخمر متناثرة حوله... لم يشعر بنور وهي تفقد وعيها في غمرة انتشائه وسكره... لم يشعر سوى بسقوطها كالدمية من بين يديه عندما نهض عنها متوجهًا إلى البار حيث أكمل شربه حتى فقد وعيه. فتح باب غرفة نومه في قلق ليجد الفراش غير المنتظم... ملابس نور الممزقة ... لكن لا أثر يُذكر لنور أو حقيبتيها ... كان متأكدًا من أنها لم تخرج من المنزل لسببين ... أولهما أنه كان قد أوصد باب المنزل جيدًا بالمفتاح الذي وضعه بخزينته الخفية ثانيهما أنه عندما أدخلها إلى غرفته وأغلق عليها كانت قد تركت حقيبة يدها في الردهة فاستل منها جواز السفر الخاص بها ودسه أيضًا بخزينته.
فتح باب دورة المياه فلم يجدها هنالك، ففتح باب غرفة النوم الأخرى لـ ... ليتراجع ذاهلاً ... مأخوذًا ... لقد كانت تقف هنالك بتنورة بيضاء وخمارًا أبيضًا تفترش سجادة صلاة حمراء و... تصلي بخشوع ... كان يقف عند مدخل الباب خلفها ... رآها تسجد فتطيل السجود ويصله همهمتها الباكية وانتفاضة جسدها بالبكاء ... تسمر مكانه حتى أنهت صلاتها وأخذت تسبح على أناملها وعندما استدارت لتجلب مصحفها رأته واقفًا عند الباب فلم تعره اهتمامًا، وجلست على سجادة الصلاة ثانية وبدأت في تلاوة القرآن. وجد زكريا نفسه ينسحب خارجًا وقد ذكرته بأمه عندما ابتاعت ملابس الصلاة البيضاء بعد الحج وصارت تصلي بها وتسبح وتقرأ القرآن ... سمع هاجسًا بداخله يحثه على إتيانها مرة أخرى كي تذعن له عوضًا عن قوتها غير المفهومة تلك رغم الهشاشة التي لمسها بها أمس، وتقدم نحو باب الغرفة الذي أغلقه منذ قليل إلا أنه شعر وكأن الغرفة مسيجة بكهرباء صاعقة ... صورتها وهي تصلي ... الشبه الكبير بينها وبين أمه في صلاتها وملبسها ... تراجع إلى الخلف حانقًا ... كيف تجرؤ على مجابهته هكذا ... لكن صوت ساخر بداخله أخبره ... إنها لا تفعل شيئًا سوى الصلاة ...! شعر ببركان غاضب من عجزه ينفجر بداخله ... وأتبع ما تتلو الشياطين على قلبه... سوف لن يدعها تهنأ حتى بصلاة أو هدوء إلى أن يأخذ منها ما يريد. وأرتدى ملابسه على عجل وخرج من المنزل سريعًا عازمًا على إذلالها.
لم يدر زكريا أن نور قد أفاقت من إغمائتها بعد عدة ساعات لتجد نفسها ملقاة شبه عارية على فراش غريب وبغرفة عجيبة أخذت تتسائل عن مكانها وتنادي على أمها، حتى تذكرت ما أدمى قلبها...! وأنفجرت تبكي كثيرًا .... مَنْ هاك الشخص الذي ربطها عمها به...؟ إنه أبعد ما يكون عن الدين بل عن الأخلاق بل عن أصل العربي عامة والبدوي الأصيل خاصة ...!!! من هاك الذئب الذي نهشها دون رحمة أو نخوة أو شفقة..! نظرت إلى ملابسها الممزقة ... لم يكن قميصًا ممزقًا كَذِبْ ولم تكن كرامتها النازفة بداخلها دمًا كَذِبْ ... هاك قميصها وذاك جسدها الذي أكله الذئب وتلك الأدمع هي دماء كرامتها المذبوحة ... وإن حاولت بث أيٍ من عائلتها شكواها ... فما هم بمؤمنين لها وإن كانت صادقة. أخذت تتمتم من بين أدمعها المراقة "فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تصفون ... فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تصفون..".
نهضت تجرجر رجليها وأخرجت بعض الملابس تستر جسدها المُنتَهَك، خرجت من الغرفة لتقع عينيها عليه.. غارق في زجاجات الخمر نائم على الأرض شبه عار. تعجبت ... إلى أي مدى تصل الشهوات بصاحبها حتى تصيِّره عبدًا لها...! هاهو ذا ممعنٌ في اتباع شهواته حتى سقط تحت رجليها ذليلاً متمرغًا في وحل المعصية. تجاوزته في بغض شديد ... لقد زادها كرهًا على كره وبغضًا على بغض ... كرهته لما فعله بها وبغضته أكثر لتعديه حدود الله.
أنسابت المياه على جسد نور المنهك التعب تحاول تهدئة كل جزء به، ولكن هيهات ... أنَّى لها الراحة وهي تشعر بالمهانة الشديدة التي ألحقها بها من هو مفترض أنه زوجها..! أدت ما فاتها من صلاة ثم أرتدت ملابسها كاملة وأغلقت حقائبها وهمت على الرحيل... همت أن تفر من هنا بأقصى سرعة قبل أن يفيق من سكرته. إلا أنها وجدته غلَّق الأبواب كلها، فتراجعت في خوفٍ وقد شعرت بالوقوع في الفخ الذي تم نصبه لها بإحكام. عادت إلى الغرفة الأخرى التي تحوي فراشين وأخرجت ملابس الصلاة الخاصة بأمها وكأنها تحتمي برائحة أمها من كل يحيط بها ... ثم في صلاتها انتصبت ... وإلى ربها رغبت. تبتلت إلى الله كثيرًا أن يبعد عنها ذلك الذئب ... أخذت تقيم الليل متبتلة باكية داعية وهي تثني على الله وتتملقه ... حتى أُذِّنَ للفجر ... صلت الفجر وجلست تذكر الله وتدعوه ... وبعد الشروق بقليل وقفت لصلاة الضحى وبعد ان أنهت صلاتها رأت زكريا يقف على باب غرفتها في صمت ... شعرت بقوةٍ عجيبةٍ جعلتها تتحاشاه وكأنه لم يكن ... رغم إرهاقها وتعبها إلا أنها شعرت برغبة ملحة في التلاوة من مصحف أمها، فتناولته وبدأت في التلاوة ليخرج زكريا من حيث أتى وتهبط سكينة ما على قلب نور.
***
لم تقوضها الذكرى هذه المرة، لم تُبكها كعادتها ... بل ذكَّرتها بقوتها التي أمدها الله بها عندما كانت أضعف ما يكون وأيأس ما يكون ... ما كان يحزنها سوى شيء من تزعزع ثقتها بالله وقتها عندما تسائل قلبها في لحظة ضعف أن (لماذا..؟ لماذا كل ذلك العذاب الذي تلقاه..؟) إلا أنها نفضت عن قلبها سريعًا ما لا يحق له بقوله فالله تعالى (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون). تحتضن صغيرها الذي غفى بعد يومٍ حافل من اللعب مع حبيبة وأبناء بدر الذي قدم المنزل مع زوجته وابنائه الثلاث وحسن ابن زهوة التي جاءتهم زائرة بدورها، تَذْكر يوم اعتداء زكريا الغاشم عليها ... ذاك اليوم الذي قدر الله فيه أن يكون لها ابن من رجل تبغضه. تَذْكر عندما سمعته يخرج من المنزل يومها فخرجت من الغرفة التي احتلتها في أقصى المنزل النيويوركي وكان أول ما فعلته هو التخلص من كل الخمر بالبار وقد أقسمت ألا توجد معها في مكانٍ واحد. أخذت يومها تتأمل المنزل المؤثث على أحدث طراز جامعًا بين الأسطح الخشبية الدافئة والمعدنية العصرية مما يعطي انطباعًا بحداثة ذات مسحة كلاسيكية. وقفت أمام النافذة الزجاجية الضخمة التي تطل على نهر هيدسون وسرقها جمال المشهد حتى انتفضت عندما فتح زكريا باب المنزل في صخب وقد اختلط صوته بصوت امرأة ما...!
نظرت نحوه وهو يدخل متأبطًا إحدى بائعات الهوى الساقطات لاتينية الملامح فاضحة الملبس وهو يداعبها بطرق بذيئة أقشعر لها جسد نور لا غيرة أنثى على رجلٍ مثله بل امتعاضًا وغضبًا من تجرئه على اتيان الكبائر بكل تلك البساطة ...! توجه زكريا إلى البار الذي اختفت منه كل زجاجات الخمر ... كادت نور تسرع إلى الغرفة التي أتخذتها ملجئًا لها، إلا أنه أمسكها من ذراعها وعيناه تقدح شرراً هاتفًا:
- فين الأزايز اللي كانت هنا...؟
ورغم ارتعادها إلا أنها قالت بقوة:
- رميتها ويا ريت لو عايز تعمل القرف اللي بتعمله ده يبقى بعيد عني.. مش عايزة أموت في مكان يعصى الله فيه.
أدارها إليه بعنف وصفعها بقوة هاتفًا:
- تموتي...؟ والله لاوريكي الموت عشان تبطلي تتصرفي من دماغك..! أنت عارفة الأزايز دي بكام يا بنت الـ***...!
سقطت على الأرض إثر صفعته فجرها من ذراعها وأخرج لها ورقة ما قائلاً:
- أمضي لي على التوكيل العام ده دلوقت حالا...
تسائلت نور بألم: - ليه ...؟ هوا أنا حيلتي إيه عايز تاخده..؟
ازداد ضغته على يدها قائلاً: - حيلتك إيه...؟ ورثك من ابوكي يا روح امك...
تساقط الدم من شفتيها إثر صفعته فوضعت يدها الحرة على فمها قائلة:
- ورث إيه...؟ ما أبويا اتنازل عن ورثه وماليش حاجة... خالص...
لوى ذراعها هاتفًا: - كدابة ... أمضي التوكيل قلت ...
جذبت ذراعها بقوة من بين يديه وفرت من أمامه قائلة:
- وأنا مش هامضي على حاجة ...
دخلت الغرفة وأحكمت إغلاق بابها عليها وهي ترتعد وتشعر بالألم ينتشر في جسدها كله، لم يحاول اللحاق بها ... سمعت صوته مع المومس التي معه فازداد امتعاضها وأخذت تستغفر وتبرأ إلى الله مما يفعلان.
تذكرت تكرار ذلك المشهد مرارًا وعندما جابهته وحاولت نصحه بالبعد عن تلك الكبيرة لم يكن رده سوى ...
- أعمل إيه ومراتي عملالي سحر أسود مش مخليني اعرف اقرب لها...
-خلاص طلقني واتجوز غيري ..
- إنسي يا ماما مافيش طلاق ...
- أتجوز عليا ان شالله 3 كمان ... بس بلاش ترتكب كبائر...
تذكرت عيناه الزائغتان... تذكرت أملها الضعيف في أن يطرق كلامها قلبه ويهديه ربه... إلا أنه أخذته العزة بالإثم وكان رده عليها المزيد من الصفعات والسحل حتى لاذت بغرفتها منهكة القوى لا تدري أسيُكتب لحملها الاستمرار أم تراها تلفظه عقب كل ذاك العذاب..! لم تدر وقتها أن الله يحتفظ لها بأجمل هبة سيمن بها عليها ... عيسى.
***
- "عيسى ....!"
صاحت فزعة وهي تستيقظ من غفوتها ... لقد غفت بجواره بعد أن صلت الفجر إلا أنه لم يكن موجودًا بالغرفة الآن. نهضت في هلع ترتدي ملابسها وحجابها وتخرج من الغرفة هاتفة باسمه. لاقت عمها الشيخ سليم وسألته عنه لاهثة، فربت على كتفها قائلاً:
- ما تخافي يا بتي ... الدار عندينا أمان .. ولدك مع عمه بالأرض الغربية حدا الخيل ..
سألته عن مكان الأرض الغربية تلك فأشار إلى الحديقة خارج المنزل خلفها، لم تنتظر وهرعت إلى الخارج تجاوزت الحديقة المحيطة بالبيت إلى أرض شاسعة تتراص بها اسطبلات خيل يقف عند أحدها زين حاملاً عيسى ولأول مرة تلحظ على وجه زين ابتسامة وادعة خالية من أي إنفعال سلبي كما إنها لأول مرة منذ زمن ترى ابنها وقد ارتسمت على وجهه تلك السعادة الصافية وزين يمسك بيده يجعله يمسح على قذالِ جوادٍ أسود بادي القوة. حاولت تمالك نفسها والسيطرة على ضربات قلبها التي كانت تضج بالقلق منذ قليل وتابعت تقدمها نحوهما. كان زين قد لاحظ مجيئها فتلاشت ابتسامته وعاد حاجبيه لانعقادهما المعهود وعلت وجهه تلك النظرة الباردة العجيبة. قالت لابنها لائمة:
- كدة تقلقني عليك يا عيسى ...! إزاي تنزل من غير ما تقول لي ...؟
عيسى: - أ.. أنا آسف يا ماما ... بس أنا شوفت الحصان ده من أ...الشباك نزلت اتفرج عليه ...
همت أن تتحدث لولا أن قال زين حازمًا:
- ياللا يا عيسى أرجع انت البيت عشان أنا لازم أمشي دلوقت ..
عقدت نور حاجبيها في دهشة وهي تمسك بيد ابنها بعد أن أنزله زين أرضًا ثم قفز برشاقة على الجواد الأدهم وأنطلق يعدو بعيدًا عنهما ميممًا وجهه شطر مزرعته التي صارت ملاذه الوحيد عقب كل ما مر به من أحداث. وما هي إلا نصف ساعة أو يزيد حتى وصل إلى بيت المزرعة الصغير... قفز من على جواده الذي أحكم وثاقه أمام البيت ثم دلف إلى الداخل ... كان الغبار يعلو كل شيء ...إلا أنه شعر وكأنه تركه البارحة ...! هبت عليه رياح الذكرى قاسية وخاب ظنه في أن يجد راحته في منزل أثثه بيديه وكيف ذلك وقد شاطرته هذا المنزل يومًا...!
***
ثائرة كانت ... متذمرة لأقصى حد ... تصيح بعصبية شديدة ... وكأنه لأول مرة يراها ... ويكأنما هي قنبلة موقوتة آن أوان انفجارها ... وكأنها امرأة أخرى غير تلك التي تعيش معه منذ شهرين ...! مرر يده بين خصلات شعره الفاحم محاولاً تهدئة ثورته والسيطرة على غضبه وانتقاء كلماته كي لا يتلفظ بما قد يندم عليه لاحقًا.
- حبيبتي أنت عارفة ان مبدأ الشغل ده مرفوض تمامًا بالنسبة لي إلا أني ...
قاطعته بعصبية وقد تضرج وجهها بالحمار انفعالاً:
- What the hell does that suppose to mean...؟ أنا عايزة أحقق ذاتي ... إحنا في القرن الكام عشان تقول لي رافض الشغل وكلام سي السيد ده..! أنا مش أمينة يا سي السيد ... أنا كارمن عمر هجرس لو كنت نسيت ...
ضغط على أسنانه بقوة كي لا ينفجر بدوره:
- بالراحة يا كارمن ... إنتي ما اديتنيش الفرصة أكمل كلامي.. باقولك أنا كنت رافض مبدأ الشغل بشكل عام ... لكن ممكن أما تتخرجي تشتغلي مع باباكي في واحدة من شركاته ... لكن تقعدي تتنططي من بلد لبلد وتخدمي الناس في الطيارة ... يا ست كارمن عمر هجرس .. مرفوووض تمامًا ... وبعدين تعالي هنا .. أنت ازاي هاتبقي مضيفة بالحجاب ...؟ مش ممنوع الحجاب ...؟؟؟ وإزاي هاتكملي دراستك يا كارمن...؟ إيه ناوية تسيبيها واللا إيه ...
أرتبكت قليلاً ثم قالت وقد عاودها عنادها الشديد:
- أنت مش عارف أن پاپي احتمال كبير قوي يبقى وزير الزراعة في التعديل الوزاري اللي جاي واللا إيه..؟ غير كدة كمان معارف پاپي في مصر للطيران اللي هايتأكدوا إني قبلت في الوظيفة ممكن يخلوني أبقى بالحجاب عادي ...
ابتسم ساخرًا وهو يقول:
- يتأكدوا إنك قبلتي في الوظيفة..!! محسساني انك رايحة تشتغلي في الأمم المتحدة..!
لم تلتقط نكهة السخرية التي طعمت كلماته، وظنته لينًا من جانبه، فقالت بغرور وقد هدأت ثورتها إلى حدٍ ما: - لأ طبعا مش راحة اشتغل في الأمم المتحدة ... راحة اشتغل أميرة ... أميرة فوق السحاب ... وبعدين أنا أصلاً مش محتاجة واسطة عشان يقبلوني .. كل شروطهم متوفرة فيا وزيادة كمان ... الجمال والثقافة واللغات ... الطول والوزن واللباقة وحسن التصرف ...
أقتربت منه في نعومة بعد أن ظنت هدوئه انسحابًا، وقالت: - حبيبي ... ده حلمي من وأنا صغيرة ... أبقى مضيفة طيران وأسافر هنا وهناك ... وهما هايسمحوا لي إني أتابع دراستي وفيه مرونة إني أروح أمتحن وقت الامتحانات ...
نظر إليها طويلاً وقد ابتعد عنها قليلاً ... كيف لم يلحظ ...؟؟ كيف لم يلحظ أنها لازالت كارمن ذات الملبس المتحرر التي قابلها أول مرة ... لم يكن ذاك التغير وتلك الهشاشة التي رآها عليها إلا حالة عابرة لكنها لم تتغير قيد أنملة من داخلها ...!
- لسة برضه شغلك كمضيفة مرفوض يا كارمن ...
اشتعلت أكثر من ذي قبل وقد شعرت بإهانة لا حد لها وهي ترى كبريائها يسقط من عليائه بعد أن خلعت رداء المعركة وقد ظنت هزيمة خصمها الذي نهض مرة أخرى واستمر في مواجهته ...! انتفضت واقفة وهي تهتف: - وأنا مش هافوت الفرصة دي يا زين ...
نهض بدوره قائلاً بصرامة مخيفة: - ماتخلينيش أقول لك يا أنا يا الشغل ده يا كارمن وأفهميني بقى ...
هزت كتفيها ورأسها بحدة وهي تقول:
- أنت حر يا زين ... أنا هاروح أقعد عند پاپي لحد ما تبقى تعرف تفهمني ... حاجة تخنق ...!
ورحلت من أمامه كإعصار هادر.. دخلت غرفتها ... أنزلت حقائبها وقبل أن تشرع في جمع أغراضها أمسكت هاتفها كتبت رسالة قصيرة بعصبية "حسام ... أنا جاية الإنترفيو بتاع يوم الحد". ثم ألقت بهاتفها وبدأت تلملم أغراضها في حقائب السفر الأنيقة ... أبدلت ملابسها بسرعة وخرجت تجر حقائبها.
- إهدي يا كارمن وبلاش تسرع ... خلينا نتكلم...
نظرت له بامتعاض ثم أخفت عينيها بمنظارها الشمسي وخرجت مسرعة إلى سيارتها، أما زين فقد تابعها بعينيه في صمت وبداخله بدأ ألف سؤال ينبش قبره ويطل برأسه معلنًا أنه لم يمت بَعدْ..! رغم أنه عمل جاهدًا على دفن الاسئلة كلما ترائت له، إلا أنها أتت لتكشف له الآن عن وجهها المشوه وتباغته في وحدته وتجتمع على قلبه الذي صار وجبة سائغة لهن. الغرفة الفخمة الممتلئة ذهبًا ومرايا خاوية جدًا من ملابسها وعطورها وزخم اشيائها التي كانت تتواجد أكثر منها.
بقلبٍ صار كالحلث البالي وضع نفسه في سيارته وقطع اللأميال حتى بلدته دون أن يشعر بالوقت أو المسافة. هبط إلى بيت المزرعة... لكم اشتاق إليه... لم يحدث أن اختلى بنفسه هاهنا منذ ما يزيد عن شهر كما كان يفعل فيما مضى دائمًا... منذ أن جاء معها هاهنا وأبدت كرهها للمكان وأنه "حر حر ... حر بشع فظيع ومافيش إيه سي كمان..!" كما قالت... وهو منفي بمنزله "الفخم" في مدينة السادس من أكتوبر... عُزلة إجبارية مع بعض المرايا والأثاث والتحف المذهبة الفخمة وزوجة تقضي جُل أوقاتها بين النادي والكوافير وبيت أبيها...!
***
- "فين بقى الحاجة المهمة اللي قولتي لي إني لازم أشوفها وأنك شايلاها لي...؟"
تسائلت تقى في لهفة... فابتسمت نور بحنو بالغ... وكأن تقى قد اشتمت رائحة أمها في حديث شقيقتها. نعم.. لقد عقدت نور العزم على ان تهبها شقيقتها علَّها تنقذها يومًا ما كما فعلت معها.
كعادتها ... لم تكف علا يسري عبد العال عن إنقاذ الأرواح الهائمة حتى بعد مماتها، لم يُنهي موتها قصة الحب والتضحية عندما قررت تخليد حكايتها كاملة هنالك ... بالمفكرة السوداء.
أخرجتها نور بحرص بالغ من حقيبة يدها وسلَّمتها شقيقتها التي تناولتها برهبة جمة ويبدو عليها أنها تذكرتها..! لهثت في انفعال متطلعة إلى نور التي ابتسمت متأملة شقيقتها وكأنها تقول لها "هنا تكمن الحكاية من البداية". وكأن قدسية الموقف عقدت لسانيهما ... احتضنت تقى المفكرة ورحلت، بينما شعرت نور بخواء كبير عقب أن فارقتها روح أمها التي تلبست بها منذ سنوات وكأنها كانت المحرك الخفي لحركاتها وسكناتها.
المفكرة السوداء العجيبة التي ما إن فتحتها حتى انتثر السحر وأحاط بروحها التعبة ... المفكرة السوداء اللغز التي كانتا تسألا أمهما عنها كلما وجداها تكتب بها في نهمٍ وإصرارٍ عجيبين، فتخبرهما أنهما سيعرفا الأمر قريبًا. المفكرة السوداء المنقذة ... تعويذة الحب والمثابرة.
تتمايل أفرع شجرة البرتقال المزهرة بزهور بيضاء جميلة مع نسمات هواء لطيفة ... تتأملها نور شاردة كوقفتها منذ خمس سنوات أمام تلك النافذة الكبيرة تتأمل نهر هيدسون وجسر جورج واشنطن بنظرة متألمة خاوية.
في الشهر الأول لفاجعتها... غلقت عليها الأبواب وانسحبت إلى داخل ذاتها تبكي وترثي ما آل إليه أمرها..! كانت تقضي النهار صائمة والليل باكية قائمة لا تشتهي طعامًا وقد أزدادت حالة الغثيان لديها وأزداد مقتها للأكل. خلال شهر... برزت عينيها بعد أن هزل وجهها وجسدها وظنت أنه الفراق.
في الشهر الثاني لوجعها... تأخرت عادتها الشهرية... وبدأت تربط بين حالات الغثيان والقيء الصباحي وتأخرها... وبكل فزع الدنيا وبعض الدولارات نزلت لأول مرة من بيت العنكبوت الذي سقطت به كذبابة هائمة، وابتاعت اختبار حمل منزلي... و ... تمر الدقائق سنون.. حتى ظهر الخط الأحمر ثم خطًا آخر..! وأُسقِط في يدها.!
في الشهر الثالث لحزنها... تذكرت اختفاء جواز السفر الخاص بها... وبينما هي تبحث عنه بعينين زائغتين لا تشتهيان من الدنيا سوى الرحيل عنها... رأتها تسقط من بين حاجياتها.... المفكرة السوداء اللغز..! فتحتها لتتشمم عبق أمها من بين الورق وخطها الدقيق المنظم ... فتحتها وكانها تستمع لأمها لأول مرة تحكي لها حكاية عُمْر... حكاية قلب تزلزل حتى تمحص... لقد أماطت علا اللثام عن كل المناطق المظلمة بحياتها... فصارت نور تقرأ بنهم ... تلتهم الأسطر والكلمات بروح مهدودة من الوجع ... بروحٍ نهمة لروحٍ أخرى تربت على كتفها وتأخذ بيدها كي تنهض.
صفحات كثر أنهتهم نور في ليلتها شعرت بعدها بسلام عميق يغمر قلبها ولأول ليلة تنام ملئ أجفانها وكأنها نائمة بين ذراعي أمها كما كانت تفعل كلما أهمها أمرًا ما، وكأن روح علا تجلس على طرف الفراش تحتضنها في حنان.
غفت نور متأملة لصورة نادرة لامها في شبابها ... صورة بالأبيض والاسود إلا أن نضارة الصحة والشباب والسعادة اللامعة في عينيها وابتسامتها الواسعة كانت جلية بالصورة التي تجمع علا بحبيب قلبها سليمان رحيل العربي قبيل وفاته.
"نور عيوني ونور الدنيا أنت يا نور
ياللي وجودك هل علينا بهنا وسرور
ربي يحمي ويحفظ نور من أي شرور
ربي يبارك وتبني نور للهدى جسور"
صوتها الحاني يهدهدها بأنشودة مهد ألفها أباها الراحل كما أخبرتها وتغنت علا متلحنة بها لابنتها ... تفتح نور عينيها غير مصدقة أنها حقًا بين ذراعي أمها تغني لها وتبتسم في حبور ...!!!
"كنت متأكدة أنه كابوس وانك لسة عايشة ... وحشتيني أوي يا أمي...!"
ظلت علا تنشد لها تلك الانشودة حتى بعدما شبت ... وهاهي ذي الآن تنشدها لها بصوتها العذب وابتسامتها الواسعة ...
- "آاااه يا ماما ... الحياة من غيرك صعبة أوي ..."
- "أنت قوية يا نور ... ولازم تقفي على رجليكي وتواجهي ماتهربيش ..."
- "ماما ... أواجه إيه ...؟؟ ما كل اللي فات ده كابوس وحضرتك الحمد لله موجودة أهوه ..."
- "ماتهربيش يا نور ... أديكي قريتي اللي حصل لي من وانا أصغر منك ... لازم تقفي زي ما وقفت وتكوني حتى أقوى ... "
- "ماما ... قـ... قصدك إيه...؟ أنا هاستخبى في حضنك ومش هاسيبك أبدًا ...."
- "ماتهربيش يا نور ... واجهي خوفك وحزنك وأهزميهم .... ما تهربيش..."
وأزداد سطوع هالة الضوء المحيطة بأمها حتى اختفت و... فتحت نور عينيها لتواجهها تلك النافذة الكبيرة المطلة على نهر هدسون وترى بين يديها صورة أمها في شبابها تمامًا كما رأتها منذ قليل.
في الشهر الثالث لحملها، ... بعد أن أفاقت من حلمها الجميل على وقت الفجر ... هجرت نور سجنها الاختياري والساعات الطوال لتأمل النهر من علٍ، وتوضأت وقد عزمت إسقاط يأسها مع ذنوبها المتساقطة من ماء الوضوء. أرتدت ملابس الصلاة الخاصة بأمها، ووقفت لتصلي الفجر. وكما همست لها روح أمها... هبطت إلى أرض الواقع وقررت التحرك كي تحاول إنقاذ نفسها و... جنينها.
كان يومًا تشرينيًا غائمًا... توقعت نور خلو شوارع مانهاتن من أي سائر بساعات النهار الأولى، إلا أن دهشتها كانت كبيرة وهي ترى عددًا غير قليل من أهل نيويورك البعض ذاهبٌ إلى عمله وآخرون يمارسون رياضة الجري. وضعت يديها في جيبي عبائتها الخريفية رمادية اللون ويممت وجهها غربًا سائرة بشارع برودواي الشهير تاركة خلفها جسر جورج واشنطن متوجهة صوب سنترال بارك، لم تكن تدري إلى أين هي ذاهبة إلا أنها استمرت في المسير متأملة المحال التجارية التي كان أغلبها مغلقًا والأشجار الباسقات المتناثرة على جانبي الطريق وبمنتصفه... أشجار خريفية تساقطت أغلب أوراقها. سارت كثيرًا وأخذت تملأ رئتيها بهواء الصباح النقي محاولة ترتيب أفكارها... محاولة التفكير في طريقة للمواجهة كما أخبرتها امها.
كانت إحدى البقالات "أسوشيتيد سوبرماركتس" قد بدات في فتح أبوابها... قبضت على الثمانين دولاراً في جيبها بتردد.. لقد اعطاها عمها سليم مائة دولارً... ابتاعت بعشرين دولارًا اختبار الحمل من إحدى الصيدليات ولم يتبق معها سوى الثمانين دولارًا تلك. لكنها حسمت أمرها ودخلت إلى البقالة ابتاعت عصيرًا معلبًا شربته ثم اكملت سيرها.
لم تشعر بالوقت وهي تسير متأملة ذلك البلد الغريب تمامًا عليها الذي يجمع أمم متحدة من البشر مختلفي الألوان والأعراق كلٌ يسير بسرعة متوجهًا إلى عمله أو إلى وجهته أيًا كانت. وجدت نفسها قد ابتعدت عن شارع برودواي وبدأت تشعر بالإنهاك عقب السير لساعة ونصف متواصلة... وقفت عند مفترق طرق لا تدري إلى أين تذهب... حاولت تذكر الطريق ... جلست منهكة على أحد المقاعد الحديدية بحديقة صغيرة لتستريح قليلاً كي تفكر بوضوح. راحت تتأمل المكان حولها ... تلك الحديقة الصغيرة الممتلئة بالاشجار يتبعها حديقة أكبر ... السيارات التي تسرع التحرك عقب تلون إشارة المرور باللون الأخضر ... كلٍ سائر في طريقه وهي قد تاه منها الطريق. بدأت الشمس تسطع على استحياء فرفعت عينيها نحوها وكأنها ستلهم قلبها نورها ودفئها وتطمئنه ... إنها غريبة تمامًا ببلد غريب مع رجل لا وازع له من دين أو خلق وصارت الآن بلا هوية ... "كيف بالله يا أمي تريديني أن أقاوم...؟ كيف أقاوم غربتي وأقاوم وحدتي وأقاوم قريبٌ من دَمِي المفترض أنه سكني لكنه هو مصدر ألمي..؟ تخبرينني ألا أهرب ...؟ أنا حتى لا أملك ترف الهرب...؟ سأكون كالمستغيث من الرمضاء بالنار..!"
أنقبض قلبها وتفاقم إحساسها بالغربة وهي تتأمل البنايات الشامخة أمامها ... امتلأت عينيها بالدموع لا تدري ماذا تفعل ... أخذت تحوقل وتستغفر وهي تتابع سير السيارات وتتسائل في نفسها عن كنه ذلك المبنى الغريب المنخفض إلى حدٍ ما وسط البنايات المرتفعة ... ثلاث بنايات منخفضة محاطة ببنايات عملاقة ... لم يلفت نظرها سوى تلك البناية التي تتوسط البنايات الثلاث ذات الطوابق الثلاث وطابق السطح الذي يشبه القبعة الخضراء، نظرت إلى مدخل البناية محاولة تبين كنهها ضيقت عينيها محاولة قرائة اللافتة " Islamic Cultural Center of Riverside Drive" لم تصدق عينيها وقد دب بقلبها شيء من السعادة ... "المركز الثقافي الإسلامي"..!
"ياما إنت كريم يا رب..."
أسرعت إلى الداخل ... إلى مصلى النساء ... كان تقريبًا فارغًا ... توضأت ووقفت تصلي الضحى ... وجدت نفسها تطيل صلاتها ... لم تشعر إلا وهي تختم البقرة في أربع ركعات مثنى مثنى ... سجدت ودعت كثيرًا ... سلَّمت ورفعت يديها تدعو وقد اغرورقت عيناها بالدموع ....
( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيدٍ يتجهمني؟ أم إلى قريبٍ ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).
أخذت تكرر الدعاء وينشج صوتها باكيًا ... "إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي .... إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي" لم تشعر نور بنفسها إلا وثمة يد تربت بحنو على كتفها ... انتفضت في وجل واستدارت خلفها لتراها ... ابتسامتها الواسعة المشفقة التي تشق وجهها الأبيض الطويل تكشف عن اسنان غير منتظمة وخمارها الأبيض القصير يزيد وجهها وضاءةً وجمال.
أخذت نور تمسح وجهها بظهر يديها وهي تقول بصوت مبحوح بإنجليزية سليمة:
- عذرًا ... أنا جدًا آسفة على الإزعاج ... لم أكن أعرف أن هناك أحد غيري بالمصلى ...
قالت لها وهي تجس بجوارها:
- لا عليك عزيزتي ... كلنا نمر بتلك الأوقات ... أنا إيفا ...
مدت يدها إلى نور التي صافحتها قائلة: - أنا نور الهدى ...
تأملتها السيدة طويلاً قبل أن تقول: - تبدين صغيرة ...
ابتسمت نور في إنهاك قائلة: - عمري الفعلي تسعة عشر عامًا ... لكنني أشعر وكأنني في الخمسين من عمري ...
ملامحها الحزينة ... شفتاها بلونهما الأبيض ووجهها الأصفر .. جسدها الهزيل ... خمنت السيدة حال نور، إلا أنها قالت مازحة:
- على هذا ... أنت تكبرينني بعشرة أعوام ... أنا في الأربعين وأقنع نفسي أنني لازلت في العشرين...
رسمت نور ابتسامة على شفتيها وهي تقول بالعربية متنهدة:
- أنا خلاص بقيت حاسة إني جثة متحركة ..!
نظرت إلى السيدة متوقعة أن ترتسم على وجهها إمارات الجهل من كلامها بالعربية، إلا أن إيفا ضيقت عينيها قائلة:
- أنت ... مصرية ... موش كدة..؟؟
ذهلت نور من تلك السيدة ذات اللهجة والملامح الأوروبية التي فهمت حديثها بالعربية ولم ترد عليها باللغة العربية فقط .... بل باللهجة المصرية أيضًا...!!!
- حـ ... حضرتك بتتكلمي عربي,...؟ أنا مصرية فعلاً ...
- أيوة أنا باتكلم عربي ومصري كمان ممكن تقولي إني من طنطا... أنا سعيدة جدًا بلقائك صغيرتي ...
اتسعت عينا نور في غير فهم، فضحكت إيفا قائلة:
- تعالي اعزمك على الفطار وأحكي لك حكايتي وإزاي بقيت ألمانية - مصرية ... والأهم ... إزاي بقيت مسلمة ...
نظرت إليها نور في تردد، إلا أن إيفا نهضت قائلة:
- عشان يبقى زي ما بتقولوا في مصر عيش وملح ...
ضحكت نور متعجبة من تلك السيدة التي يبدو من حديثها أنها ولدت وترعرعت في مصر، وزاد عجبها وهي تراها تلبس خمارًا طويلاً فوق خمارها الابيض القصير و.... نقابًا..!!!!!
***

Just Faith 18-12-17 01:11 PM

- 4 -
"إنك لا تقابل إلا نفسك في طريق القدر...
كن كاذباً تسرع إليك الأكاذيب ...
كن لصاً تتشبث بك الجرائم...
في أي طريق تذهب لن يكون قدرك
إلا صورة من نفسك..."
― مصطفى محمود
***
"أُدعى إيفا... عشت حياة متحررة جدًا في ألمانيا أفعل كل ما يحلو لي... كانت أمي تعمل مدبرة منزل وأنا كنت أعمل نادلة في مطعم بفندق كبير لكي اتمكن من توفير المال لإكمال مصوفات الجامعة. في عام من الأعوام قابلت شاب مصري لطيف ... أسرني حقًا ... كان خالد متميزًا في كل شيء ... تصادقنا عدة أشهر وعندما حان وقت عودته إلى مصر قررت أن أوافق على عرضه .. وتزوجنا وذهبت معه إلى مصر..."
توققفت إيفا عن الحديث حينما اقترب النادل ليضع الطعام على طاولتهما ... فشردت نور في نهر هدسون والمشهد الرائع الذي يطل عليه ذلك المقهى الذي أخذتها إليه إيفا عبر المسطحات الخضراء لنهر هدسون المواجهة للمركز الثقافي الإسلامي، اعترفت في نفسها أنها كانت مترددة من الذهاب مع تلك السيدة العجيبة، إلا أنها حسمت أمرها "فلن يضير الشاه شيئًا سلخها بعد ذبحها" وهي قد تم ذبحها فعلاً. إلا أن إيفا كانت تتعامل بتلقائية وبساطة متناهيين.
- لا يعرف هذا المقهى الكثير من الناس، لكنني منذ أن اكتشفنه وأنا مدمنة على تناول إفطاري هنا ... الطعام ليس ممتازًا لكنني أحب ذلك المشهد الساحر المطل على نهر هدسون بمراكبه ...
استدارت إليها نور متأملة عينيها الرماديتين اللامعتين الباديتين من خلف غطاء وجهها ... كانتا وسط المطعم كنغمة شاذة ... إحداهما منتقبة وأخرى محجبة وسط نساء يرتدين أقل قدر من الملابس حتى في أجواء أكتوبر الخريفية الباردة...!
- أنا طلبت لك سينامون فرينش توست مع الموز والمكسرات وشاي إيرل جراي ...
كانت تتحول من الإنجليزية إلى المصرية في ثواني فابتسمت نور قائلة بهدوء: - متشكرة أوي ... جزاك الله خيرًا ...
ابتسمت إيفا قائلة: - وإياك ...
شردت قليلاً قائلة بالإنجليزية: - أين توقفت...؟ آاااه ... عندما ذهبت إلى مصر مع خالد ... كان منزله في طنطا ببيت أبيه ... لأول مرة في حياتي أشهد اسرة بذاك التماسك وتلك الحميمية ... الكل يلتف حول الأب والام نبعًا من الحنان والحب واخوته ما ألطفهم .. لم أكن مسلمة وقتها ولم يهتم خالد بدعوتي ... وعندما سألته قال لي كوني كما تشائين ... إن اقتنعتي بالاسلام ادخلي فيه ... أنا لا يهمني ... لم يعجبني رده ... أنا لم أر في خالد شيئًا مختلفًا عني ... لا يصلي كأبيه ولا يذهب إلى مكان الصلاة (المسجد) وكان في ألمانيا يشرب الخمر كما أنه أقام معي علاقة قبل الزواج ...! كانت أمه تشاهد قنوات يظهر بها أشخاص ملتحون يتحدثون كثيرًا ... فسألت شقيقة خالد أن تترجم لي ... فأخذت تترجم لي بعض ما يقال حتى عرفت الكثير عن الدين الإسلامي ... واكتشفت أن زوجي أبعد ما يكون عنه ... كما كنت أنا عن النصرانية التي كنت اعتنقها ... فأنا كنت نصرانية بالاسم فقط، لا اذهب إلى الكنيسة إلا في المناسبات الرسمية ...! وعندما عدت إلى ألمانيا مع خالد ذهبت إلى المركز الثقافي الاسلامي هناك وقرأت الكثير من الكتب ثم قررت أن اعتنق ذلك الدين السمح ... وبالفعل اسلمت وعدت معه إلى مصر محجبة ... حجاب صغير ... لم يمض عدة أشهر حتى قررت الذهاب إلى المسجد الذي يصلي فيه أبا زوجي لأجد امرأة من أروع ما تكون... وجهها كالبدر ليلة تمامه من النور الذي يشع به ... كنت قد تعلمت شيء من اللغة العربية ... علمتني أم مصعب الكثير عن الإسلام حتى وصلتُ إلى قرار تغطية الوجه ... ليس تقليدًا لها بل تأسيًا بأمهات المؤمنين ... لم يعجب خالد ذلك ... فلم أتركه حتى ذهب إلى نفس المسجد ليصلي خلف أبا مصعب أحد رجال التبليغ والدعوة المشهورين وبتوصية من أم مصعب ... لم يترك زوجها زوجي حتى صار خالد بدوره الآن بفضل الله يدعو إلى الله هنا في أمريكا ..."
أتسعت ابتسامة نور من قصة إيفا العجيبة التي اكملتها بقولها: - ولدينا الآن خديجة ومصعب ...
ضحكت نور قائلة: - صرتي أنت بدورك أم مصعب ...
شردت إيفا قائلة: - ليتني أصل إلى ربع ما كانت عليه أم مصعب من العلم ... رحمها الله وألحقنا بها في الجنة ...
إلا أن شرودها لم يدم واستعادت بهجتها وهي تتناول طعامها قائلة: - أنا اتكلمت كتير وموش سايباكي تاكلي.. ياللا ناكل قبل الشاي ما يبرد ...
تناولت نور بعض اللقيمات من طعامها ثم شردت ثانية في مياه النهر مفكرة في قصة إيفا العجيبة .. امرأة من الغرب يكتب لها الله الهداية على يد سيدة بمسجد صغير في طنطا ... سبحان من إذا أراد شيئًا قال للشيء كن فيكون.
- سرحانة في إيه...؟ ماقولتيليش إيه هيا قصة حياتك يا ابنة العشرين والخمسين...؟؟
قالت نور بمرارة: - قصة حياتي...؟؟؟ إنها قصة مماتي ليست قصة حياتي....!
عقدت إيفا حاجبيها في إشفاق وانتبهت لها بكل حواسها، فقالت نور بعد تردد: - أنا كان ليا أم ... هيا كل حياتي... وفي يوم....
***
"ياااه يا عمي .... فعلاً ... البلد هنا جميلة أوي ..."
قالتها نور لعمها سليم بعد أن أخذها في جولة لتشاهد أهم معالم الواحات البحرية القريبة منهم ... فقال سليم:
- آه والله يا بتي ... البلد مليانة خير بس محتاجة اللي يحفظه ... محتاجة اللي يطلعه ... والحكومة كانت عاملة ودن من طين وودن من عجين ...
ضحكت نور قائلة: - ما خلاص يا عمي ... خلصنا من الحكومة دي وإن شاء الله يجي لنا الاحسن منها...
ابتسم قائلاً: - يا رب يا بتي يا رب ...
ثم انحنى نحو عيسى الذي كان سعيدًا بالمساحات الشاسعة التي أخذ يركض بها وبالرمال التي استمتع باللعب فيها، ثم حمله قائلاً: - انبسطت يا ولد ولدي...؟
أومأ عيسى ليتحرك شعره الاسود الناعم حول وجهه فيزيد وجهه وضائة فيحتضنه سليم في حب ثم يقول لنور: - ياللا بقى افرجكم عالمزرعة ...
ركبت نور مع عمها سيارته التي انطلقت إلى مزرعة آل رحيل المترامية الأطراف حتى وصل إليها فأوقف السيارة وترجل منها فنزلت هي وعيسى بدورهما، أخذ يشرح لها: - المزرعه هنا بقى يا نور زين ولدي بيطبق فيها نظام جديد كدة درسه بالجامعة ... قال بيزرع من غير كيماوي ... والمحصول بنصدره والدول الأوروبية بتاخد منه كميات كابيرة ...
ابتسمت نور قائلة: - عارفة يا عمي ... محاصيل المزرعة هنا كلها أورجانيك والمستوردين في أوربا وأمريكا بيفضلوها جدًا و...
"أغبياااااء .... أنا باشتغل مع شوية أغبياااااا..."
عندما توغلوا بداخل المزرعة قاطعهم ذلك الصياح، فأسرع سليم باتجاه الصوت وخلفه نور ليريا زين يقفز من على جواده متجهًا نحو بعض المزارعين ممسكًا أحدهم من جلبابه وهو يصيح بغيظ: - أنتوا إيه اللي بتهببوه ده ...؟؟؟ هوا مافيش حد بيسمع الكلام كدة خالص ...
أنتفض المزارع قائلاً بخوف: - حـ... حقك علينا يا باشمهندز ... بس دي أوامر سي الاستاذ طلال افندي...
"إيش فيه يا زين ...؟؟ بالراحة يا وليدي ... إيش اللي صار لكل هاد...؟"
هتف الشيخ سليم، فترك زين المزارع واستدار نحو أبيه قائلاً بدهشة: - بابا...؟ إيه اللي جاب حضتك الساعة دي...؟
- إيش يا زين ... ما تبغى أبوك ياجي...؟
- العفو يا بابا ... أنا بس مستغرب ...
- طيب قول لي ... إيش اللي صار لكل الصياح هاد...؟
زفر زين بعصبية قائلاً: - قلتلهم ونبهت عليهم ألف مرة ... ممنوع عزيق الارض ... ممنوع عزيق الارض.. ارجع الاقيهم بيعزقوا الارض ولااااا كأني قلت حاجة...! وقال إيه ... أوامر سي الاستاذ طلال أفندي ...
ربت سليم على كتف زين قائلاً: - معلهش يا ولدي احنا مامتعودينش على الحاجات الجديدة هاذي .. وولد عمك مش مقتنع بالموضوع هاذا وشايف كيف الكل أن عزيق الارض مفيد جدا لأنه عم بيهوي الأرض وما بيخليها يابسة وبيخلصها من الحشيشة الخطرة وشايف انه بيساعد بكدة ان الارض تتغذى...
مرر زين أصابعه في خصلات شعره الفاحم بعصبية وهو يقول: - يا والدي طلال ناقشني في الموضوع ده اكتر من مرة .... وبينت له أضرار عزيق الارض على النظام اللي بازرع بيه هنا واللي بيختلف عن كل أنظمة الزراعة اللي عارفها ... وقلت له يا طلال فيه كائنات دقيقة موجودة تحت سطح التربة نافعة جدًا للتربة أما بتعزق الأرض بتموت الكائنات دي لانها بتتعرض لأكسجين اكتر من حاجتها وبتتعرض لضوء الشمس المباشر... وبعدين كدة بيهدر رطوبة التربة فبنحتاج كمية اكبر من المية في الري وكمان بيهدر العناصر الغذائية اللي محفوظة في التربة أما يطلعها مرة واحدة كدة فبيضيع اغلبها في الهوا...
- "وبرضه يا عمي ... الحشيشة الغير مرغوب فيها اللي عايز يتخلص منها دي ... أما بيعمل عزيق للأرض بيطلع البذور بتاعتها للسطح وبكدة بيديها فرصة أكبر للنمو...!!"
أكملت نور كلام زين، فالتفت إليها ليلحظ وجودها لأول مرة فينعقد حاجبيه بغيظ بينما يبتسم الشيخ سليم بسعادة جمة وهو يقول: - إيش هاذا يا نور..؟ كمااان خابرة طريقة الزراعة تبع زين...؟
وضعت نور يديها بجيبي عبائتها الواسعة وهي تتقدم نحوه قائلة: - مش كنا بنشتغل على توزيع المحصول ده في أمريكا يا عمي ...؟ فكان لازم أعرف كل حاجة عن طريقة الزراعة ...
قال الشيخ سليم في أسى: - الله يرحمك يا زكريا يا ولدي ... هوا اللي علمك عن شغلنا...؟؟
أرتبكت نور قليلاً، لم تدر بم تجيبه، إلا أنها صاحت بعيسى هاربة من السؤال: - عيسى ... ماتبعدش عني عشان ماتتوهش ...
توجه الشيخ سليم إلى عيسى وحمله قائلاً: - خليه بكيفه يا نور ... ما راح يتوه منينا أبدًا ... شوف يا زين ولد أخوك جميل إزاي ...
تأمله زين لحظات قليلة كانت كفيلة باستدعاء ذكرى أليمة لازالت مُسلَّطة على قلبه كنصلٍ حاد لا يعرف رأفة ولا رحمه، لمح أبوه عينيه الأبنوسيتين اللتين غشاهما ألم جرحه الناتئ على الدوام، فنظر إليه بإشفاق وهم ان يقول شيء ما، إلا أن زين يكره الشفقة ... يمقت أن يظهر وجعه ولو بنظرات عينيه، فقفز على جواده قائلاً في صرامة: - أنا رايح أشوف طلال يا بابا ... عن إذن حضرتك عشان حسابه معايا عسير ...
وكأن الشيخ سليم استشعر ما سينزله زين من جام غضبه على ابن عمه، فقال له بقلق: - بالهداوة يا ولدي.. حدته بالهداوة ... ده ولد عمك يا زين ...
أومأ زين ثم أنطلق بجواده مسرعًا وقلبه يخفق بعنف تتصارع به بعض الذكريات ويموت الأمل بين جنباته الف مرة ... أمل العثور عليها مرةً أخرى.
***
- "زين يا ابن خالي ... ماينفعش اللي بتعمله في نفسك ده...!"
قالها له ياسر يومها في هدوء، فتمتم زين: - إيه اللي باعمله في نفسي يا ياسر...؟ أنا اللي ضحكت على نفسي وكذبت عليها مش عارف إيه السبب أو الدافع بس ممكن تقول أن قدري كدة..! وخلاص .. توتة توتة خلصت الحدوتة ...
- يا زين أنت بتقول إيه ...؟! الأمور مابتتاخدش كدة ... ده جواز يا ابني مش لعب عيال ...! أمك هاتتجنن عليك وابوك قلقان جدًا وعايزين يطمنوا عليك ...
ابتسم زين ساخرًا وهو يقول: - وسيادتك بقى سفير النوايا الحسنة..!
قال ياسر: - لا يا سيدي لا سفير ولا يحزنون أنت صاحبي واكتر من اخويا قبل ما تكون ابن خالي وحبستك لنفسك هنا في بيت المزرعة شهر بحاله مش كويس لا عشانك ولا عشانها ...
نهض زين ليقف أمام النافذة متأملاً الشمس الغاربة على المزرعة ووضع يداه بجيبي بنطاله وهو يقول بخفوت: - يعني عايزني أعمل إيه يعني ...؟ الهانم راحت اشتغلت اللي هيا عايزاه وطز في كلامي ...
نهض ياسر ليقف خلفه قائلاً: - روح أتكلم معاها وحاولوا توصلوا لنقطة مشتركة بينكم وشوية تنازل من هنا على شوية ...
أستدار زين هاتفًأ: - أنا مش هاتنازل عن مبدئي أبدًا يا دكتور ... مراتي ماتشتغلش مضيفة ... كلمة واحدة...
أبتسم ياسر محاولاً تهدئته وهو يقول: - أستهدى بالله كدة يا زين وحاول توصل معاها لحل وسط ... روح لها في شغلها بعيد عن أي تأثير من أبوها أو أمها ... وكلِّمها إنشالله حتى تشتغل مضيفة أرضية ... أهي هاتبقى موظفة زي أي حد ...
شرد زين قائلاً: - مضيفة أرضية...؟
قال ياسر بحماس: - آه ... أهي هاتبقى مضيفة برضه وفي نفس الوقت مش هاتضطر للسفر على طول ولا تبعات المضيفة الجوية ...
قال زين: - ولو إن حكاية المضيفة دي مش نازلالي من زور ... بس أمري لله ... هاروح لها واتكلم معاها زي ما انت بتقول ...
زفر ياسر في ارتياح قائلاً: - أخيرًا ... الحمد لله ...
ابتسم زين أخيرًا ثم خرج مع ياسر وركب كلاً منهما سيارته كلٌ إلى وجهته. في محاولة أخيرة منه لاسترضاء تلك الطفلة العنيدة (كارمن) يمم زين وجهه شطر مطار القاهرة غير عالم أي موقف ينتظره هناك. وبعد قيادة استمرت لأكثر من أربع ساعات وصل زين إلى المطار وعرف أنها طلعت في رحلة جوية ستصل بعد ساعة، فجلس في المقهى المقابل لباب الخروج منتظرًا إياها.
أما كارمن فلم تدر أنه ينتظرها ... لم تتخيل أن زين بعنده وصرامته سيأتيها محاولاً الوصول معها لحل وسط... نست أو تناست في غمرة فرحتها بعملها الجديد مشكلتها مع زوجها ... "إنه أبله ... كيف يُغْضِبُ من هي مثلها ...!! إن كل من لقيتهم من رجال يتمنون مجرد نظرة رضى من عينيها ...! إنها (كارمن) جميلة الجميلات الجوهرة التي سمحت له بالاقتراب منها لكنه لم يكن كافيًا لها..!" كانت تلك أفكارها كلما لاح في أفقها بوادر ذكرى خلافها مع زين.
- "بس أنا ماعرفش إن الكوسة سرها باتع كدة ... شهرين التدريب بقوا بقدرة قادر شهر وطلعتي في رحلة جوية على طول ..."
قالها حسام صقر الذي كان يرتدي ملابس الطيار وكانت كارمن تسير بجواره بملابس المضيفة الجوية ويجر كلاً منهما حقيبة صغيره خلفه. ضربته كارمن بخفة على ذراعه قائلة: - ليه ماتقولش إن أنا اللي نبيهة وشاطرة وبافهم كل حاجة أسرع من غيري.. !
أحاط حسام كتفيها بذراعه الحرة قائلاً: - ده انت النباهة والشطارة والحلاوة كلها يا جميل ... !
ضحكت كارمن بنعومة وهي تقول: - لا يا شيخ ...! إيه يا كابتن السهوكة دي ... مش لايقة عليك بالبدلة الرسمي ...
همس لها: - لاااا ده كدة ولا حاجة عشان خاطر البدلة ... تعالي لي بس وأنا من غير البدلة هتلاقي اتنين كيلو حنية زيادة ...
ارتفعت ضحكاتها مرة أخرى وهي تقول: - ياااي ... لأ كدة بلدي أوي ... إيه اتنين كيلو حنية دي...؟!
أزداد من ضفط ذراعه مفتولة العضلات حول كتفها وهو يقول بمرح: - البلدي يوكل يا هانم ...
وللمرة الثالثة ترتفع ضحكاتها بميوعة والجميع ينظر إليهما في فضول إلا زوج من الأعين اشتعل نارًا وهو يرقبهما. فوجئت كارمن بمن يجذبها من ذراعها في حدة ويصفعها بعنف صفعة أسقطتها أرضًا وجعلت أذنها تطن، أمسكت وجنتها في ألم وهي ترفع نظرها إلى أعلى بذهول لتجد زين يقف هنالك عيناه تقدح شررًا ويبدو أنه سيُجهز عليها فزحفت إلى الخلف في ذُعر وهي تتمتم بذهول: - ز.. زين ...؟؟؟ أنت إيه اللي جابك هنا....؟
صاح بكل ما يعتمل في قلبه من غضب: - ربنا ... ربنا يا هانم يا بنت الـ... أكابر ... ربنا أراد أنه يكشفك ليا.. يا خاينة يا ساقطة يا زبالة ...
أقترب منه حسام قائلاً: - مايصحش كدة يا أفندم ... مدام كارمن مجرد زميلـ...
لم يسطع حسام إكمال جملته حيث هوت قبضة زين على فكه وقد ضاعف غضبه من قوتها ليرتد حسام إلى الخلف ويسقط بدوره أرضًا...!
أما زين فقد توجه إلى كارمن التي جاهدت لتقف وجذبها من شعرها هاتفًا: - أنت أحقر إنسانة شوفتها في حياتي ... ليه ... ليه ضحكتي عليا ومثلتي الإيمان والتقوى وانت ولا حاجة ... ولا حاجة نهائي ...
صرخت كارمن في ألم وهي تقول: - سيبني يا زين ... إيه الهمجية دي ... فين الأمن ...
دفعها زين أرضًأ مرة اخرى وهو يقول: - أنا فعلاً هاسيبك ... مش عايز أي حاجة منك توسخني أكتر من كدة ... أنت ماتستاهليش تفضلي على ذمتي لحظة واحدة ...
وهنا اقترب بعض رجال الأمن من زين وأمسكوا به يقتادوه إلى الخارج، إلا أنه وقف هاتفًا: - أنت طالق يا كارمن يا بنت عمر هجرس ... طالق ... طالق ...
لم تكن قد نهضت بعد أن أسقطها ثانية فألتمعت عينيها وقالت بشراسة: - وأنت يا زين متستاهلش تشوف ابنك اللي في بطني ولا لحظة واحدة ... عمرك ما هاتشوفه يا زين ... على جثتي لو عرفت توصل له حتى..
جحظت عينا زين وخارت قواه على أثر كلماتها بينما يقتاده رجال الأمن إلى الخارج وأخذ يتمتم: - أ... أبـ.. أبني...؟ أنت حامل...؟ أبني ...؟؟؟
نهضت قائة في تشفي: - أيوة يا زين ... أنا حامل في شهرين ... والرحلة اللي فاتت دي كانت أول وآخر رحلة ليا ...
لم يشعر زين بما حوله ... شعر وقتها وكأنه في كابوس مقيت ودَّ لو استيقظ منه، إلا أنه كان واقعًا أمر .. وأستيقظ ليجد نفسه بسيارته لا يدري إلى أين يذهب أو ماذا يفعل.
***
"الله يأخذ بقدر ما يُعطي،
ويُعوض بقدر ما يحرم،
ويُيسر بقدر ما يعسر،
ولو أن كل منا دخل قلب الآخر، لأشفق عليه
ولرأى عدل الموازين الباطنية برغم اختلال الموازين الظاهرية
ولما شعر بحقد ولا بزهو ولا بغرور."
- مصطفى محمود، أناشيد الإثم والبراءة
***
عقب الغداء، إلتفوا حول الجدة في جلستها تدور عليهم أقداح الشاي الساخن مضيفًا إلى حواراتهم المزيد من السخونة ... كان الرجال يجلسون سويًا حول الجدة يتناقشون أمر ترشح الشيخ سليم بانتخابات مجلس الشعب المقبلة، أما النساء فقد جلسن يتحدثن عن الابناء والأحفاد ويتناقلن أخبار بعض الجيران والأقارب.
- نقعد طول الليل نهاتي ونقول كمان ... بلاش يا خوي شغل السياسة هيذا ... السياسة طريقها واعر يا خوي ...
قالها عمها عتمان وهو يرتشف من كوب الشاي الخاص به، فقال ياسر: - ليه يا خالي...؟ خلاص الحكومة اللي كانت بتزور الانتخابات راحت في داهية وأحنا داخلين على عهد من الديموقراطية وشفافية الانتخابات.. طول عمر عيلة رحيل بتخدم الواحات بمجهوداتها الذاتية من غير أي مساعدة من الحكومة اللي بتطنش لما كنا نطلب منها أي حاجة ومجلس البلد زي قلته ... فاكر يا خالي أيام سوس النخل أما كانت هاتقضي على النخيل في البلد كله ... أنا فاكر أن كلنا اشتغلنا بعد ما برضه طنشت الحكومة وكان زين بيلف على النخل يكشف عليه ويدي للعمال العلاج الآمن اللي جابه من مهندس زميله ... العلاج اللي جنِّب الناس لا يقلعوا النخل ولا يعالجوه بمواد سامة ..! خالي عتمان ... أنا واكيد اهل البلد كلهم شايفين أن أفضل مين يتكلم بلسانهم هو الشيخ سليم رحيل العربي ... خاصة بعد فرحهم بالمستشفى اللي بناها خالي من كام سنة وأُجرتها الرمزية وتوافر أغلب التخصصات فيها، فالواحد منهم مابقاش مضطر يروح القاهرة عشان يكشف ويطخ مشوار خمس ساعات رايح وخمس ساعات جاي في طريق الواحات الفقير ده..!
أتسعت ابتسامة الشيخ سليم الذي اعتدل في جلسته وهو يقول: - مش إكده بس يا ولدي ... لو على خدمة البلد واهلها احنا بنخدمهم على قد ما نقدر من غير حتى المجلس ولو أنه المفروض يساعدنا شوية حتى في موضوع مية الشرب هيذا ... بس فيه مسائل أخطر الواحد محضرها لازمن تنكشف قدام الكل في المجلس ... لازمن توصل للحكومة ...
هنا هتف عتمان: - ما هيا المسائل اللي بالك فيها هاذي يا خوي اللي أنا خايف منيها ... ماراح يسيبوك تكشفهم صدقني ...
هنا تدخل زين في الحوار قائلاً بحدة: - يا خالي أحنا زهقنا بقى من اللي بيحصل بدئًا من على الحدود مرورًا بينا ... لازم نتحرك لأن الأمور هاتزيد عن حدها والناس كلها عارفة وساكتة ...
كانت نور تقف في ركن بعيد إلى حدٍ ما عاقدة ذراعيها تتابعهم وكأنها تتابع فيلمًا يدور خلف شاشة تلفاز ضخمة ... حوار الرجال ... ثرثرة النساء ... زينب تمر عليهم بالشاي ... ياسين الجالس أرضًا أمام سلم الدار يرتب مجموعة ضخمة من المكعبات في أشكال بديعة وقد إلتف حوله بعض الأطفال –منهم عيسى- يتابعونه في صمت... لوحة متقنة لا ترى نفسها بها أبدًا لم تدر لماذا..!
- "الجميل واقف بعيد ليه...؟"
تسائلت تقى التي جاءت تقف بجوارها وهي تهدهد حبيبة بين ذراعيها، فهزت نور كتفيها قائلة: - عادي ..
أحكمت تقى إغلاق معطفها وهي تقول: - الجو الصحراوي ده ممكن يبقى حر الصبح وتلج بالليل شوفي اهو يادوب المغرب دخل والجو برررد ... حاسة إني هاتجمد ...
ابتسمت نور قائلة: - يا بنتي هوا كدة بتقولي تلج ...! انت ماشوفتيش التلج على أصله ... في أمريكا كانت الحرارة بتوصل تحت الصفر لدرجة تحسي أن البخار اللي طالع مع نفسك بيتجمد ...
ضحكت تقى قائلة: - يا سلاااام أمريكاااا ... يا ستي أروح هناك بس وأنا اتحمل التلج والصقيع وكل حاجة..
لمحت نور بطرف عينيها حسناء وهي تنزل سلم الدار ببطيء ممسكة هاتفها في يدها مركزة نظراتها عليه وقد أخذت تكتب شيء ما عليه، قالت نور لتقى: - أمريكا مش بالجمال اللي الناس متخيلاه ده ... بالعكس انا كرهت نيويورك من أول خطوة فيها ...!
قالت تقى: - لاااا يا نور حرام عليكي ... ده أنت متصورة في أماكن فيها مناظر طبيعية رائعة و....
إلا أنها لم تكمل جملتها حيث قاطعتها صرخة حسناء التي أصمتت الجميع فألتفتت تقى خلفها لتجد حسناء قد تعرقلت بأشكال ياسين التي كان يشيدها بالمكعبات وطار خفيها فوطئت قدميها على قطع المكعبات التي آلمتها فسقطت أرضًا ثم صرخت بشقيقها: - أهبل ... أهبل ... أنت أهبل ..!
وأخذت تئن وتتوجع، فسقط قلب تقى في قدميها وهي تتمتم: - ربنا يستر...
وألقت بابنتها بين يدي نور ثم توجهت إلى ياسين الذي أخذ ينظر إلى أشيائه الساقطة أرضًا للحظات ثم انفجر في نوبة غضب هادرة يجري في أرجاء المنزل ويصيح بأعلى صوته ... يرتطم بالأثاث والجدران ... تحلق حوله الجميع ينادونه يحاولون إيقافه، لكنه كان يزداد هياجًا ... صاحت تقى: - ماحدش يمسكه ... أنا هاجيب اللي يهديه...
وصعدت إلى أعلى بسرعة، أما ياسين فأخذ يصيح ويتخبط ثم انتهى به الأمر صاعدًا على الدرج بهياج مستمرًا في صياحه الهائج الصاخب، فصعدو خلفه ظنُّوا انه يلحق تقى، إلا أنه استمر في صعوده حتى بلغ سطح البيت وهناك تسلق سُلمًا صغيرًا إلى سطح الغرفة المبنية على السطح ... وقف الجميع على السطح ينظرون إليه أعلى تلك الغرفة يحاولون التحدث إليه وقد تملكهم الخوف.
- ياسين يا ولدي ... أنا امك اسمعني يا حبيبي أهدى الله يرضى عليك..
- ياسين تعالى لياسر حبيبك ... معايا شكولاته من اللي بتحبها شوف يا ياسين ...
- ياسين أنزل يا ولدي ... ياسيييين ...
كاد قلب سنية ينخلع من الخوف ففي أي لحظة قد يسقط ولدها من علٍ سقطه من شأنها أن تودي بحياته .. نظرت حولها في رجاء باحثة عن تقى ... مدركة لأول مرة أهمية الدور الذي تلعبه تقى منذ مجيئها مع ابنها التوحودي..!
- هيا فين تقى...؟
- فينها أم حبيبة يا دكتور...؟
- فين تقى...؟؟
الكل يعرف أنه لا يستجيب إلا لها ولا يتواصل إلا معها، وهنا دخلت تقى مسرعة تمسك في يدها بعض الأشياء، وتسلقت بدورها السلم الصغير أعلى الغرفة التي يقف ياسين فوقها لم تصرخ مثله، إنما قالت بهدوء: - ياسين عمل أشكال رائعة ... شوف ...
وأخذت ترص بعض البيوت والمراكب المصنوعة من الورق المقوى متقنة الصنع ووضعت في النهاية صندوقًا إذا فتحت غطائه أنطلق صوتًا عذبًا يقرأ الفاتحة، فبدأ صراخ ياسين يهدأ وانتبه إلى الاشياء التي وضعتها تقى أمامه ... كانوا جميعًا من صنع يديه حتى الصندوق الذي يتلو قرآنًا عند فتحه. جلس على الأرض وأخذ يتأمل المنازل التي صنعها وكانت تقى قد وضعت معهم بعض من الورق المقوى واللصق فأمسكهم ياسين بسعادة وهو يردد: - ياسين يعمل بيت ... ياسين يعمل مركب ...
همست له: - ياسين ممتاز بيعمل أشكال حلوة وكلنا بنحبه...
لم يبد عليه أنه استمع إليها حيث انخرط في تشكيل الورق المقوى غير عابئ بشيء. زفرت تقى ونزلت إلى الجمع القلق أسفل الغرفة قائلة بصرامة: - يا ريت حد يبلغ حسناء أن أخوها حالته خاصة وأما حد يزعق فيه بالإضافة أنها وقعت الأشكال اللي قاعد يعملها من الصبح ده بيؤدي لحالات هياج خطيرة ممكن مانعرفش نسيطر عليها ... ياسين مابيستحملش الصوت العالي ... يا ريت الكل يعرف كدة ...
أختفت النظرات الوجلة من عيني سنية لتستعيد نظراتها حدتها ثانية وهي تقول بصرامة: - راح تخليه لحاله اكده فوق...؟
تنهدت تقى وهي تهز رأسها قائلة: - لأ طبعًا يا عمتي مش هاسيبه ... هاقعد معاه لحد ما أعرف انزله بعد ما يخلص لعب ...
عقدت سنية حاجبيها ثم رحلت دون كلمة أخرى، بينما اقتربت نجاة من تقى وربتت على كتفيها قائلة: - ربنا يبارك فيكي يا تقى ويحميكي لشبابك يا بنيتي ...
قالت تقى قائلة: - شكرًا يا طنط ..
وكذا فعلت فاطمة زوجة عمها عتمان ثم نزلتا مع الجميع، أما ياسر فقد اقترب منها قائلاً بقلق: - حبيبتي.. مش هاتبردي كدة ...؟ المغرب هايأذن... هاتقعدي طول الليل فوق السطح في الهوا ده ..!
ابتسمت تقى قائلة: - يعني اعمل إيه يا ياسر ... ما انت عارف ياسين ..!
ياسر: - تحبي أقعد معاكي...؟
تقى: - لا يا حبيبي ... يا ريت بس تاخد حبيبة من نور عشان شكلها نامت اهه وتحطها في السرير..
خلع ياسر معطفه الثقيل وأحاط به كتفيها قائلاً: - حاضر يا حبيبتي بس دفي نفسك كويس ...
ثم تناول ابنته الغافية من نور، وهبط بدوره.
كانت نور وزهرة لازلاتا واقفتين، فحركت زهرة يدها وكأنها تمسك بكمانٍ خفي وهي تقول: - تيرا را راااا تررم.. جوز كناري يا ناس ... إيه الحب ده كله يا ست تقى ...! ولا عبحليم حافظ وفاتن حمامة في زمانهم..
ضربتها تقى بخفة وهي تقول: - اللهم بارك يا شيخة ... إلهي يا رب نخلص بقى من البت دي ونفرح فيها عشان تشوف الحب والزن على أصوله ...
هنا قالت نور بمرح: - آمين يا رب ... توتة ... أنا هانزل أشوف عيسى وأرجع أقعد معاكي..
فقالت زهرة: - وأنا هانزل اعمل لنا دور كاكاو سخن يدفينا واحط على كتفي شال .. حسرة علينا .. ماعندناش حد يدينا الجاكيت بتاعه ...
ضحكت نور على كلام زهرة بينما دفعتها تقى قائلة: - امشي من هنا يا بت ... مش ناقصين قر احنا ...
وبعد أن اطمانت على صغيرها الذي كان يلعب مع ابناء بدر الثلاث تتابعهم هالة زوجة بدر الهادئة الرقيقة مع زهوة ابنة عمها سليم التي انضم ابنها للعب معهم بينما انخرطت هي في حديث مع هالة، أنضمت نور إلى شقيقتها وزهرة فوق سطح الغرفة القابعة فوق سطح المنزل وتحلق ثلاثتهن حول أقداح الكاكاو الساخن أمامهن ياسين بقامته النحيفه وبشرته السمراء ... ابن السبعة عشر ربيعًا المصاب بالتوحد منذ مولده. تأملت نور أقدار الله التي أرسلت تقى لياسين ويسرت لها دراسة التربية الخاصة كي تكون ربما هي الوحيدة التي تعرف كيفية التعامل مع حالته والسيطرة على هياجه ... لقد أخذت تقى تشرح لهم كيف يُصاب الطفل التوحدي في أغلب الأحيان بنوبات صرع وهياج من أي إثارة عند فترة المراهقة بصفة خاصة. أخذ ثلاثتهن يتأملن البلد من علٍ والشمس الغاربة تصبغ الأفق باللون الوردي الحالم وهي تهبط خلف النخيل الباسقات سامحة لرداء الليل المطرز بالنجوم بتغطية السماء بدوره. أرتشفت نور من كوب الكاكاو الخاص بها وهي تحدث نفسها أن أقدار الله التي وضعت تقى في طريق ياسين كي تعمل على إنقاذه أكثر من مرة هي ذاتها التي وضعت تلك السيدة العجيبة إيفا في طريقها كي تنقذها أكثر من مرة...!
***
حكت لها عن أغلب قصتها... أخبرتها انها وحيدة ضائعة فقدت جواز سفرها فصارت بلا هوية، وكعادتها النشطة المتحمسة هاتفت إيفا زوجها تتأكد منه من عنوان القنصلية المصرية بنيويورك التي لم تبعد كثيرًا عن المركز الثقافي الإسلامي حيث ألتقيا، أخبرتها أنها يجب عليها إبلاغ القنصلية بضياع جواز سفرها ثم اصطحبتها بسيارتها إلى حيث تقع القنصلية المصرية في الأفينو الثاني بالقرب من سنترال بارك.
عرفت نور من القنصلية أنه يتعين عليها تحرير محضرًا في قسم الشرطة يفيد فقدانها جواز السفر وتدون به بيانات جواز السفر الذي كانت تحتفظ بنسخة منه لحسن حظها، فاصطحبتها إيفا لتقوم بتلك الخطوة ثم عاونتها على توجيه كتاب إلى قنصل جمهورية مصر العربية في هيوستن تفيد فيه فقدانها جواز السفر مع إرفاق كل البيانات الخاصة بها مع صورة الجواز التي تحتفظ بها وصورة من المحضر الذي قامت بتحريره. وعندما أنتهيا من كل ذلك أخبروها في القنصلية انها يتعين عليها انتظار ورود موافقة مصلحة الجوازات والهجرة والجنسية بالقاهرة، عندها تبدأ إجراءات إصدار جواز سفر جديد التي تستغرق 12 اسبوعًا على أقل تقدير. لم تتركها إيفا وعاونتها بكل ما تستطيع ... كانت مثالاً للمسلم الحق .. لم تكف عن أن تردد عليها أنه "كان الله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه" ... كانت تدخل السرور على قلبها ... وجعلتها تساهم في تعليم الأطفال القرآن بالمركز الثقافي الإسلامي ... أعطتها بطاقة متعددة الاستخدام للمترو والحافلات وعلمتها كيف تحصل على بطاقة مماثلة من تلك الآلة بمحطات المترو.
ومر شهرٌ آخر من حملها وهي تشعر بتحسنٍ كبير في حالتها النفسية والصحية ... حتى جاء ذلك اليوم عندما عادت إلى المنزل بعد قضاء اليوم بالمركز مع إيفا ووجدت زكريا يتحدث بحدة في الهاتف وهو يقول:
- يا أخي حل عني بقى مافياش دماغ للكلام ده ...! ما تبعت لهم في مصر يبعتوا الحاجة واللا يبعتوا فلوس ... بتقول إيه...؟ بقى هوا قال لك كدة...؟ طيب طيب ... خلاص هاتصرف مالكش دعوة..
أنهى المكالمة ثم ألقى بهاتفه في عصبية وأخذ يحك شعره وتبدو عليه آثار سكر الليلة الماضية، رمقته نور بنظرة جانبية ثم توجهت إلى غرفتها دون كلمة واحدة، إلا انه ابتدرها..
- يا أهلاً يا أهلاً بست الحسن والجمال ... كنتي فين يا سنيورة...؟ بتخرجي كل يوم فين يا هانم...؟
نظرت إليه نور قائلة بثبات: - مالكش دعوة بيا لو سمحت ... ويا ريت تفكر إنك تطلقني يا زكريا ..
ضحك بعصبية قائلاً: - أطلقك مرة واحدة...؟ لا يا حلوة ... مافيش طلاق إلا اما تطلبي ورثك من أبويا وتمضي لي توكيل عام ...
رفعت حاجبيها قائلة: - لا والله ...! قلت لك إني ماعنديش ورث ... حتى لو عندي ... عمري ما هادي لك مليم تشرب بيه خمرة واللا تروح ترتكب بيه الفواحش ...
جذبها من حجابها هاتفًا: - بتقولي إيه يا بت انت ...؟ مليم إيه يا ام ملاليم ... بطلي الدور اللي انت عايشة فيه ده مش لايق عليكي ولا على اللي معروف عن الست والدتك ...
لم تكن الدموع التي تفجرت من عينيها من اثر انفراط دبابيس حجابها من مكانها وتجريحها بعنقها عقب جذبه لها، بل كان ذكر أمها كفيل بتفجير موجة غضب هائلة بداخلها، استدارت نحوه في حدة وغرست أظافرها في ذراعه وهي تبكي قائلة بشراسة: - حسك عينك تجيب سيرة أمي على لسانك...
ودفعته عنها بعنف تعجب له، ثم قالت في صرامة: - وإلا والله العظيم هاتشوف مني اللي عمرك ما شوفته، واللي أوله دلوقتي ... هاكلم عمي الشيخ سليم أبوك أعرفه كل اللي بيجرى هنا وفلوس الشغل اللي بيديهالك بتتصرف فين...
توجهت إلى الهاتف، فانطلق نحوها كالقذيفة وهو يصيح: - بطلي جنان يا بت انت وإلا دفنتك هنا ...
سقطت نور على الأرض وارطتمت رأسها برجل إحدى المناضد و.... أظلمت الدنيا من حولها. لم تشعر وقتها بزكريا الذي أخذ ينظر إليها في توتر وهو يروح ويجيء لا يدور بخلده سوى فكرة واحدة فقط ... كيف يمنعها من تنفيذ ما عزمت عليه الآن مستقبلاً...!!! كيف يقطع على أبيه أي إمكانية لتصديق ما ستقوله له أو أي أخبار تنقلها إذا استفاقت من إغمائها وعزمت على المُضي قدمًا في تهديدها ...؟ لن يُجدي حبسها أو قطع الاتصالات عنها نفعًا ... إنهم في أمريكا وإذا اشتمت الشرطة خبره ليس بعيدًا أن يُزج به في السجن. هنا التمعت في ذهنه فكرة خبيثة وهو يتذكر محادثة أمه ليلة أمس... قرر حينها أن الهجوم خير وسيلة للدفاع .. وعرف تحديدًا من الذي سيكون مستعدًا لتصديق تجديفه ثم الدفاع عنه بقوة عقب ما سمع أنه قد تعرض إليه من أحداث. هنا رفع جواله وطلب رقمًا ما راسمًا على وجهه إمارات حزن زائف وهو يقول:
- "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته إزيك يا أخويا عامل إيه ... واحشني يا هندسة... إيه الأخبار المنيلة اللي ماما قالتهالي إمبارح دي...؟ ده أنا اتقهرت جامد على شانك والله لأني أكتر واحد حاسس بيك ... آاااه يا ابني ... يظهر أن احنا الاتنين مكتوب لنا نشرب من نفس الكاس ... آه... بالظبط ... هاحكي لك ... بس اوعدني إنه يفضل سر ما بينا.. لأن دي أولاً وأخيرًا بنت عمنا ... الله يرحمه .."
وشرع في زرع بذرة شجرته الخبيثة بداخل أخيه ليكون له حائط صد ضد أي إصبع اتهام قد يشير به أحدهم إليه ويكشف "السر الخطير" عند اللزوم. كانت خُطُوات يقتفيها ويتبعها واحدة تقود للأخرى دون أن يدري أي خطواتٍ تلك ... دون أن يدري أنها خطوات شيطان خبيث.
***
هذا الرنين ... ذاك الجرس ... إنه يخترق الضباب الذي يغلف عقلها ... يتسلل إليه من عالم الواقع ... لازال يلح في رنينه ... فتحت عينيها ببطئ وهي تشعر بدوار وألم شديد في رأسها ... لازال هاتف المنزل يرتفع رنينه ... حاولت مد يدها أعلى المنضدة التي كانت مستلقية أسفلها، إلا أن الرنين انتهى فأعادت يدها في ضعفٍ ثانية، لكن الرنين عاد يرتفع ثانية فجذبت الهاتف ليسقط الهاتف اللاسلكي عليها فترد بوهن:
- Yes
- نور ... أين أنت بالله عليكي ...؟ أنا في انتظارك منذ ما يزيد عن نصف ساعة ...
- مـ ... مَنْ...؟
- من...؟؟!!!! نور هل أنت بخير عزيزتي ...؟؟
وضعت نور يدها على رأسها في إعياء وهي تقول متذكرة: - آاااه ... إيفا ... أنا جدًا آسفة ... لقد سقطت وأرتطمت رأسي بالمنضدة ويبدو أني فقدت الوعي ولم أفق إلا الآن ... إلى أين من المفترض أن نذهب ..؟
قالت إيفا في حسم: - اعطيني رقم منزلك نور أنا آتية إليك ...
وبالفعل ما هي إلا عشر دقائق منذ أن أعطتها نور رقم منزلها ورقم البناية حيث إن إيفا تعرف جيدًا الشارع الذي تقطن به نور ووجدتها نور تطرق بابها، نهضت نور من مكانها على الأرض بصعوبة والدوار يكتنف رأسها وفتحت الباب لإيفا التي رفعت نقابها وأخذت تفحص نور وهي تقول: - هل أنت متأكدة انها مجرد سقطة...؟
قالتها وهي تتأمل عينيها المنتفختين من أثر البكاء وذلك الجرح بعنقها من أثر مشابك حجابها الحادة التي جرحتها عندما جذبها زكريا، فرفعت نور يدها تلقائيًا ووضعتها على عنقها وهي تقول بتوتر:
- لقد تعرقلت وسقطت على الأرض... ثم ... ارتطمت رأسي بالمنضدة ...
قالت إيفا بحسم: - يجب أن تجري فحصًا بأي مشفى ...
قالت نور: - لقد صرت أفضل الحمد لله لا داعي لذلك ...
أخذت إيفا تتأمل تلك الكدمة بجانب رأس نور وهي تقول: - حسنًا .. أحضري لي بعض الثلج ...
وبينما كانت تضع الثلج على رأسها قالت إيفا: - كان من المفترض أن نذهب إلى القنصلية لتستعلمي عما إذا كانت موافقة مصلحة الجوازات والهجرة والجنسية بالقاهرة قد وردت أم لا..
قالت نور بإعياء: - حسنًا هيا بنا ...
أشارت إيفا إلى الحاسوب القابع على مكتب بركنٍ ما في ردهة المنزل قائلة:
- هل هذا الكمبيوتر متصل بالإنترنت..؟
هزت نور كتفيها بغير علمٍ وهي تقول: - لا أدري ... أنا لا استخدمه ...
قالت إيفا: - من الممكن أن تكون ثمة خدمة على موقع سفارتكم على الإنترنت تُعلن عن الموافقات أو ما شابه ... بدلاً من أن تذهبي وتكون الموافقة لم تصدر بعد وأنت في هذه الحالة ...
قالت نور بحماس: - إذن ... تعالِ نفتحه ونكتشف ما إذا كان متصل بالإنترنت أم لا وتعلمينني كيفية استخدامه ...
وبالفعل أكتشفت إيفا أن الحاسوب متصل بالإنترنت... عرفتها إيفا على كل شيء... أكتشفت أنها يمكنها أن تبحث عما تريد بنقرة زر... أنشأت لها إيفا بريدًا إليكترونيًا، وشرعت تبحث في موقع السفارة المصرية إلا إنها لم تجد الخدمة التي ذكرتها على الموقع وقتها، فكان يتعين عليها الذهاب إلى السفارة لتستعلم بنفسها عن رد مصلحة الجوازات بالقاهرة.
أوصلتها إيفا إلى القنصلية وانتظرتها بسيارتها الصغيرة، جلست نور بالقنصلية في انتظار أن يفرغ الموظف المختص من الحديث مع شخص آخر، كان بعض المصريين ينتظرون بدورهم إنهاء معاملاتهم، بينما ثمة موظف ينادي على الاسماء بترتيب أولوية المجيء، كانت شاردة في انتظار اسمها و..
"مـــــاجد مُراد عبد الكريم رأفت الآغا"
سقطت حقيبتها من بين يديها وارتعدت فرائصها ... تراقص قلبها بجنون محموم ... أيمكن أن يرأف بها القدر لتلك الدرجة...؟؟؟؟!!!
*******

Just Faith 18-12-17 01:13 PM

- 5 -
"لستُ أَعمى
لأُبْصِرَ ما تبصرونْ ،
فإنَّ البصيرةَ نورٌ يؤدِّي
إلى عَدَمٍ …. أَو جُنُونْ"
- محمود درويش، جدارية
***
كانت أمسية صاخبة بمنزل آل رحيل انقضت وكل فرد من الأسرة يحمل بداخله شيءٌ من زخمها، وعقب انتهاء الجلسة المطولة فوق سطح المنزل وخلود ياسين إلى النوم توجهت تقى إلى النوم منهكة، بينما هبطت نور مع زهرة إلى ردهة الدار التي خفتت بها الأضواء ولم يتبق بها سوى نجاة تحتضن عيسى الغافي على رجليها وزين الذي شبك ذراعيه خلف رأسه وأغمض عينيه في استرخاء.
"ده إيه القاعدة الرومنسية دي يا سي زين أنت وماما ...! أول مرة تنورنا كتير كدة..."
هتفت زهرة في مرح، ففتح زين عينيه قائلاً: - إيه يا زَهرة... عايزاني أمشي واللا إيه ...؟؟
فقالت زهرة بمرحها المعهود: - لا يا عم أنا بس مستغربة ... شكلك كدة بترسم خطة مع الست ماما ...
كاد يرد عليها لولا أن لحظ نور التي تقدمت نحوهم بهدوء، فعاد حاجبيه إلى الانعقاد ثانية ولزم الصمت. تقدمت نور من نجاة وانحنت عليها هامسة: - يا رب ما يكون عيسى تعب حضرتك ...
أجابتها نجاة هامسة: - ما شالله عليه ولد ولدي الله يحفظه يا رب نَفَسه هادي وحبيِّب ...
قالتها وهي تضم عيسى أكثر بين ذراعيها، فأنحنت نحوه نور قائلة:
- طب الحمد لله هاتيه عن حضرتك بقى أحطه في سريره ..
قالت نجاة بدهشة: - أنتي اللي راح تحمليه لفوق...؟
قالت نور بتلقائية: - عادي يا طنط... أنا متعودة على كدة... في أمريكا كان على طول يقعد يلعب وينام في الصالة وأشيله لجوه وأحيانًا نبقى برة وينام في السيارة أو المترو واضطر أشيله للبيت ..
نظرت نجاة نحو زين نظرة ذات مغزى وهي تقول: - بس تتعبي اكده يا بتي يعني ...
هنا قالت زهرة مقاطعة أمها: - خليني أساعدك... في أمريكا أكيد زكريا أخويا كان بيساعدك خليني أساعدك دلوقتي...
ندت عن نور نصف ابتسامة ساخرة لم يلحظها أحد وهي تحمل صغيرها قائلة:
- لا يا زهورتي... شكرًا يا حبيبتي... أنا خلاص متعودة والله.. وفري طاقتك أنتِ لولادك إن شاااء الله أما نفرح بيكي يا رب كدة قريب... ياللا تصبحوا على خير يا جماعة ... سلام عليكم ...
قالت نجاة وزهرة: - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ...
وتابعاتاها بأعينهن حتى اختفت بالدور العلوي، فاستدارت نجاة إلى ابنها قائلة:
- إيش هيذا يا ولدي ... ليش ما ساعدت بت عمك...؟
قال زين ببرود: - خلاص يا ماما هيا قالت متعودة وبعدين الواد يعني مش خمسين كيلو ...
هتفت زهرة هامسة: - لا يا زين بس كدة فعلاً مش ذوق خالص ...
هنا نظر إليها زين بصرامة وهو يقول بحزم:
- زَهرة ... من فضلك مش عايز يبقى ليكي علاقة قوية باللي اسمها نور دي ...
عقدت شقيقته حاجبيها وهي تقول:
- ليه بقى إن شاء الله..؟ دي نور متدينة وشخصية رائعة وحبوبة ولطيفة جدًا ... ده أنا في اليومين اللي فاتوا دول حسيت شخصيتها اقرب لي من تقى رغم أنهم الاتنين مايتخيروش عن بعض بس تقدر تقول كدة نور دماغها قريبة مني أوي ...
أعاد زين كلامه بصرامة أكبر: - ماليش دعوة شخصيتها قريبة منك واللا بعيدة ... مش عايز يبقى ليكي علاقة قوية بيها نهائي يا زهرة .. فهماني...؟
نهضت زهرة في غضب قائلة: - لأ مش فاهماك يا زين ... ولما يبقى عندك كلام منطقي نتناقش فيه زي زمان مش مجرد أوامر أبقى تعالى كلمني ... تصبحوا على خير ...
ردت عليها أمها وهي تتأمل زين مليًا، بينما صعدت زهرة إلى غرفتها. حاول زين النهوض، إلا أن أمه قالت له: - إيش بيك يا ولدي...؟ ليش هيذا الحديت الماسخ عن بت عمك...؟
قال زين بعصبية: - أهو كدة وخلاص ... دي واحدة عاشت سنين في امريكا وشهور لوحدها بعد وفاة جوزها ... أكيد راجعة بافكار متحررة ما نقبـ..
قاطعته نجاة: - لا يا زين ... البت راجعة كيف ما راحت ... عنيها في الارض ... نَفَسها هادي ... لا بتسلم على رجالة ولا بتتحدت معاهم حديت فارغ ... والله اللي يشوفها يحسبها بت بنوت ... كلها حشمة وخجل ... اتحملت مع اخوك سنين غربة طويلة دون شكوى ... كنت أكلمه أترجاه ينزل مصر ولو يومين أملِّي عيني منيه يقولي إنه ما راح يعتب البلد دي تاني ويطلب مني أنا وأبوه انروح له امريكا... أقول له أنا ما بنعرف نخلي بلدنا وبيتي يقولي حاولي ويركب دماغه... كيف يا ولدي تغلط في واحدة بت اصول كيف نور...؟ كيف تحكي عنها اكده...؟
جز زين على اسنانه قائلاً:
- من غير قصايد طويلة في الست نور ... يعني حضرتك مش عارفة قرار أبويا الشيخ سليم..؟
- هوا حكى لك..؟
- ايوة قال لي قبل ما اسافر ...
- يا ولدي انت عارف أوامر الجدة ما حدا يقدر يعترض عليها والحين واقف عليها مستقبل ابوك في المجلس ومستقبلك أنت كمان...
- مستقبلي إزاي يعني وانتوا عامليني زي العيل الصغير ...؟؟!
- المزرعة يا ولدي ... المزرعة اللي بتقعد فيها اكتر ما بتقعد معانا... هيذا هو مستقبلك .. مش اكده..؟
نهض زين قائلاً بحنق:
- خلاص ... اعملوا اللي انتوا عايزينه أنا ماعدتش مستحمل كلام تاني في الموضوع ده..
فقالت نجاة بصرامة: - زين... بس ماليكش صالح باختك وانسى الكلمتين اللي قولتهم لها من شوي.. عشان ماتاجي بعد كام يوم وتشوف اللي هايحصول وتقول لك اسمع كلامك أصدقك أشوف أمورك استعجب ولو انها ما صدقتك من البداية ...
جمع زين قبضتيه في غيظ قائلاً: حاضر يا أمي ... عن إذن حضرتك أنا طالع انام ...
نهضت أمه وربتت على كتفه داعية له، أما زين فقد رحل نحو غرفته مثقلاً بسرٍ يحمله لا يمكنه البوح به... سرٌ أشعل بداخله حريقًا هائلاً كحرائق الغابات... حريقٌ أخذ يقضي على الأخضر واليابس اللهم إلا تلك الشجرة الخبيثة التي ضربت جذورها في أعماقه وأحاطت أغصانها الكثيفة بقلبه لترديه غُلُفًا، وأزهرت زهورًا سوداء سامة وثمارًا عفنة بعقله حجبت بصيرته التي عُرف بها... بذرةٌ خبيثةٌ تم دسها منذ سنواتٍ في تربةٍ مُهيأة لها فأنبتت وعَظُمَ ثمرِها القاتل.
تقلب في فراشه كثيرًا عاجزًا عن النوم مُشككًا في إيمانه... مخبرًا نفسه أن لا يُلدغ مؤمن من جحرٍ مرتين.. فَلِمَ سَطَر القدر عليه أن يُلدغ من ذات الجحر مرة ثم الثانية...؟ نهض متجولاً في غرفته مستغفرًا باعتذار عن أفكاره السوداء، تأمل الوقت ليجد الساعة تُشير إلى الثانية والنصف قبيل الفجر. توجه إلى الحمام ليغتسل علَّ بعض الماء الدافئ يهدئ من ثورة أفكاره. توضأ ثم توجه إلى الخارج متوجهًا إلى مسجد القرية لينتظر صلاة الفجر، وفي طريقه نحو باب المنزل الذي كان غارقًا في الظلام والسكون... سمع ضحكة هامسة من خلف باب غرفة مكتب عمه سليم وثمة خيط ضعيف من الضوء يتسلل من أسفل الباب..! توجه في سرعة نحو المكتب وقد ردد المنزل الصامت صدى خطواته، فتح الباب في سرعة... أضاء النور و... لم يجد أحد...! لكن النافذة الصغيرة خلف المكتب كانت مفتوحة تتطائر ستائرها من أثر الهواء، تطلع منها... لا أحد أيضًا...! إنها نافذة ضخمة يمكن لأي شخص الفرار عبرها بسهولة... مسح الغرفة بعينيه ... كل شيء في مكانه على ما يبدو، إلا أن ذلك الهدير... ذلك الهدير الواضح جدًا في السكون... إنه الحاسوب الضخم القابع على المكتب والذي يستخدمه أحيانًا ياسر ابن عمته، اكتشف أن الحاسوب قيد التشغيل رغم إغلاق شاشته..! ضغط زين على زر الشاشة و... هاهو ذي يضع يده في جحر الأفعى فيُلدغ ثانية ...! تعاظم اشمئزازه وامتعاضه مما طالعه على شاشة الحاسوب...!!! غرفة دردشة ممتلئة بمختلف البذائات والإيحاءات القذرة... يبدو أن من كان يتحدث عبر الحاسوب أنثى كما هو واضح حيث تدعو نفسها (دفء الأنوثة)..! العديد من المحادثات مع (ملاك العشق) و(رجل المهام الصعبة) وأسماء رجال صريحة كـ(فهد) و(نبيل)...!
أغلق زين الحاسوب في غضب وأسرع إلى الخارج ليدور حول المنزل نحو حديقة الفاكهة التي تطل عليها نافذة المكتب عله يجد المتسلل - أو المتسللة – أو ما يمكن أن يقوده إليها. كان ضوء القمر ضعيفًا ينير الحديقة إلى حدٍ ما، لكن زين لم يبحث طويلاً أو يحتج مصدر إضائة إضافي... حيث رأى شيئًا ما يلتمع تحت ضوء القمر على الأرض بجوار إحدى أشجار الفاكهة الضخمة، أسرع إليه وأمسك به بين أصابعه يتأمله في غيظ... حتمًا سقط سهوًا من المتسللة...! فكر في أن يأخذه ويسأل عن صاحبته، إلا أنه تراجع مرجحًا إنكار صاحبته امتلاكه علناً عقب مظنة إكتشاف أمرها، فأعاده إلى مكانه وقرر مراقبة مَنْ ستبحث عنه حينها سيعرف هوية المتسللة...!
صدح العجوز زيدون بأذان الفجر بصوته المبحوح المحبب إلى قلبه... صوت زيدون بأذانه وإمامته يُعد بالنسبة له أحد المعاني الجميلة المرتبطة ببلدته، زيدون يؤم الناس منذ زمن... من قبل أن يأتي زين إلى الحياة تقريبًا، لقد شب على صوته في الصلاة وصوته وهو ينهرهم وهم بعد أطفال صغار بكُتَّاب البلدة عندما لا يحفظون اللوح (صفحة من القرآن الكريم). كان صوت زيدون ينزل على قلبه بردًا وسلامًا وكأنه يطهره من القذارات التي شهدها قبل قليل. توجه زين إلى المسجد ليجد أباه الشيخ سليم يجلس في ركنه الأثير يسبح ويستغفر ويدعو بخشوع كعادته حيث يصلي ركعتي الفجر ويجلس في ذكر منتظرًا الإقامة. إنحنى زين يقبل رأس أبيه في هدوء ثم وقف ليصلي ركعتين تحيةً لبيتِ الله اعقبهما بركعتي الفجر. توافد المصلون إلى المسجد رأى فيهم عمه عتمان بقامته الفارعة وجلبابه الفضفاض وعِمَّتِهِ البيضاء ومعه بدر بوجهه الباسم الصبوح وياسر ابن عمته بمنظاره الطبي وشعره القصير المصفف بعناية وابتسامته الواسعة والكثير من أهل البلد ممن يعرفهم ويعرفونه.
أقام زيدون الصلاة فنصب زين رجله بجوار أبيه وبقية المصلين... حاول التركيز في الصلاة ... حاول عدم التفكير فيما رآه من دنائة قبيل الفجر، كانت أفكاره كجوادٍ جامح يبذل جهدًا مضاعفًا للسيطرة عليها وتلجيمها للخشوع في صلاته... للتركيز في الصلاة فقط ولا شيء غيرها. إلا أنه فشل في التركيز فيما يتلوه زيدون بصوته المشروخ من آيات وشرد بعيدًا عن التلاوة التي لو أولاها انتباهه لأزاحت عنه الكثير ...
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }
سلَّم زيدون منهيًا صلاته، فأتبعه زين سريعًا ونهض – على غير عادته – ليتوجه مباشرة نحو باب المسجد، لكن ...
- "على فين يا ولد يا زين؟ تعال هنا يا هارب ... عم تهرب من الشيخ زيدون ...؟ خايف أنسمع لك واللا إيش..؟"
توقف زين في ضيق عند باب المسجد عقب مناداة الشيخ زيدون له، عض على شفته السفلى في غيظ لقد كان يريد التربص بمتسللة ليلة أمس... لا يريد أن يفوته شيء... كان يبحث عما يروي شجرته الخبيثة الملتفة بسوادها حول كيانه. لكنه الشيخ زيدون... تلك الهبة التي امتن الله بها على قريتهم... ذلك العجوز الذي قامت جدته بوضع زين بين يديه فكان له دورًا كبيرًا في تربيته مع أبويه وجدته وعلَّمه الكثير ورافقه في طفولته وصباه وشبابه شيخًا ومربيًا وناصحًا... إليه يرجع الفضل بعد الله أن أتم زين حفظ القرآن، لذا استدار ورسم على وجهه ابتسامة واسعة وهو يقول:
- أنا اقدر برضه يا شيخنا ...!
قالها ثم توجه إليه جالسًا بين يديه فالتف حوله الكثير من أهل البلدة يتسامرون ثم يستمعون إلى حديث الشيخ زيدون الماتع في جلسة الضحى... ذلك الحديث الذي لم يعي منه زين حرفًا حيث كانت أفكاره هناك.. عند حديقة الفاكهة ... أسفل شجرة ضخمة.
******
- "الجميل لسة صاحي واللا نمتي..؟"
تسائلت تقى في مرح بعد أن طرقت باب غرفة شقيقتها ودلفت إلى الداخل لتجد نور لازالت بملابس الصلاة تنحني من النافذة تدير رأسها يمينًا ويسارًا وكأنها تبحث عن شيء ما، فاقتربت منها تقى قائلة:
- فيه إيه يا نور..؟ بتدوري على إيه..؟
أستدارت إليها نور قائلة بضيق: - السبحة بتاعتي وقعها عيسى من الشباك امبارح ومش شايفاها خالص...!
رفعت تقى حاجبيها قائلة: - سبحة!! ولا يهمك يا قمر عندنا هنا سبح كتيير أجيبلك واحدة يا ستي... وبعدين تعالي هنا... من أمتى وأنتِ بتمسكي سبح يا نور...؟
ابتسمت نور بحالمية وهي تقول: -لا يا توتة أنتِ مش فاهمة، السبحة دي جايالي من بنوتة أمريكية عندها 16 سنة دخلت في الإسلام وكانت سبب في دخول أمها بفضل الله في الإسلام بعد ما كانت البنت من أشد المعاديات للإسلام والمسلمين ...!
أتسعت عينا تقى تأثرًا، بينما أكملت نور:
- كنت دايمًا باقبلها في المترو وعن تجربة كنت عارفة أن البنات اللي سنهم صغير مابيقتنعوش بسهولة بأي أفكار مخالفة للي هما مؤمنين بيه بس هيا اللي جرت شكلي وخلتني أبدأ في دعوتها ... صحيح طلعت روحي بس ربنا هداها في النهاية... مامتها بقى كانت بتشتغل في بازار صغير كدة راحت عاملالي سبحة من 33 حبة من حجر الزمرد الأخضر اللامع ده بفواصل فضة وطربوش من الفضة برضه... حاجة كدة فخمة... هدية منها هيا ومامتها حاولت أرفضها لكن الحب والحفاوة اللي كانت هاتنط من عنيهم وسعادتهم بمن كانت سببًا في دلهم على الدين ده كانوا أكبر من أي اعتراض مني...
قالت تقى: - ما شاء الله... ربنا يجعله في ميزان حسناتك ... تعالي ننزل جنينة الفاكهة ندور على السبحة وتحكيلي قصتك في الدعوة في أمريكا وقصة البنت دي خاصة ...
أمسكت نور بيد عيسى وخرجت مع شقيقتها متوجهتان نحو السلم، إلا أنهما مرا على إحدى الغرف وسمعا صوت نهنة مكتومة قادمة منها، توقفت تقى أمام باب الغرفة المفتوح هامسة:
- دي أوضة عمك سليم وده صوت مرات عمك ...
تطلعت كل منهما عبر باب الغرفة إلى زوجة عمهما التي كانت لازالت جالسة على مصليتها رافعة يديها تدعو والدموع تغرق عينيها وصلهما همهمتها وهي تقول "ولدي يا رب ... ولدي يا رب ... أرحم ولدي يا رب ... نفسي أنشوفه في المنام يا رب.."
وضعت نور كف ابنها بين أصابع شقيقتها وانسلت بسرعة إلى غرفة عمها دون حتى إستئذان... توجهت نحو زوجة عمها... جلست على الأرض أمامها... احتوت كفها بين يديها... تأملتها نجاة في صمت وكانت الأعين تتبادل حديثًا لا يفهمه إلاهما... إنها تعرف ابنها وجموحه... ينفطر قلبها أن يموت هكذا قبل حتى أن ...
"حسن خاتمة إن شاء الله ..."
همست بها نور لتلقيها في قلبها ... قلب الأم المنفطر على فلذة كبدها ... تأملتها بعينيها الدامعتين وكأنها لم تفهمها، فقالت نور بدفئ:
- زكريا مات بعد ما حفظ 4 أجزاء من القرآن وختمه تلاوة كتير ... وحفظ الأربعين النووية ... زكريا مات مبتسم ... مات على الشهادة ... مات وهوا ساجد... أدعي له وأنت موقنة بالإجابة ... إدعي له وأنت عندك يقين أن ربنا هايحفظ له مكانه في الجنة ...
إنعقد لسان نجاة وكادت عينا تقى - التي وقفت تتابعهما في صمت - أن تدمعا، تعجبت نجاة من فراسة نور.. وكأنها تعلم ما الذي يؤرقها فجائت بكلماتها التي انهمرت على قلبها بردًا وسلامًا ... لم تدر نجاة سوى المزيد من البكاء بعد أن أخذت نور بين ذراعيها تحتضنها بقوة وكأنها رسول سلام وصلت إليها بالمبشرات.. أحتضنتها وكأنها تتلمس رائحة ابنها الراحل فاستكانت نور بداخل ذلك الحضن الدافئ تتلمس بدورها حنان الأم التي فقدتها منذ سنوات تتصارع أفكارها مع أحاسيسها مع ما تلفظت به منذ لحظات دون تردد عما حدث منذ عام أو يزيد مر كالبرق وكأنه الوهم ... تسائلت بداخلها عما حدث حقًا ... عن أتون الموت الذي نجت منه بأعجوبة ... لكنها أمام أم يتمزق نياط قلبها على ابنها .. لن تخبرها ... لن تخبر أحدًا أبدًا ... يكفي نجاتها ولتُدفن الحقيقة معها إلى يوم مماتها.
******
"هوا فيه إيه...؟؟؟"
تسائل زين باستهجان وهو يتأمل نور المستلقية بين ذراعي أمه أرضًا على سجادة الصلاة لحظة دخوله هو وأبيه.
"تعا اسمع يا أبو زين إيش ابتحكي الحبيبة نور ..." قالتها نجاة، فمسحت نور أدمع عينيها ونهضت بسرعة متمتمة:
- عن إذنكم يا جماعة أنا هانزل أنا ...
أمسكت نجاة كفها قائلة: - خليكي معاي يا بتي ...
ربتت نور بكفها الآخر على يد نجاة وابتسمت لها بحنو قائلة:
- هارجع لحضرتك ... بس هانزل أجيب حاجة وقعت مني وأطلع لك على طول ...
انتفض زين وهو يستمع إلى نور مستديرًا نحوها في حدة متعجبًا من جرئتها، إلا أن نور لم تلحظ رد فعله وتوجهت إلى شقيقتها ولم تلحظ زين الذي تسلل خلفهما.
"دي بقى جنينة الفاكهة ... أحلى مكان هنا يا نور ... أهي شجرة البرتقان هناك اهه..."
قالتها تقى وهي تقود نور نحو الشجرة الضخمة التي ترتفع حتى غرفتها، لم تبحث نور كثيرًا حتى وجدت ضالتها... السبحة الصغيرة ذات اللون الأخضر الزمردي اللامع والفواصل الفضية والطربوش الفضي، تأملتها تقى في إعجاب قائلة:
- ما شاء الله ... حلوة أوووي يا نور ... روعة ... بس إيه المفتاح القديم اللي مشبوك فيها ده...؟ شكله كدة نشاز بصراحة ..!
وضعت نور السبحة كسوار حول معصمها وهي تقول بوجع:
- ده مفتاح شقة ماما الله يرحمها.... الله أعلم أدوها لمين بعد ما مشينا بس المفتاح ده فعلا هوا وكذا حاجة كدة بيفكروني بزمان ... بيفكروني بأمي ...
ضغطت تقى على كف اختها قائلة بحماس: - ما ادوهاش لحد يا نور..
نظرت لها نور في تعجب لتكمل تقى شارحة:
- الشقة لسة موجودة وباسم يسري عبد العال ...
عقدت نور حاجبيها متمتمة: - يسري عبد العال...؟
قالت تقى: - إيه يا نور...؟ نسيتي مين يسري عبد العال واللا إيه...؟ الشقة يا نور زي ما هيا باسم جدو أبو ماما الله يرحمهم جميعا ...
هتفت نور في فرح: - بجد...؟ إزاي...؟ مين بيدفع الإيجار...؟
بدأت تقى تحكي لها: - أنا نسيت اقول لك أني في أول أيامي مع ياسر طلبت منه إني أنزل اشتغل وانا بادرس طبعا زعل وقال لي إن أطلب منه اللي عايزاه وإني من حقي عليه يبقى ليا مصروف خاص أجيب بيه اللي نفسي فيه، فقلت له إن شقة أمي غالية عليا وكنت عايزة أدفع الإيجار كل شهر عشان صاحب العمارة مايخدهاش، مش هانسى ضحكته يومها وهوا بيقولي... بسيطة... وراح معايا حارة زينهم وعرَّف عم شنواني العطار صاحب البيت أنه هايدفع له الإيجار بس عم شنواني حب يستنصح على ياسر ورفع له الإيجار، ومع ذلك ياسر بيدفع الإيجار من ساعتها... أصله عارف يعني إيه بيت مليان ذكريات لأنه هوا نفسه بيعشق بيت والده الله يرحمه اللي في الجيزة ...
صمتت تقى ثم غمزت لأختها مردفة:
- وبقى يعشقه أكتر أما بقينا نسرق لنا كام يوم فيه مع بعض بعيد عن النجع هنا وعن كل الناس ...
ضحكت نور قائلة: - ربنا يهنيكم يا حبيبتي ... بس فعلاً أحلى حاجة عملتيها يا تقى أنك حافظتي على بيت أمنا ...
كانت تقى تسير بجوار أختها في حديقة الفاكهة الغناء حتى وصلتا إلى مقعدٍ خشبي جلستا عليه بينما تقى تقول حالمة: - ياسر يا نور أحلى حاجة حصلت لي في حياتي من ساعة وفاة ماما... صحيح كنت في الأول ناقمة عليه ومخنوقة منه واحتقرته أكتر لما عرفت أنه زيه زيي مجبور على الجوازة وقلت إزاي هوا ضعيف الشخصية للدرجة دي... بس سبحان الله... حسيت فعلا قد إيه نظرنا قاصر ولو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع... قربت منه وعرفته عن قرب ... حسيت قد إيه هوا راجل وشخصيته قوية وبعدين أما اتجوزنا فعليًا... حسيت أن جواه نبع من الحب مابيخلصش... كبرت بين إيديه ... علمني حاجات كتير .. شجعني على الدراسة والتفوق ... حاساه أبويا اللي ماشفتوش وأخويا اللي ماعرفوش وحبيبي وصاحبي وسندي... بجد ربنا عوضني بيه عن الدنيا كلها ...
ابتسمت نور في سعادة بينما أكملت تقى بعد تنهيدة حارة:
- عارفة ... كل ما تقسى عليا عمتي أو تجرحني بكلامها وترهقني بأوامرها اللي ما بتنتهيش واللا تغيظني حسنا وتولع حرايق عمتي عليا وأحس بالقهر والتعب والظلم ... ألعب اللعبة اللي ماما كانت بتلاعبهالنا وأحنا صغيرين لما نتضايق أن حاجة نقصانا... فاكراها..؟ فاكرة لعبة عدِّوا النعم...؟ كانت ماما بتقول لنا عدوا النعم اللي عندكوا ومش هاتحسوا باللي ناقصكوا ... وبقيت أعد النعم ... ألاقي نفسي غنية بديني وتعليمي وصحتي وزوجي اللي مافيش زيه ثم بنتي ... فاتحمل قسوة عمتي - خاصة أما عرفتْ إني ماليش ورث - وجنون بنتها وتحريضها الدايم عليا ...
أستدارت تقى بجسدها كله نحو نور وأمسكت بيدها قائلة في حنان:
- ربنا يعوضك يا نور بزوج يحبك وتحبيه وتعوضي معاه كل السنين اللي فاتت ...
ارتسمت ابتسامة متألمة على شفتي نور التي أخذت تتابع صغيرها حيث راح يجري حول الأشجار في سعادة.. إنها لم تخبر تقى بأي شيء عن زواجها أو حياتها الزوجية... كانت تتهرب من اسئلتها... التزمت الصمت وكلما سألتها لا تقول سوى "الحمد لله"، ورغم أن القاعدة تقتضي أن عدم وجود أخبار يعني مظنة وجود أخبار سعيدة No news = Good News، إلا أن تقى أخبرتها فراسة الأنثى أن نور لم تشعر لحظة بحب من قِبَل زوجها الراحل... إن ذلك السحر الذي ألقاه عليها ياسر فزادها تألقًا وبهاءًا وجعل عينيها تلمعان في سعادة وكل خلجاتها تكتسي برداء العشق الجميل الذي ألقاه عليها زوجها بحنانه الفياض لم يكن لشقيقتها حظ منه على الإطلاق... لقد عادت نور حطام أنثى... ليست حتى كما كانت قبل سفرها... صارت هزيلة جدًا وقد اتسعت الهالات السوداء حول عينيها اللتين اكتستا بنظرة تعبة حزينة ... لا يمكن أن يكون كل هذا الدمار وذاك الإحباط من مجرد حزنها على زوجٍ رحل منذ عدة أشهر ... فعندما يرحل الزوج العاشق لا يسلب معه كل السحر إلى القبر بل إن أرملته التي أضفى عليها عشقه في حياته رداء السحر تبقى بكامل بهائها بل إن الحزن قد يُضفي عليها جمالاً وبهاءًا من نوعٍ خاص..! لكن نور كانت وكأنها قد خرجت لتوها من صراعٍ مع الموت رغم كل إنجازتها في أمريكا التي كانت تحكيها لها بسعادة وصولاتها في مناظرات الملاحدة والنصارى واليهود ودراستها لعلم مقارنة الأديان حتى إتقانه لتكون سببًا في إسلام الكثير على يديها بفضل الله، كانت دائمًا تراسلها وتحكي عن سعادتها كلما أسلم أحدهم على يدها وتخبرها بفرح أنه " لأن يهدي الله بك رجلاً فهو خير لك من حمر النعم" ... لقد كان معك يا شقيقة ما هو خير من حُمُر النعم.. فَلِمَ الذبول ..؟ لماذا هاك الإنكسار والحزن المحفور بغياهب عينيك...؟ وجاءها الجواب من أعماقها... ثمة شيء عظيم كَسَرَ بداخلها الأنثى... والأنثى عندما يكسرها رجل لا يرمم تصدعها إلا رجل آخر يملك قلبًا نقيًا وحبًا صادقًا وإلا عاشت عمرها تسير بين الناس تخفي بين أضلعها شِقًا غائرًا بجدار الروح لم يجد يد حانية ترممه.
"مش عايزاكي يا نور تعملي زي القصص والأفلام وتقولي خلاص قفلت قلبي والكلام الفارغ ده ..." قالتها تقى، مردفة "افتحي قلبك للحياة وربنا أكيد هايبعت لك الراجل اللي يستاهل حبك .."
ابتسمت نور بانكسار قائلة: - الموضوع مش موضوع قفلت قلبي أو كلام من ده ... أنا أولاً يا تقى مش مسئولة عن نفسي بس ... فيه طفل في رقبتي من حقه إني أعيش له وأبديه على أي حاجة في الدنيا ... ثانيًا بقى ... أنا قلبي بقى عامل زي الصندوق الاسود ... مرمي في أعماق محيط ومفتاحة ضايع ... والشاطر بقى اللي يلاقي مفتاحة ...
همت تقى أن تتحدث، إلا أن نور فضلت تغيير الموضوع فقالت مازحة:
- هوا فيه فيه النهاردة ...؟ عمتك سايباكي يعني لا بتقول لك تعالي حضري فطار ولا حاجة ...
ضحكت تقى قائلة: - أصل البرنسيسة تفضلت وتكرمت وصحيت بدري النهاردة وأمها فرحانة بيها وبوقوفها معاها وشكلها كدة نسيتني ...
عقدت نور حاجبيها قائلة بدهشة: - قصدك حسنا...؟
ضحكت تقى قائلة: - أيوووة هيا ... لأول مرة في حياتها تصحى بدري كدة ...
غلفهما الصمت وقد غرقت كل منهما في أفكارها دون أن تلحظ أحداهما هاتين العينين اللتين كانتا تراقباهما من بعيد ثم انسحبت في هدوء.
تأملت نور ابنها الذي يلعب قريبا سعيدًا بالحديقة مفكرة ..."لكم كبر ... لكم هو رائع ... لقد عاهدته منذ ولادته أن يكون أميري ومليكي وأن أحارب كي لا يتعرض لما تعرض له سنى عمره الأولى ... لن يقهرنا أحد يا حبيبي ثانية ... لن أفتح قلبي لرجل سواك ...!"
وارتسمت على شفتيها ابتسامة حالمة ممتزجة بشيء من الألم وهي تتذكر يوم ولادته.
******
-"سهرة...؟ سهرة إيه يا عم ..؟"
- "باقول لك يا زكريا سهرة عند مستر إيفانز ... يعني أجمد مزز أمريكا من كل الجنسيات ... وشرب للصبح وتاخد في إيدك آخر السهرة المزة اللي تعجبك عالبيت تكملوا الشرب والـ..."
- "عالبيت ...؟ بس يا أخي ماتفكرنيش ... أنا مابقيتش أحط درينكس في البيت ... أنت عارف اللي عندي.. رغم كل اللي باعمله فيها ألاقيها رامياهم ... ماهياش فلوس على الأرض خاصة وإني قربت أفلس.."
- "تفلس ...؟ تفلس مين يا عم ..؟ والبنك اللي عندك ده راح فين...؟ أمال انت متجوزها ليه..؟ أحنا مش بتوع جواز أصلا وأنت متجوزها لهدف معين ... أنجز وخلص وخلينا نهيص .."
- "ماعرفش يا أخي فيها إيه ...! إيه القوة والجبروت اللي فيها دول...! كأنها بتعمل أعمال وأسحار ... لا بيأثر فيها ضرب ولا تهديد ولا ضياع جواز سفر ... وماشية راحة جاية بكل ثقة وبطنها بتكبر يوم بعد يوم وكأنها فرحانة بحملها ده..!"
- "حمل..؟ خلاص ... ماتخليهاش فرحانة وخلص نفسك من اللي جاي واللي هايشيلك الهم ويقيدك ... أحنا هنا في أمريكا ولو طالبت بحقوقها وحقوق أبنها منك هايجيبوهالها حتى لو كانت مين .."
- "يا ابن الجنيية...! قصدك ..."
- "بالظببببط ... شيل ده من ده يرتاح ده عن ده ... هوا أنا اللي هاقول لك يا برنس..؟!"
لمح زكريا نور خارجة من غرفتها ببطنها المنتفخة وحجابها الكامل متوجهة نحو الباب، فقال لمحدثه في الهاتف: – طب أقفل دلوقتي... سلام...!
ثم توجه نحو نور ووقف أمامها ليمنعها من الخروج قائلاً: - رايحة فين يا مدام..؟
قالت نور بصرامة: - راحة شغلي ... عن إذنك ...!
ضحك بسخرية قائلاً: - لا والله...؟ وبقيتي تشتغلي...؟ ده من امتى...؟
أجابته بحدة: - مش شغلك ...
قال بصرامة: - لأ شغلي .... أنت نسيتي إني جوزك واللا إيه..؟
قالت : - خلاص ... نفضها ونستريح ... وتطلقني ...
هتف: - أنت مافيش على لسانك غير الكلمة دي..؟! ما أنت عارفة الجواب ... أمضي التنازل أطلقك ...
قالت بصرامة: - وأنا قلت مافيش ورث ولا فيه تنازل ...
أمسكها من ذراعها قائلاً: - فرحانة بنفسك أوي رايحة جاية براحتك ... لا يا هانم أنا ممكن أكسر لك رجلك.. وفرحانة اوي باللي في بطنك ...
ظلت متمسكة بقوةٍ ظاهرة وهي تقول: - مش فرحانة ولا حاجة ... عمري ما اتمنيت أب زيك لابني أو بنتي.. بس هاعمل إيه بقى ... قدر ربنا ..
قال بجنون: - أنا بقى في إيدي أغير القدر ده أو ألغيه ...
صاحت بجزع وهي تحاول تحرير نفسها من قبضته:
- أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم ... لو سمحت ماتكلمنيش لأن كلامك كله غلط ...
أمسكها من كتفيها حاملاً إياها بجنون ثم ألقاها بقوة على الأرض وهو يهتف:
- أنا كلامي كله غلط..؟؟ طب هاتشوفي إزاي كلامي هايبقى صح ...
سقطت بقوة على الأرض فأخذ يركلها بعنف في بطنها وظهرها وهي تحاول الزحف بعيدًا عنه والألم يمزقها... حتى شعرت بسخونة تغمر نصفها السفلي ... نظرت بوهن لتجد نفسها غارقة في بركة من المياه التي انهمرت كالشلال و... بركة أخرى من الدماء..!
***
{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}
تسللت إلى أذنيها تلك الآيات بينما وعيها يعود إليها تدريجيًا ... فتحت عينيها بصعوبة ... إنها في غرفة جدرانها بيضاء ... متصل بكفها كانيولا متصلة بدورها عبر خرطوم رفيع بقنينة معلقة على حامل ما.
- حمدًا لله على سلامتك ... حمدًا لله على سلامتك نور ...
كانت إيفا تجلس بجوارها تمسح على رأسها وقد قطعت تلاوتها عندما لاحظت استعادة نور لوعيها، فوضعت نور يدها على رأسها متسائلة: - هـ... هوا إيه اللي حصل ...؟
ابتسمت إيفا في حنو وهمت أن تقول شيء ما، إلا أن نور هتفت: - والجنين..؟ فين ابني..؟ راح..؟ راح يا إيفا...؟
ربتت إيفا على رأسها مطمئنة وهي تقول: - مش تقلقي يا نور ... احنا لحقناكي على آخر لحظة ... أنا كنت منتظراك تحت العمارة عشان نروح المركز مع بعض زي ما اتفقنا وأما اتأخرتي طلعت أشوفك ... لاقيت باب الشقة مفتوح وانت على الأرض غرقانة في المية والدم ... طلبت الإسعاف ونقلناكي بسرعة على المستشفى عملوا لك عملية قيصري والولد بخير الحمد لله بس هوا في الحضانة ... أنت عارفة أنك في السابع لسة، فمحتاج يقعد في الحضانة شوية ...
ارتسمت ابتسامة ارتياح على وجه نور وهي تقول: - ولد...؟
أومأت إيفا قائلة: - ولد كالبدر ...
تمتمت نور: - الحمد لله ... الحمد لله ...
تسائلت إيفا: - هااا...؟ هاتسميه إيه..؟
أجابت نور بسرعة: - عيسى ... هاسميه عيسى ...
******
أصوات طرق وشيء من الهرج والمرج ابتدروهما قبيل دخولهما من باب المنزل، فتمتمت تقى متسائلة:
- فيه إيه..؟ عاملين مظاهرات جوه واللا إيه...؟
قالت نور باسمة: - تعالي ندخل ونشوف إيه اللي بيحصل...!
دلفتا من الباب الرئيسي الكبير لبيت آل رحيل، لتجدا زين وياسر واقفان عند باب مكتب الشيخ سليم ينحني زين على رتاج الباب بينما يقف ياسر ممسكًا ببعض العدة، أما على الأريكة القريبة فتجلس كل من زهرة وحسناء التي كانت تضع ساقًا فوق الأخرى وتهز رجلها في عصبية بينما تخفي وجهها خلف مجلة أزياء تتصفحها في عنف وعلى مائدة الطعام كانت الجدة قد اتخذت موقعها على رأس المائدة وقد إلتف حولها ابنيها سليم وعتمان وحفيديها طلال وياسين بينما كانت زينب تضع الطعام على المائدة ويبدو أن فاطمة ونجاة مع سنية في المطبخ.
- "ياسر... فيه إيه..؟ أنتوا بتعملوا إيه...؟!!!"
سألت تقى زوجها في دهشة، فقال ياسر مازحًا:
- على آخر الزمن بقيت صبي نجار ...
هتف الشيخ سليم من موقعه على مائدة الطعام وهو يتطلع إلى زين وياسر:
- تعالوا يا ولاد افطروا يا زين يا ولدي ما إله لازمة اللي ...
اعتدل زين ناهضًا ممرًا أصابعه في خصلات شعره النافرة وهو يقول في صرامة:
- لأ يا والدي ... ليه لازمة ونص وتلات تربع كمان ... لازم أغير كالون أوضة المكتب عشان ما يدخلهوش كل اللي يسوى...
ثم أستدار نحو نور بنظرات نارية مردفًا: - ... واللي مايسواش...
شعرت نور بالضيق من تلك التلميحات السخيفة التي لا تفهم مغزاها من زين فأشاحت بوجهها لترى حسناء قد وضعت المجلة جانبًا وأخذت تقضم أظافرها في توتر وهي تتابع الموقف، بينما أكمل زين وهو يعاود عمله: - أحنا داخلين على انتخابات ولازم نحافظ على سرية حملتنا من الهوا الطاير ...
فقال عمه عتمان: - طب تعال افطر يا زين وبعدين أبقى اعمل اللي تبغاه ..
قال زين بحسم وهو ينهض ثانية: - خلاص ... أنا خلصت يا عمي ... وأبقى أشوف دبانة تهوب هنا ... هافعصها ...
كان يتحدث بلهجة مخيفة والنيران تشتعل من عينيه، فشعرت زهرة بارتجافة حسناء الجالسة جوارها، فربتت على كتفها هاتفة: - فيه إيه يا عم الخِطِر...؟ إيه اللهجة دي...؟ محسسني إن أحنا في فيلم أكشن خوفت البنية حرام عليك ... دي حامل وعلى وش ولادة ...
نهضت حسناء قائلة بصوت حاولت أن تجعله واثقًا وباردًا كعادتها:
- لأ يا حبيبتي ... أنا لا خفت ولا حاجة.. أنا ولا أي حاجة تخوفني يا ماما ...
قالتها ثم توجهت إلى مائدة الطعام وهي تتهادى في مشيتها وتمسك بظهرها في دلال، فنهضت زهرة نحو تقى ونور قائلة: - إيه رأيكم في الفيلم الجامد ده ..؟!! أكشن كدة عالصبح ... بس العجيبة إني أول مرة أشوف أخويا زين خايف كدة عالانتخبات ...!
ضحكت تقى قائلة: - لأ ... ده خلى جوزي كمان صبي نجار ...!
قالت زهرة: - ياللا يا بنتي انتي وهيا نفطر كفايانا أكشن ...
قالت نور في ضيق: - لأ معلش أنا ماليش نفس أفطر ... أنا طالعة أوضتي ...
هتفت زهرة: - بتهرجي... صح..؟ حد يسيب البيض المقلي في السمنة البلدي والفطير والقشطة والعسل ويطلع أوضته..؟ يا بنتي ماتخليش فيلم الأكشن ده يأثر على نفساويتك وتعالي افطري..
ابتسمت نور رغمًا عنها قائلة: - فعلا ماليش نفس اكل خالص ... عن إذنكو ...
عادت زهرة تهتف: - طب انتي مالكيش نفس ... جارة في إيدك الواد الغلبان ده ليه..؟ هاتيه يا بنتي خليه يتغذى بدل ماهو هفتان كدة ... خليه يطلع لعمته جامد ومتين ...
قالتها ثم حملت عيسى، فاستسلمت لها نور وتركته ثم صعدت إلى غرفتها في هدوء تتابعها نظرات زهرة المشفقة التي لاحظت بدورها الطريقة التي نظر بها زين إليها متسائلة في أعماقها عن سر كره زين الشديد لأرملة أخيه ...!
***
كان صدرها يفيض ضيقًا ... فوقفت تؤدي صلاة الضحى، ثم تناولت مصحفها ... جلاء أحزانها وذهاب همومها ... فتحته لتكمل من حيث توقفت ...
{إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)}.
بدأت تلاوتها بتلك الآية من سورة الحج ... تلك الآية التي استحضرها قلبها يومًا ما عند باب منزلها في مانهاتن ... عندما شعرت أنها في أصعب اختبار كان عليها اجتيازه ... عندما واجهت كل الصراعات والرغبات بداخلها في تلك اللحظة ... عندما كان أمامها خيارين فقط لا ثالث لهما ... إما أن تنجح بانتصار لحظي في الدنيا وترسب في الآخرة ... أو ... تسلك الدرب الأصعب ..! حلقت ذكرياتها بها بعيدًا ... في رحاب آية ... قبل خمس سنوات أو يزيد..!
***
في ذلك المساء البارد من شهر يناير ... كانت تستمع إلى النشرة الجوية التي تنذر بزحف العاصفة الثلجية التي شلت واشنطن وفلاديفيا إلى نيويورك وبوسطن، وأخذت تفكر في طبقة الثلج السميكة التي غطت مانهاتن هذا الصباح وشلت وابطأت حركة السير السير في المدينة، ذلك عندما سمعت جرس الباب فأجفلت، إلا أنها نهضت لترتدي حجابها ثم تفتح الباب مع الاحتفاظ بسلسلة الباب مكانها دون أن تفتحها ونظرت من فرجة الباب إلى القادم طويل القامة الذي قال لها: - مدام نور ...؟
شابًا وسيمًا عسلي الشعر والعينين أبيض البشرة يقف على بابها يحدثها بالعربية، قالت:
- أيوة ... مين حضرتك..؟
أجابها: - حضرتك مش فاكراني واللا إيه...؟ أنا مهند صاحب زكريا وشريكه...
تذكرته ... هو ذلك الشخص الذي يصحب زكريا دومًا ويهاتفه دون ملل ... فقالت بحزم وقد همت أن تغلق الباب: - زكريا مش موجود ... بقاله كام يوم مابيرجعش البيت روح دور عليه مكان ما بتسهروا ...
إلا أنه وضع قدمه ليحول دون إنغلاق الباب قائلاً: - ماهو أنا جاي عشان كدة ... عشان أقول لك زكريا فين واكلمك في موضوع كدة ...
فتحت الباب مرة أخرى وقالت له دون أن ترفع عينيها نحوه: - موضوع إيه...؟
قال مازحًا بابتسامة ساحرة لم ترها: - تسمحي لي أدخل ...؟ الجو برد ...
قالت في حزم: - أنا آسفة حضرتك ... ماينفعش تدخل وأنا لوحدي ...
تمتم مهند: - كل يوم بيزيد إعجابي بيكي عن اللي قبله..!
همت أن تغلق الباب مرة أخرى إلا أنه صاح:
- على فكرة ... زكريا في السجن.. مقبوض عليه بقاله كام يوم ...!
توقفت متجمدة في مكانها لا تدري أتفرح أم تحزن...! أتفرح لأن سجانها قد سُجن أم تحزن على من هو مفترض أن يكون زوجها وأبا ابنها..!!
أنحنى مهند نحوها هامسًا: - أنا عارف زكريا كان بيعمل فيكي إيه ... كان بيحكيلي بكل فخر ... عارف إهاناته وخياناته ومحاولته الأخيرة لتسقيطك لولا إرادة ربنا أنه يحفظ ابنك ... عارف سكره وعربدته ... عارف أنك جوهرة ماتستحقش منه كل ده ... كل اللي بيحكيهولي عنك خلاني أحس أنك إنسانة أقرب ما تكون للملايكة ... حاولت أنصحه ... ماسمعش مني حرف ... ولما شوفتك حسيت قد إيه أنت رائعة ... جمال ودين وأخلاق ...مين يلاقي زوجة زيك في الزمن ده ...؟ زكريا في إيده جوهرة نادرة وهوا غامسها في الطين ومش مقدر معدنها الأصيل ...
شعرت برجفة تكتنف قلبها ... شعرت بأوصالها تتجمد أكثر فأكثر ... و... رفعت عينيها نحوه ... وجهه وسيم القسمات .. عينيه العسليتان الصافيتان المائلتان للخضار ... كلماته التي هبطت على قلبها تذيب عنه جليد الوحدة ... وصاحت الأنثى بداخلها تريد المزيد من ذلك النبع الذي يرويها بعد ظمأ سنون طويلة... منذ أن تركها محمود وهي تدفن تلك الأنثى في أعماق سحيقة، ليأتي هذا المهند فجأة ... ينبش قبرها ويرويها عذب حديثه.
شعر بفراسة الرجل أي تأثير أوقعه عليها من نظراتها الحائرة وارتعاشة يدها الممسكة بالباب، فاستمر قائلاً:
- أنا طول عمري باحلم بزوجة فيها ربع صفاتك يا نور ... إنسانة تاخد بإيدي وتخرجني من المستنقع اللي أنا فيه ... إنسانة أأمنها على بيتي وعرضي ... إنسانة تطهرني وترفعني ... أنا محتاجك يا نور ...
لم تشعر به وهو يرفع الألقاب بينهما كانت وكأنها في غيبوبة ... لسان حال أنوثتها يريد من ذلك الزوج الذي لا يراها إلا ورثًا أن يأتي ويرى كيف يقدرها رجل تتمناه أي امرأة..!
أقترب من الباب أكثر هامسًا: - سيبيه ياخد عقوبته في السجن وأطلبي الطلاق ... وأول ما عدتك تخلص أرجوك أسمحي لي أتقدم لك ... لأني بجد محتاج لك جدًا ... وابنك هايبقى أبني ...
شعرت بدوار ... فأسندت رأسها على الباب، لتسمعه يكمل:
- زكريا اتقبض عليه عشان ماسلمش الطلبيات في معادها وكل ما أقول له يكلم أخوه يبعت الطلبيات يقول لي حاضر ولا يهتم ... فالعملاء قدموا فيه بلاغ خاصة وانهم دفعوا عربون وزكريا مارجعهوش لأنه أكيد صرفه على صاحباته وسهراته ... ده غير الشرط الجزائي اللي لازم يدفعه عشان موعد التسليم فات ... فهوا كدة واللا كدة مش خارج منها ...
صمت قليلاً ثم قال: - أنا بقى ممكن اتواصل مع اخوه من إيميل المكتب اللي زكريا بيبعت منه على إني هوا واكلم العملا وناخد الشغلانة لحسابنا أنا وانتي وننتقم منهم كلهم ... إيه رأيك يا أميرتي...؟
أغمضت نور عينيها بقوة ... هاهي ذي فرصة الانتقام منه جائتها على طبق من فضة ... بل من ذهب ... هاهوذا قانون السماء ينتقم لها ... لقد أُلقي القبض عليه ... ولسوف يطلقها رغمًا عنه ولسوف تتزوج من رجل يقدرها و ....
"[أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك]"
تردد صوت أمها بداخلها بقوة وهي تردد ذلك الحديث كلما تعرضوا لموقف مماثل...!
لا تخن من خانك
لا تخن من خانك
نهي صريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخيانة حتى خيانة الخائن ...!
ذلك الشخص على باب بيتها ... هاك الثعبان الذي تسلل داخلها دون أن تدري وبث بها سمومه ... يريد أن يتطهر بتنجيسها ... يريد أن يرتقي على أكتافها غامرًا إياها في وحل الخيانة...!
لا تريد حب رجل مقابل بغض ربها لها ... نعم ... تذكرت آية سورة الحج ...
{إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ }.
ربها لا يحب الخائن ... كيف تحيا إذا لم يحبها ربها وهي التي ترجو رضاه وتحيا برحمته وفضله...!!
استنكرت نفسها ... كيف استمالها حديث ذلك الشخص القابع على بابها كشيطان ..؟؟؟!!
شدت قامتها وأرخت عينيها إلى الأرض، فسألها: - هاااه ... قولتي إيه...؟؟؟
قالت بحسم: - أنا ماليش في شغلكوا ... اللي انت شايفه اعمله ... وبالنسبة لارتباطنا .... أما أبقى أتطلق يبقى نتكلم في الموضوع ده...!
أبتسم مهند بانتصار قائلاً: - ماشي يا نور ... هاستنى على نار أنك تخلصي من الشخص اللي بيعذبك ده عشان تشوفي معايا كل معاني الحب والتقدير و ...
قاطعته قائلة: - ماشي ... شكرًا ...
ثم صفعت في وجهه الباب دون أن تضيف أي كلمة...! وهرعت إلى غرفة طفلها ذو العشرة أشهر ... الغافي في هدوء ... قبلته في حنو ثم تهاوت على الأرض تحتضن قدميها وتبكي ... تبكي ضعفها أمام أول فتنة تواجهها ...! كانت تعتقد أن محمود قد أخذ معه كل ما بها من رومانسية وأمل في الحب وزكريا قد دفن ما بقي بها من أنوثة ... لماذا إذن شعرت بميل إلى كلام ذلك المهند المعسول...؟؟؟
نهضت متثاقلة ... توضأت وأخذت تصلي وتستغفر عن شعور ما كان يحق لها أن تشعر به ... تستغفر عن نظراتها إليه ... عن حديثها معه ... عن إصغاء قلبها إليه.
أنهت صلاتها ثم فتحت الحاسوب ... لقد هاتفتها تقى منذ فترة وتبادلا البريد الإلكتروني وصارت كل منهما تراسل الأخرى بانتظام تحكي لها عن حياتها ... فتحت الحاسوب علها تجد رسالة من شقيقتها تتناسى معها إثمها القلبي. كان متصفح الإنترنت الذي اعتادت عليه لا يريد العمل لم تدر لماذا، فلجأت إلى متصفح آخر... فتحت الهوت ميل من خلاله و... وجدته يدلف تلقائيًا إلى حساب ما دون مطالبة بكلمة سر أو شيء من هذا القبيل ...! كان يبدو أن زكريا قد ضبطته على الاحتفاظ بالحساب وكلمة المرور لأنها وجدت نفسها على حساب البريد الإليكتروني الشخصي لزكريا...! همت أن تخرج منه إلا أنها لمحت رسالة بعنوان (عاجل بخصوص الشحنة) كانت من حساب باسم زين، فأغمضت عينيها بقوة وكأن الله يقودها إلى مسار محدد ... ستتبع ما خطه القدر ... ولن تخن من خانها ... على العكس ... ستعمل على إخراجه من محنته. وفتحت نور رسائل البريد الإلكتروني وأخذت تدرس الأمر برمته.
- "آلو .... مكتب مسيو جان دي بونت...؟ هنا مديرة مكتب مسيو زكريا رحيل ... أود التحدث إلى مسيو دي بونت من فضلك... نعم ... بخصوص الشحنة المطلوبة من شركتنا ... حسنا أنا في انتظاره.."
وتم تحويلها على أحد أكبر العملاء المستوردين لمحصول مزارع ال رحيل، تناقشت معه وأوضحت أن الأمر ملتبس عليهم وأن كل ما في الامر كان حجز جمركي سيتم حله في أقرب فرصة وستصل بضائعهم الى مخازنهم خلال اسبوع. تفهم المستثمر الفرنسي الأمر واخبرها انه لن يتنازل عن بلاغه ضد زكريا الا عندما يرى البضائع. وأخرجت نور قاعدة بيانات العملاء التي كان زكريا محتفظا بها على ايميله وهاتفت كل من تعاقد معهم محاولة توضيح الأمر وحملهم على التنازل عن بلاغاتهم ووصلت الى اتفاق وسط معهم بتقديم تخفيضًا لهم، ووعدتهم بإيصال البضائع في اقرب فرصة.
كان زكريا يحتفظ بنسخ من العقود وقاعدة بيانات العملاء على بريده الإلكتروني، ويبدو ان هذا هو بريده الشخصي لا الذي باسم مكتب التوزيع الذي يدخل عليه مهند. تواصلت مع زين على انها زكريا وعرفت منه كل تفاصيل الشحنة التي كان قد ارسلها بالفعل لكنه لم يتلق من أخيه أي رد بخصوصها. فهاتفت الميناء وعرفت ما على الشحنة من حجز جمركي. قررت أن تذهب لاستلام الشحنة في اليوم التالي وقد لمعت في رأسها فكرة عن الشخص الوحيد الذي يمكنه مساعدتها في هذا الأمر، فأمسكت الهاتف وطلبت رقمًا ما قائلة: - سلام عليكم ... قبل كل شيء... أنا محتاجة مساعدتك جدا ....
***

Just Faith 18-12-17 01:25 PM

-6-
مذ أدركت أنا بأنني أنا لم يقتلونا هنا في المدينة بالرصاص وإنما بالقرارات
جابرييل جارسيا ماركيز
******
كانت تغفو على نافذته بأوراقها الأرجوانية التي يشبه ملمسها ملمس القطيفة وساقها الذي لا يتعدى الثلاثون سنتيمترًا.. والزهرة الوردية بقلبها التي تنغلق على نفسها دونما سببًا واضحًا...! لاحظ أن أزهارها تفتح وتغلق ثم تفتح وتغلق مع الوقت دون أن تكون تابعة لحركة الشمس أو لوجود ضوء أو عدمه..!
اليهودي التائه... القلب الأرجواني Purple heart... نبتته المفضلة التي يحتفظ بأصص منها بأغلب الأماكن التي يتواجد بها. أخذ يتأملها في شرود وقد أنغلقت أحد أزهارها على نفسها لفترة طويلة... ورغمًا عنه... اخترقت صورتها أغصان حقده المسموم وطافت بذهنه... لم يدر لماذا ذكرته تلك النبتة بها...!!!
شخصية غريبة... صموتة... لا يكاد يمسها شخص ما بأي كلمة إلا وتنغلق على نفسها دونما سبب واضح... قراءاتها... تربيتها لابنها رغم صغر سنها... صمتها المطبق... ذلك الحزن بعينيها... لم يدر أي تشابه ربطه عقله الباطن بين نور أرملة أخيه وبين نبتة القلب الأرجواني القابعة على نافذته...!!!
لكنه تذكر ما حدث فجر اليوم وما قرأه على شاشة الحاسوب من كلمات بذيئة لا تنم إلا عن امرأة ساقطة لا دين لها ولا خلق..! فاشتعل غضبه ثانية وكره استدعاء عقله الباطن لصورتها بتلك الطريقة فدفع أصص نباته بحدة غاضبًا، ووأد أي صوت ضعيف بداخله يخبره أنه قد يكون مخطئًا...!!
هنا فقط تأكد من كلام أخيه وحتما ما قالته عمته عن أمها كان حقيقة... فاشتعل غضبه أكثر وهو يفكر فيما يخطط له أباه والجدة... وضاق صدره ... لكنه أتخذ قرارًا حاسمًا...
"اللي ما تربيهاش أمها ولا يعرف جوزها يعدلها... أقسم بالله لأمشيها على عجين ما تلخبطه..."
قالها ثم خرج من غرفته مسرعًا هادرًا حتى كاد أن يصطدم بزهرة التي كانت تصعد السلم مع تقى ممسكة بصفحة ما، فنادته شقيقته: - زيييين... مالك يا أخويا..؟ فيه إيه...؟
إلا أنه أسرع إلى باب المنزل دونما كلمة واحدة، فهزت زهرة كتفيها قائلة:
- هوا أتجنن على آخر الزمن واللا إيه..!
قالت تقى: - معذور يا بنتي... من ساعة ما مراته قالت له أنها حامل من كام سنة وهوا عمال يلف عليها البلد كلها نفسه يشوف ابنه واللا بنته وهيا فص ملح وداب..!!
زفرت زهرة قائلة: - ما ينسى بقى خلاص... هوا عمل اللي عليه وزيادة... مافيش في إيده إلا الدعاء...! ربنا يهديك يا أخويا وتعتر في ضناك... ياللا أحنا بينا نشوف اختك دي كمان مالها...
ضحكت تقى وتوجهتا إلى غرفة نور دخلتاها بعد أن سمحت لهما بالدخول، فرأيتا نور تنهض من على بُساط صلاتها وتغلق مصحفها وقد امتلئت عينيها بالدموع محاولة محو أثرها، قالت زهرة:
- أوباااا.... مالك أنت كمان يا نور...؟ هوا فيه إيه النهاردة يا جماعة..؟
رسمت نور على شفتيها ابتسامة عذبة وهي تقول:
- مالي إزاي يعني..؟ مش فاهمة يا زهورة...!
سارعت تقى بقولها: - يعني مافطرتيش وقاعدة لوحدك...
همت نور أن تقول شيء ما، إلا أن زهرة وضعت الصفحة التي بيدها على المنضدة قائلة وهي ترفع الغطاء:
- ماهانش علينا نفطر لوحدنا جبنا الفطار وقلنا نفطر معاكي... ياللا يا نور باسم الله...
تسائلت نور في قلق: - أمال فين عيسى..؟؟
قالت زهرة: - أمي أول ما شافته شبطت فيه.. فطرته وقاعدة تلاعبه..
ابتسمت نور باطمئنان ثم جلست حول المنضدة مع تقى وزهرة شاعرة بدفئ حرمت منه سنوات طوال في بلد الجليد بها هو المسيطر... حتى المشاعر هنالك كانت جليدية وزائفة... اللهم إلا وجود إيفا بجوارها التي أرسلها الله لها لتنقذها أكثر من مرة... ووجود...!
*******
- "إيه يا مهند باشا... مش تقول لي كفارة...؟؟؟"
قالها زكريا عبر هاتفه الجوال في مرح بينما كان جالسًا في سيارة الأجرة بجوار نور، ثم أردف:
- آه والله لسة طالع طازة... نـ... نور اللي طلعتني... إيه..؟ بتقول أنك ساعدتها في كدة..؟ طبعا يا برنس أنا عارف أنك أكتر واحد تخاف عليا... متحرمش منك يا باشا... أنا في الطريق أهوه... ماشي... جهز أنت نفسك بس...
قالها ثم أنهى المكالمة ناظرًا إلى نور بطرف عينيه حيث كانت تشيح بوجهها عنه ناظرة من النافذة بجوارها، حائرًا في أمرها... كيف تخرجه من السجن وتبذل كل ذلك الجهد في إنقاذ عمله رغم كل ما فعله معها..؟!! أتكون بتلك القوة حقًا...؟ لكنه عاد وقال لنفسه أن مهند صديقه الصدوق حتمًا هو من دفعها لمساعدته وإلا لكانت هربت منه ومن البلد باكملها كما تطالبه يوميًا... قطع استرساله في التفكير رنين هاتف نور الجوال فردت عليه قائله.. "بونجور مسيو دي بونت... حسنًا... تهانئي على وصول البضائع... ونحن عند كلمتنا فيما يخص التخفيض الذي وعدناك به... ماذا..؟ حفل...؟ لا حقًا أعذرني لن أستطيع حضور حفلات... ألا يمكن أن ترسل لنا الشيكات المتبقية أو نأخذها من مكتبك في أي وقت آخر...؟ آها... مسافر فرنسا بعد غد... حسنًا... سنمر أنا ومسيو رحيل عليك بمكان الحفل لاستلام الشيكات ثم نرحل مباشرة... حسنًا... العنوان... كوخ سنتياجو...؟ لا... في الواقع لا أعرفه... هذا لطف كبير منك مسيو دي بونت أن سترسل لنا السائق أيضًا... عنواننا واشنطن هايتس مانهاتن....."
وأملته نور العنوان بالتفصيل ثم أغلقت الهاتف، فقال زكريا ساخرًا:
- من أمتى وأنت معاك موبايل..؟
رمقته باستخفاف ثم ردت باقتضاب: - جابتهولي صديقة من فترة...
فتسائل: - ده مين ده اللي عازمنا على حفلة..؟
زفرت وقد فقدت كل ذرة أمل في أن يسأل أو يهتم بالعمل الذي من المفترض أنه يديره ثم قالت بنفس الاقتضاب: - مسيو جان دي بونت واحد من أكبر عملائنا مسافر فرنسا يقضي فيها إجازة عيد الميلاد بعد بكرة وهوا متعود يشرف بنفسه على الأمور المالية من إستلام شيكات وخلافه فعازمنا عنده في كوخ كدة عشان نستلم الشيكات... طبعًا إحنا مش هانحضر حفلات ولا يحزنون... إحنا هناخد الشيكات ونمشي... وهوا قال لي أن السواق بتاعه هايكون تحت أمرنا..
التمعت عينا زكريا جذلاً دون أن يصرح لها كم هو سعيد بحضور حفل في كوخ سنتياجو... كان أحد أحلامه منذ أمد بعيد لما سمعه عنه من وجود كل أنواع الترفيه الراقي هناك حيث يتواجد الكوخ أعلى تلة مرتفعة في مالون يذهب إليها الثري الفرنسي كل عام ليقيم حفلاً لا مثيل له.
في اليوم التالي أخذ زكريا يتأنق منذ العصر مجربًا عدة حلل من التوكسيدو وعدة قمصان وعدة ربطات عنق وأخذ يتخير أفضل عطوره الفخمة، بينما نور تقبع بحجرتها تعتني بابنها وتستمع إلى الأخبار بالمذياع ...
" ... هذا وسيؤثر سوء الأحوال الجوية على حالة النقل الجوي: فقد ألغيت كل الرحلات المنطلقة من مطاريْ JFK ولاجورديا أو أجلت. كما أن الطرق سيئة للغاية وتنصح السلطات بتفادي التنقل بالسيارات قدر الإمكان. وإذا كان المترو سيشتغل بشكل طبيعي، فإن حركة الحافلات سيعتريها الكثير من الأضطراب.
كما أن متاحف المدينة ستغلق أبوابها لأول مرة منذ سبع سنوات وكذلك الشأن بالنسبة لحديقة الحيوان والمعالم السياحية الرئيسية. وستواصل هذه العاصفة الناتجة من التقاء كتلة هوائية رطبة قادمة من خليج المكسيك وأخرى باردة آتية من كندا، تقدمها خلال اليوم باتجاه نيو إنجلاند.
لذا ننصحكم بتوخي أقصى درجات الحذر.
أنتم تستمعون إلى إذاعتكم مانهاتن على الموجة 101.04.
إذا أعطيتمونا عشر دقائق على مانهاتن 101.04، سنضع العالم بين أيديكم."
شعرت نور بالقلق وهي تستمع لتلك الأخبار... كيف ستخرج بابنها الذي لم يكمل عامًا في تلك الأجواء..؟؟ هي لا تريد الإثقال على إيفا اليوم أيضًا، ولا تريد الخروج به في ذلك الجو... ثُقل عظيم يجثم على قلبها، فهي لا رغبة لها في الذهاب إلى أي مكان مع ذلك المدعو زوجها الذي نجح بجدارة في سلب أي بصيص من الثقة قد تكنه به؛ لكن ما بذلته من مجهود مضني من أجل إتمام تلك الصفقة لن تدع زكريا يضيعه باستهتاره وعبثه...!
وقفت أمام نافذة غرفتها ترقب تساقط الجليد بنعومة... رفعت رأسها إلى السماء المظلمة لا تدري كيف تتصرف حتى لمعت نجمة بضباب تفكيرها المتضارب ترشدها أن تنصب قدميها وترفع قضيتها إلى الملك فـ "ما خاب من استخار يا صغيرة" كذا اخبرتها أمها يومًا.
وبعد التسليم... لم تفارق مكانها على بساط الصلاة قليلاً حتى لمعت تلك النجمة بداخلها مضيئة لها طريق الذهاب، فعزمت أن تذهب لاستلام الشيكات ثم ترحل في الحال.
نهضت بسرعة تعد ملابس ثقيلة لعيسى مع غطائين من الفراء والصوف، بينما ارتدت هي عبائتها الفضفاضة عليها معطفًا جلديًا طويلاً وحجابها الطويل، ثم خرجت من غرفتها لتجد زكريا في قمة تأنقه بسترة توكسيدو سوداء من المخمل وقميص أبيض وبابيون رمادي ويضع حول عنقه شملة صوفية رمادية بينما عطره الفخم يعبق ردهة المنزل. نظر إليها قائلاً بسخرية وهو يشير لها من قمة رأسها حتى أخمص قدميها:
- أنت هاتروحي الحفلة كدة...؟
قالت بثقة: - أنا ما بخرجش من البيت إلا كدة وبعدين أنا مش هاحضر حفلات أنا راحة أقضي مصلحة شغل وأمشي..
ضحك زكريا ساخرًا وهو ينظر إلى ملابسها الفضفاضة وحجابها الطويل وحذائها البسيط المستوي دون كعبٍ عالٍ شاكًا أن يسمحوا لها بدخول كوخ سنتياجو، ذلك عندما سمع جرس الباب ففتحه ليظهر مهند في حلة أنيقة بدوره زادته وسامة، فعبست نور وقالت:
- ده جاي ليه ده...؟
قال زكريا بقوة: - أنا قولت له يجي... صاحبي وشريكي وأخويا...
نظر مهند إلى نور مضيقًا عيناه الذهبيتين وهو يقول:
- إيه يا مدام نور... ماكنتيش عايزاني آجي واللا إيه..؟
لم تجبه، ورحلت من أمامه لتكمل وضع الملابس الثقيلة على ابنها وتحكم تدثيره عندما رن جهاز النداء الداخلي للبناية "intercom" ليعلن عن وصول سائق مسيو دي بونت وهو في انتظارهم.
وخلال دقائق كانوا قد استقلوا سيارة الرولز رويس الخاصة بالمسيو دي بونت منطلقة بهم إلى كوخ سنتياجو.
بمجرد ركوبها سمعت نور رنين هاتفها معلنًا عن مكالمة من إيفا التي لم تنس أن تطمئن عليها حتى في العطلة...! اخبرتها نور باختصار عن وجهتها ثم أخذت تتابع الرولز رويس وهي تقطع طرقًا جليدية متوجهة شمالاً إلى مالون حيث يقبع الكوخ الريفي لرجل الأعمال الفرنسي.
بعد مرور أربع وعشرون ساعة أو أقل قليلاً... في تمام الساعة الرابعة عصر اليوم التالي... كانت الرولز رويس تعود إلى واشنطن هايتس لتتوقف أمام البناية الضخمة بواشنطن هايتس لتهبط نور محتضنة صغيرها يتبعها زكريا ومهند يبدو عليهما آثار سُكر بين وقد ذهبت أناقتهما أدراج الرياح حيث كان قميصيهما نافرين إلى الخارج وربطتي عنقهما الأنيقتين محلولتين بغير اهتمام.
أسرعت نور إلى البناية وهي ترد على هاتفها الجوال قائلة:
- أهلاً إيفا... حبيبتي ماتقلقيش أنا بخير الحمد لله... لا والله ماكنتش قافلة التليفون، الشبكة كانت واقعة عشان الأحوال الجوية... لسة راجعين حالاً... أتحبسنا هناك ماعرفناش نطلع من الجليد اللي كسا البيت والطرق... اضطرينا نستنى لحد ما جرفوه وعرفت السيارات تتحرك... أنا وعيسى بخير الحمد لله شكرًا على سؤالك... ماشي هاكلمك تاني ... سلام عليكم...
أستقلت نور المصعد مع زكريا ومهند الذين أخذا يحكيا عن الحفل وروعته وهما يضحكان بصخب، وعندما نزلوا بطابقهم... وجدوا صناديق كثيرة ن الكرتون موضوعة بالطريق أمام باب لمنزل مجاور لم يكن مسكونًا قبلاً، كانت تنحني على الصناديق امرأة شقراء فارعة ذات قوام فاتن وملامح أنثوية جذابة... ترتدي بنطالاً من الجينز الباهت عليه بلوزة وردية قصيرة ترتفع ليظهر جزء من ظهرها وبطنها وترفع شعرها الأشقر الفاتح على هيئة ذيل حصان. تسمر زكريا أمامها ثم قال مبهورًا وهو يشير إليها:
- سـ... سكارليت جوهانسن... صحيح..؟ أنت سكارليت جوهانسن... لقد شاهدت لك فيلم الجزيرة في السينما قريبًا لقد كان رائـ...
أبتسمت الفتاة ابتسامة مغرية وهي تقول بينما تهز رأسها نفيًا:
- لا.. لا... الكل يقول لي هذا... لكنني لست هي... اسمي (كارولينا آدامز)...
مد زكريا يده مصافحًا وهو يقول: - أنا (زكريا رحيل) ... يمكنك مناداتي زاك ..
أحكمت نور يديها على طفلها وتركتهم راحلة في سرعة نحو منزلها، بينما لحق بها مهند هامسًا:
- مش قولت لك... ديل الكلب... ولااا كأنك لسة مخرجاه من السجن... شوفتي اللي بديتيه عليا...
دخلت نور المنزل وصفعت بابه في وجه مهند وقد انهمرت الدموع من عينيها شلالاً... لا غيرة على شخص لا تكن له أي مشاعر... بل تقززًا من إنسان غارق في شهواته لا يقيم اعتبارًا لدين أو عادات أو حتى حقوق لزوجة وابن..! وخوفًا... نعم... كل يوم ينهش الخوف ينهش قلبها... كيف ستربي ابنها و... ابنه في جوٍ كهذا... كيف ستعلمه الدين والحلال والحرام وهو يرى أباه هكذا...؟ أزداد بكائها حدة والألم يعتصر قلبها وهي تهتف ... (يااا الله) ...
كانت موقنة من أن ربها قريب مجيب... لكنها لم تتخيل لحظة أن دعوتها ستُستجاب في نفس اللحظة... لم تتخيل أن مصدر دموعها الآن سيكون هو أداة التطهير و... سَطَرَ القدر ما سيكون.
*******
كانت شمس الأصيل الناعمة تختفي رويدًا رويدًا خلف الأشجار والنخيل الباسقات...
جمال هادئ ناعم بكر لم تعتقد أنها قد تشهده مرة أخرى في بلدتها بعد غربة سنوات طوال...
السماء متضرجة باللون الأحمر والأرجواني وقليل من الزرقة والأشجار تتمايل مع نسمات المساء الوليدة...
لوحة طبيعية خلابة أضفت على قلبها سلامًا بالتفكر في بديع خلق السماوات والأرض.
عقدت يديها على صدرها واستنشقت الكثير من ذاك الهواء النقي ثم أغمضت عينيها وكأنها تحبس تلك اللوحة الطبيعية بداخلهما وأرجعت رأسها إلى الخلف في هدوء. كانت تجلس بأحد أركان الحديقة في هدوء تتأمل جمال المكان وما يضفيه من سلام نفسي عليها.
لم يلبث هدوئها أن تحول إلى ارتعادة وجلة عندما شعرت بمن يحيط كتفيها بذراعه، فابتعدت بجسدها في عنف وفتحت عينيها، ثم...
"عمي سليم...؟!! أ.. أنا آسفة افتكرتك حد تاني..."
قالتها وهي تضع يدها على قلبها، فابتسم الشيخ سليم ابتسامة يبدو على ظاهرها الهدوء لكن اختلاج زاويتي فمه أوضحتا أن ثمة أمر خطير.
"معلهيش يا نور بتي إذا كنت فجعتك..."
قالها رابتًا على يدها، فقالت وقد عاودها هدوئها: - لا أبدًا... حصل خير يا عمي..
صمت الشيخ سليم لحظات مطرقًا إلى الأرض، فتأملته نور في تعجب، وعندما طال صمته قالت:
- حضرتك كويس يا عمي...؟
زفر عمها ثم رفع رأسه وقال شاردًا: - والله موضوع الانتخابات ده مسوي لنا وش في راسنا...
أبتسمت نور مشجعة وهي تربت على يده قائلة:
- حضرتك قدها يا عمي... ده أما حضرتك أخدتني عشان تفرجني على البلد والمزرعة مافيش حد شافك إلا وكان فرحان بيك... الناس هنا بتحبك قوي...
هز الشيخ سليم رأسه قائلاً: - إحنا مانا قلقانين على المكسب بإذن رب العالمين هيذا مضمون... بس اللي جاي بعديه هوا اللي بنحاول أنرتب له...
عقدت نور حاجبيها في غير فهم، فأردف الشيخ سليم:
- أنا كيف ما سمعتي يا بتي.. لو على خدمة النجع وأهله مانا مقصر في شيء بمجلس أو غيره... أنا كل همي أقضى على زراعة وتجارة السموم اللي البلد مليانة بيها..
لم تعلق نور أيضًا ليكمل عمها: - منطقتنا يا نور يا بتي واحدة من أكبر المناطق اللي بيدخل عن طريقها للبلد الحشيش المغربي والأسلحة المتوسطة... كيف تجاره الجمله بتبدأ من أول حدود ليبيا لمنطقة الساحل قبل كمين أبيش على مدخل إسكندرية... وقبل الثورة... الأشياء هيذي كانت بتتم بمعرفة كبار رجالة الداخلية والجيش لأنهم خابرين زين حجم تسليح المهربين طبعًا غير النسبة اللي بياخدوها، عندنا مناطق ياما هنا بالبحرية ملك لقبايل مسلحة واضعين يدهم على أراضي كتير... عشان اكده مش بالساهل أي حدا يشتري أرض بالواحات.. القبايل هيذي بتتاجر في الحشيش وتدخله من الحدود وبتزرعه كمان تحت سمع ونظر الداخلية والداخلية ما يقدروا يسووا معاهم أي شيء طالما القبايل هيذي ما بتتدخل في السياسة...
اتسعت عينا نور من مدى خطورة المعلومات التي يخبرها إياها عمها، ثم قالت:
- ياااه يا عمي... للدرجة دي الفساد وصل في البلد أن الداخلية هيا اللي بتبيع المخدرات والسموم للناس...!!! ياااا الله... بس يا عمي أكيد بعد الثورة كل الفساد ده هايختفي... صح...؟
نظر إليها الشيخ سليم باسمًا وهو يقول:
- ماهو لازمن حد يقوم يكشف الفساد هيذا ويحاربه وإلا ما راح يختفي من نفسيه... وده كان سبب رئيسي من أسباب ترشحي للمجلس... أنا خابر بالاسم والأدلة كتير من القبايل اللي متولية الامور هيذي وراح أفتح الموضوع في مجلس الشعب الجديد... مجلس الثورة ...
نظرت إليه نور في إعجاب ثم قالت مشفقة:
- بس يا عمي كدة هايعرضك لخطر جامد... حضرتك بتقول أن القبايل دي مسلحة...
هز الشيخ سليم رأسه قائلاً: - أدري يا بتي... بس لو كل واحد خاف... ما راح نكشف الفساد... قبل الثورة كنا ساكتين لأننا قلنا النظام حاميهم وماحدا راح يسمع... الحين... إيش عذرنا...؟ لازمن نحارب الفساد ونقف كيف الرجال...
ربتت نور على كفه قائلة بحماس: - ربنا معاك يا عمي... وكلنا أكيد هانقف جنبك... وأنا عن نفسي هاساعدك بكل قوة... ممكن أعمل لك دعاية على الإنترنت... أو أي حاجة تطلبها مني...
أطرق الشيخ سليم برأسه قائلاً بخفوت: - تقدري تساعديني بشيء واحد بس يا بتي...
أجابته نور بحماس: - عنيا ليك يا عمي...
رفع رأسه نحوها ببطئ ثم نظر في عينيها قائلاً: - تتجوزي زين ولدي....
لم تستطع نور إستيعاب الأمر بداية، فأرجعت رأسها للخلف في ذهول وقد اتسعت عيناها ثم ضحكت قائلة:
- حضرتك بتهزر.. صح...؟؟ إيه دخل الكلام ده في الانتخابات...؟؟؟
هز الشيخ سليم رأسه نفيًا في جمود ثم قال بهدوء: - ما بنهرج وهيذا طلبي منك فعلاً وإلا ما راح نعرف ندخل المجلس...
هتفت نور وقد بدأ غضب ما ينتشر بداخلها: - إزاي يا عمي..؟ هما شارطين كدة في ورقة الترشح واللا إيه...؟؟
أشاح بوجهه بعيدًا وهو يقول: - مش المجلس اللي شرط هيذا الشرط... جدتك... جدتك اللي كيف ما تعرف تجمع لي أصوات أهالي الواحات والجيزة... تعرف بمكالمة منها تضيعهم مني...
نهضت نور في حدة قائلة: - آااااه... لسة جدتي مستمرة في مسلسل القرارات اللي بتاخدها عن كل فرد هنا في العيلة... معلش يا عمي... أنا آسفة... مش هاكون لعبة تاني في إيد جدتي... لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين... أنا مش هاتجوز بدون إرادتي تاني أبدًا... حضرتك ممكن تطلب مني أي حاجة تانية إلا الطلب ده...! عن إذنك...
قالتها ثم شدت وشاحها الصوفي المحيط بكتفيها متدثرة به وأسرعت إلى داخل البيت، بينما نهض الشيخ سليم في بطيء متجهًا إلى مكتبه ليجد الجدة حنة تجلس خلفه تتحدث بالهاتف.
- "زين يا حسن... مشكور يا وليدي... أجمع كل رجالتك وعرف عن ولدي الشيخ سليم بالجيزة... ندري يا ولدي.. ندري أن الشيخ سليم معروف... لكن نبغى الكل يعرفه... كابير وصغير... غني وفقير... وما تشيل حمل التكاليف... إحنا هانسد أي تكلفة بعون الله... سلم لي على مرتك وعيالك يا حسن... مع السلامة يا ولدي.."
أغلقت الجدة الهاتف ثم استدارت نحو الشيخ سليم الذي تبدو على وجهه إمارات الخيبة، فضيقت عينيها الحادتين رغم كثرة التجاعيد المحيطة بهما قائلة: - هاااه يا سليم... حدتها...؟؟
زفر الشيخ سليم قائلاً: - حدتها يا أم... لكنها رافضة...
قالت الجدة في صرامة: - أنت خابر يا سليم أن دخولك المجلس واقف على الجوازة هيذي..؟
أجابها الشيخ سليم: - خابر يا أم... لكن... إيش أسوي في بت ولدك..؟ رافضة حتى تتحدت معاي أو تتناقش... وفرت مني بغضب وخوف كيف ما بتفر من الموت وكأن جوازها من ولدي موت...!! أنا أقنعت ولدي لكن ما ندري كيف نقنع نور...!
تراجعت الجدة في مقعدها قائلة: - أنا أدري كيف تقنعها ...
تسائل الشيخ سليم بنبرة غير راضية: - كيف يا أم...؟
قالت بحزم: - بولدها ...
نظر الشيخ سليم نحوها في ذهول بينما أردفت الجدة:
- باكر أتبلغها أنها لو ما اتزوجت زين راح ناخد منيها ولدها... ولازمن نسوي الفرح الخميس الجاي..
نظر زين إلى أمه في صمت ثم وضع يده على رأسه وكأنه يرى التاريخ يعيد نفسه ...!
******
"... وحضرتك عمالة تقولي لي افتحي قلبك للحياة وماتعمليش زي القصص والأفلام وربنا هايبعت لك اللي يحبك الراجل اللي يستاهلك... أتاريكي مطبخاها معاهم ..."
هتفت نور بشقيقتها التي لحقت بها إلى غرفتها عندما رأتها تصعد سلم البيت في غضب، فقالت تقى:
- أنت بتقولي إيه يا نور...؟ أنا مش فاهمة حاجة ... مطبخة إيه ومع مين ...؟
قالت نور بحدة وهي تجذب حقيبة سفر فارغة وتبدأ بتعبئتها بملابسها وملابس ابنها: - آاااه .. ما انت بقيتي منهم وعليهم ونسيتي اختك... بس أنا مش هاستسلم يا تقى...
أمسكتها تقى من كتفيها قائلة: - أهدي كدة واحكي لي اللي حصل عشان أقسم بالله أنا مش فاهمة حاجة خااالص...
قالت نور وهي تلهث من فرط الغضب: - جدتك أمرت وقررت مرة تانية أنها تجوزني...
رفعت تقى حاجبيها في دهشة ثم قالت: - تجوزك ...؟ تجوزك مين...؟
أجابتها نور: - ابن عمك... سي زين...
ابتسمت تقى قائلة: - طيب وماله يا نور... زين إنسان مثقف ومتدين وشخصية محترمة جدًا ...
دفعتها نور هاتفة: - أنت عايزة تغيظيني... آااه... ماهم أكيد مخلينيك تقولي لي الكلام ده...
قالت تقى بجدية: - نور عايزة إيه أكتر من قسمي بالله إني ما أعرفش حرف عن الموضوع ده...؟ والله العظيم ولا جه على بالي فعلاً... أنا باكلمك عن زين صديق عمر ياسر جوزي قبل ما يكون ابن خاله... ياسر دايمًا يحكي عنه وعن دينه وأخلاقه... عشان كدة باقول لك إدي نفسك فرصة تعرفيه ويعرفك...
أكملت نور تجميع ملابسها بالحقيبة وهي تقول بسخرية:
- فرصة..؟ فرصة مين يا هانم ده عمك عايزني أتجوزه قبل الانتخابات اللي فاضل عليها إسبوعين... وبعدين مين ده اللي أعرفه ويعرفني وهوا من اول ما دخلت هنا وهوا لا طايقني ولا طايق حتى ابن اخوه ..! أنا عاهدت ابني اني مش هاعرضه لأي قهر.. وأنا بقى أكتفيت... لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين... أنا تعبت بما فيه الكفاية أما سمعت كلامهم مرة... عشان كدة أنا لازم أختار قراري وماخليش حد ياخده عني...
توقفت نور عن وضع الملابس لحظات ثم قالت لتقى:
- أنتِ كان عندك حق على فكرة.... زمان أما قلتي أن إحنا لازم نهرب ولا نسمع كلامهم...
فقالت تقى بهدوء: - لأ يا نور... بالنسبة للي شوفته مع ياسر.. أنت اللي كان عندك حق أما قلتي أنه يمكن الحفرة اللي أنا كنت شايفاها تبقى باب لشيء من السعادة... الله أعلم... وفعلا ياسر هوا أكبر مصدر لسعادتي هوا وحبيبة يا نور...
قالت نور بألم رغمًا عنها: - أنا بقى بالنسبة لي كانت حفرة... حفرة موت... ومش ناوية أقع فيها تاني...
قالت تقى مشفقة: - طيب أهدي بس وقولي لي ناوية تعملي إيه..؟؟
أغلقت نور الحقيبة قائلة: - ناوية أرجع شقة ماما...
عقدت تقى حاجبيها في خوف قائلة: - لوحدك...؟
قالت نور: - أنا وابني طبعًا...
فقالت تقى: - طيب إستني ياسر يرجع من نابطشيته وهوا كدة كدة رايح القاهرة و ممكن...
قاطعتها نور: - لاااا... معلش يا تقى... أنت مالكيش دعوة بالموضوع ده خالص... ماتتدخليش فيه عشان ماتهدميش حياتك... أنا هاعرف أصرف أموري كويس...
قالت تقى: - بس يا نور ...
قاطعتها بقوة عجيبة تلبستها: - مابسش.... روحي لبنتك يا تقى لو سمحتي...
قالت تقى في قلق: - هاتنزلي دلوقتي واللا إيه...؟
أجابتها نور بنفس النبرة القوية: - لأ... وبعدين ماتشغليش بالك بيا... الست سنين اللي عيشتهم في أمريكا عملوا مني أيرون وومان يعني امرأة حديدية... أعرف بفضل الله أواجه أي ظروف...
قالت تقى: - طيب رقم موبايلي معاكي... كلميني لو حصل لك أي حاجة... أنا ليا أصحابي في القاهرة ممكن يبقوا عندك في ثواني...
ربتت نور على كتفها قائلة: - ماتقلقيش...
قالتها ثم عانقتها في حرارة قبل أن ترحل تقى وقد امتلأت عيناها بالدموع والقلق والخوف ينهشا قلبها على مصير شقيقتها.
أما نور فنظرت إلى صغيرها الذي استيقظ من نومه على نقاشاتها هي وتقى قائلة:
- ياللا يا بطل أستعد لرحلتنا...
قالتها ثم شردت مردفة: - رحلة الحرية ...!
******
نهاية الجزء الثاني

Just Faith 18-12-17 01:27 PM

الجزء الثـــالـث

الرحيــــــل إلى الحق

أحيانا.. تمر بنا أحداث... نعتقد أنها النهاية، و أن الحياة ستتوقف عند هذا لحد... و أننا لن نستطيع التنفس بعد ما حدث. لكن... هاهم يرحلون ... ولازالت الحياة تجري في أوصالنا... فنقف لنتسائل... ألازلنا... حقًا... أحياء..؟ إذن... ما هذه الظلمة..؟! ثم لا نلبث أن نرى ضوء النهار قادم من بعيد، فننظر خلفنا لنجد أن قطار حياتنا لم يمر سوى بممر مظلم... شديد الظلمة، ثم هاهو ذا يجتازه إلى ضوء النهار و جمال الطبيعة.

آلاء محمود

زهرة الصبار

-1-

“فلنعجل بالرحيل، فما من أحد يحبنا هنا”

جابرييل جارسيا ماركيز

****

في ساعات الظلمة الأخيرة من ذلك اليوم... كان هنالك ضوئًا يجاهد للحياة بداخل أكثر من فرد من عائلة رحيل... كلٌ يحاول محاربة الظلام على طريقته الخاصة...!

كانت طرقات خفيفة أعقبها صرير الباب في سكون الثلث الأخير من الليل، ثم ولوج خطوات أقدام إلى داخل إحدى الغرف يعقبها إغلاق الباب مرة أخرى.

"مبروووك يا عرييييس.... يا أهل بلدنا يوم الخميس هاكتب كتابي وأبقى عريس..."

قالها ياسر هامسًا عقب دخوله إلى غرفة زين، فرفع زين عينيه إليه بغضب قائلاً:

- ياسر... بطل حركاتك دي بالله عليك.. أنت راجع من نبطشيتك مهيس شكلك...

خلع ياسر منظاره الطبي ثم فرك عينيه قائلاً:

- هوا من ناحية مهيس، فأنا مهيس عالآخر بصراحة... بس أنا مش مهم يا معلم... أنت العريس يا باشا... أنا أما لاقيت أوضتك منورة قلت أكيد صاحي عمال تجهز للفرح.. مش شغال عاللاب توب وسايب نفسك كدة...

أغلق زين حاسوبه المحمول في عصبية وهو يقول:

- ياسر ... سيبني في حالي الساعة دي الله لا يسيئك...

قال ياسر: - إيه يا ريس... أنت مش شايف نفسك واللا إيه..؟ قوم كدة أحلق دقنك اللي أنت سايبها بقالك كام يوم و....

قاطعه زين في حدة: - يااااسر.... مافيش فرح ولا يحزنون... استريحت..؟

قال ياسر بدهشة: - إزاي...؟ دي الجدة مدية أوامر صارمة بتحضير عرس ليوم الخميس حسب ما سمعت من بهلول...!!

أشاح زين بيده قائلاً: - يا سيدي ماحناش قد المقام... السنيورة رافضة...

ضحك ياسر بشدة وهو يقول: - ضحكتني يا زين... يا عم هوا حد هنا يقدر يرفض واللا يقول للجدة لأ...

قال زين وهو يعاود فتح حاسوبه المحمول:

- أهي قالتها يا سيدي وجت منها الحمد لله... وحل عني بقى خليني أخلص شغل..

قال ياسر: - مع ذلك أنا متأكد أن كلمة الجدة هيا اللي هاتمشي وهانفرح فيك يوم الخميس...

جز زين على أسنانه وضم قبضته في عصبية وهو يقول:

- يا أخي سيبني في حالي بقى وبطل نبؤاتك السخيفة دي...

ضحك ياسر مشيرًا بيده قائلاً وهو يتوجه إلى باب الغرفة:

- خلاص خلاص... ماشي يا عم... بس قول لي هاتيجي معايا القاهرة بعد بكرة ...؟ عندي كام حالة كدة في مستشفى التأمين بتاعة الدقي وهقابل الدكتور عوني ..

ابتسم زين بركن فمه الأيسر في سخرية وهو يقول دون أن يرفع عينه عن حاسوبه:

- على أساس أن أنا اللي هاجي معاك...؟ يابني مش أنت عاملني سواق اللي خلفوك وراشق معايا في عربيتي ...

قال ياسر بغضب مصطنع: - بقى كدة يا زين..؟ ماشي يا عم بكرة عربيتي تتصلح وتبقى عروسة ...

هتف زين ضاحكًا: - يا أخي ارحمنا من أم زوبة اللي اتبهدلت معاك دي وغيرها...

ضحك ياسر قائلاً: - أبدًا ... ولا عمري أتخلى عن زوبة ...

ضحك زين بدوره وهو يقول: - ماشي يا عم خليك محنطها جنبك وأمري لله هاخدك معايا القاهرة بعد بكرة...

قال ياسر: - ماشي يا زين... أشوفك بقى في المسجد بعد ساعة... الفجر قرب يأذن... وهوا الشيخ زيدون اللي هايخد لي بحقي منك...

قذف زين بالوسادة على ياسر هاتفًا: - أمشي يا ياسر...

كان ياسر قد خرج بالفعل وهو يضحك إلى الرواق الطويل الغارق في الظلام الذي تتناثر به غرف النوم، وعقد حاجبيه عندما ظن أنه سمع صوت باب ينغلق، فنظر حوله متشككًا، إلا أنه لم يلبث أن توجه إلى غرفته وبمجرد أن أغلقها خلفه، عاد صرير ضعيف يسري في سكون الليل وينفتح باب ما مرة أخرى ليتسلل منه شبحان أحدهما طويل والآخر قصير لا يمكن تبين ملامحهما في العتمة الشديدة... أصدر سلم الدار الخشبي بدوره صريرًا كان بالنسبة لهما كعويل مزعج في سكون الليل وظلمته.

خرج الشبحان من باب المنزل ليسقط ضوء القمر على وجهيهما بملامحهما المتوترة ليتبين وجه نور المحاط بحجابها ووجه عيسى الناعس. أحكمت نور قبضتها على كف صغيرها بينما جرت بيدها الأخرى حقيبتها خلفها وتوجهت إلى الباب الرئيسي للبيت في خطوات سريعة خفيفة ثم خرجت... ورغم تلفتها حولها قبيل خروجها النهائي، إلا أنها لم ترَ تلك العينين حادتي النظرات اللتين كانتا تتابعانها من خلف زجاج إحدى النوافذ... عينان ثاقبتان رغم كل التجاعيد المحيطة بهما... عينان لم يرمش لهما جفن ولم يتسلل القلق إليهما ليقينهما بعودة الراحليْن عما قريب طوعًا أو... كرهًا..!!

******

رغم الخوف الذي بدأ يستبد بها، إلا أنها لم تعد أدراجها أبدًا... تناهى إلى مسامعها صوت مشروخ عذب لشيخٍ يبدو أنه يؤم الناس في صلاة الفجر، فسارت على هدي الصوت حتى انتهت الصلاة. كانت تسترشد في سيرها بضوء جوالها الضعيف. سارت مسافة طويلة على طريق يبدو ممهدًا إلى حدٍ ما وقد أحاطت بها المنازل البسيطة. هنا جلس عيسى على الأرض قائلاً بتذمر: - أ... أنا تـ .. تعبت يا ماما بقى ... الدنيا ضلمة وعايز أنام ...

أشفقت على صغيرها لكن فكرة أنها تفر به من قدر مجهول وتتخير قراراتها لأول مرة بحياتها كانت تصبرها وتمدها بالقوة والعزيمة. فحملته بيدها قائلة: - خلاص يا حبيبي شوية والنور يطلع ونوصل للطريق الرئيسي ونلاقي عربية توصلنا..

هي التي سقطت كثيرًا ولم تجد من يسندها سوى كفها قد تعلمت السير أخيرًا دون سقوط..

هي ليست بحاجة إلى المزيد من الفرمانات التي قد تضيع سنوات أخرى من عمرها بين وجع ودموع..

وإن كان من تبقى من أهلها في هذا الكون لم يكتفوا بعد من ظلمهم وبغيهم وأوامرهم القاتلة...

فستقطع نفسها من شجرتهم وتتمتع بيُتمها بعيدًا عنهم إلى الأبد؛

سيكون صغيرها الذي جاءها على غير موعد هو كل أهلها وكل أحبابها ومحور حياتها.. ستعيش له ومعه وبه.

أحكمت ضمها له وهي تكمل سيرها بكل عزم تهتدي ببرنامج الخرائط على جوالها الذي عجز عن تمييز تلك الأزقة الصغيرة عن بعضها، إلا أنها كانت تتبع إرشادات البرنامج حتى وجدت نفسها تسير بطريق غير ممهد يختلف عن الطريق الذي كانت تسير به...!

نظرت حولها في توتر... إلى أين قادتها قدماها...؟

كان الطريق مليء بالعقبات وبعض الأغصان المتدلية من أعلى...

يبدو أنها دخلت أرض زراعية دون أن تدري...!

سارت قليلاً حتى وجدت أرضًا مستوية إلى حدٍ ما وضعت حقيبتها ثم أجلست صغيرها عليها وأخرجت بُساط صلاتها، وبعد تحديد القبلة بواسطة البُصلة على جوالها... أدت صلاة الفجر ثم احتضنت ابنها بذراعيها خشية أن تهاجمه إحدى الحشرات السامة، فنام عيسى بين يديها.

جلست تستغفر وتحوقل وهي تحاول وأد ذلك الشعور الآثم بالندم الذي يحاول التسلل إلى صدرها..

تقنع نفسها أنها لن تعود إلى تلك الفتاة المستسلمة الخانعة الهشة القابلة للكسر...

لن تسقط بين براثن رجل لا يرى بها سوى وسيلة لتحقيق مآربه...

لن تدخل دوامة الخيانة والإهانة والوجع بقدميها مرة أخرى أبدًا..!

وكأن الشمس تبارك عزمها... فبدأت أشعتها تتسلل إليها في نعومة مخترقة أغصان الأشجار المتشابكة التي كانت تشكل عليهما ما يشبه القوس ..!

وتبدى لها المكان الرائع الجمال بمساحاته الخضراء وأشجاره المعتدلة والمائلة ليبدد كل خوف وندم.

نهضت نور وقد استعادت شيء من رباطة جأشها... وهمت باستأناف السير إلا أنها وجدت على يمينها حامل بدائي قد وُضع عليه ثلاثة زِيَرَة يستقر بجوارها بعض الأكواب المعدنية، فابتسمت ثم ذهبت إلى زير منهم وأزاحت غطائه وشربت في سعادة ونهم وأعطت صغيرها ثم... استكملت سيرها وسط الخضرة.

كانا يخرجان من حقل ليجدا نفسيهما في حقلٍ آخر...

أبواب غاية في البدائية تحيط بالحقول... بعض الحجارة المتراصة يتوسطها باب من الخوص...!

شعور عام من البهجة سرى بداخلها من مشهد تلك المساحات الخضراء الشاسعة والأشجار والنخيل المتناثر هنا وهناك.

وصلا إلى جدولٍ من المياه فرح عيسى به كثيرًا خاصة وأنه لم يكن ماءًا باردًا بل كان يبدو أنه نبعًا حارًا...! لعب الصغير بالماء وأخذ يقذفه على أمه التي كانت تجري منه وتلاعبه، ثم أكملا رحلتهما.

لم يكادا يسيرا قليلاً حتى أخذ عيسى يتقافز هاتفًا:

- ماما.. ماما ... شوفي... جمااال.... جمل كبير وجمل صغنن ...

نظرت نور إلى حيث يشير لتجد مشهد رائع من الجمال وصغارها التي كانت تسير متهادية وتتناول العشب في سكينة... هم عيسى أن يجري نحوهم، إلا أن نور امسكته في قلق قائلة:

- ما تقربش كتير يا حبيبي.. خلي بالك ..

قال لها: - حاضر يا ماما ...

أخذا يشاهدا الجمال وهي ترعى قليلاً ثم استأنفا سيرهما...

تطاول الطريق بهما وهما يقطعان الحقول والمساحات الخضراء ونور تبحث عن مخرج إلى أي طريق تسير به السيارات..!

لمحت من بين النخيل سياجًا بدائيًا ممتدًا يحيط بالأرض والمزروعات، فخمنت أنه نهاية الأراضي الزراعية، فجدت السير إلى هناك وعيسى خلفها يلهث قائلاً: - تعبت يا ماما ..

- معلش يا حبيبي عشان بس الأرض دي شكلها منحدر مرتفع شوية فهانتعب بس إحنا قربنا نوصل ...

وقرب ذلك السياج أخذت تزيح أغصان الأشجار وسعف النخيل بهمة وأمل الخروج إلى الطريق العام يتمدد بداخلها..

وصلت لاهثة إلى السياج البدائي القصير وهمت أن تعبره في سعادة، إلا أنها أصابها إحباط شديد!!

فخلف السور لم يكن هنالك أي طريق... بل جبل رملي مرتفع إلى ما لا نهاية ومليء بالنباتات الجافة والميتة...!!!

جلست في إرهاق وهي تجفف عرقها متمتمة: - يا ربي... إحنا تهنا واللا إيه...

طول الطريق الذي قطعته حاملة صغيرها أغلبه بيد وجارة حقيبتها بالأخرى – والتي لم يكن من السهل جرها وسط الحشائش الطويلة والأرض غير الممهدة - ...

حرارة شمس الظهيرة التي توسطت السماء مما جعلهما يتصببا عرقًا، ولولا ظلال الأشجار اللاتي يستظلان بها لكان من نصيبهما ضربة شمس قوية...

إرهاق صغيرها وهو يسألها بتعب "هانعمل إيه يا ماما...؟؟؟"

كل ذلك لم ينل من عزيمتها، فنهضت بحسم تخبره:

- هانرجع تاني كدة يمكن نلاقي الطريق...

ولم تكد نور تسير قليلاً حتى تناهى إلى مسامعها صوتًا عذبًا...

"بين الغيطان تلاقينا

بين الغيطان فرح قلبي بملقى الحبان

بين الزهور اللي تفوح بيناتها عطور

يا حبيبي نور على نور

الخضرة مع المية وحنان

بين الغيطان..."

سارت نحو الصوت بحذر وهي تمسك يد صغيرها لتجد فتاة بدوية جميلة ذات قوام فارع تبدو من أسفل جلبابها تفاصيله الأنثوية الفاتنة، بينما تسفر طرحتها عن وجه خمري جميل ذو ملامح حلوة... كانت تجلس أسفل إحدى الأشجار تمسك بيدها عصى مسترسلة في إنشاد موالها بصوتها الناعم وهي تتنهد بهيام...

-".. تحت الحمرايا وقعدنا تحت الحمرايا

كلمة في حدوته وسهرايا

نستني حتى اللي ورايا

كلام يطفي نار الحران

تلاقينا بين الغيطان

ليلة في بالي يوم تلاقينا فيه بالغالي

كنا واحدنا ما معنا والي

غير البلبل فوق الأغصان

بين الغيطان

صار المكتوب تلاقينا أنا والمحبوب

في الحلال ما فيها ذنوب

اللي ساعتها كان اللي كان

تلاقينا بين الغطان.."

-"سلام عليكم ..." قالتها نور للفتاة التي انتفضت في وجل وهي تستدير إليها، ثم وضعت يدها على قلبها عندما رأت نور وعيسى قائلة:

- وعليكم السلام والرحمة... معليهش يا ست هانم أصلك فجعتيني..

ابتسمت لها نور في ود قائلة:

- لا ولا يهمك... وأنا آسفة إني خضيتك... أنا بس كنت عايزة اسألك عن الطريق عايزة أي عربية توصلني القاهرة...

نظرت إليها الفتاة متشككة، فأردفت نور:

- أ.. أصلي كنت في رحلة و... تهت...

قالت الفتاة متفهمة:

- أيووووة.. سايحة يعني... كان زمان يا مكترهم في البلد بس بعد إيش اسمها هاذي.. الثورة ... ماعاد يجوا كتير كيف قبل...

ابتسمت نور في توتر دون أن تجيبها، فقالت الفتاة بحماس:

- عنينا ليكي يا ست هانم... راح انجيب لك اللي يوصلك للمكان اللي تبغيه... بس كنا بنرعى أغنام الشيخ سعد... ابرجعهم وأصوت على حمادة ولد أبو عزيز ياجي بسيارته لحضرتك ...

أومأت لها نور في رضى، ثم أخذت ترقبها وهي تجمع الغنم باحتراف هاتفة بهم "هسسسسس ... أرررر.." بينما كان عيسى في قمة سعادته وهو يداعب الخراف والماعز.

سارا معها حتى وضعت الأغنام بحظيرتهم، ثم قالت لها: - اتفضلي ببيتنا يا ست هانم ارتاحي وأنا راح نجيب لك حمادة ولد أبو عزيز...

لم تجد نور بُدًا من الإذعان لتلك الفتاة المتحمسة التي قالت لها في الطريق:

- أني ريانة... بارعى غنم الشيخ سعد بعد موت أبوي الله يرحمه... وعايشة مع جدتي على قدنا...

سألتها نور في دهشة: - يعني أنت مش متجوزة يا ريانة ..؟

تغيرت ملامح راعية الغنم الجميلة وأطرقت لحظات ثم همست بعد تنهيدة حارة:

- دامك غريبة مش من اهنه... راح أقول لك السر.. السر اللي تعبت من حمله وحدي...

تلفتت ريانة حولها في خوف ثم أردفت: - أ... أنا مـ... متجوزة بس ما حدا يعرف...

قالت نور مصدومة: - في السر يعني...؟؟

أومأت ريانة وهي تقول بحزن: - سي علي ولد الشيخ سعد حاول معاي أكتر من مرة لكن قلت له لاا نرفض الحرام... فاتزوجني وقال لي إنخليه في السر لأن الشيخ سعد لو درى راح يقتلني... وكان لازمن أوافق يا ست هانم... الشيخ سعد من أكابر البلد وعلي ولده ممكن يسوي فيني أي شيء... لكن مادم اتجوزني على سنة الله ورسـ...

قاطعتها نور: - إزاي يعني على سنة الله ورسوله...؟ أنت مش عارفة أن شرط من شروط الزواج هو الإشهار...؟ يا حبيبتي هوا لو عايزك يتجوزك في النور ويكمل شروط الزواج الصحيح غير كدة ماترضيش...

بهت وجه ريانة وغرقت في صمت عميق مفكرة في كلام نور التي كانت تدرك أكثر من غيرها أن راعية الغنم الفقيرة لا تملك ترف الاعتراض... إنها صورة أخرى لضحايا مسلسل التسلط الذي يبدو أنه لا يقتصر على شيخ قبيلتها الذي قرر نحرها مرة بعد أخرى بقراراته، بل هو داء يمتد لكل من يمتلك سلطة في هذه البلد.

لم يمض الكثير من الوقت حتى وصلوا إلى بيت قديم متهدم أغلبه ذو باب خشبي عتيق. قالت ريانة:

- وصلنا ...

دفعت الباب ببطيء هاتفة: - سلام عليكم يا جدة... معاي ضيوف...

كانت جدتها تجلس على حصيرة على أرض البيت الضيق بجوار نافذة صغيرة، أدارت رأسها نحوهم فأدركت نور أنها كفيفة... كانت تهتز في جلستها متمتة بكلمات غير مفهومة. فهمست ريانة:

- لا عليك من الجدة.. كبيرة وعقلها ماهو فيها...

أومأت نور مبتسمة، فأكملت ريانة: - راح أسوي لك شاي وعندنا خبز يابـ...

قاطعتها نور قائلة: - مافيش داعي... بس الله يكرمك عايزة عربية وعايزة اتوضا عشان أصلي الضهر والعصر...

قادتها ريانة إلى دورة مياه صغيرة جدًا توضأت نور ثم دخل عيسى بعدها، وعندما خرجت وجدت صفحة عليها كوب من الشاي وكوب من الحليب وبعض الخبز اليابس وطبق به زيت زيتون، بينما ريانة لم تكن موجودة يبدو أنها قد رحلت في طلب السيارة. أدت نور صلاتي الظهر والعصر جمعًا وقصرًا استعدادًا للسفر ثم شربت الشاي جبرًا بخاطر مضيفتها، عندما...

"المكتوب على الجبين لازمن تشوفه العين..."

أخذت جدة ريانة تردد تلك الكلمات، فنظرت إليها نور في دهشة لكن استمرت السيدة المسنة في ترديد تلك الكلمات دون كلل أو ملل...! تجاهلتها نور وإن شعرت بشيء من القلق.

لم يمر الكثير من الوقت حتى وصلت ريانة ومعها شاب يبتسم في ود وهو يرحب بنور وحمل عنها حقيبتها ليضعها في سيارته القديمة القابعة بالزقاق الخارجي... فحيت نور ريانة وشكرتها ودست بيدها بعض المال لتتسع ابتسامة ريانة وعندما همت نور بالخروج من البيت الصغير....

"لاااا تروحين ... "

صاحت الجدة الكفيفة في حدة بصوتها المهزوز، لم تدر نور لِمَ شعرت برجفة غشتها من صوت العجوز التي عادت تقول "لا تروحين... لا تروحين... من حرقته النار توخى والديه"

قالت ريانة: - بس عاد... تكفين يا جدة...

ثم استدارت إلى نور قائلة: - ما عليك منها... هذي عجوز خرفانة...

أومأت نور في وجوم وخرجت بينما صوت العجوز يتابعها "لا تروحين... من حرقته النار توخى والديه".

ركبت هي وصغيرها السيارة التي انطلقت بها هربًا... من قرار لم تأخذه.. لكنها لم تتسائل عن مدى صواب قرار بنفسها... أخذته.

******

طريق طويل استغرق أكثر من خمس ساعات انتهى أخيرًا بمحطة نزولها.

لم يتمكن من توصيلها حتى بيتها، فالطريق كان مسدودًا بجموع من البشر الذين خرجوا في مظاهرة سدت أغلب الطرق المؤدية إلى منزلها، فنزلت نور بمكانٍ ما وسط البلد بينما حاول السائق الشاب من إقناعها بالبحث عن طريق آخر إلى بيتها، لكنها رفضت بحزم وأجزلت له في العطاء فقد كان شابًا دمثًا رغم أنه طوال الطريق لا سيرة له سوى ريانة وجدعنة ريانة ومثابرة ريانة مما جعل نور ترثى لحال راعية الغنم الحمقاء التي تركت وراء ظهرها شابًا متيمًا بها هكذا قد يتزوجها علنًا دون خوف من أجل حفنة أموال بزيجة يشوبها الظلام ولا ترقى لمنزلة الزواج كامل الشروط والأركان...!

- "ديري بالك عاحالك أست هانم... البلطجية منتورين بالطرق وشوي ويبدأ حظر التجوال..."

أبتسمت له نور مطمئنة فأعطاها رقم هاتفه وأخبرها أنه سيسعد بخدمتها لو فكرت في أي يوم المجيء إلى الواحات، ثم رحل عائدًا من حيث أتى سعيدًا بالمبلغ الذي نقدته إياه تلك السائحة الكريمة.

أما نور... فأخذت تتشمم عبير الميادين المصرية وتتفقد وجوه الناس المتزاحمين في نهم وشقت طريقها مستدعية وسائل المواصلات التي كانت تستقلها لتصل إلى منزلها القديم الذي اشتاقت إليه جدًا، ذلك عندما تأفف عيسى قائلاً: - ماما.. الدنيا زحمة جدًا... أمتى نوصل بقى...؟

ربتت على يده وهي تشير إلى محطة مترو تلوح إشارتها من بعيد قائلة:

- شايف محطة المترو دي... هانركبها وشوية ونوصل إن شاء الله...

أومأ قائلاً: - آهااا... ساب واي زي اللي كنا بنركبها في أمريكا... طيب ياللا بسرعة عشان زهقت من الزحمة..

تأملته نور في صمت وهي تود لو توسلت إليه أن يزيل كل مرافق أمريكا من ذهنه كي لا يصدمه واقع بلده، لكن في اللحظة التي اتخذا فيها طريقهما نحو المحطة المستهدفة، شعرا بهجوم هائل من البشر...!! عدد لا حصر له من الرجال والنساء من مختلف الأعمار... كانوا يرفعون الأعلام ويهتفون...

"يسقط يسقط حكم العسكر... إحنا الشعب الخط الأحمر

يسقط يسقط حكم العسكر... إحنا في دولة مش معسكر"

الكل يهتف بقوة وحماس... شعرت نور بذهول شديد ولم تصدق أنها في غمضة عين صارت في قلب إحدى المظاهرات التي كان كل علاقتها بهم لا يتعدى القراءة عنهم أو سماع أخبارهم...!

نظرت إلى سيدة متحمسة بجوارها... سيدة في منتصف الثلاثينات ذات قوام ممتلئ إلى حد ما وشعر قصير به بقايا صبغة ذهبية، فرأتها المرأة وكفت عن الهتاف قائلة وهي ترفع صوتها ليطغى على صوت الهتافات: - يا اختي وربنا المجلس العسكري ده طلع كداب بشكل... آه... ما كلهم من رجالة اللي مايتسماش المخلوع اللي نهبوا البلد.. وقال إيه... قالوا لنا هيا فترة انتقالية 6 شهور بسسس... وأهم دلوقتي طالقين علينا البلطجية في كل حتة ربنا ينتقم منهم... وكل يوم إضرابات والحالة ضنك... مش بس كدة... دول رجعوا قانون الطوارئ والمحاكم العسكرية... فرقوا إيه عن سيدهم المخلووع..؟ وبعد ما نزلت أصوت على التعديلات الدستورية ووقفت في الحر سااعتيين لحد ما راسي اتقورت جايين دلوقتي يقولونا بخ... كل ده ولا كأنه حصل... وعاملين لك إعلان دستوري وقانون إنتخابات.. لكن على ميييين... ده أحنا هانطلع لهم في كل مكان، ولا هايخوفونا بماسبيرو ولا يرعبونا بمحمد محمود... اهتفي معانا ياختي اهتفي... يسقط يسقط حكم العسكر...

ضحكت نور دون تعليق... لقد كان بداخلها موجة كبيرة من الغضب العارم الذي تريد تفجيره بشدة... كانت تود أن تصرخ وتصرخ ولم تجد فرصة أفضل من تلك...!

حملت صغيرها الذي أعجبته اللعبة وأخذت تهتف بأعلى صوتها... تهتف بسقوط كل طاغية... حتى الطغاة الذين أضطروها للفرار من بيت عائلتها لمجرد رغبتهم في قيادة حياتها كيفما شائوا...

وكأن ذلك الشعب الثائر بداخلها من أحاسيس ومشاعر قد هب بدوره للتعبير عن رأيه.

لم تشعر كيف وصلت إلى محطة المترو وانسلت من بين المظاهرة ودخلت إلى عربة المترو وقد استنفدت قواها في الصياح والهتاف بينما غفى عيسى على كتفها وبعد قليل نزلت بمحطة جامعة القاهرة... خافت من أن تستقل سيارة أجرة أو تكتك وفضلت السير حتى حيها.

مرت على الشوارع التي ربما قد رأت أفضل منها ألف مرة إلا أن تلك الشوارع البسيطة تحمل في كل ركن ذكرى... وفي كل زاوية حُلمًا... حتى شارع الجمهورية المسدود بمدرسة أحمد عبد العزيز ذات الفترتين الصباحية والمسائية والمسدود من الناحية الأخرى بمحطة المجاري، رغم القمامة التي تضاعف تكدسها به لعدم تكرم السادة جامعي القمامة بالدخول إلى الشارع... إلا أنه أيضًا يحمل ذكرى في زاوية قلبها... هذا هو الشارع الذي كانت تمر عليه يوميًا في طريقها إلى المدرسة ثم الجامعة.

أكملت سيرها مع عيسى الذي استبد به النوم وكان يسير بالكاد حتى وصلت إلى حيها البسيط ثم دلفت إلى حارتها الأبسط... لازالت الحارة كما عهدتها... المقهى.. محل البن... عربة الفول والطعمية... اللهم إلا تحول بقالة الأمانة إلى محل سايبر وبلاي ستيشن وبناء عمارة شاهقة الارتفاع على مساحة قليلة من الأرض بناصية الحارة مكان الخرابة وأسفل تلك البناية الصغيرة الشاهقة يلألأ محل كوافير حريمي صغير.

سارت نحو منزلها في هدوء ظاهري مشحون من داخلها بمشاعر مختلطة من الحنين والرهبة والحزن الذي تجدد على أمها منذ أن وطأت قدماها حارتهم الصغيرة، وفي غمرة مشاعرها وشجنها... لم تلحظ ذلك التكتك الصاخب الذي دخل الحارة بسرعة وكأنه يسير بطريق رئيسي وكاد يصدمها رغم أنه أسقط حقيبتها التي تجرها خلفها بالفعل، ثم توقف فجأة أمام منزلها بينما انحنت هي تلتقط حقيبتها مرة أخرى في ضيق.

- "فيه حاجة يا أبلة...؟ جرالك حاجة...؟"

قالها قائد التكتك الذي هبط منه مترنحًا وبين إصبعيه تتدلى سيجارة تطلق دخانًا ذو رائحة كريهة، اعتدلت نور قائلة بحزم: - لأ ماحصلش حاجة بس لو سمحت أبقى خلي بالك أنت داخل حارة مش...

لكنها قطعت عبارتها عندما وجدت ذلك السائق الشاب يتفرس في وجهها بعينيه الحمراوين ليستدعي وجهه إلى ذهنها وجه كانت تراه منذ أمدٍ بعيد... نعم... إنه هو... ذلك المدعو وليد الذي كان جارها يومًا.

لم تطل الوقوف ولم تنبس بكلمة أخرى وانطلقت إلى باب البناية مسرعة بينما أنهى وليد سيجارته ودهسها مبتسمًا في جذل وهرع بدوره إلى نافذة بالدور الأرضي طرقها قائلاً:

- ست إحسااااان... شوفتي مين اللي شرفت بعد غياب...

أما نور فقد دلفت إلى مدخل بنايتها الضيق الرطب وبدأت تصعد درجات السلم إلى حيث بيت أمها.

- "قلت لك أتعدلي وإلا قسمًا بالله..."

- "قسمًا بالله إيه يا حبيبي...؟ باقولك إيييه أنا تعبت... وربنا تعبت من تحكمات أمك اللي ما بيعجبها العجب واختك السوسة اللي مالهاش شغلانة غير تقويمك عليا... "

- "ماتحترمي نفسك يا هانم وماتجيبيش سيرة أمي واختي على لسانك... أنت فاكرة نفسك ست واللا أصلاً حاجة...؟ أنت ولا حاجة... أنت اللي مالكيش شغلانة غير إنك تعكنني عليا..."

- "من حقي يا أخي يكون لي بيت باقول لك تعبت... "

- "منين يا ماما مانتِ صارفة الفلوس أول بأول..."

- "يااا راااجل يا مفتري... بقى أنا اللي صارفة الفلوس...؟ واللا أمك واختك اللي طلباتهم مابتنتهيش.."

- "اللهم طولك يا روح.... باقول لك إييييه ماتجننيش يا مجنونة أنت عشان ماتهورش وأعمل اللي يزعلك والله أنا باقي عليكي عشان العيال دول بس..."

- "لا يا دكتور يا محترم... ماتعمل ووريني شطارتك كدة... وري الناس أصلك واظهر على حقيقتك... تربية حواري صحيح... مش بكفاية مستحملة الست أمك المشلولة واختك العانس...!!"

كان إلى الآن حوارًا زوجيًا عاديًا يجري على السلم أمامها، لكن نور ارتعدت عندما رفع الزوج يده ولطم زوجته بقوة ثم جذبها من شعرها من على حجابها هامسًا بطريقة مرعبة:

- قلت لك ما تجيبيش سيرة أمي واختي على لسانك وإذا كنت أنا تربية حواري... تحبي أقول لك أنت تربية مين... يا... بنت نواال...

لم تحتمل نور أكثر من ذلك رغم أنهم كانوا يولونها ظهريهما وثمة طفلتان مذعورتان تبكيان في صمت بجوارهما، فتنحنحت نور كي يفسحا لها الطريق، ليتوقف كل ما كان يحدث بين الزوجين وينظرا في حرج للقادمة من خلفهما التي لم يشعرا بها، ولم يلبثا أن يريا نور حتى اتسعت عيناهما دهشة ولم يكن ذهول نور بأقل منهما عندما عرفت هوية الزوجين... الدكتور محمود حمدي خطيبها السابق ونهى إسماعيل صديقة عمرها...!!!

*******

لازال كل شيء على حاله منذ ما يزيد على الست أعوام... رغم توغل الرطوبة في أغلب جدران البيت وتساقط المزيد من طلائها ورغم أكوام الأتربة التي علت كل شيء... لكن ذلك العبق الخاص بمنزل طفولتها وشيء من صباها لازال هنالك... مصحف أمها والكتب التي كانت تقرأ بها... كتب دراستها هي وشقيقتها... ذكريات حية متعلقة بأرجاء ذلك المنزل العزيز.

سارعت بأداء صلاة المغرب قبيل أذان العشاء ثم قامت بتنظيف غرفة أمها لتضع بها عيسى الذي سقط نائمًا على أول مقعد عند دخولهما ثم أدت صلاة العشاء وسقطت بدورها من شدة تعبها لتتمدد على فراش أمها الذي كان يحمل عبقها، فلم تتمكن من كتم أدمعها أكثر من ذلك وأخذت تبكي وتبكي مفتقدة أمها وصديقتها ومعلمتها حتى غفت دون أن تدري.

وهاهي تعود... إنها... تشعر بها حقًا... تشعر بيدها النورانية الحانية تمسح أدمعها المنسابة على وجنتيها... تشعر بها تأخذها بين ذراعيها... "آاااهٍ يا أمي.." تشعر بها تهمس لها كعادتها "كل قدر الله خير... كل قدر الله خير... لا تنسي الاستخارة والتوكل على الله".

هنا إرتفع أذان الفجر من المسجد القريب لتستيقظ نور وقلبها يخفق بعنف إلا أنها شعرت بسلام نفسي إلى حدٍ ما وكأنها كانت بالفعل بين ذراعي أمها تربت على رأسها وتمسح أدمعها ولم يكن الأمر مجرد حلم. نهضت نور لتؤدي صلاة الفجر ثم تعاود النوم مرة أخرى من فرط تعبها وإرهاقها.

في صباح اليوم التالي استيقظت نور وقد امتلأت نشاطًا وحماسًا لترتيب وتنظيف المنزل وإعادته سيرته الأولى، فارتدت منامة خريفية بسيطة ورفعت شعرها الطويل كيفما اتفق وشرعت في تنظيف المنزل بعد أن أخرجت لعيسى بعض الألعاب وكتب الرسم والتلوين والأحاجي ليلهو بهم بجوارها ريثما تنتهي من التنظيف. لكنها لم تلبث أن تبدأ في التنظيف حتى سمعت طرقًا على الباب، ارتدت عبائة الصلاة ثم فتحت الباب في حذر لـ...

- "نهى...؟؟؟!!!!"

قالتها بدهشة وهي تطالع نهى تقف على بابها ببطن منتفخ حيث تبدو حاملاً بشهورها الأخيرة..! كانت نهى مطرقة ثم رفعت رأسها تقول بتردد: - حـ.. حمدًا لله على سلامتك يا نور... مـ.. ممكن أدخل...؟

قالت نور باسمة وهي تفسح لها الطريق: - الله يسلمك ... أتفضلي طبعًا يا نهى...

دخلت نهى ثم جلست بعد عناق طويل مع نور التي قالت لها: - وحشتيني جدًا...

تأملت نهى عيسى ثم قالت: - ابنك زي القمر يا نور شبه طنط الله يرحمها...

ابتسمت نور قائلة: - أنا اتجوزت ابن عمي و...

قاطعتها نهى قائلة: - آااه... آه... تقى قالت لي في المرة اللي جاتها هنا بعد ما مشيتوا مع عمكوا... قالت لي إنك اتجوزتي ابن عمك وسافرتوا أمريكا وهيا اتجوزت ابن عمتها...

ابتسمت نور ثم نهضت قائلة في محاولة لإشاعة جو من المرح:

- معلش بقى البيت معفر أنا كنت لسة هابدأ في التنضيف، بس أنا اشتريت إمبارح شوية عصاير وكيك هاروح أحضر الفطار و....

إلا أن نهى أمسكت ذراعها لتستوقفها قائلة: - إستني يا نور... أنا مش جاية أتضايف... أنا جاية أوضح لك موضوع بس...

قالت نور باسمة: - موضوع إيه وبتاع إيه خلينا نشرب عصير الأول شكلك حامل على آخرك والسلم...

قاطعتها نهى: - نور... أنا مانمتش من إمبارح... أرجوكي اسمعيني...

خلعت نور عبائة الصلاة ثم جلست ثانية قائلة: - سامعاكي يا نهى... اتفضلي...

أخذت نهى نفس عميق ثم قالت: - مانكرش يا نور إني من زمان كنت معجبة بمحمود... بس أما اختارك... شيلته من دماغي تمامًا وصدقيني زعلت جدًا أما سابك بل واحتقرته كمان... وبعد ما سافرتوا مع عمكوا... لاقيت أمه بتكلم أمي أنها عايزة تخطبني ليه.... طبعًا كنت هارفض بس أما عرفت انك اتجوزتي وسافرتي أمريكا بدأت أتردد... خاصة أن العلاقة بين أمي وأبويا كانت وقتها على شعرة... يعني كانوا خلاص هايتطلقوا، وأخويا بدأ يغيب عن البيت مانعرفش هوا فين... ففكرت أن دي فرصتي الأخيرة إني أهرب من بيت أبويا اللي بيتخرب زيادة يوم عن يوم وبيتحول لجحيم لا يطاق... وفعلاً... أقنعت ماما وبابا أنهم يلبسوا أقنعة ويمثلوا إنهم أسرة مترابطة لحد بس ما اتجوز... طبعًا مافكروش في تفاصيل ولا اتشددوا مع محمود في حاجة لأنهم كانوا عايزين يخلصوا مني عشان كل واحد فيهم يشوف نفسه وأهو ماجد تقريبًا مش موجود ومش هايفضلهم إلا اختي الصغيرة... وجوزوني بسرعة... خلال شهرين أو أقل كنت متجوزة محمود وفرحانة فرحة عمري... لحد ما أبوه مات في حادثة وأمه اتشلت وأخته بعد ما كان بيتقدم لها عرسان قد كدة وبتتأمر مبقاش يبص لها إلا المتجوز أو المطلق أو الأرمل وهيا رافضة كل اللي بيجيلها.. وبقيت بين نارين... أمه اللي مزاجها بقى صعب من ساعة ما بقت حبيسة الكرسي المتحرك وأخته اللي بتطلع عقدها عليا والدوامة اللي عايشة فيها ما بين حمل وخلفة... قال عايزين ولد... والمفروض عشان مايتجوزش عليا إني اسمع كلامهم واقعد أخلف لحد ما يجي ولي العهد... أرجوكي يا نور ما تزعليش مني ولا تشيلي في قلبك... أ.. أنا ماكانش قدامي غير محمود وقتها.... آاااه ... كنت فاكراه جنة... أتاريني كنت باستغيث من الرمضاء بالنار زي ما بيقولوا... أهو بيعاملني أوحش معاملة هوا وأهله وبيعايرني بأمي لأنها بعد ما أبويا طلقها اتجوزت شاب صغير من دور عيالها... في الوقت اللي أبويا جوز أختي راجل كبير في السن واتجوز هوا كمان ست أرملة كدة لا نعرفلها أصل ولا فصل وبيربي لها ابنها ولا سائل في أخويا اللي اختفى فجأة... أخويا اللي وقع في الإدمان وماشي مع شلة ربنا يستر عليه منهم...

زفرت نور وربتت على يد صديقتها، لم تصرح لها أنها فعلاً عندما رأت طريقة معاملة محمود لمن المفترض أن تكون زوجته قد شُفيت من ذِكراه تمامًا وكأنه لم يكن...! أيقنت حقًا أن قدر الله كله خير...

إنها إن كانت قد احتملت ببسالة أي معاملة سيئة من زكريا، فهذا لأنها لم تحمل له في قلبها ذرة من المشاعر..

إلا أنها لو كان قد تم زواجها بالفعل من محمود، كانت أقل إشارة بالإهانة منه كفيلة بكسرها وسلبها أي قوة.. فمحمود كان قد نجح في التسلل إلى قلبها حتى ظنت أنها أحبته وبنت له تمثالاً ذهبيًا بداخلها ومنحته لقب فارس...

لكن هاهو الفارس يتحول إلى رجل كمئات بل آلاف من الرجال بذيئي اللسان يقابل السيئة بأسوأ منها ويرفع يده على امرأة أمره ربه من فوق سبع سماوات أن يعاملها بالمعروف حتى وإن كرهها...!!!

- "عمري ما هازعل منك يا نوني... دي صداقتنا دي من الحاجات الحلوة في حياتي... وبالنسبة للدكتور محمود... خطوبته ليا كانت لعب عيال يا شيخة ولاااا فاكرة أي حاجة منها... كنت صغيرة وفرحانة بالعريس وخلاص لكن القدر كان ليه تخطيط تاني، وقدر ربنا كله حلو وراضية عنه..."

قالتها نور بابتسامة واسعة راضية، فدمعت عينا نهى وهي تقول:

- لسة زي ما انتي... طيبة ومتسامحة ومسلمة أمرك لربنا... نفسي أبقى زيك يا نور.... مش عارفة أنا ليه دايمًا مكتئبة وحزينة...

نهضت نور واحتضنت صديقتها قائلة:

- يا حبيبتي أنت زي القمر وزي الفل وأحسن مني مليون مرة... تلاقيها بس هرمونات الحمل... ياللا بقى قولي لي تشربي إيه مع الكيك... عصير واللا شاي؟

نهضت نهى قائلة وهي تمسح أدمعها: - لا يا حبيبتي... أنا اللي هاجيب فطار نفطر سوا وأساعدك في تنضيف الشقة... ثواني انزل أشقر عالعيال وأحضر الفطار وأطلع...

همت نور أن تعترض، إلا أن نهى كانت قد توجهت إلى الباب بالفعل في حماس.

لم تكد نهى تخرج حتى سمعت نور طرقًا على الباب مرة أخرى فقالت في نفسها إنها حتمًا نهى قد نسيت إخبارها بشيء ما، فضحكت قائلة وهي تفتح الباب:

- إيه...؟ لحقتي تشوفي العيال وتعملي الـ....

لكنها أكملت حديثها بشهقة عالية وهي تضع يدها على فمها وتحاول إغلاق الباب ثانية، لكنه كان قد اقتحمه بالفعل وأخذ يتأملها بوقاحة.

- "إيه يا مزة... مش عايزاني أدخل واللا إيه...؟ ده أنا حتى أولى من الغريب..."

*******

Just Faith 18-12-17 01:29 PM

-2-
"أجيبيه بنعم حتى لو كنتي تموتين فزعًا،
وحتى لو ندمتِ فيما بعد،
لأنك على أية حال ستندمين طوال حياتك إن أنت أجبتيه بلا"
جابرييل جارسيا ماركيز
***
لم تكد نهى تخرج حتى سمعت نور طرقًا على الباب مرة أخرى فقالت في نفسها إنها حتمًا نهى قد نسيت إخبارها بشيء ما، فضحكت قائلة وهي تفتح الباب:
- إيه...؟ لحقتي تشوفي العيال وتعملي الـ....
لكنها أكملت حديثها بشهقة عالية وهي تضع يدها على فمها وتحاول إغلاق الباب ثانية، لكنه كان قد اقتحمه بالفعل وأخذ يتأملها بوقاحة.
- "إيه يا مزة... مش عايزاني أدخل واللا إيه...؟ ده أنا حتى أولى من الغريب..."
أسرعت إلى عباءة الصلاة تحاول ارتدائها بيدين مرتعشتين وهي تتمتم:
- و... وليد ... أ..أستاذ وليد... لو سمحت تطلع برة أ... أنا لوحدي و....
لكنه تقدم أكثر قائلاً بلهجة غريبة:
- وأهو ده عز الطلب يا جميل... والنعمة ده أنتي زي القمر بس مستخبية تحت خيمة... إيه إيه... بتلبسي الخيمة تاني ليه...؟ ماحنا لوحدنا اهوه يا جمييييل...
قالها وهو يجذب عبائتها منها وكاد يلمس كتفها، إلا أنها انحنت على الأرض قائلة:
- أرجوك... أتوسل إليك سيبني في حالي...
كان جسدها يرتعد في عنف وقد تجمدت أطرافها من الصدمة، هنا سمعت عيسى ينادي عليها...
"ماماااا... مش لاقي هدومي في الشنطة أنت حاطاها فين...؟"
فازدردت لعابها وقررت أن تلعب على ذلك المعتدي عله يرحل عنها ولو مؤقتًا حيث إنه لم يستجب لاستجدائها إياه ولم يزيده رجائها إلا وقاحة وإقدامًا. نهضت نور وأجبرت عيناها على النظر إليه قائلة:
- أ... أستاذ وليد... شوف... ابني صاحي ومش هاعرف اتصرف وهوا هنا... استناني ربع ساعة كدة هانيمه وأنده لك...
حك وليد ذقنه وهو يتأملها، ثم قال: - وماله... نستنى الجو يخلالنا يا جميل...
فزفرت نور عندما توجه نحو الباب، إلا أنه استدار قائلاً وهو يرفع يده بشيء ما:
- بس هاخلي ده معايا يا قطة ...
كان ممسكًا بالمسبحة التي يتدلى منها مفتاح المنزل والذي كان مستقرًا بالباب منذ قليل، فسقط قلب نور بين قدميها عندما خرج من المنزل وأغلقه من الخارج عليها. كانت ترتعش كفرخ مبلل وتنهمر دموعها دون توقف، ثم أخذت تلهج بالدعاء علَّ الله يجعل لها مخرجًا.
توضأت وارتدت ملابسها كاملة وحجابها ثم أدت صلاة الظهر وأخذت تتوسل إلى الله أن ينقذها مما هي فيه، حيث إنها كانت تتطلع من شراعة باب المنزل كل حين وآخر لتجد وليد واقفًا أمام باب منزلها يقطع سطح البناية جيئة وذهابًا في عصبية، وأحيانًا كان يفتح الباب فجأة سائلاً إياها إن كانت قد انتهت أم لا، فتجيبه من غرفة النوم أن ليس بعد وهي في قمة حيرتها عما جرأ ذلك الجار عليها هكذا فجأة...!!
لم تعلم أن عدة عوامل قد اجتمعوا للعب برأس وليد... أولهم غياب وعيه من جراء تدخينه المستمر لبعض أنواع المخدرات التي لا تجعله بوعيه الكامل، بالإضافة إلى استماعه إلى جلسة النميمة والبهتان المبين الذي جلست جارتهم إحسان تتلوه على أذني أمه عندما عرفت بعودة نور ومعها طفلٌ صغير .
- "صحيح... إقلب القدرة على فومها تطلع البت لامها... أمها برضك اختفت شوية كدة ورجعت جارة عيل وقال إيه... اتجوزت... وبعدين... اختفت تاني ورجعت معاها البنتين... الله أعلم دول ولاد مين واللا بتعمل إيه في الدرا... تلاقي البت نور برضك غلطت غلطة كدة ورجعت بالعيل اللي معاها ده... استغفر الله العظيم... استغفر الله العظيم... ربنا يبعد عنا المشي البطال..."
لعب كلام إحسان برأس وليد... وشعر بأن في متناول يده امرأة سهلة ولن تكلفه كثيرًا... خاصة وأنها وحدها فلن تقاوم وإلا أثبت عليها التهمة.
أما نور فقد كان صوتها مبحوحًا من جراء هتافها بالمظاهرة أمس فلم يمكنها الصراخ والاستنجاد بأي شخص، فلم تستطع سوى مناجاة ربها حتى... حتى سمعت صوت باب البيت ينفتح وصوت خطوات أقدام متوجهة إلى غرفة أمها التي أغلقتها عليها بينما صوت وليد الممطوط ينادي بتسلية:
- نووووور ... نوووور أنت فييين...؟؟
*******
لم يدر كم من الوقت جلس خلف مقود سيارته أمام تلك المستشفى شاردًا... دائمًا ما يحيره أمرها... كيف أتت بتلك الجرأة وفرت من بلدة لا تعرف بها شيئًا...؟؟ ألهذه الدرجة ترفضه...؟ أم إنها ترفض مبدأ الزواج أصلاً...؟؟! أترفض من منطلق وفائها لذكرى زوجها أم..... أم أن هنالك شخص ما أو ربما أشخاص في حياتها لا تريد زوج يقيد علاقاتها بهم التي لا يدري أهي علاقات على غرف الدردشة الوقحة فقط أم إنها تمتد لما وراء ذلك إلى أرض الواقع...!!
طرق على مقود سيارته بقبضته وهو غاضب من منحى تفكيره الذي دائمًا ما يتجه إليها... هي التي لا تستحق ذرة من تفكيره وربما قد رحمه الله من الزواج بها كي لا يشرب من ذات الكأس مرتين.
هنا سمع رنة جوال غريبة... ثمة هاتف جوال يرن بسيارته لكنه ليس هاتفه...!!!!
تتبع الصوت حتى وجد أنه ينبعث من أسفل المقعد الذي بجواره فألتقط الهاتف وتردد قبل أن يرد عليه لكنه كان قد توقف عن الرنين ثم عاد يرن مرة أخرى، فرد عليه مضطرًا لكنه لم يتمكن حتى من أن ينبس ببنت شفة ...
- "ياسر... ياسر إلحقني الله يكرمك يا ياسر إلحق نور... روح لنور يا ياسر بأقصى سرعة... ياسر.. ياسر..."
تنحنح زين قائلاً: - أيوة يا أم حبيبة... ياسر شكله دخل المستشفى ونسي تليفونه في العربية...
فقالت تقى بصوتٍ باكٍ: - طيب ممكن توصل له التليفون يا باشمهندس...؟
قال زين بحسم: - لأ صعب... زمانه دخل العمليات ومش هايخرج قبل ساعتين... قولي لي يا أم حبيبة فيه إيه وأنا هاتصرف ماتقلقيش...
قالت تقى في تردد: - متـ.. متشكرة أوي يا باشمهندس... بس نور أختي كلمتني وبتعيط وبتقول لي إن فيه إنسان حقير بيتهجم عليها في بيت ماما وهيا مش عارفة تعمل له إيه...
قال زين بسرعة: - إديني العنوان... أيوة عارفه... تمام... الدور الأخير..؟ على السطح... طيب سلام
أغلق زين الهاتف ثم أنطلق بسيارته بسرعة فائقة حتى وصل إلى العنوان الذي وصفته له تقى... بالكاد عرف أن يدخل بسيارته الجيب إلى الحارة الضيقة... أوقفها أمام المنزل الذي أخبرته به تقى... ترجل بسرعة غير عابئ بإغلاقها أو أولئك الفضوليين الذين التفوا حولها. قطع درجات السلم قفزًا وكل من بالعمارة ينظرون في تعجب إلى ذلك القادم الهادر الذي وصل إلى سطح البناية ثم دفع باب منزل نور برجله لينفتح من فوره، و... يدخل ليرى أصعب مشهد قد يراه رجل ذو دين ونخوة ناهيك عن كونه بدوي الأصل حار الدماء... رأى نور قد سقط حجابها وتشعث شعرها الأسود الناعم حول وجهها وتمزقت عبائتها الفضفاضة من على كتفها كاشفة عن كتفها وشيء من صدرها بينما وجهها متورم وشفتها تنزف، أما وليد فقد كان ساقطًا على الأرض ينزف جرح من رأسه إلا أنه كان ينهض مرة أخرى لمعاودة الإنقضاض على نور صارخًا:
- يا بنت المجنونة... كنت هاتموتيني لكن وربنا لانا موريكي وهاعمل اللي بالي فيه غصبن عنك...
لكنه وجد من يجذبه من ياقة قميصه هاتفًا بقوة: - وريني ياض أنت هاتعمل إيه...
رغم كل شيء، إلا أن الأمل ارتسم في عيني نور عند رؤيتها زين مع الخجل التام منه ومن كل الجيران الملتفين حوله يتأملون الموقف في فضول. خلع زين معطفه الجلدي وقذف به إلى نور قائلاً بصرامة:
- خشي جوة ....
تدثرت نور بمعطفه وذهبت إلى الغرفة التي حبس بها ذلك الوغد ابنها الذي أخذ يطرق الباب ويبكي بحرقة، ففتحت الباب ودلفت إليه في وهن. أما زين... فقد جذب وليد إلى الخارج هاتفًا:
- قلت لي كنت بتقول إيه يا بابا...؟
كان زين يفوق وليد طولاً إلا أنه أنحف منه، فدفعه وليد هاتفًا:
- أنت مين أنت يا تييييت ومالك بيا...؟
كال له زين لكمة أسقطته أرضًا وهو يقول: - أنا أبقى ابن عم الست اللي جوه دي وأبقى جوزها كمان... أنت اللي تبقى مين...
جذبه زين من ياقته ليجبره على النهوض ثم كال له لكمة أخرى هاتفًا:
- ماتقولش... أكيد إنسان حقير لا عنده دين ولا أخلاق ولا حتى رجولة.... لأن اللي يتهجم بالطريقة دي على ست لوحدها يبقى....
هنا أخذت أم وليد تصرخ وتولول وهي ترى ابنها تُكال له اللكمات والركلات ويتلقاها جامدًا دون حتى محاولة للدفاع عن النفس، نظر زين إلى أم وليد التي أخذت تهتف بالجيران الذين اتخذوا موقف الجمهور المشاهد: - يا جدعان مش كدة... حوشوا الراجل ده ابني هايروح فيها...
لكن وليد كان قد نهض مستغلاً فرصة التفاتة زين وهجم عليه بمطواة أخرجها من طيات ملابسه، لكن زين شعر بهجومه وصده بذراعة الذي مرت عليه المطواة ممزقة قميصه ومحدثة جرحٍ قطعي بذراعه فانسابت منه الدماء بغزارة، إلا أن زين لم يوقفه ذلك وأمسك بيد وليد الممسكة بالمطواة ليسقطها منه ثم يلكمه مرة أخرى لكمة جعلته يسقط وسط جموع الجيران المتفرجين، هنا تدخل بعض الرجال وقد نالوا كفايتهم من المشاهدة وأمسكوا بوليد وأبعدوه عن زين مرددين بعض كلمات التهدئة.
عاد زين إلى بيت نور ليجدها قد ابدلت ملابسها وتجلس في الردهة بعينٍ متورمة من البكاء وقد توقف نزيف شفتها، لكنها ما إن رأته بذراعه المضرجة في الدماء حتى شعرت بالفزع هاتفة:
- إيـ... إيدك مالها...؟
قال بحزم: - لميتوا حاجتكوا...؟
قالت: - طيب اربط لك إيدك...؟
أجابها بحزم وهو يمسك بذراعه ليقلل من النزيف:
- لأ شكرًا هانزل الصيدلية اللي تحت أربطها... هاتي شنطك..
قالت بعند: - ليه..؟
أجابها بعصبية مخيفة: - مش عايز اسمع حرف... إديني شنطك لازم أرجعك البلد حالاً...
همت أن تقول شيء ما، إلا أن عيسى خرج من الغرفة التي كان بها هاتفًا وهو يبكي:
- عـ... عمو زين...
ثم احتضن رجلي زين وهو يرتجف في خوف، فربت زين على رأسه ونظر إلى نور نظرة نارية جعلتها تلوذ بالصمت وتذهب لتحضر حقيبتها بإذعان، فحملها زين بيده السليمة ثم خرج وتبعه عيسى. أما نور فقد أخذت تتمم على المنزل وتعيده كما كان عندما وصلته وفي حلقها غصة من كل تلك الأحداث المتلاحقة التي تتعرض لها. هبطت إلى حيث سيارة زين الذي كان قد خرج هو وعيسى من الصيدلية بدورهما فأمسكت بابنها وهمت أن تفتح الباب الخلفي إلا أن زين همس لها بحنق من خلف اسنانه:
- أنا قولت للناس إنك مراتي فياريت تتكرمي وتقعدي قدام...
أكملت نور فتح الباب الخلفي ووضعت عيسى ثم أغلقت الباب مرة أخرى وجلست بالمقعد الأمامي بينما اتخذ زين موضعه خلف عجلة القيادة وأنطلق بالسيارة مسرعًا.
كان الحنق يملأه من ابنة عمه الجريئة تلك التي غامرت بالهرب وحدها بل والمكوث بمفردها في حيٍ شعبي كذاك.
- "ممكن أعرف بقى حضرتك قلت أنك جوزي ليه...؟؟"
كان زين يضع منظاره الشمسي على عينيه فلم تلحظ نور نظراته النارية، إنما شعرت بنبرة صوته الحانقة إلى أقصى حد وهو يهتف: - لأن سيادتك جاية بكل جرأة تعيشي في حي شعبي لوحدك تمامًا... واللي حصل لك ده نتيجة حتمية للي عملتيه...
قالت بغضب: - الحي الشعبي ده أنا اتربيت فيه على فكرة...
أجابها: - ماقولتش حاجة على الحي، بس الناس اللي في الأحياء الشعبية معروف عنهم إنهم بيعرفوا بعض وكلامهم مابينتهيش ووجود واحدة بطولها كدة في وسطهم ممكن يعمل علامات إستفهام كتير إن لم يكن مصدر ثري للإشاعات، فكان لازم أعرفهم أن ليكي راجل مش مجرد ابن عمك عشان سمعة العيلة اللي انت شايلة اسمها ما تتبهدلش أكتر من كدة...
صاحت نور بحدة: - أنا واحدة باعرف ربنا كويس وعمري ما عملت حاجة تمس سمعتي أو سمعة عيلتي..
ابتسم ساخرًا وهو يقول: - والله...؟ عامة فلنفرض الكلام اللي بتقوليه ده صحيح إلا أن وجودك لوحدك في حد ذاته شبهة ومطمع واديكي شوفتي النتيجة ...
عضت نور على شفتها قائلة: - والله أنا كنت اقدر اتصدى لأي حد واللي اسمه وليد ده كنت هاموته أو أموت نفسي قبل ما يعرف يعمل اللي كان عايزه... وأنا مش مقتنعة بأنك تشيع إني مراتك بين جيراني لأني مش مراتك أصلاً..
قال زين بصرامة: - ده باعتبار ما سيكون.... بكرة إن شاء الله...
صرخت نور: - إزاي...؟ برضه عايزين تجبروني على الجواز....؟ آااه أنت بقى جاي وما صدقت تعمل عم الشهم عشان تنفذوا اللي انتوا عايزينه...
كان زين منطلقًا بسرعة والطريق شبه فارغ، فأوقف السيارة فجأة مما جعل عيسى يشهق، ثم استدار نحو نور وخلع منظاره الشمسي ناظرًا إليها نظرة قاتلة مليئة بالحنق والغضب وهو يقول:
- أولاً أنا مش هاموت على سيادتك للدرجة اللي انت متخيلاها دي يا هانم... أنا أصلاً مش عايز اتجوز خااالص خاصة منك... بس أما يتعلق الموضوع بشرف العيلة والحفاظ على ابن اخويا بالإضافة لضمان استمرار شغلي في مزرعتي ودخول أبويا الانتخابات... أنا مستعد أعمل أي حاجة وأنا قادر بعون الله أعدل المايل...
قالت نور وقد بدأت تشعر أنها سقطت في شركٍ عظيم: - يعني من الآخر كلها مصالح..!
أجابها وهو يعيد إرتداء منظاره الشمسي: - أيوووة ... مصااالح ... عليكي نور...
زفرت قائلة: - يعني تضحوا بيا عشان مصالحكم ....!!
هز رأسه في غضب قائلاً: - يعني أنت شايفة من الجواز أن إحنا بنضحي بيكي...؟ عامة إذا كنت مش عايزاني قيراط أنا مش عايزك عشرين... بس مضطر عشان مصلحة العيلة ومصلحة أبويا ومصلحتي برضه زي ما قولت لك... وعلى فكرة أنت كمان ليكي مصلحة كبيرة في الجوازة دي...
قالت بغضب: - مصلحة إيه بقى إن شاء الله...؟
أشار بإبهامه إلى عيسى قائلاً: ابنك...!!!
عقدت حاجبيها قائلة: - مش فاهمة...! إيه دخل ابني في الموضوع..؟؟
أجابها: - الجدة مصممة انها تخلي ابنك عندنا لو ماقبلتيش وممكن ماتعرفيش تشوفيه أبدًا...
سقط قلب نور بين قدميها وارتعدت أوصالها... ألهذه الدرجة بلغت القسوة بجدتها...! ألهذه الدرجة قد يحرمونها من أغلى إنسان في حياتها...؟؟؟!!!
- "عامة إطمني ... الجوازة دي مش هاتكون أكتر من حبر على ورق لحد ما كل حاجة تتم..."
قالها زين بهدوء، فقالت نور بأمل: - بجد...؟
لم يجبها زين وأخذ يقطع الطريق عائدًا إلى بلده شاعرًا بجبل ثقيل من المسئولية قد أُلقي على صدره... لم يدر لماذا عندما رآها بين يدي ذلك الشخص الذي تهجَّم عليها شعر أنه ينبغي عليه هو فقط الحفاظ عليها وانطلاقًا من هذا الإحساس قال أنها زوجته أمام جميع جيرانها واتخذ قراره الحاسم بأن يتزوجها رغم أنه لم يزل يشعر نحوها بالاشمئزاز مما يعرفه عنها..!!
********
وكأنه عُرسًا زائفًا... شيء من الأناشيد والمواويل والتهاني المتكلفة. حتى العروسان لم تبد عليهما السعادة. نور بعبائة ذات لون سكري وحجاب أبيض ووجه متورم وشفة مشقوقة بالكاد ترسم ابتسامة عليها كلما حاولت إحدى النساء تهنئتها. وعلى الناحية الأخرى زين... مرتديًا بنطالاً ذو لون كحلي وقميصًا سماويًا ومعطفًا، كان شاردًا طوال الوقت لا ينتبه إلى أناشيد أو مواويل أو أي شيء سوى أفكاره في كيفية السيطرة على تلك المرأة التي عقد عليها منذ قليل...!! لم يشعر بنفسه وهو يتوعَّد لها وكأنه يريد أن يصب عليها جام غيظه مما رآه قبلها ومما فعلته مع شقيقه.
أنتهى الحفل الصوري وهبطت نور لتركب بجوار زين بسيارته حيث قرر فجأة أن يذهبا إلى بيت المزرعة...! لم يرد أن يختلي بها في غرفة واحدة بالبيت الكبير؛ إنه لا يحب حتى أن يقترب منها وقد فاض قلبه بمقتها. أما نور فقد كان قلبها يتمزق عندما رحلت وتركت عيسى مع شقيقتها... لأول مرة تبتعد عنه وتتركه للبيات بمفرده.
توقف زين أمام بيت المزرعة ثم فتح الباب الرئيسي ودخل ليضع حقيبة نور الصغيرة على إحدى الأرائك قائلاً لنور التي تبعته في صمت: - اتفضلي...
قالها ثم خرج وأغلق الباب خلفه. تأملت نور البيت الصغير الجميل المؤثث على الطراز البدوي، فأمام باب البيت بالخارج وقعت عيناها على مقاعد مصنوعة من جريد النخيل يتوسطهم منضدة بسيطة من ألواح الخشب الطبيعي، أما بالداخل كانت تتناثر أرائك بسيطة عليها طنافس بدوية التصميم والألوان حيث كانت خلفيتها الحمراء وتكوين المثلثات البيضاء والسوداء والبرتقالية من صميم التراث البدوي، أما النوافذ الأرابيسك الكبيرة ذات اللون البني الغامق فقد أضافت دفئًا إلى المكان. كان البيت غاية في البساطة والهدوء خاصة بإضائاته الخافتة وعدم وجود أي جهاز تلفاز أو مذياع، إلا أن طبقة خفيفة من الأتربة كانت تغطيه مما يدل على أنه متروك دون تنظيف منذ فترة ليست بعيدة.
أرتعدت نور عندما سمعت صوت جلبة آخر الرواق المواجه لها، فسارت به في حذر حتى وصلت إلى باب صغير فتحت فرجة منه بهدوء لتقع عيناها على مكتب زين لتراه هنالك قد خلع معطفه وكانت أكمام قميصه السماوي مشمرة بينما تتساقط قطرات الماء من وجهه وذراعيه. أغلقت نور الباب بهدوء وعادت لتفقد المنزل، كان به غرفة نوم واحدة فقط ذات فراش خشبي منخفض ومنضدتين جانبيتين صغيرتين ودولابًا من الخشب الفاتح بالإضافة إلى مقعدين مريحين ومنضدة مستقرين خلف نافذة ضخمة تتدلى عليها ستائر بيضاء شفافة وأخرى ثقيلة. أخذت تتجول في المنزل لا يريد النعاس أن يقربها وعقلها مشغول على صغيرها، فقررت لتزجية الوقت أن تقوم بترتيب المنزل وتنظيفه فقد شغفتها بساطته المشيعة للراحة لولا تلك الأتربة.
وبالفعل... شمرت عن ساعديها وبدأت في تنظيف الأتربة ومسح الأسطح بما أوجدته من منظفات، كما قامت بترتيب طنافس الأرائك بصورة جمالية ورتبت المطبخ وغرفة النوم التي عندما فتحت دولابها للبحث عن شراشف نظيفة للسرير عثرت على بعض الملابس الأنثوية في ضلفة غير الضلفة التي كانت فيما يبدو تحتوي على بعض أشياء زين..!!!!
عضت نور شفتيها في غيظ... ودلتها حاستها الأنثوية أنها ملابس زوجته الأولى فتلكم الماركات لا ترتديها أي امرأة... وهي تعرف ذوق كارمن جيدًا...!!!!
أعادت الملابس مكانها وهي تقول لنفسها أنها لا حق لها فيما شعرت به من الغيظ...! لا هي كانت تريد تلك الزيجة ولا هو أيضًا... فمن حقه الاحتفاظ باشياء زوجته الأولى كيفما شاء أو حتى الرجوع إليها... هذا لا يعنيها إطلاقًا؛ كل ما يهمها هو الوجود قرب ابنها وألا يأخذه أحد منها.
مر الوقت بطيئًا حتى أذن الفجر فقامت بالصلاة ثم جلست على أحد مقاعد غرفة النوم تتلو أذكارها ثم شيء من القرآن بعدها فتحت إحدى الروايات التي لا تفارق حقيبتها لتتسلى بها.
بعد أذان الظهر... طرق زين الباب المؤدي إلى بيت المزرعة بمكتبه عدة مرات ثم فتحه ودخل متنحنحًا، سار في الرواق المؤدي إلى صالة البيت مبهورًا بنظافته ورائحته العطرة ووقعت عيناه على باب غرفة النوم الموارب، فطرقه عدة مرات ثم دلف إلى الداخل ليجد نور لازالت بملابس الأمس كاملة تجلس على أحد المقعدين أمام النافذة تستند بقدميها العاريتين من أي حذاء أو خف على المسند السفلي للمنضدة التي أمامها والتي يعلوها كتابًا مفتوحًا مقلوبًا على وجهه بينما نور تعقد ذراعيها على صدرها وتميل برأسها على كتفها الأيسر وقد راحت في سبات عميق. تنحنح زين مناديًا إياها لتنتفض نور مستيقظة من النوم، فقال زين وهو ينظر إلى الأرض: - أنا خبطت قبل ما أدخل على فكرة ولما مالقتش رد...
كانت نور قد استفاقت بسرعة وأنزلت قدميها واضعة إياهما بخفها المنزلي وهي تقول ساخرة:
- إيه افتكرتني هربت..؟ لا ماتقلقش... زي ما أنت هاتوفي بوعدك ليا أنا كمان هاوفي بوعدي...
غير زين الموضوع وهو يتأمل الغرفة قائلاً بدهشة:
- هيا أمي برضه بعتت زينب إمبارح عشان تنضف...؟
قالت نور وهي تنهض: - لا... ما حدش جه... أنا اللي نضفت البيت...
قال زين وهو يهم بالرحيل: - ماكنش ليه لازمة... زينب جاية النهاردة تنضف... هيا كان المفروض تيجي امبارح بس أنا قررت بسرعة موضوع مجينا ده...
عقدت نور يديها على ذراعيها قائلة ببرود أكثر منه: - أنا كنت باتسلى مش أكتر...
كان زين قد أولاها ظهره راحلاً بالفعل، إلا أنه تذكر سبب مجيئه فدار على عقبيه ثانية قائلاً وهو يتأمل ملابسها التي تحولت إلى اللون الرمادي من تراكم الغبار عليها:
- على فكرة... ياسر اتصل وقال أنه هوا والجماعة في الطريق...
هزت نور رأسها في تفهم بينما رحل زين عائدًا إلى مكتبه، أما نور فقد ذهبت إلى دورة المياه لتغتسل وتتوضأ لصلاة الظهر، وعندما انتهت ارتدت عبائة استقبال من اللونين الوردي والسماوي ثم أرتدت حجابها الطويل وخرجت فأدت صلاة الظهر ثم أخرجت شيء من البخور العربي الذي كان في حقيبتها وأشعلته بأحد أركان الصالة فامتزجت رائحته الرائعة مع الرائحة العطرة المنتشرة بالمنزل مما أضفى جوًا من السلام والجمال على المنزل، وما هي إلا دقائق حتى وجدت زين يدخل من الباب الواصل بين المنزل والمكتب متوجهًا إلى باب بيت المزرعة قائلاً بسرعة: - وصلوا...
قالها ثم فتح الباب مرحبًا بأمه وأبيه واخته وياسر الذي كان يقود سيارة خاله الشيخ سليم، ودلفت بعدهم زينب وهي لا تكف عن إطلاق الزغاريد بينما كانت تحمل على رأسها صفحة كبيرة مغطاة يبدو أن بها ما لذ وطاب من الطعام للعروسين المفترضين.
أمر زين زينب بحدة أن تكف عما تفعله وتذهب إلى المطبخ، فدخلت وكان حالها لا يختلف عن حال كل من دلف إلى المنزل... حيث اتسعت أعينهم عن آخرها وكأنهم يرون ذلك المنزل لأول مرة من الرائحة العطرة واللمسات الجمالية التي أضافتها نور على أرجاء المنزل. وجلسوا جميعهم يتبادلون المرح والتهاني والدعوات للعروسين الذين كان كلاً منهما يجلس في جهة لا يحادث الآخر ولا ينظر إليه..! حتى قال الشيخ سليم:
- أبقي اعطيني شهادة ميلاد ولدك يا نور لانقدم له في مدرسة يلحق له الكام شهر الباقيين قبل الامتحانات...
قالت نور بدهشة: - حضرتك هاتقدم له في مدرسة هنا...؟
قال الشيخ سليم وهو ينظر إلى زين:
- لا مش اهنه يا بتي... راح أنقدم له في أحسن مدرسة في 6 أكتوبر قريب من بيتكم...
عقد زين حاجبيه وأشاح بوجهه، فتسائلت نور وقد ازدادت دهشتها:
- بيتنا...؟ بيت مين اللي في 6 أكتوبر؟
أجابها عمها ضاحكًا بتوتر: - إيه نسيتي واللا إيه يا أم عيسى...؟ بيت زين اللي هايبقى بيتك إن شاء الله أنت كمان..
قالت نور متصنعة التذكر: - آاااااه... أفتكرت...
هنا قالت نجاة أم زين بود وسعادة وهي تشير إلى بيت المزرعة:
- وإنشالله راح اتعمريه يا بتي... راح اتعمريه على أحسن ما يكون... ربنا يملاه عليكو سعادة وعيال...
رسمت نور ابتسامة مغتصبة على شفتيها وهي تتمتم: - شكرًا لحضرتك يا طنط...
أما الشيخ سليم فقد عاد يقول: - شوفوا وين بدكوا تسافروا وأحنا راح انخلص موضوع المدرسة وعيسى هايبقى مع ياسر وأم حبيبة لأنهم نازلين مصر وراح يقعدوا هناك شوي...
هتف زين وقد بلغ غيظه منتهاه:
- ماينفعش نسافر دلوقتي يا شيخ سليم... مش هاينفع أسيبك في الانتخابات لوحدك...
فقال الشيخ سليم: - لو على كذا ما تشيل هم.. أنا معاي رجال يشيلوا الزلط...
هنا قالت نور بحياء: - معلش يا عمي... أنا كمان ماقدرش أسيب ابني أكتر من كدة...
نهض الشيخ سليم قائلاً: - على كيفكوا... نقوم احنا بقى...
ودعهم زين على باب البيت بينما همس له ياسر ضاحكًا:
- مش قولت لك يا برنس ... نبوءاتي ماتقعش الأرض أبدًا ....
دفعه زين قائلاً: - مع السلامة يا أبو العريف... مش عايز نبوءات تاني شكرًا ...
و... رحلوا جميعًا ... وفي صباح اليوم التالي كانت السيارة الجيب السوداء تقل زين ونور وعيسى تقطع الطريق إلى منزل زين بمدينة السادس من أكتوبر.
******
ست وعشرون عامًا... ست وعشرون عامًا كاملين بكل أفراحهم وأحزانهم وآلامهم... ست وعشرون عامًا منهم سبعة أعوام زادوا على عمرها عمرًا آخر... عمرًا من القهر والألم والمعاناة والخوف والإهانة، جنبًا إلى جنب مع بعض النجاح والتوفيق من الله، وكانت تلك هي المنحة التي خرجت من رحم المحنة.
ست وعشرون عامًا مررن أمام عينيها بسرعة وهي تقف هنالك... في ردهة منزله الذي شعرت أنه يطبق على أنفاسها بكل التحف والصالونات والمرايا المذهبة بعكس بيت المزرعة الذي شعرت بالسكينة به. وقفت تحوطها حقائبها ويتعلق ابنها بيدها كمن تاها بعد زحام... كمن ضلا دربهما ووقفا وسط الطريق لا يدريان إلى أين هما ذاهبان..!!
لقد قال كلمته الأثيرة "اتفضلوا" باقتضاب ثم دلف إلى إحدى الغرف المغلقة، لكنها لم تتمكن من الدخول أو التجول وقد صدها المنزل بحاجز نفسي مقيت. بعد دقائق خرج زين ليجدها حيث تركها أمام باب المنزل، فقال وكأنما قد تذكر وجودها: - ليه ما دخلتوش...؟
قالت بنبرة تائهة: - نروح فين...؟
لفت انتباهه عينيها اللامعتان اللتان تشعان حزنًا وتيهًا، وألجمته لدقائق تفاصيل وجهها، إلا أنه قال:
- عندك 4 أوض اتفضلي اختاري اللي تعجبك فيهم...
همت بجذب حقائبها إلا أنه قال آمرًا:
- سيبي الشنط دلوقتي وروحي شوفي أوضكوا عشان تستريحوا فيها..
انصاعت له وسارت نحو الممر الذي أشار إليه والذي تتواجد الغرف على ناحيتيه مفتحة الأبواب... رأت إحدى الغرف ذات فراش أبيض وثير مذهب الحواف مبطن الظهر ودولاب خشبي أبيض مذهبًا أيضًا كالفراش.. غرفة تبدو وكأنها سقطت سهوًا من قصور آل بربون...! لمحت حقيبة زين ومعطفه على الفراش فتركتها لتتفقد غرفة أخرى بعينيها... الغرفة التي تقابلها كانت غرفة أطفال من الدرجة الأولى وهي أول غرفة تشع بهجة في هذا المنزل الكئيب... بجدرانها ذات اللون الكناري المزخرف برسوم كرتونية مبهجة وسقفها الذي تم تلوينه ليبدو كسماء زرقاء تتوسطها سحب بيضاء وفراش أطفال ولعب متناثرة هنا وهناك...! عقدت نور حاجبيها وهي تتخيلها هنا، بينما قاطع عيسى أفكارها هاتفًا: - أنا هاخد الأوضة دي...
قالها وهو يقفز على أحد الفراشين والذي كان مصممًا على شكل سيارة بينما كان الفراش الآخر ورديًا وكأنه زهرة كبيرة. أخذ عيسى يقفز في سعادة ويعبث بالألعاب المتناثرة والتي تبدو جديدة جدًا لم تُمَس..!
تركته وتوجهت إلى الغرفة الثالثة لتجدها غرفة بسيطة مكونة من فراشين من الخشب البني الغامق ودولابًا صغيرًا من نفس اللون ومقعدًا هزازًا جذبها كثيرًا وشرفة ليست كبيرة ولا صغيرة تطل على الحديقة المحيطة بالمنزل والتي تمتليء بأشجار الفاكهة والزهور وتبعث على الراحة بمنظر الخضرة والزهور الرائع والرائحة العطرة... جلست على المقعد الهزاز وأغمضت عينيها تحاول تصفية ذهنها وطرد الهواجس التي تجوب عقلها كأسدٍ حبيس... تلك الهواجس التي تسألها يوميًا أين سينتهي مطاف ترحالها...؟ لماذا كُتب عليها قدر الرحيل...؟ لماذا لا يعطيها العمر فرصة الاختيار...؟ لماذا كلما حاولت التحرر تنهار آمالها وتسقط في بئر الرحيل...؟ رحل أبيها ثم تركها محمود ورحلت أمها ثم رحلت هي إلى الصحراء ومنها إلى أقصى الغرب عائدة إلى الصحراء ثم إلى هاك المنزل المتكلف الذي يكاد يطبق على أنفاسها لولا تلك الحديقة الغناء الجميلة التي يصلها عبيرها مدغدغًا إحساسها و....
أيقظها من تأملاتها صوت طرقات على باب الغرفة الذي لم تغلقه من البداية، ففتحت عينيها لتجد زين يقف هنالك ممسكًا بحقائبها يستأذن في إدخالهم، فأذنت له ليدلف ثم يضع الحقائب على الفراش ويخرج في صمت مغلقًا الباب خلفه لتعود هواجسها تثور بداخلها متسائلة عن كنه ذلك الإنسان الذي تزوجها رغم الكراهية الشديدة البادية بعينيه لمجرد "الحفاظ على شرف واسم العيلة والحفاظ على مزرعته"..!
ابتسمت في ألم... هو لا يختلف كثيرًا عن أخيه... فكل منهما تزوجها لينال مصلحته من ورائها... شعرت بغصة في حلقها وكتمت أدمعها التي كادت تتهاوى من عليائها عندما بدت أمام نفسها وكأنها مجرد سلعة أو وسيلة ليبلغ كلٍ منهما مراده وليست امرأة لها مشاعر وكيان... رأت إنعكاس صورتها في المرآة متموجًا من خلف أدمعها المحبوسة، لكنها سرعان ما طعنت هواجسها في مقتل وأخبرتها أنها فقط... أم... تحيا من أجل صغيرها ولن تتوانى عن فعل أي شيء لتحافظ عليه قرب قلبها.
********

Just Faith 18-12-17 01:38 PM

- 3 -
"تتم آمالنا حين لا نؤمَّلُ"
- مصطفى صادق الرافعي
***
انهت صلاة الفجر ثم خرجت من غرفتها بملابس صلاتها لتعد قهوتها الصباحية التي أخذتها حيث شرفة غرفتها لترتشفها في هدوء لتشهد ولادة الصباح من رحم الظلام وما هي إلا بضع دقائق حتى نهضت ثانية متوجهة إلى غرفة ابنها لتعده للمدرسة، لكنها لمحته في طريقها عائدًا من الخارج متوجهًا إلى غرفته كعادته طوال الاسبوع المنصرم... يخرج عند أذان الفجر ويعود بعد الشروق. عضت على شفتيها في غيظ فهي تحاول – مثله تمامًا – أن تتحاشى لقياه بنظرات الازدراء التي يشملها بها والتي تشعل في قلبها بركانًا من الغضب والحنق وعدم الفهم.. لماذا يكرهها إلى هذا الحد..؟؟!! أما زين فلم يستطع أن يمنع عيناه من اغتراف بعض ما يعتمل في صدره من احتقار وتصويبها إليها مباشرة كلما وقعتا عليها. كانت لقائاتهما العابرة قليلة جدًا، فهو أغلب وقته خارج المنزل ونور أغلب وقتها حبيسة غرفتها، فقلما ما كانا يلتقيا خاصة وأن كلٍ منهما يتحاشى الآخر؛ إلا أن ذلك لا ينفي إلتماس زين تغيرًا في منزله الذي صار مرتبًا على الدوام ورغم أنه يتناول طعامه خارج المنزل أغلب الوقت إلا أنه أصبح دائمًا ما يجد وجبة شهية بانتظاره يوميًا.
لم يتبادلا كلمة، رفعت نور رأسها باعتداد وتوجهت حيث غرفة ابنها توقظه في مرح كعادتها بأحد ألعابه المفضلة ليستيقظ ويشيع في المنزل الصامت بهجة من نوعٍ خاص بصوته الطفولي المرح ولعبه ودندته وهو يتناول إفطاره حتى تصل حافلة المدرسة لتقله ليغرق المنزل ثانية في صمته حتى يخرج زين بعد قليل إلى عمله وتبدأ نور في ترتيب البيت وجمع الملابس المتسخة لغسلها ثم إعداد الغداء بما تجده في البراد من أطعمة يحضرها زين دوريًا.
-"أوباااا... انت بدأت تسرح وتشرد مننا يا عريس... إيه يا دكترة سرحت لحد فيييين..؟"
كذا صاح زميله عندما رأى زين متلبسًا بالشرود، فأشاح زين بيده قائلاً بحدة:
- عصام ... انت تسكت خالص الله يكرمك أنا مش ناقصك... هلاقيها منك واللا من ياسر..!! قال عريس قال..!!
- إيه يا زين... مش عايز تقول إن العروسة وحشتك..؟ خلاص يا سيدي... إسرح براحتك وأنا هاعمل نفسي من بنها...
ضرب زين المكتب بقبضته بعصبية ثم قال:
- يا أخي أنت إيه... ما بتعرفش تقعد ساكت خالص..!
وهنا أرتفع رنين هاتف زين النقال فصمت وهو يتأمل المتصل ثم لم يلبث أن رد بلهفة عارمة قائلاً:
- ألو... إيه الأخبار...؟
أبتسم عصام زميله في انتصار قائلاً:
- أهي هيا اللي كلمتك يا عم وشوف بترد ازاي... زي ما قلت كنت سرحان فيها طبعًا..
زم زين شفتيه في غيظ وهو ينظر إلى زميله ثم خرج من الغرفة قائلاً لمحدثه في الهاتف:
- كنت بتقول إيه يا شريف معلش قول تاني مسمعتش... إيه..؟ وصلت لأخبار جديدة عنها...؟؟؟ إحتمال تكون سافرت...؟؟ إحتمال إيه يا شريف... أنا عايز خبر أكيد... وبعدين ماتقوليش سافرت كدة أعرف لي راحت فين ما تحبطنيش... أنا بقالي سنين مش عارف أوصلها... عارف يا سيدي إنها بنت وزير بس ماتنساش إنه وزير سابق وأهي الثورة كشفت أنه كمان وزير فاسد تبع شلة الحرامية... ماشي يا سيادة المقدم الشريف وريني شطارتك بقى وإلا لا انت صاحبي ولا اعرفك... خلاص هاستناك بالليل... عشا..؟ عشا إيه يا شريف أنت همك على بطنك على طول كدة يا عم خلاااص هاعزمك عالعشا بس تجيب لي اخبار عدلة أرجوك... ماشي يا باشا... سلام ..
أغلق زين هاتفه ثم عاد إلى غرفته بكلية الزراعة جامعة القاهرة حيث يُحاضِر ولملم اشيائه وقد برق الأمل بداخله أن رحلة بحثه الطويلة قد تثمر أخيرًا ويعثر عليها ويعرف كيف ينتزع منها ابنه، نفض عن رأسه اليأس وهو يأمل أن يصل صديقه إلى أي أخبار عنها.
- "أيوة يا عم الله يسهلو... جالك استدعاء واللا إيه...؟؟"
قالها عصام في لزوجة وهو يرقب زين الذي يهم بالمغادرة، فرفع زين إليه عينيه وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة ثم قال بهدوء:
- برضه مش هاريحك يا عصام... سلام ...
عقد زميله حاجبيه وهو يقول: - إيه يا دكتور مش هاتكمل محاضراتك...؟؟
أشار زين بيده أن لا ثم أشار مودعًا إياه وهو يقول:
- سلام عليكم يا عصوم وابقى اعتذر لي عن المحاضرتين الباقيين عندي مشوار مهم...
جز عصام على اسنانه في غيظ متمتمًا:
- هوا عشان أبوه هايبقى عضو مجلس شعب هايعملهم علينا بقى واللا إيه... ماشي يا زين...
أما زين فكان قد خرج إلى حيث سيارته الجيب السوداء التي استقلها وهو يسترجع احداث السنوات المنصرمة... كيف حاول باستماتة الوصول إلى كارمن، إلا أن تقلد أبيها منصب وزير الزراعة فرض حرسًا شديدًا على الفيلا ومنع أي شخص من الاقتراب نحوها... حاول جاهدًا الوصول إليها عند خروجها أو دخولها إلا أنه فوجيء أنها أيضًا يحيطها الحرس من كل جانب وكلما اقترب منها كادوا ان يفتكوا به ..!
تذكر محاولاته هو واسرته في الوصول إلى أيٍ منهم لكن دون فائدة... أكثر من خمس سنوات وهو يحاول أن يرى طفله دون جدوى حتى اندلاع الثورة وفرار الكثير من المسئولين بملايين الجنيهات... ويبدو أن الدكتور عمر هجرس واسرته كانوا منهم. ومن وقتها وهو لا يدري إلى أين ذهبت... راجع سجلات المطار لكن ما بدا له أنهم لم يخرجوا من البلد!! فاستعان بصديق عمره المقدم شريف مشهور ليساعده في البحث عنها عله يصل من خلال منصبه وعلاقاته إلى ما عجز زين عن الوصول إليه بمفرده.
وصل زين إلى منزله على غير عادته بعد الظهر حيث كان يوميًا ينهي عمله بالجامعة ثم يقوم ببعض الأعمال المتعلقة بالانتخابات مع أبيه الذي فضل المكوث عند ياسر وتقى بحجة ان ابنه حديث الزواج ولا يريد أن يثقل عليه رغم إلحاح زين الشديد على الشيخ سليم أن يبيت عنده الأيام التي يقضيها بالقاهرة إلا أنه رفض رفضًا باتًا وقد أراح ذلك زين فوجود أبيه معه بالمنزل سيفرض عليه البقاء مع نور وهذا آخر ما يصبو إليه. أما اليوم فقد أنهكه السهر والتفكير في طفله الضائع ثم أستعر بداخله الأمل بعد مكالمة شريف فقرر أخذ قسطًا من الراحة خاصة وأن أباه أخبره أن ثمة سائق قد جاءه من أبناء بلدته بالسيارة المرسيدس خاصة الشيخ سليم.
فتح زين باب المنزل شاردًا في كلام شريف، ناسيًا أن يطرقه كعادته.
" حبيبي طيب أرجوك كلمني.. بلاش تاكل رد عليا يا عيسى إيه اللي مضايقك...؟"
فوجيء بها بجوار مائدة الطعام ترتدي عبائة استقبال متوسطة الطول ليست بوسع ملابس حجابها التي ترتديها عادة... تنحني على ابنها في حنان ويسقط بجوارها شعرها الأسود الطويل الناعم الذي عقصته ببساطة على شكل ذيل حصان بينما نفرت بعض خصلات منه حول وجهها الخمري. لم تلحظ مجيئه حيث كانت منغمسة جدًا في حديثها القلق على ابنها الذي دفعها عنه مبتعدًا وهو يقول:
- مـ ... مافيش حاجة يـ .. يا ماما ...
قالها ثم توجه مسرعًا إلى شرفة الردهة التي خرج منها إلى الحديقة، سارت نور خلفه لكنها توقفت عند باب الشرفة ولم تخرج... استدارت تبحث عن حجابها و....
فوجئت بزين يقف عند باب المنزل متأملاً إياها... شهقت مبهوتة وقد شعرت بسخونة في وجنتيها اللتان تضرجتا بحمرة الخجل ونبض عرق بمنتصف جبهتها يظهر عادة عندما تنفعل، أخذت في إرجاع خصلات شعرها خلف أذنها في انفعال ونظرت إلى الأرض وكأنها قد أصابها شلل مؤقت.
أستفاق زين من المفاجأة وعاد إلى بروده وهو يقول:
- آسف لو كنت فاجئتك... أنا نسيت أخبط كنت سرحان في موضوع كدة بس ..
أزدردت لعابها وقد تمكنت من الحركة أخيرًا، فانسلت بخفة إلى غرفتها ولم تُعَقِّب.
دخلت الغرفة وأغلقت الباب خلفها وهي تلهث كأنها ركضت ألف ميل...! على غير العادة وصل زين المنزل مبكرًا وعلى غير العادة دخل دون أن يطرق الباب... وعلى غير العادة ... لمعت في عينيه نظرة أخرى غير نظرات الاستهجان والازدراء..!!!
تذكرت صغيرها الذي عاد من المدرسة وهو يحاول أن يخفي وجهه المتورم عنها... رافضًا تناول الغداء رغم أنها قد أعدت له وجبته المفضلة، كما إنه يتحدث متلعثمًا وقد عاد إلى اللجلجة مرة أخرى بعد أن كان قد نسيها. أرتدت عبائتها وحجابها مسرعة وخرجت إلى شرفة غرفتها لترى إن كان لايزال في الحديقة أم لا.
- عارف يا عيسى... أنا كنت في مدرستي تلميذ شاطر جدًا
- ............
- بس كان فيه شوية أولاد كدة مش شاطرين زيي متضايقين إن أنا شاطر وهما لأ، وبدل ما يذاكروا ويحاولوا يتفوقوا عليا... كانوا بيحاولوا يئذوني وكل يوم كانوا يتجمعوا وبصراحة... يضربوني ...
تمكن من جذب انتباه الصغير الذي التفت إليه في اهتمام وهو يقول:
- و... وحـ .. حضرتك كـ.. كنت بتعمل لهم إ... إيه...؟
إنهمك زين بفحص إحدى الشجيرات قائلاً:
- كنت كل يوم أرجع متضايق وأعيط بس ماكنتش باقول لأبويا عشان مايحسش إني عيل... ولا لأمي عشان ماتقلقش عليا جامد...
صمت قليلاً وهو يزيل إحدى الأوراق الصفراء فاستحثه عيسى بقوله: - و ... وبعدين ..؟
استدار زين إليه باسمًا وهو يقول:
- حكيت لعمي سليمان الله يرحمه... في الأيام القليلة اللي كنت باشوفه فيها عندنا... فعمي علمني حركات رياضية للدفاع عن نفسي عشان لو أي حد هجم عليا أعرف أصده إزاي... وقال لي اروح قبل أي حاجة اشتكي الأولاد اللي بيضايقوني للأستاذ مافيهاش حاجة وقال لي برضه لازم أقول لأبويا لأنه أكتر واحد تهمه مصلحتي... وفعلا أبويا اشتكى في المدرسة والأولاد دول اتعاقبوا وحتى لو حاولوا يهاجموني في أي وقت تاني أنا بقيت أعرف اوقفهم... وأدافع عن نفسي...
قال عيسى بفضول: - طيب إيه هيا حركات الدفاع عن النفس دي...؟
وضع زين يده على رأسه وعبث بشعره الناعم قائلاً:
- فيه رياضات كتير للدفاع عن النفس زي الكاراتيه والتايكوندو والكونغ فو... تحب تتعلم رياضة منهم؟؟
قفز عيسى بحماس قائلاً: - أيوة يا عمو أيوة يا عمو يا ريت...
ابتسم زين وهو يقول : - طيب بشرط ... تتغدى كويس عشان نروح النادي ...
هتف عيسى وهو يمسك بيد زين في حب: - ماشي بس تتغدى معايا ...
حمله زين محتضنًا إياه وهو يقول: - حاضر يا سيدي...
وعندما رفع عيناه ألتقى بلُجتي العسل اللامع في عينيها المترقرقتين بدموع متجمدة واللتين كانتا تتابعانه في امتنان من شرفتها، دخل زين مع عيسى وقد إزداد اشتياقه لابنه الذي لم يره أبدًا...!!
ولأول مرة يجتمعوا على مائدة طعام... كان الصمت يغلفهم اللهم إلا صوت ادوات الطعام... كانا صامتين صمتًا يضج بالمشاعر المختلفة... فعينا نور تنطقا بالامتنان والسعادة بحكمة زين في معاملة عيسى، أما زين فقد كان يشرد تارة في ابنه وإحساسه بقرب الوصول إليه وأخرى في تلك المرأة التي رغم قلقها على ابنها لم تخرج إلى الشرفة دون حجاب...! في خجلها واحمرار وجنتيها عندما اكتشفت وجوده... في ملامح وجهها التي تنطق بما يعتمل بقلبها من عرفان وامتنان دون جمود أو مواربة.
قطع صمتهم صوت جرس الباب فنهض عيسى بتلقائية يفتح الباب ليدخل رجلاً في العقد الثالث من عمره فارع الطول أسمر البشرة، نهض زين من على مائدة الطعام هاتفًا بدهشة:
- شريف...؟؟
بينما استأذنت نور ولملمت الأطباق الفارغة إلى المطبخ، هتف شريف بمرح وهو يقترب من مائدة الطعام:
- الله أكبر يظهر كدة إن حماتي بتحبني صحيح يا هندسة مع إني أشك في كدة... الله... لازانيا كمان..؟ خليك يا زين والله ما انت قايم وأنا هاقعد معاك كمان... حد يلاقي لازانيا ومايقعدش...
قالها وهو يضحك في مرحه المعهود فابتسم زين قائلاً:
- أنت يا ابني أنت مش قلت لي هاتيجي عالعشا..؟
قال شريف وفمه ممتليء بالطعام: - لأ أصلي زهقت من أكل الشارع قلت أجي اتغدا معاك... ما أنت خلاص مابقيتش عزابي...
قال زين بدهشة: - أكل الشارع ليه يا ابني؟ أنت مش متجوز...؟
أجابه صديقه ساخراً: - هيء... للأسف متنيل ومتجوز بس مراتي من ساعة ما ولدت من شهرين وهيا قاعدة عند أهلها وأنا مقضيها بقى مطاعم... بس إيه ده... اللازانيا دي خطيرة... قنبلة ... يا بختك يا عم...
جذب زين الصينية التي استلمها شريف وأخذ يأكل منها مباشرة قائلاً:
- بطل طفاسة يا شريف وقول لي وصلت لإيه...؟ بالله عليك بقى ما تتعبنيش أكتر من كدة ...
سعل شريف ثم قام بصب بعض المياه في كوب ما وازدرده ثم قال:
- شوفت يا أخي كنت هازور... منك لله عينك في اللقمة...
نظر إليه زين بغضب قائلاً: - لخص...
زفر شريف وهو يتراجع في كرسيه:
- للأسف يا زين مافيش غير اللي قولتهولك... الوزير عمر هجرس وبنته كارمن ومراته الدكتورة سوزان سافروا برة مصر... ده اللي قدرت أوصل له بالعافية لكن فين بقى ماعرفش... هما شكلهم مسحوا كل حاجة...
هتف زين: إزاي...؟ إزاي كل السجلات تتمسح كدة يا شريف..؟
قال شريف بأسف: - أنت ناسي واللا إيه أن إحنا عندنا فساد مؤسسي رهيب وممكن تمحي أي حاجة من الوجود بكام ألف جنيه..؟
دفن زين وجهه بين يديه وقد تحطمت كل آماله قائلاً:
- يعني خلاص... مش هاعرف ألاقي ابني..؟ خلاص ابني ضاع...؟؟؟ اكتر من خمس سنين بحاول أوصل له ويضيع كل حاجة كدة...؟ منها لله .. منها لله ...
هنا جاء صوت عيسى وهو يجذب ذراع عمه قائلاً:
- عمو... أنا خلصت أكلي مش هانروح النادي زي ما وعدتني...؟
أستدار زين نحو عيسى واحتضنه بقوة قائلاً:
- حاضر يا عيسى ياللا بينا...
تسائل شريف: - على فين..؟
قال زين بخفوت وهو يخفي بحر الأحزان الذي سقطت به عيناه بمنظاره الشمسي:
- تعالى نروح النادي أحسن حاسس إني هاتخنق فعلا وبعدين أنا وعدت عيسى أوديه...
خرج ثلاثتهم من المنزل بينما كانت نور متسمرة مكانها من عجب ما سمعت...!! سقط الطبق الذي كانت تحمله بين يديها وتناثرت شظاياه كما تناثرت شظايا الذكرى بعقلها... ذكرى أرسلها الله لترد الضالة لصاحبها.
***
- مش فاهم حاجة ... أرجوكي قولي تاني كدة بالراحة ...
- بـ... باقولك أنه مش ابنك ... د... دي بنتك ...
بمجرد رجوعهما مساءًا بادرته نور بتلك الكلمات التي أستغلقت عليه أو رفض عقله التحلي بالأمل ثانية كي لا يخيب مرة أخرى، فسألها بحدة أكثر:
- يعني إيه ..؟
أخذت نفس عميق قائلة:
- أنا عارفة فين كارمن وأهلها و ... وبنتها ...
إذن... هي فتاة... لقد أنجبت كارمن فتاة... شعر وكأن الأرض تدور من حوله... شعر بقلبه يخفق بعنف... إنها فتاة... إذن يجب أن يسرع في الوصول إليها وانتزاع ابنته منها... دون شعور قبض على ذراع نور وهو يقول:
- عرفتي كارمن منين ؟ وهيا فين ..؟ وبنتي اسمها إيه...؟
تأوهت نور قائلة : - آاااه... هاحكي لك كل حاجة بس سيب إيدي من فضلك...
أطلق زين سراحها قائلاً: - آسف بس أرجوكي ماتسيبينيش على أعصابي كدة وقولي لي كل اللي تعرفيه...
أخذت نور تحكي له وهي ترجع بذكرياتها إلى ذلك اليوم منذ خمس سنوات... ذلك اليوم الشتوي البارد حين رأتها وضمتها و... أنقذتها.
***
شهر يناير من ذلك العام... العاصفة الجليدية التي شلت كل الطرقات... كوخ سنتياجو الذي يتواجد أعلى تلة مرتفعة في مالون حيث يذهب مسيو دي بونت الثري الفرنسي كل عام ليقيم حفلاً لا مثيل له.
ذهبت ذلك اليوم على مضض إلى كوخ سنتياجو برفقة زكريا ومهند وعيسى الذي كان رضيعًا وقتها حيث أصر العميل الفرنسي الأكبر الذي يستورد من آل رحيل أغلب منتجاتهم الزراعية العضوية أن يلتقيهما لإتمام الصفقة التي تعرقلت طويلاً قبيل سفره إلى فرنسا.
لازالت تذكر شكل ذلك الكوخ من الداخل حيث شعرت أنه قد جرى تنظيم كل شيء به في سبيل خلق جو دافىء بدءًا من العوارض الهابطة من السقف وحتى الجدران الملبسة التي كانت تدفيء القاعة. وثمة مدفأة قديمة الطراز تبعث الدفئ في البيت بأكمله. لكن ما توقعته نور وجدته وقُبض قلبها له... فكل النساء شبه عرايا بأثواب السهرة الرسمية وتقريبًا كل من هو موجود يتناول الخمر من ذلك الساقي الذي يمر عليهم بكؤوس الخمر وملحقاته من فاكهة حمراء وخبز مدهون بالتوابل.
ضاق صدرها وأخذت تتنقل بعينيها بين الموجودين علها تجد مسيو دي بونت لتنتهي من تلك المهمة الثقيلة. لم تكن قد ألتقته قبلاً لكن تلك الصورة المرسومة المعلقة على أحد الجدران لرجل ملتح شبه أصلع يرتدي عوينات قد أعطتها فكرة عن شكله فأخذت تفتش عنه بعينيها ذلك عندما صاح زكريا مبهوتًا:
((كارمن!!!!))
تسائل مهند مازحًا: - إيه... لاقيت واحدة من اللي خرجت معاهم مرة ونفضت لها بعد كدة وخايف واللا إيه؟
دفعه زكريا قائلاً: - أسكت يا ابني... دي مرات أخويا... قصدي طليقته..
تأمل مهند وكذلك نور تلك التي كانت تقف قريبًا منهم بثوب أحمر قاني طويل بدون أكام يكشف كتفيها وجزء كبير من ظهرها الذي ينسدل عليه شعرها الذهبي المصفف بطريقة كلاسيكية.
أطلق مهند صفيرًا طويلاً وهو يقول:
- يخرب بيت حظكم أنت واخوك يا باشا... بتجيبوا المزز دول منين.. دي نسخة من نيكول كيدمان... وبعدين أخوك ده أهبل واللا عبيط عشان يطلقها... بس شكلها كدة هيا اللي ألشته يا عم...
وكزه زكريا في صدره ليصمت بينما توجهوا جميعًا نحو كارمن التي كانت تتناقش مع امرأة لاتينية تبكي هاتفة:
- روووز... لا يمكنك أن تتركي لي الصغيرة الآن وترحلين.. أجننتِ..؟
- سيدتي... عذرًا... لكن لقد أخبروني أن ابني الصغير في المستشفى يحتضر أريد أن أراه... أريد أن أطمئن عليه... أريد إنقاذه..
هتفت كارمن مهددة: - رووز.. إذا رحلتي الآن، فلا تعودي ثانية... وليس لك عندي شيئًا..
كانت تعتقد أنها بتهديدها ذاك ستثني المربية عن قرارها إلا أن مربية ابنتها روزالين أشتعلت بعينيها جمرتي غضب وألقت إلى كارمن بطفلة رضيعة لم تتعد الثلاثة أشهر ثم.... رحلت..!
زفرت كارمن في ضيق حينها كانت أمها قد جاءتها ممسكة بكأس في يدها متسائلة:
- شو فيه كوكي..؟
أعطت كارمن الرضيعة لأمها وهي تقول بحنق:
- المجنونة روز جت من شوية ورميت لي مايا وجريت... مش عارفة ماما هاعمل إيه بيها دي في الحفلة..!! أوووف... إيدي مستنيني وعازمني من زمان على البارتي دي هايعمل فيها بيزنس كويس وقال لي لو وشي حلو عليه... هانتجوز ونسافر على طول...
ابتسمت أمها في هدوء ثم قالت: - طيب ماما لا تعتلي هم عطيني ياها...
نظرت إليها كارمن في شك وهي تقول:
- الدكتورة الفنانة سوزي بذات نفسها هتبقى بيبي سيتر لحفيدتها... ده من إمتى ده...؟ واللا مستنية ينولك من الحب جانب بعد ما اتجوز إيدي...؟
ابتسمت أمها ساخرة وهي تقول: - عم تمزحي أنت مو هيك..! شو بيبي سيتر حبيبتي..! أنا راح اعطيها لواحدة من العاملات هون تهتم فيها لايخلص الحفل وناخدها وإحنا ماشيين... وبعدين أي حب اللي عم تحكي عنه... بس أول بس أضمني هالزلمة قبل ما يطير منك شوفي كيف البنات الحلوات متحلقين حوله..
قالت كارمن بثقة وهي تناولها ابنتها:
- ماتخافيش يا قمر... إيدي ده خلاص... بقى زي الخاتم في صباعي.. مايقدرش يعيش من غيري... عن إذنك ...
أستدارت كارمن لترحل عن أمها لتجد زكريا في وجهها قائلاً: - كارمن ...؟؟؟
ضيقت كارمن عينيها الجميلتين وهي تقول: - نعم ...؟ حضرتك تعرفني ...؟
ابتسم زكريا قائلاً: - أكيد مش هاتعرفيني لأني مانزلتش مصر بقالي زمن ولا حضرت فرحك أنت وزين ...
عضت كارمن على شفتها السفلى وهي تقول:
- أنت بقى تبع زين...؟ آاااه عايز يقول لي إنه عرف مكاني..؟ من فضلك بقى بلغه...
قاطعها زكريا قائلاً: - شششش... أنا لا تبعه ولا يحزنون... أنا مجرد أخوه وشوفتك مرة معاه في الجامعة وبعدين سافرت على أمريكا ومن يومها وأنا هنا... وبصراحة كنت مستخسرك فيه... أصل أخويا ده فقري ما يعرفش يقدر الجمال ...
ابتسمت كارمن بغرور وهي تقول: - ثانكس ... عن إذنك بقى ...
قالتها ثم تركته ورحلت تتبعها نظرات مهند الذي أخذ يتمتم: - أخوك ده والله أهبل ...
- "مسيو دي بونت أهوه .."
قالتها نور عندما رأت رجلاً يشبه ذلك الذي في الصورة يخرج من أحد الغرف يرحب بالناس... كان يشبه إلى حد كبير الطبيب والكاتب أوليفر ساكس بلحيته البيضاء وشاربه وشعره الخفيف وعويناته الطبية. توجهت إليه مباشرة يتبعها كل من زكريا ومهند. بادرته قائلة: - مسيو دي بونت..؟
أستدار الثري الفرنسي إليها قائلاً: - أكيد أنت مدام نور رحي ..
أومأت قائلة: - نعم سيدي ...
مد يده مصافحًا إلا أنها وضعت كفها الأيمن على كتفها الأيسر وانحنت أنحناءة بسيطة تحييه قائلة:
- مرحبا سيدي ...
نظر زكريا إليها وقد استشاط غضبًا وصافح هو يد الرجل الممدودة قائلاً:
- عفوًا سيدي ... إنها ...
ضحك دي بونت قائلاً: - مسلمة أدري... لا توجد مشكلة... تفضلوا ...
قادهم إلى المكتب ليتمم معهم الصفقة ويتفق على صفقة جديدة. رغم أن نور كانت كائنًا غريبًا بزيها وحجابها وصغيرها إلا أن ذلك لم يمنع الفرنسي من الإقرار بمهارتها في التفاوض وفرنسيتها الجيدة التي كانت ترد بها عليه عندما يستخدمها وسط حديثه مما أشعره بالمزيد من الراحة في التعامل معها.
وعندما انتهوا من العمل قالت نور في حزم:
- شكرًا سيدي... هل يمكنك أن تطلب لنا السيارة الآن لنرحل..؟
هتف زكريا باعتراض: - إييييه..؟
بينما ابتسم دي بونت في أسف قائلاً: - للأسف... لقد علقنا...
قالت نور في غير فهم: - ماذا...؟ كيف...؟
قال دي بونت: - الكوخ يقع على تلة مرتفعة كما تعلمين ولقد غطت الثلوج كل الطرق المؤدية إلى هنا ولا يمكن لأحد أن يدخل أو يخرج من هنا حتى تأتي الجرافات لفتح الطرقات...
زفرت نور في ضيق قائلة: - ماذا...!!!
بينما بدا السرور على وجهي زكريا ومهند، فقال مسيو دي بونت بتفهم:
- باستطاعتي توفير غرفة مريحة يمكنك المكوث بها حتى فتح الطرقات ...
ارتاحت نور قليلاً وقالت له: - أشكرك كثيرًا مسيو دي بونت...
أومأ قائلاً: - على الرحب سيدتي... وسأرسل لك العشاء بالغرفة أيضًا..
وبالفعل قادتها إحدى العاملات إلى غرفة ما بالطابق العلوي بينما أنطلق كل من زكريا ومهند لينغمسا في أجواء الحفل. بعد قليل سمعت طرقًا على الباب لتدخل عاملة أخرى بصفحة عليها بعض الطعام وضعته على منضدة ما بالغرفة وعندما همت أن تخرج لمحت عيسى فوقفت في تردد، قالت نور:
- أثمة شيء..؟
فقالت العاملة بأدب: - سـ .. سيدتي .. لديكِ طفلاً...؟
قالت نور باسمة: - نعم ابني...
كانت العاملة في قمة التردد، فقالت نور: - ماذا هناك...؟
فقالت العاملة: - ثمة رضيعة تركتها لنا أمها وهي تبكي كثيرا جدًا ولا تصمت فقلت إذا كان لديك حليبًا لطفلك فائضًا يمكننا إعطائه للصغيرة ...
تذكرت نور كارمن وما سمعته من حديثها هي وأمها، فقالت:
- لكن صغيري يرضع طبيعيا وليس معي سوى بعض الأطعمة المهروسة التي لا تصلح لمن هو أصغر منه... لكن أين أمها لترضعها..؟ أين زجاجة الحليب الخاصة بها...؟
قالت الخادمة: - لم أتمكن من إيجاد أمها فمن أعطتها لنا هي جدتها وكلما أخبرها بشيء تطلب مني أن أتصرف وأنا لا أدري ماذا أفعل..!وأوفر لك
قالت لها نور: - أحضري تلك الصغيرة لأرى ما يمكن فعله ...
خرجت العاملة وعادت بعد قليل وبين يديها طفلة صغيرة لم يتعد عمرها ثلاثة أشهر... تبكي دون توقف حتى بُح صوتها... ذكرت نور اسم الله الرحمن الرحيم عليها وحملتها بين يديها لتجد الفتاة وكأنها جمرة من النار...!! كانت حرارتها مرتفعة جدًا... فصاحت بالعاملة:
- أحضري لي بعض المياه الفاترة بسرعة ...
فتحت نور حقيبتها وأخرجت خافض الحرارة الخاص بأبنها والذي تضعه بحقيبة الطفل دائمًا تحسبًا لأي ظرف وأعطت الصغيرة منه... لاحظت أن الفتاة بدأت تبكي بدون دموع مما يعني أن الحرارة قد أدت بها إلى الجفاف سيزداد بخطورة إن لم تتناول الصغيرة شيئًا. عادت العاملة بسرعة بالمياه ومعها زميلة لها أخرجت نور منشفة صغيرة خاصة بابنها وأمرت العاملة:
- قومي بعمل كمادات للصغيرة حتى أحضر أمها... ثم وجهت حديثها إلى الأخرى:
- وأنت .. انتبهي لابني حتى أعود ...
أنصاعت العاملتان لأوامر نور التي خرجت كالمجنونة تبحث عن كارمن حتى وجدتها تجلس مع شخص ما يطوق كتفيها بذراعه، توجهت إليها رأسًا هاتفة: - من فضلك تعالي معايا ...
نظرت إليها كارمن باحتقار قائلة: - وأنت مين بقى عشان أجي معاكي...؟
قالت لها نور بنفاذ صبر: - بنتك بتموت يا مدام ولازم تلحقيها ...
تغيرت ملامح كارمن في قلق ثم اعتذرت من الرجل الذي كانت معه ونهضت مع نور إلى تلك الغرفة التي تركت بها الصغيرة.
- "البنت حرارتها مرتفعة جدًا وهاتدخل في دور جفاف لو مارضعتيهاش.."
كذا قالت نور، فقالت كارمن بانهيار: - مايا.... لـ... لكن أنا مابرضعهاش... هيا بترضع صناعي..
قالت نور بحدة: - طيب هاتي لها رضعة حرام عليكي البنت شكلها بقالها كتير مارضعتش...
قالت كارمن: - شنطتها اللي فيها الرضعات مـ... مع روزالين... نسيت أخدها منها..
أمسكت كارمن بحقيبتها الصغيرة وقلبت محتوياتها حتى أخرجت هاتفًا جوالاً أخذت تحاول الاتصال بالمربية حتى تمكنت من الحصول على إرسال وكلمت المربية ترجوها أن تعود بحقيبة الصغيرة إلا أن المربية أخبرتها أنها بالكاد خرجت وسط الثلوج ولن تستطيع العودة. لملمت كارمن أغراضها في حقيبتها على عجل وقالت لنور أنها ستنزل لتحاول التصرف، إلا أنها عادت بعد قليل تجر أذيال الخيبة... فكل مداخل ومخارج المنزل مسدودة بالجليد.
" حاولي ترضعيها أنت طيب البنت جعانة جدًا أنا شربتها مية لكنها فعلا جعانة والله أعلم هانتحجز هنا لأمتى...!"
قالتها نور، فنظرت لها كارمن بيأس وحاولت إرضاع الصغيرة لكن دون جدوى فقد جف حليبها بعد امتناعها عن إرضاع الصغيرة طوال تلكم الأشهر.
زفرت نور قائلة: - أمري لله... هاتيها...
قالتها وهي تتناول الصغيرة من أمها... وتضعها على ثديها وتلقمها إياه... فتأخذ الصغيرة الحليب وتشهق من السعادة وبدأت تفتح عينيها الفيروزيتين وكأنها تنظر إلى نور نظرة إمتنان فضمتها نور بحنان وقد علمت سر بقائها في هذا المكان بذلك الوقت رغم كرهها لذلك...! لقد شاء الله أن يكتب لتلك الصغيرة حياة أخرى وأن تكون سببًا في إنقاذها. وبينما هي ترضع الصغيرة وجدت بجوارها شيء سقط من محتويات حقيبة كارمن لم تنتبه تلك الأخيرة له... كانت بطاقة هويتها بها صورتها بزي مضيفات الطيران واسمها و... عنوانها، أعادت نور البطاقة إلى كارمن التي شكرتها بحرارة.
******
"تروحي وترجعي بالسلامة يا نور... وماتقلقيش على عيسى... هايلعب مع حبيبة وهاخلي بالي منه.."
قالتها تقى في المطار لشقيقتها التي عانقتها قائلة:
- مش عارفة ليه سمعت كلامك وسيبته معاكي ..!
غمزت تقى بمرح هامسة: - يا بنتي روحوا قضوا لكم يومين عسل كدة بعيد عن العيال قبل ما يلاقي بنته ..
عبست نور قائلة: - تقى... انت عارفة أنا ليه اشترطت عليه أنه ياخدني معاه لو عايز يعرف مكان بنته.. وعارفة كويس طبيعة علاقتنا... فبلاش بقى الله يكرمك التلميحات دي...
قالت تقى: - حاضر حاضر مش هاقول تلميحات... بس هاقول لك بس إنكم والله لايقين على بعض جدددا.. فكروا مرة تانية...
وضعت نور منظارها الشمسي على عينيها قائلة: - أنسي... ياللا سلام عليكم ...
ثم أنحنت تعانق صغيرها مرة أخرى وقلبها يتمزق لبعدها عنه وتخبره أنها لن تغيب عنه وأن يعتبر خالته كأمه، ثم رحلت لتلحق بزين عائدة مرة أخرى إلى التفاحة الكبيرة ... مدينة نيويورك.
أما زين... فقد كان لايزال متعجبًا وغير مصدقًا... كيف يعرف أخاه مكان ابنته ويتركه سنوات طوال تائهًا يبحث عنها...!!! لم يقتنع كثيرًا بإجابة نور التي اخبرته أن كارمن لم تكن قد استقرت بعد في أمريكا بل كانت تقضي إجازات أعياد الميلاد هناك فقط مع أسرتها لكن ممتلكاتهم الضخمة في الولايات المتحدة وأعمالهم هناك تشير إلى أن هذه هي اقرب بلد يمكنهم الفرار إليها بعد الثورة ... إجابتها لم توضح له موقف أخيه... لماذا لم يخبره أنه وجد ابنته وأنقذتها زوجته...!!!
لم يدر أن زكريا لم يعلم حتى وفاته بما قامت به نور مع مايا... حيث إن تتابع الأحداث بعد ذلك ربما أنساها وربما هي تعمدت ذلك كي لا يظنها تمن عليه بإنقاذها ابنة أخيه.
كانت إجازات أعياد الميلاد والكريسماس قد انقضت في ذلك التوقيت من شهر يناير 2012 ولم يكن مطار جون إف كينيدي بنيويورك مكدسًا كما يكون عادة في الأعياد، لذلك فقد أنهيا إجراءات خروجهما بسرعة ثم استقلا سيارة أجرة توجهت بهما إلى واشنطن هايتس.
فتحت نور باب المنزل الذي قضت به سنوات عجاف مرت وكأنها عمرًا بيد مرتجفة... دلفت وأضاءت الأنوار والتدفئة، ودون أي كلمة يممت وجهها شطر الغرفة ذات الفراشين لتضع أمتعتها مما أثار تعجب زين أن تركت له الغرفة الرئيسية التي من المفترض أن تكون غرفتها!!!
أما نور... فأسرعت إلى الفراش الذي كانت تحتله طوال فترة إقامتها بهذا المنزل وجلست عليه ضامة ركبتيها إلى صدرها في محاولة منها السيطرة على ارتجافة بدنها التي لم تكن من صقيع شهر يناير أو درجة الحرارة التي هبطت عن الصفر بعدة درجات، بل كان صقيع الذكريات المقبضة أشد وطئًا عليها لا تملك له أي نوع من التدفئة التي تذيبه.
******
"اللي اسمه ساليم ولد رحيل هذا إيش راح أنسوي فيه يا كابيرنا...؟؟"
تسائل ذلك البدوي الضخم وهو ينحني على رجل آخر رد عليه بعد أن نفث دخان الأرجيلة التي كانت في فمه:
- متخافش يا إسماعيل... روحه في يدنا ولو بس فكر يفتح خشمه أو يتكلم عن أراضينا وتجارتنا... تلفون زغير من أمريكا أيخليه ياخذ ذيله في اسنانه ويفر من المجلس كلاته...
تسائل إسماعيل: - ولو الداكتور الوزير هذا ما وفَّى معانا يا شيخ مناع ...!
ضحك الشيخ مناع في صخب: - ماتخافش... الداكتور عمر يبيع أبوه عشان القرش... واللي بياخده من حدانا ملايين ماهي هينة... لا يمكن يضحي بيها... متخافش يا ولد حنا مأمنيين نفسينا زيين...
قال إسماعيل: - ده نجح يا كبيرنا في الانتخابات وأنت خابر زين نيته... والداكتور عمر مهما كان نسيبه والبت اللي راح يهدده بيها بت بته زي ما هي بت ولد ساليم...
أخذ الشيخ مناع نفس آخر من أرجيلته ثم نفثه في جذل وهو يقول:
- قلت لك متخافش... هوا إحنا خبل نعتمد على الحل هيذا بس... أني مستنظر من سنيين أنتقم من ساليم وعيلته... وأهه جاتنا الفرصة لعندينا وخرج ساليم من النجع وراح البرلمان...
قالها ثم امتلأت عيناه بحقد ممزوج بشر وغضب مخيف وهو يردف:
- ويا ويله لو كشف المستور واتحدت عنه... هايبقى كتب بيده أجله وأجل عياله...
******

Just Faith 18-12-17 01:39 PM

- 4 -
"بسم الله الرحمن الرحيم... أقسم بالله العظيم... أن أحافظ مخلصًا... على سلامة الوطن والنظام الجمهوري... وأن أرعى مصالح الشعب وأن أحترم الدستور والقانون"
لقد كان صوت أبيه... تقلب في الفراش الذي يحتله لا يدري أذلك حُلُمًا من تلك الأحلام المختلطة التي أخذت تتناوب عليه منذ أن تمكن من النوم أم هو حقيقة...!
نهض جالسًا على الفراش... ألقى نظرة على جواله ليجدها تمام الخامسة فجرًا... صاح "الفجر..!"
خرج من الغرفة بعينين ناعستين وشعره الأسود الفاحم مبعثر حول رأسه ليجده حقًا... إنه أباه...!!!
تلك الشاشة الضخمة بالردهة الصغيرة للمنزل كانت تبث أولى جلسات مجلس الشعب وقد أنتهى الشيخ سليم لتوه من أداء اليمين كعضو من أعضاء برلمان الثورة.
على الأريكة المقابلة للتلفاز كانت نور متكومة على نفسها بخمار أبيض وتنورة بيضاء وكوب يتصاعد منه البخار في يدها شاردة تمامًا وكأن شياطين ذكرياتها المؤلمة كلها قد تلبستها، فعندما نهضت كعادتها قبيل الفجر لأداء وترها... وجدت قدميها تجراها بأداءٍ مازوخي بحت من إمعان تعذيب الذات لتشهد توقيع صك تضحيات قدمتها واحدة تلو أخرى رغمًا عنها.
"هـ... هوا الفجر أذن...؟"
تسائل بصوته القوي الناعس، فأجفلت نور التي لم تلحظ استيقاظه واعتدلت في جلستها مباشرة إلا أن بعض قطرات مشروبها الساخن تساقطن على خمارها ناصع البياض.
"آسف .." قالها خافضًا عينيه إلى الأرض، فأجابته بهدوء يناقض تمامًا ما يعتمل بداخلها:
- لأ مش مشكلة... أنا اللي كنت سرحانة... الفجر لسة شوية عليه بيأذن على 6 إلا خمسة هنا والشروق على الساعة 7 وربع...
أشار إلى التلفاز قائلاً بسخرية: - هوا مجلس الشعب المصري وصل أمريكا كمان...؟
ردت عليه وهي تتابع التلفاز: - ده من على الإنترنت...
تسائل باهتمام: - فيه شبكة إنترنت هنا...؟
أجابته مشيرة إلى مكتب أنيق بزاوية الردهة:
- أيوة... شبكة الإنترنت هنا لسة شغالة... والكمبيوتر أهوه متوصل بالإنترنت لو محتاجه.. أنا بس كنت وصلت شاشة التلفزيون مكان شاشة الكمبيوتر عشان أشوف الجلسة الافتتاحية للمجلس...
قالتها ثم لم تتمكن من كتمان تعقيبها المرير الساخر... لم تتمكن من إلتزام الصمت كعادتها وسط جدران هذا المنزل التي تكاد تُطبق على روحها، فابتسمت بمرارة مردفة بسخرية:
- ... وأشوف عمي سليم اللي وصل للمكان ده عشان يجيب حقوق الشعب بقهر بنت أخوه ونهب حقوقها....
عقد زين حاجبيه في غضب وهو يقول بتوجس:
- قصدك إيه...؟ حقوق إيه دي اللي أخدها منك...؟
وكان إنفجارها لا مفر منه إذ وضعت كوبها جانبًا ثم نهضت هاتفة بحنق:
- حقوق إيه...؟!!! مش عارف حقوق إيه اللي سرقتوها مني...؟ من أول حقي في أني أكمل تعليمي وحقي في إني أختار أتجوز واللا لأ... وحقي لو قررت أتجوز في إني أختار الإنسان اللي أكمل معاه حياتي... وحقي إني أرفض أو أقبل أو حتى أفكر في أي شخص يتقدم لي..!!
كانت محقة في كل حرف تفوهت به... هو يدري يقينًا ذلك في أعماقه، لكن قد علمته التجارب أنهن مخادعات يتلبسن بالحق لإخفاء الباطل؛ يتعلقن بأستار حقوقٍ مكفولة لهن للتملص من كل واجب.. هكذا دَأْبُ النساء اللاتي ورثن طبيعة الحيات في نعومة التسلل إلى حقوقهن المزعومة ليغافلنك بطعنة سامة من حيث لا تدري.
- "للدرجة دي مش طايقة تكوني زوجة وعايزة تمشي على حل شعرك....!"
وكان لابد من تمييع الحقائق والإثبات أنه لها بالمرصاد وأنه سينتزع سمها كي لا يُلدغ مرة أخرى؛ أما هي فكان قد فاض بها الكيل من نظراته المتهمة ثم كلماته الجارحة فعاودتها روحها القتالية التي يبدو أنها كانت عالقة بجدران ذلك المنزل التي كما شهدت على عذابها مع شقيقه الراحل فقد شهدت أيضًا على مجابهتها له بقوة وعزيمة لا تلين، لذا قررت أن تصيبه في مقتل.
- من فضلك يا باشمهندس... أنا ماسمحلكش إطلاقًا أنك تتهمني في شرفي وديني وأخلاقي... وشعري اللي بتتكلم عنه ده ماحدش شاف منه شعراية إلا القليل من محارمي... وعمر ما حد لا يحل لي لمس إيدي لسلام أو غيره... ياريت حضرتك لو كنت فعلا ناوي تحترم الإتفاق اللي ما بيننا ماتحكمش عليا من غير دليل... مش معنى إنك شوفت أو إتعاملت في حياتك مع نموذج سيء من النساء تبقى كل النساء بالسوء ده... (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة)...
قالتها ثم أسرعت إلى غرفتها بعد أن كشفت الضماد عن جرح رجولته الغائر ونزلت كلماتها كمطهر حارق عليه... آلمه وذكَّره بامرأة مد لها يد العون فعضتها وطعنته في ظهره، زاد ألمه من غضبه وحنقه على نور فأسرع خلفها تتقافز شياطين حقده الأسود أمامه عازمًا على تأديبها وإفهامها أن تمثيلها لن ينطلي عليه... فقد عرف كل شيء عنـ...
لكنه عندما فتح باب غرفتها وجدها ساجدة... تبكي... فتراجع في صمت متحيرًا... لا يمكن أن يكون كل ذلك تمثيلاً...!!
***
"لأ... خد جسر فيرزانو الجاي ده عشان نطلع على بروكلين..."
وكأن شيئًا لم يكن... خرجت في كامل ملابسها ممسكة بمفتاح سيارة شقيقه الراحل تسأله إذا كان يود قيادتها للذهاب إلى منزل كارمن. رغم كبرياء نظراتها، إلا أنه لم يخف عليه انتفاخ عينيها وإحمرارهما من أثر البكاء. تعجب من وداعتها وأنوثة فطرية تشع من حركاتها الخجلة وهي تناوله مفتاح السيارة دون التوجه بعنجهية لقيادتها كما اعتادت أثناء إقامتها هنا، ثم إرشادها له بصوتها الهامس مخبرة إياه أي طريق يسلك...!!!
"هانروح بروكلين...؟" تسائل زين.
تأملت نور مبنى فاينانشيال ديستريكت البعيد القائم بشموخ أعلى نهر هيدسون وقالت شاردة:
- أيوة... خد طريق 95 وأطلع من منهاتن على بروكلين عشان ناخد العبارة اللي هاتوصلنا نيو إنجلاند... بيتهم على البحر هناك في مدينة جرينويتش اللي في ولاية كونيتيكت...
كان يقود بسرعة وتوتر وكأن سنوات ضياع ابنته كلها تضغط معه على دواسة البنزين... لقد أضناه البحث على مدار ست سنوات وهاهو لا يفصله عنها سوى بضع دقائق لا يطيقهم صبرًا.
"على مهلك شوية أنت متجاوز لحدود السرعة المسموحة..." نبهته نور.
أبطأ قليلاً وقلبه يتقافز بين أضلعه... بينما أخذت نور تعتصر أفكارها لتتأكد من صحة تذكرها للعنوان الذي كان مدونًا على بطاقة الهوية الخاصة بكارمن.
"أيوة هوا ده أكيد..."
صاحت نور وهي تشير إلى منزل قائم في زاوية منعزلة يطل على المحيط مباشرة... كان بيتًا كبيرًا إلى حدٍ ما... مكونا من ثلاثة طوابق... أوقف زين السيارة وترجل منها مسرعًا وعبر الشريط الرملي الفاصل بين الطريق والبيت، وأخذ لعدة مرات يحمي عينيه من ذرات الرمال المتصاعدة بفعل الريح.
فرك يديه محاولاً تدفئتهما... سيأخذ ابنته... سينتزعها من كارمن مهما كان الثمن... لن يتركها لها أبدًا.
تأمل المنزل الذي يبدو فخمًا للغاية وعرف أن سيادة الوزير السابق لم يضيع وقته سدى في الوزارة فراتبه كأستاذ في الجامعة وحتى أعماله وشركاته لم تكن كبيرة بما يكفي لشراء بيت كهذا...!
وصل إلى الباب الأمامي للمنزل وأخذ يضغط على الجرس ويطرق الباب في قوة حتى فتح له أحد الخدم على ما يبدو وتأمله متسائلاً:
- كيف يمكنني أن أخدمك يا سيدي...؟؟
أجابه زين: - أريد مقابلة السيد عمر أو مسز كارمن أو أي شخص عندك...
أجابه الخادم: - لا يوجد أحد منهم هاهنا سيدي...
تسائل زين: - متى سيعودون...؟ يمكنني انتظارهم...
اجابه الرجل بهدوء: - أعتقد أنه ليس بإمكانك ذلك سيدي... فقد سافر الجميع الى الجد والجدة ولن يعودوا قبل شهر...
تسائل زين في حدة: - وأين منزل الجد والجدة ذاك...؟؟؟
قال الرجل بأدب وهو يغلق الباب: - ليس مصرحًا لي أن أخبر أحدًا بذلك... عن إذنك سيدي...
قالها ثم أحكم إغلاق الباب، فزفر زين في حدة وقد هوت كل تطلعاته من عليائها... لكنه كان يعرف أن الأمر ليس سهلاً على الإطلاق...!
وقف على شاطيء المحيط أمام المنزل وصوت الأمواج الهادرة الممتزج بصوت النوارس يشوش على تفكيره... حتى رأى فتاة تتدثر بمعطف ثقيل وتمسك بيدها سلة تدلف من الباب الحديدي الخارجي للمنزل... تبدو عاملة أو خادمة... أسرع زين إليها... استوقفها قائلاً:
- إحم .. من فضلك...
توقفت الفتاة ونظرت إليه بعينين خضراوين وقد أحاطت بوجهها قلنسوة معطفها ذات الفراء، فأخرج زين حفنة من الدولارات وقال هامسًا:
- مسز كارمن كانت قد واعدتني أن الحق بها في منزل الجد والجدة وأعطتني العنوان لكنني بغبائي فقدته... هل يمكنك أن تعطينيه مرة أخرى...
نظرت إليه الفتاة ببلاهة، فأكمل:
- أ... أ... لا أريد أن أبدو مهملاً أمامها وأسألها عنه ثانية... تعرفين ذلك...
كانت الفتاة تعرف علاقات كارممن المتعددة وكثيرًا ما جنت أمولاً من ورائها، فألتمعت عيناها وأختطفت الدولارات وهي تهمس:
- كل ما أعرفه سيدي أنها مزرعة في تكساس... لكن... أين تحديدًا... لم يخبرنا أحد قط ...!
قالتها ثم أسرعت إلى المنزل وهي تنظر حولها لتتأكد من أن أحدًا لم يرها، أما زين فقد مادت به الأرض... أسيذهب في كل تكساس يبحث عنها...؟ وكأنه يعود للبحث عن إبرة في كوم قش...!!!
***
(( كيف ما بتعرف يا داكتور عمر... هيذي أمي الجدة حنة أم ساليم... وهيذي زوجتي أم زين..
قالها الشيخ سليم، فقال الدكتور عمر: - يا أهلاً وسهلاً نورتونا... دي بقى يا سيدي – مشيرًا إلى زوجته- المدام.. الدكتورة سوزان الإفرنجي... طبيبة...))
***
((..قالت سوزان: - واو ... زهوة هيدا اسم تبعنا نحنا الفلسطينين.. هههه.. هيدي أكيد علامة... لك شوفي أنا ما جبت إلا بنتين الله يخلي لي ياهن يا رب... كلارا الكبيرة بأمريكا عم تشتغل في مجال الإنشورانس.. التأمين يعني ...
قاطعتها أم زين مستنكرة:- لحالها..؟
ضحكت سوزان قائلة:- ههههه.. لا.. هيا مع أمي وبيي... عندنا هنيك بيت كبير فيه أمي وبيي ونحنا كل ما نروح عا أمريكا بننزل عندهن حتى كارمن كل شوي عم بتسافر لهم تضل شي كام يوم وترد ..))
***
"لا سيدي... مسيو زاك رحيل توفى... يدير العمل الآن مسيو زين رحيل شقيقه.."
دخل السيارة وأدارها بسرعة دون أن يلقي بالاً لما سمعه من حديث نور التي قالت لمحدثها بالهاتف:
- حسنًا... لا عليك... سأخبره.. أورڨوار..
نظر إليها بجانب عينه ثم زاد من ضغطه على دواسة البنزين، سألته نور بهدوء محاولة مداراة لهفتها:
- لاقيت مايا..؟
ضرب المقود بقبضته ثم قال في حنق: - لأ.. سافروا كلهم...
تسائلت نور مدهوشة: - سافروا...؟؟ سافروا فين...؟ وراجعين أمتى...؟
أجابها في غضب: - اللي فهمته أن عندهم مزرعة في تكساس راحوا عليها...
عقدت حاجبيها قائلة: - تكساس..؟ فين في تكساس...؟
صاح بحدة: - قولي أنتِ يا أم العريف مش أنتِ اللي جبتينا هنا...!!!
رفعت نور أحد حاجبيها وقالت بثقة: - وده طلع بيتهم فعلا... مش كدة واللا ضحكت عليك...؟
أشاح زين بيده وقال وهو يخرج جواله: - ماعنديش وقت للكلام الفارغ ده... خليني أحجز أول تذكرة على تكساس...
قالت نور: - لازم تهدا عشان تعرف تخطط هاتعمل إيه... أنت عارف تكساس دي أد إيه... هاتروح تمسك ميكروفون وتلف فيها وتقول عيل تايه يا ولاد الحلال...!!!
زفر زين ثانية وهو يتمتم: - اللهم طولك يا روح ...! مش ناقصة خفة هيا...
قالت نور: - الأول قبل ما أنسى... مسيو دي بونت أكبر مستورد لمنتجات مزرعتك جات لي مكالمة من مكتبه وقالوا لي إنه كان عايز يقابل زكريا وبعدين أما عرف أنه توفى وأنك موجود هنا... كلمني بنفسه وأصر أنه يقابلك قبل ما يسافر بكرة...
هتف زين: - أحنا في إيه واللا في إيه...!!!!
قالت نور بهدوء: - أولاً الراجل ده أكبر العملاء اللي بيستوردوا محاصيل مزرعتك اللي عشان تحافظ عليها إتجوزت إنسانة مش طايقها ولا بتثق فيها... ثانيًا... ممكن مرواحك ليه يساعدك في إنك تعرف مكان بنتك.. ماتنساش أن أنا شوفتها عنده ومش بعيد يكون عنده فكرة عن عنوانهم في تكساس...
هدأ زين من سرعة سيارته وشرد في حديث نور المرتب وسرعة بديهتها رغم أن شيء ما بداخله أستُفَز عندما ذكرت أمر زواجهما... وكأنها تخبره بوضوح أنها تعرف أنه لا يطيقها ولا يثق بها.. الأمر الذي بات يشك فيه هو شخصيًا.
- طيب هوا فين مسيو دي بونت ده...؟ هانروح له في الكوخ اللي...
- لأ... هوا موجود في شركته في مبنى فاينانشيال ديستريكت النهاردة لحد الساعة 7 مساءًا ومستنيك في أي وقت قبل الساعة 7 لأنه مسافر بعد كدة...
أجابته بهدوئها الذي لم تفقده بعد ثم وضعت منظارها الشمسي على عينيها وهي تراقب شوارع نيو إنجلاند المحتفظة بجمالها حتى مع برودة الجو في طريق العودة إلى مانهاتن.
***
بالكاد... أنهى اتفاقات العمل وعروض الأسعار والكميات وكل ما يتعلق بتوريد منتجات واحته بنصف عقل في المكتب الفسيح لمسيو دي بونت ذو الإطلالة البانورامية على خليج هيدسون، قام بعدها العجوز دي بونت برفع منظاره الطبي على جبهته ونظر نظرة ثاقبة إلى زين قائلاً:
- تبدو مشغولاً يا صغيري...
تنحنح زين قائلاً: - عفوًا سيدي لم أقصد أن...
نهض دي بونت من على مقعده وهو يقول: - أدري أنك لا تقيم هنا... حتى شقيقك الراحل الذي كان يقيم هنا لم يكن يأخذ العمل بجدية ولولا مدام نور ما كان خرج من السجن ولا عاد التعامل بيننا...
عقد زين حاجبيه في تعجب، بينما أشعل دي بونت غليونه وهو يجلس على مقعد جلدي مريح مردفًا:
- لكنني أنصحك بأن تتمسك بمدام نور ولا تثق كثيرًا بمن يدعى مهند ذاك...
نهض زين ليجلس قريبًا من مسيو دي بونت وهو يتسائل في تعجب: - مهند التوني..؟
أومأ دي بونت قائلاً: - شعرتُ أنه شخص متلاعب وغير أمين بالمرة على العكس من مدام رحيل... فقد كانت تعمل بإخلاص حقيقي...
لم يكن زين قد ألتقى بمهند فعليًا، كان يعرفه عن طريق رسائل البريد الإليكتروني المتبادلة بينه وبين شقيقه أو بينه وبين مهند مباشرة إلا أن المستثمر الفرنسي كان يتحدث بثقة وكأنه بالفعل قد رأى منه ما يُسيء.
قال له زين: - أنا أقدر لك كثيرًا نصيحتك سيد دي بونت وسوف أأخذها بعين الاعتبار...
قالها ثم صمت قليلاً في ترددن فابتسم دي بونت بأريحية وهو يقول:
- هاه يا فتى... هات ما عندك.. يبدو حقًا أن ثمة أمر هنالك تود قوله..
تنهد زين ثم قال: - بالفعل سيدي... ثمة أمر يشغل بالي كثيرًا... كنت أود أن أسألك عن صديق مصري مقيم هاهنا أرغب جدًا بلقائه لكن للأسف وجدته قد ترك منزله في نيويورك وسافر إلى تكساس ولا يمكنني الإتصال به، فسأكون شاكرًا إذا كنت تعرفه أن تدلني عليه فهو قريب لم أره منذ زمن... هو اسمه عمر هجرس ...
عقد دي بونت حاجبيه في تفكير، وعندما هم أن يتحدث قاطعه صوت طرقات على الباب ثم دخول السكرترة تعلن: - مستر بيل أندرسن وصل مسيو ويريد مقابلتك...
هتف دي بونت: - هاهو ذا أحد منافسيكم في توريد المنتجات الزراعية والحيوانية إلى متاجري كما إنه يقيم في تكساس قد يكون ذا منفعة لك، فأنا لا أذكر اسم صديقك ذاك على الإطلاق...
قالها ثم استدار إلى السكرتيرة مكملاً: - دعيه يدخل آبي...
وما هي إلا لحظات حتى دلف رجل ستيني طويل القامة ذو شعر أبيض كالثلج وبشرة ملوحة متوردة وعينان زرقاوان صافيتان... كان يرتدي بنطالاً من الجينز الأزرق الداكن عليها كنزة صوفية رمادية يبدو من أسفلها ياقة قميص بلون السماء كل هذا يعلوه معطف جلدي طويل وشملة صوفية حول عنقه.
"نيويورك... نيويورك... نيويورك... أكثر مدينة أمقتها في هذا الوقت من العام... وأنت تعلم ذلك جيدًا أيها العجوز جان ومع ذلك أصررت على أن نلتقي هاهنا..."
صاح بيل في صخب مرح وهو يخلع عنه معطفه، فنهض دي بونت قائلاً بوقار:
- مرحبًا بيلي... تبدو منهكًا...
ضحك بيل في حسرة قائلاً: - قل تبدو محطمًا... نحن في كارثة لم نشهد مثلها منذ زمن يا صديقي... ولولا كرمك وعرضك شراء كل رؤوس الماشية التي عندي بالسعر المعتاد لكنت بعتها بثمن بخس قبل أن تنفق..!
بعد أن تصافحا أشار دي بوينت إلى زين قائلاً:
- دعني أقدم لك مسيو زين رحيل صاحب مزرعة رحيل التي أستورد منها منتجاتنا العضوية ذات المواصفات الخاصة جدًا...
تنحنح زين وهو يصافح بيل قائلاً:
- لست صاحب المزرعة، في الواقع هي مزارع مملوكة لعائلتي وأنا مجرد مهندس زراعي أعمل بها...
صافحه بيل قائلاً: - أهلا مستر رحيل... يسرني جدًا لقائك... لكم وددت أن يعمل جوناثان ابني في مجال الزراعة عله يجد حلاً سحريًا للحال الذي علقنا فيه حاليًا لكنه فضل دراسة الطب...
قال دي بونت: - مسيو زين حاصل على دكتوراه في مجال المحاصيل والري يا بيل..
هتف بيل: - حقًا...؟ هل يمكن أن يكون هو من يجد لنا حلاً سحريًا للجفاف الذي تمر به تكساس هذه الأيام...؟؟
ابتسم زين بهدوء قائلاً: - ليست هناك حلولاً سحرية سيدي... ثمة شيء يُدعى دراسة حالة ثم وضع كل الحلول الممكنة وأختيار أقربها...
قال بيل: - نحن حقًا منافسين في مجال التوريد لنفس العميل، لكنني أطلب أن أستضيفك بمزرعتي في تكساس لعدة أيام كي ترى ما يمكن القيام به حيال هذا الأمر الذي يكاد يقضي على كل إنتاج المزرعة ويكبدنا خسائر هائلة... وسأدفع لك ما تطلبه...
قال زين بسرعة: - يسعدني ذلك سيدي ... ولن أطلب منك سوى أمر واحد فقط ...
قالها ثم نظر بامتنان إلى دي بوينت وهو يردف:
- تساعدني أن أجد صديق عزيز عنده مزرعة في تكساس لا أعرف أين هي تحديدًا.!!!
***
"هوا لازم أسافر معاك تكساس يعني..؟؟"
تسائلت نور وهي ترى زين مسرعًا إلى غرفته يلملم بضعة أغراض، استدار نحوها قائلاً:
- على فكرة أنا مش واخدك عشان سواد عيونك... أولاً أنت الوحيدة اللي ممكن تتعرفي على بنتي ثانيًا مسيو دي بونت عرف انك هنا وإنك مراتي فأصر مستر آندرسن إنك تيجي معايا مزرعته في تكساس...
صمتت نور لحظات مفكرة ثم قالت ببساطتها المعهودة:
- خلاص مافيش مشكلة... عشر دقايق وأكون جاهزة...
وما هي إلا دقائق حتى أستقلا سيارة بيل آندرسن الذي كان ينتظرهما والتي أنطلقت بهم إلى مطار لاجورديا، وبعد أربع ساعات تقريبا هبطت الطائرة بمطار دالاس في مدينة دالاس بتكساس.
"لن يستغرق الطريق أكثر من ساعتين حتى نصل إلى بالو بينتو"
قالها السيد بيل آندرسن الذي كان يمثل الشخصية الأمريكية التقليدية بكل مرحها وحرارتها وحماسها بينما يستقلون سيارته التي لم تكن بعيدة عن المطار، فتسائل زين الجالس بجواره:
- بالو بينتو؟؟
أجابه الامريكي: - نعم... بالو بينتو مقاطعة من مقاطعات تكساس مشهورة بالزراعة... لا تبعد عن دالاس بالسيارة سوى ساعتين تقريبًا...
رغم أنها الساعات الأخيرة من العتمة قبيل الفجر... إلا أن الجو كان أكثر حرارة وقيظًا من نيويورك، مما حدا بنور وزين أن يحذوا حذو السيد بيل في خلع معطفيهما الثقيلان الذين كانا يقياهما الصقيع النيويوركي.
- هل تعلم أنه يعاني 70 بالمائة من تكساس من جفاف استثنائي منذ العام الماضي..؟
بدأ السيد بيل حديثه أثناء قيادته مردفًا دون أن ينتظر إجابة:
- لقد إنخفض إنتاج القطن وتكبدنا خسارات فادحة، مستر رحيل، هذا العام... حيث بدأ المشترون، الذين كانوا سيذهبون إلى تكساس العام الحالي، كالمعتاد، لشراء القطن للأسواق الآسيوية، في البحث عن دول أخرى منتجة للقطن مثل البرازيل وأستراليا. ومع إقامة المشترين لعلاقات جديدة، فمن الممكن أن لا يعودوا إلى تكساس مرة أخرى عندما تعاود الأمطار السقوط...
صمت السيد بيل وهو يدور بسيارته ثم أكمل حديثه:
- أيضًا... من المحاصيل الأخرى التي تنتجها تكساس، والتي تأثرت بموجة الجفاف الفول السوداني والذرة والقمح... وسوف يمتد تأثير الجفاف إلى محاصيل الأرز في حال ما إذا أستمر الجفاف هذا العام بدوره. ويلم يسلم قطاع الماشية أيضًا، فبعد أن كنت أقوم بشراء التبن من مزارع تقع على بعد آلاف الأميال، أجبرني أرتفاع تكاليف الشحن إلى بيع أجزاء كبيرة من الماشية بسبب جفاف العشب وندرة المياه... ونظرًا لذبح الكثير من رؤوس الماشية، فمن المحتمل أن ينخفض المعروض في المستقبل.
أستمر السيد بيل أندرسن يسهب في وصف الجفاف وأثره على مزارعي تكساس وولايات أخرى كأوكلاهوما ولويزيانا ونيومكسيكو وكنساس.
- سترى بنفسك يا بني الحالة التي وصلنا لها من الجفاف... حتى البحيرة التي تطل مزرعتي عليها.. بحيرة بالو بينتو الشهيرة... صارت تقريبًا شبه جافة... تطفو الأسماك النافقة على سطحها الضحل...
صمت بيل أندرسن قليلاً وهو يتابع الطريق ثم أردف بعد تنهيدة يائسة:
- إن عدم اليقين يا صغيري هو ما يزيد الأمر صعوبة... إذا عرفنا ما الذي سيحدث بالضبط، كان من الممكن أن نتكيف مع الأوضاع..
تنحنح زين وقد شعر أن عليه استذكار كل ما درسه في مصر وإنجلترا عن الجفاف، فقال:
- لا تقلق مستر أندرسن... ثمة حلول كثيرة يمكنكم من خلالها التكيف مع هذا الجفاف الإستثنائي.. منها تغيير بسيط في نوعية المحاصيل مثلاً... أو إستخدام البرمجة الذكية للري أو إستخدام إدارة للرى بتطبيق طرق متقدمة تساعد في توفير المياه مثل نظام الري الناقص أو إستخدام تقنيات الري الكفء... سنرى أيهم أوقع عند معاينة مزرعتك..
وبينما أنخرط كلاً من زين والسيد بيل في نقاش حول نوع المزرعة والحلول الممكنة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بها، تاهت نور في حلم بإيجادها... تلك التي أرسلها القدر لإنقاذها ذات ليلة جليدية وقد كانت على شفا الموت...! تلك الجميلة الخمرية ذات العينين الفيروزيتين وقد طبعها الحسن بطابع جميل أسفل ذقنها. تذكرت كيف ضمتها إليها... شهقاتها الخافتة بعد أن وصل إلى جوفها الملتهب... سائل الحياة ... يداها الدقيقتان تتحركان في سعادة... إنها ابنتها حقًا... ابنتها التي لم تحملها بأحشائها ولم تعش معها سوى سويعات معدودة... فتاة شديدة الجمال لأم شديدة الإهمال.
- "هانحن ذي... مرحبًا بكم في مزرعة ماجدولين... مزرعة آل أندرسن..."
قاطع السيد بيل استرسال افكارها... بينما تدلف السيارة من بوابة حديدية ضخمة إلى ممر مضاء من الجابين إضائة لم تفلح بتبديد كل العتمة، فلم يظهر من المزرعة سوى أشباح أشجار ومنزل ضخم مبني على الطراز الفيكتوري مكون من ثلاث أجزاء لكل منهم سقف قرميدي منحدر. توقفت السيارة أمام الباب الرئيسي للمنزل ليترجلوا متوجهين إليه بينما السيد بيل يردف مستمراً في حديثه:
- تفضلا بالداخل... يمكنكما الاستراحة الآن ومشاهدة المزرعة في ضوء النهار بصورة أفضل...
تبعاه إلى ردهة فسيحة غارقة في الصمت وقد تناثرت بها قطع أثاث كلاسيكية، قال السيد بيل شارحًا:
- تقيم معي زوجتي مادلين وأبنتاي لورين وإيميلي، لكن يبدو أنهن قد خلدن إلى النوم... أما جوناثان ابني فهو مستقر في هيوستن ويأتي كل بضعة أيام...
هنا سمعوا جلبة عند الباب الذي دخلوا منه الذي لم يلبث أن أنفتح ودخلت منه فتاة عشرينية جميلة ترتدي معطفا طويلاً مفتوحًا تظهر أسفله تنورة جلدية قصيرة جدًا على قميص حريري ضيق مفتوح الصدر يكاد يكون شفافًا، كانت الفتاة تتغنى بأغنية ما سريعة وبنظرة إلى عينيها الزرقاوين وشعرها الأشقر المائل للبرتقالي وملامحها الجذابة يبدو جليًا أنها إحدى بنتي السيد بيل. أحنى زين رأسه غاضًا طرفه فورًا بينما حادثها السيد بيل:
- لورين...! أين كنتِ...؟
أبتسمت الفتاة ابتسامة واسعة وهي تجيب: - لقد كنت في حفل اقامته كلارا لشقيقتها قبيل زواجها...
عبس السيد بيل قائلاً: - ألازلتِ مصرة على إغضاب شقيقتك منك...؟
أشارت لورين بيدها بغير اهتمام ثم قالت مغيرة الموضوع:
- لكنك عدت سريعًا... ومعك ضيوف أيضًا..
قالتها وهي تتفحص كل من نور بحجابها الواسع وزين المطرق، فقال اليد بيل:
- هذا مستر زين رحيل مهندس زراعي وصديق مسيو دي بوينت وتلك مسز نور رحيل زوجته...
صافحت الفتاة نور ثم مدت يدها مصافحة زين الذي كان قد حمل حقيبته وحقيبة نور أيضًا ورفع رأسه قليلاً وهو يرد تحيتها: - مرحبًا آنستي...
رفعت الفتاة حاجبًا وشملت زين بنظرة غامضة، فقال السيد بيل:
- لوري... من فضلك أريهما الغرفة الشرقية الخاصة بالضيوف..
أومأت الفتاة في هدوء ثم قادت كلٍ من زين ونور أعلى الدرج حتى وصلا إلى غرفة بالأعلى ذات فراش خشبي وثير ودولاب مع مقعدين ومنضدة وشرفة صغيرة ونافذة ودورة مياه ملحقة. أدخلتهما لورين ثم أستأذنتهما ورحلت مغلقة الباب خلفها.
كانت إمارات التعجب مرتسمة على وجه نور، بينما قام زين بإزاحة أغطية الفراش العديدة ليأخذ منها لحافًا ووسادة قائلاً: - أتفضلي أنت عالسرير...
قالها وهو يفرش اللحاف أرضًا، إلا أنه توقف وقد لحظ علامات التعجب والشرود على ملامح نور، فسألها دون إهتمام: - فيه حاجة..؟
مطت شفتيها وهي تقول: - أنت ليه ماسلمتش على البنت...؟
ذُهل من سؤالها، إلا أنه رد ساخرًا: - ما أنت ماسلمتيش على مستر بيل...!
قالت: - أيوة... عشان أنا معتقدة أنه لا يجوز شرعًا مصافحة الرجال...
ضحك زين بسخرية قائلاً وهو يفتح حقيبته:
- الأمر زي ما نزل على الستات نزل على الرجالة على فكرة... بالعكس الأمر أصلاً للرجال في الحديث الصحيح عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له"...
تابعته نور بعين شاردة وهو يخرج ملابسه ويدلف إلى دورة المياه الملحقة بالغرفة وألف تساؤل يجوب عقلها عن هذا الرجل ذو التركيبة العجيبة... وكيف هي المرأة التي كانت زوجته يومًا ما...!!
خرج زين وقد بدل ملابسه بينما وجهه وذراعيه إلى المرفقين يقطرون ماءًا... تناول بُساط الصلاة الخاص به ثم توجه إلى الشرفة... حدد القبلة بواسطة البوصلة والخرائط بهاتفه الذكي، ثم نصب قدميه يصلي... يتوسل إلى الله أن يعثر على صغيرته... فقد تعب حقًا.
***
طاولة طعام دائرية... يستقر حولها السيد أندرسن... لورين وشقيقتها إيميلي التي كانت عكسها في كل شيء... فإيميلي نصف شقراء ذات عينين خضراوين بشرتها البيضاء تحمل الكثير من النمش الذي يشي بأصولها الإيرلندية... شعرها ثائر معقوص كيفما أتفق... ملابسها محتشمة مكونة من تنورة طويلة وقميص من الجينز ذو أكمام طويلة... حاجبيها معقودين على الدوام... كلماتها قليلة قاطعة.
أما التي زلزلت قلب نور بشدة فور رؤيتها كانت مادلين... زوجة السيد بيل... ببشرتها البيضاء الشاحبة وعينيها البنيتين المتعبتين اللتين يذكرانها بعيني أمها.
أنتهوا من تناول طعام الإفطار ولم يغب عن نور طيبة قلب السيدة مادلين والنظرات الممتعضة من قبل إيميلي التي يقابلها نظرات غامضة من لورين تشمل زين بها. توجهوا جميعًا إلى مجلس جلدي بني اللون حول مدفأة تقع أسفل شاشة تلفاز ضخمة في تكوين صخري أبيض اللون تحيط به مكتبة من الجانبين، وكانت ثمة نافذة ضخمة بطول الحائط المحيط بركن المجلس ومنضدة الطعام وقف زين أمامها يتأمل المزرعة التي قضى الجفاف على الكثير من خضارها لتبدو الأشجار خالية من الأوراق وجافة وتتحول الحشائش الخضراء في أكثر من مكان إلى اللون الأصفر.
- "أرأيت ...!! يمكننا أن نخرج الآن لتشاهد كل شيء على الطبيعة"
قالها السيد بيل، بينما جلست مادلين على مقعد هزاز بجوار المدفأة وهي تقول باسمة:
- أما نحن فسنتناول الشاي هنا في الظل...
بادلتها نور الأبتسام وهي تجلس على مقعد قريب بينما هبت لورين تلحق بكلٍ من زين وأبيها هاتفة:
- سأرافقكما أبي..
عضت نور على شفتها في غيظ وهي تتأمل الباب الذي خرجوا منه في شرود أخرجتها منه كلمات إيميلي الساخرة:
- إذن.. هو من يفرض عليك أن تتغطي هكذا...!
قالتها وهي تشير إليها باستهزاء قاصدة زين، صوبت أمها نظرة عتاب حادة إليها ثم ابتسمت لنور قائلة:
- عذرًا... لكن إيملي معارضة لكل شيء... معارضة لبعض الأديان ولبؤس البلدان الفقيرة، معارضة لتلويث البيئة، معارضة لعمل الأطفال... لم تتخلف عن اي إحتجاج من إحتجاجات واشنطن ضد صندوق النقد الدولي والبنك الدولي...
نظرة إلى ملابسها المحافظة والصليب المستقر بطوق عنقها أدركت نور أن إيملي التي تبدو في أواخر العشرين ليست معارضة للدين على إطلاقه، وهذا نموذج تعرفه جيدًا وقابلته كثيرًا... فأرتسمت ابتسامة ودودة على شفتي نور قائلة:
- لا عليك سيدتي.. من حقها أن تعبر عما يدور بخلدها... وهي على صواب على فكرة...
أتسعت عينا مادلين في غير تصديق، وبينما بدأت بوادر ابتسامة منتصرة ترتسم على شفتي إيملي... عاجلتها نور باستطرادها:
- الحجاب رمز سلطة الرجل على المرأة بالفعل... لكن ليس في الإسلام...
صمتت قليلاً ثوانٍ معدودات بطريقة مدروسة ثم أكملت وهي تنهض نحو المكتبة لتتناول كتاب ما:
- الحجاب رمز سلطة الرجل على المرأة هاهنا...
قالتها وهي ترفع الكتاب المقدس أمامهم، فضحكت إيميلي قائلة: - حقًا...؟؟
فتحت نور الكتاب وأخذت تتلو منه: ((رسالة القديس بول الأولى إلى أهل كورنثس: الإصحاح 11:
6 إذ المرأة، إن كانت لا تتغطى، فليقص شعرها. وإن كان قبيحا بالمرأة أن تقص أو تحلق، فلتتغط
7 فإن الرجل لا ينبغي أن يغطي رأسه لكونه صورة الله ومجده. وأما المرأة فهي مجد الرجل
8 لأن الرجل ليس من المرأة، بل المرأة من الرجل
9 ولأن الرجل لم يخلق من أجل المرأة، بل المرأة من أجل الرجل
10 لهذا ينبغي للمرأة أن يكون لها سلطان على رأسها))
كانتا تتابعانها بذهول وقد ألجمتهما ... أغلقت نور الكتاب المقدس ورددت آخر آية مرة أخرى:
- (Therefore the woman ought to have a symbol of authority on her head)
أعادت نور الكتاب إلى رف المكتبة وعادت لتجلس أمامهما وهي تكمل رد تلك الشبهة:
- في الإسلام يا عزيزتي... الأمر من الله إلى المرأة مباشرة... ولها أن تنفذ فتثاب أو لا تنفذ أمر الله فتترك في مشيئته.. قال الله تعالى في القرآن ((وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن))..
عادت نور للصمت وهي تتأمل علامة التفكر البادية على وجهي مادلين وابنتها إيميلي ثم أردفت:
- لماذا تستغربين ردائي وأغلب صور السيدة العذراء عندكم تبدو فيها وهي تتغطى كليًا... وراهبات الكنيسة أيضًا يتغطين... عزيزتي إيميلي... أنا أُجبر المجتمع على أن يعاملني على أنني إنسان متكامل ليس فقط مجرد أنثى مغرية لا ينظر إلا إلى مناطق معينة في جسدها... حجابي يحميني ويفرض على الآخر احترامي..
دراستها للكتاب المقدس... كل أفكار الملحدين.. اليهود.. العلمانيين الذين قد يلقون بها على الإسلام كانت درعًا واقيًا يصد هجماتهم بل ويردها مدحوضة، وبينما شردت كل من إيميلي وأمها في كلام تلك الزائرة العجيبة ... تذكرت نور لورين ونظراتها العجيبة إلى زين ولحاقها به.. وعاودها غيظًا لا تدري سببه..!
***
الجفاف... الجفاف يفرض سيطرته بوضوح على أراضي تكساس الخضراء محيلاً أغلبها للصفرة الكئيبة .. البحيرة التي جفت ولفظت أحيائها نافقة على الأرض تبدو لوحة واضحة للموت ..!
" لقد كانت درجات الحرارة خلال الصيف الماضي في أعلى معدلاتها، فقد وصلت درجة الحرارة في أوستن على سبيل المثال إلى 100 درجة فهرنهايت، مما أدى إلى جفاف التربة وزاد من الجفاف الذي تراه .."
قالها السيد بيل في أسى لزين الذي شهد قدر الخسارات التي من الممكن أن يتكبدها مزارع مثله بإنقطاع غيث السماء... مصدر الحياة الأعظم بتلك البلاد.
- "لقد أضطررت لبيع أغلب الماشية عندي قبل أن تنفق بدورها بسبب جفاف العشب وندرة المياه... فالتبن الذي أقوم بشرائه من مزارع تبعد آلاف الأميال باهظ السعر جدًا.." أكمل السيد بيل وهو يسير مع زين عبر مدرجات صخرية طبيعية غاية في الروعة تنتشر عليها نباتات الصبار متجهين إلى حظائر الماشية التي بدا عليها الهزال حقًا ومنها توجه إلى إسطبلات الخيل وقد أزدادت نبرة الأسى في صوته وهو يقول:
- لم أكن أتخيل يومًا أنني قد أبيع جيادي التي أعشقها جدًا... لكن... ما باليد حيلة..
جوادٌ عربي أصيل هو... أسود اللون قوي ذكره بجواده الأدهم... إقتناء هذا الجواد في حد ذاته... سعادة!
" رائع ... أليس كذلك...!!"
سمع تلك الجملة من خلفه، فانتبه من شروده مع الجواد لتقع عيناه عليها... تقترب منه... تضع يدها على غرة الجواد بجوار يده وهي تقول بهمس:
- إنه سينباد جوادي أنا... فأنا أعشق كل ما هو عربي... شرقي...
ناريةٌ حقًا... قامتها فارعة... بشرتها كمرمر متلئلئ... رأسها المكلل بشعر متوهج كالشمس... الجينز الضيق الذي بالكاد يتماسك أسفل وسطها كاشفًا جزء كبير من بطنها... قميصها الوردي الذي لم تغلق سوى زرين وسطه كاشفًا عن جيدها وصدرها ...
زفر في ضيق... أين ذهب السيد بيل...؟ أستدار نحو باب الإسطبل فسبقته إليه برعونة جعلت التصادم لا مفر منه... سقطا على كومة التبن الباهظة... أحاطت عنقه بذراعيها لتجبره على السقوط في مجل جيدها الناعم الناصع وهي تهمس:
- الرجال العرب لا مثيل لهم ... عذريتهم ... عشقهم للأسرة ... كل ذلك يأسرني...
وأخذت تمرر يدها على صدره في شبق لتحل أزرار قميصه مردفة:
- خذني إليك لنبدأ ليلة من ألف ليلة ... دعني أكون زوجتك ... محظيتك ... صـ..
دفعها بكل ما أستجمع من قوة ونهض لاهثًا وهو يقول:
- عذرًا مس لورين... لست من ذلك النوع من الرجال...
قالها ثم أسرع إلى الخارج... جلس على أحد المدرجات الصخرية الطبيعية يلملم شتاته.. يعدل هندامه.. يمرر يده بشعره الأسود ويزفر في عنف وهو يتأمل نباتات الصبار المنتشرة على جانبي الصخور متعجبًا من إحدى تلك النباتات التي خرج من وسط أشواكها زهرة صفراء ناعمة رقيقة... وسط الجفاف وأشواك الصبار تنبت على استحياء... كأمله في إيجاد ابنته الذي ينبت وسط أشواك يأسه... أمله في إنتشال ابنته من امرأة لا تختلف كثيرًا عن تلك التي كانت تراوده عن نفسه منذ قليل... خدعته بتقوى زائفة ثم طعنته ورحلت بفلذة كبده... ضرب الصخر بقبضته وهو يقسم أن يأخذ ابنته منها ولو وصل الأمر إلى... اختطافها..!!!
*******

Just Faith 18-12-17 01:40 PM

-5-

” وأما "قبل" ... فقد رأيت عندك الفجر وأخذت منه نهاراً أحمله في روحي لا يظلم أبداً . “
مصطفى صادق الرافعي، أوراق الورد

***

تكبيرة... اثنتان ... سبعة تكبيرات تليها الفاتحة وسورة الأعلى وإتمام ركعة ...

تكبيرة ... اثنتان ... خمس تكبيرات تليها الفاتحة وسورة الغاشية ثم إتمام ركعة أخرى.

تسليم ... قلب المعطف إلى الناحية الأخرى وابتهال بالدعاء طلبًا للغيث تؤمن عليه مأمومته الوحيدة ... وأربعة أزواج من الأعين تتابعهما بدهشة عارمة من مكان قريب.

كانت الرياح قد بدأت تشتد ذلك المساء... تتطاير عبائتها وهي تسير بجواره عائدين إلى المنزل بعد أن أنهيا صلاتهما في العراء أمام باب منزل مضيفهم لتعلن السيدة مادلين أن طعام العشاء قد تم إعداده مع دعوتهما إلى طاولة الطعام.

"ما كنه ما فعلتماه توًا...؟"

تسائلت إيميلي ببرودها المعتاد، فأنطلقت نور تحدثها عن صلاة تُدعى صلاة الإستسقاء. أما زين... فقد نظر إليها عبر المائدة مستدعيًا حديثهما صباح اليوم عندما حدثها عن مدى الجفاف والجدب الذي وصلت الأرض إليه ومحاولاته التي يبذلها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولأنها – كالعادة - متفردة.. غير متوقعة.. كان ردها بدوره عجيبًا... وهو أداء صلاةً للإستسقاء ..!!

" – أنتِ مش واخدة بالك أحنا فين واللا إيه...؟

- يا باشمهندس... صلاة الإستسقاء سنَّة ثابتة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما تتصحر الأرض، ويحلَّ الجفاف، وتقل الميه، أو يتأخر المطر عن وقت نزوله. وعلى فكرة... بعض العلماء أجازوا خروج غير المسلمسن مع المسلمين في الإستسقاء ليؤمنوا على الدعاء، وماينفعش نمنعهم لو طلبوا الخروج مع المسلمين لأنهم بيطلبوا أرزاقهم من ربهم سبحانه، ومش بعيد أبدًا أنه يجيبهم؛ لأن ربنا ضمن أرزاقهم زي ما ضمن أرزاق المؤمنين.

- ......!

- مستغرب ليه...؟! أهل الكتاب أو غيرهم بيدعوا ربنا فعلاً.. لأ ... دول بيخلصوا ليه الدعاء وقت الشدة وربنا سبحانه بيجيبهم.."

قاطع تفكيره في كلام نور طرقات مرحة على باب المنزل ثم إنفتاحه على مصراعيه ليطل عليهم شابًا يماثله في العمر تقريبًا يتأبط امرأة نحيفة ذات شعر أسود متوسط الطول تعقصه على هيئة ذيل حصان وتضع عوينات طبية على عينيها الرماديتين. نهضت مادلين بسعادة وهي تهتف:

- جوني ... جوني ...

بينما صفق السيد بيل بيديه هاتفًا:

- أخيرًا عاد من ذهب مع الريح ولم نره منذ ما يزيد عن شهر...!

كان جوناثان شديد الشبه بأمه... بعينيه البنيتين وشعره البني القصير بينما ورث عن أبيه القامة الفارعة والمنكبين العريضين والجسد الرياضي المنحوت... احتضنته أمه وصافحت صاحبته في حرارة وهي تقول:

- هذا ابني الدكتور جوناثان وتلك صديقته دكتور ستيسي هانسن..

ثم أشارت إلى كلٍ من زين ونور قائلة:

- مستر ومسز رحيل يا جوني اللذين حدثتك عنهما بالهاتف...

رحب جوناثان بهما وهو يخلع معطفه وكذا فعلت صديقتهثم أنضما إلى مائدة العشاء وهو يقول بمرح:

- يبدو أن العشاء قد بدأ من دوني...

أخذت مادلين في وضع الأطباق وهي تقول معاتبة:

- أنت من تأخرت عزيزي ...

داعبها جوناثان بسبابته في أنفها وهو يقول:

- لازلتِ صارمة في المواعيد مادي ...

ضحكت أمه في سعادة وقد صار وجهها يشع فرحًا، فقال السيد بيل:

- هاهي ذي وكأنها تتعافى من كل ما يتعبها رغم أنها ...

صمت تحت تهديد نظرات مادلين التي كانت تأخذ مقعدها وتشير بعينيها لزوجها أن لان فهم جوناثان فنظر إلى أمه وهو يقول معاتبًا:

- لازلت تهملين في جلساتك أمي..؟!!!

زفرت مادلين في ضيق ثم رسمت على وجهها ابتسامة مصطنعة وهي تقول مغيرة الموضوع:

- هيا جوني... تناول طعامك الذي طلبت مني أن أعده خصيصًا...

***

حركة سريعة.. همهمة... ثمة شيء ما ليس على ما يرام... فتح عيناه مستيقظًا... لا يدري أما يشعر به حقيقة أم حلم ...!!

رفع جسده من على الأرض مستندًا على مرفقيه... ثمة أضواء تسطع... و... إنها هي... تقف بحجابها بجوار النافذة تتبتسم ابتسامة حالمة وهي تسند ذقنها على قبضتها.

- "هوا فيه إيه...؟؟؟"

قالها وهو ينهض ماسحًا وجهه، استدارت إليه... هزت كتفيها وقالت بصوت متهدج من التأثر أو السعادة:

- مُطرنا بفضل الله ورحمته...

عيناها مترقرقتان... ابتسامتها صادقة... يقينها بالله الذي جاوز يقينه ربما... إخلاصها في كل شيء تقوم به... سعادتها لسعادة الآخرين... كل ذلك أخذه للحظات بعيدًا عن ضوء البرق وصوت الرعد والمطر المنهمر معانقًا الأرض الجدبى بعد طول عطش؛ رغمًا عنه تاه للحظات في عينيها على الضوء الشاحب لهاك المصباح وضوء البرق الذي يومض فجأة حتى رأى ذلك العرق النافر بجبهتها وتورد خديها وإشاحتها بوجهها في إرتباك لتعاود النظر من النافذة، فمرر يده بعنف في شعره علَّه يفيق من تلك الترهات ثم توجه إلى النافذة بدوره ليجاورها متأملاً المطر المهمر بغزارة.

تحت المطر يرقص السيد بيل مبتهجًا مع لورين تارة ومادلين أخرى وستيسي ثالثة ويصفق بصخب، بينما وقف كلاً من جوناثان وإيملي تحت مظلة على مقربة يتابعان الموقف في سعادة.

- "على فكرة... الفجر أذن من شوية.. ألحق الصلاة قبل الشروق.."

كانت تلك همساتها الهادئة التي عانقت سمعه بينما لازالت نظراتها تعانق زجاج النافذة الذي أمامها؛ استدار إليها ثانية يملؤه التعجب من هذه المرأة المختلفة...! أما نور... فرغم الأمطار والبرودة بالخارج... شعرت بسخونة شديدة تكتنف وجنتيها عندما صوب إليها تلك النظرة ثانية... تلك النظرة العجيبة غير المعهودة منه... شعرت بارتباك عندما جاء ليقف بقربها لينظر من النافذة... وعندما قررت قهر إرتباكها وإبعاده بأي حجة.. أخبرته عن صلاة الفجر... لتجده يعاود تصويب تلك النظرة إليها ثانية، فآثرت أن تهرب هي من مرمى عينيه، لتنسحب بهدوء نحو أحد المقعدين المجاورين للفراش بينما توجه هو يتوضأ للصلاة.

لم يستطع أي منهما معاودة النوم... كلٍ منهما في مكانه... ويعم الغرفة صمتٌ صاخب... فخلف تلك القشرة الصامتة التي تحيط بكلٍ منهما تضج ألف فكرة حيرى كليث حبيس متعطش لشيءٍ لا يدري ما هو. بدويان معتدان عنيدان تقف عزة كلٍ منهما بنفسه وإعتداده برأيه أمام إشباع تلك الأفكار الحيرى بإجابات منطقية. مرت عدة ساعات عليهما حتى سمعا طرقًا خفيفًا على الباب يدعوهما لتناول الإفطار... خرجا من باب الغرفة تباعًا لـ ... ليصافح ناظريهما مشهد أنعقد له حاجبا زين في غضب بينما تضرج وجه نور وهي تشيح به بعيدًا. أنهى جوناثان وستيسي عناقهما الحار أمام غرفتيهما التي تجاور غرفة زين ونور وأخذت ستيسي تعدل شعرها المبعثر وتضع منظارها على عينيها، بينما توجه جوناثان إلى السلم وهو يقول غامزًا لزين:

- جو يبعث على الرومانسية... أليس كذلك...؟

هبط زين معه بحنق دون أن يعقب، بينما أنضمت ستيسي إلى نور وهي تقول ضاحكة بخجل:

- مجنون هو جون... لكنني سعيدة وسأذهب معه في جنونه إلى أي مدى... فقد وعدني أن يتقدم لخطبتي رسميًا أمام اسرته في هذه الإجازة ... أخيرًا بعد عامين من الحب...

شعور عام بالغثيان غمر نور... ألهذه الدرجة المرأة عندهم مبتذلة لا ثمن لها... تعيش مع رجل... تعاشره أملاً في أن يحن عليها يومًا ويتزوجها وإذا أراد أن يرحل عنها في أي وقت... فإنه يرحل بكل بساطة وليس لها عنده حق واحد...!!!

وفي ردهة المنزل... كان السيد بيل بمرحه المعتاد والذي زاد هذا الصباح ابتهاجًا بالأمطار وانتهاء عصر الجفاف يدعوهم إلى إفطار فاخر مع بضعة كؤوس من النبيذ ...

- "نبيذ سكريمنج إيجل 1997... للإحتفال ..."

قالها السيد بيل في نشوة، فتوقف زين قليلاً بينما قالت نور بسرعة في لهجة قاطعة:

- عذرًا سيد بيل... نحن لا نشكر ربنا هكذا... نحن لا نشرب الخمر أبدًا... يمكننا المكوث بغرفتنا كي لا نضايقكم بإحتفالكم..

إلا أن مادلين أسرعت بتطويق كتفي نور قائلة للسيد بيل:

- بيل... أنت تعرف جيدًا أنه لا نبيذ نهارًا... هيا... أذهب بنبيذك هذا بعيدًا...

قالتها ثم استدارت إلى نور وزين مردفة:

- تفضلا للإفطار عزيزاي وعذرًا على الإزعاج...

تأبط السيد بيل ذراع جوناثان وقال ضاحكًا:

- حسنًا سوف آخذ هذا البطل ونحتسي بعض الأقداح بعيدًا...

قالها ثم توجه إلى مجلس قريب من طاولة الطعام بينما استقرت ستيسي بجوار لورين وإيميلي حول منضدة الطعام وكانت مادلين تتحرك بين غرفة الطعام والمطبخ تضع بعض الأطباق والأباريق الساخنة. وجهت لورين نظرة لعوب إلى زين تلقاها بضيق فقال مضطرًا:

- وأنا سأتناول قهوتي مع مستر بيل وجوناثان ...

ضحك السيد بيل في صخب هاتفًا:

- آاااها ... ستنضم إلى حزب الرجال.. هع ...

تأملت نور لورين التي نهضت بكسل.. كانت ترتدي كنزة سوداء مغزولة بغرز مفتوحة من ماركة أميريكان إيجل طراز أوبن نيت سويتر على بنطال من الجينز من نفس الماركة طراز توم جيرل ممزق بعدة مواضع. حملت القهوة وذهبت إلى زين ثم انحنت نحوه ليتساقط شعرها نصف الأشقر الطويل بجوار كتفها وهي تهمس:

- سهامك نحو السماء أمس لم تُخطيء هدفها ...

لم تشعر نور بنظراتها التي تعقبت تلك الفاتنة المنحنية نحو زين هامسة بشفتيها المكتنزتين... لم تشعر بانضمام قبضتيها ولا إنعقاد حاجبيها، لكنه هو رآها على تلك الحالة ... وارتسم شبح ابتسامة على شفتيه رأتها نور فزاد غيظها ظنًا أنه يبتسم لهمسات الفاتنة جواره ..!!!

أفاقت على صوت مدوِّي لتحطم شيء ما في المطبخ... ولأنها كانت الأقرب إلى بابه في وقفتها، أسرعت نور إلى المطبخ لتجد السيدة مادلين تقف مستندة إلى طاولة المطبخ تحاول رسم ابتسامة على شفتيها وهي تضع يدها على رأسها. أمسكت نور بها في اللحظة التي توافد بها ابنائها وزوجها وستيسي إلى المطبخ، فحاولت إضفاء مصداقية على ابتسامتها وهي تقول:

- هااي... لم يحدث شيء... طبق كان على حافة المنضدة وسقط... هيا... كلٌ يعود إلى مكانه...

تطلع بيل إليها في عتاب... لازالت تمتلك ذات الشخصية القوية رغم مرضها...!! فقالت نور مطمئنة:

- مسز مادلين بخير وأنا معها لا تقلقوا...

عاد الجميع بينما استدارت نور إليها قائلة:

- لقد رحلوا ... لكنك لستِ بخير أبدًا... أثمة خطبٍ ما..؟

ربتت مادلين على كف نور الذي يسندها خلال سيرهما إلى طاولة الطعام بالخارج ثم قالت بعد تنهيدة حارة:

- خطب واحد...؟ ثمة خطوب يا صغيرتي... لكنني لن أستسلم لأيٍ منها...!

جلستا حول منضدة الطعام... كانت كلٌ من ستيسي ولورين منشغلتان بهاتفيهما بينما تمسك إيملي بكتاب ضخم تقرأ فيه ولازال السيد بيل يتحدث دون انقطاع عن المطر الغزير الذي استمر لساعات طويلة قبل أن تعاود الشمس إشراقها بقوة مرة أخرى، يستمع إليه زين بإنصات وجوناثان بشرود ..!

"هل لي أن اسأل ما هي تلك الخطوب سيدتي...؟" تسائلت نور، فأجابتها مادلين:

- أولاً... أنا مادي فقط.. ثانيًا... بكل بساطة... إنه السرطان... ذلك الخبيث يحاول التهام خلاياي لكنني سأقاوم ...

عقدت نور حاجبيها في تأثر وزمت شفتيها متذكرة أمها، فقالت مادلين بمرح:

- لا يا صغيرتي... لم يقتلني السرطان بعد لتتأثري هكذا...

قالت نور بنبرة مبحوحة شبه باكية:

- لقد قتل أمي... لذلك... كنت قد قررت أن ألتحق بكلية الطب لأبحث وأبحث عن شيء من شأنه القضاء على ذلك المرض الخبيث... لأساعد مرضاه بكل طاقتي... لكن ..

قاطعتها مادلين بحماس:

- حقًا..؟ جوناثان نفس الشيء... دخل كلية الطب في الأصل أملاً في مساعدتي... أو مساعدة مرضى السرطان عمومًا... وهاهو يصبح من أكفأ الأطباء في مجاله...

قالتها ثم رفعت صوتها قليلاً هاتفة:

- جوني... تعال... إن نور تعمل في نفس مجالك...

نهض جوناثان مسرعًا ليلجلس في مواجهة نور قائلاً:

- أحقًا...؟ أنتِ طبيبة في مجال أبحاث السرطان مسز نور...؟

أطرقت نور برأسها وقالت بجدية تامة:

- لقد كنت طالبة في كلية الطب بمصر قبل تركي لها والمجيء إلى أمريكا.. لكنني قدمت بحثًا طبيًا في مسابقة أجراها مركز إم دي أندرسون للسرطان في جميع أنحاء الولايات المتحدة اشتركت به عبر مكتبة واشنطن هايتس التي كنت أتردد عليها بمنهاتن و... الحمد لله نال بحثي المركز الأول ...

ضحكت مادلين بشدة هاتفة:

- مركز إم دي أندرسون التابع لمركز تكساس الطبي..؟

نظرت إليها نور في غير فهم وهي تقول:

- نعم ... هو ... ماذا في ذلك..؟

ابتسم جون ابتسامة جميلة زادت من وسامته وهو ينحني نحوها عبر المائدة قائلاً:

- أنا تحديدًا ... أعمل هناك ... في مركز إم دي أندرسون بهيوستن ...

قالها ثم عقد حاجبيه وعض على شفته السفلى مردفًا:

- مهلاً ... أنتِ إن أر صاحبة بحث بدائل العلاج الكيماوي والإشعاعي بتجويع الخلايا السرطانية...؟؟؟

أومأت نور برأسها متمتمة: - نعم ... أنا ... نور رحيل ... إن أر..

تراجع جوناثان وهو يضحك بحماس قائلاً:

- ستيسي ... انظري من صاحبة البحث... لا يمكن أن يحدث هذا... انظري صاحبة البحث الذي نعمل عليه منذ زمن...

رفعت ستيسي رأسها عن هاتفها وهي تنظر إلى نور ببرود قائلة:

- آها ... جيد جدًا ...

ثم عادت إلى هاتفها ثانية بينما جوناثان يقول بحماس:

- يجب أن نجلس لنتناقش في هذا البحث... لقد حاولت مرارًا الوصول إلى صاحب أو صاحبة البحث لكنني لم أتمكن من الوصول إلى أية معلومات سوى رقم هاتف مغلق على الدوام...!

كان زين يقف منذ لحظات خلف مقعد نور صامتًا، لكنه تدخل في تلك اللحظة قائلاً بخشونة:

- عذرًا دكتور جوناثان... لكننا هنا الآن في مهمة محددة وليس لدينا وقت لمناقشة أي بحث... ربما في وقتٍ آخر...

قالها ثم وجه حديثه لنور قائلاً بصرامة بالعربية:

- ممكن تتفضلي معايا يا مدام...؟

نهضت نور وهي تستأذنهم ثم لحقت بزين مسرعة، فقال جوناثان مندهشًا:

- ماذا به...؟

كانت لورين تتابع الموقف في صمت واضعة سبابتها بين أسنانها فردت على شقيقها بهيام وهي لازالت تنظر إلى حيث أختفى كلٍ من زين ونور:

- هكذا هم رجال العرب...!!

******

"أعتقد أننا جايين في مهمة محددة ... مش جايين نستعرض...!"

قالها زين في حنق فقالت نور بتهكم:

- آاااه صح ... مش جايين نستعرض خالص ولا نشرب القهوة على همسات ناعمة ولااا أي حاجة ...!

قال زين بحدة:

- من فضلك أنا مابحبش الأسلوب ده... أنا جاي هنا عشان أدور على بنتي وبسسس... مش عشان تثبتي مجدك العلمي يا مدام... ويا ريت تحترمي أنك واحدة متجوزة... ولو حتى قدام الناس...

عقدت ذراعيها على صدرها قائلة بهدوء:

- والله أنا بأحترم نفسي وديني قبل كل شيء وأنا مش شايفة إني عملت حاجة تقلل من الإحترام ده أبدًا... الراجل سألني بكل احترام وأنا رديت عليه بجدية تامة ...

زفر زين في حنق زفرة كادت تحرقها مع الشرار المتطاير من عينيه السوداوين ثم خرج من الغرفة هادرًا مغلقًا الباب خلفه بعنف.

رغمًا عنها... تسللت ابتسامة جذلة على شفتيها لم تدر كنهها أو سببها... أو هي تكابر على الاعتراف به، قامت بحل حجابها أمام المرآة... تخللت شعرها الداكن الناعم الطويل بأطراف أصابعها في دلال لم تعهده في نفسها... عدلت من غرتها التي استطالت لتعانق وجهها، ثم جلست على الفراش شاردة ... وما هي إلا لحظات حتى غلب عليها التعب وقلة النوم فراحت في سبات عميق... هاديء.

أما زين.. فقد خرج من باب المنزل الخلفي... سار عبر لسانٍ خشبي طويل ممتد حتى بحيرة بالو بينتو التي تغير حالها بين عشية وضحاها وعادت لتمتلئ من جديد عقب أمطار الأمس الغزيرة... جلس على طرف اللسان .. خلع نعليه لتعانق قدميه مياه البحيرة الوليدة شاردًا في ردة فعله المبالغ فيها حانقًا من نفسه.

"ناعمة وجميلة وهادئة... أليس كذلك..؟"

عقد حاجبيه بضيق عندما تناهى إليه صوتها من خلفه مباشرة فنظر إليها في غير فهم لتقول:

- مياه البحيرة ..

قالتها ثم أغمضت عينيها وعضت على شفتها السفلى في إغواء وهي تقول:

- إممم ... لكم أفتقد السباحة بها..

أمسك زين بحذائه وهمَّ بالنهوض لتنهض لورين - المنحنية خلفه - بدورها واقفة و... تتجرد من ملابسها... تمامًا.. تمرر يدها على عنقه... تسير على الإفريز الضيق ملتصقة به وهي تهمس:

- ألن تسبح معي...؟

و... تقفز إلى البحيرة ... قطرات المياه تصفعه... وكأنه للحظة كاد أن يهم بها... يرتدي حذائه بسرعة بأيدٍ مرتعشة... ويفر بعيدًا عنها؛ يدخل إلى المنزل... يصعد درجات السلم قفزًا.. يدلف إلى الغرفة ويغلقها خلفه لاهثًا مستغفرًا.

حاول أن يتجنب النظر إلى الفراش الذي تستلقي عليه نور وتبدو في سبات عميق ويتوجه مباشرة إلى لحافه على الأرض، لكنه وجد نفسه يدور حول الفراش... يجلس بجوارها ليطالع وجهها النائم... "إنها زوجتك.." شيء ما يهمس بداخله ليقتل به ذاك الشعور بالذنب الذي يكتنفه وهو يتأملها... أهدابها السوداء الطويلة المتعانقة.. شفتاها الدقيقتان... وجنتاها الممتلئتان... ليست طاغية الفتنة والجمال كلورين لكن بها شيء من جمال هش يجذبه.. وكأنها غزال نائم... لا يدري لماذا تذكر زهرة الصبار الصفراء الرقيقة التي رآها...!

تلك المرأة الممتلئة بالتناقضات تثير جنونه... لا يمكن أن تكون تصرفاتها البسيطة الممتلئة إيمانًا وحياءًا مجرد تمثيل...! حاول إقناع نفسه أنها ربما تابت عن خيانات النساء...!! مد نحوها يده رغمًا عنه وكأنه مسلوب الإرادة.. وكأن ثمة هالة جذب قوية تجذبه إليها دونما إرادة فعلية منه..! مد يده يزيح خصلاتها الفاحمة من على وجهها، ثم يمرر أصابعه في دفيء على وجنتها حتى ذقنها و... تتحرك شفتاها... تفتر عن ابتسامة حالمة... تجمد في مكانه... أمستيقظة هي...؟ لا... إنها تحلم على ما يبدو... تُرى... من الذي يزور أحلامها فينتزع تلك الابتسامة الفاتنة منها..؟

هنا تجسد أمامه طيفٌ ما شكَّل حاجزًا ضخمًا بينهما لا يمكنه تخطيه أبدًا...

نعم ... إنه هو ...

طيف شقيقه الراحل ..

تراءى له وجه زكريا بكل حنكته في التعامل مع النساء...

حتمًا عشقته حتى الثمالة...

حتمًا يزور أحلامها كلما غفت...

احترق بلهيب ظنونه... فجذب يده عنها في غضب، و.. عاود الخروج مسرعًا من الغرفة دون أن يلحظ إنكماش ابتسامتها...!

ففي عالم الحلم هنالك رأت نفسها وولدها يسقطان من علٍ ورأت من يأتي وسط الغيوم يمد لها يده فابتسمت له... وعندما ظهر وجهه تعجبت... إنه هو... زين العابدين رحيل العربي... زوجها اللدود...!!!!

استيقظت فجأة مأخوذة بما رأت... لا تدري ألازالت تحلم أم إنها قد أستيقظت حقًا، فرائحة عطره المميز تبدو قريبة منها جدًا... ليس عطره الذي ينتشر في الغرفة كلما وضع بضع زخاتٍ منه... بل رائحة عطره الممتزجة برائحة جسده... ذلك الخليط المميز الذي تشتمه في ملابسه التي اعتادت غسلها منذ أن انتقلت للعيش بمنزله ...!!!

أفاقت في غير فهم تتشمم الوسادة المجاورة لها والتي تَعُبُّ برائحته ...!

"أحلمٌ هو أم حقيقة ... أم إنني قد جننت..؟!!!"

نهضت على عجل... أرتدت حجابها... خرجت إلى الشرفة... لتراه... بعيدًا جدًا... يركض بسرعة بالأرض الشاسعة حول المنزل... تمتمت لنفسها أنها حتمًا قد جُنَّت أو أن حواسها تمارس عليها الألاعيب... فليس من المعقول أنه كان بجوارها بينما هو على هاك البعد..!

********

لاهثًا... مستنفذًا لطاقته كلها... دلف إلى المنزل باحثًا عن بعض المياه ليشربها... توجه إلى المطبخ فتناهى إلى مسامعه حوار أشعله...

- جوني حبيبي... أعرف أن نور رائعة لكنك لم تكف عن الحديث عنها منذ أن أنهينا إفطارنا... لاحظ أن ستيسي قد تتضايق...

- يا أمي... أنا فقط منبهر بتلك المرأة... لقد قدمت بحثًا غاية في الأهمية منذ أربعة سنوات أي كانت أصغر من هذا بأربعة سنوات.. تخيلي.. فتاة عربية في مقتبل العشرينيات... تقدم بحثًا كهذا..! معجزة ... لقد كنت أتابعها وهي تتحدث إليكِ... إنها امرأة تجمع بين جمال ابتسامة كيت بيكنسيل وملامح وعيني كاثرين زيتا جونز وعقل ماري كوري... لا بل عقل يريد هدم نظرية ماري كوري التي نالت عنها نوبل من أساسها... عقل يريد استبدال العلاج الإشعاعي والكيماوي اللذين كما يقتلا الخلايا السرطانية يقتلا خلايا الجسم ويدمرانها... يا أمي تلك الفتاة حصلت على3200 نقطة في اختبار MCAT[1] .. هذه أعلى درجة ولم يتجاوزها أحد قط حتى يومنا هذا ... !!!

لم يتحمل المزيد ... قفز درجات السلم ثانية ... دلف إلى الغرفة ليصيح بنور الواقفة أمام النافذة:

- ياللا بينا...

تسائلت نور بغير فهم: - على فين...؟ إحنا ...

قاطعها وهو يلملم أشيائه بحقيبته:

- مش هانقعد هنا أكتر من كدة وأنا أعرف ألاقي بنتي بطريقتي...

قالت: - بس ...

قاطعها ثانية بحدة أكبر:

- بس إيه...؟ عايزة تقعدي للدنجوان بتاعك عشان يتغزل فيكي وفي ذكائك الخارق وأبقى أنا طرطور وسطكوا...؟

تسللت ذات الابتسامة الجذلة على شفتيها وهي تشهد ذاك البركان المتفجر أمامها، إلا أنها قالت بجدية تامة:

- من فضلك أستنى شوية... فيه خبر مهم جدًا لسة عارفاه حالاً...

نظر إليا في غير فهم وعيناه السوداوان تبدوان مخيفتان حقًا بذلك الشرار الذي يقدح منهما، فأردفت نور وهي تفرك كفيها بتوتر: - أنا عرفت مكان كارمن ... هنا ... في تكساس ....

***

” كم هي محدودة تلك التي نُسميها إرادتنا، وكم هو هائل وغير محدود قدرنا “

علي عزت بيجوفيتش

***

" ... سيدي الرئيس... هاذي المنطقة أكبر منفذ لدخول الحشيش المغربي والأسلحة المتوسطة كيف الجرينوف وحتى صواريخ السام 9... وعندي بالتفصيل والدليل اسماء القبايل المتورطة .."

عبر التلفاز... كان يشاهده بصوته المجلجل في أرجاء المجلس... نفث دخان أرجيلته ملتفتًا إلى من بجواره قائلاً:

- مو قلت لك...؟

اتسعت ابتسامة مضيفه وهو يقول بصوته الجهوري:

- يا شيخ سعد... مايبقاش قلبك خفيييف... قلت لك لا تخاف... أنا بس تاركه يلعب شوي... لكن وقت الجد بنأدبه...

قال الشيخ سعد في إنفعال:

- وهوا فيه جد أخطر من هيذا يا شيخ مناع ...

أجابه الشيخ مناع مضيقًا عينيه:

- معك حق ...

ثم رفع صوته مناديًا:

- إسمااااعيييل ... ولد يا اسمااااعيل ...

هرول إليه صبيه هاتفًا: - تحت امرك يا شيخ مناع ...

قال مناع بجذل: - عطيني التلفون...

ناوله إسماعيل الهاتف ليطلب رقمًا عبر المحيط ... ينتظر الرد و... بمجرد أن سمع صوتًا على الطرف الآخر قال بصرامة:

- باقول لك إيه يا داكتوور... نفذ اللي اتفقنا عليه... مالي صالح... باقول لك نففففذ... لا ماتخافش يا داكتور... سلام ...

قالها ثم أغلق الهاتف بينما الشيخ سعد لايزال ينظر إليه في شك وهو يقول:

- متأكد أنت من خطتك هذي..؟

ضحك مناع بسماجة قبل أن يقول:

- كيف ماني متأكد من وجودك يا شيخ سعد ...!! يا شخ سعد حنِّا حدانا شي يخصه ممكن مو بس يسكر له خشمه... لع... أيخليه يهج من المجلس كمان... بس الداكتور يسوي اللي عليه صوح...

ثم سحب نفسًا آخر من أرجيلته في تلذذ وهو يتخيله ذليلاً... سيأتي إليه قريبًا جدًا يجلس عند قدميه يتوسله راجيًا... حينها قد يدوس عنقه تحت نعاله... سيهين تلك العنق المختالة التي طالما حملت فوقها رأسًا مرفوعًا أبيًا... يعيش دور البطولة ويعشق دور حامي الحمى وهاهو يقع في الشرك المنصوب له بإحكام.

***

"لازم أقابلها..."

قالها في انفعال، فقالت له:

- وليه عايز إيميلي ..؟؟ خد العنوان من مستر بيل وروح لهم على طول .. بتقول لك مزرعتهم قريبة من هنا...

مرر أصابع يديه الاثنتين في شعره قائلاً:

- أنت مش بتقولي أنك سمعتي إيميلي كانت بتكلم مسز مادلين قدامك عن علاقة لورين اللي مضايقاها بكارمن وكلارا هجرس...؟

أومأت نور قائلة:

- أيوة... أنا نزلت من الأوضة لاقيتهم قاعدين يتكلموا في الموضوع ده وكملوا عادي بعد ما شافوني... فقلتلهم بهزار كدة أن اسم هجرس ده مصري... أكدت لي إيميلي أنهم مصريين مسلمين جيرانهم وكانوا أصدقائهم... عمر هجرس وبناته كارمن وكلارا... المزرعة أصلاً ملك عيلة إفرنجي أهل زوجة عمر هجرس... بس بصراحة ... كان باين في عنين إيميلي ضيق وحاجة زي الكره كدة وهيا بتتكلم عنهم... عشان كدة باقول لك اسأل مستر بيل وخلاص...

رفع زين أحد حاجبيه قائلاً:

- وعشان كدة بالذات عايز أسمع منها الحكاية ...

تسائلت نور بدهشة: - حكاية إيه...؟

أجابها بثقة: - حكاية الـ(كانوا) أصدقائهم دي... حكاية العداوة والكره اللي بتقولي عليه... الحكاية دي ممكن توفر عليا مهاترات كتييرة ...

قالها ثم جذب نور من يدها تلقائيًا وهو يقول:

- تعالي بسرعة نروح لها مفيش وقت نضيعه ...

كان متعجلاً.. يتصرف بتلقائية... لكنه توقف لحظات... وتوقفت هي... نظر إلى كفيهما المتعانقين وشعرت هي بذات السخونة تكتنف وجنتيها... لكنها لم تجذب كفها... ولم يطلق هو صراح أصابعها المستكينة في راحته... فقط تأمل وجهها المضرج بحمرة الخجل... وهاك العرق النافر بجبهتها.. وعينيها المطرقة حياءًا... ثم ... أدار وجهه مكملاً طريقه وثمة شعور عجيب لم يخبره قبلاً يغزو كيانه... بعنف.

كانت إيميلي تجلس على المقعد الهزاز بجوار المدفأة تضع ساقًا فوق الأخرى وتقرأ في مجلد ما... بتنورتها الطويلة وحذائها مرتفع العنق وكنزتها الصوفية البسيطة التي تكللها وشاحًا نيليًا ناعمًا يحيط عنقها برقة ويسقط على كتفيها.

استأذن زين في أن يتحدث معها قليلاً، فأغلقت كتابها ووافقت بهدوء على طلبه.

" كنت أريد أن أعرف منك المزيد عن عائلة هجرس ... وخاصة كارمن عمر هجرس .."

تمعر وجه إيميلي وأكفهر وعقدت حاجبيها في ضيق ثم قالت بحقد:

- ألن تنتهي سيرة تلك الحمقاء اليوم..!!

عرف زين أنه ضرب على الوتر الصحيح... هي كارمن إذن من تكرهها – أو تغار منها – إيميلي.

أطرق زين قليلاً... وقرر أنه لا يملك إلا أن يكشف أوراقه أولاً كي يحملها على البوح بما لديها.

- "حسنًا... سأحكي لك حكايتي مع تلك (الحمقاء)... لم أحكها لأحدٍ قبلك ولن أحكها لأحدٍ بعدك آنستي.. لكنني أتوسم أنك الوحيدة القادرة على مساعدتي... لذا اسمعيني رجاءًا..."

قالها بهدوء... ثم شرع يحكي لها كل شيء... ورغم أنه كان شاردًا في الفراغ وكأن شريط خيباته يتكرر أمام ناظريه... إلا أنه كان هنالك زوجين من الآذان يصغيان إليه... أحدهما تستمع إليه بعملية وشيء من السعادة لإكتشاف حقيقة غريمتها.. والأخرى تستقبل وجعه وقد مس بداخلها وترًا حساسًا شعرت معه بتوحد وجعيهما.

***

"بس يا ريت متنساش أن دي أولاً وأخيرًا بنت بنتي..."

همس بها في توتر عبر الهاتف... ثم عاد يقول بعد لحظات:

"خلاص خلاص ... كام يوم كدة وأنفذ ... سلام"

قالها ثم أغلق الخط واستدار برأسه الأشيب ومنظاره الطبي يخطو بضعة خطوات في الحديقة التي كان يقف بها متوجهًا إلى زوجته وهو يقول:

- سو ... فين روكي..؟

أجابته دون انتباه وهي منهمكة في لوحتها:

- بتلاقيها لساتها نايمة ... راجعة الفجر من سهرة أمس ...

تسائل في توتر: - طيب وميوي..؟

رفعت رأسها نحوه قائلة بسخرية:

- شو حبيبي ... ما عم بافهمم عليك ..! من متى هاي الاهتمام المفاجيء ببنتك وبنتها...؟

نظر إليها في غيظ ثم توجه إلى المنزل شطر غرفة ابنته التي فتحها ليجدها غارقة في الظلام وابنته غارقة بالنوم. فتح الستائر لتخترق شمس الظهيرة الغرفة وتسقط على وجه ابنته التي بدأت تتململ وتخفي رأسها بيديها وهي تقول بضيق:

- what the hell is this …!

أخذ يوقظها بمرح قائلاً:

- روكي ياللا .. wake up sleepy head ..

نهضت في ضيق وهي تضع يدها على رأسها... كان شعرها الأشقر مبعثرًا... عيناها السماويتان ناعستان... لكن رغم ذلك... لازالت تبدو فاتنة...!

قال أباها وهو يزيح الغطاء:

- في عروسة تنام كل ده.. قومي يا روكي فرحك قرب... وإيدي عمال يكلمك من الصبح...

وضعت يديها الاثنتين على وجهها وقالت بضيق:

- پاپي... بليز سيبني أنام... كان عندي رحلة طويلة ومانمتش يومين ورا بعض.. وأديني اخدت أجازة قبل الفرح عشان أعرف اعمل كل حاجة ممكن بقى تسيبني أنام شوية...

قال أباها بلهجة خاصة:

- طيب لو إيدي أتصل تاني نقول له إيه...؟

أزاحت يديها من على وجهها الجميل الذي رفعته نحو أبيها بحدة قائلة:

- پاپي please don’t care about Eddy ... إياد بالذات ماتقلقش عليه... إياد لو عاز يشوفني بيجبني لو كنت فين... كتير ألاقيه ناطط لي في رحلاتي... كتير في الفنادق اللي بننزل فيها ألاقيه حاجز بقدرة قادر وأشوفه... يعني ماعندوش أزمة أنه يشوفني أو يوصل لي... أنا اللي محتاجة أناااام دلوقتي... ممكن..؟؟

داعب ذقنها في حنو وهو يقول:

- ماهو بيحبك يا كارمن ودايب فيكِ وانت مدوخاه سنين وراكي... سافرتوا مع بعض ولفيتوا الدنيا وقدم لك فروض الولاء والطاعة... ولسة سيادتك يادوب متكرمة عليه ووافقتي تحددي ميعاد الزفاف... ليه حق يعمل عليكي كماشة عشان ماتفلتيش منه تاني...

سقط رأسها على صدرها وجاهدت لترفعه وتفتح عينيها ثم تثائبت قائلة:

- طيب يا پاپي ... إيه المشكلة now..؟ عشان هاموت وانااام ....

تعجبت من سؤاله الذي وجهه لها:

- فين مايا يا روكي ...؟

رفعت رأسها ونظرت إليه بحنق بعينين ناعستين وقالت:

- يعني أنت مصحيني من النوم عشان تسألني عن مايا يا پاپي...؟ تلاقيها في أي حتة هنا واللا هنا واللا مع مارثا أو جراني أخدتها مانت عارف بتحب تقضي أغلب الوقت معاها ...

عقد الدكتور عمر هجرس حاجبيه في شدة وهو يقول:

- يعني مش عارفة بنتك فين ..؟ وبعدين يا ريت ماتسيبيهاش مع جراني كتير ... أنت عارفة جدتك ... بتزودها في الشرب وممكن البنت تضيع منها ...

ابتسمت في ملل وهي تقول:

- حاضر ... أما أصحى هاعمل لك كل اللي أنت عايزه ... ممكن أنام بقى..؟

نهض في غيظ لتجذب كارمن الغطاء عليها وتعاود النوم ثانية واضعة وسادة على رأسها، أما هو ... فانطلق يبحث عن تلك الصغيرة التي بات كل شيء يعتمد على وجودها معه... فوجودها معه صك ضمان بعدم ضياع ذلك البئر الذي لا ينضب... بئر الثروة والأموال التي تأتيه دون أن يتحرك قيد أنملة... لكن ... آن أوان الحركة... آن أوان تلجيم من يحاول ردم البئر... والصغيرة هي بطاقته الرابحة وجواز مروره إلى ما يبغي.

***

عشقٍ زائف... حياة متخبطة... تنازلات... خيانة فـ...فرار... وأخيرًا سطر بصوته العميق إجابات للألف سؤال بعقلها... قبضتاه مضمومتان... عيناه مشتعلتان متعطشتان للانتقام... فجرح رجولته غائر وجرح أبوته نازف.

"لست آخر ضحاياها مستر زين ..."

قالتها إيميلي بعد فترة صمت عقبت حكاية زين عن حياته مع كارمن، فرفع كلٍ من زين ونور أعينهم نحوها في تساؤل ... فبدأت بدورها تكشف أوراق جرحها.

"كان شريكًا في مصنع مستحضرات تجميل من ماركة مشهورة تقوم بإجراء اختبارت السمية على الحيوانات وكنت أنا تابعة وقتها لمنظمة بيتا لحقوق الحيوان التي تندد بما يفعلوه وأن الحيوانات لها حق جوهري في ألا يتم استخدماها لإجراء التجارب ... وشاء القدر أن ألتقيه لأقنعه بوجهة نظري التي أبدى تفهمًا لها ... أعجبت بتفتح ذهنه ومحاولته إقناع شركاؤه برأينا ... وبدأت علاقتنا تتوطد ... خرجنا سويًا ... مرحنا كثيرًا... حتى أعترف لي بحبه ... كانت عقليته فذة ووسامته معقولة ... صرنا قريبين جدًا ... انتقلت للعيش معه في واشنطن وبدأنا نخطط للزواج ... حتى.... حتى جئنا ذات يوم إلى المزرعة ليلتقي اسرتي ..."

صمتت إيميلي قليلاً مطرقة، ثم رفعت رأسها لتردف:

- لا أنكر أنه رجل أعمال من الدرجة الأولى ... يريد ان يدخل أي صفقة ويخرج منها رابحًا تمامًا دون التغاضي عن أي شيء ... بعد عام من علاقتنا جاء معي إلى المزرعة ... كانت أوقات أعياد ... ويزورنا الكثير من جيراننا ... ووقتها تعرف عليها ... كانت عندنا مع اسرتها ... تعرف إيدي عليها وأخذا يتبادلا الحديث حول العالم العربي ... فهو أمريكي من أصل مغربي .. والمفترض أنه مسلم ...وهي ... مصرية ... والمفترض أيضًا أنها مسلمة ..."

أغمض زين عينيه بقوة متمتمًا: - كارمن...؟

أومأت إيميلي برأسها مردفة بإنكسار:

- نعم ... عرفتها عليه ... إياد الكانوني ... صديقي وقريبًا زوجي ... أخبرتها أنه رجل أعمال ... لم أر نظرتها إليه ... كل ما لاحظته بعد تلك الزيارة جفاء إيدي معي ... تباعده عني ... وبعد عدة أشهر ... قالها لي صريحة ... إنه يفضل الزواج من امرأة مسلمة ويحبذ لو كانت عربية ليرضي أهله ... أما أنا ... فلا أصلح زوجة له ... كنت أشك أن ثمة امرأة أخرى بحياته .. لكنني تأكدت وقتها أنه يتحدث عن أخرى بعينها ... فسألته مباشرة "من هي؟" حاول المراوغة ... لكنني عرفت في النهاية أنه واقع في غرام جارتي الحسناء مسز كارمن ... صفقته الرابحة على كل الأصعدة ... مصرية أمريكية مسلمة ... خليط يشبه خليطه ... والأهم أنها فاتنة ... أعترف أنني لا أملك جمالها ... لكن يبدو أن الخيانة تجري في عروقها مجرى الدم ... هي لم تخنك فقط سيدي ... هي خانت صديقتها أيضًا واستولت على أكثر شخص شعرتُ معه بالقرب والحب ... وطعنتني في ظهري بكل برود ... وهاهما بعد مرور سنوات على علاقتهما يخططان للزواج ... لكن عدل السماء لم يتركها ... حيث إن ابنتها ..."

صمتت إيميلي مستدركة ... فحثها زين بانفعال: - ماذا بها ابنتها...؟

قالت ببطيء: - فقدت النطق منذ عام تقريبًا ...

بُهت زين وهو يسأل: - كيف ذلك ...؟ أتتأتئ في الحديث أم ...

قاطعته: - بل لا تتحدث ... إطلاقًا ... سمعت أنهم عرضوها على أكثر من طبيب ... هي تسمع جيدًا .. لكنها لا تتكلم ولا علة بها ...

تأججت النيران بداخله ... يجب أن يعثر على ابنته وينتشلها ... فقال لإيميلي:

- وإذا حانت لك فرصة للانتقام من كارمن ورد الصفعة لها ...؟؟

التمعت عيناها بجذل قائلة: - اقتنصها دون تردد ...

فقال زين بسرعة: - هل تعرفين ابنة كارمن أو هي تعرفكم...؟

أومأت إيميلي قائلة: - نعم ... حتى بعد انقطاع صلاتنا ... فمربيتها مارثا المكسيكية على علاقة بأليخاندرو الذي يعمل عندنا في الأرض ... كثيرًا ما تأتي لمقابلته ومعها الصغيرة التي تلهو في صمت يبعثنا على حبها رغم شيطانية أمها ...

قال زين مقررًا: - أريد أن أرى الصغيرة ... أيمكنك ذلك ...؟

رفعت إيميلي جوالها قائلة: - بكل بساطة ... مكالمة صغيرة لأيخاندرو ويتم لك ما تريد ...

فرك يداه بانفعال ... لم يعتقد أن القدر يسوقه إليها بذلك الشكل ... لقد صار قاب قوسين أو أدنى من صغيرته التي قضى أعوامًا يبحث عنها ... لابد أن يأخذها ويرحل ... بأقصى سرعة.

***

الشمس ساطعة تبعث الدفء في أوصالهم ... ثمة غزال صغير يجري ... أشجار السنديان الباسقة وأشجار الجوز تتراص على الجانبين كشهودٍ على هاك الحدث المرتقب ... أليخاندرو ... شاب طويل القامة عريض المنكبين ... بشرته ملوحة وشعره نحاسي ... يرتدي بنطالاً بنيًا ترتفع منه حمالات تستقر على قميص كاكي قد فتح معظم أزراره لتكشف عن صدرٍ قوي ... عدل أليخاندرو من شعره الذي تلاعبت به نسمات الهواء ثم نظر إلى ساعة يده وعاود النظر إلى كلٍ من إيميلي وزين ونور قائلاً:

- من المفترض أن تصل خلال دقائق...

تزايد التوتر بداخل زين وشعر بضربات قلبه تتلاحق ... أيحلم أم هو حقًا على وشك أن يرى صغيرته التي أعياه البحث عنها ست سنوات كاملات ... ست سنوات عجاف يحلم طوالهن بطيف فلذة كبده ... ورغم أنه لم يبد عليه أي شيء مما يعتمل بصدره حيث كان منظاره الشمسي الضخم يخفي عينيه بكل انفعالاتها ... إلا أنها كانت تصلها كشرارات استاتيكية تنبعث منه، فرفعت منظارها الشمسي وألتمع عسل عينيها أسفل أشعة الشمس الدافئة وعوضًا عن النظر إلى الأفق حيث ينظر الجميع ... ألتفتت إليه ... بنظرات حانية شعر بها قبل أن يراها ... فاستدار نحوها ليجد لُجَّتي العسل المصفى المحاطتين بأهداب سوداء طويلة تشمله وحده بنظراتٍ حانية هدأت من روعه قليلاً وتعجب كيف لأي شخصٍ في الوجود أن يحمل نظراتٍ معبرة هكذا ... نظرات مُطْمَئنة .. مُطَمْئِنة ... غرق قليلاً في تلك النظرات حتى ...

- "هاهما ذي ..."

هتف أليخاندرو ... فاستدار بقلبه ... نعم ... استدار بقلبه قبل رأسه .... استدار بجسده كله نحو المكان الذي تقترب نحوهم منه ... كانت تتهادى في سيرها ... أميرته الصغيرة ... و... أزدادت خفقات قلبه وانفعاله وحنقه من تلك التي منعته من رؤية ابنته وهي تكبر ... لم يرها وهي بدون اسنان ولم يرها وهي تحبو ... لم يرها وهي تتعلم المشي ولم يعلمها الحروف ويخبرها كل شيء عن العالم ... وربما تكون قد ابدلت اولى اسنانها و... لم يكن هنالك أيضًا ... قطعة منه هي ... نعم ... أدرك ذلك وهي تقترب منهم ... بشرتها الخمرية ... قامتها الطويلة المائلة للنحافة ... شعرها الأسود الناعم ... شفتاها الدقيقتان ... وأنفها المستقيم ... حتى شكل حاجبيه الكثيفين ورسمة عينيه الواسعتين ... إلا أنها لم ترث عنه لونهما ... فقد كانت عيناها فيروزيتن ... مزيج عجيب بين الأخضر والأزرق والعسلي ... كانت ترتدي بنطالا من الجينز الأزرق عليه حذاءً ذو عنق طويل رمادي اللون وبلوزة بيضاء يعلوها معطف صوفي رمادي أيضًا وشملة زرقاء وقد عقصت شعرها في جديلتين بينما تغطي جبهتها غرة ناعمة تنسدل بنعومة لما بعد حاجبيها. كبح شوقه في أن يحملها ويخبئها بين ذراعيه ويجري بها بعيدًا واكتفى بمتابعتها من بعيد حيث رآها تأملت مارثا مربيتها المكسيكية الأصل التي التقت صديقها، فذهبت الصغيرة بملل – وكأنها معتادة على ذلك – لتجلس على أحد المدرجات الصخرية وأخرجت من حقيبة كانت تحملها على ظهرها جهازًا لوحيًا أخذت تعبث به في صمت. اعتصر قلبه قبضة حزن مرير ... فابنته على بعد خطوات منه ويخشى الاقتراب...!!! لكن نور كانت قد جلست قربها وأخرجت كتابًا ما وفتحته لتنفرد مجسمات حيوانات ورقية وتُبدي نور الانهماك في القراءة حتى اقتربت منها الصغيرة وقد شغفها ذاك الكتاب العجيب الذي كلما قلبت نور في صفحاته ظهرت مجسمات مختلفة كانت مطوية بين الورق ..! نظرت لها نور باسمة وهي بالكاد تحبس أدمعها ... نعم ... فتلك هي الصغيرة التي ضمتها إليها من خمسة أعوام وألقمتها ثديها ... ابتسمت لها مايا ببراءة أذابت زين الذي كان واقفًا يتابع الموقف من بعيد ... أجلستها نور بجوارها وأخذت تحكي لها قصة عن الديناصور الذي فقد أباه ثم وجده في نهاية القصة ... وعندما شردت الصغيرة الصامتة سألتها نور عما بها ... فأخرجت الفتاة دفترًا وقلمًا ثم كتبت بحروف مهتزة وهجاء لم يخل من الاخطاء : “I no fathar” ... لكن نور تلقت رسالتها في ألم ... فسألتها أين أباها فهزت الفتاة كتفيها تخبرها أنها لا تعلم ... فسألتها نور مرة أخرى إن كانت ستفرح إذا ظهر أباها...؟ فأومأت الصغيرة بحماس ... فهمست لها نور أنها يمكنها إخبارها كيف تجد أباها ... نظرت إليها الفتاة في شك ... إلا أن نور طلبت أن يصيرا أصدقاء أولاً كي تخبرها ... فأشارت الصغيرة بإبهامها باسمة علامة الموافقة على تلك الصداقة لتهمس لها نور ثانية أنها يمكنها أن ترفع يداها إلى السماء هذا المساء عندما تكون بمفردها وتطلب من الله حتى بدون كلام أن يرسل إليها أباها ... نظرت إليها مايا غير مصدقة لكنها أومأت إليها مؤكدة وهي تقول: "لقد فعلت ذلك كثيرًا وكان الله يرسل لي ما أريد"

شردت الفتاة قليلاً ثم اتسعت ابتسامتها وكتبت مرة أخرى “I try” ... ستحاول ... ابتسمت نور ... لقد تمت الخطوة الأولى بنجاح.

هنا جاءت مارثا لتصطحب الصغيرة عائدة ... وبمجرد اختفائها في الأفق، أستدارت إلى زين الذي كان قد رفع منظاره الشمسي على جبهته ووضع كفيه على أنفه وفمه وقد التمعت عيناه ببريق عجيب..! لم تحاول محادثته إلا أن إيملي دعته إلى المنزل لكنه رفض وقال أنه سيتجول بالمزرعة ولن يعود الآن ... قالها ثم أنطلق بعيدًا بخطوات واسعة وبمجرد أن أولاهم ظهره ... ترك العنان لدموعه التي انسابت بغزارة من قلبه المنكسر على ابنته متوعدًا أمها بكل ما يعتمل بداخله من غضب.

******

[1] MCAT (Medical College Admition Test): فحص القبول في الكليات الطبية وهو فحص قبول معياري يخضع له الطلبة الراغبون في الانضمام إلى كليات الطب في أمريكا الشمالية.

Just Faith 18-12-17 01:42 PM

-6-
"لا تصدق أن الإنسان ينمو. لا. إنه يولد فجأة:
كلمة ما، في لحظة، تشق صدره على نبضٍ جديد،
مشهد واحد يطوح به من سقف الطفولة إلى وعر الطريق."
غسان كنفاني
***
تلبدت السماء بالغيوم، وفي لحظة... توارت الشمس خلف الغمام...
وكأن الطبيعة تتحد مع روحه وترسم حالته النفسية في أفق مظلم..!
شق لسان من البرق صفحة السماء تلاه صوت الرعد وبدأت الأمطار في الهطول... زفر في ضيق وأضطر إلى العودة إلى منزل السيد بيل.
دلف إلى المنزل الذي بدى هادئًا ثم صعد السلم فوجد جوناثان نازلاً، قال له ذلك الأخير:
- أين انتما، زين..؟ لماذا لم تنضما إلينا في الغداء..؟
عطر جوناثان النفاذ يصيبه بالغثيان، فقال له بسرعة:
- لقد كنت أتمشى بالخارج لكن الجو لم يسمح لي بالاستمرار... عن إذنك ...
قالها ثم صعد إلى الغرفة.. طرق الباب وانتظر قليلاً، ثم فتحه ودخل...
لم يجد نور فابتسم بسخرية متمتمًا: - طبعًا مش موجودة ...
خلع عنه قميصه المبتل بسرعة لئلا يصاب بنزلة برد ثم توجه إلى حقيبته لـ... ينتفض على شهقة فزعة..!
كانت هي... خرجت لتوها من الحمام الملحق بالغرفة ترتدي معطف استحمام قصير سكري اللون ذو أطراف ذهبية بينما ينسدل شعرها المبلل منسابًا حول وجهها حتى آخر ظهرها.
تجمدت نور في خجل شديد وهي تشعر بوجهها يكاد يحترق من السخونة... توردت وجنتيها ونفر هاك العرق في جبينها ووضعت يدها على فمها ثم خفضت عينيها متمتمة بصوت مبحوح:
- أ... أ... أنا كنت فاكراك مش هاترجع دلوقتي...
قالتها وهي تتحرك ببطيء تحاول جر أي من ملابسها عائدة إلى الحمام الصغير، فقال زين بتهكم:
- إيه .. ماكنتيش عايزاني أرجع عشان يخلالكوا الجو...؟ مانا شفته وهوا نازل من هنا...
أتسعت عيناها في ذعر لا تفهم عمن يتحدث لكنها فهمت ما يرمي إليه بحديثه ...!
حاربت أدمعها وهي تقول بعنف: - أنا ماسمحلكش تتكلم عني كدة على فكرة... بجد كدة كتير... حرام عليك... أنت لو تعرف ربنا كنت فهمت أنك كدة بترمي إنسانة محصنة جزافًا من غير دليل... ومش أنا اللي هاحاسبك... ليا رب اسمه العدل...
قالتها ثم استدارت نحو الحمام مرة أخرى، إلا أنه أمسكها من ذراعها فاستدارت في تحفز مستعدة لإكمال حربها، إلا أنها لاحظت نظرة منكسرة بعينيه، ثم صُدمت بجملته التي قالها لها بخفوت:
-" أ... أنا آسف ..."
عض زين على شفته في ندم، وهو يسأل نفسه... حقًا... لماذا يصفعها بكلماته ونظراته كلما امتلأ حنقًا من امرأة أخرى...!! فليست هي من خانته... ليست هي من منعته من ابنته بل على العكس... هي التي قادته إليها..! ثم إنه لو كان اتهامه لها صحيحًا.. وبالفعل كان جون هنا... لعبأت رائحة عطره القاتلة النفاذة أرجاء الحجرة ..
- "أنا... أنا المفروض أشكرك..."
أكمل زين كلامه وقد شل نور الذهول من ذلك الشخص الذي ينتقل من أقصى اليسار لأقصى اليمين في لحظات وما زاد من ذهولها تلك الدموع التي تجمعت بمقلتيه اللتين ضيقهما وهو يردف مشددا من ضغط قبضتيه على ذراعيها:
-أنتِ اللي وصلتيني لبنتي... بنتي اللي مش عارف ألمسها ولا أقرب لها إلا بتمثيليات فارغة...
أغمض عينيه في ألم لتنساب دمعتين متمردتين على وجنتيه.
لا شعوريًا... وجدت نور يديها ترتفع وتحيط بوجهه ويجفف إبهاميها أدمعه... أطلقت قبضتاه سراح ذراعيها اللذين أنَّا من الوجع لتنتقل إلى كفيها المحيطين بوجهه فيمسكهما بشدة، ويفتح عينيه لتصدمها نظرة راعدة جعلت أوصالها ترتجف... نظرة ثاقبة... حادة... كنمرٍ جريح يقاوم سقوطه... عقدت حاجبيها وارتسمت بعينيها نظرة خوف.
شعر ببرودة كفيها وأخذته ملامحها الوجلة مع عبق الفاكهة المنتشر من شعرها المبلل... وارتجافة شفتيها الخوخيتين... أنزل يديها من على وجهه بهدوء دون أن يتركهما فكادت أن تتنفس الصعداء وتحاول الهرب من تلك النظرات القاتلة، إلا أنها فوجئت بالعاصفة...!
لقد جذبها من يديها إليه في عنف... ترك كفيها ليمسك هو بوجنتيها اللتين كانتا ملتهبتين على عكس أطرافها... ازداد اقترابه وازدادت خفقات قلبها وكادت العبرات تنساب من عينيها... ضمها بقوة بين ذراعيه... ودفن رأسه في حديقة الفاكهة المنتشرة بين كتفها ووجهها... لفحتها حرارة أنفاسه المارة صعودًا على عنقها و... كاد قلبها يتوقف عندما... بدأ ينهل من ثمرتي الخوخ الطازجتين...!!
طرقٌ كثيرٌ على الباب... ثم ... أنفتح دون تلقي إذنًا... ربما كانت نجدة لها... تنتشلها من براثن مشاعره المختلطة التي تطبق عليها دون هوادة...
"أوووه ... يبدو أنني جئت في توقيت خاطئ ..."
قالتها لورين في حقد بعد أن فتحت الباب الذي لم يحكم زين غلقه. أرخى ذراعيه وقد عاد لرشده، فانسحبت نور بخجل تجر رجليها إلى الحمام مختبئة خلف بابه. أما هو... فأسرع بارتداء قميصه ونظر إلى لورين نظرة قاتلة جعلتها تتلجلج مفسرة دخولها المفاجئ:
- لـ... لقد قلقنا عليكما فنحن لم نركما منذ الصباح ولم تتناولا الغداء معنا فبعثتني أمي لأسألكما إذا كنتما تريدان أن نرسل الطعام بالغرفة ...!
أرتدى زين معطفه ثم خرج من الغرفة دون أن يعلق على كلامها بحرفٍ واحد. نظرت لورين بحسد إلى باب الحمام حيث اختفت نور قبل أن ترحل بدورها صافقة الباب خلفها.
أما نور، فجلست لعدة دقائق على طرف المغطس... لا تدرك تحديدًا ما الذي حدث... حتى نهضت.. تأملت وجهها في المرآة ... تأملت شفتيها المتورمتين... تحسستهما بأصابع مرتعشة... تهاوت أدمعها على خديها متناقضين مع تلك البسمة المرتسمة على شفتيها... خفق قلبها في عنف... إنها أول كلمة تُخط في سجل أنوثتها... شرارة من البرق أنطلقت من عينيه لتصعق أوصالها الغضة فتضمها ذراعيه راعدتان وينهمر مطر شفتيه على صحراء أنوثتها القاحلة التي أصابها الجفاف منذ زمن فأنبتت براعم خضراء خجلة تحمل كل ورقة بها ... اسمه.
***
كان قد خرج ولم يعد حتى الفجر... لم تستطع النوم... أخذت تذرع الغرفة جيئة وذهابًا...
لم تقرب أي طعام منذ طعام الإفطار الذي تناولته باليوم السابق، وبعد ما أنهكها النعاس والجوع ... قررت أن تذهب للتوضأ كي تصلي الفجر... وبينما هي تصلي... فُتح الباب... ودلف زين... ألقى عليها نظرة خاطفة ثم توجه إلى النافذة ووقف خلف الزجاج يتابع زخات المطر.
"السلام عليكم ورحمة الله ... السلام عليكم ورحمة الله"
سلمت بهمس منهية صلاتها... وأطرقت في خجل لا تدري ماذا تقول له... حتى تحدث هو... وكان كمن (صمت دهرًا ونطق كُفرًا)... هي جملة من كلمتين... أشعلتا من قبل شرارة قربهما... ثم كانت الآن كدلو مياه مثلجة سكبها على مشاعرها المتأججة...
"أنا ... آسف.."
قالها بهدوء قاتل... رفعت رأسها في حدة لتطالعه.. ثابتًا بنفس وقفته موليًا ظهره لها يرفع إحدى يديه لتستند على الحافة العليا للنافذة والأخرى تستقر بجيب بنطاله... رأته هادئًا لا مباليًا بالإعصار الذي شب بداخلها وهو يردف:
- آسف إني خرقت أتفاقي معاكي... معلش... كنت متلخبط ومتوتر و... ماعرفش حصل كدة إزاي ...!
نهضت من على بُساط صلاتها الذي طوتها بعنف ورفعت رأسها في شمم وهي تقول له بصوت مبحوح وهدوء عاصف:
- عذرك مقبول... بس ياريت مايتكررش تاني ...
قالتها ثم هرعت إلى الفراش متسلحة بملابس الصلاة تختبى تحت الأغطية... أطفأت الضوء الوحيد للمصباح الجانبي للفراش كي تغرق الغرفة في الظلمة ولا يتمكن من رؤية دمعتين أنحدرتا في صمت على وجنتيها وهي تهمس لنفسها "غبية".
لم ترَ بدورها عينيه المغمضتين بقوة ولا قبضته التي يعتصرها داخل جيبه...
لم تشعر بذلك اللهيب المضرم أسفل جلده منذ أن وضع يديه على وجنتيها الملتهبتين...
لم تعلم عذابه بمذاق الخوخ الذي لازال عالقًا بشفتيه...!
لكن تلك الأشباح الدائرة في عقله لم تتركه لحظة... شبح شقيقه وابتسامتها العذبة اثناء نومها.. وشياطين الخيانة التي تعبث برأسه طوال اليوم دفعته لكي يؤثر السلامة التي ظن أنها تكمن في البعد عن كل نساء الأرض؛ رغم الأشتعال الفريد الذي خبره منذ ساعات مع تلك المرأة... ذلك الاشتعال الذي لم يخبره قبلاً حتى مع زوجته السابقة... إلا أنه قرر أن يسكب عليه برد لامبالاته ويردم عليه خوفه وخيباته، فلم يعد راغبًا في شيء من تلك الحياة سوى ابنته ومزرعته ... فقط.
***
"إيه رأيك بقى في القصة دي ...؟"
قالتها في اليوم التالي وهي تعطي مايا قصة أخرى أكثر جمالاً وتشويقًا.. فتتسع عيناها الفيروزيتان بشغف فبدت كدمية جميلة مع تطاير شعرها الأسود المعقوص هذه المرة على هيئة ذيل حصان في الهواء.
أخذت مايا تتصفح القصة في نهم متحسسة المجسمات التي تظهر لها مع كل صفحة... لكنها بعد قليل توقفت وهي تنظر إلى نور مترددة، فسألتها نور مدعية اللا مبالاة:
- عملتي اللي أتفقنا عليه أمبارح..؟
أومأت الفتاة بحماس وهي تفرك يديها، في تلك اللحظة أشارت نور بيدها إشارة خفية لتتقدم مارثا كما اتفقت معها قائلة:
- هاي مايا... ثمة رجل جاء يسأل عنك ويدعي أنه أباك... أتريدين لقائه..؟
أتسعت عينا الفتاة وهي تنظر إلى نور واضعة يداها الصغيرتان على فمها مبتسمة بانفعال.. ثم أومأت بسرعة إلى مارثا التي تنحت جانبًا فيتقدم زين بكل شوق الدنيا... وضعت مايا يديها على عينيها تقيهما من الشمس وهي تتأمل ذلك الرجل القادم نحوها... ذلك الأب الذي ظهر فجأة بعد ما أقنعتها أمها أنه تخلى عنهما وهجرهما... لكنها ترى فيه منقذها من براثن المربيات اللاتي يتغيرن في السنة عدة مرات... من براثن أمها اللاهية عنها مع رجل كلما رآها نظر إليها بأحتقار أو دفعها بعيدًا عنه... من جحيم امرأة طاعنة في السن مدمنة للخمر ذات صوت حاد ومزعج من الفترض أنها جدة أمها... من حفلات وسهرات لطالما عج بها منزلهم وكانت تراقبها من طرفٍ خفي بعد أن تخدع مربياتها بأنها قد أخلدت إلى النوم.
ليكن ذلك الرجل أباها أو لا يكون فستدعو الله أن يقبل انتشالها من وجوه كبرت بينهم لكنها لا تعرف عنهم شيئًا..! لم تجلس أمها يومًا تقص عليها القصص كتلك المرأة التي تغطي شعرها... لم تر ابتسامة صافية على شفتي أمها كما تبتسم لها تلك الغريبة وكأن أمها تحتفظ برصيدها المتبقي من الابتسامات للرجال المارين في حياتها فقط بعد أن ينفذ جُل هاك الرصيد على ركاب الطائرات التي تتنقل بها من بلد إلى أخرى..!
أنتبهت الصغيرة على ذلك الرجل الذي أنحنى نحوها ورفع منظاره الشمسي يتأملها بلهفة... بشوق... لا يخيفها... إن ملامحه مألوفة رغم أنها لم تره قبلاً أبداً. لم تدرك الصغيرة أن ملامحه هي ما تراها يوميًا بصورة مصغرة في مرآتها... نعم.... وكأنها نسخة مصغرة منه... حتى حاجبيها يتخذان نفس مسار حاجبيه عندما ينعقدان في تفكير... كما تفعل حاليًا وهي تنظر إليه وهو يتحدث إليها.
حاول السيطرة على نبضات قلبه التي صارت تطرق صدره بقوة وهو يقترب من فلذة كبده التي كان قبل أن يراها شاكًا في نسبها إليه، إلا أنه منذ أن رأى ملامحه فيها وقد بات متأكدًا من شيء واحد فقط ... هي ابنته التي لابد أن يأخذها حالاً معه بأي ثمن.
"هل ستأخذني معك...؟"
قاطعت شرحه المستفيض عن الظروف التي حالت بينهما وعن بحثه عنها طوال تلك السنوات المنصرمة بسؤال مقتضب كتبته في في دفترها وعرضته عليه.
أعتصرت قبضة من الألم قلبه... أي ظروف أفقدتك النطق يا صغيرتي..؟ أي بشاعة وضعتك بها تلك الأم غير المسئولة أردتك إلى هذه الحالة..؟؟
بكل حب أجابها:
- لو وافقتي تيجي معايا... هاخدك على أجمل بيت في الدنيا... هافسحك وأخرجك وأعمل لك كل اللي نفسك فيه... هانبقى...
مرة ثانية تعرض عليه دفترها وقد خطت فيه كلمتين: "I Agree"
يبدو أنها لم ترث شكله فقط... أيضًا ورثت عنه طبيعته الحاسمة التي تحب البت في الأمور كلها.
أغمض عينيه في ألم .... أكان من السهل لهذه الدرجة أن يأتي رجل يدعي أنه أباها وترحل معه دون تعقيد هكذا أم إنها شعرت أنه أبيها حقًا بهاك الذكاء المتقد من عينيها...؟؟
لقد أخبرته أنها موافقة على الرحيل معه... تفضل الرحيل مع رجل تراه لأول مرة على البقاء مع أمها... وهذا يدل على الكثير... الكثييير جدًا...!!!
حملها زين بين ذراعيه أخيرًا وأعاد منظاره الشمسي ليغطي عينيه قائلاً بالعربية:
- أنا خلاص... مش هاسيبك أبدا يا حبيبتي... ومش هاترجعي للمخلوقة اللي ماتستهلش شرف الأمومة دي تاني...!
اقتربت نور قائلة بهدوء: - إزاي يعني هاتاخدها كدة..؟ مش تكلم مامتها الأول ...؟
أجابها بحدة: - بس ماتقوليش مامتها... لأن دي مش أم ولا عمرها هاتعرف معنى الأمومة..! وأنا عارف أنهم عمرهم ما هايوافقوا يدوهالي بالساهل كدة ...
قالت نور وهي تعدل من حجابها الذي أخذ في التطاير مع نسات الهواء:
- يا باشمهندس... أنت ناسي ان بنتك أمريكية...؟ مولودة هنا ومعاها الجنسية وعمر ما حد هايسيبك تعدي بيها من المطار من غير حاجة اسمها notarized permission وده خطاب موثق كدة من ولي الأمر التاني للطفل -غير اللي الطفل مسافر معاه- يؤكد موافقته على سفر الطفل ده..
لم يعقب زين بينما التمعت عينا أليخاندرو الذي تبادل النظر مع مارثا عندما سمع كلمة notarized permission بالإنجليزية وخمن فحوى الحوار، فاقترب من زين هامسًا:
- سيدي ... يمكنني مساعدتك على أن تأخذ ابنتك لكن كل بثمنه ...
عقد زين حاجبيه وأنزل مايا إلى الأرض فأمسكتها نور مطمئنة إياها بينما تسائل زين:
- كيف يمكنك مساعدتي..؟؟
- سأُسر لك أمرًا سيدي... في الواقع... أنا ومارثا مهاجرين غير شرعيين جئنا من المكسيك بهويات وتأشيرات مزورة ونعرف محامي هنا يغير لنا الهوية كلما أردنا الانتقال من مكان إلى آخر أو كلما شعرنا أقتراب افتضاح أمرنا، وكنا نخطط أن نذهب إليه لتغيير هويتنا لأنه يبدو أن ثمة من وشى بنا هاهنا فسنغير هويتينا ثم سنسافر إلى ولاية أخرى للعمل، لكن ذلك المحامي جشع يريد مبلغًا وقدره من المال لا نملكه.. لكن... إذا أردت... يمكننا التوسط لك عنده كي يخرج لك إذنًا موثقًا (notarized permission) وكأن مس هجرس هي التي كتبته فمارثا يمكنها أن تأتي بكل الأوراق الثبوتية للصغيرة وأيضًا نموذج لتوقيع مس هجرس الذي يمكن أن ينفذه المحامي بدقة... أليس كذلك مارثا..؟
أومأت مارثا في ثقة بينما ألتمعت عينا زين بانتصار وعزم على المضي قدمًا... ودفع أي مبلغ لاسترداد ابنته من هاك المستنقع البشع.
***
لم تكن مهمة صعبة التي أوكلها لها، فجميع أغراضه شبه مرتبة بحقيبته اللهم إلا عطر ومنامة، إلا أنها استغرقت وقتًا وهي تلملم أغراضها وتضع عطره ومنامته بالحقيبة بتوتر.. إنه يرتكب خطئًا ولن تصمت على ذلك... يجب أن تتخلى عن صمتها قليلاً وتتحلى بشيء من الشجاعة... لقد كانت تنكر على زكريا بقوة وصلابة فمالها عن تذكرة شقيقه معرضة..!!!
حملت حقيبتها على كتفها وجرت حقيبته ذات العجلات وخرجت من الغرفة لـ ... لترى إيميلي.
أبتسامة تعلو ثغرها ترتدي بلوزة ذات أكام طويلة وتنورة واسعة طويلة وقد رفعت وشاحها النيلي لتغطي به نصف شعرها وتتركه لينسدل على كتفيها كيفما أتفق.
عقدت نور حاجبيها قائلة بتردد: - مـ... مرحبًا إيميلي ... ما هذه الإطلالة الجديدة...؟
أتسعت ابتسامة إيميلي قائلة بزهو: - أجرب الحجاب ...!
سقطت الحقائب من يدي نور هاتفة: - هل أعلنتِ إسلامك...؟
ضحكت إيملي قائلة: - ليس بعد... لازلت أقرأ في الأمر لكن فكرة الحجاب أعجبتني في الواقع...
شدت نور على يدها قائلة بحرارة: - أعدك أنك لن تندمي أبدًا... خذي وقتك وإذا رغبت في أي مرجع أو استفسار معك بريدي الإليكتروني وحسابي على فيس بوك يمكنك مراسلتي في أي وقت...
أومأت لها إيميلي وافقة فانحنت نور لتعاود حمل الحقائب، إلا أنها اعتدلت ثانية وهي تقول بتردد:
- ثمة أمر آخر إيملي... لا تأخذي الإسلام بأفعال بعض المسلمين غير المسئولة... فالرجال ليسوا حجة على الدين، لكن الدين حجة على الرجال...
كانت إيملي مثقفة من الطراز الأول وفهمت ما ترمي إليه نور فأومأت قائلة:
- هذا شيء بديهي في أي دين أو مذهب ...
ودعتها نور وطلبت منها أن تودع أهلها بالنيابة عنها هي وزين وتشكرهم حيث توجب عليها الرحيل بسرعة. وما هي إلا دقائق حتى وصلت نور إلى سيارة أليخاندرو وكانت نيسان بيك أب بيضاء عتيقة يرجع طرازها لمنتصف التسعينات أو قبل ذلك. كانت السيارة تتمتع بمقصورة صغيرة ذات أريكة واحدة للسائق ومن يجاوره مع صندوق تحميل خلفي مكشوف به بعض الحقائب تناول أليخاندرو منها الحقيبتين ليضيفهما إلى المتاع القليل بصندوق السيارة الخلفي. كانت مايا تجلس على المقعد المجاور للسائق تلتهم بعض المثلجات بينما يقف زين بجوار الباب يراجع بعض الأوراق مع مارثا، فاقتربت نور منهما زافرة بغضب وهي تقول بالعربية:
- على فكرة أنت لازم تعيد التفكير في اللي بتعمله ده ..!!
رفع رأسه إليها وبدا أكثر جمودًا بمنظاره الشمسي الذي يخفي نصف وجهه وهو يقول:
- قصدك إيه...؟
فانطلقت تخرج ما في جعبتها بأنفعال:
- أنت كدة بتخطف البنت و... وبتزور في أوراق رسمية... يعني بتساعد مجرم بيعمل أوراق زور وشهادات زور أنت عارف يا باشمهندس الوعيد لشهادة الزور..؟ دي من أكبر الكبائر بعد الشرك وعقوق الوالدين... ثم إني وصلت لمرحلة متقدمة جدًا في دعوة إيميلي لدرجة إنها بتفكر في الإسلام وممكن تعلن إسلامها قريب... هايبقى شكلنا إيه كمسلمين قدامها وأحنا أخدنا عامل عندهم وساعدناه على الهرب والتزوير و....
"شششششش... أستني شوية" قاطعها زين بصرامة وهو يرفع منظاره الشمسي لتجد أن مظهره الجامد خلف منظاره الشمسي كان أفضل بمراحل من رميها بتلك النظرات الغاضبة... الحادة... القاتلة وهو يردف بنفس صرامته الهادئة:
- أولاً دي بنتي وأنا مش بخطفها... أنا بنقذها وهيا فعلا نفسها تهرب من المستنقع اللي عايشة فيه ده... ثانيًا... أنا عارف كويس أوي أن التزوير داخل في شهادة الزور وقول الزور... بس التزوير اللي يُقصد بيه الوصول لحق مشروع مش هاوصل له إلا بالطريقة دي جائز جدًا إني أستخدم منه بالقدر اللي يوصلني لحقي بس... لأني هنا هابقى مضطر وربنا بيقول (فمن اضطر غير باغٍ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم)... وبعدين أنت ماتعرفيش أبو كارمن يبقى مين ولا هربان من إيه في مصر وأهون عليه قتلي أو سجني على أنه يسلم لي بنتي... ثالثًا بقى يا سيادة الداعية الكبيرة... فيه قاعدة شرعية بتقول (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) يعني إني أنقذ بنتي من الفساد اللي هيا فيه ده مقدم على أي اعتبار آخر... دعوة أو إحتمال إسلام... وعلى فكرة الأمريكان لما يحبوا يسلموا بيقروا في الدين كويس من غير ما يتأثروا بحد عشان كدة بيبقوا أحسن من مسلمين كتير أتولدوا لقوا نفسهم مسلمين من غير ما يقروا أو يفهموا..
كانت كلماته مرتبة وصحيحة إلى حد أذهلها وألجمها، فعمدت إلى تغيير الموضوع قائلة بذات التوتر:
- وبعدين إيه العربية دي...؟ هانركب فين إن شاء الله..؟
وكأن مارثا فهمتها فقالت وهي تقفز إلى المقصورة الخلفية مع الحقائب:
- سأركب أنا هنا ...
فهز زين كتفيه بسخرية قائلاً: - مافيش غير الكرسي ده ...
قالها ثم قفز بجوار أليخاندرو وحمل مايا على رجليه، ترددت نور قليلاً ثم لم تجد بدًا من الصعود لتجلس على تلك المساحة الصغيرة المتبقية في المقعد محاولة الابتعاد عنه قدر الإمكان إلا أنه كان لا مفر من شيء من التلامس، فرفع ذراعه ليضعها خلفها، لتنتفض في ذعر، فهمس لها:
- عشان تعرفي تقعدي كويس ...
كان محقًا.. فقد أفسح مجالاً ما ولم تلامسها ذراعه التي علقها على مسند الرأس الخاص بالمقعد بينما ذراعه الأخرى تحيط بخصر مايا التي بدأ النعاس يداعب جفنيها، و... أنطلق أليخاندرو إلى مدينة دالاس.
هاهو يقطع الطريق ثانية وقد أطمئن قلبه واستكانت لواعجه فقطعة روحه الهائمة تلقي برأسها على صدره جوار قلبه.
لم يشعر بمرور الساعات فبعد أن أطمأنت روحه وأستكان فؤاده لم يشعر بأهدابه وهي تتعانق ويسري الخدر اللذيذ في أطرافه ويروح في سباتٍ لم يوقظه منه سوى صوت أيخاندرو يعلمه بوصولهم...
فتح عينيه لـ.. لترتسم على وجهه ابتسامة لم يتمكن من حجبها... فذراعه اليمنى سقطت من عليائها واستقرت حول كتفيها بعد أن سقطت هي بدورها في سبات جعل رأسها تستقر على كتفه الأيمن رغمًا عنها.
أخذ يتأملها بحجابها الرمادي وملامح وجهها المستكين على كتفه و... نهضت مايا في حماس وهزت نور التي فتحت عينيها لتجد نفسها غارقة في نسيم عطره المختلط برائحة أنفاسه... أحلمٌ آخر يحمل عبقه أم... لكنها أعتدلت في حدة عندما وجدت نفسها نائمة على كتفه أسفل ذراعه الذي يحيط بكتفيها..!
أنعقد حاجبيها في حدة وتضرج وجهها بحمرة الخجل وهي تبتعد ناظرة إليه بغضب... فرفع كفيه بمحاذاة كتفيه وهو يقول بمرح لأول مره تلمسه في نبرته:
- بريء يا بيييه... أنا نمت زيك بالظبط... وليس على النائم حرج صح...؟
قالت بسخرية غاضبة: - ليس على النائم حرج..!!!
ألهذه الدرجة وجود ابنته غير في شخصيته ليتحول الشخص العبوس المشتعل إلى هاك المرح...؟؟!! كذا سألت نفسها لكنها لم تدر أن سقوط رأسها على كتفه وتأمله لملامحها النائمة لثاني مرة اقتلع من داخله مرحًا نادرًا. نادهم أليخاندرو ثانية بعد أن هبط من السيارة مساعدا مارثا على النزول، فترجلا وحمل زين صغيرته عازمًا أن يدفع لهاك الأليخاندرو كل ما يطلبه في سبيل عودة ابنته معه.
***
شاردة عن الكلمات الماثلة أمامها تعضعض القلم الذي كانت تكتب به منذ قليل... تدور هواجسها كرُحى يطحن تركيزها في أي شيء. ولاحظ هو شرودها... تشرد كثيرًا هذه الأيام على غير عادتها وكأن ثمة ما يكدرها. أقترب منها ببطئ... أنحنى نحوها ... أحاط كتفيها بذراعيه فانتفضت وجلة.
- خضتني والله العظيم...
- مالك يا توتِّي فروتي سرحانة في إيه..؟
ضحكت على اللقب الذي يطلقه عليها، ثم عادت لورقها قائلة:
- مافيش يا ياسر بفكر في الرسالة ...
نحى الورق جانبًا إلى آخر منضدة الطعام التي كانت تجلس إليها لتنسيق رسالتها، ثم قال:
- تؤ .. تؤ ... تؤ .. مافيش رسالة النهاردة خالص يا توتي ... أنا إجازة الليلة دي على فكرة ...
أسندت ذقنها على قبضتها وهي ترسم السماجة في قولها: - وإيه يعني ...؟!
أمسك كفيها قائلاً: - والعيال نايمين ...
لم تستطع منع ابتسامتها وهي تقول: - برضه إيه يعني ...؟
جذبها من على الكرسي لتنهض هامسًا: - والنهاردة الخميس ...
ضحكت بدلال قائلة: - فيه إيه يا ياسر ..؟
أزاح شعرها من على عنقها واقترب من أذنها هامسًاوهو يحيط خصرها بيده الأخرى:
- فيه أن العيلة وعيلة العيلة هايجوا بعد يومين يعسكروا هنا فـ..
لكنه لم يكمل حديثه حيث دفعته هاتفة وهي تضع يدها على فمها:
- أوووف يا ياسر ... إيه البرفيوم ده ..!
عقد حاجبيه بدهشة قائلاً: - دانهيل فريش اللي أنت بتحبيه وجبتيهولي هدية ...
أشاحت بكفها قائلة: - لأ ... لأ .. لأ ... ده حاجة قوية جدًا مش ...
لكنها لم تكمل حيث أزداد شعورها بالغثيان وهرعت إلى الحمام تفرغ ما بمعدتها، بينما عقد ياسر حاجبيه وأخذ يتشمم ملابسه متمتمًا: - والله لسة مستحمي ...!!!!
***
غناء... حديث من طرف واحد... تقليد لأصوات شخصيات برامج الأطفال المشهورة... ما هذا..!!
لقد نام طويلاً منذ وصولهم إلى مانهاتن وعندما استيقظ ليدخل دورة المياه سمع كل هذا...!
جلس على أريكة مريحة بالقرب من باب الحمام وهو يفكر... كيف تأتي بكل تلك الطاقة..! كيف استيقظت وأخذت صغيرته تحممها كما هو واضح وتغني لها وتحكي قصصًا دون تفاعل من الصغيرة أو حتى كلمة واحدة..! شعر بغصة في حلقه لما آل إليه حال ابنته... تلك القطعة الأجمل منه... لكنه سيذهب بها إلى الصحراء... سيسمعها القرآن والشعر ويتحدث إليها ويدعو الله أن يفك عقدة لسانها من عنده.
و... خرجت الصغيرة ومعها تلك الكبيرة الصغيرة التي تحملها وعلى وجهيهما ابتسامة واسعة.. صافية... لم تلبث أن أختفت من على شفتي نور عندما رأته جالسًا في مواجهتها مباشرة.. يتأملهما بجرأة نادرة..! شعرت بالإحراج من عبائتها القطنية المبتلة عقب اللعب مع مايا بالمياه وشعرها الثائر الذي أبتل بدوره وألتصق برأسها، فأسرعت إلى غرفتها دون أي كلمة... أبدلت ثيابها وثياب مايا وأعطت الصغيرة آخر مغلف جرينولا موجود بالمنزل لتتناوله ثم خرجت لتجد زين لازال جالسًا في مقعده وقد شرد ناظرًا من النافذة الضخمة المطلة على نهر هدسون.
-"أنا نازلة أجيب شوية حاجات لمايا وللبيت.."
قالتها بهدوء وهي تتحاشى النظر إليه، فنهض واقفًا وهو يقول:
- طيب استني دقيقة ...
قالها ثم أختفى بالغرفة التي يبيت بها وخرج مادًا يده إليها ببعض الدولارات وهو يقول:
- أتفضلي .. أشتري كل اللي أنت عايزاه ...
عقدت نور حاجبيها قائلة:
- أنا معايا فلوس على فكرة... أنا كنت باشتغل هنا وليا دخلي اللي قدرت أوفر منه مبلغ كويس و ...
إلا أنه قاطعها بحزم:
- مايهمنيش الكلام الفارغ ده... خلي فلوسك لنفسك... مش ممكن تصرفي على بنتي من معاكي وبعدين...
قاطعته بدورها: - ماتنساش أنها بنتي أنا كمان... وعادي إني أجيب لها من معايا ...
خفق قلبه بعنف لعاطفة الأمومة لديها التي تسبغها على مايا دون مواربة لمجرد أنها أرضعتها يومًا ما، إلا أنه لم يفقد حزمه وهو يكمل كلامه وكأنها لم تقل شيئًا:
- .. وبعدين أنت مسئولة مني... يعني فرض عليا أجيب لك كل اللي أنت عايزاه في حدود إمكاناتي... حتى لو جوازنا حبر على ورق... أنت لسة مسئولة مني كبنت عمي... أحنا عرب ومسلمين يا مدام مابنمشيش بالنظام الأمريكاني... خدي الفلوس من فضلك ..
كان دورها الآن كي يخفق قلبها من كلمة "مسئولة مني" وكأنها لم تجد في حياتها من يقلها لها سوى أم مريضة واهنة ضعيفة رحلت سريعا.. لم تجد أب ولا أخ ولا حتى زوج قبل هذا يشعرها أنه سند وأنها رعيته وأنه مسئول عنها ...!! لكنها أمعنت في عنادها وهي تعقد ذراعيها على صدرها قائلة بسخرية:
- أنت ناسي إني كمان ليا ورث بتاع أبويا وممكن أبقى أغنى منك ...
حدجها بنظرة نارية وهو يقول:
- قلت لك مايهمنيش الكلام ده وخلي فلوسك لنفسك... حتى لو معاكي مال قارون طول ما أنت اسمك مرتبط باسمي يبقى أنا مسئول عنك وزي ما قولت برضه... في حدود إمكانياتي.. هافضل مادد إيدي كدة كتير..!!!
تناولت الدولارات منه في صمت ثم أنحنت نحو مايا قائلة بحماس:
- Let’s go shopping..
أبتسمت الصغيرة بسعادة مشيرة بإبهامها إلى أعلى ثم أمسكت بيد نور وخرجتا من المنزل.
أما زين... فقد دلف إلى الحمام ليقف أسفل الماء الدافئ في سكونٍ تغشاه وكأن كل البراكين الثائرة بداخله قد خمدت بلقائه بأميرته الصغيرة، متجاهلاً ذاك البركان الخامد ظاهريًا بأقصى اليسار والذي تحوم فوقه علامات استفهام حول تلك التي أشعلته بلمسة في يومٍ ماطر ثم قرر هو بكل ما فيه من قوة أن يخمده تمامًا ببرد لا مبالاة يتلبسها ولو قسرًا وكأن حلة اللامبالاة درعٍ واقٍ سيقيه من طعنة غادرة أخرى ..!!
قاطع تأملاته صوت جرس الباب وطرقات محمومة عليه... انتفض في ذعر وكل ما قفز في ذهنه أن صغيرته قد أصابا مكروهًا... أسرع بلف منشفة ضخمة حول وسطه وخرج من الحمام وجسده يقطر ماءًا وفتح الباب بلهفة متسائلاً عما هنالك ...
- "صباح الخير يا فندم ... أخبارك إيه ...؟ أنا أول ما عرفت أن حضرتك هنا قلت آجي على طول عشان ألحق أقابلك قبل ما تختفوا بسرعة تاني ..."
***
نعم ... لقد ود وقتها أن يكيل له لكمة قوية في وجهه الوسيم ذو الابتسامة السمجة ذاك ...!!
أي أخلاق أو عرف أو تقاليد تبعثه على طرق الباب بتلك الطريقة المحمومة ...!!
من هذا الشخص أصلاً...؟
- "يظهر إني جيت في وقت مش مناسب ... بس أنا موضوعي مهم جدًا مستنيه بقالي سنين وممكن استنى حضرتك لحد ما تخلص الشاور وتلبس ونتكلم ..."
قالها ثم دخل إلى المنزل دون دعوة متنحنحًا بصوت مرتفع، إلا أن زين أمسكه من ذراعه وهو يقول بعصبية: - أستنى هنا... هيا وكالة من غير بواب ...؟؟ مين حضرتك ..؟
نظر الزائر إلى يد زين الممسكة بذراعه ثم جذب ذراعه بهدوء قائلاً وهو يعدل من ياقتي قميصه بفخر:
- مهند ... مهند التوني ...
ضيق زين عينيه وهو يقول في نفسه (جيت لي برجليك)، إلا أنه أشار دون اهتمام قائلاً:
- طيب أقعد هنا استناني ..
اتسعت ابتسامة مهند وجلس بسعادة على أحد المقاعد وهو يقول في نفسه:
- أكيد حكت له عني ... أكيد ..
بعد خمسة عشر دقيقة ظهر زين مرتديًا ملابسه وممسكًا بقدح من القهوة يرتشف منه بهدوء دون أن يكلف نفسه عناء دعوة ذلك الزائر الوقح على قدحٍ مماثل، إلا أن مهند بدأ حديثه مباشرة ...
- من ساعة ما صاحبة مدام نور الألمانية قالت لي إن حضرتك بتيجي كل فترة هنا وأنا بحاول أقابلك بس ماتوفقتش إلا النهاردة يظهر أنه يوم سعدي ...
أشار له زين باستهتار قائلاً: - وأنت عايز تقابلني ليه بقى إن شاء الله...؟
قال مهند بسعادة:
- خير... خير إن شاء الله وبعدها مش هاطلب منك قهوتي اللي ماخدتهاش لحد دلوقتي... لأ... هاطلب منك شربات ...
عقد زين حاجبيه وهو يقول: - أفندم ...!!!
أتسعت ابتسامة مهند حتى كادت أن تبتلع ملامحه وعاد يعدل من ياقتي قميصه وهو يقول:
- يا فندم ... يسعدني جدًا ويشرفني إني أطلب إيد أخت حضرتك ...
تراجع زين مذهولا وكاد يسأله من أين يعرف أخته، إلا أن مهند أردف:
- .. مدام نور ...
ضحك زين ثم قال ساخرًا:
- والله...؟ ليه بقى عايز تتجوز أخت حضرتي.. مدام نور...؟
قال مهند بحماس:
- دي إنسانة مافيش زيها اتنين ... والله بتفكرني بأمي الله يرحمها ... إنسانة تصون وتعشش حتى لو جوزها إبليس نفسه ...!
رفع زين أحد حاجبيه قائلاً:
- تصون ..؟ وتعشش...؟ إيه الكلام الكبير ده ... !!
قال مهند بسرعة: - آااه... أصيلة... أصيلة مأصلة... عمري ما هنسى وقفتها جنب المرحوم أما دخل السجن رغم كل البهدلة اللي كان مبهدلهالها واللا أما تعب شالته في عينيها... رغم كرهها ليه.. باقولك حتى لو جوزها إبليس تشيله جوا عنيها...
عقد زين حاجبيه وهو لا يفهم شيئًا من ذاك التره ثم قال:
- أنت بتقول إيه يا ابني أنت ...!!
تنهد مهند قبل أن يقول: - والله فعلا كأنها كانت متجوزة إبليس ...!!
أعتدل زين من جلسته اللامبالية وهو يهتف بغضب: - قصدك إيه ...؟؟
تنهيدة حارة أطلقها ثانية قبل أن يقول مصطنعًا أسًا زائف:
- أكيد من أصلها الطيب ماحكتلكوش على اللي كان بيعمله زكريا الله يرحمه معاها ... بس أنا كنت عارف لأنه ماكانش بيخبي عليا حاجة... زكريا اللي كان جوزها ده من ساعة ما وصل أمريكا وهو منطلق... عايش حياته بالطول وبالعرض... صرف فلوس الشغل وبعض عرابين الصفقات على شربه وخليلاته .. وكان قدام حيطة سد خلاص لو أخوه أو أبوه شموا ريحة الموضوع ده هاينزلوه مصر وماكانش هايحصَّل كلاف في أرضهم على قولته ...
حك زين ذقنه النامية بكل من سبابته وإبهامه ورفع أحد حاجبيه متأملاً ذلك الشخص الذي طالما حكى عنه زكريا عن أنه صديقه الصدوق... تُرى أي لعبة قد أتى ليؤديها اليوم..!
- ... بس زاك كان مأمن نفسه كويس وزارع جواسيسه في البيت الكبير ... قال لي أن بنت قريبته كدة بنت عمته تقريبًا كان معشمها بالجواز وبتنقل له كل صغيرة وكبيرة بتحصل في بيتهم في النجع... المهم عشان ماطولش عليك عرف بظهور بنات عم ليه مات من زمن - اللي هما أخوات حضرتك- ... والبنات أكيد هايطالبوا بورثهم... فسبق بسرعة يطلب يتجوز واحدة منهم... وفعلاً... وصلت بنت عمه... كانت صغيرة عمرها 19 سنة بس إيه... بميت راجل... ماتنازلتلوش عن قشاية من ورثها... كان بيضربها ويعذبها ويشرب ويخونها في نفس البيت ده عشان تتنازل عن ورثها وينقذ نفسه من الفضيحة قدام أهله.. عاشر ستات أشكال وألوان قدامها وهي ثابتة على موقفها تطلب الطلاق شوية وتنصحه شوية لحد ما حصل اللي كان زاك خايف منه ... قدم عميل من العملاء شكوى فيه لأنه أخل بموعد التسليم ... وأتقبض عليه وأتسجن... كان ممكن يقعد في السجن فترة طويلة لحد ما يعفن ومدام نور تتطلق وتعيش حياتها اللي سلبها منها بجنونه ومجونه .. بس هيا ماخانتهوش زي ما خانها... ووقفت جنبه... كلمت العملا وعملت معاهم اتفاقيات جديدة وخليتهم يتنازلوا عن البلاغ وطلعته من السجن... ويا ريته بعد ما طلع فكر يقدرها واللا يشكرها... لأ.. ده صاحب واحدة جارته... عارضة أزياء بحر أمريكية وكان دايمًا عندها... صاحبته الأمريكية حبته وكانت بتصرف عليه ومدام نور شالت الشغل كله والصفقات وكانت بتديره مع شغلها في المدرسة اللي بتروحها... فكان فيه هدنة بينهم في الأيام دي لحد ما ....
صمت مهند قليلاً قبل يقهقه زين عاليًا وهو يقول:
- إيه يا ابن التوني ...؟ مش عارف تكمل قصتك الظريفة دي...؟
تغيرت ملامح مهند الضاحكة إلى شبه عبوس قبل أن يقول:
- فيه إيه يا فندم ..؟ أنا مقدر خوفك على أختك بس والله ده اللي حصل... أنا بس اترددت شوية مش عارف أقول لك واللا لأ.. بس هاكمل لك وأمري لله... كان فيه هدنة سنتين أو تلاتة تقريبًا... وزاك مرافق صاحبته دي في العروض والنوادي الليلية بقى شبه مدير أعمالها... كان مفتون بيها جدًا لدرجة أنه ماكانش ملاحظ أنه بدأ يتعب ويرهق بسرعة... وفي يوم من الأيام راح المستشفى و... وأكتشف أنه عنده الإيدز ...
سقط فنجان القهوة من يد زين متهشمًا... رغم أنه كان مقتنعًا من داخله من كذب هاك الشخص.. إلا أن الكلمة صدمته... كيف يتجرأ ... بل كيف يتمادى في كذبه إلى هذا الحد..!!!
- "وأنت بقى شايف العصافير اللي على رقبتي واللا الختم اللي على قفايا ...؟؟"
تسائل زين وهو يرمقه بنظرة نارية جعلت مهند يرتبك وهو ينقل بصره بين الفنجان المهشم ووجه زين الذي يغلي بجحيم من الغضب.
- "حـ ... حضرتك ليه بتكلمني كدة...؟؟ أنا حكيت كل اللي أعرفه و..."
نهض زين كليثٍ متحفز ليصل إلى مقعد مهند بخطوة واحدة ويستند بيديه على ذراعي مقعد ذلك الأخير منحنيًا نحوه وهو يقول بفحيح قاتل:
- بس ألشت منك أو من اللي مألف لك القصة المرة دي... عايز تفهمني أنك عايز تتجوز واحدة أنت عارف ومتأكد أن جوزها كان عنده الإيدز..!! ليه.. مستغني عن حياتك واللا يا نعيش عيشة فل يا نموت إحنا الكل...!!!
فهم مهند ما يرمي إليه زين فزال توتره وتراجع في مقعده غير عابئ بذاك المنحني نحوه وقال بهدوء:
- أيوة جوزها كان عنده الإيدز بس هيا لأ ...!
تراجع زين قائلاً بسخرية: - ده التطور الطبيعي للمرض القاتل واللا ...
قاطعه مهند بثقة: - آه كان جوزها بس ماكانش بيعرف يجي جنبها... ولا عمرها كانت مراته بالصورة المفهومة... وعشان كدة أنا متمسك بيها... ذاكرة جسدها بيضاء... أنا واثق إني هاكون أول راجل في حياتها...
لم يتمالك زين نفسه من موجة ضحك قوية أنحنى على أثرها ودمعت عيناه ثم أعتدل وقال وهو مستمرًا في الضحك:
- مش ممكن على قصتك اللي ماتدخلش الدماغ دي يا ابني أنت... يا بني آدم أمال أبنها ده جايباه منين...؟ من السوبر ماركت واللا ممكن تكون ...
قالها وقد انقطعت قهقهاته وجحظت عيناه وهو يحدج مهند بنظرة شك، فهتف مهند وهو ينتفض واقفًا:
- لأ بقى.. كله إلا ده... أنا ماشوفتش أطهر ولا أنقى ولا أخلص من نور لجوزها حتى لو كان شيطان... باقولك أنا حاولت أقنعها تسيبه مرمي في السجن زي الكلب وتتطلق وأتجوزها أعيشها ملكة متوجة بس مارضيتش.. مارضيتش تخون حتى الخاين...
قالها ثم سار حيث زين ليقف خلفه ممباشرة وينحني على أذنه مردفًا بهمس:
- زكريا كان بيحكي لي تفاصيل علاقته بكل ست قابلها... أدق أدق التفاصيل... حتى مراته... كان على استعداد يحكي لي عنها كل حاجة لولا أن ربها أنقذها منه... لأنها أول ما وصلت... شرب لحد ما غاب عن وعيه.. وانتهكها غصب عنها والفودكا مع الحشيش خلوه يتوه ويفقد وعيه ويصحى مش فاكر أي تفاصيل... ومن يومها وهيا حملت وهوا مش قادر يلمسها كزوج... كان بيضربها وحاول يجهضها بس نجت منها بأعجوبة... كان دايمًا يقول لي أنه أما يشوفها بتصلي بلبس الصلاة الأبيض يفتكر أمه ويحس بكهربا بتصعقه كل ما يفكر يقرب منها.. دي حاجة... الحاجة التانية أنا شوفت ملفها في المستشفى اللي كانت دايمًا بتروحه وتحلل لأن ممكن المرض يتنقل لها عن أي طريق تاني بس كانت دايمًا تحاليلها عن المرض ده بتطلع نيجاتيف... مفيش إيدز ...
قالها ثم ابتعد عنه قليلا هاتفًا:
- زكريا بس اللي ربنا عاقبه على عربدته وجاله الإيدز واتطور بسرعة و....
"كدااااااااااااااااب ..."
لم تكن صرخة زين... بل صرخة أنثوية مبحوحة جاءت من خلفهما من عند باب المنزل، فاستدارا معًا لتقع أعينهم على نور التي تقف وسط أكياس سقطت من يديها ومايا تنظر نحوها بدهشة حيث تقدمت بدمعات متحجرة في عينيها لتقف أمام مهند هاتفة:
- أنت إيه اللي جابك هنا ...؟
- هربتي مني بعد عدتك ليه ..؟ مش قولتي لي بعد ما العدة تخلص يحلها حلال...؟
- قلت لك عمري ما هاتجوزك حتى لو انطبقت السما على الأرض... أنت إنسان خاين وكداب ..
- كداب ليه..؟ عشان باقول الحقيقة..؟ مش مات بالإيدز اللي جاله من عارضة الأزياء دي..؟ ليه عايزة تدفني راسك في الرمل ..؟ ليه ...
إلا أنه قاطعه تصفيق هادئ من زين الذي كان يتابعهما وهو يبتسم باستخفاف، فنظرا إليه بعدم فهم ليقول:
- لأ برافو... برافو يا مدام... برافو يا أستاذ... مشهد هايل.. تمثيل متقن.. حتى دموع التماسيح اللي على وشك دي يا مدام حلوة أوي...
قالها ثم جذب ذراع نور بقوة وهو يقول بصرامة قاتلة:
- صدق اللي قال "رمتني بدائها وانسلت"... زكريا يا هانم حاكي لي عنك وعن خيانتك ليه... باعتالي بهلوان يفهمني إن أخويا هوا اللي خاين لأ وكمااان موتيه بالإيدز...!! لأ والله رواية حلوة تنفع تبقى فيلم سينيمائي هايل... الملاك والشيطان... مش كدة يا دنجوان عصرك وأوانك...؟
قالها وهو يطلق سراح نور التي هرعت إلى مايا التي بدى على وجهها إمارات الخوف، فأخرجت لها الآي باد الخاص بها ووضعت لها سماعات الأذن حاملة إياها إلى غرفتها وهي تقوم بتشغيل أحد أفلام الكارتون المفضلة لها. بينما كان مهند يهتف: - هوا فيه إيه بالظبط ..؟ أنا مش فاهم ...!!
وحقق زين ما كان يصبو له منذ أن رأى وجه مهند بابتسامته السمجة... سدد له لكمة قوية على حين غفلة جعلته يرتد إلى الوراء ويسقط على الأريكة... وهو يصيح:
- فيه أنك إنسان واطي وكداب بتتبلى على راجل ميت لأ ومش أي حد... صاحبك اللي نضفك وخلى لك قيمة وشغلك معاه بعد ما كنت صايع بتغسل صحون وبتلمع أحذية... بتتهمه بالفاحشة وأنه كمان مات بالإيدز ...
نهض مهند وعينيه تقدح شررًا... لقد أيقظ فيه ذلك الشخص الفتى المشرد بأزقة بروكلين وسيريه من هو ذلك (الصايع).. هجم مهند على زين بجسده الضخم الذي يفوق زين طولاً وعرضًا ثم ثنى ذراعه خلف ظهره وأخرج مدية من جيبه وهو يقول لزين بفحيح غاضب:
- أنا مستحملك من الصبح... بس دلوقتي تشوف بقى الوطينة والصياعة على أصولها يا ابن الذوات... بس لمعلومك... أخوك اللي أنت زعلان عشانه كان أوطى مني وآه... مات بالإيدز... ولو عايز تتأكد روح مستشفى لينوكس هيل اللي مات فيها واسأل... أقولك.. أنت كدة كدة هاتروح المستشفى بعد ما أعلم عليك يا ابن البشوات...
قالها وكاد يمرر مديته على وجه زين لولا قدوم نور التي أمسكت بيده وقالت بصرامة:
- أظن كفاية كدة وتطلع برة يا مهند وماشوفش وشك هنا تاني...
تراخت يد مهند الممسكة بذراع زين فانسل ذلك الأخير من قبضته وركل مهند بقوة ليسقط أرضًا لتصيح نور:
- كفااية ... كفاية حرام عليكوا ...
قال زين بغل: - خايفة على حبيب القلب وشريكك في التمثيلية أوي كدة ..!!
أما مهند فقد نهض هاتفًا: - نور .. سيبك من العيلة دي وتعالي نتجوز ...
ضحك زين بشدة بينما قالت نور: - مش هاينفع يا مهند ...
صاح زين من بين ضحكاته الهيستيرية:
- مهند ونور... لأ لايقين على بعض أوي.. هاتعملوا مسلسل تركي ممتاز.. بس هايبقى اسمه العشق الممنوع يا سي مهند باشا... عارف ليه..؟ لأن الست سمر... قـ... قصدي الست نور أتجوزت ...
نظر مهند إلى نور بذهول بينما أكمل زين وهو يستل منه مديته مشيرًا بها إلى نفسه:
- وجوزها مش شوال بطاطس ولا طيب وحنين عشان يسيبكم تعيشوا في الدور ...
نهض مهند بغيظ وقد أدرك ضياع كل شيء من بين يديه فهتف بزين:
- بس جوزها وعيلته كلها هايعيشوا بعار أن ابنهم مات بالإيدز... مات زاني... مش بتقولوا عليه كدة برضو؟ .. ومش مرة واحدة لأ ده كان...
الصفعة هذه المرة كانت من يد نور التي سقطت على وجهه لتخرسه وهي تهتف:
- أنت إنسان حقير وكداب.. أطلع برة ... برررة ...
أخذ يدلك وجهه في غيظ وهو يقول:
- أنا كداب ...!!! ماشي يا مدام... على فكرة ... صفحة الفيس بتاعة المرحوم لسة موجودة وفيها صوره مع أغلب الستات اللي عرفهم... هاوريكي الكداب ده هايعمل إيه أما يجيب كل الوثائق من المستشفى اللي مات فيها واللي بتثبت أنه مات بالإيدز وأنزلها على صفحته وأفضحكم على الملأ... ماشي يا نور... أنا كنت عايز أخليكي ملكة بس يظهر أنك بتحبي الرجالة اللي بتهينك... المرحوم وأخوه مايفرقوش عن بعض كتير زي ما هو واضح من معاملته معاكي...!!
قالها ثم توجه نحو الباب خارجًا بينما وضعت نور يدها على جبهتها مغمضة عينيها كمن تذكر شيئًا هامًا وهي تتمتم:
- الفيييس .... يا ربي ... ده اللي نسيته ...
قالتها ثم توجهت إلى غرفتها تغلقها عليها دون أن تتبادل كلمة أخرى مع زين بعد أن اهترئ بينهما الحوار، أما هو فأخذ يعبث شاردًا بالمدية التي كانت لاتزال بيده قبل أن يقرر أن يتصرف سريعًا قاذفًا بالمدية إلى الجدار المقابل لتنغرس في لوحة جدارية تحمل جملة برنارد شو الشهيرة "let bygones be bygones" مكتوبة بحروف حمراء قانية.
*****

Just Faith 18-12-17 01:44 PM

-7-

” وكن إنسَانًا لا أكثر، فإنك تحاول أن تصير إلهًا فتصير شيطانًا؛
واجعل من فقرك ومصائبك وأحزانك سمادًا لهذه الزهرة الناضرة، زهرة الروح الحية،
فإنها تغتذي بكل ذلك وتحيله الى نضرة وجمال وعطر يتأرجح،
وأضيء نفسك فإن حولك ضياءًا يغمرك من لدُن تفتح عينيك إلى أن تنام“

مصطفى صادق الرافعي

***

أكثر من عشر درجات تحت الصفر، سماءٌ رمادية باكتئاب، وجليد ناصع البياض يتراكم فوق الأسطح .. يغطي أفاريز النوافذ وأغصان الأشجار المنتصبة وسط بياض الجليد عارية من أوراقها، ولاتزال ندف الجليد الهشة تتساقط رذاذً ناعمًا لا يكاد يُرى... بياض، بياض، بياض. بياض صقيعي، كثيف وهش.

لقد اعتادت أن ترنو إلى أكثر أفكارها برودة وانقباضًا من وراء تلك النافذة، تجلس على إفريزها الداخلي الضخم... تضم رجليها المثنيتين إلى صدرها وبخار أنفاسها يرسم ذكرى مبهمة على الزجاج، بينما تتوه عيناها في ازدحام أغصان الأشجار الداكنة التي عراها الشتاء، ووسط ازدحام مشاعرها وأفكارها يلتمع تساؤل أحمق (لماذا...؟) فتهز رأسها بعنف محاولة تجفيف أدمعها التي أخذت في التساقط بصمت.

هي لا تتسائل عن أسباب الحتميات القدرية؛

ولا هي تستجوب قدرها المسطور..!

و... تخترق زلاجة ما الجليد... عليها تجلس أميرة متوجة وقد تدثرت بملابسها جيدًا غير عابئة بالبشر المهرولين حولها مخترقين الجليد بصعوبة بينما هي تجلس براحة على زلاجتها وثمة من يجرها لها.. تقلب عينيها في ما حولها ثم تشير إلى شيء تريده في دلال ليهرع أبويها اللذين كانا يجرا الزلاجة منذ قليل يداعبانها في عشق، ويحملها أباها لتتطاير جديلتها من أسفل قبعتها الصوفية فتتعلق في عنقه بأمان. "لماذ لم تحظ بحياة أسرية هانئة بين أبويها كتلك الصغيرة المدللة..؟؟!" وعاد السؤال يطفو بخبثٍ من جديد كنصل حاد موجه إلى أصل كيانها، فشهقت بعنف وهي تحكم ضم رجليها ودفن وجهها بين ذراعيها.

لا تدري أكانت غفوة قصيرة أم أنها عمدت إلى تغييب عقلها الواعي عن العمل لدقائق علَّ شيطان الشك يفارقها، لكنها عندما رفعت رأسها لترمق الشارع الشاحب شبه الخالي في ذلك الوقت من الليل أبصرت شبحين على الضفة الأخرى مدثرين يمسكان بجواريف... مع التدقيق تبينت أنهما فتى وفتاة أُنيط لهما العمل في ذلك الليل يجرفان الجليد على جانبي الطريق... قبلة خاطفة ويشرعان في جرف الجليد.. قبلة، ويزيحان الجليد إلى الأجناب، قبلة ويواصلان شق الطريق. مشهد مر عليها ما يشابهه عشرات بل مئات المرات طيلة تواجدها بتلك المدينة وكانت تغض عنه الطرف في استهجان، لا تدري لماذا اليوم ظلت تتابعهما مفغورة الفاه ويعاود السؤال تسليط نصله على جذورها "لماذا لم تعش قصة حب مع زوج يحبها وتحبه..؟ لماذا لم تنل فرصة اختيار بيتًا للزوجية ولو كان عُشًا وتأثيثه بذوقها كسائر الفتيات..؟؟"

أختفى شبحي الفتى والفتاة وأنسحقت هي بين رُكام أفكارها المشتتة وكاد شيطانها يضحك منتصرًا ويشرب من عقيدتها نخب انتصاره حتى أنتفضت على صوت مكابح قوية لسيارة فقد قائدها السيطرة عليها على الطريق الجليدي الزلق، فأخذت تترنح يمنة ويسرة في جنون حتى أنقلبت رأسًا على عقب وأخذت في الأنقلاب حتى استقرت بعيدًا وسط كومة من الجليد لا تتبينها إلا بخيط كثيف من الدخان الرمادي.

هنا أطل إيمانها بحكمة رابطًا على قلبها لتستل اسئلته سموم الشك من وجدانها الصافي.

"لماذا وُلدتِ مبصرة مع إمكانية أن تولدي ضريرة..؟

لماذا لم تنقلب بك سيارة كتلك فتصيبك بعاهة مستديمة..؟

لماذا نجوت من براثن المرض القاتل الذي كان قاب قوسين أو أدنى منك..؟

لماذا حظيتِ بطفل سليم ذكي عاشقٌ لكِ بينما كثيرات أخريات يبتلين بأطفال معاقين أو يفقدن أطفالهن يوميًا..؟ "

أنتفضت نور على هذا الهاجس فنهضت لتجفف أدمعها وهي تهمس بكل ما يعتمل بداخلها من مشاعر "الحمد لله" لتطعن شيطانها في مقتل، ثم قفزت من على إفريز النافذة الذي أحتلته منذ رحيل مهند ولم تتزحزح من عليه لوقتٍ طويل.

خرجت بصمت إلى الردهة الهادئة لتجد مايا مستلقية على الأريكة دون غطاء فدثرتها جيدًا ثم أغلقت التلفاز الذي كان يعرض فيلمًا للرسوم المتحركة بينما يستقر كوبًا من المياه وبعض الكتب على المنضدة أمام الأريكة في حين حوت المنضدة الجانبية طبقًا يحتوي على بقايا كورن فليكس بالحليب يبدو أن هذا ما تمكن زين من إعداده لها عندما شعرت الصغيرة بالجوع.

عقدت نور حاجبيها في مقت حين طاف بذهنها اسمه وشعرت بشيء من الراحة عندما تأكد لها خلو المنزل منه فالغرفة التي يحتلها بابها مفتوح وتبدو فارغة.. تمامًا. وقفت عند باب تلك الغرفة التي كانت وكرًا للوجع... ملاذًا للمرض، و.. صرحًا للموت... وتوالت الذكرى على عقلها كأمطار من سجيل منضود.

***

كان قلَّما يجمعهما مكانًا واحدًا...!

فالأخرى تتعمد تحاشيها بأسمالٍ من خجل بالي فشل في ترقيع واقع مخزي..

فهي في النهاية... عشيقة زوجها...!!!

لم تدر أنه – لولا الكَبيرة التي سقطا فيها – لتقدمت نور إليها بالشكر...!!

فتلك الفاتنة الشقراء ذات الجسد الأنثوي مكتمل الاستدارة ذهبت بلُب زكريا فأنسته كل شيء عن مطالبة زوجته بميراثها.. أغرقته بكل ما يشتهي من حفلات وسهرات ومشروبات، حتى إنه صار يقيم بمنزلها المجاور لمنزل زوجته و.... ابنه. أبنه الجميل ذو الأعوام الأربع الذي لا يطيق مشاغبته الهادئة فيستغلها لضربه وتقريعه عندما يصادف وجودهم معًا بالمنزل؛ فذلك الصغير ببرائته يذكِّره بمحاولاته المشوهة للتخلص منه... نقاؤه يذكره بالمستنقع القذر الذي يغرق به دون رجعة... فصار متنفسه هو الإمعان في ضرب ابنه ومعاملته بقسوة مما أدى إلى اهتزاز ثقته بنفسه ولعثمته في الحديث، فصار يكرهه أكثر.

صوت رسالة نصية... شهقة... ثم سقوط وانخراط في البكاء...!!

تبادلت نور النظر مع إيفا التي كانت تجاورها بالمصعد وثالثتهما عارضة الأزياء التي سقطت على أرض المصعد تبكي بهيستيريا وتنشج في ألم. وبإيمائة من عيني صديقتها توجهت إيفا إلى كارولينا تسألها بتردد:

- هاي... هل يمكنني مساعدتك...؟

رفعت كارولينا آدمز عينيها الحمراوين تنقلهما بين نور وإيفا وهي تنوح بجنون:

- مساعدتي...؟!! لا يمكن لأحد مساعدتي... لا يمكن أن يأخذه أحد من جسدي.. سيقتلني... سيشوهني... لن أعود كارولينا آدمز ملكة عارضات تكساس...

كانت تلطم وجهها بعنف ثم نهضت نحو نور تصرخ بها:

- أنتِ... أنتِ التي مارستي سحرًا أسود كي يصيبني ذلك المرض اللعين...

تراجعت نور إلى الخلف وقد فاجئتها بهجومها بينما توتر عيسى خائفًا، أما إيفا فقد جذبت كارولينا من ذراعها قائلة بحزم:

- يبدو أنكِ أسرفتِ في الشراب يا فتاة وتهذين بترهات غير معقولة...

أومأت كارولينا في جنون وهي تقول: - نعم... نعم... هذا ما سأفعله... سأشرب كثيرًا ... سأشرب كثيرًا جدًا حتى أنسى رسالة طبيبي المعالج الخرقاء تلك... سأنساها كأن لم تكن... ثمة خطأ ما حتمًا... فليس ممكنًا أبدًأ أن تُصاب الفاتنة كارولينا آدمز بالإيدز... هذا خطأ... خطأ أكيد...

فُتحت أبواب المصعد لتخرج كارولينا وهي لا تزال تهذي بكلمات مبهمة تتبعها نور الممسكة بابنها في قوة وإيفا التي ألجمتها الصدمة لتقضي أغلب وقتها مع صديقتها يخيم عليهما صمت مثقل بخوفٍ وكل منهما تدور في فلك ذات الأفكار... حتى رحلت إيفا... ولأول مرة تعمد نور إلى انتظار عودة زكريا التي تتوقعها عقب الإغلاق المزمع لأبواب خليلته الغائبة في مصيبتها في وجهه.

وصدقت نبؤتها وعاد الزوج وهي لم تزل في مجلسها تفكر كيف ستنقل إليه تلك المعلومة القاتلة... تقلب في رأسها مئات الطرق لتنتقي أخفها وقعًا.

- "يااااه الكونتيسة... البرنسيسة بذات نفسها قاعدة في الهول وما هربتش أما دخل عليها جوزها الوحش المخيف ... المتشرد الشرير.."

قالها بسخرية وإمارات الضيق بادية عليه حيث أغلقت كارولينا باب منزلها من الداخل ولم يتمكن من الدخول فأضطر العودة إلى منزله ليرى نور تشع بملابس صلاتها البيضاء التي يرى فيها كل ذلاته بوضوح قاتل.

- "زكريا... من فضلك عايزة أكلمك في موضوع خطير..."

لأول مرة تناديه باسمه بتلك الرقة وعيناها... عيناها مترقرقتان بنظرة أخرى أكثر إشفاقًا من نظراتها القوية المتمردة الصادة عنه. عقد حاجبيه وأشاح بوجهه عنها وهو يجلس في إرهاق على الأريكة يخلع نعليه ثم يريح رأسه على المسند الخلفي مغمضًا عينيه مدلكًا جبهته في إرهاق وهو يقول ساخرًا:

- إيه..؟ وحشك المحاضرات والتنظير...؟ أنت مش لسة مدياني محاضرة أول أمبارح إني ما ألمسش ابنك وإلا هايكون آخر يوم في عمري...!!

أغمضت نور عينيها وعضت على شفتها السفلى في ألم ثم تنحنحت لتجلي صوتها قائلة بصوت أشبه للهمس:

- زكريا أنت... أنت.. مش ملاحظ أنك بقيت دايمًا تعبان ومرهق..؟ مافكرتش تروح ... تروح تكشف..؟؟

أعتدل زكريا الذي كان بدأ في حل أزار قميصه، إلا أنه توقف ونهض بحدة هاتفًا:

- إيه اللعبة اللي بتلعبيها دلوقتي...؟ إيه... بتمثلي دور الزوجة المهتمة...؟ زهقتي من دور الواعظة والمتمردة وجاي على بالك تلعبي دور الزوجة...؟ ماتضحكيش على نفسك يا هانم أنا عارف أنك مش طايقاني والشعور متبادل على فكرة...

زفرت نور وهي تدرك أن الطريق طويل وحتمًا مرهق، لكنه يجب أن يعرف... يجب.

- زكريا أنت... لازم... تروح تكشف و... تعمل تحاليل..

وجهها الهادئ المشفق... خمارها الأبيض ... كلماتها الهامسة... تذكره بها... عندما تدَّعي اهتمامًا...!

كل تركيزها كان مع شقيقه الأكبر الهادئ المطيع الذي تعشقه الجدة... ثم عشق الفتاتان الصغيرتان اللتان لحقتاه؛ أما هو... فدائمًا ما نال بقايا اهتمام... بقايا حب... بقايا سؤال... وكأنه غير موجود...! من الذي اهتم به يومًا منذ طفولته سوى زينب التي تخدم ببيت الجدة منذ صغره..؟ ثم تأتي تلك الفتاة الحمقاء التي رأت أسوأ ما فيه... التي أطلق معها العنان لأقبح شياطينه كي يعيثوا بكيانها فسادًا لتدعي اهتمامها به وبإرهاقٍ قد أصابه..؟ ألا تدري أنها تستفز باهتمامها المصطنع ذاك ماردًا بشعًا مشوهًا ستطلقه من عقال حرمانه وظمئه لشيء من الاهتمام والحنو... ذاك الحرمان الذي دفنه منذ طفولته القاسية..؟!!

دفعها بخشونة من طريقه وهو يقول بلهجة مخيفة:

- مالكيش دعوى... أنا بس اللي باهتم بنفسي... ماحدش له دعوى بيا..

قالها زاجرًا رغم يقينه من أنها على صواب... فذاك الإنهاك العام والتعرق الليلي والنقص الحاد في وزنه الذي أصابه على مدار الأشهر الأخيرة لم يخفى عليه، إلا أنه عزاه إلى كثرة سفره وتنقله في عروض الأزياء مع كارولينا الحمقاء التي لا يدري أين ذهبت وتركته فريسة قلق واهتمام زوجته العجيبين اللذين –بالنسبة له- أكثر فتكًا من تنظيرها وصياحها واتهامها له... هو غير معتاد على أي اهتمام بشري خالص... فالكل يهتم به لغرض ما.

- زكريا إيه البقع الحمرا اللي على بطنك دي...؟

من خلال قميصه المفتوح لمحت هزاله الحاد وبعض من البقع البيضاوية الحمراء على بطنه، هم أن يرد عليها لولا أنه أصيب بنوبة سعال حادة مصحوب بصوت غريب من صدره أنبئها دون نقاش بألتهاب الصدر.

لمساتها على جسده أشعلته...!

هي امرأة – يعترف - غير كل النساء...

هي الطهارة والنقاء والبراءة والصفاء...

هي كل الصور العكسية لما هو عليه...

أبعدي عني يدك يا بيضاء الرداء...

فأنا متشح بالرذيلة ولازالت تتلبسني خطايا المساء..!

- قلت لك مالكيش دعوى بيا وخليكي في ابنك..

دفع يدها بوهن وهو يعاود إغلاق قميصه وإرتداء حذائه... فلن يستطيع تحمل كل هذا الاهتمام والقلق على شخصه التافه. ولأول مرة يلمح عيناها... عيناها الواسعتين كبحرٍ من عسل شطئانه أهداب كحيلة... هاك البحر مترقرق للمرة الأولى بدموعٍ مشفقة ينبئه أن ثمة خلل ما... خطب ما.. أمر جلل قلب كيانها وحوَّلها من القطة المتمردة ذات المخالب المشرعة، إلى تلك القطيطة المذعورة التي لا تخفض عينيها عنه؛ فدار بخلده هاجس قاتل... لن يتحمل تعايشع، فهتف بذعر:

- أمي جرالها حاجة...؟ أبويا كويس...؟ أنطقي فيه إيه..؟

مسحت نور وجهها بيديها ثم رفعته إليه ثانية وهي تقول بثبات:

- كلهم كويسين يا زكريا.. أنت اللي...

-... قلت لك كفاية... كفاية... أنا كفيل إني اهتم بنفسي... هاتكوني أحن من أمي عليا...!!

لا مجال للمناورة... ستلقي إليه الحقيقة العارية رغم تشوهها إلا أنها قد تفيقه من أوهامه..

- كارولينا إحتمال يكون عندها الإيدز يا زكريا...

تراجع في ذهول محاولاً إستيعاب الصدمة التي ألقتها بوجهه كقذيفة قاتلة...!

حاول استحضار سخريته منها... حاول سبها... تعنيفها.. إتهامها بالكذب... لكن... ألم تضعه الآن وجهًا لوجه أمام أقسى مخاوفه.. أمام أبشع هواجسه... أمام شكه الذي قتله في مهده قبل أن يحيل حياته جحيمًا لكن يبدو أن الجحيم آتٍ لا محالة.

- إيه الكلام الأهبل اللي بتقوليه ده... أنت ... عـ... عرفتي منين...؟

نبرته التي حاول إلباسها أكبر قدر من قسوته وسخريته خرجت هزيلة منكسرة، فأطرقت نور في إشفاق متمتمة:

- النهاردة شوفتها منهارة وبتقول إن طبيبها المعالج قال لها أن عندها الإيدز..

أزدرد زكريا ريقه في صعوبة كأنه يبتلع كرة من شوك مسنن مزقت جوفه.

- دي أكيد كـ... كدبة عشان تنتقمي مني...

ضيقت نور عينيها ثم أمسكته من كتفيه وجعلته يقف أمام مرآة قريبة وهي تقول بصرامة:

- الكدبة هيا اللي أنت عايز تكدبها على نفسك يا زكريا... بص لنفسك... شوف إزاي بقيت بقايا إنسان... إلحق نفسك قبل ما...

قطعت عبارتها في ندم، فرفع عينيه اللتين جحظتا وسط وجهه الهزيل نحوها ثم قال بهدوء:

- قبل ما أموت صح...؟

لفحته أنفاسها الحارة وهي تزفر قبل أن تقول:

- كلنا هانموت...

- بس أنا هاموت أسرع .. أنا مستني العقاب...

- وليه ماتقولش إنها فرصة..؟

- فرصة إيه...؟؟

- فرصة أنك تبدأ من جديد..

- ودي تبقى بداية النهاية..؟

- الموت عمره ما كان نهاية... الموت بداية...

- بداية الدود ياكل جسمك..!

- بداية لروحك في ملكوت السما..

- ولو كنت عارف إن مكانها سابع أرض..؟

- يبقى نغيره... مش باقولك فرصة..!!

أستدار نحوها بضعفه ووهنه.. بحملٍ ثقيلٍ من خطايا تمادى بها لأنه يئس من التخلص منها... وهاهي تلك الصغيرة تخبره وهو على شفا الموت أنه من الممكن أن يضع عنه وزره الذي ثَقُل على ظهره ويرحل مرفرفًا نقيًا إلى ملكوت السماء...!!

لم تشعر بدموعها المنهمرة كنبعي نهر اغتسلت بهما نظراته الوجلة المنكسرة وهي ترفع كفيها إلى وجهه هامسة:

- هاتروح تكشف وتحارب المرض لو فعلا ربنا قدره عليك وتحارب كل أشباح الخطايا وتتوب منها... أنا متأكدة أن فيك إنسان أحسن من اللي كل الناس شايفاه...

تلك الصغيرة الكبيرة.. تلك التي عنَّفها وصفعها... تلك التي مارس عليها كل ألوان العذاب النفسي والبدني.. تلك الأم بالفطرة... هي الوحيدة التي لم ترَ فيه الشيطان ورأت ذلك الطفل المنزوي القابع بداخله الذي كان حركيًا مُهمَلاً على الدوام معنفًا كل الأحيان... الكل ينعته منذ الصغر بأنه حقًا شيطان... كيف بالله رأت فيه الإنسان..؟

سقط على ركبتيه ولأول مرة منذ زمن.. وجد نفسه يبكي... بكاءًا مخلوطًا بسعالٍ حاد... ولأول مرة يحظى بحضن امرأة دافىء... داعم... حاني... امرأة لا حق له الآن في اشتهائها كأنثى بعد أن استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، لكنه ينعم بمشاعرها كأم فقد حنانها منذ أمدٍ بعيد... هو لن يخشى على ابنه يُتمًا ومعه أم كتلك..!

لم تتركه لحظة في أروقة المشفى الشاحبة... أمسكت بيده في قوة وهو يسير كالمُساق إلى حتفه إلى عيادة أخصائي المناعة لفحصه. تلك البقع الحمراء المنتشرة على بطنه وصدره لم تكن مؤلمة حين لمسها الطبيب الذي عرف شكلها فورًا لكنه لم يصرح بذلك، إلا أن الطبيب كان شبه متأكد.. فبداية بالهزال والتعرق الليلي والألتهابات الصدرية المتكررة والإنتانات الفطرية بالفم والحلق وثآليل الأعضاء التناسلية نهاية إلى تلك البقع البيضاوية الحمراء التي تشير بوضوح إلى (كابوسي ساركوما) وهو مرض سرطاني يصيب مرضى الإيدز لم يدع لديه مجالاً للشك إلا أنه أرسل زكريا إلى المختبر لإجراء الفحص ثم أخبر نور هامسًا أن النتيجة شبه إيجابية. وعندما أدركت نور ذلك... عرضت على زكريا بعد ان انتهى من الفحص أن يتركا المشفى ويعودا إلى المنزل للعشاء. تعجب من اقتراحها.. فهي التي أصرت على أن يأتيا إلى المشفى... الآن لا تريد الانتظار حتى يستلما نتيجة التحاليل..!

- "عايزة أطبخ لك..."

قالتها وهي تكمم بكائها بابتسامة مشرقة وقد عزمت على إنقاذه حتى آخر لحظة في حياته. فأطلق آهة وجع خرجت من أعماق روحه وهو يضرب الحائط بقبضته، فأمسكت يده قائلة بمرح:

- والله باعرف أطبخ ماتخافش...

نظر إليها بعينين دامعتين قائلاً: - إزاي كنت غبي السنين اللي فاتت دي كلها...؟ إزاي أذيتك وأذيت نفسي للدرجة دي...؟ إزاي ماشوفتش الأنسانة الجميلة اللي جواكي...

جذبته من يده كي لا تبكي متوجهة إلى الخارج وهي تقول:

- سيبك من الأفلام الهندي دي وخليني أعمل لك فيتوتشيني بالجمبري...

كان هزيلاً... ضعيفًا... هزاله يزيد يومًا بعد يوم... وضعفه العام أدى إلى قلة حركته فصار ملازمًا لفراشه بغرفته التي صارت كالمشفى من كثرة الأدوية والعلاجات.. فكيف يستقيم بناء الجسد دون مناعة... لقد قضى المرض على جهازه المناعي تمامًا فصار مستباحًا للجراثيم تنهشه من كل جانب، فلا يعرف من أين يشكوة ولا مما يشكو..! ألتهابات بلعومية وأخرى صدرية حادة تكاد تخنقهن وأخرى معوية تسبب إسهالات شديدة لا تتجاوب مع الأدوية، لكنها كانت بجواره ثابتة... تثبته... لأول مرة منذ زمن يصلي... لأول مرة يرفع يداه إلى الله ويدعو ويستغفر وشريط خطاياه يمر أمامه كل يوم كلعنة سوداء تكاد تصيبه بالقنوط لولا وجودها الذي ينير أيامه المشبعة بالوهن والمرض... وينسيه أهتراء جزء من جلده وإصابة الجزء الآخر بالبثور والبقع السرطانية. لكنه لم يستسلم وقرر استخدام عقله لأول مرة في حياته استخدامًا صحيحًا... فكان يحفظ القرآن والأحاديث معها ويصلي نائمًا أو جالسًا متحسرًا على أيام قوته التي لم يصلي فيها ركعة مشتاقًا لو تعانق رأسه الأرض في سجدة طويلة تُطهره من لعنته السوداء لكن ليس بإمكانه سوى الإيماء... وحبيبته التي تشع نورًا وأملاً تحدثه عن الجنة... كل يوم حكاية جديدة عن الجنة ونعيمها... كل يوم سورة جديدة من القرآن يتلونها سويًا... كل يوم تحيطه بروحها الحانية فتخفف عنه تدهور حالته المستمر يومًا عن الآخر.

ومر عامًا كاملاً وهو يحارب المرض بالدواء والدعاء ويشتاق إلى جنته وقد علمته نوره أن يحسن الظن بالله ويدعوه أن يتقبل توبته... حتى جاء الطبيب لفحصه يومًا ما ثم انتحى بنور جانبًأ وهو يقول:

- لا يجب أن يستمر الوضع هكذا مسز رحيل..

- لماذا سيدي...؟ أنا أنفذ كل التعليمات بالحرف الواحد...

زفر الطبيب قائلاً: - لا بد من عزله سيدتي... فآخر الفحوص التي أُجريت له توضح أن عدد كريات الدم البيضاء 3900 وهو هكذا عرضة لأن يقتله أي فيرس صغير كما إن الإلتهابات الفطرية التي تكاثرت على لسانه وجسده لابد التعامل معها بحذر ... ولن يكفي تعقيمك الذاتي عند التعامل معه ذاك.. يجب أن يتم تعقيم جيد جدًا لأي شخص يدخل له... لقد تدهورت حالته سريعًا...

لم تنكر نور كلام الطبيب... فذلك الهزيل القابع في الفراش ذو الجلد المتهتك الأقرب للمسوخ لا يمت بصلة إلى زكريا أبدًا....! فأومأت له نور باستسلام... وعلم زكريا أنه سيتم عزله فسعل سعلة ثم قال باستجداء:

- هاتسيبيني في المستشفى...؟

كان يبدو كطفلٍ مذعور يتشبث بثياب أمه فطمأنته قائلة: - مش هاسيبك لحظة... هاجي معاك وأحاول أخليهم يعقموني زي الممرضات اللي هايدخلوا لك ... ماتقلقش يا حبيبي...

نظر إليها بوهن وهو يقول: - أقلتِ حبيبي أم أن أذناي تخونانني...؟

أبتسمت في حنو: - بلى قلتها... لأن هذا البطل الذي يقاوم المرض ولا يفتر لسانه عن الذكر والدعاء هو حقًا حبيبي...

- يعني سامحتيني يا نور...؟

شملته نظراتها الحانية وهي تجيب:

- من زمااان...

أغمض عينيه وهو يسلم نفسه لرجال المشفى الذين ينقلونه إلى محفة قائلاً:

- كدة أقدر أروح محطتي النهائية وأنا مطمن...

وقبيل مرور عامٌ آخر... ومد وجزر مع العلاجات والأدوية التي أتى بعضها بثماره في استقرارٍ طفيف بحالته، أصر زكريا على مغادرة المشفى... بعد عذاب العزل والوحدة فكانت نور تلاقي صعوبة في الدخول إليه كلما أرادت، لكنه مل من ذلك المشفى... مل من وحدته وعزلتهن فطالما تم علاج الإلتهابات والأمراض الجلدية فسيخرج من هاك الحبس... يريد أن يرى ابنه ولو لمرة أخيرة ويصلح بعض من أخطائه في حق الإنسانة الوحيدة التي وقفت بجواره. فسمح له الطبيب بالمغادرة على أن تعتني به نور عناية فائقة.

مستندًا إلى يدها التي دعمته على مدار عامين أو أكثر كان لقائه بضوء الشمس الذي لم يره بصورة مباشرة هكذا منذ فترة ... دخل إلى بيته معانقًا كل ركن بنظراته... ود لو يعانق صغيره إلا أنه أكتفى بالتربيت على رأسه ذو الشعر الناعم وإعطائه اللعبة التي أصر على شرائها له فابتهج الصغير بها جدًا وطبع قبلة على وجنة أبيه ثم أنطلق يجرب تلك السيارة الضخمة التي كان يود اقتنائها منذ زمن.

- "فين الفيتوتشيني اللي بالجمبري..؟"

تسائل في وجع لتمسح نور دموعها وهي تنهض قائلة: - حالاً هايكون جاهز...

إلا أنه أمسك بيدها قائلاً: - أقعدي يا نور عايز أطلب منك طلب...

جلست وهي تقول بسرعة: - عنيا...

ابتسم ابتسامته التعبة وهو يقول: - عنيكي الحلوين دول كتير أوي عليا...

همت أن تقول شيئًا مان إلا أنه قاطعها مازحًا:

- هما كتير عليا وأنا في العالم ده، لكن في ملكوت السما أنا طمعان بصراحة في الحور العين...

ابتسمت ضاحكة... إنه يحفظ كل ما تقرؤه له، فقال وقد انتزع ابتسامتها:

- أنا عايز وعد منك..

- وعد....؟؟

- أوعديني يا نور أن ماحدش من أهلي خالص يعرف بمرضي بعد ما ... أموت...

ترقرقت عينيها بالدموع ثانية وهي تقول دون تردد: - أوعدك يا زكريا إني أحفظ سرك بعمري... أنا عمري ما أكشف سر إنسان ربنا ستره...

فزفر في ارتياح ثم ابتسم مغيرًا الموضوع وهو يتأمل عيسى الصغر:

- الواد باع العالم كله بالعربية الجديدة.. عمال يلعب ولا كأن حد هنا...

ضحكت نور قائلة: - أصله نفسه فيها من زمان.. أنا ماعرفش بصراحة أنت عرفت إزاي أنه عايزها..

ومن حيث لا تدري كان جرحه.. فقد أعاد مع ابنه – لا شعوريًا – اخطاء أهله معه وأهمله عمدًا.. وصار من الطبيعي أنه لا يدري عنه شيئًا حتى إنها لتتعجب من معلومة بسيطة كتلك يعرفها عن فلذة كبده. حاول النهوض قائلاً:

- ساعديني يا نور عشان أتوضى... نفسي أصلي في أوضتي... بعيد عن المستشفى... نفسي أسجد ولو مرة واحدة لربنا يا نور...

عاونته كي يتوضأ وأجلسته على مقعد بغرفته قائلة:

- خد بالرخصة وصلي وأنت قاعد يا زكريا الدكتور قال..

قاطعها: - أنا باحاول أنسى الدكتور ده ماتفكرنيش بيه من فضلك وروحي هاتي الفيتوتشيني بسرعة على ما أصلي...

رحلت نور ووجدانها يموج بمختلف المشاعر... إنها تشهد عذابه ووجعه على مدار عامين كاملين... تشهد إنهيار جسده الذي طالما تباهى به وبقوته... تشهد الندم يأكل روحه على ما فاته من عبادة وعلاقات سوية حلال.. تشهد كل ذلك وتشفق عليه... نعم هي لم تتشفَ به لحظة، خاصة بعد توبته ومحاولاته الدئوبة للتكفير عن ذنبه؛ على العكس... هي تدعو الله له أن يعفو عنه ويهبه الراحة الأبدية بغفرانٍ للخطايا وإبدال السيئات حسنات.

أمسكت صفحة ووضعت عليها طبق الفيتوتشيني الساخن لقد أخبرها الطبيب أنه يجب أن يتناول طعامه وشرابه ساخنًا لضمان خلوه من الجراثيم، ثم توجهت إلى غرفته لتفتحها لتجده... ساجدًا... توجهت إلى المنضدة لتضع الطعام عليها وتنتظر إنتهائه من الصلاة، لكنها شعرت بقبضة باردة تعتصر قلبها عندما طال الوقت وهو على وضعه لا يتحركن فأسرعت إليه تهزه هاتفة:

- زكريا... أنت كويس...؟

لكنه سقط... سقط على جانبه دون رد ووجهه مزرقًا مختنقًا... فصاحت نور بهيستيريا:

- ليه...؟ ليه أصريت أنك تسجد ليه...؟

لقد منعه ألتهاب الرئة الحاد من التنفس بمجرد أن هوى ساجدًا... لقد كان يختنق وهي غافلة عنه تعد مكرونة سخيفة... تراجعت وهي تشهق باكية واضعة يددها على فمها... لقد رحل... لقد رحل حقًا...! رحل ساجدًا كما تمنى... "يا رب أدعوك أن يكون قد صدقك في نيته لتصدقه ... يا رب أجعله كمن صدق الله فصدقه الله... يااا رب..." شيعته بدعواتها حارة وكان ذلك آخر عهدها بتلك الغرفة.

***

هي الإنكسار في أقسى صوره...

هي الخُذلان بأقصى درجاته...

هي القوة الغافية...

هي المتهمة البريئة...

هي الأنثى الوحيدة التي تمكنت من إضرام الحرائق بوجدانه...!!!

هي تلك التي تتشرنق على ذاتها وكأنها تطفو على باب غرفته..

انحنى نحوها ليتبعثر ما بيده من أوراق حول قدميها، لمحت اسم المشفى فرفعت نحوه عينًا قاسية...

حسنًا...

وهي التي تجيد إرتداء حُلَّة القسوة عند اللزوم..

- "نور... أنا...."

أشارت بيدها مقاطعة... ثم أعتدلت في جلستها هامسة بفحيح غاضب:

- أخوك مات هنا... في الأوضة دي... وهوا ساجد.. يا ريت مافيش مخلوق يعرف عن مرضه لأنه مأمني إني أدفنه وأدفن سره معاه...

قالتها ثم نهضت بحركة حاولت جعلها سريعة إلا أن ظهرها لازال ينوء بحملها الثقيل الذي يقيدها ويبطئ حركاتها، فتحاملت على نفسها متجاهلة يده الممتدة إليها ثم اختفت بغرفتها قبل أن يقدم لها إعتذاره المتردد الواهي الذي عزم على نحره في معبدها... للمرة الثالثة... رغم يقينه أن قربانه البالي المُستهلك لن يُضمد شيئًا من جُرح خنجره المسموم بالشك القاتل الذي طعنها به أكثر من مرة كانت أخراهن في منتهى الدناءة عندما تعرى شكه المسموم بها أمام طرف ثالث كان شاهدًا على جرمه الذي رماها به والذي كان حتمًا أقسى بمراحل من أي أذى بدني طالها إذا سلَّم بصحة جميع أجزاء رواية ذلك المدعو مهند.

زفرة حارة أطلقها محاولاً تخفيف تلك الحمم التي يغلي بها كيانه وهو يذكر حديث الطبيب عن شقيقه ومرضه بل عن زوجته المتفانية االتي لم تتركه في مرضه حتى بعد تشوه جسده ووجه لم تتوان لحظة في الحضور إليه والقراءة له والحديث معه حتى في تلك اللحظات التي كان غائبًا عن الوعي بها..! مرر زين أصابع كفيه بشعره في عنف.. هذا ليس نهج الخائنات... لا تقوم بذلك سوى امرأة عاشقة أو.. قديسة، وقد انتهى زمن القديسات.. دفاعها عنه وحفظها أمانته.. وقوفها بجواره... لا يشير ذلك إلا إلى عاشقة متيمة، لكن ذلك يتعارض مع الجزء الآخر من رواية ذلك المدعو مهند... تلك الرواية التي تأكد من شطرها الأخير... أتراه صدق أيضًا في شطرها الأول...؟ حديث الطبيب ودفاعها عنه قد يشيرا إلى كذبه لكن صفحة شقيقه على مواقع التواصل الإجتماعي وصوره الماجنة مع نساء شبه عاريات وصور البارات والمُسكرات التي طالعها في ألم منذ عدة ساعات بالإضافة إلى إصابة شقيقه بالمرض وعدم إصابتها هي كما أخبره الطبيب متعجبًا وهو يطلعه على فحوصات نور الدورية التي تؤكد عدم إصابتها بالمرض اللعين، كل ذلك يؤكد صدق رواية مهند وشتات عقله بمتاهة امرأة غامضة لا يجيد تحسس طريقه إليها... أهي العاشقة.. أم الخائنة... أم القديسة..؟

تلك الصامتة الصامدة القوية رغم هشاشتها.. تلك الأم والأنثى... تلك التي جاءت فأشاعت الدفء ببيته و.. قلبه...! هز رأسه محاولاً رفض الفكرة التي تجلت أمامه في وضوح... وقلبه يخبره بمراوغة "أنت يا عزيزي تحاول إلحاق الضرر بها كلما رأيتها كي لا تنساق خلف تلك النبضات التي تسحبك عيناها إليها.."

عيناها... عيناها الواسعتان الناعستان بتلك النظرة العجية التي تلتمع بهما فتعيث بحواسه فوضى يخشاها؛ عيناها اللتين أسبل عليهما ثوب القسوة بكل حماقاته لأنه بكل تبجح استباح لنفسه دور القاضي والجلَّاد... أصدر حكمه عليها دون دفاع ولا مرافعة ولا استئناف.. بل انساق معصوب العينين خلف نبأِ فاسقٍ دون تبين.. رغم أن كل القرائن والأدلة تصرخ ببرائتها، لكن عُصابة الخيانة التي غشت عينيه سنوات طوال لم تمكنه من رؤيتها كما ينبغي أن يراها... لم تمكنه من رؤيتها كإنسان.. كروحٍ رقراقة مضيئة... كشمسٍ ساطعة حاولت إضائة قلبه المعتم لتحيله بدرًا منيرًا... كنجم دري سار على هداه حتى وجد فلذة كبده.

حانت منه إلتفاتة إلى مايا النائمة على الأريكة محتضنة الدمية التي ابتاعتها لها نور ومتدثرة بغطاء حتمًا نور أيضًا هي من قامت بتغطيتها به. جلس على المقعد المجاور لصغيرته وأراح رأسه إلى الخلف مغمضًأ عينيه محاولاً فك اشتباك أفكاره التي تدور في فلك متاهتها... بل لملم أفكاره الصالحة نابذًا كل الشكوك والأفكار السوداء ورحل إلى طريق مضيء لا يتفرع ولا يلتوي... طريق يوجد بآخره وجهها الذي أمسكه بين كفيه ذلك اليوم... طريق يؤدي إليها كيفما كانت... وحيثما كانت، ليصلح الفساد الذي عاثه بداخلها... ليعوضها عن كل أذى وظلم وقع عليها ليستجيب لتلك الخفقات الخجلة بيساره التي تتحرك لأول مرة بمباركة عقله وأهله...!

أرتسمت ابتسامة مرتاحة على وجهه الذي غشاه النعاس أخيرًا بعد يوم عصيب.

أما نور فكانت على النقيض تقطع غرفتها جيئة وذهابًا في توتر وهي تضع هاتفها على أذنها قليلاً ثم تنزله في غضب وتعيد الكرة مرة وأخرى حتى هتفت:

- أنت فين يا أخي...؟ ما تطمني عملت إيه..؟ عرفت تلغي الحساب واللا لسة...؟ إيه...؟ إتلغى...؟ أتحذف خالص...؟ غريبة... أنت متأكد..؟ طيب كويس... سلام دلوقتي...

قالتها ثم أغلقت الهاتف وأعادت طلب رقم آخر قالت بعد لحظات:

- مرحبًا إيفا... أعتذر على إزعاجك في ذلك الوقت المتأخر.. حسنًا عزيزتي... كنت أريد أن اسألك إذا كان مكاني بالمدرسة لازال موجودًا أم لا... حقًا..؟ رائع... نعم أريد العودة إلى العمل وأريدك أن تبحثي لي عن منزل بإيجار بسيط... نعم عزيزتي... سأرجع مصر غدًا أحضر عيسى ثم نعود إلى أمريكا بشكل دائم... زوجي..؟ سأطلب منه الطلاق بمجرد عودتي إلى مصر... لم أعد أحتمل حقًا... وسواء طلقني أم لا فأنا عائدة إلى أمريكا أنا وأبني في أقرب فرصة... حسنًا عزيزتي.. أشكرك كثيرًا... سلام عليكم...

******

Just Faith 18-12-17 01:46 PM

- 8 –

"فإن الموت يعشق فجأة، مثلي،

وإن الموت، مثلي، لا يحب الانتظار!"

محمود درويش – في الانتظار

***

في فُلكها الذي ترفضه... يمضي الوقت.. يهذي بكدرٍ دائم، تحيك خطة للهرب مع دقات الساعة التي تنسج حولها العفن كلما استمرت بمكانٍ لا يليق بسموها.

في كل مرة يأخذها بها.. كلما أمتدت يده الضخمة المعبقة ببقايا يومه تزيح ثوبها الحريري.. تعيث فسادًا بشعرها الليلي... رائحة عرقه وأنفاسه الكريهة و...

"كفاية..." تهتف بها في وهن تحت ثقل جسده لكنها كانت شبه موقنة أنه لن يتركها حتى ينهي ما بدأ وينهي ارتواءه، فانفصلت عنه بخيالها إلى أحضان من أشبعها عشقًا وسكب بأذنيها أروع عبارات الغزل ونصبَّها ملكة على عرش عالمه اللامع بعيدًا عن ذلك المستنقع الآسن الذي ولدت به على سبيل الخطأ كما تعتقد.

- "إيش بيكي... إيش بيكي..؟"

هتف في غضب لاهث وهو يستدير ململمًا ثيابه متدثرًا بغطائه ميممًا وجه شطر النوم، لكن خطتها المختمرة في عقلها دفعتها كي تهتف وهي تعيد ارتداء قميصها الحريري:

- ما تدري إيش بيا...؟ أنا أقول لك إيش بيا... اللي بيا إني قرفت.."

استدار نحوها بعينين حمراوين تقدحان شررًا وهو يقول:

- قرفتي...؟ قرفتي من إيش يا ست الحسن وأنت لا طبيخ ولا غسيل ولا حتى...

قاطعته شاهقة وهي تصيح:

- كمااان...؟ كمااان تبغاني أطبخ وأغسل وأنضف...؟ مش بكفاية بختي المايل...!

دفع عنه غطائه ونهض يمسح على شاربه الكث هاتفًا:

- باينها ليلة مش فايتة.. استهدي بالله يا بت عمتي وإلا هايحصول اللي ما يرضيكي...

ضحكت ساخرة ثم قالت:

- لا والله...!! هايحصل إيه تاني مايرضينيش غير القرف اللي أنا فيه ده...؟ يا حظي.. يعني واحدة في جمالي يكون بختها اللي زيك... والتانية اللي ما تسوى خمسة ساغ في سوق النسوان تكوِّش على أنضف رجالة العيلة.. الراجل وأخوه... الاتنين طويتهم تحت يدها ودايرة ما بين مصر وأمريكا بكيفها و...

قاطعتها صفعة مدوية جعلت أذنها اليمنى تطن، ثم صفعة أخرى بظهر يده ذاتها أدمت شفتها، فصرخت بصوت مرتفع باكٍ: - بتضربني كمان يا ابن فاطنة ...

جذبها من شعرها الطويل خلفه وهو يخرج من الغرفة هاتفًا:

- لا تجيبي سيرة أمي على لسانك يا فاجرة... راح اوريكي بختك المايل هايعمل فيكي إيه... راح اوريكي مين أنضف رجالة العيلة بحق وحقيق... أنضف رجالة العيلة هوا اللي مايقبل الوساخة يا بت... يا بت عمتي..

كانت قد رفعت صوتها بالبكاء بصورة مبالغ فيها لتهرع إليها أمها وخاليها يحاولون تخليصها من بين يديه.

- "بتي... بتي... إيش هيذا يا طلال.. إيش بتسوي..؟؟!" صاحت أمها في جزع بينما أمسك خالها سليم بذراع طلال قائلاً بصرامة:

- مايصوحش اكده يا ولدي...

هتف طلال بغيظ: - أنا اللي مايصوحش يا عمي...؟ تعال شوف بت أخوك بتقول إيش لزوجها أبو ولدها اللي في بطنها...

شتتت حسناء انتباه طلال بصراخها وهي تمسك بطنها:

- ابنك اللي تبغى تسقطه.. أضروبني يا ولد خالي وموت ابنك...

خفت قبضة طلال على شعرها قليلاً، بينما قالت أمه بطيبة:

- اتفاهم مع مرتك يا ولدي بالهداوة مايصوحش تضرب مرة...

حرر الشيخ سليم شعر حسناء من بين أصابع طلال ثم وضع عليها عبائته واحتضنها قائلاً:

- خلاص يا حسنا يا بتي لا تبكي... زوجك ما راح يعيدها و...

صاح طلال مقاطعًا: - يا عمي أنت ما تدري اللي بتسويه فيني.. وكلامها...

هنا هتفت به سنية بحدة: - مرتك حامل يا طلال وتعبانة... كيف تضربها يعني مهما سوت...؟

أرتفع نحيب حسناء ورفعت رأسها واضعة يدها على وجنتها مظهرة شفتيها الداميتين إلى أمها التي أردفت بحسم قبل أن يتحدث طلال:

- روح راضي مرتك وحب على راسها يا طلال...

كان أباه يمسك ذراع وتربت أمه على الأخرى، فتملص منهما هاتفًا:

- بتك يا عمتي يبغالها رباية... وأنا باربيها... لأن المرة اللي ما تحترم زوجها وتتحدت عن رجالة غيره تبقى مرة لا عرفت معنى الرباية ولا....

"أخرس يا ولد.." صاحت بها سنية وهي ترفع يدها لتصفع طلال الذي أمسك بمعصم عمته في صرامة قائلاً:

- هوا اللي يقول الحق في البيت هيذا لازمن يخرس يا عمتي...؟ تحبي تسمعي إيش قالت بتك المحترمة..؟

أرتفعت نهنهات حسناء التي تركت عمها وارتمت بين ذراعي أمها وهي تقول بين بكائها:

- عشان أنا يتيمة بيتبلى علي يا أمي.. بيهيني ويضربني فاكر إني مالي سند...

احتضنتها أمها في قوة وهي تلقي نظرات نارية إلى طلال ثم قالت بقوة:

- ما تخافي يا بتي... ولد خالك وزوجك... بكرة يعرف قيمتك أما تغيبي عنيه يومين...

هتف طلال: - وأنا قلت مرتي ما تخرج من باب الدار...

قال الشيخ سليم: - خلها تاجي معنا مصر عند أخوها باكر يا ولدي شوي بس يهدي الجو وترجع تتصافوا على كيفكم..

تلاعبت على شفتي حسناء المدسوسة بحضن أمها ابتسامة لم يرها أحد وهي تسمع إذعان طلال... لقد نجحت خطتها... وستسافر معهم إلى القاهرة بعد أن كان زوجها رافضًا سفرها تمامًا.

استندت على ذراع أمها لتقضي معها الليل متقنة دور المنكسرة الحزينة التي قضى عليها زوجها الهمجي وخلف ستار حزنها الظاهري يُقام صوان الفرح وتدق طبول النشوة... فقد اقتربت كثيرًا من هدفها.

وعندما انفض الجمع وعاد كل منهم إلى غرفته تسائلت خادمة صغيرة السن جاءت حديثًا لتعاون زينب:

"هما الجماعة رايحين على مصر باكر كلاتهم...؟"

أجابتها زينب: - أيوة يا عبلة...

تسائلت الخادمة مرة أخرى وهي تمصمص شفتيها في تعجب:

- حتى الجدة حنة..؟؟

قالت زينب بملل: - قلت لك أيوة يا عبلة كلاتهم ما عدا سي طلال رايحين يستقبلو سي الأستاذ زين وبته اللي عتر عليها في بلد بعيد إكده مادري إيش اسمها بعد خمس سنين.. ألف حمد وشكر لك يا رب... نامي بقى يا عبلة تصبحي على خير...

أجابتها الخادمة بابتسامة واسعة: - وأنت من أهل الخير..

***

هي الفتنة مجسدة في كل حالاتها... حتى عند.. بكائها..!

بأنفها الدقيق المحمر ودموعها اللؤلؤية المنهمرة في حزن صادق يتلبسها للمرة الأولى منذ معرفته بها؛ لا ينكر أنها هيستيرية سريعة الانفعال إلا أن بكائها ولوعتها هذه المرة مملوئين مرارة وهلع.

من خلف سحابة دخان سيجاره الفاخر كان يراقبها... ببنطالها الجينز القصير الذي يصل لمنتصف فخذيها المرمريين وقميصها الأحمر الممسك بتفاصيل جسدها الممشوق.. تنحني على نفسها و... تبكي.. تنشج في ألم، بينما كان أباها يروح ويجيء في قلق محققًا مع جميع الخدم.

- "إحنا لازم نبلغ البوليس يا پاپي.."

صرخت بها دميته الفاتنة وهي تنهض فجأة عقب سماعها لكلام الخدم، فأمسكها أبيها من ذراعها قائلاً:

- أصبري يا كارمن.. لازم نفهم الأول مارثا عملت كدة ليه...

صرخت كارمن وقد عاودها طبعها الهيستيري واختفى حزنها الراقي:

- نفهم إيه وبتاع إيه...؟ بنتي هاتضيع مني... لأ هاتضيع إيه... دي ضاعت خلاص.. بنتي ضاعت وأنا عمالة أجهز نفسي عشان أتجوز... زمان الي اسمها مارثا دي خدتها لتجار أعضاء أو...

وعندما ألقى إليه حماه نظرة استغاثة وضع سيجاره على منفضة السجائر ثم نهض بقامته الفارعة متجهًا إلى كارمن.. أحاط كتفيها بذراعه قائلاً بهدوء بصوته الأجش:

- شويش حبيبتي.. ماكاين والو..

انتفضت اسفل ذراعه وهي تهتف:

- يعني إيه ماحصلش حاجة يا إياد..؟ بنتي مختفية من امبارح وتقولي ماحصلش حاجة... لازم نبلغ البوليس حالاً...

دلك كتفها بيده وانحنى نحوها هامسًا: - واخه.. واخه.. نداري اللى تبغيه إن شاء الله..

زفر أباها هاتفًا: - مش أنا لسة من كام يوم موصيكي عليها يا كارمن وقلتلك أبقي أسألي عليها وماتسيبيهاش مع المربية طول الوقت...؟!

ازداد بكاء كارمن وعويلها وهي تقول:

- معاك حق.. أنا غلطانة.. غلطانة... يا ترى أنت فين يا مايا...

قال إياد بالإنجليزية وهو يخرج جواله:

- لا تقلقي عزيزتي.. أولئك المهاجرين غير الشرعيين يلجئون دائمًا لمن يستخرج لهم أوراق ثبوتية وأنا لي معارفي يمكنهم الوصول إلى أغلب المتكفلين بتلك المسائل حولنا، حتمًا مارثا لجأت إلى أحدهم... فلتهدئي أنت وتتناولي مشرروب ساخن إلى أن أجري أنا وأبيك إتصالاتنا.. تفضل معي سيد عمر...

قالها ثم اقتاد عمر هجرس الذي كان شحوب وجهه يحاكي شحوب الأموات إلى غرفة مكتبه وأغلق الباب متسائلاً بصراحة:

- لماذا لا تريد إبلاغ الشرطة عمر؟

تهاوى عمر هجرس على أقرب مقعد بمكتبه وهو يقول:

- أنت مش عارف الموضوع معقد أد إيه يا إياد... البنت دي كانت بطاقة محافظتنا على شغلنا إياه في مصر... الناس اللي أنت بتورد لهم السلاح والحشيش من المغرب كانوا عايزين يستخدموها كوسيلة ضغط على سليم العربي جد مايا لأبوها اللي بيحاول يقضي على تجارتهم وزرعهم للأفيون والحشيش بفضحه للموضوع في مجلس الثورة...

كان إياد قد أشعل سيجارًا آخر وعقد حاجبيه في شدة مضيقًا عينيه الذهبيتين اللتين ارتسمت بهما نظرة خطرة وهو يستمع إلى عمر الذي يردف:

- كدة كل الشغل هايوقف وهايشوفوا مورد غيركم... وممكن يتسببوا في أذيتي هنا كمان دول إيدهم واصلة... عشان كدة مش عايز أخد أي خطوة إلا أما أبلغهم الأول و...

هنا انفتح الباب على مصراعيه ودخلت كارمن ثائرة هادرة تصيح بأبيها:

- للدرجة دي يا بابا...؟؟؟ للدرجة دي لا أنا ولا بنتي لينا تمن عندك...؟ وصل بيك الأمر أنك تحط بنتي طرف في شغلك القذر ده...؟

ازداد شحوب وجه عمر بعد أن سمعت كارمن حديثهما وانفضح تمامًا أمامها، وتنحنح محاولاً إجلاء صوته الذي جاء مهزوزًا وهو يقول:

- يا بنتـ... يا بنتي كل ده كان عشانكم وكنـ... كنت متأكد أن الموضوع مش هايتعدى مجرد تهديد بس للي اسمه سليم ده..

نظرة احتقار من صغيرته شملته بها جعلت قلبه يرتجف في صحوة لحظية عندما رن هاتفه، فانتفض وفتح هاتفه مسرعًا، لكنه لم يتمكن من أن ينبس ببنت شفة حيث قال الطرف الآخر جملة واحدة ثم أغلق الخط تاركًا عمر يحاول فهم تلك الجملة التي جاءت بصوت جهوري مزعج حاسم.. "البت الصغيرة مع أبوها وأنت أنسى مصالحك وفلوسك كلاتها اللي حدانا.."

- "ماذا حدث عمر..؟" تسائل إياد وقد تهدل كتفي حماه وجحظت عيناه وصار أشبه بجثه حية عندما أجابه:

- بيقول.. بيقول أن البنت أبوها اللي خدها... وقالي أنسى مصالحي وفلوسي اللي معاه...!!!

هتف إياد: - هاد كارثة...

بينما بهتت كارمن وهي تتلقى خبر وجود مايا مع أبيها، ثم قست نظراتها وأخرجت هاتفها وهي تقول غير عابئة بأبيها أو خطيبها: - أنا لازم أبلغ الشرطة...!

***

كان نهارًا غائمًا.. يلفه صمتٌ مخمليٌ داكنٌ وتجاهلٌ كاملٌ لشخصه.

خرج ثلاثتهم يومها بقلوبٍ مثخنة بذكريات الأمس الموجعة...

رجلٌ واجه صفعات الحياة تباعًا ختمها قلبه بصفعة يمينًا وعقله بأخرى يسارًا...

طفلة فقدت صوتها في زخم حياة صارخة وطأت طفولتها بكل قسوة..

امرأة اختبئت في رداء الصمت الفضفاض بعد أن انقشعت غشاوة روحها، وقررت ترميم قلبها بأغصان الوجع الحي..!

المطار أكثر إزدحامًا من أي وقتٍ مضى... فإجزات عيد الميلاد على الأبواب. بتوترٍ سرى تردده عبر قلبيهما كأثير نغمة محفوظة وقفا أمام الموظفة السمراء الضخمة التي تنهي إجراءات الخروج وتفحص جوازات السفر، أخذت تنقل عينيها بينهم وهي تمضغ علكة ما بطريقة مستفزة.

أحكمت نور ذراعيها حول مايا وكأن نظرات تلك السيدة سهامًا قاتلة ستصيبها في مقتل؛ إلا أن السيدة سمحت لهم بالمرور أخيرًا بعد لحظات من التوتر والقلق الذين تمكن كليهما من إخفائهما ببراعة خلف تعابير وجهيهما المبهمة.

أكمل ثلاثتهم طريقهم متخطين عتبات الأسئلة الشائكة، ليعود زين مرة أخرى إلى الإعصار اللولبي الذي يعصف بكيانه منذ الصباح مع تجاهل نور التام لكل محاولات الاقتراب أو الحديث المتباسط، لم تجذب انتباهه زينة الطرقات ولا الأضواء المتزايدة التي تزين الأبواب وهو يحاول البحث عن مفتاح... أي مفتاح يمكِّنه من فتح باب وجومها والدخول إلى مواطن الدفء بكيانها... ذلك الدفء الذي أشعله يومًا ما تاركًا في أعماقه شعلة لا تخبو بل تطالب بالمزيد.

شامخة هي بكبريائها البسيط في ساحة الانتظار تجلس واضعة ساقًا على الأخرى كملكة متوجة متشحة بالسواد الذي زاد من غموضها وجاذبيتها..! معطفها الأسود.. حجابها الأسود.. منظارها الشمسي الأسود الذي ترفعه على رأسها بينما بين يديها تقبع رواية تتابعها في نهم وكأنها تعيش أحداثها منفصلة عن العالم.

كيف السبيل إلى سيدة الصمت والغموض..؟ كيف ينتشلها من دائرة الوقت وحيز المكان ويهرب بها ربما إلى رواية خرافية كتلك التي تعانق أناملها الدقيقة حيث يمكنه بثها أعذاره الموبوءة بجروح رجولته الغائرة.. حيث يمكنه ترجمة تلك النبضة الخارجة عن النص التي تخفق بيساره بعنف منذ أن غرق بعسل عينيها.. وحيث يمكنه تحطيم أصنام خوفهما وإجتثاث جذور الماضي الكئيب من قلبيهما كي يعيدا معًا صياغة كل المصطلحات والمفاهيم..!

تلك النظرة.. نظرة تشع من فوقِ فنجانِ قهوةٍ ينتصب قرب شفتيه دون عناقٍ فعلي وقد فتر مللاً سائله الأسود؛ بينما عينيه قد أسرجتا خيول نظراتهما لغزو كيانها الذي عمدت إلى سربلته ببرود لامبالاتها ووضع أقفالاً صدئة على أبواب روحها المهتوكة التي عزمت على ترميمها.. تأثيثها من جديد، على إنهاء طريق الآلام المزروع بالشوك والعطن الذي سقطت به بجرة قلم جائرة من أقربين هم أبعد البشر عنها عندما أصروا على وصم روحها بطابعِ القهر والذل... وهاهي تُغرق جسدها في رداء الصمت الأسود لتواري سوءة ذلها. لكن أنَّى لها أن تنسى نظراتٍ كتلك التي تصهل الآن حول حصونها السوداء.. كيف تمحوها من سجل أنوثتها الممهور بهن في تملُّكٍ ملعون؛ بل كيف تكف أطراف عينيها عن خذلانها والتسلل خفية إلى تلك النظرات المختلفة التي يشملها بها وكأنهما في فقاعة منعزلة عن زحام ساحة المطار..!!

وعندما نجحت أخيرًا في لملمة لُحُظها الخائنة والتركيز على أسطر روايتها، وجدت يدًا صغيرة تجذبها بنعومة.. وجملة أخرى كتبتها في دفترٍ كان بديلاً عن صوتها المسلوب.

- "على فين..؟"

تسائل مطلقًا سراح فنجان قهوته البارد متأملاً إياها وقد نهضت مع صغيرته؛ فأجابته ببرود متشبثة بحاجز لامبالاتها: "مايا عايزة تروح الحمام.."

ثم ابتعدت دونما كلمة أخرى، فأخذ يفرك كفيه وقد أعيته حصونها التي ارتفعت بين ليلة وضحاها حاجبة عنه شمس غفرانها. مد يده إلى روايتها التي ود أن يمزقها ألف قطعة كي لا تستأثر بذهنها عنه.. تأمل عنوانها "Pride and Prejudice"... ابتسم ساخرًا ... "كبرياء وتحامل" عنوان معبر حقًا..! فتح الصفحة التي وضعت عندها مؤشر القراءة.. مر على الكلمات دون اكتراث حتى... التمعت عيناه في شغف.

عادت صغيرته تجري إليه فألتقطها بين ذراعيه وحملها بحب وهو يعرض عليهما معًا:

- إيه رأيكوا نروح نتسوق في الديوتي فري لحد ما البوردينج يبدأ..؟

أومأت مايا مصفقة بيديها الصغيرتين، بينما توجهت نور إلى مقعدها قائلة ببرود:

- روحوا أنتوا... أنا هاستنى هنا...

ابتسم بزاوية فمه اليسرى وهو يراها تتناول الرواية مرة أخرى، ثم رحل مع صغيرته.

ظنت أن رحيله قد انتشلها من هجوم نظراته الضاري على حصونها الواهية، إلا أنها أدركت أنه فقط قد غيَّر مجال هجومه من حاسة النظر إلى حاسة الشم... فكيف تفوح روايتها بعطره إلى هذه الدرجة التي تُسكرها..؟ زفرت في غيظ من تجرئه على المساس بحرمة كتابها دون إذن، ثم فتحت الرواية لتكمل القراءة حيث توقفت لـ... لينعقد حاجباها في شدة وهي ترى روايتها وقد تدنست بقلم التعليم الأصفر اللامع الذي أحاط بمقطعٍ ما دون غيره... وكان السؤال عن هوية الجاني محض غباء وقد ترك بصمة عطره عن عمد كي تهتدي إليه. أخذت تقرأ المقطع المذكور على لسان السيد دارسي بطل الرواية مرة بعد أخرى محاولة إخماد ذلك الشعور المرفرف بداخلها.

“In vain have I struggled. It will not do. My feelings will not be repressed. You must allow me to tell you how ardently I admire and love you[1].”

****

ولأنها امرأة.. كان يجب عليها محاربة الآلام التي تعصف بجسدها في عنف... كان يتعين عليها الوقوف على قدميها كمحاربٍ باسل يستمر في معركته وهو مثخنٍ بالجراح. ومعركتها كانت مع منزلٍ... مقلوبٍ رأسًا على عقب...!!! ويجب عليها تنظيف ومسح وترتيب وتلميع كل ركن به خلال ساعات قبيل قدوم عمتها العزيزة... التي قد تُصاب بسكتة قلبية إذا رأت منزل زواجها الأثير مغطى بالأتربة وبقايا طعام الطفلين منثورة بجُل الأنحاء بينما كان المطبخ ممتلئًا بالصحون التي تحتاج للجلي أما معركتها مع الموقد فقصة أخرى؛ هذا غير إعداد وليمة معتبرة لأهلها القادمين من سفر إلى منزلها.

ولأنها امرأة مصرية أصيلة.. عمدت إلى وشاحٍ ربطت به رأسها الذي ينبض في ألم لا يمكنها إخماده بأي مسكن أو تناول أي مشروب منبه من أجل ذلك الصغير الذي ينمو بأحشائها والذي يصيبها بكل أنواع الغثيان ومقت للطعام حتى صارت هزيلة كمكنستها التي تسلحت بها للتو كي تبدأ معركتها.

- "بتعملي إيه...؟؟!!"

شهقت في ذعر وصوته يخترق ذهنها المشوش المركز على بقايا الأوراق الممزقة التي نثرها عيسى وحبيبي مساء الأمس في لعبهما، فاستدارت إليه وهي تضع يدها على صدرها قائلة:

- ياسر.. أنت مصر تموتني بسكتة قلبية..

ضحك وهو يحيطها بذراعيه قائلاً:

- بعد الشر عليكي يا قلبي... والله أنا خبطت وقلت السلام عليكم بس شكلك أنت اللي في عالم تاني..

زفرت في ضيق قائلة بسخرية:

- آااه... في عالم ديزني... هاكون فين يعني.. اليومين اللي ريحتهم من غير ما انضف البيت هايطلعوا عليا... المهم.. أنت إيه اللي رجعك بدري كدة..؟ نسيت حاجة..؟ شوف أنت عايز إيه وأنزل بسرعة يا ياسر الله يكرمك خليني ألحق أخلص قبل ما حبيبة تصحى...

تناول المكنسة منها تحت نظراتها المشتعلة التي تحولت للذهول وهي تسمعه يقول:

- أنا أخدت النهاردة إجازة يا توتّي...

رمشت بعينيها في غير فهم وهي تقول:

- مش... مش فاهمة.. أخدت إجازة ليه...؟ هاتروح تجيبهم من البلد..؟

ضحك ثم ضمها بذراعه يطبع قبلة على جبينها وهو يقول:

- لا طبعًا هما جايين مع خالي الشيخ سليم وبدر معاهم، ممكن تروحي تريحي بقى...

- بتهزر يا ياسر.. عايز تفضحني أدامهم كلهم خليني أخلص تنضيف الله يكرمك..

أنحنى ياسر يشمر بنطاله وهو يقول:

- باقولك روحي نامي ولو احتجتك هاجي اسألك وشوفي بقى هانضف لك الشقة دي إزاي... خلال ساعتين بعون الله هاتلاقيها بتلمع... بتبرق.. يا بنتي أنا كنت باتسلى في تنضيف البيت ده قبل الجواز كل أما أجي هنا...

قالت تقى بشك: - ياسر.. أنت بتتكلم جد...؟؟؟

- باتكلم جد الجد كمان ولو فضلتي واقفة هنا خمس ثواني كمان هاسحب عرضي...

- لأ.. لأ خلاص.. هاروح...

قالتها غير مصدقة أنها ستُلقي بجسدها المنهك على الفراش مرة أخرى، إلا أنها أطلت ثانية من باب الغرفة قائلة: - طيب والغدا يا ياسر...؟؟؟

ابتسم لها في عذوبة وهو يقول: - ماتقلقيش... كلمت شيف عنده مطبخ بيعمل أكل بيتي هايجهز لنا أحلى غدا ويبعته.. صحيح مش هايبقى في جمال أكلك بس كله يهون عشان خاطر دعبس وأم دعبس...

عقدت حاجبيها في دلال غاضب وهي تقول بامتعاض:

- ماكنت ماشي كويس لازم يعني تختمها بدعبس...!!!

ارتفعت ضحكاته وهو يطوي بساط الردهة ثم قال:

- هيا ركبت في دماغي دعبس... إذا كان عاجبك..

ارتسمت على وجهها ابتسامة شملته في راحةٍ ورضا وهي تتوجه إلى فراشها تريح جسدها المنهك قليلاً وهي تحمد ربها ألف مرة على زوجٍ كتبه القدر في صحيفة من نور... لأنه رجلٌ ضرب بكل تابوهات مجتمعهم العقيمة عرض الحائط وكان دائمًا لها سندًا.. لم يستغل عقد نكاح يستعبدها، بل تأسى بخير الرجال وكان دائمًا... قريبًا... حبيبًا.

- "توتي... توتة... توتاية..."

من أعماق نومها كان يداعبها ففتحت عينيها اللتين ابتسمتا له ليقول بحنان وهو يعبث بشعرها:

- الجماعة على وصول... قومي شوفي كدة البيت وقولي لي شغل الستات بقى واللا شغل الرجالة..

طبعت قبلة صغيرة في باطن كفه وهي تقول:

- ربنا يخليك ليا يا حبيبي...

اقترب منها وهو يقول بصوت أجش:

- لأ مش هاينفع خالص الحنية دي دلوقتي... واللا أقولك.. طز في أي حد.. خلينا في الحنية... هااه كنت بتقولي إيه...

نهضت وهي تدفعه برفق قائلة:

- أولاً أنت عارف يا ياسو إن وحمي صعب وأما تقرب كدة هاتزود حالة الغثيان اللي عندي.. ثانيًا هدومك كلها مبلولة قوم خد شاور وغيرهم بسرعة قبل ما تبرد... ثالثًا..

لكنها لم تكمل حديثها حيث قاطعها جرس الباب، فشهقت قائلة:

- عمتي....!

قهقه ياسر وهو ينهض قائلاً:

- اقعدي قولي أولاً وثانيًا لحد ما تلاقيها فوق راسك...

نهضت بسرعة تحاول تبديل ملابسها بينما بدل ياسر قميصه المبتل بآخر جاف وخرج يستقبل أمه وجدته وزينب وخاليه وزوجتيهما وزهرة وبدر و... حسناء.

وكان اجتماع الأسرة على الغداء دافئًا لا يخلو من نظرات أمه المتفحصة التي تشمل بها تقى بين الحين والآخر، بينما كان عيسى كملك متوج بين زهرة وخاله سليم وزوجته نجاة حتى الجدة كانت تتشبث به أحيانًا.

- "هوا... هوا زينب ماهتروحش بيت زين ولد خالي تنضفه قبل ما يعود يا أمي..؟"

كان ذلك سؤال حسناء الذي ألقته ونظرها معلق بطبقها تعبث بملعقتها في محتوياته دون أن تتناول الكثير منه، فقالت نجاة متعجبة:

- اه والله معك حق يا بتي... ده المفروض..

هنا قالت تقى:

- آه يا حسنا.. ياسر هايوديني بعد الغدا مع زينب عشان نرتبه إن شاء الله...

رفعت حسناء عينيها إليها وهي تقول بسرعة:

- لاه... وشك أصفر وشكلك تعبانة... خلي عنك أنت يا مرت أخوي.. أ.. أنا ممكن أروح مع زينب...

تأملها كل الجالسين حول المنضدة بذهول بينما رفع ياسر أحد حاجبيه قائلاً:

- ده إيه نوبة الكرم دي يا سنسن..؟

نظرت إليه حسناء نظرة منكسرة أجادت رسمها ثم استحضرت بعض عبرات وهي تقول بألم أتقنت صبغ كلماته به:

- بقى كدة يا أخوي..؟ ده جزاتي إني عايزة أريح مراتك بنت عمي اللي شكلها يصعب عالكافر...؟ عامة أنا آسفة... آسفة يا أخوي...

قالتها ثم نهضت باكية، فحدجته أمه بنظرة قاسية وهي تقول:

- ليش يا ولدي تكسر نفس أختك؟ يعني بدل ما تشكرها أنها تبغى راحة مرتك..؟

- والله يا أمي أنا كنت باهزر معاها يعني ماعرفش أنها هتاخد الموضوع بحساسية كدة..!

ألقت أمه نظرة موحية على شقيقها عتمان أبو طلال وهي تقول:

- معلهش... أصلها اللي فيها مكفيها...

تغضن وجه عتمان وقد فهم ما ترمي إليه، بينما عادت سنية تنظر إلى ابنها ثانية وهي تقول:

- يللا.. يللا قوم راضيها وحب على راسها وخدها هيا وزينب وأنزلوا قبل ما يرجع ولد خالك مع بته..

نظر ياسر إلى تقى في حيرة، فربتت على كفه مبتسمة لينهض قائلاً:

- حاضر.. هاروح أوصلهم بيت زين عشان ألحق أروح أجيبه من المطار.

هنا تحدثت الجدة لأول مرة بحسم:

- تجيبه اهنه الاول يا ياسر... نبغى نشوف بته ونملي عينا منيها...

قبل ياسر رأس جدته وهو يقول:

- أكيد طبعا يا چدة.. سلام عليكم...

رد الجميع سلامه بينما ذهب هو إلى شقيقته يراضيها يحاول تبرير وجهة نظره ثم يطلب منها أن تأتي معه فورًا، وما هي إلا دقائق معدودات حتى استقرت حسناء بجوار ياسر بالسيارة المتوجهة إلى منزل زين.

- "مش عايزين حاجة..؟"

سألهما ياسر عقب نزولهما عند المنزل، فأجابت حسناء بسرعة:

- لا لا يا أخوي.. روح شوف حالك أنت...

دخلت حسناء وزينب إلى المنزل الفخم الذي شملته بنظراتٍ حاقدة وهي تتجول بكل ركن به لاعنة حظها السيء الذي يحصرها في البيت الذي لم تبرحه منذ الطفولة بنجع الواحات البعيد بينما تلك الفتاة التي لا تمتلك ربع جمالها ترفل في هذا المنزل الفخم.

- "زينب... خدي الفلوس دي وروحي اشتري صابون وكلور وسلك و..."

- لكن يا ست حسنا... البيت مافيهش إلا غبار و...

قاطعتها حسناء بحدة:

- أنت هاتفهمي أكتر مني واللا إيه...؟ روحي قوام اشتري اللي قلت لك عليه..

قالت زينب في ذعر:

- يا ست.. يا ست الحتة مقطوعة وأنا مانا عرفاها زين..!

دست حسناء الأوراق المالية في يدها وهي تقول:

- ماهو أنا عاطياكي فلوس بزيادة عشان كدة... أركبي تاكسي أو أتصرفي... ياللا أوام...

أخذت زينب الأموال منها وهي تتمتم بكلمات غير مفهومة حتى رحلت، وعندما تأكدت حسناء من رحيلها.. خلعت عبائتها السوداء ليبدو من أسفلها بنطالاً من الجينز الضيق المطرز بخرزات لامعة في أكثر من مكان، تعلوه بلوزة فضية بدون أكمام لامعة بدورها تحيط صدرها بإحكام ثم تنزل باتساع من أسفله... تأملت بطنها المتكورة الصغيرة لحظات في غير رضا ثم نثرت شعرها الأسود الناعم الطويل وأخذت تطلي شفتيها بلون أحمر قاني وتحدد عينيها بكحلٍ كثيف و... أرتفع رنين هاتفها، فتناولته مبتسمة وهي تلقي بنفسها على فراش زين الأبيض المذهب الوثير.

- ألوووو...

أجابت بلهجة ناعسة ممطوطة هامسة واستمعت لحظات إلى الطرف الآخر ثم ابتسمت وهي تقول بغنج:

- خلاص يا حبيبي... أنا هنا... وأخيرًا ممكن نتقابل... العنوان...؟ هاديهولك بس ماتتأخر... أنا وقتي ضيق...

أملته العنوان ممنية نفسها بلحظات عشق خرافية مع ذلك الفارس الذي أغرقها بكلمات العشق والغرام عبر الإنترت.. عبر مكالماتهما الصوتية والمرئية.. حتى أخبرها أنه لا يطيق انتظارًا وإن لم يرها ويشبع منها فسوف تجده ببيتها في النجع يختطفها لتكون معه إلى الأبد...!! خفق قلبها في عنف وهي تذكر خطتها التي حاكتها كي تلاقي حبيبها المجنون وتنتقم من تلك التي سرقت منها زكريا حبيبها الأول.. ستقيم في منزلها وتعيث به فسادًا... وتترك غربان الشك تنعق في عقل زوجها الجديد الذي استحوذت عليه بعد أن قتلت شقيقه، فربما قتلها وخلص العالم منها... ابتسمت في جذل وهي تتخيل نور مقتولة وانتشت للفكرة التي ستضرب بها عصفورين بحجر واحد.

*****

نظراتها المرسلة من خلف جفنين أرتخيا بمرور السنوات المتعاقبة كانت ترصد حركاتهما وسكناتهما منذ وطئا باب المنزل بينما استأثرت هي بصغيرته التي شاركتها محراب صمتها. هو حقًا نسخةٌ أخرى من رحيلها الذي رحل مبكرًا... ورث عنه طبيعته المندفعة الحارة... كشلالٍ منهمرٍ في سخاء... كجوادٍ جامحٍ لا يروض طبعه سوى خيَّالٍ ماهر؛ وكانت هي سده وخياله... احتوت جموحه بتعقلها وروضت تسرعه بكبريائها... كذلك تفعل تلك الصغيرة ابنة الغالي الراحل... فقد عاد حفيدها بوجهٍ آخر غير الذي رحل به... تلك الصغيرة التي ورثت عنها التعقل والحكمة والكبرياء يبدو أنها تمكنت من قلب حفيدها وعقله وعيناه اللتان لم تبرحا أثرها منذ أن اختفت بإحدى الغرف مع شقيقتها وشقيقته.

- "مالك يا عم.. شكلك مش عاجبني.." همس ياسر لصديقه وابن خاله العائد لتوه، فأجابه زين هامسًا:

- أنا اللي مالي...؟ أنت اللي مالك يا ابني شوية اه يا ضهري وشوية اه يا رجلي...

ابتسم ياسر بمرارة ساخرة وهو يقول:

- ده الوَحَم بعيد عنك...!

ارتفعت ضحكات زين مقهقهة ولم يستطع كتمانها وهو يسأله بخفوت:

- مبروووك وأنت بقى في الشهر الكام...؟

وكزه ياسر قائللاً بغيظ:

- مش ناقصاك والله.. أنت عارف البهدلة اللي باشوفها في وحم تقى.. سيبك مني.. أنت اللي سرحان وهيمان كدة... شكلك وقعت..

قالها غامزًا، وقبل أن يجيبه زين سمع صوت أبيه الشيخ سليم يهتف باسمه قائلاً:

- زين يا ولدي... أهل دايرة الجيزة عاملين قاعدة صلح بين عيلتين من أكابرهم بعد العشا وأبغاك تكون معاي... هاتقدر يا ولدي واللا تعبان من السفر...؟

اعتدل زين مجيبًا أبيه على الفور: - لأ يا والدي هاجي مع حضرتك طبعًا...

ربت أباه على كتفه قائلاً:

- الله يبارك لي فيك يا وليدي... جهز حالك العشا قربت.. ننزل نصلي في المسجد ونطلع على طول...

أومأ زين شاردًا، ثم استدار إلى ياسر بغتة وهو يهمس له:

- هيا نور فين..؟

ضحك ياسر مجيبًا بهمس:

- إيه... لحقت تشتاق يا سي روميو..؟ مش باقول لك وقعت..؟!

همس زين بغيظ من خلف أسنانه:

- أخلص يا ياسر عايز أقولها حاجة قبل ما أنزل مع أبويا..

- الحريم كلهم في أوضة حبيبة جوة..

قال له زين بخفوت:

- طيب تقدر تخليهم يطلعوا من غير ما تحس عشان عايزها فعلاً في كلمتين وهيا مش مدياني فرصة..؟

قالها ثم شرد مردفًا: - ويمكن دي تكون آخر فرصة...!!

في تلك الأثناء كانت نور ممسكة بعيسى الذي غفا بين ذراعيها منخرطة في الضحك هي وزهرة بينما كانت تقى عابسة في غضب وهي تقول: - ماشي... أضحكوا أضحكوا...

فقالت نور من بين ضحكاتها:

- يا بنتي نفسي أعرف أنت زعلانة أنك حامل ومخبية ليه..؟ تكونيش لا قدر الله متجوزة ..؟!!!

ازدادت ضحكات زهرة بينما عقدت تقى ذراعيها على صدرها وهي تقول بضيق:

- يا بنتي حبيبة عندها سنة ونص لسة وأنا كنت مأجلة الموضوع ده لحد ما أخلص رسالتي اللي مش هاتخلص في سنتها دي...

همت نور أن تتحدث إلا أن طرقًا خفيفًا على باب الغرفة قاطعها وصوت ياسر ينادي تقى التي هرعت إلى الباب بسرعة ثم عادت قائلة:

- زهرة... تعالي كدة عايزة أوريكي حاجة في المطبخ...

نهضت نور قائلة: - عايزة مساعدة يا توتة..؟

أمسكت تقى بيد زهرة وهي تقول:

- لا يا حبيبتي زهورة عملت كل حاجة عايزة اسألها بس شالت الحاجة فين عشان عايزين شاي..

قالتها ثم خرجتا لتعود نور تضجع على الفراش تمرر أصابعها في شعر صغيرها باشتياق.

- "يا بخته...!"

وصلها صوته كشعاع برقٍ صعق قلبها وجعلها تنتصب من إتكائها في توتر وهي تمسك حجابها الأسود الذي سقط على كتفيها تحاول إرتدائه مرة أخرى. أما هو فقد دخل وأوصد الباب خلفه وشملها بنظراتٍ دافئة أخذت تتأمل إرتباكها اللذيذ.. شعرها المعقوص إلى أعلى مع خصلاتٍ نافرة شهية... عبائتها الحريرية التي تعانق الجزء العلوي من جسدها في فتنة والتي كانت مختبئة أسفل معطفها الأسود.

نظرت إليه بتحفز بعد أن أحكمت حجابها حول وجهها وأسبلته لينسدل حتى مرفقيها، ثم تسائلت بشموخ:

- فيه حاجة يا باشمهندس..؟؟

- "نور..." لأول مرة ينطق اسمها بذلك الدفىء الذي دغدغ أوصالها، إلا أنها لم تبد استجابة وهي تشيح بوجهها ليجلس قبالتها على الفراش الصغير وينحني نحوها بشكل خطر محاصرًا أنفاسها وهو يقول:

- عارف إني.. إني غلطت... وجيت عليكي كتير... وعارف أنك اتحملتي كتير... بس أنا رجولتي كانت لسة بتعاني من جرح مااتطهرش كويس فانفجر للأسف فيكي...

نظرت إليه بتنمر وهي تهتف:

- تقوم تجرح كرامتي أكتر من مرة وترميني باتهامات باطلة..

- واعتذرت لك ومستعد اعتذر لك مليون مرة... مستعد أعمل اللي يداوي لك جرح كرامتك زي ما داويتي لي جرح رجولتي...

عقدت حاجبيها في غير فهم، ليهمس لها:

- نظراتك الممتنة لكل صغيرة وكبيرة باقدمها لك... احترامك لوجودي... و.. انصهارك بين إيديا بروح أنثى بتعرف كويس إزاي تُحيي رجولة مطعونة... كل ده عالجني وخلاني أعيش من جديد... صدقيني أنتي مش بس رجعتي لي بنتي... أنت رجعتي لي نفسي كمان...

كان قلبها يخفق بعنف... يكاد يجن من حديثه الهامس من أنفاسه التي تحيط بها.. من اقترابه القاتل وهو يضع سبابته أسفل ذقنها رافعًا وجهها إليه مردفًا:

- مستعد أعمل أي حاجة بس عشان أعتذر لك وأشكرك.. بس الأول أقبلي مني الهدية دي...

قالها ثم أخرج علبة مخملية تحمل اسم علامة مشهورة في عالم المجوهرات.

- سلسلة زهرة الأوركيد المعروفة من تيفاني أند كو... أول ما شوفتها افتكرتك... مش هاتليق على حد غيرك.. أنت بالنسبة لي زهرة أوركيد رقيقة خجولة... من أول ما شوفتك..

استدعت برودها بكل طاقتها وقد هزت كلماته أقفال قلبها الصدئة وأحدثت شرخًا بجدار روحها الذي تختبيء خلفه، إلا أنها أجابته بجمود:

- مش هاينفع أقبل هدايا منك لأني عشان أقبل إعتذارك لازم أطلب منك طلب واحد...

همس بحماس: - أطلبي أي طلب يا نور... أي حاجة...

رفعت رأسها في تصميم وهي تقول: - تطلقني...!!!

أرتد في ذهول بينما صوت أبيه يرتفع مناديًا مذكرًا إياه بموعدهما، فنهض بيأس قائلاً:

- هاعمل لك كل اللي أنتِ عايزاه بس يا ريت تفكري في طلبك ده مرة تانية... وباطلب منك بس تسامحيني من جواكي... أنا هاروح مع أبويا مشوار وهارجع على بيتنا نكمل كلام.. هاسيب عربيتي مع ياسر يوصلك أنت وعيسى بيها لأني ممكن اتأخر... وأرجوكي خلي هديتي معاكي حتى لو مصرة على طلبك...

وقبل أن يخرج.. أنحنى على رأسها طابعًا قبلة خفيفة ثم قال:

- استودعك الله..

قالها ثم خرج إلى أبيه والحزن يحفر ملامحه بينما طلبت نور من تقى أن تبلغ ياسر أنها تريد العودة فورًا إلى منزلها في الحال... فبداخلها طوفانٍ هائل من دموع لن تتعرى منها أمام الجميع.. تريد أن تودع بيته وكل أشيائه قبل رحيلها الأخير.

– "طب فهميني مالك فيه إيه..؟"

كذا حاولت تقى فهم سبب أدمعها المحبوسة في سجن عينيها إلا أن نور كانت تحتضن عيسى بسيارة زين الجيب السوداء المنطلقة بها حيث الوداع الأخير وبجوارها تقى تحاول فهم أي شيء منها حتى...

"لا حول ولا قوة إلا بالله ... إيه ده...؟ إيه ده...؟؟؟؟"

كان ذلك صراخ ياسر الذي توقف فجأة بالسيارة التي تعبأت بدخان كثيف جعلهم يسعلون بشدة.. تركت نور عيسى وترجلت على أثر ياسر الذي هبط مهرولاً... لترى احتراق حتى آخر فرصة وداع... فبيت زين الذي قضت به أول ايامها معه... تندلع منه ألسنة اللهب بجنون قاتل.... صرخت في ألم وأنفجر طوفان دموعها أخيرًا... هبطت إليها تقى تحاول جرها بعيدًا عن البيت الذي كاد أن يصير رمادًا، بينما أخرج ياسر هاتفه يطلب المطافيء ثم هاتف زين الذي كان يقود سيارة أبيه بطريق شبه خال.

- "تلفونك بيرن يا ولدي.."

قالها الشيخ سليم فألتفت إليه زين للحظة يتناول هاتفه...

- حاااسب حااااسب يا زين....

صرخ أباه ليعود زين بعينيه إلى الطريق... من أين ظهرت تلك المقطورة فجأة...؟؟؟؟!! أخذ يدير المقود محاولاً تفادي الاصطدام الذي كان لا مفر منه... و... انقلبت السيارة عدة مرات... كلعبة أطفال ألقاها طفل حانق من علوٍ شاهق...!!!!

***

نهاية الجزء الثالث

أة


[1] سُدى ذهبت كل محاولاتي للمقاومة.
إنها لا تجدي نفعـًا، لا يُمكنني كتمان مشاعري.
لابد أن تسمحي لي أن أخبركِ عن شدة إعجابي وحبي لكِ





Just Faith 18-12-17 01:47 PM

الجزء الرابع

الرحيــــــل إلى الغد

أيها الشبح الملثم بلثام الغيب، هل لك أن ترفع عن وجهك هذا اللثام قليلاً لنرى صفحةً واحدةً من صفحات وجهك المقنع، أو لا، فاقترب منا قليلاً علَّنا نستشفُّ صورتك من وراء هذا اللثام المُسْبَل دوننا، فقد طارت قلوبنا شوقًا إليك، وذابت أكبادنا وجدًا عليك.

أيها الغد، إن لنا آملاً كبارًا وصغارًا ، وأمانيَ حسانًا وغير حسان، فحدثنا عن آملنا أين مكانها منك، وخبرنا عن أمانينا ماذا صنعت بها، أأذللتها واحتقرتها، أم كنت لها من المكرمين؟.

الغد – مصطفى لطفي المنفلوطي

زهرة الياسمين الهندي

-1-

"هل كان علينا أن نسقط من عُلُوٍ شاهقٍ،
ونرى دمنا على أيدينا... لنُدْرك أننا لسنا
ملائكة.. كما كنا نظن"
محمود درويش – أثر الفراشة

***

حادث مؤلم يتعرض له أحد أعضاء برلمان الثورة

(المصري اليوم – 12 فبراير 2012)

مساء أمس، بينما كان في طريقه للقاء بعض ناخبي دائرته، تعرض النائب سليم رحيل العربي نائب دائرة الجيزة إلى حادث مؤلم على الطريق الدائري عقب اصطدام سيارته التي كان يقودها نجله الأكبر الأستاذ بكلية الزراعة الدكتور زين رحيل العربي بشاحنة ضخمة، مما أدى إلى إنقلاب السيارة.

تم إخراج النائب سليم العربي وابنه من السيارة بأعجوبة وتم نقلهما إلى مستشفى دار الفؤاد في حالة حرجة.

***

بعد كلمته الجريئة في آخر جلسة له بالبرلمان،

هل هناك علاقة بين تهديداته والحادث الذي تعرض له النائب سليم العربي؟

(وكالة أنباء الشرق الأوسط، القاهرة في الثالث عشر من فبراير 2012)

عقب التحقيق في الحادث الذي تعرض له النائب سليم رحيل العربي وابنه والذي تزامن مع نشوب حريق بمنزل العائلة في مدينة السادس من أكتوبر، حيث ثبت أن كلا الحادثين قد تما مع سبق الإصرار والترصد.. يمكننا الآن التساؤل هل لذلك علاقة بالتصريحات النارية التي أدلى بها النائب بالجلسة السابقة بمجلس الشعب ووعد بإثبات حديثه بالدليل القاطع بالجلسة القادمة؟؟!

أثمة علاقة تربط بين تصريحاته عن تجار المخدرات والسلاح المنتشرين بدءًا من الحدود الليبية مرورًا بالواحات حتى منطقة الساحل بالأسكندرية؟ أم هي كما أشاع البعض حادثين يتعلقا بالشرف والثأر بعد العثور على جثة ابنة شقيقة النائب سليم بالمنزل المحترق مع جثة رجل لم يتم التعرف على هويته...؟

***

فضيحة أحد نواب برلمان الثورة... قام بقتل ابنة شقيقته حرقًا ثم انتحر..!!

(اليوم السابع – 14 فبراير 2012)

عقب تمكن المطافئ من إخماد الحريق الذي نشب بمنزل عائلة النائب سليم العربي بمدينة السادس من أكتوبر وتمكن فريق الإنقاذ من إخراج جثة امرأة ماتت مختنقة قبل أن تنال النيران من بعض أجزاء من جسدها، وبعد تعرف أسرتها عليها، إذ تكون ابنة أخت النائب سليم العربي، كما أخرج فريق الإنقاذ جثة أخرى لرجل مجهول الهوية لم تتعرف عليه عائلة رحيل قضى نحبه بدوره مختنقًا قبل أن تنال النيران من بعض أجزاء من جسده. الجدير بالذكر أن الجثث التي تم انتشالها كانت شبه عارية ويبدو أن الحريق تم بفعل فاعل داخل حدود العائلة التي تتمركز في الواحات البحرية بصحراء مصر الغربية والتي يُعرف أهلها بالدماء الحارة وتكثر عندهم قضايا القتل من أجل الشرف والثأر وما إلى ذلك. والسؤال الذي يطرح نفسه هاهنا... هل قام النائب سليم العربي ونجله بإضرام النيران ببيتهم ليتخلصوا من ابنة العائلة الآثمة هي وعشيقها ثم طاردتهما لعنة ما اقترفته أيديهما لينالا عقاب السماء العادل بعد فعلتهما بدقائق معدودة..؟

***

ضج المكان بضحكاته الخشنة المتشفية... لطالما انتظر ذلك اليوم منذ أمدٍ طويل... لطالما راودته أحلام بالتخلص من ذلك النصل الموجه إلى عنقه مهددًا أمنه رغم كل المؤازرة التي يتلقاها من أعلى السُلطات؛ إلا أن ما أطلَّع عليه ابن العربي وما جمعه من معلومات كان يقض مضجعه ليل نهار ولولا أنه لم يتلق أوامر بسحقه إلا الآن لكان فعلها منذ أمدٍ بعيد.

- "على إيش بتضحك يا شيخ مناع لسة تحقيقات النيابة ما خلصتش..!"

لكنه شريكه في أعماله المشبوهة بقلقه وخوفه الدائم دائمًا ما يخرب علي لذة انتصاراته..!

- راح تخلص.. راح يتسكر التحقيق بفضيحة.. والناس ما تصدق تلاقي فضيحة تتكلم فيها وتكتب عنها..

قالها بجذل وقد ألتمعت عيناه ببريق مخيف مردفًا:

- حنَّا كنا نبغى نخلص الحكاية بنضافة... لكن الشيخ ساليم وولده صمموا على نهاية غير...

صمت قليلاً يأخذ نفسًا من أرجيلته ثم نفثه وهو يردف بلهجة شرسة:

- صمموا يكتبوا نهايتهم بيدهم... وساليم وعياله هياجوا تحت رجلي واحد واحد ... وراح ناخد حقنا منيهم صوح...

وعاد المكان يضج بضحكاته الشرسة التي أرتج لها قلب شريكه وهو يشهد خروج شيطان الانتقام من قمقمه بعد أن حرره الكبار الذي أخطأ سليم خطأً فادحًا بالعبث معهم ظانًا أن وضع بلد بأكملها سينقلب بين عشية وضحاها..!!!

***

العشرون من فبراير..

ليلةٌ غائمة بدأت بسحبٍ رمادية حُبلى مسها طائف من البرق فانفجرت..

تحولت إلى اللون الأسود ونزفت سيلٌ طاهر مغرقًا الأزقة والطرقات...

مع صراخ رعدي هادر ترتج له أراضي قلبها القاحلة مع ما ارتفع بوجدانها من سماوات..!

هل تحولت حياتها إلى شتاءٍ طويلٍ قارس البرودة...؟

أم هو حقًا قدر الرحيل الذي يطاردها في كل الطرقات والممرات حتى يصل بها إلى ساحات المشافي والمصحات..؟؟

روحها المبتلة كفرخ مذعور ترتجف بداخلها رغم قشرة الصلابة التي تبديها لمن حولها...

تبتهل وهي تتابع المطر الذي لم يكف عن الهطول...

تُشهر سيف الدعاء أمام قدر الرحيل...

يا الله... لا أطيقُ المزيد من الوداع...

يا الله لا تهدم اللبنات المتبقية من معبدي المتهدم فوق رأسي..!!

ويطل سؤالٌ قبيح مشوه وسط سيل أمطارها الداخلي يبتسم لها بأسنان نخرة يكشف شيء من ظلام روحها ويهمس "ألم تنغرس شظايا ذاك المعبد بعمق روحك أكثر من ألف مرة...؟ ألم تنتوي رحيلاً..؟ بل فرارًا بما تبقى لكِ من ماء وجه..؟ فلتقفي يا فتاة في صمت وتشهدي القدر وهو ينتقم لكِ ممن حسبتهم سندًا فدفعوك إلى حافة الهاوية... إنحني إحترامًا لعدالة السماء وصفقي لتدابير القدر..!"

لكن نظرة واحدة إليه وهو مسجى أمامها بلحيته النامية وقد اختفى جُل جسده أسفل الكثير من الضمادات... محت من ذاكرتها كل إساءة منه وبنت عوضًا عنها شعورًا متزايدًا بالهلع من فقدانه..!!! كيف تتشفى به وقد نمت براعم أنوثتها المسجلة باسم شفتيه لتتحول إلى حديقة وارفة... فردوسٍ صغيرٍ بأعلى مكان بوجدانها... لا يناله برد اللامبالاة ولا قيظ الحقد قط..!

واختفى السؤال القبيح في عتمته الإجبارية عندما ندَّت من قلبها شفقةٌ على ذلك الآخر الساقط في عالمٍ مظلمٍ لا قرار له...!

نعم... تشفق عليه وتدعو له فهو – رغم كل شيء – أحد أعمدة معبدها الذي تختبيء خلفه رغم تهدم جدرانه وعُري عمدانه اللهم إلا من بقايا ورق التوت...!

هي ليست نبية أو زاهدة ناسكة... وليست أيضًا مظلمة الروح إلى درجة التمتع بمراقبة الموت وهو يحوم بردائه الأسود حولها أو حتى التمتع بآلام آخرين قد تكون نالت منهم يومًا ما وخزات موجعة في طريقهم بدهاليز الحياة...!!

- "مدام نور... من فضلك.. من فضلك ماتسببليش مشاكل..."

انتفضت على همسات طبيب الرعاية المركزة الشاب، فاستدارت إليه بعينين منتفختين من البكاء والسهر، ليهمس بصوتٍ قد ازدادت حدته:

- مدام نور الزيارة انتهت من أربع ساعات ولو جه تفتيش ولاقوكي هنا أنا اللي هاتسئل فيها...

زفرت في ضيق ثم سألته مشيرة إلى زين:

- طيب أمتى يا دكتور يخرج من الرعاية...؟ ده بقى له أكتر من أسبوع بيقوم يهذي بكلام مش مفهوم ويرجع ينام تاني... أنتوا مش أكدتوا على نجاح العملية...؟؟

تلفت الطبيب حوله في قلق ثم همس لها سريعًا علَّه يتخلص من وجودها غير المرغوب به:

- يا مدام زوجك مر بأكتر من عملية كبيرة ومش سهلة ولازم نتابعه بدقة... وزي ما الدكتور راغب قالك.. رجله الشمال أنكسرت تمامًا وثبتنا الكسر بشريحة وسبع مسامير ورجله اليمين حصل فيها كسر برضه وثبتناه بمسمارين.. ده غير الأربع كسور اللي في الحوض وإنخلاع مفصل الحوض الشمال... غير الشظية اللي دخلت صدره وكانت قريبة أوي من الرئة... وطبعًا حضرتك عارفة آلام العضم بيبقى شكلها إيه، فأحنا لحد دلوقتي بندي له مسكنات قوية زي الترامادول والمورفين فتلاقيه نايم أغلب اليوم، بس هانقلل المسكنات تدريجيًا من بكرة إن شاء الله زي ما دكتور راغب قال، وكلها كام يوم وننزله أوضة عادية في المستشفى وتقدري تتواجدي معاه براحتك.. بس أرجوكي تتفضلي دلوقتي عشان ماتسببليش مشاكل...

تنهدت في وجع وهي تتأمله محاطًا بالأسلاك والأنابيب المغذية من كل مكان... مسبلاً جفنيه... توجهت إليه.. أنحنت نحوه ممررة يدها على وجهه الذي بللته أدمعها ثم قالت بصوت مبحوح وكأنه قد يسمعها "هاجي لك بكرة إن شاء الله.." قالتها ثم نزعت نفسها من جوار فراشه لتخرج إلى ساحة العناية المركزة الصامتة إلا من هدير الأجهزة وشيء من الأنين الخافت، بينما كاد الطبيب الشاب يُجن وهو يراها تتوغل إلى الداخل بدلاً من الخروج وتتوجه إلى قسم آخر بالرعاية.. تُزيح ستارته وتدلف حيث عمها الراقد في سكون تام مغمض العينين لا تحيط به سوى بعض الضمادات حول رأسه بالإضافة إلى أسلاك رسم القلب وأنابيب التغذية، وقبل أن يعترض الطبيب كانت تطبع قبلة على جبين عمها المُضمد وتهمس له كدأبها كل يوم "مسامحاك يا عمي.. والله مسامحاك... أرجع بقى.." والمزيد من الدموع... والمزيد من تذمر الطبيب مطالبته لها بالرحيل لتغادر المشفى وتسير أسفل سماء فبراير المطيرة تُلقي نفسها في أول سيارة أجرة وقلبها يصرخ اشتياقًا لصغيريها اللذين لم ترهما منذ الصباح.

***

لكن... ماذا جنت كي تتعرى لها الحياة بأسوأ صورها هكذا..؟

ماذا جنت كي لا ترى سوى الوجه الدميم لهاك الشبح الأسود القابع أمامها ليل نهار..؟؟

لقد كانت تحمي عائلتها من لصوص الليل.. من الطفيليات المنتنة التي قد تغتذي عليها دون وجه حق..!

لكن مهلاً... ألم تصبح هي كائن طفيلي لا فائدة مرجوة من وجوده...!!

ويجيبها شبحها القبيح.. جليس وحدتها ومحاور صمتها...

يخبرها... أنتِ التي زرعتِ بذرة البهتان لتطرح ثمارًا عفنة تناولها في نهم أقرب الناس إليك...!

"والدنيا دوارة..." جملة يتردد صداها في كيانها دون توقف...

"أنتِ من كتبتِ نهايتها... أنتِ من بدأتِ القصة وتلك هي النهاية.. "

أخذت تنتفض وتتمتم بكلمة واحدة وهي تحاول النيل من ذلك الشبح القميء الذي لا يفارقها..!

- "ما قتلتها... ما قتلتها..."

تصرخ وتهذي فتخرج الحروف بغير تناسق من نصف فمها الأيمن الذي يمكنه الحركة، ذلك عندما جائت تحتضنها في حنو محاولة تهدئتها، لكن ببرائتها ورقتها تتجسد آثامها فتزيد هياجًا..!

"ياسر.. يا ياسر تعالى بسرعة..."

صاحت تقى بعد أن فشلت في السيطرة على هياج عمتها ليأتي ياسر مهرولاً يحمل بيده محقنًا يحقن به أمه ثم يجلس على ركبتيه أرضًا بين يديها تترقرق عيناه بالدموع.. يدلك كفي أمه وهو يقول:

- كفاية يا أمي... أرجوكي كفاية ماتعذبيش نفسك وتعذبيني أكتر من كدة...

لكنها تجذب كفها الأيمن الذي لازالت بإمكانها تحريكه وتسند رأسها عليه وهي تهذي بخفوت "ما قتلتها... ما قتلتها... آاااااه يا بتي... آااااااااه..."

وترتفع دقات الباب فتجر تقى رجليها إليه لتفتح لشقيقتها تسألها عن أحوال من بالمشفى لتتلقى الجواب ذاته بينما يعود صوت عمتهما يرتفع قليلاً بهذيانها لتتسائل نور:

- هيا لسة على الحال ده من أمبارح...؟

فتجيبها تقى: - هيا على الحال ده من ساعة ما خرجت من المستشفى أول إمبارح... تقعد تتكلم وتزق بإيدها السليمة حاجات وهمية... لحد ما ياسر يديها المهدئ... شوية وتنام...

طبعت نور قبلة على جبين شقيقتها التي أعياها الحمل والحزن ورعاية عمتها وتخفيف حزن زوجها على رحيل أخته، ثم قالت:

- ربنا معاكي يا حبيبتي..

أومأت تقى في صمت أعقبته بسؤال:

- أحضر لك العشا دلوقتي...؟

- لا يا حبيبتي أنا أكلت في كافيتيريا المستشفى... أنا هنااام عشان هقابل المهندس اللي بيصلح البيت بكرة وأشوف وصلوا لحد فين في الشغل قبل ما أروح المستشفى... تصبحي على خير..

وكادت أن تذهب إلى الغرفة التي تحتلها مع صغيريها، إلا أنها عادت متسائلة:

- أمال فين طنط نجاة وزهرة..؟

قالت تقى في إشفاق:

- طنط نجاة مابتبطلش عياط من الصبح لبليل وحابسة نفسها في أوضتها... زهرة بقى من الفجر مع الولاد هيا اللي شايلة مسئوليتهم مع محاولة تصبير أمها وزمانهم ناموا...

لقد ضمهم ذلك البيت الدافئ الذي صار يسعهم جميعًا رغم صغره مقارنة ببيت الواحات الضخم، إلا أنهم لم يجدوا أمام موجتي الحزن والوجع المدمرتين سوى التشبث بعضهم بعضًا... حتى لا ينهدم المعبد... تمامًا.

******

- "مـ... ماما... ليه كل يوم تخرجي الصبح وماشوفكيش... عمتو زهرة بتقولي إني هاشوفك قبل ما أنام بس برضه بأنام قبل ما تيجي..."

كلماته البريئة تشطر قلبها وجدًا على صغيرها الذي عانى من انشغالها قبلاً مع مرض أبيه حيث كانت تتركه مع إيفا للاعتناء بزكريا واليوم تعاود تركه أغلب يومها الذي تقضيه ما بين المشفى والإشراف على إعادة بناء وتأثيث منزل زين.

- حبيبي... مش قلت لك أن عمو زين في المستشفى ولازم أكون جنبه لحد ما يخرج إن شاء الله...

اتسعت عينا الصغير في فزع وهو يقول:

- عـ... عمو ز.. زين لسة في المستشفى...؟ يعني هايروح عند ربنا زي بابا...؟؟؟

شهقت زهرة التي كانت تتابع حديث الصغير بإشفاق ووضعت يدها على فمها تمنع عبراتها، بينما أخذت مايا تتابع الموقف من موقعها على الفراش متكومة على نفسها، أما نور فقد أخذت عيسى بين ذراعيها تربت على رأسه ثم قالت بشرود وعينين لم تجف عبراتها:

- لأ يا حبيبي إن شاء الله يقوم بالسلامة ويرجع لنا.. أنت بس أدعي له كتير أتفقنا..؟

أومأ برأسه وهو يقول يهمس:

- يا رب عمو زين يرجع عشان أنا باحبه أوي... كان بيذاكر لي ويوديني النادي وأما رجع من السفر جاب لي لعب حلوة كتير... يا رب خليه يخف وماتاخدهوش عندك زي بابا...

لم تتمالك زهرة دموعها التي أنهمرت كشلال وهي تتناول عيسى من بين ذراعي أمه تحتضنه بقوة، أما نور فقد توجهت إلى مايا تحتويها بدفئ بين ذراعيها هامسة:

- عارفة إني أنشغلت عنكم كتير بس إن شاء الله أطمن على بابا وأخدكم أفسحكم ونلعب مع بعض...

كانت مايا هادئة.. اعتادت ألا تناقش أو تجادل.. تتأقلم مع ظروفها واختياراتها بهدوء دون تذمر، وقد كانت نور واعية لطبيعتها الكتومة تلك التي ربما كانت السبب في خرسها الاختياري الذي تعمل تقى – رغم كل شيء – على محاولة علاجه، لذا فكانت نور حريصة دائمًا على التحدث مع مايا وشرح كل شيء لها حتى لا تتسبب في تفاقم أزماتها النفسية دون قصد.

طرقات خفيفة على الباب أعقبه دخول تقى التي قالت:

- أنتوا مش نازلين واللا إيه...؟

طبعت نور قبلة على وجنة مايا ثم نهضت قائلة:

- لأ نازلين حالاً.. مش عايزة أتأخر على المهندس هيثم عشان هاديه دفعة من حسابه وأشوفه خلص إيه في البيت وناقص إيه وزهرة هاتروح المستشفى...

ناولتها تقى مفتاح ما وهي تقول:

- طيب ياسر قالي أديكي ده...

عقدت نور حاجبيها ثم قالت: - إيه ده...؟

أجابتها شقيقتها: - ده مفتاح عربية زين... مش استلمتي رخصتك خلاص..؟

قالت نور: - لا يا بنتي خليها مع الدكتور ياسر وأنا هاشتري عربية صغيرة كدة و...

قاطعتها تقى بحسم:

- يا حبيبتي ياسر عنده عربية والده... وبعدين دي رغبة جوزك...

ازداد انعقاد حاجبي نور بغير فهم لتردف تقى بعد تنهيدة حارة:

- وكأن قلبه حاسس إن هايحصل حاجة... قال لياسر يديكي العربية وتبقى معاكي أنتِ.. عشان لو الولاد احتاجوا حاجة وهوا مش موجود تعرفي تتحركي بسهولة...

تناولت نور المفتاح بوجوم وقلبها يخفق بعنف، بينما علت نهنهت زهرة التي نهضت قائلة:

- ياللا بينا يا نور عايزة أشوف أخويا وأبويا...

وخرج ثلاثتهن إلى الردهة ليجدن نجاة قد أرتدت ملابسها وتجلس بجوار الباب ممسكة بحقيبة يدها بينما عينيها قد تورمتا وصارتا بلون الدماء من كثرة البكاء.

- "بتعملي إيه يا أمي...؟ روحي نامي وريحي شوية..."

- أبغى أشوف ولدي... أبغى أشوف أبوك...

- يا ماما ممنوع أكتر من حد يدخل...

- يبقى أدخل لهم أنا... ولدي... ولدي وأبو عيالي بيوم واحد يا رب... يا رب اللهم لا اعتراض... يا رب برد قلبي يا رب وردهم لي... يا رب وجع الصغير ما راح بعده.. والله بعده ما راح...

وكزت نور ابنة عمها بخفة ثم قالت:

- هما بخير يا طنط والله... والدكتور قال لي إن زين خلاص هايطلع خلال كام يوم من الرعاية...

أخذت نجاة تطرق صدرها بكفها وهي تقول:

- ولدي... يا قلبي يا وليدي... أبغى أشوفه... أبغى أشوفه يا بتي...

تبادلت نور وزهرة النظرات، ثم قالت الأولى بحسم:

- طيب ياللا بينا... تعالي أطمني عليه بنفسك..

وأنطلق ثلاثتهن بالسيارة الجيب السوداء وبداخل كل منهن يرتفع صرح خوف الفقد والحزن.. واحدة يلتهمها الهلع من فقد الزوج والابن الثاني والأخرى تخشى ضياع الأب الحنون والأخ الصديق أما الثالثة فلا تدري كيف تنعي قلبها الذي لم يكد يتنشق عبارات الحب حتى جاءت صفعة القدر بقرب فقد الحبيب أو على أقل تقدير عجزه..!

***

وكاد فبراير الحزين أن ينقضي ولازال أحدهما غارقًا في صمته...

والآخر غارقًا في عالمٍ آخر لا يبرحه...

هاهي تعسكر بغرفته.. تخشى عليه مخالب أفكاره السوداء التي تمزق روحه أكثر من خشيتها من جراحه...

فمنذ أن أفاق... منذ أن بدأ الوجع يمزقه... منذ أن علم أنه لا يمكنه تحريك ساقيه... استسلم..

استسلم لشلل إرادة وهلاوس العجز تعيث بعقله فسادًا.

- "تحب أحلق لك دقنك..؟" كذا سألته هذا الصباح، فأشاح بوجهه عنها قائلاً بخشونة:

- لأ... عايزها كدة...

وخيم المساء.. خفتت أضواء الغرفة إلا من ضوء ضعيف بجوار الفراش أخذت تتأمله على شعاعه الواهي.

مسبل الجفنين... يرسم الألم خريطته الواضحة على تعابير وجهه... ودت لو تمسح عليه بيدها.. ودَّت لو تزيل آلامه بمسحة من يدها... ودَّت لو تلثم عنه أفكاره السوداء... ودَّت لو تخبره أنه يكفيها وجوده.. متعجبة من أفكارها الجديدة عليها... ما الذي أيقظ تلك المشاعر.. أهو الخوف من الفقد أم هي الشفقة..؟

"يا عم يا عم عالرومانسية... إيه النظرات الولهانة دي بس...!"

كانت همسات زهرة التي دخلت الغرفة لتوها تخبرها دون مواراة عن مشاعرها التي تفضحها نظراتها.. لكن كيف وصلت إلى تلك الدرجة من العشق وهي كانت تطلب منه الطلاق قبل الحادث مباشرة..!!!!

نهضت من جواره لتجذب زهرة بعيدًا بالغرفة الغارقة في الظلام وهي تهمس لها:

- شششش... ما صدقت نام... الدكتور منع المسكنات القوية وشغال على مسكنات عادية وتعب أوي النهاردة...

شعرت نور بابتسامة زهرة وهي تهمس:

- حاضر يا ست نور مش هانصحي حبيب القلب بس أنت ماكلتيش من الصبح.. أنا روحت أشوف بابا وجبت لك أكل...

أجلستها نور على أريكة بأقصى الغرفة المظلمة وهي تقول هامسة:

- مش هاكل دلوقتي... أطمن بس أن محلول المضاد الحيوي خلص من غير مشاكل وأبقى أطلع برة أكل بسرعة و.....

قاطعها صوت الباب وهو يُفتح أعقبه دخول شبحي امرأتين تتضاحكان.

- "راجل أوي يا بنتي... حتى بتكشيرته زي العسل... تعالي شوفيه وأحكمي.."

- "يا مجنونة يا هبة هاتودينا في داهية بطلي معاكسة في المرضى.."

- "يا بت والله الراجل ده غير.. تحسيه طالع من فيلم أبيض وأسود... حاجة كدة صالح سليم على أحمد مظهر.."

ضحكت الأخرى بخفوت وهي تقول:

- "أخرسي بقى مش قادرة أمسك نفسي هايصحى ويبهدلنا، خلينا نديه الحقنة في سكوت ونمشي..."

وتوجهتا إلى فراش زين الغافي... كشفت إحداهما بطنه و...

- "أنتي بتعملي إيه لو سمحتي...؟؟"

انتفضت الممرضة في وجل وهي تتطلع إلى نور التي ظهرت أمامهما فجأة، بينما قالت زميلتها:

- باسم الله الرحمن الرحيم بيطلعوا أمتى دول...؟؟

أضائت نور أنوار الغرفة وهي تقول بصرامة:

- بيطلعوا للعالم الهايفة اللي ماوراهاش حاجة إلا القذارة...

تمالكت الأولى نفسها وهي تعيد تسديد المحقن إلى زين وهي تقول:

- من فضلك يا مدام... خلينا نشوف شغلنا...

إلا أن نور أمسكت يدها بعنف قائلة بصرامة:

- جدول العلاج اللي الدكتور راغب كاتبه أنا حافظاه زي اسمي ومافيش أي حقن دلوقتي... ماهو يا إما تقولي لي حقنة إيه دي يا إما تتفضلي تطلعي برة...

اقتربت زهرة في توتر وهي تهمس لنور:

- خلاص يا نور... هما أكيد فاهمين شغلهم... سيبك منهم..

إلا أن نور لم ترد عليها وسددت نظرة قاتلة إلى الممرضة التي فرقعت علكتها وهي تقول ببرود:

- هاتفهمي يعني أما أقول لك اسم الحقنة...؟ دي حقنة هيبارين... ممكن تسيبي إيدي بقى... أووف..

زفرت نور بغيظ وهي تقول:

- لأ طبعًا مش هاسيب إيدك...

كان زين قد استيقظ وأخذ يراقب الموقف من خلف أهدابه المسدلة بلا مبالاة، بينما هتفت الممرضة:

- يا مدام مايصحش كدة... ماتخلينيش أجيب لك الأمن...

جذبتها نور هاتفة: - أنا اللي هاجيب لك الأمن والشرطة عشان اللي بتعملوه ده اسمه استهتار..

تدخلت زهرة تحاول تخليص الممرضة من يدي نور قائلة:

- فيه إيه يا نور...؟ إيه المشكلة بس..؟

- المشكلة..؟ المشكلة أن الست هانم باستهتارها كان ممكن تسبب لأخوكي نزيف لأنه لسة واخد الحقنة دي من ساعتين... ودي حقنة بتتاخد كل أربعة وعشرين ساعة.. وأي جرعة زيادة ممكن تسبب نزيف...

بهت وجه الممرضة وهي تتمتم:

- إز... إزاي واخدها من ساعتين... الكلام ده مش متسجل...

دفعتها نور قائلة: - إزاي يعني ماتسجلتش..؟

ارتعدت الممرضة وهي تقول: - أ... أنا لسة مستلمة الشيفت والممرضة اللي قبلي ماسجلتش أنه خد الحقنة فقلت أجي أديهاله...

عقدت نور ذراعيها على صدرها وهي تقول: - طيب تمام... أنا عايزة مدير المستشفى دلوقتي حالاً.. عشان التسيب ده مايتسكتش عليه...

كانت الممرضتان ترتعدان وقالت إحداهما:

- يا مـ.. يا مدام خلاص... يعني بلاش تكبري الموضوع أنا مش هاديه الحقنة وهاسجلها و..

طرقت نور بيدها على طاولة الطعام المتحركة أمامها هاتفة:

- أنا قلت عايزة مدير المستشفى دلوقتي والدكتور راغب وهاكلم الظابط اللي كان بيحقق في الحادثة من كام يوم...

لطمت الممرضة على وجنتيها وهي تقول: - يا لهوي... ظـ.. ظابط إيه يا مدام مش مستاهلة...

توجهت نور إلى الهاتف تطلب حضور أي مسئول بالمستشفى، بينما تسللت الممرضتان لتخرجا من الغرفة، فتنخرط زهرة في الضحك قائلة:

- بالراحة يا كبيرة مش كدة.. غلط وارد والحمد لله أنك لحقتي الموقف...

زفرت نور قائلة: - غلط ممكن يتسبب في مصيبة يا زهرة.. واللي غلطت لازم تتعاقب دي أرواح ناس كفاية استهتار..

وكزتها زهرة قائلة بخبث: - يعني ده بس اللي خلاكي تنفجري في الممرضة المسكينة..

- قصدك إيه يا زهرة..؟

ضحكت زهرة وهي تشير برأسها إلى شقيقها مردفة:

- يعني... قصدي أن الغيرة اشتغلت أما لاقيتيهم بيغازلوا الباشمهندس.. وماصدقتي تلاقي حاجة تـ..

"مساء الخير.."

قاطع حديثها ذلك الصوت الرجولي اللأجش لطبيب شاب دخل الغرفة خافضًا بصره، فردت نور:

- مساء النور يا دكتور بدر..

كان طبيبًا أسمر البشرة طويل القامة عريض المنكبين، يتحدث مطرقًا بوجهه في حياء نادر.

- فيه إيه بس يا مدام نور..؟

- من فضلك يا دكتور بدر أنا عايزة الدكتور راغب ومدير المستشفى...

- الدكتور راغب سافر مؤتمر يومين وأنا هنا بداله.. قولي بس فيه إيه وهاعمل اللي يرضيكي...

قصت عليه نور ما حدث ثم ختمت قائلة:

- طبعًا ده تسيب وإهمال واللي تقصر في حاجة زي كدة ممكن تقصر في حاجات أخطر..

همست زهرة: - خلاص بقى يا نور ما تبالغيش...

رفع الطبيب رأسه قليلاً لتلتقي عيناه بعيني زهرة التي تورد وجهها وأطرقت أرضًا بدورها، ثم قال:

- معاكي حق يا مدام نور.. أنا هابلغ المدير الإداري وأخليكي تقابليه بنفسك...

قالها ثم توجه للخروج، إلا أنه وقف قليلاً عند باب الغرفة واستدار يلقي نظرة خاطفة، ثم تابع طريقه.

- "مين الدكتور بدر ده..؟ أول مرة أشوفه..!!"

تسائلت زهرة، فقالت نور:

- ده دكتور بدر المنياوي جراح عظام صاعد تلميذ الدكتور راغب.. بيشرف على حالات الدكتور راغب وقت ما يكون الدكتور راغب مشغول أو مش موجـ...

إلا أنها قطعت عبارتها وهي تلمح ذلك الطبيب الوسيم الوافد إليهما بخطوات واسعة بمنظاره الطبي ورأسه الأصلع وهو يتسائل عن ماهية ذلك الأمر الخطير الذي استدعوه من أجله و...

"نووور.......؟؟؟؟"

"دكتور هشاااام....؟؟؟"

*******

Just Faith 18-12-17 01:49 PM

- 2 –
” ولأننا محملون بقدر كبير من الغباء، لانرتاح إلا إذا كسرنا أجمل الأشياء فينا“
واسيني الأعرج - طوق الياسمين
***
قد تجذب امرأة فاتنة نظر الرجل للحظات... ويستمر تأثيرها لعدة ساعات؛
بينما قد تسلب امرأة صادقة عقل الرجل لساعات... ويستمر تأثيرها لعدة أعوام.
وهي امرأة صادقة مع نفسها مخلصة لمبادئها.. عفوية في تعاملاتها...
هي امرأة لا تُنسى...
شفافة كالضوء... واضحة كالماء.. غامضة كالعلن المتقن حد الإرباك...!
هي امرأة لا تتكرر كثيرًا...
ترفض بإباء سحر الطبقة المخملية لتحيك بأناملها الدقيقة معجزاتها...
هي امرأة لا تلتفت لما سقط منها...
كانت خيالاً يصعب تصديقه... وواقعًا أكبر من عقله.
"نور..!"
يردد اسمها مرة أخرى غير مصدق، لتخفض عينيها هامسة
"أهلاً دكتور هشام.."
آسرةٌ هي بخجلها الكبير ووجهها المطرق أرضًا.
- يااااه يا نور... أد إيه الدنيا صغيرة...
- أحم.. أ... المهندس زين رحيل العربي ابن عمي وزوجي..
- هوا ده بقى اللي سيبتيني وسيبتي الكلية كلها عشانه...؟ يا بخته بيكي بجد...
وارتجافة مست أطرافها، والتفاتة نحو زين الذي كانت تقف يمين فراشه ثم إلتجاء لكفه عندما رأته نائمًا، فأمسكت بيده تنشد دعمًا ولو واهيًا.
- دكتور هشام... لو سمحت أنا عايزة أي مسئول هنا في المستشفى...
وعودة لنبرة الجد الحاسمة منعًا للمزيد من التمادي، لينظر إليها هشام الواقف بالناحية الأخرى من فراش زين قائلاً بشيء من الفخر:
- أنا المدير الإداري هنا... إيه المشكلة...؟
عقدت حاجبيها في دهشة لم تلبث أن تلاشت وهي تتذكر منصب أمه التي قد تتوسط لتعيينه مديرًا لذلك المشفى الضخم رغم صغر سنه، ثم قصت عليه تقصير الممرضة التي أعطت زين علاجًا دون تسجيله لكن رده عليها كان أبعد مما تخيلته...!
- للدرجة دي بتحبيه....؟؟
رجفة أخرى مرت بجسدها فشددت من قبضتها حول كف زين وهي تعقد حاجبيها قائلة بحدة:
- دكتور هشام... من فضلك... يا ريت تتكلم معايا بعملية... يا إما تجيب لي حد تاني أكلمه..
لكنه أصر على مجرى حديثه..
- أصل نادرًا ما بتلاقي زوجة مهتمة بزوجها كدة لدرجة معرفة مواعيد علاجه وبتحميه بكل قوتها و...
"فيه إيه يا هشام إيه اللي حصل...؟"
صوت أنثوي حاد أطل عليهم مع عطر نفاذ، ليستديرا نحو تلك القادمة بسرعة يطرق كعبي حذائها أرض الغرفة ويتطاير معطفها الأبيض المفتوح مبديًا تنورتها القصيرة.
"سارة..؟" تسائل هشام وقد بدا الضيق على وجهه
- فيه إيه يا مدام إيه اللي حصل ممكن تفهميني...؟
تسائلت تلك الطبيبة التي دلفت إلى الغرفة، فنظرت نور إليها باستفهام لتجيبها وهي تمد يدها:
- دكتورة سارة الميهي رئيسة قسم الجلدية والتجميل...
صافحتها نور ثم عقدت ذراعيها على صدرها وهي تقول ساخرة:
- لا يا دكتور... حضرتك دخلتي غلط.. ده قسم العظام مش التجميل...
حدجتها سارة بنظرة غاضبة عبر عينيها ذات العدسات اللاصقة السماوية ثم قالت:
- أولاً أنا جاية بتكليف من رئيس مجلس الإدارة الدكتور مدحت الميهي.. والدي زي ما هو واضح... ثانيًا الدكتور هشام أبو النجا يبقى جوزي يعني تتكلمي وتقولي لي إيه الحاجة الفظيعة اللي تستاهل تقلبي الدنيا عليها كدة...!
كان هشام مطرقًا أرضًا لا ينبس ببنت شفة، فنظرت نور إلى سارة وقصت عليها ما حدث لتقول تلك الأخيرة:
- ياااه كل ده عشان حقنة هيبارين...؟ على فكرة الهيبارين مش سم والأعراض الجانبية للجرعة الزايدة مش بتموت.. ومع ذلك خلاص أنا هاشوف التقصير فين ومين السبب في كدة وأعاقبه تمام..؟
قالتها ثم استدارت تدفع هشام من كتفه قائلة:
- ياللا بينا يا دكتور هشام مش ناقصين إحنا...
ورحلت بسرعة كما جائت كعاصفة هادرة مرت سريعًا ورحلت سريعًا، فزفرت نور في ضيق وهي تدرك جيدًا أن ذلك الفساد المستشري والذي يُعرف به التمريض المصري لن يتم التعامل معه بجدية ومسئولية.
حانت منها إلتفاتة إلى زين لتجد عيناه الأبنوسيتان تشملانها بتدقيق جعلها تتوتر بينما هو ينقل عينيه بين وجهها ويدها المتشبثة بكفه كطفلة، وقبل أن تسحب يدها في خجل كان هو الأسبق بسحب كفه من بين أصابعها ثم الإشاحة بوجهه بعيدًا، ففركت كفيها بتوتر وهي تقول:
- أنت كويس...؟!
عاد ينظر إليها مضيقًا عينيه وهو يقول:
- مين الدكتور الملزق اللي اسمه هشام ده...؟
خفضت عينيها إلى الأرض ثم قالت:
- كان أستاذي في الجامعة...
- بس...؟
سؤاله يدل على سماعه لكل حرف نطقه هشام... ويطالب تفسيرًا..! فرفعت عينيها إلى أعلى ثم عادت إليه قاصة تفاصيل أول من طرق باب بيتها طالبًا يدها وكان الرفض من نصيبه. لكن إنعقاد حاجبيه وشى بعدم تصديقه لقصتها حيث قال:
- يعني هوا كان معيد في الكلية بتاعتك وجه يتقدم لك فجأة كدة ورفضتيه على طول ولسة فاكرك لحد دلوقتي...؟؟؟
هنا تدخلت زهرة لتمنع إنزلاق شقيقها في هوة الشك السحيقة وحصر زوجته المسكينة بزاوية هناك، فقالت في مرح:
- آه يا زين لو تشوف نور وهيا كانت هتاكل الممرضات عشان كانوا هايدوك حقنة غلط...
ضحكت نور بتوتر بينما بدا زين شاردًا فتأملته نور لتشرد بدورها في تفاصيل وجهه المشدودة... تفكر في كيفية إزاحة تلك الغمامة التي تسقط على عقله تشوش أفكاره كلما سحقته الحياة بين رُحاها..! تفكر..
"كيف أبدد ذلك الدخان الذي يكتنف عقلك كلما شردت أمامي هكذا... أدرك ذلك من حاجبك الأيمن المرتفع قليلاً.. من عينيك اللتين ضيقتَ الرؤية عليهما بخفض بوابتي أهدابك السوداء... كيف اختطف ذلك العجوز الذي لا يكف عن التدخين القابع في الركن المظلم من عقلك يحيك الأساطير ويعبق دخانه المسرطن وجدانك...؟ كيف أمزق تلك الحُلَّة السوداء التي يتسربل بها عقلك عندما يهبط للقاء ذلك العجوز المقيت في الدرك الأسفل من الوعي..؟ كيف أدحض جدلية أفكارك المعطوبة التي أرهقني تشبثك بها باختلال..؟ وأنا أنثى الضوء... أكره الدخان والظلام والمعاطف السوداء.. أمقت التخبط بين جدران الشك والأنصهار تحت لهيب نظراتك المرهقة التي تجول في تفاصيل وجهي بحثًا عن حقيقة أخرى ربما..! لكن أعدك ألا يتراجع صدقي بهزيمة وانسحاب في مواجهة مدخنة أفكارك التي تنفث السم... فإذا كنت رجلاً غَشَت عيناه أدخنة الخديعة حتى صار لا يفرق بين الحقيقة الناصعة والكذب... فدعني أبقيك على قيد الحيرة قليلاً.. سأكون أمامك... كقطعة البازل المفقودة في لوحتك الأخيرة.. تلك التي يسهل تخمينها ويستعصى على عقلٍ مشوش بدخان أسود إيجادها...!"
وانتبهت من شرودها على نظراته المتشككة التي تجول وجهها الشارد فقابلتهم بابتسامة الواثق.. وكانت ابتسامتها من أعتى أسلحتها التي أنهزمت أمامها عيناه فأشاح بوجهه كي لا يطالب شفتيها بما يفوق الابتسامة ويوغر صدر عجزه.
***
- على فين...؟
- نازل أتمشى شوية..
- طيب خدني معاك عشان خاطري..
- ماينفعش هقابل أصحابي...
- أنا زهقت بقى... وتعبت... تعبت بجد والله...
- يعني أنا اللي مبسوط أوي... ما تقدري حالتي شوية...
كان ذاك حوارهما الذي تحول إلى صراخ عند باب المنزل... حيث كانت جملته بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، فصرخت به:
- بقى أنا مش مقدرة حالتك..؟ أنا يا ياسر...؟
زفر بغضب وهو يقول:
- يعني أختي ماتت وأمي جالها شلل نصفي ومستكترة عليا إني أتنفس شوية...؟؟
أنهارت دموعها على وجنتيها وهي تقول:
- وأنا شايلة ومستحملة ومقدرة بقالي شهر وباقول بكرة يتحسن ويرضى بالقدر ويخرج من عزلته... كانت نور وزهرة بيهونوا عليا شوية... بس خلاص نور وزهرة ومرات عمي راحوا بيت أكتوبر وبقيت لوحدي... باكلم الحيطان... مش مقصرة مع عمتي ولا مع بنتي وبحاول أنسى تعب الحمل... وأقول ياسر مش هاهون عليه... بس أنا بشر يا ياسر وكل واحد منا له طاقة...
عادت حالة اللامبالاة تتلبسه وأكمل طريقه نحو الباب وهو يقول:
- يعني عايزة مني إيه..؟ هااه...؟ أعمل لك إيه..؟ الستات في بلدنا بحملوا ويولدوا وبيشيلوا بيت عيلة باللي فيه بيطبخوا ويعجنوا ويخبزوا.. واللا عشان بقالك شهر شايلة شوية مسئولية هاتبدأي تعيطي زي العيال..؟ أكبري يا هانم وخليكي زي بقية الستات وقدري الظروف شوية... الدلع اللي كنتي فيه وكل يوم والتاني تعبانة مش قادرة أطبخ ناكل أي أكل من برة خلاص بح... عندك طفلة والتاني جاي يعني بقيتي أم مسئولة.. أكبري شوية زهقتيني..
قالها ثم خرج وصفق الباب خلفه، فأرتدت تقى إلى الخلف وهي تضع يدها على فمها بينما ازداد نحيبها وبكائها وهي تشهد تحول حبيبها مائة وثمانون درجة... من هاك المسخ الذي سكب عليها دلوًا من الماء المثلج جمد أوصالها ومزق نياط قلبها...؟؟ أهو الحزن أم الغضب الذي حوله إلى ذلك الرجل الذي يلقي بالكلمات الجارحة دون تقدير لامرأة بذلت كل جهدها للتخفيف من حزنه ورعاية أمه..؟ كيف يلقي عليها التهم جزافًا..؟ كان قلبها ينبض بعنف وحزن وجرت رجليها حتى سقطت على فراشها في عالمٍ مظلم لا تعي شيئًا مما حولها.
***
مقعد صغير صار أسيره... لا يمكنه حتى السير لقضاء حاجاته الأولية...! من نافذة المشفى أخذ يتأمل السماء الصافية بسحبها الناصعة متخيلاً نفسه غيمة... لكنه سيكون غيمة شاذة وسط الغيمات البيضاء.. سيكون غيمة غاضبة من أرضٍ لا تزهر... أرضٍ لا يستطيع قطعها بمقعد صار بديلاً لرجليه...!
- "لااا.. شكلك النهاردة أحسن كتير..."
قالها الدكتور راغب وهو يدلف إلى الغرفة مبتسمًا كعادته وخلفه الدكتور بدر بقامته الغارعة، فابتسم زين بزاوية فمه اليسرى وهو يقول ساخرًا:
- اااه أحسن كتير.. حتى لسة راجع من التراك...!
بدأ الطبيب الكهل في فحصه وهو يقول:
- يا سيدي بكرة تروح التراك وتجري وتسبق كل اللي فيه كمان إن شاء الله...
- ما تضحكش عليا يا دكتور... أنا مش حاسس برجلي وأنت قلت لي قبل كدة أني مش هاينفع أتحرك..
ضحك الدكتور بدر قائلاً:
- ده مؤقتًا بس يا باشمهندس شهرين بس...
بينما ضبط الدكتور راغب من وضع منظاره على أنفه مكملاً:
- شهرين وعدى منهم شهر يبقى فاضل لك شهر بس ولو ما تحركتش بعد الشهر ده أنا اللي هازعل منك...
قال زين بخنوع:
- يعني حتى لو أتحركت هارجع زي الأول...؟
تبادل الدكتور راغب والدكتور بدر النظرات ثم قال الأول:
- لو ألتزمت بالعلاج الطبيعي والتمارين هاتتحسن كتير إن شاء الله...
زفر زين بيأس، وعندما هم الدكتور بدر أن يتحدث سمعوا طرقًا على الباب أعقبه أنفتاح الباب ودخول عاصفة وردية من صوت عيسى ومايا المتسابقين نحو زين يتبعهما نور تحمل بيدها حقيبة ملابس صغيرة وزهرة التي دخلت مطرقة في حياء عندما لاحظت نظرات دكتور بدر التي لم يتمكن من غضها عنها.
احتضن زين مايا بقوة ودفن رأسه بشعرها قليلاً ثم احتضن عيسى الذي قال:
- البيت بقى حلو أوي يا عمو... مش هاتيجي تشوفه بقى...؟
قال الدكتور راغب مداعبًا الصغير:
- خلاص يا عيسى عمو زين زهق منا وراجع معاكم النهاردة مع أنه كان المفروض يقعد شوية كمان...
التمعت عينا عيسى وقال بفرح: - بجد..؟؟
أومأ زين قائلاً: - أيوة يا حبيبي.. هانرجع مع بعض النهاردة إن شاء الله...
قفز عيسى ثم جذب يد زين قائلاً:
- طيب ياللا قوم عشان نروَّح وأوريك الألعاب اللي ماما جابتهالي أنا ومايا..
طعنة نافذة إلى الأعماق من براءة طفل جعلته يغمض عيناه في وجع لتقول نور:
- عيسى... تعالى ساعدني نحط الشنطة دي هنا لو سمحت...
يعشق صغيرها دور الرجل الذي لعبت عليه بمهارة ليأتيها طواعية بفخر منقذًا أمه من عبئ الحقيبة الثقيلة فتهمس له: - عيسى.. أتفقنا على إيه...؟ عمو زين رجله وجعاه ومش هاينفع يمشي عليها دلوقتي...
بينما اقتربت زهرة من شقيقها لتجلس بجواره وتمسك بيده هامسة له:
- ماما من الصبح عمالة تحضر لك الأكل اللي بتحبه ومستنياك على نار...
لكن الطبيب الشاب التقط همساتها فأنحنى قليلاً ليقول:
- أيوة كدة... لازم تتغذى كويس جدًا عشان العضم يلئم...
ونظرة خاطفة إلى الشقيقة ثم إرداف بلهجة ملتبسة:
- والله هاتوحشنا يا باشمهندس بس مادامت دي رغبتك... خلاص..
نظراتٍ وتلميحات لا تدري كنهها تفتح على قلبها النار، لكنها تعرف قدر نفسها جيدًا فربما تضخم الأمور دون وعي منها، فنهضت مبتعدة نحو التي أخذت تجمع من غرفة المشفى أغراض زين الذي كان يراقبها بطرفٍ خفي، ثم قال لدكتور راغب:
- هل وجدت لي ممرض موثوق يرافقني..؟
تسائل الطبيب في غير فهم:
- أنت لسة مصر يا ابني..؟ حالتك مستقرة والمدام ممكن تساعدك بس في....
- مش ممكن...
قاطعه بحدة وهو يضم قبضتيه بقوة طارقًا ذراعي المقعد، فقال الطبيب الكهل:
- خلاص يا زين زي ما تحب... عامة أنا كلمت لك ممرض كويس هأكد عليه يكون عندك النهاردة إن شاء الله..
أومأ زين برأسه، ثم تهيأ الطبيبان للخروج من الغرفة بينما يقول الدكتور راغب:
- نسيبك بقى عشان تغير هدومك وتستعد للخروج...
فطلب زين منكسرًا:
- يا ريت تبعت لي محسن يساعدني عشان أغير هدومي...
نقل الطبيب عيناه بين نور وزين متعجبًا من طلب زين للمرض الموجود بالمشفى بينما يمكن أن تساعده زوجته في أمر بسيط كتبديل ملابسه، فتضرج وجه نور خجلاً، بينما قال زين موضحًا:
- عشان المدام والآنسة زهرة والأولاد هاينزلوا حالاً يجيبوا السيارة قدام المستشفى عشان نمشي على طول..
فأومأت نور وهي تلملم الحقائب قائلة:
- آه إحنا نازلين دلوقتي ياللا يا زهرة...
قالتها ثم لاذت بالفرار من موقفٍ لا تُحسد عليه واسئلة ترتسم في أعين الجميع، جلست خلف المقود تنقر عليه في توتر بينما احتلت زهرة المقعد الخلفي مع عيسى ومايا، ولم تمر دقائق حتى رأته يتقدم إلى سيارته بمقعدٍ متحرك يدفعه ذلك الممرض الشاب محسن ثم يستقر جوارها في صمت بينما يضع الممرض المقعد في حقيبة السيارة لتنطلق بها نور نحو بيته الذي أثثته بشكل يشبهه.. يشبههما معًا.
عندما توقفت الجيب السوداء أمام منزله لم يتعرف عليه... تلك الأسقف القرميدية..هاك المدخنة.. ألوان المبنى من الخارج تشي بعاصفة تغيير من الداخل..! وعندما أحضرت مقعده المتحرك بجوار الباب ومدت يدها قائلة بهدوء:
- أتفضل...
نظر إلى يدها في وجع، ثم استند على ذراعي المقعد جاراً رجله دون أن يعتمد عليها، إلا أنها رغم ذلك كانت تسنده وتعدل من وضع رجليه، ثم تغلبت على موجة التوتر السائدة وهي تقول بمرح:
- يا رب يعجبك ذوقي في فرش البيت..
حديقته... حديقته الغالية اختفت لتحل محلها أخرى هزيلة.
- "أنا ماعرفتش أرجعها زي الأول بس دي مهمتك أنت بقى.."
همست بها إليه وكأنها تقرأ أفكاره... ثم أنفتح باب منزله الذي تحول لونه إلى اللون البني الغامق المطعم بأشغال معدنية... دلفت زهرة والطفلان ثم دلف بمقعده حيث وجد أمه متهللة تحتضنه وتغمره بقبلاتها بينما جالت عيناه بالمنزل الذي تغير كل شيء به.. تحول من برودة الجدران البيضاء إلى دفئ وحميمية الجدران ذات اللون السكري المطعمة بلوحات بسيطة تتراوح ألوانها بين الأسود والأبيض والأحمر، تحولت الأرضية الرخامية إلى أرضية خشبية أنيقة مفروشة سجاد تركي عصري دافيء عوضًا عن البُسُط الحريرية والشينواه بينما كان الاستقبال مكون من أريكة زاوية وأريكة لشخصين ومقعدين ذوي لون رمادي مكللين بوسائد بيضاء وبرتقالية أضفت بهجة إليهم بينما كانت مائدة الطعام خشبية بسيطة ذات لون بني غامق والمطبخ الذي أصبح مفتوحًا على غرفة الطعام كان مكونًا من خزائن خشبية ذات لون أسود مطعمة بدورها بحواف معدنية مع ثلاجة مطلية بالكروم.
- "أنا سويت لك كل الوكل ياللي بتحبه يا زين... ياللا يا ولدي بدل ملابسك وتعال كل"
قالتها أمه في حب، لتدفعه نور نحو غرفته التي وقع في غرام تصميمها منذ اللحظة الأولى... الفراش البسيط المحتفظ بلون الخشب مع الخزانة والمناضد الجانبية والأضواء الهادئة وأكثر ما أعجبه هو الشرفة التي تحتل حائطًا كاملاً من الغرفة بواجهتها الزجاجية التي تطل على حديقته.
أنحنت جالسة على ركبتيها تجاوره تحاول كسر ذلك الحاجز الذي يبنيه حوله منذ الحادث..
"إيه رأيك في ذوقي..؟"
قالتها وهي تسند ذقنها إلى ذراعها المستقر على ذراع مقعده، فعاد بنظره من نافذة الشرفة الضخمة ليتأمل عيناها المبتسمتين كشفتيها بسحرٍ كاد أن يغرق به لولا أن أبعد جسده عنها قائلاً بجفاء:
- كويس...
أومأت في إحباط... هي تعرف أن الطريق معه طريقٌ طويل، فنهضت قائلة بحياء:
- تـ... تحب أساعدك في حاجة..؟
أشار بيده قائلاً:
- لأ... الممرض جاي بعد شوية...
أومأت في صمت مبتعدة عنه بقلب ممزق وعقلٍ تشتت... عالقة هي بين مشاعرها نحوه وكبرياؤه الساحق الذي يمنعها حتى من مجرد الاقتراب أو حتى محاولة تبديد عالمه الدخاني القاتل الذي صار مدمنًا له.
***
هو متأكد من دخولها إلى حيز وجوده رغم عينيه المغلقتين... نعم.. فأسبوعين بقربها ببيته كفيلين بأن يجعلاه يحفظ دورتي الشمس والقمر مغمض العينين... ففي الصباح تطل عليه بعبق الياسمين الهندي الآسر... يشرق صباحه مع رائحتها الندية وهي تدور حوله كفراشة نشيطة... ترتب فراشه.. تغير الشراشف.. تناوله قهوته بعد ساعتين من كوب الحليب المُحلى بالعسل.. ذلك شرطها الصارم كي ينال القهوة... تفتح نافذته الضخمة لتطل عليه السماء بزرقتها وتشرق الشمس مع إشراقة ياسمينته الخجولة.
وفي المساء يتيه في نكهة الفانيلا الممزوجة بالمسك الأبيض بأنوثة ناعمة تثير حواسه... هنالك يسطع قمره المطعم بالفانيلا والمسك.
لكن ذلك الصباح كان مختلفًا... فقد دلفت ياسمينته بتنورة بيضاء واسعة مطعمة بزهرات زرقاء صغيرة وقميص من الجينز أرتفعت أكمامه قليلاً بينما رفعت حجابها الطويل عن ذراعيها وألقته إلى الخلف ليتأمل روعة قدها الأنثوي الجميل.
- "إيه اللي أنت لابساه ده...؟؟"
تسائل في قسوة، فتلعثمت وأخذت تضرب بخمارها ليغطي جيبها كما كان وهي تقول:
- أ.. أنا كنت في المطبخ وجيت عشان أطمن أنك أخدت الدوا... فمنتبهتش...
قاطعها بحسم: - يا ريت ماتنسيش أن فيه راجل غريب موجود معانا في البيت...
تلفتت حولها قائلة: - هوا فين الممرض صحيح...؟
أجابها: - في الحمام... يا ريت تطلعي عشان زمانه جاي..
قالت: - طيب أداك الدوا..؟
أومأ برأسه في ملل، فزفرت بضجر وهي تخرج من الغرفة لتتركه صريع أفكاره وقراراته... فقبل أن يتحول إلى حطام إنسان كان عازمًا أن يكون لها سكنًا ووطنًا.. أن يعشقها حتى الذوبان... أن يريها منزلها بقلبه وأن يرى بصدرها أمنياته؛ لكنه أدرك أنه غير قابل لعشق النساء... وكأنها لعنة قديمة أو سبيل عذاب عليه أن يسلكه..!
لقد صار لا يصلح لشيء... لذا يتعين عليه أن يطلق سراح قلبها المثخن بجراح الماضي كي لا يزيد جراحه، فخيرٌ لها أن تودعه بقلبٍ منقوص قبل أن يودعها بقلبٍ مخذول..!
"أطير أنا بقى يا باشمهندس..."
قاطع أفكاره سمير الممرض الذي عينه حديثًا والذي خرج لتوه من دورة المياه الملحقة بالغرفة، فنظر إليه زين منهكًا ثم قال: - هاتتأخر...؟
كان سمير شاب في منتصف العشرينيات أسمر ضخم الجثة، إلا أنه كان ماهرًا بعمله.
- هارجع قبل ميعاد الدوا إن شاء الله ما تقلقش...
قالها ثم فتح الشرفة التي كانت تحوي منزلاً إلى الحديقة والتي يخرج ويدخل منها ممرضيه... أخذ يراقبه وهو في طريقه إلى الخارج حتى... حتى تسمر مكانه في جمود. إنها هي... نعم أبدلت ملابسها بعبائتها الفضفاضة وحجابها الطويل إلا أنها تقف مع ذلك الممرض سمير الذي ينحني نحوها بطريقة أشعلته... يحادثها ويبتسم لها ثم يرحل.
والأفكار كالوحوش تنهش عقله بلا هوادة... تنطبق قبضتاه على ذراعي مقعد قيده بقوة وتمر الدقائق بطيئة حتى تدخل إليه ثانية تنحني نحوه.. تسأل عن حاله ليجذبها من ذراعها هاتفًا:
- كان بيقولك إيه..؟؟
حاولت تحرير يدها منه متسائلة:
- مين ده...؟
- سمير...
- سمير مين...
- هاتستهبلي... أنا شايفه واقف يتكلم معاكي ويضحك لك...
سقطت على ركبتيها أمامه.. رفعت إليه عينيها العسليتين المترقرقتين بالدموع وهي تقول بصوت مبحوح:
- كنت باطلع سلة المهملات برة فشافني وقعد يطمني عليك قبل ما يمشي وقالي كلها أسبوعين وتبدأ تمشي... بس كدة...
- آااه... يعني هوا عارف أنك زهقتي من جوزك المشلول فبيصبرك...
- والله هوا اللي جه يكلمني وأنا....
- يبقى يترفد...
قاطعها بحسمٍ فعقدت حاجبيها قائلة:
- زين ده رابع ممرض ترفده خلال أسبوعين...
التمعت عيناه بوحشية وهو يمسك هاتفه قائلاً:
- إن شالله يبقى الألف مادام مابيحترمش حرمات البيوت..!
قالها وهو يجري مكالمة للطبيب يطالب بممرض خامس بعد أن بلغ سمير ألا يعود إلى البيت ثانية، بينما تنظر إليه نور في أسف وخوف من أن ينزلق أكثر إلى بئر جنون الارتياب المظلم.
وحل المساء ولم يتمكن الطبيب من توفير ممرضًا له مباشرة.. فدخلت إليه نور قائلة:
- مش هاتتعشى..؟
هز رأسه نفيًا وهو يقول:
- لأ... عايز أنام...
تقدمت نحوه ببطئ وأنحنت نحوه قائلة:
- طيب أوديك على السرير تريح شوية وبعدين تتعشى وتاخد الدوا تمام...؟
شعر بعجزه يكبله... لا مفر من أن يرمي على عاتقيها وجعه ومرضه.. لكن إلى متى ستتحمل..؟
كانت تعاونه على الاستلقاء على الفراش وهو يحاول أن يبتعد عنها ألا يغرق أكثر في سحر الفانيلا المخلوطة بالمسك الذي يصيب كل من يقع بين ذراعيها، وأثناء محاولته للابتعاد كاد أن ينزلق حيث خذلته ساقيه، فأمسك بطرف حجابها الذي سقط عن رأسها وسقط معه شعرها الليلي الطويل ثم سقطا معًا على الفراش. للحظة أحكم ذراعيه حولها وغرق بجنون بين أمواجها العسلية اللامعة وجسده يصرخ .."الآن.. ضميني إليك..."، لكن... باللحظة التالية... ابتعد عنها بعنف وهو يتسائل بيأس...
"- لكن.. كيف سأضمك..؟ بأي وجه حق أجمدك بردًا برماد ما بقي مني..؟؟!!
لن أضع قلبي في رحمة نرد قد يرحم ويئد رغبة الكمال الفطرية أو يلعنني للأبد بتأجيجها...
وإن كان يجب عليَّ أن أحب... فأنا أحب أن أنساك...!!"
وكأنها قرأت نظراته... فأرسلت إليه نظراتها ترجوه..
"- حاول أن تخالف ولو مرة عقيدتك في عدم الاعتراف بالضعف.."
لتجيبها نظراته في إقرار..
"-فطرتي هي البحث عن قوتي... وقوتي هي اللا احتياج.."
لكن خفقات قلبه الخائن وموجات جسده المحموم تعلنها صريحة...
تخالف فطرته وعقيدته وكل موروثات قبيلته...
إنه... يحتاج إليها...
يحتاج إلى امرأة مثلها...
في السعادة صديقة... وفي الحزن أم..!
امرأة قد تعرف عن الرجل ما لا يعرفه عن نفسه.
تعود نظراتها تتشبث به كالطفل ترجوه أن يذر كل موروثاته غير المنطقية ويختارها...
فتجيبها نظراته...
"- كيف أختارك وأرفض زماني والمكان..؟ وعجزي عن تلبية حد كفايتك كامرأة مكتملة الأنوثة..؟!! فعيناكي الرائعتان اللتان تحتوياني بكل تعاستي وعقدي وشفتاكي الساحرتان الكفيلتان بإضرام النار بعالم من جليد لم يُخلقن ليجاورن رجال مهزومين بمعارك الحياة... لقد خلقن لعشق مثالي دون حرمان أو أوجاع... "
ورغم اقترابها الخطر منه... اقترابها غير المسبوق الذي يعلن بوضوح عن مشاعرها نحوه... اقترابها الذي كاد أن يستسلم له في نهاية المطاف لولا بقايا أفكار لم تهترئ بعد جعلته يشيح بوجهه عنها مذكرًا قلبه وجسده أنه يرفض أن يكون عبئًا على عاتقي امرأة لم تعرف سوى الوجع والحرمان..!! هي امرأة ظمئى وهو يرفض أن يكون سرابها الخادع الذي يحسبه الظمآن ماء..!
عندها حسم أمره... فألم وجودها لا يقل وجعًا عن ألم فراقها..! فكيف سيقضي لياليه دون أن يتخلل شعرها بأصابعه.. شعرها الذي يحلم به منذ أن رآه في أمريكا... شعرها مفتاح الليل وبداية القصيدة..! كيف يراها أمامه دون أن يود لو يخاصرها ويضمها بين ذراعيه وينهل من عبق المسك والفانيلا...!! لكنه صار رجلٌ لا يصلح لشيء... لن يكون وجعًا لها.. يجب عليه أن يطلق سراحها.
- "أنتِ كنتِ.... طلبتي مني طلب كدة قبل الحادثة..."
دفعة بيديه وإشاحة بوجهه ثم كلمات مسنونة يمزق بهن ثوب قربهما الذي حاولت رتقه منذ قليل...
- "كنتِ طلبتِ مني أن أحنا ننفصل.. وأعتقد أن من حقك تمامًا دلوقتي إني أنفذ رغبتك دي... نور أنتِ.."
لكنها مدت أناملها تضعها على شفتيه مرتجفة وهي تقول:
- بلاش... بلاش يا زين أرجوك...
نظر إليها وهو يبذل جهدًا خرافيًلأ في السيطرة على نفسه.. آهٍ ل تعلم ما الذي يود فعله بها...!
- مش ده كان طلبك..؟؟!!
- وأنت طلبت مني أعيد التفكير...
- وفكرتي...؟
- أيوة... وقررت أنه كان غلط...
- شفقة...؟ واللا عشان عيب تطلبي مني الطلب ده وأنا في حالتي دي..؟؟
- أفهمني بقى.. لا ده ولا ده...
لكن ظلام عقله يتكاثف... وجسده ينأى عنها ويستحضر برودته لرد لهيبها المشتعل..
- عامة براحتك... بس فيه موضوع كدة حبيت أقول لك عليه يمكن تغيري رأيك...
ودت لو تخبره أنها لا تريد أن تعرف شيئًا... خائفة مما سيقول... وكأنه سيشطر قلبها نصفين، لكنها قالت:
- موضوع إيه..؟؟
وينأى بجسده وعقله أكثر.. يفتح جرحًا وراء الآخر...
- كارمن كلمتني...
هبطت كلماته عليها كصاعقة، فلم تملك سوى أن تفغر فاها وهي تسمعه مردفًا:
- كانت بتعيط بعد صدمتها في أبوها وأمها وحياتها كلها وقالت لي أنها ندمانة على كل لحظة بعدت عني فيها واترجتني ترجع تعيش تحت رجلينا أنا ومايا، وعشان مصلحة البنت ممكن جدًا أوافق أننا نرجع لبعض.. خاصة وأنها ندمانة جدًا ومستعدة تعمل أي حاجة تصحح بيها أخطائها... فزي ما أنت عايزة... تحبي ننفصل دلوقتي واللا أما كارمن ترجع.. ؟ القرار قرارك..
***

Just Faith 18-12-17 01:51 PM

- 3 –
"خذ قلبي، وأقضمه كتفاحة
ولكن لا تسجنني داخل دائرة مغلقة!.."
غادة السمان – إمرأة البحر
***
كان عشاءًا على إيقاع الصمت الصاخب... كل منهم يلوك أفكاره المتناحرة كما يلوك طعامه...
هو – على غير العادة – قرر الخروج من صومعته والانضمام إليهن على مائدة العشاء عوضًا عن تناول العشاء بغرفته كعادته؛ فأيامه صارت شبيهة ببعضها إلى حد الجنون طوال الأسبوع المنصرم... ما عادت شمسه تشرق بعبق الياسمين الهندي الساحر ولا يسطع قمر ليله بنسيم الفانيلا المخلوط بسحر المسك الأبيض... تتجاهله عن عمد منذ أن قطع بيده شرايين وصالها ومزق بكبرياءٍ مقيت وشاح القرب الذي كادت أن تسبغه عليهما ليضمهما في شرنقة عشق أبدية... كيف له أن ينسى إمارات الألم التي انطبعت على ملامحها لحظات قبل أن تنهض في إباء تلملم مع وشاحها بقايا مشاعر وكبرياء أنثى لم يتقوض حتى تلك الليلة حيث انطلقت كلماته تضرب ذلك الكبرياء في الخاصرة..! لم تنبس ببنت كلمة... لم تزايد على كبرياؤه النازف... فقط ضمت جسدها بذرايها مع وشاحها لتزيد حرائقه إشتعالاً... كم ودَّ ليلتها لو كانت ذراعيه هما اللتان يضمانها قرب قلبه علَّه يسكن، لكنها رحلت... رحلت تاركة جسده محتلاً بعبق المسك والفانيلا... رحلت ليلتها وظلت تتحاشى لقائه طوال أسبوع... سبعة أيام... مائة وثمان وستون ساعة دون أن يتمكن من رؤيتها أو حتى سماع صوتها رغم وجودها الذي كان يشعر به في كل شيء... في طعامه المميز بتكامل كل العناصر الغذائية وطريقتها المميزة في التقديم والذي كانت تحمله إليه شقيقته تارة وأمه أخرى لكنه يقرأ توقيعها عليه دون عناء... كان يشعر بوجودها عندما يدفع مقعده إلى الحديقة صباحًا ويعود ليجد غرفته مرتبة على أكمل وجه تفوح عطرًا للمفارش لم يعرفه إلا معها... كان يشعر بوجودها عندما تدلف إليه زهرة كل عدة دقائق تطمئن عليه وثمة شبح لشخص عند الباب يقف ليسترق السمع... لكنه لم يستطع الاكتفاء بوجودها الشبحي... لقد كاد أن يفقد أعصابه وهو ينتظرها كل صباح بابتسامتها المشرقة ونظراتها التي تحيط به فتنقله إلى عالم آخر وردي اللون مخملي الملمس... لذا قرر ذلك المساء أن يتجاهل العشاء الذي جاءت به أمه ويخبرها كاذبًا أنه سيخلد إلى النوم... ليدفع مقعده بعد قليل إلى الخارج ليرقبها من طرفٍ خفي وهي تنتقل بين غرفة الطعام والمطبخ المفتوح تضع لهن طعام العشاء وتتبادل مع زهرة حديث مرح... بشعرها الليلي ذو الخصلات الكسنائية الذي تجمعه في ذيل حصان يتراقص خلف ظهرها منسدلاً على ثوبٍ شتوي ذو لون رمادي ووردي متوسط الاتساع يصل حتى منتصف ساقها... كانت منهمكة في الحديث عن صغيرها مع زهرة عندما وقعت عيناها عليه فقطعت حديثها وتبدلت نظرات عينيها اللامعة إلى نظراتٍ غائمة تشي بعاصفة قد تطيح به، بينما تهللت زهرة وابتهجت أمه من انضمامه إليهن على مائدة العشاء... ظن أنها قد تتهرب منه وتلوذ بغرفة الأطفال كعادتها لتتحاشى لقياه، إلا أنها أحتلت مقعدها في صمت بعينيها الغائمتين وقد بدأت غيومهما في الإنقشاع لتتكون نظرة لم يرتح إليها أبدًا.
"هل يجوز التعلق بأسمال حُلم أصدر المجتمع صكك استحالته؟؟" سؤال يدور باستمرار في فلك يأسها وتسليمها بأمرٍ واقع فرضه عليها رؤية ذكورية وضعتها في خانة العطب أو عدم استيفاء الشروط اللازمة لتكون امرأة مكتملة الأنوثة يمكن أن تنال إعجاب رجل أعزب دون الخمسين...! لكن... نظرات ذلك الطبيب الشاب واهتمامه بالسؤال غير المباشر عليها ومحاولة رؤيتها ولو للحظة أثناء تقديمها ضيافته كلما جاء للأطمئنان على شقيقها جعل إيمانها بالمستحيل يتزعزع... لكن خوفها من التعلق بخرافة قد يحيكها عقلها الباطن من أفعال قد تكون طبيعية في مجتمع كذاك بعيدًا عن مجتمعها المحافظ جعلها تلفظ الأمل الكاذب وتعود طائعة لخانة النقص بابتسامة يائسة وهي تلوك عشائها مع بقايا حلم.
"طول عمره سندي وراجلي... أبويا وابني... كبرت على يدينه وماوعيتش على حد لي غيره... كان عوضي عن أهلي اللي راحوا وأنا صغيرة... ما هاني ولا جرحني حتى في غضبه... وفي رضاه كان يقولي يا ست الكل يا أم عيالي... آاااااااااه يا ساليم.... وعدتني تبقى جنبي ولا تسيبني... أرجع لي يا أبو زين..."
أما أفكار أمه فقد خرجت من حيز الصمت لتتجسد في الفراغ بكلماتٍ تنزف وجعًا على رفيق العمر... كلماتٍ ترددها كل ليلة وكأنها تستجدي القدر أن يهبها حبيبها من جديد...!
- "حبيبتي يا طنط بكرة يقوم بالسلامة ويرجع أحسن من الأول..."
قالتها نور التي كانت تجاورها وهي تمسك بكفها تربت عليه، لتقول نجاة في وجع:
- طولت رقدته يا بتي... طول غيابه... عمره ما غاب عني اكده...
وكانت الظروف أكثر من ملائمة لتبدأ هجومها، فقالت لزوجة عمها بكلمات مدروسة:
- ماتقلقنيش عليكم يا طنط أرجوكي... أجمدوا مع بعض كدة لحد ما عمي يقوم بالسلامة... ماتخلينيش أسافر وأنا قلقانة عليكم...
وأصابت قنبلتها الصغيرة التي فجرتها هدفها بكل براعة... حدَّق الجميع بها في ذهول امتزج بسعير غضب بعينيه الأبنوسيتن.
- "إيش الحكي هيذا عاد يا نور...؟ وين بتسافري يا بتي..؟ تبغين ترجعي النجع...؟؟"
تسائلت نجاة بغير فهم بينما تأملتها زهرة وهي شبه مدركة لما يحدث عقب ملاحظتها تباعد نور عن زين طوال الأسبوع الماضي مع تغير حالة شقيقها المزاجية إلى الأسوأ.
- لأ يا طنط... أنا مسافرة أمريكا...
ألقى زين بملعقته على طبقه وهو يصيح:
- وده من إيه ده...؟ صحيتي الصبح كدة قررتي تسافري..؟ مين سمح لك بكدة..؟
تراجعت في مقعدها بثقة... عقدت ذراعيها على صدرها وقد اختفت نظراتها الحالمة والغائمة والخجول لتحل محلهن نظرة متحدية مقاتلة كنظرات قطة شرسة ثم قالت بهدوء:
- يعني أنت فاكر إني هاقعد هنا بعد ما نتطلق عشان الجدة تجوزني تاني... أقصد تالت على مزاجها... ومش بعيد المرة دي تجوزني طلال... أهو بقى أرمل ومحتاج زوجة... وأعتقد أنه هايكون أكتر من مُرحب بالجوازة دي...
كانت تعرف أنها تسير على أرض متصدعة وأن ثمة بركان سينفجر بداخله إن عاجلاً أو آجلاً... وهو لم يخيب ظنها وأنفجر بركانه أعجل مما تصورت... حيث ضرب المنضدة بقبضتيه وقال بلهجة مخيفة:
- إستحالة ده يحصل... إستحالة تتجوزي طلال...
- مين اللي هايمنع الجدة أنها تهددني بأبني تاني عشان تجوزني الشخص اللي هيا عايزاه...؟
- أنا... مش هاسمح بكدة... أبدًا...
- بصفتك إيه...؟؟
هجوم شرس بسؤال مع رفعة حاجب وازاه تراجع موجوع من جانبه لتكمل هي هجومها:
- أعتقد بعد الطلاق وغيبوبة عمي سليم هايبقى عمي عتمان أقرب لي والمسئول عني من أي حد... وعمي عتمان ما بيكسرش كلام الجدة... خاصة وأن الجوازة دي فيها مصلحة ابنه...
أخذت نجاة تضرب صدرها بكف يدها وهي تتمتم:
- يا لهوي يا لهوي.... طلاق إيه عاد بس يا بتي...؟؟ إيش السيرة هاذي...؟ ليش تبغي تتطلقي وتتركينا في الظروف هاذي؟؟ ليش طلاق بعيد الشر عنيكوا...؟؟ يا بتي أني عارفة أنك تعبتي بس بكرة زوجك يطيب وترجعوا زي الأول و...
إلا أن نور قاطعتها بنبرة أودعتها شيء من ألمها وهي تحتضنها:
- والله يا طنط أنا لو عليا ماسيبكوش أبدًا... وتعبي معاكم راحة لأني وسط أهلي وناسي... مين يختار الغربة بكامل إرادته...؟ بس خلاص يعني... بعد قرار الباشمهندس مش هايبقى لي مكان وسطيكم...
أستدارت إليه أمه بنظرات نارية وهي تسأل بحدة:
- قرار إيش هاذا...؟
زفر زين بغضب لتكمل نور هجومها:
- إيه ده....؟ هوا ماقلكوش...؟ بصراحة أنا..
إلا أنه قاطعها بحدة:
- ده مش قراري لوحدي... ده كان طلبك قبل الحادثة واللا نسيتي..؟؟؟
رفعت إليه نظراتها المتحدية وهي تقول بقوة:
- لأ مانسيتش... أنا طلبت وأنت قررت تنهي الموضوع... يبقى خلاص خلصنا... هاروح بكرة أحجز تذاكر السفر ليا أنا وعيسى على أقرب طيارة و...
"هاتسيبيني لوحدي نور..؟"
صوت ملائكي ناعم رقيق... همسٌ تغلغل بأعماق روحيهما المتناحرتين... لينزل بردًا وسلامًا على قلبيهما... وعند مدخل الردهة تقف بعينيها الناعستين وشعرها الأسود الحريري الطويل المجدول والذي تشعثت خصلات منه حول وجهها الخمري البريء ومنامتها الطفولية البيضاء ذات الرسوم الكرتونية وجواربها الدافئة تمسك دميتها وتصوب نظراتٍ مستجدية إلى نور بعينيها الفيروزيتين.
"مايااااا..."
هتفت نور وهي تهرع إليها... تحملها في حب وتحاول تخبئتها بداخل ذراعيها كي لا ينالها أي سوء يؤدي إلى فقدانها ذلك الناعم ثانية... ذلك الصوت الذي همس اسمها في أول جملة له بعد صمتٍ طويل. تمالكت دموعها وهي تقبل ابنة قلبها التي لم تحملها بداخل أحشائها بل حملتها منذ أن ألقمتها ثديها بداخل قلبها.. حملٌ من نوعٍ خاص أعظم شأنًا من الحمل العادي.
تحلقت حولها نجاة وزهرة غير مصدقتين أنهما سمعا صوت الصغيرة أخيرًا بينما لم يتمالك زين نفسه وسقطت دمعتين خائنتين على خديه.
جلست نور على مقعدها وأجلست الصغيرة على المنضدة أمامها وهي تقول:
- حبيبتي إيه اللي صحاكي دلوقتي..؟
أخذت مايا تتأملها ثم أعادت سؤالها:
- أنت هاتسافري وتسيبيني نور...؟؟
أغمضت نور عينيها للحظات وابتلعت غصة حلقها مع ريقها ثم أخذت نفس عميق علَّ شيء من القوة يدعم قلبها المرتجف كي تكمل طريق حربها كشف الأوراق... لتقوم بكشف آخر ورقة رغم شكها بزيفها لكن يتعين عليها ذلك فربما تصفعه صفعة إفاقة من الوهم الذي أغرق نفسه به.
- "حبيبتي مايا... ماما راجعة إن شاء الله وهاتخلي بالها منك... هاتعيش معاكي أنت وبابا هنا... فماينفعش أكون موجودة... هاسافر وأبقى أجي....
- "Nooo"
صاحت الصغيرة بحدة، ثم أردفت:
- أنت مامي نور... أنت مامي... كارمن مش مامي... هيا كانت بتطلب مني مش أناديها مامي قدام الناس.. هيا كارمن أو كوكي بس... لكن مش مامي... أنت مامي اللي بتلاعبيني وبتعلميني وبتأكليني... أنتِ نور اللي عايزة أقولها مامي... خديني معاكي نور مش تسيبيني مع كارمن... هيا بتسيبني وتجيب نانيز يزعقوا لي ويحبسوني... نور بلييييز مش تسيبيني...
أغمض عينيه بوجع ووضع كفه على جبهته، بينما احتضنت نور مايا ثم نهضت تحملها وهي تهمس لها:
- ماتخافيش يا حبيبتي... مش هاسيبك أبدًا...
وضعت الصغيرة ذراعيها حول عنق نور وهي تهمس بدورها:
- شكرًا يا مامي... هتنامي جنبي تونايت..؟
طبعت نور قبلة على جبينها قائلة:
- يا قلبي أنت... أيوة يا روحي هنام الليلة جنبك وبكرة إن شاء الله نعمل حفلة كبيرة عشان الأميرة مايا سمعنا صوتها الجميل ده..
ضحكت مايا ضحكة خافتة رقراقة وهي تقول بسعادة:
- هانعمل ستروبيري كاب كيكس زي ما وعدتيني..؟
استلقت نور بفراش الصغيرة التي لاتزال بين ذراعيها تتوسد صدرها ثم قالت:
- هانعمل كل اللي نفسك فيه يا قلبي... بس لازم ننام دلوقتي...
دفنت مايا وجهها في صدر نور ثم همست:
- طيب أقري لي القرآن والدعاء اللي بتقريه كل يوم... وماتسيبينيش أبدًا...
أخذت نور تعبث بشعر الصغيرة وهي تتلو عليها آيات تحفظها وتحصنها بهن من كل سوء وبعد أن غفت مايا... شردت نور في هجومها الذي شنته على رجلٌ يظن أنه يملك الكون بين يديه... يظن أنه يطلق سراحها بحصرها داخل دائرة الاحتياج... يظن أنه يحرر جسدها بينما هو يُبقي قلبها مسجون بكهف مشاعره المظلم... هي لن تنحصر بدائرة أحتمالاته الفرضية... ستكسر حاجز الخوف وتنطلق إلى فضاء الثقة الشاسع، لكن عليها أولاً هدم أسواره السوداء التي تحيط بكبرياء مبالغ فيه سيجعله يفقد أغلى ما يملك.. وكما قالوا قديمًا أن الهجوم خير وسيلة للدفاع... فقد شنت هجومها عليه تلك الليلة ولن تتوقف حتى يرفع راياته البيضاء مسلمًا.
***
ثرثرة أمه وتوعدها له إن عاد لتلك (الخبيثة) وترك الملائكية التي أرسلها له القدر بفضل دعائها الدؤوب له... تهديدها له أنه لن يكون ابنها ولن تعرفه إذا استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير... وهي وقد كاد الجنون أن يستبد بها أن كيف يفرط في امرأة كتلك..؟ أي أحمق أصبح عليه ابنها..؟
ثم تأتي شقيقته لتأخذ دورها في توبيخه لكنها لم تقل له سوى جملة واحدة:
"أنا متأكدة أنك بتحب نور... ومتأكدة أن نور بتحبك جدًا... ومتأكدة أن كل اللخبطة دي أنت اللي عاملها... يا ريت تفكر بقلبك شوية يا أخويا وتسيب عقلك وحساباته على جنب.."
قالتها ثم تركته بغرفته شبه المظلمة في مواجهة قلبه الذي ألقى عليه تحية المساء ساخرًا ثم سأله..
"كيف أمسى كبرياؤك الزائف..؟ لكم يسعدني قرب إنهياره عند أول إنذار بالفراق...!"
وبداخله يثور بركان غضبه... كيف تجرؤ... كيف تجرؤ على اتخاذ قرار كذاك..؟ كيف تقرر بكل أريحية مفارقته وكأنها كانت تنتظر الفرصة على أحر من جمر..؟ كيف تعلقت مايا بها إلى تلك الدرجة...؟ بل كيف تعلق قلبه الأحمق بكل ما يخصها حتى رائحة جسدها التي تغمره كلما اقتربت والتي صار مدمنًا لها حيث أصابته أعراض الانسحاب عند انقطاعها عنه لأسبوع واحد.. فكيف سيصير حاله إذا اختفت من حياته وسافرت بعيدًا..؟ تسائل قلبه في ملل... "كيف بالله عليك ترفض ذاك الحصار... حصار الياسمين والفانيلا مع المسك الأبيض...؟ كيف أمام عسل العينين المصفى ومخمل كفين رقيقين تصمد وترفض... وترغي وتزبد... وأنا... أنا القلب المشطور في أعمق هوة سحيقة أتهاوى... أسقط..؟؟!"
كيف صار قلبه عاشقًا إلى تلك الدرجة... كيف حولته إلى شاعر أحمق ممن كان يسخر منهم طوال حياته... بل كيف جعلته في قمة إنفجاره وسخطه... يمسك بقلم وفي دفتر يستدعي كلمات شاعر قرأها عابرًا منذ أمد بعيد واستحضرها قلبه وكأنه يكتب إليها رسالة لن يرسلها أبدًا...
"فيا امرأة حاصرتني طويلاً....
بعطر السفرجل
من قال أني أضيق بهذا الحصار؟
ومن قال أني أخاف مواجهة الموج والعاصفة ؟
فإني بقطرة عطر صغيرة...
سأغزو أعالي البحار..!"
لكن عقله كان قد انتهى من ترميم كبرياؤه، وأحكم السيطرة على مشاعره الحمقاء فمزق الكلمات القبانية التي لا يستسيغها العقل وتناحرت الأفكار والمشاعر... كيف يحررها ويحتفظ بها... كيف يريد لها حياة أفضل مع رجل كامل وفي نفس الوقت تقتله فكرة كونها لرجل آخر...!
هنا أمتدت يده بعنف إلى هاتفه طلب رقمًا ما ثم قال:
- أزيك يا ياسر... نايم واللا صاحي..؟ طيب كويس... تقدر تعدي عليا...؟ لأ مافيش حاجة حاسس إني مخنوق وعايز أكلم حد قبل ما أتجنن... والله؟ أنت كمان..؟ طيب تعالى حالاً مستنيك..."
***
" إيه الدور اللي أنت عايش فيه ده يا هندسة...؟ أنت معقد الأمور بصراحة يا زين..."
قالها ياسر صديقه الأقرب إليه من نفسه عقب أن حكى له كل تمزقه الداخلي، مكملاً:
- أنت عايش في دور المشلول واللا إيه..؟ يا ابني أنت المفروض تبدأ العلاج الطبيعي الأسبوع الجاي عشان ترجع تمشي...
زفر زين بتعب ثم قال:
- مش عايز وجودها جنبي يكون من باب التضحية أو الشفقة...
- إنسانة واعية زي مراتك مش هاتقدم تضحية من غير ما تكون على أرض صلبة...
- خايف...
- يادي النيلة... خايف من إيه يا عم الفيلسوف..؟
- خايف استسلم لجنوني بيها وأما أوصل لمرحلة الإدمان التام... تقرر تبعد.. يخلص رصيد الشفقة والتضحية عندها وتشوفني عبئ عليها...
- الخوف سم يا صاحبي... سم بيموت كل الحاجات الحلوة في الحياة... واللي بيخاف من العفريت يطلع له..
- الخوف حرص والاستسلام للحب ضعف... كل الحسابات العقلية بتقول كدة...
- حساباتك أنت بس اللي بتوديك للنتيجة دي... لكن لو حسبتها بمنظور تاني هتسأل نفسك إزاي إنسانة هاحبها بالجنون والاحتواء ده وما تتعداش مشاعرها حد التضحية أو الشفقة...
- ماهي حصلت قبل كدة وكان ردها عليا طعنة خاينة...
- لأ ماحصلتش.... أنت ماحبيتش كارمن أصلاً يا زين...
صمت زين بموافقة ضمنية، ليعتدل ياسر في جلسته هاتفًا:
- ألا صحيح... هيا كارمن كلمتك فعلاً...؟؟؟
ألتوى فم زين بملل وهو يقول:
- أيوة يا ياسر... كلمتني وكانت بتعيط وبتترجاني تشوف بنتها...
- وأنت قلت لها إيه...؟
- فهمتها أنها ممكن تيجي بس تشوف بنتها وتنسى أنها تاخدها..
- و....
- وبس...
- يعني موضوع أنكوا ترجعوا لبعض ده....
- استحالة...
- قصدك اشتغالة...
نظر إليه زين وقد نجح ياسر في اختلاس ابتسامة منه، ثم قال:
- المهم زي ما قولت لك... خلي أم حبيبة تقنعها أنها ماتسافرش... هيا أكيد هاتسمع كلام اختها....
ضرب ياسر كفًا بكف وهو يقول:
- يا ابني أنت شكلك ماسمعتش حاجة من اللي حكيتهالك أول ما جيت... على الحب وسنينه يا جدعان... باقولك أنا مطرود من أوضتي وبنام مع حبيبة... تقولي أكلم أمها...!!
أشار زين بيده قائلاً: - أهي فرصة جبتهالك عشان تكلم أمها... أي خدمة..!
رفع ياسر حاجبيه بطريقة مسرحية وهز رأسه قائلاً:
- لا والله الواحد مش عارف كان هايعمل إيه من غيرك...
وابتسامة أخرى اقتنصها من صديق العمر وابن خاله الذي عاودته سخريته وهو يقول:
- عد الجمايل...
وهم ياسر أن ينهض منصرفًا، إلا أن زين استوقفه بقوله:
- ياسر... ممكن تعدي عليا بكرة المغرب...؟
- فيه إيه تاني...؟ واللا هاتعملني رسول الغرام وتبعت معايا رسايل أديهم لتقى تديهم لاختها...
لكن دعابته لم تنجح في اقتناص ابتسامة ثالثة حيث انعقد حاجبي زين وهو يقول:
- عندي متابعة مع الدكتور راغب بكرة وهايعمل لي أشعة وفحوصات وبصراحة بعد اللي حصل الليلة دي ماعتقدش أن ينفع نور توديني زي كل مرة...
زفر ياسر بنفاذ صبر ثم قال:
- يا دماغك يا أخي... تصدق وتؤمن بالله... توهتني...
- لا إله إلا الله يا ياسر... هاتيجي واللا أكلم عم محمد...
- خلاص خلاص هاجي وأسيب عندكم حبيبة ومامتها عشان المهمة اللي طلبتهم فيها... أي أوامر تانية..؟
أشار زين بيده ليرحل ياسر وصدى كلماته تتردد في عقل زين...
" الخوف سم يا صاحبي... سم بيموت كل الحاجات الحلوة في الحياة... واللي بيخاف من العفريت يطلع له.. "
هل يحاول ردم ذلك القبر الذي يحفره كبرياؤه الزائف مدفوعًا بخوفٍ عقيم من شبح الخذلان وتسليم أشرعته لنسيم الثقة؟؟!!
***
كانت أمسية ربيعية دافئة كأمسيات صباها الأولى عندما كانت تجلس مع شقيقتها تتبادلان في مرح الحديث والمزاح لساعات طوال... كانت في حاجة لتلك الجرعة من البوح التي أفسحتها لها تقى... حتى وإن كان حديثًا سطحيًا عن لون الجدران والشتاء الذي رحل سريعًا دون وداع... وبضعة الكيلوجرامات الزائدة وطريقة عمل السينامون..! أحاديث متفرقة بخلفية صاخبة من أصوات لعب عيسى ومايا وحبيبة؛ لكن رغم كل شيء... لاحظت الأختين أن أحاديثهما لا تحمل شفافية الماضي بل صارت كستار ثقيل يحجب وجعًا ما أو صدمة ما..!
- تقى... أنتِ فيه حاجة تعباكي..؟
- يعني غير إني حامل في الشهر الخامس وعمتي اللي هيا حماتي مابتبطلش شكوى وحسرة وبنتي الي ماكملتش سنتين بقيت زنانة ولا تطاق...؟
اتسعت شفتي نور بابتسامة احتوت شقيقتها كقارب نجاة وربتت على كف تقى المتورم قليلاً وهي تقول:
- غير إنك بطلة بتتحملي كل ده وأكتر كمان في حالة وجود سند لروحك...
تُطرق تقى في حزن وهي تقول:
- وسندي تعب وعايز اللي يسنده... جه يتسند عليا لاقاني عروسة قَش خدته ووقعت...
احتضنتها نور بدفئ وهي تقول:
- والوقعة اللي مابتموتكوش... تقويكوا... تسندوا بعض وتقوموا تاني كل ما تقعوا... دي سنة الحياة..
زفرة حارة ثم همس شبه باك:
- جرحني جدًا...
- الكاس المكسور بيجرح أكتر من السليم... أجبري كسره وأحتويه وأرجعي أمليه ثقة وحنان وحب هايسند قلبك ويداوي جرحك...
وتنهيدة راحة رفعت عقبها عيناها نحو شقيقتها وهي تقول باسمة:
- لسة زي ما أنتِ ماتغيرتيش... بتحبي الصفا والسلام وتكرهي المشاحنات والمشاكل...
ربتت نور على كف شقيقتها وهي تقول:
- الدنيا مش مستاهلة مشاكل ومشاحنات خاصة مع إنسان بتحبيه وأثبت كتير أنه بيحبك جدًا...
رفعت تقى أحد حاجبيها بمكر ثم قالت:
- طيب بمناسبة الناس اللي بنحبهم واللي لازم نفوت لهم... قولي لي بقى يا هانم... أنت فعلاً مسافرة..؟
لم تكد نور تطالع شقيقتها بدهشة حتى وجدت صياح عيسى ومايا يتعالى ومعهما حبيبة تحاول تقليدهما
"ماما... ماما... الفرن رن... ياللا نطلع الكاب كيكس..."
نهضت نور بسرعة متوجهة إلى المطبخ وكأن رنين مؤشر الفرن جاء بمثابة الإنقاذ لها، إلا أن تقى تبعتها في إصرار وهي تقول: - ماتهربيش من سؤالي يا نور... أنت قررتي تسافري أمريكا فعلا..؟!
أخرجت نور الصفحة التي بها الكعكات الصغيرات وهي تتسائل:
- عرفتي منين...؟؟
أجابتها تقى:
- من ياسر يا اختي.. قال زين بلغه أنك عايزة تسيبي البلد وتسافري وطلب منه إني أقنعك ماتعمليش كدة...
ابتسمت نور بجذل وهي تقول: - كدة تمام أوي...!
ضحكت تقى قائلة:
- إيه اللي تمام...؟ الراجل واضح انه بيحبك يا جميل ومش قادر على بعدك..
رفعت نور كتفيها وهي تقول بغرور مصطنع:
- عارفة..
عقدت تقى ذراعيها على صدرها ورفعت إحدى حاجبيها في تعجب وهي تتمتم:
- لا يا شييخة...!!! بقى عارفة كدة وعايزة تسيبيه...؟ على فكرة بقى مش هاتقدري لأنك أنت كمان بتحبيه يا فالحة..
ضحكت نور بخجل ثم قالت بشرود:
- مش قولت لك الكاس المكسور بيجرح أكتر... والحادثة اللي حصلت كسرت كتير من اللي بنحبهم...
- طيب ما أنت لسة قايلة أجبري كسره وأحتويه وأرجعي أمليه ثقة وحنان وحب... مش تبعدي عنه...!!
- عشان أقرب وأملا قلبه ثقة وحنان وحب لازم الكسر الجارح اللي فيه أجبره الأول... ومش كل إنسان بيرمم روحه زي التاني... فلو كان القرب دوا ياسر... فالبعد هوا دوا زين... لازم كبريائه الزايد عن حده ده يتكسر عشان شرخ روحه يلتئم ويحل أزمة الثقة اللي جواه ويعرف يميز بين إنسانة موجودة جنبه لأنها بتحبه فعلاً وإنسانة مافيش دافع لوجودها إلا تضحية نابعة من شعور مؤقت بالشفقة...
خيم عليهما الصمت للحظات بينما تتابعهما ثلاثة أزواج من الأعين الصغيرة البريئة في انتظار إنتهاء ذلك النقاش الذي لا يفقهون منه شيئًا كي يقوموا بتزيين الكعكات كما وعدتهم نور. تحركت تقى إلى الخارج وهي تقول: - ربنا يهديكوا يا بنتي.. أنا طالعة ألحق أجهز الترابيزة في الجنينة عشان الرجالة يتعشوا عليها...
قالت نور وهي تخرج الكعك من القالب:
- على مهلك يا توتة لسة مرات عمك وزهرة هايعدوا على عمي سليم يطمنوا عليه بعد كشف زين يعني قدامهم شوية...
لكن بمجرد خروج تقى إلى الحديقة وجدت سيارة زين تتوقف وياسر يترجل منها ثم يساعد زين على الخروج من السيارة والجلوس بمقعده المتحركثم يلمح تقى من بعيد فيتوجه إليها مع زهرة وأمها التي كانت تستند عليها في تعب، أما زين فقد دفع مقعده حيث شرفة غرفته المجهزة بمَنْزَلٍ بسيط إلى الحديقة عوضًا عن الدرجات صعده بمقعده في سهولة ودفع نافذة الشرفة نصف المغلقة ليدلف إلى المنزل فيتناهى إلى مسامعه صوت أناشيد أطفال وبعض الصخب، فدفع مقعده متتبعًا الصوت... و.. وقف عند ممر غرف النوم الغارق في الظلام والمشرف على الردهة والمطبخ وطاولة الطعام ليراها.. تقف هنالك تضحك وتدندن مع الأناشيد وتشارك الصغار في وضع كريمة التزيين الملونة على الكعكات الصغيرة... تعطي مايا أداة التزيين تارة وعيسى أخرى حتى حبيبة الصغيرة أعطتها قطعة فراولة لتضعها على سطح الكريمة.. تتسخ يدا مايا ببعض الكريمة فتأخذ شيئًا مما بيد الصغيرة بطرف إصبعها لتضعه على أنفها بمرح فتعمد مايا إلى تلطيخ وجه نور بكلتي يديها الممتلئتين بالكريمة فتصيح نور متظاهرة بالهزيمة وتعجب اللعبة عيسى فيحاول مطاردة أمه بيديه الملطختين بدوره... فتقفز وتجري منهما هربًا... تخرج من المطبخ وتدور حول طاولة العام ليراها أكثر قربًا ببنطالها الجينز الذي يتعدى ركبتيها ببضعة سنتيميترات وبلوزتها ذات اللون البرتقالي الداكن كشمس المغيب والتي كانت تحتضن جسدها كاشفة بعض تفاصيله الشهية المتناسقة... شعرها المتطاير النافر من قبضة الذيل حصان... و... سقطت باستسلام أمام هجوم الصغار الذين صاحوا بمرح المنتصر... لقد انتصر سحرها... انتصر حبها في قلبه مخرسًا أي صوت آخر... عندما رأى عين اليقين أنه لن يستطيع أبدًا انتزاع تلك المرأة من حياته... وأن رحيلها سيضرب وجدانه بزلزال قوي قد لا يخرج منه سالمًا..!
***
كان عشائًا هادئًا على صعيد الرجال... صاخبًا بمرح الأطفال وحديث نور وتقى وزهرة المازح على صعيد النساء... انتهى برحيل تقى وياسر وحبيبة ثم مساعدة زهرة أمها على الخلود إلى النوم وقيام نور بتبديل ملابس الصغار وتفريش أسنانهما ثم وضعهما بفراشهما خرجت بعد ذلك إلى الردهة لتجد زهرة تقف شاردة خلف زجاج الشرفة، فتوجهت إليها قائلة:
- على فكرة... بقالك كام يوم كدة بتسرحي كتيير ومش معانا خالص... تكونش بتحب...؟
قالتها منغمة في مرح فتضرج وجه زهرة بحمرة الخجل ثم قالت:
- حب إيه وكلام فارغ إيه بس يا نور...!!!
ضيقت نور عيناها ورفعت أحد حاجبيها وهي تقول:
- كلاام فارغ...؟ طيب أسبقيني على البلكونة هاعمل لنا كوبايتين عصير خلينا نشوف إيه أصل الكلام الفارغ ده...!
ضحكت زهرة متوجهة إلى الشرفة، إلا أن نور أوقفتها متسائلة بتردد:
- زهورة.. أ... أنت أطمنتي على أخوكي...؟ يعني أخد الدوا ونام ومش محتاج حاجة...؟
ابتسمت زهرة في حنو وهي تقول:
- آه يا نور دخلته أوضته وأخد الدوا وقالي هايقرا شوية قبل ما ينام..
أومأت نور باطمئنان لتخرج زهرة إلى الشرفة تتبعها نور بعد عدة دقائق تحمل بين يديها صفحة عليها كوبين من العصير وضعتها على الطاولة ثم قالت:
- هاااه بقى يا زهورة... مش هاتقولي لي إيه اللي شاغلك اليومين دول كدة...؟
شردت زهرة بعيدًا وتنهدت ثم قالت:
- اللي شاغلني ده مش اليومين دول بس يا نور... ده من سنين...
صمتت نور تفسح لها مساحة من البوح الذي كانت زهرة في أشد الاحتياج إليه عقب لقائها اليوم بذلك الطبيب الذي أطال النظر إليها وسألها عن حالها لأول مرة خارجًا عما عُهد عنه من الحياء وإطراق النظر.
- فكرك يا نور ... يعني ... ممكن يتقدم لي شخص كويس... سنه مناسب ومتعلم وشكله أكتر من المقبول..؟
تأملت نور زهرة التي أخذت تفرك كفيها في توتر ثم قالت بهدوء:
- أنت أصلاً لازم ماتقبليش بأقل من كدة...
ابتسمت زهرة بمرارة ثم قالت:
- مش مهم أنا اللي أقبل... المهم هما اللي يقبلوا..
- إزاي يعني..؟
- يعني يا نور... أكتر من شاب أتقدم لي ورفضني أما شافني... لأني سمرا شوية ووزني زايد حبتين بس عشان أنا طويلة وعريضة فأي زيادة وزن بتبان أوي... لحد ما قربت عالتلاتين أهوه ومابيرضاش بيا إلا واحد مطلق أو أرمل وعنده صف عيال عايز أي واحدة تربيهم له وأغلبهم خمسين سنة فما فوق... أنا عارفة إني مش حلوة ومش من حقي أتشرط و....
لكن نور قاطعتها بسرعة:
- نعم... نعم ... نعم...؟؟؟ يعني إيه عارفة أنك مش حلوة..؟ إزاي تقولي على نفسك كدة..؟
أطرقت زهرة متمتمة بألم:
- الكل بيقول عني كدة... حتى أمي...
لكن نور وضعت سبابتها أسفل ذقن زهرة ورفعت رأسها ثانية وهي تقول:
- حتى لو العالم كله قال كدة – ولو أنه صعب – إلا أنك لازم يبقى عندك ثقة في نفسك أكتر من كدة.. أنت مابتشوفيش نفسك وأنتِ بتضحكي أو تبتسمي وتظهر الغمازتين الحلوين بتوعك دول واللا عيونك الواسعين المليانين دفا.... واللا سهولة طباعك اللي هاتخلي منك زوجة وأم متميزة لإنسان بيفهم فعلاً مش عاوز مانيكان جميلة وخلاص...
- بس الشباب فعلاً عايزين واحدة مافيهاش غلطة... حتى شباب النجع عندنا... عشان كدة أمي كانت بتضغط عليا أقبل أي عريس يتقدم لي ويرضى بيا... بس أنا كنت بارفض... لكن دلوقتي والعمر بيجري بيا وصلت لقناعة إني مانفعش أعجب شاب زيي أو حتى أكبر مني بعشر سنين... مش ممكن أعجب إنسان متعلم أنا اللي وقفت عند الثانوية العامة وماكملتش تعليمي...
- أولاً يا زهرة... لازم تعرفي أن الجواز مش كل حاجة في الحياة ولا هوا هدف في حد ذاته.. حياتنا زي قطر ماشي في طريقه ممكن يقف في محطة الجواز وممكن لأ... عيشي حياتك مع أهلك واستمتعي بيها لحد ما توصلي للمحطة دي وتلاقي فيها اللي يناسبك تمامًا... وإلا كملي طريقك بكل عزة... أنت دورك مش محصور في كونك زوجة بس... أنت ابنة أي أم وأب يفتخروا بيها وأخت حنينة على أخواتك وولادهم... أنت صديقة يُعتز بصداقتها... أنت إنسانة واعية ومثقفة وحنينة وطيبة وصبورة ومتسامحة... ده غير أنك فعلاً جميلة ودي مش مجاملة... دي حقيقة اللي مايشوفهاش يبقى أعمى... ولازم قبل ما تفكري في حب أي راجل أو قبوله ليكي.. لازم تحبي نفسك وتقبليها زي ما هيا...
ترقرقت عينا زهرة بدموع أمل بدأ ينمو بداخلها بعد أن تم قتله مع سبق الإصرار والترصد من قبل كل من حولها، فنهضت نور وجلست على ذراع مقعد زهرة ثم ضمتها بحنان وطبعت قبلة على رأسها وهي تقول بمرح:
- وأنا بقى عندي إحساس قوي جدًا أننا هانفرح بيكي قريب جدًا... هانعمل لك فرح كبييير وهارقص لك كمان في فرحك... رغم إني ماليش فيه إلا إنه هايبقى عرض حصري فقط لعيونك يا قمر...
قالتها ثم ضحكت لتبادلها زهرة ضحكاتٍ عذبة من وسط أدمعها... ضحكات وصلت إلى أذنيه كما وصله حديثه كله حيث كان يجلس بمقعده في شرفة غرفته الملاصقة لشرفة الردهة لا يفصلهما سوى جدارٍ قصير... وكأن القدر ساقه ليضيف المزيد من الأغلال التي تجذبه نحو تلك المرأة الحانية باقتدار... تلك التي تمسك بين راحتي كلماتها نورًا لا ينضب يضيء أحلك الأماكن بروح محاورها... إنه متأكد من أنها قد أضاءت لتوها ذلك الركن المظلم بروح شقيقته... ذلك الركن الذي لم تتعرى منه زهرة أمام أحد قط وأئتمنت نور على الحقيقة العارية من أي رتوش، لتزهر بين عيني زوجته وتعيدها إلى شقيقته جنة أمل خضراء مورقة..!
***
الطفلين بالمدرسة... زهرة وأمها قد أصطحبهما ياسر منذ الصباح الباكر لزيارة عمها سليم الذي تعذر زيارته ليلة أمس لتأخر الوقت... زين لم يستيقظ بعد منذ أن أعطته زهرة دوائه عقب كوب الحليب فجرًا ثم عاد للنوم... حسنًا... يتعين عليها الآن البدء في تنظيف المنزل الذي كان مقلوبًا رأسًا على عقب منذ الأمس. أنهت فنجان قهوتها وبعض الحلى في شرفة المنزل ثم توجهت إلى الداخل كي تبدأ معركة التنظيف لـ... لتجده هنالك... عيناه تجولان بحرية على تفاصيل جسدها المختفي أسفل بيجامة قطنية ذات لون أرجواني جذاب أضفى دفئًا على بشرتها الخمرية الناعمة... رفع عيناه إلى وجهها المتورد بحمرة الخجل أو الغضب ربما وشعرها المرفوع إلى أعلى كيفما أتفق ويبدو مشعثًا قليلاً... عيناها المنتفختان قليلاً... وفكر..لكم تبدو شهية حتى بهيئتها الصباحية المبعثرة..!!
عمدت سريعًا إلى شال صوفي طويل أحاطت به كتفيها وضمته على وسطها ثم رحلت من جواره متوجهة إلى الداخل دون كلمة واحدة؛ إلا أنها وجدت قبضة قوية تمسك برسغها، فاستدارت نحوه قائلة بتنمر:
- أفندم... فيه حاجة...؟؟
رفع حاجبه الأيمن قائلاً:
- مافيش صباح الخير... مافيش سلام عليكم حتى...؟؟
أعادت خصلة من شعرها خلف أذنها وهي تلعن نفسها بداخلها ألف مرة على تلك الهيئة الحمقاء ثم قالت:
- خلاص.. استحمل قلة ذوقي يومين ومش هاتشوف وشي تاني...
جذبها من ذراعها بقوة لتنحني نحوه في مواجهة وجهه وهو يقول ببطيء مشددًا على كل حرف ينطقه:
- أنسي تمامًا أنك تسافري...
جذبت يدها من قبضته وهي تقول بغضب:
- يعني إيه..؟ عايزني أقعد معاك أنت والست كارمن...؟ واللا تكونش عايزني أتجوز ابن عمك طلال..؟؟ يمكن تكون الجدة المرة دي كمان مهدداك تاخد منك المزرعة لو ماجوزتنيش طـ...
- أخرسي...
صاح بها وقد اشتعلت عيناه غضبًا... فصمتت نور في خوف لم تبده وتشبثت بقناع الصلابة وهي تسمعه يكمل محاولاً استعادة هدوئه:
- إستحالة أسمح أنك تتجوزي طلال...
عقدت ذراعيها على صدرها متسائلة بسخرية:
- والمزرعة...؟
- في داهية...
قالها بتلقائية غير محسوبة لتنظر إليه في دهشة حقيقية، فيحاول إخفاء لهفته عليها وصبغ كلماته بشيء من اللامبالاة وهو يقول:
- أنت هاتقعدي هنا لحد ما كارمن تيجي ونشوف هانعمل إيه...
عقدت حاجبيها قائلة بتحدي:
- يا سلااام..! هاقعد تحت أمرك أنا بقى...!!
تردد قليلاً ثم قال بحيرة صادقة:
- لأ... هاتقعدي عشان مايا... مش بتقولي أنها بنتك زي عيسى وأكتر...؟ البنت متعلقة بيكي أوي... ماتخليهاش تتعرض لصدمة تانية الله أعلم هاتفقدها النطق تاني واللا هاتعمل فيها إيه...!
اعتصرت قلبها قبضة باردة خوفًا على تلك الصغيرة العزيزة، فلاذت بصمت متواطئ فهم منه إصابته لهدفه وأنها لن ترحل حاليًا على الأقل. فقال بلهجة ماكرة:
- عرفتي إيه اللي حصل في عيادة الدكتور راغب أمبارح..؟
رفعت رأسها تتسائل بلهفة لم تتمكن من إخفائها بدورها:
- إيه اللي حصل...؟ في حاجة تقلق...؟؟
ابتسم بزاوية فمه اليسرى كعادته وهو يرى لهفتها الصادقة، ثم قال:
- لأ الحمد لله... قال لي أبدأ جلسات علاج طبيعي عشان لازم أحاول أمشي وكلم لي دكتورة علاج طبيعي هاتتابع معايا و....
- نعم..؟ دكتورة إيه...؟
قال ببراءة مصطنعة: - دكتورة علاج طبيعي ممتازة و...
قاطعته بحدة: - من قلة الدكاترة الرجالة يعني...؟ وبعدين مش لازم دكتور خالص... أنا واخدة كورس علاج طبيعي هتابع معاك لحد...
قطعت حديثها ثم أطرقت مردفة بخفوت:
- لحد ما كارمن ترجع وأبقى تابع مع أي دكتور أنت عايزه..
تجاهل تتمة حديثها ولم يتجاهل غيرتها المشتعلة، ومد يده إليها قائلاً:
- طيب ممكن يا دكتور نبدأ أول جلسة لأني زهقت من الكرسي ده جدًا...
اتسعت عيناها بدهشة وهي تشهد به حماسًا غير معهود فتقدمت منه بحذر وهي تقول:
- بجد...؟
أومأ برأسه ثم غمز قائلاً:
- نفسي أرجع أقف على رجليا بقى فيه حاجات كتييير نفسي أعملها بعيد عن الكرسي ده...
أزدردت لعابها وهي تشعر بسخونة تلفح وجهها الذي تورد مرة أخرى في خجل لا تدري سببه، ثم قالت:
- طيب أحضر لك الفطار الأول عشان ميعاد الدوا قرب و...
- طيب نفطر مع بعض ونبدأ أول جلسة تمام...؟
أومأت برأسها وهي تهرب من مرمى عينيه اللتان تشهد بهما نظرات مختلفة تمامًا عن نظراته السابقة... نظرات عابثة... وإن صح القول يمكن وصفها بنظرات متلهفة...!!
***
" تكبّر.. تكبرّ!
فمهما يكن من جفاك
ستبقى، بعيني و لحمي، ملاك
و تبقى، كما شاء لي حبنا أن أراك
نسيمك عنبر
و أرضك سكر
و إني أحبك.. أكثر"
صوتٍ عذب بعبق الياسمين الصباحي يصله دندنته من خارج غرفته..
هو صوتها... بتلك البحة المحببة التي تقف عند كل مقطع ليتغلغل بروحه أكثر..
خرج مقتفيًا أثر صوتها حتى وصل إلى المطبخ... هنالك تقف ببنطالٍ من الجينز الأزرق الطويل وبلوزة حريرية بيضاء واسعة تضفي لمساتها على إفطاره المميز وتكمل دندنة..
"يداك خمائل
و لكنني لا أغني
ككل البلابل
فإن السلاسل
تعلمني أن أقاتل
أقاتل.. أقاتل
لأني أحبك أكثر!"
تسكب القهوة بتلك الأقداح المنمنة بأناقة التي انتقتها بذوقٍ رفيع... تتنهد ليعاود صوتها الغناء ببحته التي تدغدغ أحاسيسه...
"غنائي خناجر ورد
و صمتي طفولة رعد
و زنيقة من دماء
فؤادي،
و أنت الثرى و السماء
و قلبك... آآآ.. أخضر..!
و جزر الهوى، فيك، مدّ
و جزر الهوى، فيك، مدّ
فكيف، إذن، لا أحبك أكثر"
تعيد خصلتها الناعمة النافرة خلف أذنها... تخرج بعض المخبوزات شهية الرائحة من الفرن.. ترصها بأناقة على الصحن المخصص وتكمل تعويذتها التي تأسر قلبه أكثر وتزيد من عمق غرقه...
"وأنت، كما شاء لي حبنا أن أراك:
نسيمك عنبر
و أرضك سكر
و قلبك أخضر..!
وإنّي طفل هواك
على حضنك الحلو
أنمو و أكبر !
وإني أحبك أكثر!"
واستدارت... لتشهق بصدمة... تضع يدها على فمها... وجهها الساخن المتورد الشهي... ذلك العرق النافر بجبهتها... هل حقًا وقف على قدميه خلفها مباشرة واصطدمت بصدره...؟؟!!!
رفعت رأسها نحوه في ذهول وهي تتمتم بغير تصديق:
- ز... زين...؟؟؟؟ أ... أنت واقف...؟ أنت واقف هنا من أمتى...؟
مد يده عبرها ليحصرها بين ذراعيه متناولاً واحدة من المخبوزات الساخنة قائلاً بلامبالاة مصطنعة:
- وإني أحبك أكثر...!
- إ... إيه...؟؟!
خفض رأسه نحوها وعيناه تلتمعان بعبث غريب وهو يقول موضحًا:
- كنت هنا من أول "وإني أحبك أكثر"...
أخذت تعيد خصلات شعرها خلف أذنيها بتوتر وهي تقول:
- د... دي قصيدة لمحمود درويش كنت لسة باقراها و...
- الله... أمممم المخبوزات دي لذيذة جدًا...
قالها وهو يتناول المخبوزات في تلذذ... إلا أنه لم يلبث أن بدا على وجهه بعض الألم، فقالت في قلق:
- زين أنت واقف كتير كدة على رجلك.. الدكتور قال شوية شوية...
نظر في عمق عينيها وهو يقول:
- أعمل إيه أنا...؟؟ عندي دكتورة شاطرة وصوتها حلو وريحة أكلها جابتني من آخر الدنيا... ووقفتني على رجلي...
خفق قلبها في عنف وكادت عيناها تدمعان، إلا أنها قالت بسرعة:
- طيب أتفضل بقى الدكتورة بتقول كفاية وقوف كدة عشان الوقوف مش كويس... أحنا بقالنا كام يوم بس بادئين علاج طبيعي...
قال بلهجة كالأطفال:
- طيب أنا محتاج مساعدة هنا... الدكتورة مش هتساعدني أقعد على الكرسي واللا إيه..؟
زفرت وتوجهت إليه وهمت أن تمسك يده إلا أنه أحاط كتفيها بذراعه مستندًا عليهما ليحصرها بين ذراعه وصدره... يحصرها بين رائحة عطره وقلبه... وكي تتزن كان عليها التشبث بوسطه. وعندما همت التوجه به إلى مقعده المتحرك رفض بتذمر طفولي قائلاً:
- لأ... عايز أقعد على كرسي السفرة...
كم تبدو مناوراته مكشوفة... يتعلل بأي شيء كي يطلب مساعدتها على النهوض والجلوس...! ساعدته على الجلوس على مقعد طاولة الطعام وعندما همت أن تجلس بدورها رن جرس الباب، فنهضت لتفتحه، إلا أنه هتف بصرامة:
- هاتفتحي الباب كدة..؟؟؟ ألبسي عبايتك وحجابك يا نور...
منحته ابتسامة حلوة وهي تقول:
- العباية عند الباب هالبسها طبعا قبل ما افتح الباب..
وارتدت عبائتها وقلبها يرفرف كطير في سابع سماء... أكانت حقًا بين ذراعيه منذ لحظات....؟! أيغار عليها فعلاً من فتحها الباب بملابس المنزل...؟
لكنها فتحت الباب، و.... سقط قلبها كطير تم اصطياده على حين غفلة.... ليسقط من سابع سماء إلى سابع أرض... فهناك عند الباب... كانت تقف... بتنورتها الكحلية القصيرة وزيها الرسمي... وقبعتها التي ينسدل أسفلها شعرها كشلال ذهبي... ساقيها الرفيعتين الطويلتين وحذائها ذو الكعب العالي... وصوتها الرقيق المتسائل بصدمة:
- أنتِ...؟؟؟؟!!!!!
- كارمن...؟؟؟؟!!!
******

Just Faith 18-12-17 01:52 PM

- 4 –
"والمرأة ضعيفة بفطرتها وتركيبها،
وهي على ذلك تأبى أن تكون ضعيفة أو تُقر بالضعف إلا إذا وجدت رجلها الكامل،
رجلها الذي يكون معها بقوته وعقله وفتنته لها وحبها إياه"
مصطفى صادق الرافعي - وحي القلم
***
تحتشد الأفكار برأسها... يقاتل أملها الواهي وحوش هواجسها الكاسرة...!
تنحسر الثقة المتجذرة بأعماقها التي لم تهزها رياح الشك يومًا غير ذلك الصباح...!
تمرر أصابعها على الهالات الداكنة حول عينيها... تخلل شعرها الداكن بأصابعها متأملة نهاياته المتموجة المقصفة... تخلع عنها قميصها الحريري لتطالع علامات التمدد على بطنها.. ضريبة الحمل والولادة القيصرية..!!
دخلت إلى المغطس تحاول إغراق توترها... ترددها... اشتعالها... أفكارها الحمقاء التي لازالت تطفو على سطح تبعثرها..! ويطل سؤال أحمق آخر برأسه من أسفل المياه... "كيف سيقاوم أي رجل فتنة تلك المرأة..؟ ملامحها الطفولية الناعمة... جسدها المشدود الممشوق وكأنه لم ينتفخ بطفل قط... شعرها الأشقر اللامع بامتياز... بشرتها التي لا تشوبها شائبة كبشرة الأطفال... وفوق ذلك إنكسارها وبكاؤها وعودتها نادمة كما يبدو...!!!"
ضربت حافة المغطس بقبضتها بعنف وهي تفكر... كيف ستعاود تلك الحمقاء بعثرة ما قضت هي أيامًا في ترميمه...!! هي التي سهرت على رتق تصدعات روحه متحملة شظايا كبريائه المهشم التي طعنتها مرارًا في صميم كرامتها وعفتها... هي التي عملت على تضميد جراح رجولته النازفة لتعود إليه ثقته بنفسه وقلبه ويروي حياته بشيء من المشاعر عقب ذلك الجدب الإجباري الذي عايشه مع سبق الإصرار إثر غرقه بمشاعر كاذبة... خائنة...! كيف ستتركه لها لتدمره ثانية... كيف تسمح لها بهدم ما بذلت في بنائه دمًا ودموعًا وليالٍ طوال..؟؟!!
تهاوت دمعتان خائنتان من عينيها وهي تنهض من المغطس... تجفف شعرها ثم ترتدي معطف الحمام وتخرج إلى الغرفة الواسعة الخالية وهي تتمتم بمقت: "أكيد اللي ماتتسماش لسة موجودة...!!"
فتحت ضلفة صوان الملابس الخاص بها... أخرجت ملابسها ثم أغلقتها ثانية واستدارت كي.....
- "أختفيتي فين...؟؟"
كان يقف خلفها تمامًا... يتكيء على عصاه... يشملها بنظراتٍ مبهمة..!
- مافيش... قلت أسيبكم تتكلموا براحتكم...
قالتها وهي تضم طرفي معطف الحمام الذي ترتديه لتخفي ما بدا من نحرها.
- وإيه رأيك...؟
يسألها بكل بساطة وحاجبٍ مرفوع...!
- رأيي في إيه..؟
يقطع الخطوتين التي تفصله عنها... يضع عصاه جانبًا... يسند كفيه على الدولاب خلفها ليأسرها بين ذراعيه وصدره... ينحني بجوار أذنها... يتشمم عبق الفاكهة من شعرها المبلل وهو يهمس:
- رأيك في الموضوع اللي كارمن جاية عشانه...؟؟
كادت تصرخ به... "أتسألني عن رأيي في امرأة تريد أخذك مني..؟؟" تريد أن تهتف به أي جنون ذاك... حتمًا لو كان في يدها أي سلاح لأفرغته بصدره دون تردد...!!!!
- أنا ماليش دعوة بالأمور اللي بينكم... أعمل اللي أنت شايفه يا زين...
برود جاهدت كي تصبغ كلماتها به مع ابتسامة سمجة، ليميل برأسه مهاجمًا عينيها عقب استئثار أذنها بهجومه...
- يعني.... أرجع لها...؟؟!!!
دفعته بصدره بكل غيظها واشتعالها وهي تصيح:
- ماترجع لها ولا حتى تبلها وتشرب ميتها أنا... مالي....؟؟؟؟؟
لم يتزحزح قيد أنملة لكنه ابتسم بزاوية فمه اليسرى متجاهلاً صياحها تمامًا وهو يقول:
- أنت شايفة أن مالكيش دخل في الموضوع ده نهائي..؟
زفرت بغيظ ثم قالت:
- اللهم طولك يا روح... زين... من فضلك عديني عشان ورايا حاجات عايزة...
لكنه لم يسمع كلماتها ورائحة الفواكه الاستوائية المنبعثة من شعرها المبلل تسيطر على حواسه وترجع به إلى ذلك اليوم الذي نهل به من ثمرتي الخوخ الشهيتين هاتين لتثيرا بداخله بركانًا لم يخمد حتى اليوم...! لازلت شفتيها تتحركان بتذمر... بتوتر... بغيرة مشتعلة تكاد تحرقه حيًا... بعشق لم يشهده مع امرأة سواها و.... غلبه بركانه الثائر... وأخرس شفتيها بطريقته.... ثم.... صفعة قوية صعقته في ذهول.. قطعت ذلك السحر الذي غرق به للحظات... قطعت اعترافه العملي أنه ليس له امرأة سواها... تراجع يتطلع إليها في ذهول... لتستجمع نفسها ويخرج ببحة صوتها مع هطول شيء من دموعها...
- "مادام ناوي ترجع لها... يبقى تنساني... ماتلمسنيش ولا تشوفني لحد ما... لحد ما ننفصل رسمي.."
قالتها وهي تهرع خارج الغرفة ويكاد هو أن يتهاوى تحت ألم رجليه وصدمته في ذكائها... كيف تاه عن عقلها مقصده... كيف ترجمت حديثه بأنه ينوى العودة إلى كارمن...؟
- "أنا لو أنطبقت السما على الأرض... لو أنت آخر ست في الكون... إستحالة أرجع لك..."
- "بس أنا فعلا ماليش غيرك دلوقتي... مستعدة أعمل كل اللي تقولي عليه بس خلينا نرجع نصلح اللي فات ونربي بنتنا مع بعض..."
- "بنتنا اللي اتخرست بسببك...؟ بنتنا اللي مش عايزة حتى تشوفك...؟ "
- "بس أنا اتغيرت يا زين... وهاتغير... صدمتي في أهلي كسرتني... ماتخلينيش أفقد بنتي كمان.."
- "بنتك مش هامنعك منها... عايزة تشوفيها تتفضلي تيجي تشوفيها بس يا ريت وأنت جاية لبنتك لبسك يكون محتشم شوية..."
- "و... أنت يا زين...؟ "
- "أنا معايا ست... تغنيني عن ستات العالم كلهم... إنسانة وقفت معايا في الوحشة قبل الحلوة... عمري ما هتسبب لها في جرح أو أضايقها... عشان كدة دي آخر مرة هاشوفك فيها... وأما تحبي تشوفي بنتك... تتواصلي مع نور... "
تهاوى على فراشه متذكرًا ما دار بينه وبين كارمن التي كانت تبكي بحرقة... التي جلست على الأرض عند قدميه وأمسكت يده تحاول فرض تأثيرها عليه، لكنه كان مشغولاً عنها بالتفكير في نور ومشاعرها عقب مجيء كارمن المفاجيء، لذا صدها ببرود حتى رحلت بإحباط... لقد نسيها تمامًا... نسي حتى خيانتها له... توارى مقته خلف أمواج مشاعر ناصعة يحملها لزوجته الثانية والوحيدة... نور.
***
"لااااا.... ده أحنا بنتقدم بسرعة كبيرة يا باشمهندس..."
قالها طبيبه الكهل عقب إجراء الفحص ومطالعة الأشعات التي أجراها له ثم أردف:
- "الحمد لله يا دكتور راغب بس لسة باحس بألم لو وقفت كتير ولسة مش عارف أمشي كويس من غير العصاية... "
ضحك الدكتور راغب وهو يخلع منظاره قائلاً:
- أنت عايز تطير يا زين على طول كدة بعد كم يوم علاج طبيعي... يا ابني اللي أنت وصلت له ده الناس بتوصله بعد شهور من العلاج الطبيعي... الدكتورة منى دي والله ممتازة أنها ...
- لأ يا دكتور... بصراحة أنا ماروحتش للدكتورة منى اللي حضرتك قلت لي عليها...
- أمال روحت لمين...؟ مين دكتور العلاج الطبيعي العبقري اللي تابعك ده...
ابتسم زين بدفيء وهو يقول بفخر حقيقي:
- الدكتورة نور الهدى سليمان..... زوجتي...
ضحك الدكتور راغب قائلاً:
- آاااه يعني دكتورة خصوصي بقى... عشان كدة النتايج مذهلة جدًا... بس خلي بالك... لازم ماتعملش مجهود زيادة على رجلك ولو لاحظت أي تورم كمادات على طول وراحة تامة... وكلها أسبوعين تلاتة كمان وترجع نورمال جدًا...
تسائل زين:
- طيب والشرايح والمسامير اللي متركبين...؟
- لاا.. أنت هاتتعايش بيهم سنة كدة واللا أكتر وبعدين هانعمل عملية صغيرة أوي نشيلهم وكله يبقى تمام إن شاء الله..
أومأ برأسه متقبلاً... فسلامه النفسي الذي ملأته به صاحبة عبق الياسمين الصباحي جعله على استعداد أن يتقبل نوائب القدر بصدر رحب بل وأعطته مفتاح إرادته كي ينهض ويحارب كي يعود إلى الرجل الذي كانه منذ أعوام... وأفضل..!
خرج زين من عند الدكتور راغب متوجهًا إلى طبيب جراحة الصدر الذي أجرى له عملية استئصال الشظية من صدره، إلا أنه سمع من يناديه فاستدار ليطالع جراح العظام الشاب بدر المنياوي الذي صافحه بحراره وأخذ يسأل عنه وعن الأسرة وعندما انتهى الحديث بينهما... حك الدكتور بدر ذقنه قائلاً:
- باشمهندس زين... أ... أنا كنت عايز أتكلم مع حضضرتك في موضوع كدة...
- أتفضل يا دكتور بدر.. فيه حاجة...؟؟
تنحنح بدر ثم قال:
- لأ مش هاينفع في المستشفى لو ممكن أعزمك على حاجة قريب من هنا وندردش يبقى ممتاز...
ربت زين على ذرعه قائلاً:
- تمام... أخلص مع دكتور محسن وأنا تحت أمرك...
ابتسم الطبيب الشاب باطمئنان ثم اصطحب زين إلى أخصائي جراحة الصدر الذي طمأن زين بدوره على حالة جرحه، إلا أنه اختتم قوله بتحذيره:
- زي ما أحنا متفقين حاول تبعد عن الجري أو الأنفعال وماتنامش أبدًا على سرير مسطح لازم راسك تكون مرفوعة.. الجرح اللي كان في الرئة خطير وبياخد وقت على ما يلئم تمامًا فمش عايزين نحمل الرئة جهد إضافي... وبرضه زي ما قلت لك هاتخلي جهاز الأكسجين جنبك لو حصل ضيق تنفس تحط الماسك يساعدك شوية...
أومأ زين وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة حالمة... وهو يتذكر تسللها الليلي لتطمئن على رتابة أنفاسه... وهي تضبط وسائده كي لا تسقط رأسه سهوًا فيضيق صدره... تسائل بحنق... كيف فكرت للحظة أنه من الممكن أن يفرط بها...؟ ليجيبه قلبه بغضب أنه هو الذي أوحى لها ذلك بغبائه الشديد...!!! لكنه عزم أن يذهب إلى البيت رأسًا... يخترق تحصنها بغرفة طفليهما ويجذبها من يدها ويسكنها بصدره... ذلك الصدر الذي سهرت بجواره لتضمد جراحه الظاهرة والباطنة... ذلك الصدر الذي زرعته بحسن خلقها وصبرها حديقة ياسمين... ذلك الصدر لا يتسع لغيرها وكل نبض به يهتف باسمها.
خرج من غرفة الطبيب متوكئًا على عصاه يبحث بعينيه عن عم محمد ليهتف به أن خذني إليها، لكنه وجد الدكتور بدر الذي كان قد نسيه تقريبًا... يقف بقامته الفارعة التي تفوقه وجسده الرياضي العريض تلتمع بشرته السمراء ويمرر كفه على رأسه ذو الشعر القصير جدًا، ابتسم بدر بمجرد رؤيته لزين خارجًا من غرفة الكشف ليرد له زين الابتسام قائلاً:
- دكتور بدر...
أمسك بدر يد زين يساعده على السير قائلاً:
- أتفضل يا باشمهندس... الكافيه جنب المستشفى..
وبعد دقائق... كانا يجلسا حول طاولة أنيقة بذلك المقهى الحديث، وبعد تقديم القهوة... بدأ بدر بالحديث عن نفسه وعن أهله بالنوبة... أهله الطيبين الذين تركهم بأسوان وجاء للعمل بالقاهرة ثم عزمه على السفر قريبًا جدًا لإكمال دراسته في ألمانيا. أثنى زين على مهارته وطموحه وشجعه على المضي قدمًا ليكمل دراسته مادام عزم على ذلك، لكن الدكتور بدر ابتسم في حرج وهو يقول:
- أ... أنا كان نفسي أوي قبل ما أسافر ألمانيا إني أرتبط بإنسانة محترمة من عيلة...
ابتسم زين وقد بدأ يفهم ما يرمي إليه بدر لكنه لاذ بالصمت، فرفع الطبيب الشاب رأسه مكملاً حديثه:
- و... وأنا عرفت أن الآنسة زهرة أخت حضرتك مش مرتبطة... فـ... يسعدني ويشرفني إني أطلب إيدها منك يا باشمهندس وأنا تحت أمركم في أي حاجة...
صمت زين لحظات فسارع بدر بقوله:
- أنا عارف والله ومقدر أن الظروف مش مناسبة لحاجة زي كدة يعني والدكم والغيبوبة اللي فيها وكدة... بس أنا سفري لألمانيا أتحدد خلاص بعد شهر ونص... فكنت باتمنى إني أقدر أرتبط قبل كدة عشان أخلص الأوراق وأسافر مع... مع زوجتي...
ابتسم زين ثم قال:
- الكلام ده سابق لأوانه... أحنا نخليكوا تقعدوا مع بعض الأول ولو فيه قبول... يبقى تجيب الأهل وتطلبها من عمها عتمان في البلد هوا كبيرنا لحد ما الوالد ربنا يشفيه يقوم بالسلامة...
اتسعت ابتسامة الدكتور بدر وهو يقول بسعادة:
- متشكر... متشكر أوي يا باشمهندس... يا ريت نحدد موعد عشان نتقابل في أقرب فرصة و...
- بالراحة يا دكتور... خليني أكلمها هيا والوالدة الأول واللي فيه الخير يقدمه ربنا...
أعتدل الطبيب في مقعده وهو يقول:
- ماشي هاستنى منك تليفون تحدد فيه الموعد المناسب لكم...
وبعد أحاديث صغيرة متفرقة عن العمل والحياة... جاء عم محمد السائق ليقل زين إلى منزله.
كان المنزل هادئًا على غير العادة في مثل هذا الوقت... فمنذ أن عاودت مايا الكلام وهي تتحدث دون إنقطاع وكثيرًا ما يعلو صوتيهما في لعب أو شجار. أما ذلك الوقت فقد وجد أمه تجلس بالردهة تقرأ القرآن وزهرة بالمطبخ تغسل الصحون. توجه زين إلى أمه قبل يدها وسأل عن حالها وسمعته شقيقته فهرغت إليه لتطمئن على حاله، لكنه سألها عابسًا:
- نور والأولاد فين...؟
- في النادي يا زين النهاردة تمرين الولاد... صباح الخير...
فرك زين جبهته وكان قد نسي تمامًا أن اليوم هو موعد تمرين الكونغ فو الأسبوعي لعيسى وكانت نور قد وجدت مدربة سباحة للفتيات فعملت على إدراج مايا معها بنفس يوم تدريب عيسى. أختفى عبوسه لتحل ابتسامته المبتهجة محله وهو يقول:
- عامة كدة أحسن خلينا نتكلم براحتنا بعيد عن وش العيال في الموضوع اللي جاي أكلمكم فيه...
- صدق الله العظيم... موضوع إيش يا ولدي...؟ أبوك زين...؟
تسائلت أمه بقلق، فأجاب:
- بابا زي ما هوا يا أمي مافيش جديد... بس الدكتور بدر المنياوي كلمني النهاردة...
وعلى ذكر اسمه لاحظ اختلاج نظرات شقيقته وإشاحتها بوجهها بعيدًا قليلاً وفرك كفيها في توتر، بينما سألته أمه:
- كلمك في إيش يا ولدي طمني عليك...
طبع زين قبلة على جبين أمه ثم قال:
- يا أمي أنا باتحسن الحمد لله... الدكتور بدر كان بيكلمني في موضوع تاني خالص..
صمت قليلاً ليشعر بازدياد موجات توتر شقيقته ثم أردف:
- الدكتور يا ستي معجب بواحدة وكان بياخد رأيي في الموضوع عشان عايز يرتبط بيها في أقرب فرصة..
أدارت زهرة رأسها بحدة إلى شقيقها ثم نهضت متجهة إلى المطبخ تكتم عبرتها، لكن زين أمسك بكفها قائلاً:
- مش عايزة تعرفي مين البنت اللي طيرت عقل الدكتور المسكين...؟
رسمت على شفتيها ابتسامة ذبيحة وهي تقول:
- لا يا أخويا... يهمني في إيه يعني... أما أروح أسخن لك الغدا..
لكنه لم يترك يدها وقال:
- لأ يهمك... يهمك يا أحلى عروسة..
أتسعت عيناها في ذهول بينما صاحت أمه بغير تصديق:
- إيـ... إيش بتقول يا زين..؟ إيش يا ولدي...؟ إيش معناته حديتك ..؟
استدار زين إلى أمه قائلاً بابتسامة واسعة:
- أيوة يا أمي... الدكتور بدر طالب إيد زهرة...
- يا نهار أبيض يا نهار مبروك... ألف حمد وشكر ليك يا رب...
عبست زهرة من رد فعل أمها وكأنها غير مصدقة، فقال زين:
- لسة يا أمي... أنا قلت له يقعدوا مع بعض الأول ولو قبلناه هاخليه يروح يكلم عمي عتمان...
أشارت أمه بيداها موبخة وهي تقول:
- ليش يا ولدي بس كتر المرواح والمجي... خليها قعدة واحدة حدانا مع أهله نتفق فيها على كل حاجة... الداكتور عارف اختك وهيا عارفاه وقت ما كان بيتابعك بالمستشفى وبراتها... إيش لازمته بقى التطويل..؟
- حقها يا أمي... أختي مافيش منها أتنين... لازم تدرس الشخص اللي متقدم لها كويس جدًا بعد ما اسأل عليه وتقرر توافق واللا لأ...
مصمصت أمه شفتيها ثم غمغمت:
- توافق واللا لأ...! والله لو رفضته ما هتلاقي زيـ...
- أمي....!!!
قاطعها زين محذرًا فصمتت ثم نظرت إلى ابنتها ببهجة وهي تقول:
- ربي يسعدك يا بتي ويكتب لك الخير كله ويرزقك بابن الحلال اللي يصونك...
قبل زين كفها ثم قال:
- أيوة كدة... خليكي أنت في الدعاء وربنا هايكب لها الخير...
واحتضنهما في حنوٍ بالغ متأملاً العطايا الخفية والظاهرة التي تصحب البلايا... فأمه الملكومة في زوجها المذعورة من شبح رحيله... أرسل الله إليها حلمٌ يتحقق ربما كان تأجيله إلى الآن لتلك الحكمة... وشقيقته المخذولة في نفسها جاء بها القدر إلى هنا لتقابل الرجل الذي سيعوض بإذن الله صبرها خيرًا ويحبها كما هي.. أما هو... فقد تعرض لحادث أقعده قليلاً ليضعه القدر في مواجهة مخاوفه وعقده ويلقيه بين ذراعي امرأة احتوته بصدق مشاعرها حتى ألقى برواسب تلك المخاوف وهاك العقد من أعلى جبل في وجدانه.
***
- ليه أنا...؟؟؟
- مش عارف... حاجات كتييرة شدتني ليكي... خلتني أقول هيا دي...
- واللا عشان عايز أي زوجة قبل ما تسافر وخلاص...؟
- أي زوجة وخلاص...؟؟ أنا لو عايز أي زوجة وخلاص كان زماني أتجوزت أي واحدة من اللي أمي جابتهم لي من ساعة ما اتخرجت...
- .......
- أنا شوفت فيكي الوعي والثقافة... الخجل والأنوثة... الرقة والهدوء... الإخلاص لأهلك وحبك لهم... شوفت فيكي صورة للإنسانة اللي باحلم تشاركني حياتي...
تضرجت وجنتاها بحمرة الخجل وأطرقت لا تعرف كيف تسيطر على خفقان قلبها الذي صار يضرب صدرها بعنف... هذا الكلام أكثر جمالاً من أشد أحلامها جموحًا...!!
- قولي لي بقى... إيه مواصفات الإنسان اللي بتحلمي ترتبطي بيه...؟؟
وضعت أناملها على شفتيها في خجل شديد ألجمها قليلاً؛ بينما على مقربة من الشرفة التي كانا يجلسان بها في الردهة المجاورة جلس زين وأمه ووقفت نور عند مدخل الممر المؤدي لغرف النوم تتأملهما من على بُعد شاردة... تلك النظرة الأولى... الهمسة الأولى... بداية كل شيء له مذاق مختلف.. انتابتها قشعريرة البدايات هي التي تقف بآخر نفق حياتها العاطفية المظلم الذي شهد شذرات من ضوءٍ متقطع قررت أخيرًا الخروج منه لممارسة حياتها بعيدًأ عنه وإحكام إغلاقه جيدًا.
"هوا ممكن نقعد إحنا كمان نتكلم زيهم كدة...؟"
همسة مصحوبة بأنفاسه ورائحة عطره الكلاسيكي أخترقوا مسامها، ثم - مع استمرار صمتها - إحاطة جريئة من ذراعيه لوسطها، فأزاحتهما بعيدًا وزفرت بضيق ثم استدارت نحوه هامسة بسخرية:
- متأخر أوي...
- بس إحنا محتاجين نقعد نتكلم ونفهم بعض أكتر...
- إحنا لو قعدنا هايبقى لسبب واحد بس... الإتفاق على الطلاق... غير كدة آسفة... أنا ساكتة بس عشان فرحة زهرة... بس بعد ما زهرة تتجوز يا ريت نخلص الموضوع اللي طول بزيادة ده...
قالتها ثم توجهت نحو غرفة طفليهما، بينما أسند هو رأسه إلى الحائط وهو يزفر متمتمًا:
- أنتِ على طول فاهماني... ليه بس مش عايزة تفهميني المرة دي..؟؟؟
لم يدرك أنها امرأة –في درب الحب - ليست ككل النساء...
هي امرأة كلما رأت بوادر الحب في يوم... تعود لتنكسر فيما يليه من الأيام..
هي امرأة تمنت أن تجد معه أخيرًا حبًا هادئًا يربت على قلبها بحنان... لكنها صُدمت بآخر كالعاصفة..!
تحامل على عصاه حتى عاد إلى مكانه بجوار أمه التي عادت طيور الفرح تحوم حولها وبدأت أساريرها المتشحة بالحزن تنفرج قليلاً وهي تشهد ذلك الطبيب الرائع يحاور ابنتها الكبرى وإمارات الإعجاب تكاد تقفز من عينيه..!!
***
لا البيت عاد كسابق عهده... ولا ساكنيه عادوا كما كانوا...!! وكأن خيمة قاتمة سقطت عليه فحجبت عنه ضوء النهار طوال الأشهر المنصرمة منذ الحادث..! الجدة صارت أكثر صمتًا وتقوقعًا... طلال يخرج مبكرًا ولا يعود إلى البيت إلا آخر الليل... عتمان يخرج للعمل ويعود للطعام ثم يستوطن سطح البيت مكركرًا بأرجيلته وكثيرًا ما يغفو هناك... زيارات بدر وزوجته وأطفاله صارت متباعدة... زيارات زهوة وزوجها وأطفالها أنعدمت تقريبًا... صارت فاطمة زوجة عتمان هي المسئولة عن تسيير أمور البيت مع... زينب...!
زينب التي عادت بعد أن نجت من حريق بيت زين بمن فيه بأعجوبة وهي منذ ذلك الوقت صامتة... لا تتحدث إلا لمامًا.. فما رأته قبيل شبوب النار بالبيت لا يمكن وصفه أو التحدث عنه ولو حتى بينها وبين نفسها... كيف وصلت تلك الفتاة التي لم تخرج كثيرًا من هذه الدار إلى هاك المرحلة المتقدمة من.... لكنها تصمت وهي تتذكر ما آل إليه أمرها وكيف كانت نهايتها... لكنها رأتها.. ورأت من كانت معه... ونجت حقًا من الحريق لكن بقلبها حرائق لم تنطفيء إلى اليوم وهي تود لو تتحدث لكنها لا تستطيع فحديثها قد ينشب المزيد من الحرائق ويقلب البلدة رأسًا على عقب بل قد يؤدي إلى قتال بين القبائل..!
- "أمه زينب... يا أمه زينب..."
انتفضت زينب على نداءها فصاحت:
- إيش بيكي يا الخبلة..؟ إيش بيكي تصارخين..؟
فقالت الخادمة النحيفة:
- ولا شيء يا أمه زينب بس يعني كنت أبغى أعرف هانسوي اللحمة اللي جابها أبويا بهلول كلاتها واللا نصها واللا ربعها..؟
صاحت زينب بها:
- يا بتي يعني أنا مش قلت لك الدبايح اللي يجيبها بهلول اتسويها كلاتها..؟ لازمن نعيد ونزيد..؟
تسائلت الخادمة باهتمام:
- ليش يا أمه زينب...؟ ليش كل هيذا والجماعة هنيه مابياكلوا ربع الكمية في العادي...
- أهه... أنت قلتي... في العادي.. لكن أما يجي لنا ضيوف مايبقاش عادي يالخبلة... روحي جهزي اللحمة والبصل عشان السوا...
- مين اللي جاي يا أمه زينب...؟
- يا سعاد يا بتي الله يرحم أمك أرحميني... قلت لك ست زهرة وسي زين ومرته الست نور والحاجة نجاة أمه مرت الشيخ سليم الله يشفيه يا رب وسي الداكتور ياسر ومرته ست تقى وست الحاجة سنية كلاتهم جايين عشان فيه عريس جاي للست زهرة هايقابل الشيخ عتمان بكرة إن شاء الله... أتهدي وشوفي شغلك بقى وإلا والله لاقول لأبوكي مالك شغل إهنه...
أشاحت الفتاة بيدها قائلة: - حاضر حاضر... هاروح أجيب باقي اللحمة من أبويا بهلول..
قالتها ثم خرجت من المطبخ تاركة زينب وهي تتلفت حولها يمينًا ويسارًا، ثم أخرجت من جيب جلبابها هاتفًا خلويًا صغيرًا طلبت منه رقمًا ما ثم همست:
- أيوة.. كلاتهم جايين... وجاي خاطب من مصر وأهله يطلبوا زهرة بكرة... مين...؟ حاضر يا بيه.. حاضر... بكرة الصباح...؟ حاضر.. لا ماتخافش... هانفذ بالحرف...
***
كان ياسين أول من صاح إيذانًا بالفرح عندما لمح أمه التي لم يرها منذ شهر تقريبًا... ثم زادت فرحته برؤية تقى... ولولا أنه لم يتأقلم مع بيت ياسر بالجيزة لكان بقى معهم إلا أنه كان يريد العودة إلى البحرية فأعاده ياسر وتركه في رعاية زينب وبهلول بتعليمات دائمة من تقى، ثم تبعه تهليل زينب الهزيل – رغم كل شيء – وهي ترحب بهم... وجاءت فاطمة بجسدها البدين ترحب بهم في فرحة حقيقية استشعارًا بإيذان زوال تلك الغمامة السوداء عن البيت وبدئ الأفراح بعودة لمة أهل البيت حتى بدر ابنها وزوجته وأطفاله جاءوا ذلك المساء وعادت زهوة والفرحة تزغرد بوجهها واحتضنت شقيقتها بسعادة عارمة...!!
وعاد الكل يتحلق حول مائدة العشاء مع بقاء مقعد الشيخ سليم فارغًان ففرت من عيني نجتة دمعة رأت صداها بعيني الجدة التي نشج صوتها لأول مرة منذ زمن:
- هايرجع إن شاء الله... ولدي ما هايتركني وراح يرجع...
لكن زهرة لم تتخذ موقف العروس الخجول وصاحت في مرح تحاول طرد طيور الحزن التي استدعتها كلمات الجدة ودموع أمها فوق رؤوسهم:
- إيه يا جماعة... أنا جايلي عريس بكرة وأنتوا مافيش أي حاجة كدة خالص... يعني ده حدث تاريخي مابيحصلش كتير... عايزة خلاصة تجاربكم ونصايحكم... أختكم مزنووقة... وقبل كل شيء تقولوا لي مبروك بقلب كدة يعني مش أقل من ميت جنيه من كل واحد...
لم يتماسك أحد ضحكاته التي نجحت زهرة في انتزاعها من بين أنياب الحزن، فقالت شقيقتها الصغرى زهوة بمرح وقد أعطتها زهرة الضوء الأخضر:
- ميت جنيه ليييه يا اختي...؟ هما عشرة جنيه مافي غيرهم..
وبدأت غمامة الحزن تنقشع شيئًا فشيئًا مع أصوات العائلة التي عادت تصدح في أرجاء البيت بمرح فقده منذ زمن. وبعد العشاء نهض الجميع متوجهًا إلى غرفته، فجذب زين يد نور هامسًا بصرامة:
- رايحة فين...؟
قالت بلامبالاة وهي تمسك يد عيسى وتحمل مايا الغافية:
- فوق مع البنات...
قال من خلف أسنانه:
- أنت مكانك في أوضة جوزك يا مدام... بلاش عند وأتفضلي قدامي خلينا نتكلم...
ناولته مايا ووضعت يد عيسى بيده قائلة:
- خلي أنت الولاد معاك بس.. أختك عروسة ومحتاجة لنا.. مش هاسيبها للصبح...
قالتها ثم تركته غارقًا بغيظه لتكمل صعود السلم، لكنها استدارت إليه قائلة:
- ماتشربش عيسى مية ولا عصير ودخله الحمام قبل ما ينام ومايا لو صحيت تعيط دخلها الحمام على طول... لو فيه حاجة رن عليا... أنا هابقى مع البنات عند زهرة سلام...
زفر في غضب وهو يضرب سور السلم بغيظ... إن بقائه مع الطفلين في حد ذاته عقاب لن يتحمله...!!!
***
"بابا... بابا... قووووم...."
"يا عمو قوم... شوف مايا مش مصدقة إن فيه حصنة كتير هنا... قوم ياللا نتفرج عليها.."
صياح وقفز بجواره والفراش يهتز... فتح عيناه ببطيء ليطالع وجهي عيسى ومايا حوله فابتسم في حالمية وهو يقول: - حبايبي صباح الخير...
جذبه عيسى من يده وهو يقول: - ياللا أصحى بقىى الشمس طلعت...
نهض زين فاركًا عينيه متثائبًا ثم قال:
- حاضر حاضر قمت أهوه.. يا فتاح يا عليم... هادخل الحمام وأجي أوديكم مكان ما تحبوا... أستنوني هنا..
قالها ثم تناول منشفته وخرج من الغرفة متوجهًا إلى الحمام وخرج بعد قليل ليقابل عمه عتمان الذي قال له:
- ولد حلااال... كنت لسة رايح لك يا ولدي... تعال معي شوف حسابات المزرعة مخربطة وفيه أغراض ماعادت تاجي... تعال يا زين الله لا يسيئك قبل ما الضيوف ياجوا...
ذُهل زين من حديث عمه فسار معه وقابل نور في طريقه إلى أسفل، فسألته:
- فين الولاد..؟
أجابها: - في الأوضة... خديهم فرجيهم على الخيل عشان كنت هاخدهم بس عمي محتاجني في شغل هاشوف عايز إيه وأحصلكم...
أومأت نور متوجهة إلى غرفة زين لتجد زينب تقوم بترتيبها، فسألتها:
- صباح الخير يا زينب... فين مايا وعيسى..؟
أجابتها زينب:
- صباح الفل يا ست الكل.. البت سعاد أخدتهم تلاعبهم وتفرجهم عالحصنة..
أنقبض قلب نور فهبطت بسرعة متوجهة إلى حيث الاسطبلات ولمحت من بعيد تلك الخادمة ممسكة بطفليها وتسير بسرعة في اتجاه الباب المؤدي للخارج، أخذت نور تجري هاتفة:
- أنتِ يا... أنتِ أستني هنا رايحة فين...
خرجت نور في إثرها من باب المزرعة... لتتلقى ضربة على رأسها أسقطتها أرضًا فاقدة الوعي لتمسك بها يدين ضخمتين وتضعها بسيارة سوداء أنطلقت باقصى سرعة.
******

Just Faith 18-12-17 01:53 PM

- 5 –

قفي! لا تتركيني للفيافي

تصب الجمر في وجهي المباح

وحيدًا تتبع الذؤبان خطوي

و تزدحم النسور على جماحي

تثور زوابع الصحراء حولي

و أحلم بالورود و بالأقاحي

(غازي القصيبي)

* * *

هي – في عينه – الكمال الأنثوي رغم كلِ نقصٍ اعتراها من الظروف... هي الهيفاء.. السمراء.. الممتلئة بذكاء البضة الشهية... حتى الحيوان الأعجم يمتثل لهسيس صوتها الناعم ويدخل محبسه طوعًا..!

يراقبها من طرفٍ خفي وهي تنحني لتحكم إغلاق الباب فيلتصق جلبابها الأسود حول قوامها لتظهر تقسيماته المتقنة بوضوح ليغوص هو في نفسه وقد ازداد توقه وأشعله شوقه إلى النعيم المختبيء خلف ذاك الجلباب..!

ودون سابق إنذار... تقدم منها عندما اعتدلت في وقفتها السامقة التي زادت من درجة حرارة غليانه... أحاط خصرها بذراعيه وجوار أذنها اليسرى التي يتدلى منها دومًا قرطًا فضيًا ضخمًا رخيص الثمن همس بشوق:

- ريانة...!

وينتفض جسدها المشدود... يدرك جيدًا تأثير ذبذبات صوته المحموم على كيانها الريان رغم العصيان والبعد... كان يعلم أن أوتارها سترتخي هكذا عندما يسري ترياق صوته في أوردتها ويعمها خدرٌ لا يمكن مقاومته... يدرك أنها ستذوب بين ذراعيه حد الانهمار المفضي لخلاصه... لكنها استدارت إليه... أسبلت رموشها الكثيفة السوداء وهي تأخذ نفسًا عميقًا علَّه يلجم انهمارها ثم عاودت فتح عينيها وهي تقول بصوت مبحوح:

- سي علي...!

ويا ويل (سي علي) من اسمه الذي يخرج من شفتيها يخترق قلبه فيكبله ويسري إلى عقله فيثلجه ثم ينصب في نخاعه الشوكي باعثًا رعدة خفيفة تغمر ظهره...! ينظر إلى عمق عينيها الواسعتين ويتوسل:

- ريانة... اتوحشتك...

بالكاد تجر قدميها للابتعاد خطوة...

- سي علي... أ... أ... أني خايفة من الحرام...

يتقدم تلك الخطوة بخطوة أوسع لتلفح أنفاسه صفحة وجهها الرائق وهو يقول:

- الحرام إنك تبعدي عني... أموت والله يا ريانة..

- سي عـ... علي أني...

- أنتِ مرتي على سنة الله ورسوله...

- لكن...

لكنه لم يمهلها وضمها إليه بما يعتمل به من شوق ممرًا يديه على جديلتيها الطويلتين الناعمتين المتهدلة خصلاتهما القوية على كتفيها يفكهما بجنون... يثور على تمردها وعصيانها ينشد استسلامها الذي طال غيبته، فقد مر زمنٌ منذ آخر مرة أوى إلى جسدها الذائب بين ذراعيه لينهم من خمره حد الانتشاء.

مقاومتها الواهية زادت من قوة مداهمته لجسدها الذي جرده من كل الحواجز التي تفصله عنه ليزداد اشتعالاً..

- سي علي...

صوتها الذائب ذو الفحيح السحري والبحة المتفردة.. يدغدغه... نبرتها المختلفة تشي بذوبانها... تلك النبرة التي يعشقها حين تقترب عين اسمه من الهاء واللام تخرج رقيقة كتأوه ولا تكاد الياء تظهر...

يدفعها إلى كومة من التبن فيغوصا فيها وينهل منها حد الارتواء ولم تكد كل ثورات جسده تخمد ويغيبه الخدر حتى انتفض على صوت سيارات وخطوات أقدام... تنهض ريانة في ذعر بجسدها العاري الفارع الذي يدعوه للمزيد؛ لكن الأصوات تقترب في مؤشر خطر وهو يتسائل في حيرة عن كنه من يأتي الآن إلى حظيرتهم النائية تلك..!!!

كانت ريانة قد جمعت قطع الثياب وهي تبكي وتلطم وجهها... تلعن سوء حظها... تلعن قلبها واهي المقاومة أمام اجتياح رجل يدعي عشقها ويخفي زواجه بها كإثم ووصمة عار..! يجذبها علي من ذراعها خلف كومة تبن ضخمة ليكملا ارتداء ثيابهما في الوقت الذي انفتح به باب المزرعة على مصراعيه ودخل عدد من الرجال يتبعهم رجل يحمل امرأة وآخر يحمل طفلين ويبدو أن ثلاثتهم فاقدي الوعي..!

تم تقييد المرأة والطفلين إلى مقاعد وسط الحظيرة ثم رفع أحد الرجال هاتفه طالبًا رقم ما وقال لمحدثه:

- شيخ سعد... كل اللي تبغونه سويناه وزيادة... العيال حدانا ومعهم أمهم كمان... البت سعاد قالت أنها مرت زين ولد الشيخ ساليم وبت عمه سليمان... ماشي يا سيدنا... في انتظاركم...

ومن مكانها... دققت في ملامح تلك المرأة المقيدة.... تلك الملامح لم تنسها يومًا... ملامح امرأة اجزلت لها في العطاء... ملامح امرأة حاولت نصحها يومًا كي لا تقع في مثل ذلك الموقف... مختفية وسط المواشي خشية الفضيحة فلا أحد يعلم بزواجها ولا أحد سيصدق زعمها... إنها في حاجة إلى تلك المرأة.. لقد كان لكلماتها أثرًا عظيمًا في تقوية عزمها لرفع راية العصيان على زواج السر ذاك... لكن عزمها تخاذل شيئًا فشيئًا وعادت للإذعان أمام اجتياحه لها... لذا هي في أمس الحاجة إلى ترياق كلمات تلك المرأة الصادقة.. لن تسمح لهم بأن يسلوبها إياها أيضًا بعد أن سلبوا منها كرامتها.

***

كان هنالك نسمات هواء باردة تداعب وجهها محملة بروائح روث مقززة عرفت مصدرها عندما تناهى إلى أذنيها خوار مختلط لبعض الحيوانات من على يمينها... فتحت نور عينيها بسرعة ونظرت يمينًا في وجل لتلمح على مرمى بضعة أمتار عدة حظائر مغلقة على ما فيها من مواشي بينما تجلس هي مقيدة ببهوٍ شاسع محاط بالتبن وبعض الأقفاص الملقاة بإهمال تغلفها رائحة العطن التي تخالطها رائحة الروث وخوار الحيوانات.

على يسارها استلقى عيسى ومايا كلٌ على كرسيه وقد تم تقييدهما أيضًا...!!!

رفعت رأسها إلى السقف المرتفع الذي تدخل من خصاصه بعض أشعة الشمس وزفرت متمتمة "يا ربي... إيه اللي بيحصل لنا ده...!!"

لكنها بللت شفتيها الجافتين بلسانها كما بللت روحها المرتعدة بالحوقلة والاستغفار وهي تسقط عميقًا بداخل ذاتها بعيدًا عن قيود يديها وقدميها... بعيدًا عن كنه مختطفيها الذي تجهله... بعيدًا عن رائحة الحظائر الخانقة وخوار الماشية... يهوى وعيها من قمة الانتباه الدنيوي إلى عمق الجوهر التجريدي... ثم لا شيء... لقد تراكمت تفاصيل الحياة اليومية على تلك الجذوة المشتعلة بأعماقها وتركتها معلقة في فضاء الروح المظلم الفارغ... هناك حيث تخفت الأصوات أو تتلاشى... يتلاشى كل خوف وحب ورجاء... يتلاشى التعلق برجل أو ابن... يتلاشى حتى الحزن على من رحلوا... وتبقى وحدها في مواجهة غفلة أخذت تتساقط كقطرات قار لزجة سميكة تحيط بجذوتها المضيئة المشتعلة شيئًا فشيئًا حتى تكاد تخفيها لتتسربل حينئذٍ الروح برداءٍ قاتم يطبق عليها كالكوز مجخيًا فلا تعرف معروفًا ولا تنكر منكرًا..!!!

أكان يجب عليها أن تُزلزل زلزالاً كهذا حتى تفيق من غفلتها...! لكن مادامت بلايا الرحمات لم تؤت ثمارها؛ فلتستشعر نعمة التنبيه بسياط بلايا العثرات وليلهج قلبها بحمدٍ غفلت عنه كثيرًا... نعم.. حمدٍ حتى على ثباتٍ نادر حتى في أحلك المواقف دون هلع...! ألم تكن دومًا في مصاف المصلين..؟ أولئك المُستَثنين من الهلع بوعدٍ وصكٍ إلهي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..!

وخرجت زفرتها تخلع عنها رداء الغفلة وهي تتمتم..

"يا عالم الغيبِ! ذنبي أنتَ تعرفُه

وأنت تعلمُ إعلاني.. وإسراري

وأنتَ أدرى بإيمانٍ مننتَ به

علي.. ما خدشته كل أوزاري

أحببتُ لقياكَ.. حسن الظن يشفع لي

أيُرتجَى العفو إلاّ عند غفَّارِ؟ ."[1]

صوت صرير مزعج لباب ما أيقظها من إكمال السباحة بعمق الروحن ففتحت عينيها لتشهد اقتراب رجلين نحوها من عند الباب أحدهما متوسط الطول يرتدي جلبابًا أبيضًا ومعطف أسود وغترته تغطي رأسه، والآخر طويل القامة يرتدي نفس زي زميله لكن سقطت غترته من على رأسه لتستقر على كتفيه مكتفيًا بطاقية بيضاء تخفي جُل رأسه... ذلك الرجل الطويل ذو الشارب الكث والنظرات الخارقة... ذلك الشخص رأته مسبقًا يوم وصولها إلى البيت الكبير من أمريكا... كان خارجًا من مكتب عمها وحدجها بنظرات أثارت قشعريرة في بدنها لم تنسها أبدًا كما لم تنس وجه الرجل المربع الشكل ذو الشارب الكث ذاك..!!!!

فرك الرجل كفيه في جذل وهو يقول:

- يا مراحب يا مراحب بالغالية بت الغالي ومرت الغالي...

الصوت الغليظ المزعج ذاته... الفظاظة والجرأة ذاتها...

- والله زين أنه الرجال جابوكي معهم... خلنا نخلص الحسابات كلاتها الليلة...

حاولت السيطرة على صوتها الهارب... تنحنحت ثم قالت:

- والله اللي أعرفه عن أخلاق العرب والرجالة أنهم لو عايزين يحاسبوا حد يروحوا له ويكلموه مش يستخبوا ورا ستات وأطفال...!!

ضحكة غليظة مزعجة وتقدم حثيث نحوها...

- واللي بدنا نحاسبهم واحد في القبر والتاني قرب يدخله... يبقى مافيه غير عيالهم يطفوا نار الانتقام...!

هنا كان الارتعاد فرض عين.. عندما انحنى ذلك الضخم نحوها وهو يقول بصوتٍ كالفحيح:

- بس الاول خلنا نشوف بت سليمان صوح...

قالها ثم نزع عنها حجابها فسقط قلبها بين قدميها وهي تحاول تحريك جذعها بعيدًا عن مرمى كفيه الضخمتين اللتين اخذتا تعبثان في شعرها... يحل ربطته ويتراجع لينظر إليها وقد ارتسمت إمارات الذعر على وجهها ثم ترتسم على وجهه ابتسامة بشعة كشفت عن أسنان نخرة وهو يقول:

- والله وعرفت تخلف يا سليمااان الله يجحمك...

اقترب الرجل الآخر وقد كان يبدو أكبر سنًا ذو لحية شبه بيضاء قصيرة مشذبة وشارب وقال بصوت قوي:

- كفاياك عاد يا مناع... خلنا نركز في اللي نبغاه...

أستدار مناع إليه قائلاً بحقد: - يا شيخ سعد تبغى بت سليمان تقع في يدي وأتركها...؟ والله ما يحصول أبدًا...

جذبه الشيخ سعد من ذراعه قائلاً بحدة:

- لا تدخلنا في حرب يا مناع... إحنا جايبينهم نضغط بيهم على ولد ساليم عشان ما يفكر يكمل اللي بدأه أبوه ويعطينا الورق اللي في يده...

إلا أن مناع جذب يده منه بسهولة وهو يقول بأحرف تقطر سمًا:

- وأنا جايبهم عشان أشفي غليلي وأذلهم كيف ما ذلوني سنين... أبعد أنت يا شيخ سعد وإلا هاتخسرني..

لم يملك الشيخ سعد سوى الصمت والتراجع ليتقدم مناع من نور بخطوات ضبع يتأهب الانقضاض على فريسته بينما أخذ جسد نور يرتعد بعنف وهي تبتهل في رعب ألا يحدث ما تراه جليًا بعيني ذلك الرجل... تدعو الله أن يقبض روحها قبل أن تعاود يده لمساتها المحرمة على جسدها... لكنه اقترب منها... أمسك كفها الأيسر المتجمد قائلاً بفحيح:

- شوفي يا حلوة أبوك إيش سوى...

قالها ثم مرر كفها على ندبة ضخمة تقطع طوليًا جانب وجهه الأيمن من منبت الشعر وحتى الذقن...

- أبوك قبل ما يهج كان دايم يحتقرني ويهددني رغم إني كنت أصغر منه بعشر سنين... دايم يهددني إني أبعد عن ولد أخوه... وعند أول فرصة... شوهني... أبوك اللي سوى هايذا يا بت سليمان... سوى هيذا لأجل زوجك ولد أخوه... يعني حسابك تقيييل جدًا... وأنا ناوي أصفيه عالآخر...

ترك يدها ومرر كفيه على وجهها بجذل لـ... ليصرخ في ألم جاذبًا إحدى يديه ممسكًا إياها بالأخرى وهو يسب ويلعن..! لقد نشبت أسنانها بكفه بكل ما يعتمل بها من خوف... لكنه عقب موجة من السباب البذيء عاد إليها بغضب.. بعنف... برغبة في الانتقام... صفعها صفعتين أدمت جانب شفتها الأيمن وجعلتا أذنيها تطنان... وقبل أن تعي كانت يداه قد شقتا عبائتها نصفين فصرخت في ذعر..!!

***

قبل ساعة...

"يعني راحوا فين... راحوا فين ..؟ انشقت الأرض وبلعتهم...؟؟"

كاد يجن... عندما أنهى مراجعة حسابات المزرعة مع عمه وعاد إلى غرفته لم يجدهم... سأل زينب فأخبرته أن سعاد أخذت عيسى ومايا إلى الاسطبلات ثم لحقت نور بهم... وعندما لم يجد لهم أثر في الإسطبلات عاد يسأل عنهم من بالمنزل لكن لم يرهم أحد منذ الصباح... استدعى الخادمة الضئيلة التي تُدعى سعاد يسألها بما إنها آخر من رأتهم فأخبرته أن نور جائت إلى الاسطبلات وأخذت منها الطفلين فعادت هي إلى المنزل.

عمت حالة من القلق المنزل... مشط الجميع الأراضي وكل ركن بالبيت والنتيجة واحدة... لا أثر لنور ومايا وعيسى... تمامًا..!

- "هوا مش ممكن تكون راحت تفسح الولاد واللا حاجة وراجعة..؟" تسائلت زهرة تحاول طمئنة نفسها، فقالت تقى بتوتر:

- من غير موبيلها...؟ بعباية البيت والأولاد بالبيجامات...؟ نور تليفونها وكل لبسها هنا والأولاد برضه لبسهم كله موجود ومافيش أي إشارة أنهم غيروا هدومهم حتى...

ضرب زين الحائط بقبضته وهو يقول:

- اللي عمل كدة هوا نفسه اللي حرق بيتي واتسبب في الحادثة ليا أنا وأبويا وأهو ظهر أهوه أنه من هنا وأتأكدت شكوكي...

قالها ثم التمعت عيناه ببريق غاضب وهو يردف:

- وأقسم بالله لو لمس شعرة من حد فيهم... أنا اللي هاكمل عليه...

قالها ثم توجه إلى باب البيت في سرعة ليلحق به كل من ياسر وبدر وطلال.. يمسك به ذاك الأخير قائلاً:

- على وين يا ولد عمي..؟ كلنا معاك...

ابتسم زين ابتسامة صغيرة ثم شد على يد طلال قائلاً:

- تسلم يا ابن عمي... روح أنت وبدر جمع رجالة القبايل اللي حوالينا واستنى تليفون مني... وأنت يا ياسر... تعالى معايا... هانقلب الدنيا لحد ما أعرف مكانهم...

قالها وهو يرتدي معطفه سريعًا ويهرع إلى الخارج ليلحق به ياسر هاتفًا:

- على مهلك يا زين رجلك مش هاتستحمل كل الجري ده...

ضرب زين زين السيارة الجيب المكشوفة التي كا قد وصل إليها بقبضته هاتفًا في حنق:

- رجلي دي مش هاتشلني إني ألاقي ولادي ومراتي...

ربت ياسرر على كتفه قائلاً:

- هنلاقيهم إن شاء الله... سيبني أنا أسوق على الأقل وهانروح مكان ما أنت عايز...

أذعن له زين وقد بدأ بالفعل يستشعر شيء من الألم يسري بساقيه؛ وبمجرد خروجهما من البوابة الحديدية الخارجية للمنزل... وجدا بدوية ترتدي جلبابًا أسودًا ووشاح أسود تجري نحوهما وتشير إليهما دون توقف.

- وقف وقف يا ياسر شوف الست دي عايزة إيه...

قالها زين ليتوقف ياسر أمام المرأة التي دارت حول السيارة ونظرت إلى زين وهي تقول لاهثة:

- حـ... حضرتك سي الأستاذ المهندس زين سليم العربي..؟

أومأ زين قائلاً:

- أيوة أنا... أنتِ مين...؟

وضعت ريانة كفها على صدرها تهديء من خفقاته وتحمد الله أن تمكنت من العثور على زين، ثم قالت بسرعة:

- أ... أنا أدري المكان اللي أنخطف فيه مرتك وعيالك...

- إيه...؟ أنتِ مين وعرفتي منين أنهم مخطوفين..؟؟؟ مين اللي باعتك...؟

تسائل زين في صرامة لتجيبه ريانة برجاء:

- راح أقول لك كل شيء بس الله يستر عرضك استرني... وألحق مرتك قبل ما يجرالها شيء...

- طيب أركبي وأحكي لي كل الل تعرفيه...

***أيوة أنا...

"ماتتخيليش يا أمي قد إيه هيا إنسانة رائعة... والله أول ما هتشوفيها هاتدخل قلبك على طول.."

قالها لأمه التي تجاوره في سيارته لتبتسم وتمصمص شفتيها بمرح قائلة:

- المهم أنها تدخل قلبك أنت يا داكتور... يعني تركت بنات بلدك كلياتهم وجيت لآخر بلاد المسلمين تخطب...

ومن المقعد الخلفي للسيارة انبعث صوت شقيقته يقول مرحًا:

- دايمًا أخوي يحب يبقى مختلف... دماغه دي مش زي أي حد... حتى مرته لازمن تبقى مختلفة ولو كانت فين هايروح لها... مش كدة يا بدر..؟

طالعها بدر في مرآة السيارة ثم قال:

- مش كدة يا رحمة... مش حكاية إختلاف... الحكاية كلها إني مالقيتش إنسانة سكنت روحي زيها... رغم إني ماتكلمتش معاها كتير بس فعلا شدني هدوئها ومسالمتها وفي نفس الوقت وعيها وثقافتها وحبها لاخوها وأبوها... ماكنتش بتفوت يوم غلا وون جنبهم في المستشفى... و...

لكنه قطع حديثه وهو يهدىء من سرعة السيارة عقب رؤيته جذع شجرة ضخم يقطع الطريق المؤدي لمدخل الواحات البحرية، لتتمتم أمه بملل:

- يوووه يا ولدي... ناقصين عطلة...

ربت بدر على كف أمه قائلاً:

- خير إن شاء الله يا أمي... هانزل أشوف فيه إيه...

أوقف بدر السيارة على جانب الطريق ثم ترجل نحو بعض الرجال الذين يحاولون تحريك جذع الشجرة قائلاً:

- سلام عليكم...

- وعليكم السلااام ورحمة الله وبركاته...

- فيه إيه اللي بيحصل هنا...؟

- زي ما أنت شايف يا أخينا... كان فيه ريح جامدة أمبارح كسرت الجذع وسد الطريق وعم نحاول انحركه..

زفر الدكتور بدر ثم قال بعملية:

- تحبوا أساعدكم..؟

تأمله أحد الرجال قليلاً بحُلته الأنيقة ثم قال:

- لا لا يا باشا.. أتفضل استريح وإحنا نكمل شغل... أللا حضررتك جاي لمين في البحرية..؟

ابتسم بدر قائلاً:

- جاي بيت الشيخ سليم رحيل العربي...

- أعوذ بالله...

كلمة خرجت من رجل آخر ليحدجه الأول بنظرة عتاب، لكن تلك الكلمة وصلت مسامع أم بدر التي كانت تتابع الموقف من نافذة السيارة.

- لم لسانك يا عواد وشوف شغلك...

قالها الأول بشيء من الصرامة، لكن أم بدر هتفت بالآخر من النافذة:

- يا ولد... تعال هنا وخبرني كل شيء تعرفه عن بيت سليم هذا...

ذهب بدر إلى أمه هامسًا: - يا أمي مايصحش كدة...

لكنها صاحت: - كيف يا ولدي...؟ ده جواز يا داكتور ولازمن نسأل ونتطقس عن سمعة العيلة دي..!

قال الرجل الثاني الذي اقترب من بدر وأمه:

- لااا يا حاجة.. مادام بتقولي جواز لازمن أقول لك اللي حصل وأبريء ذمتي آااه دي أمانة...

- قول يا ولد... إيش فيه...؟؟

حك الرجل الضئيل رأسه قليلاً ثم قال:

- تدري يا حاجة بت أخت ساليم هيذا كانت متزوجة ابن اخوه لكن والعياذ بالله على علاقة بواحد تاني ونهايتهم كانت عبرة للي ما يعتبر... أيوة الله...

خبطت المرأة المسنة على صدرها ثم قالت:

- أعوذ بالله أعوذ بالله... أحكي لي يا ولد كل شيء ينوبك ثواب...

زفر بدر في غيظ وهو يعتدل في وقفته ويسند رأسه على حافة سقف السيارة مغمضًا عينيه في ضيق والندم يأكل قلبه..!!

***

أطرافها مجمدة... جسدها متصلب... تترجاه أن يبتعد عنها... تستجديه ألا يمسها... تعده أن تعطيه ما يشاء من أموال لكن – فقط- يبتعد عنها...! إلا أنه بدأ في حل وثاق قدميها وقد أخذته العزة بالإثم وهو يمرر كفيه بطول ساقيها لتركله قدمها المحررة بكل ما تملك من قوة لم تكن كافية سوى بجعله يبتعد بجذعه قليلاً دون أن تترك يده ساقها، وهم أن يعنفها على تلك الركلة لولا عودة الشيخ سعد الذي كان قد خرج منذ قليل مناديًا إياه بهلع...

- مناع... تعال بسرعة... النار ماسكة في معصرة الزيت ومخزن المحصول..ز مصيبة..

استدار إليه مناع بغضب هاتفًا:

- إيش بتقول يا سعد...؟

جذبه سعد من ذراعه خلفه وهو يكمل صياحه:

- تعال شوف الوحل اللي وقعتنا فيه يا سي مناع...

خرج معه مناع غاضبًا هادرًا بينما أخذت نور تحمد الله أن صرف عنها ذلك الشخص بنواياه الخبيثة.. لكنه حتمًا سيعود...! تأملت مايا وعيسى اللذين استيقظا فزعين واستمرا في البكاء حتى أُنهكا تمامًا وقالت لهما:

- ماتخافوش يا ولاد... أنا هافك نفسي وأفككم إن شاء الله متخافوش..

قالتها وهي تحاول بكل جهدها أن تحل وثاق كفيها الذي كان قاسيًا ولم يزدها سوى إيلامًا وتجريحًان في تلك الأثناء سمعت خطوات أقدام سريعة قادمة نحوهم من ناحية الماشية، فنظرت بخوف يمينًا لتراه... نعم هو... هو منقذها... تلك إذن رؤياها قد جعلها ربها حقًا...!!

تزلزل كيان زين في عنف وهو يراها على تلك الحالة... ثوبها البيتي الحريري الفضفاض ممزق نصفين كاشفًا عن حمالتين رقيقتين سوداوين تحيطان بكتفيها المكشوفين... صفحة صدرها ظاهرة... شعرها مشعث.. جانب شفتها الأيسر به جرح نازف ووجنتها اليمنى متورمة قليلاً...!!

حث خطاه نحوها متحاملاً على قدميه وهو يسب بطئهما ومرضه... يبدو أنه تأخر... تأخر كثيرًا..!!!

- "جرالك إيه...؟ عمل فيكي إيه الحقير ده..؟ نور قولي لي مين اللي عمل فيكي كدة مناع واللا سعد...؟"

كان قد فك وثاق كفيها بسرعة وأخذها بين ذراعيه محاولاً تخبئتها بداخخل قلبه بينما كانت هي ترتعد كعصفورٍ مبلل ودمعٍ صامت يتهاوى من عينيها فسره زين تفسير جنوني وهو يهتف:

- هاقتل له والله لا...

لكنها وضعت أناملها على شفتيه.. رفعت رأسها من بين ذراعيه وهمست له بصوت مبحوح من كثرة الصراخ والاستجداء:

- ماعملش حاجة أكتر من اللي أنت شايفه ده يا زين... الحمد لله... الحمد لله ربنا صرفه عني في آخر لحظة..

عيناه تغشوهما قسوة وتوعد يهدر بعنف وهو يسألها:

- هوا مين بقى فيهم اللي عمل لك كدة..؟

ولأنها رأت الشرر المتصاعد من عينيه وشعرت بأوردته المنتفخة وكأن درجة غليان دماؤه بلغت ذروتها ولأن ثمة جريمة توعد بها قد تودي بحياته خلف القضبان... همست:

- مش مهم... المهم أن احنا نخرج من هنا بسرعة قبل ما يرجعوا...

أمسكها بقوة من كتفيها وهو يقول بصرامة:

- مين هوا يا نور...؟؟

أطرقت برأسها ثم قالت:

- مناع...

- الكلب الجبان... عمره ما هايتغير...

قالها ثم ضم ثوبها عليها وخلع معطفه يدثرها به... قام بعدها بإحضار خمارها الذي كان مناع قد ألقى به أرضًا لتعاود وضعه حول وجهها بينما ذهب زين لحل وثاق مايا وعيسى وهو يضمهما ويلثمهما في شوق جارف محاولاً الاطمئنان عليهما.

- "تعالوا من الباب اللي ورا ده... ياسر مستنيكوا هناك في الجيب.."

قالها بسرعة وهو يقودهما إلى ممر وسط الحظائر فسألته بلهفة:

- وأنت..؟

- أنا لازم أخلص اللي ماخلصش من سنين وأحاسب الحيوان ده على اللي عمله...

تعلقت بذراعه متوسلة:

- زين أرجوك... أرجوك رجليك مش هاتستحمل أكتر من كدة ورجالة مناع وسعد ماليين المكان... أرجوك تعالى معايا... أنا استحالة أسيبك هنا مع المتوحشين دول...

قال لها بحزم:

- ياللا بس أنتوا أخرجوا بسرعة و...

- "على وييين يا باشمهندز... لسة ما ضايفناك..."

صوت غليظ قاطع كلماته من خلفه ومعدن بارد التصق بعنقه... نور تحتضن مايا وعيسى في ذعر وعيناها تتسعان خوفًا. استدار زين ببطيء لتلامس فوهة مسدس مناع صدره لكنه قال ساخرًا متجاهلاً السلاح :

- أنا مش جاي أتضايف...

قالها ثم ضيق عينيه ليشمل مناع بنظراته الحارقة مردفًا:

- أنا جاي أتحاسب...

جذب مناع رتاج سلاحه وابتسم أبتسامته الشنيعة وهو يقول بجذل:

- عز الطلب... وأحنا راح نبعتك الآخرة... عشان تعرف تتحاسب صوح... الوداع يا... يا ولد العربي..

***

Just Faith 18-12-17 01:56 PM

- 6 –

‎"نحن مصنعون من الفناء.. ولا ندرك الأشياء إلا في فنائها..

‎نشعر بثروتنا حينما تفر من يدينا..

‎ونشعر بصحتنا حينما نخسرها..

‎ونشعر بحبنا حينما نفقده..

‎فإذا دام شيئ في يدينا فإننا نفقد الإحساس به"

‎مصطفى محمود - في الحب والحياة

***

عندما تشتعل مراجل غضبك بينما يمثل أمامك من انتهك... ظلم... حاول إيذائك بكل ما أوتى من وسائل وقوة... فإنك تتناسى وجعك... تتخلى عن جسدك الهزيل ويتلبسك مارد الغضب الأسود الذي يهبك قدرات لم تتخيلها يومًا.

- "مناااع... نحنا ما نبغى نقتل يا مناع.. نبغى أوراقنا وكل حي يروح لحال سبيله.."

واستدار المهاجم إلى حيث يحدثه الشيخ سعد قادمًا من خلفه ليستغل زين إلتفاتته ويلوي ذراع الممسك بالمسدس ليسقط منه فيتناوله زين بسرعة مصوبه نحو مناع وهو يقول بصوت قوي ناقم:

- أنا بقى عايز أعاقب اللي خطف مراتي وولادي وانتهك حرمتهم..

قالها ثم تقدم نحو مناع يجر قدميه يجبرهما على إكمال السير مردفًا:

- مش هاسيبك يا مناع..

- "زيين.."

هتفت نور وهي تهرع نحوه... ترجوه:

- زين أرجوك... خلينا نطلع من هنا... سيبك منهم... ما توقعش نفسك في مصيبة...

لكنه لم يعرها إهتمامًا وصوب السلاح نحو مناع الذي أخذ يضحك بصوته الغليظ وهو يقول:

- أقتلني يا ولد ساليم... أقتلني كيف ما حاول عمك يقتلني قبل... لكنكم عار على العرباوية... ما تعرفون كيف تمسكون سلاح ولا كيف توجهونه صوح... وعمك أنا انتقمت منيه ونبذته برات البحرية كلاتها ولسة راح نكمل انتقامنا من بته ولا شي راح...

لكنه أكمل جملته بآهة عالية صاحبت صرخة نور وهتافها باسم زين الذي ضغط على الزناد بالفعل ليسقط مناع أرضًا ممسكًا بساقه التي أصابتها الرصاصة فتجمع رجاله حولهم مصوبين أسلحتهم إلى زين الذي قال لمناع بصرامة:

- بنته دي تشيلها من دماغك دي خالص وإلا أفجرها لك دلوقتي حالاً...

قال مناع في غيظ:

- بتطخني يا زين... بتطخني يا ولد ساليم... كتبت أجلك بيدك يا زين... رجالتي راح...

- آاااه... ماهي الناس الخوافة الحقيرة اللي زيك هيا اللي بتتحامى في رجالتها وما تقدرش تواجه...

صاح مناع في غيظ بصوت زلزل المكان:

- خلصوا علييييه...

وعندما هم الرجال المحيطين بزين برفع أسلحتهم... كانت أبواب المكان تنفتح من كل حدبٍ وصوب ليصل إليهم صوت سيارة الشرطة مع دخول عدد من العساكر وأحد ضباط الشرطة مع طلال وبدر وبعض الرجال.

تم إلقاء القبض على مناع وسعد ورجالهما ليمسك طلال يد ابن عمه قائلاً:

- حمدًا لله على سلامتك وسلامة اهلك يا ولد عمي...

كان زين يفكر في التغير المهول الذي حدث في شخصية طلال عقب حادث زوجته وهو يبتسم له مستندًا على ذراعه القوي قائلاً:

- الله يسلمك يا طلال تسلم يا أخويا... جيتوا في وقتكوا...

- أنا جمعت الرجالة زي ما قلت لي وسوينا حريق صغير في معصرة الزيت بتاعتهم وبعدها روحنا نبلغ القسم باحتجازه ليكم وجبناهم وجينا طوالي...

ربت زين على كتف طلال وهو ينظر إليه هو وبدر وجميع رجال القبائل الذين تجمعوا لمسنادتهم ثم قال:

- تسلموا يا رجالة تسلموا على وقفتكم و...

لكنه قطع حديثه بسعال حاد وهو يمسك صدره ويجاهد كي يأخذ نَفَسه فهرعت إليه نور تمسك ذراعه قائلة:

- زين... زين... حاول تتنفس بالراحة...

وعقب ذوبان مارد غضبه تهاوى جسده... فعجزت رئتيه عن العمل بانتظام عقب ذاك الجهد الجبار وبدأت ساقيه تخذلاه وكاد أن يتهاوى أرضًا لولا ذراع بدر من ناحية وذراع طلال من الناحية الأخرى، مع دخول ياسر الذي شهد هذا الموقف فصاح:

- هاتوه على العربية من هنا يا طلال... لازم أوديه المستشفى بسرعة...

وعقب استقراره بالسيارة بين ذراعي نور في المقعد الخلفي مع ركوب مايا وعيسى بالمقعد الأمامي همس لها بإنهاك:

- مش... عايز أروح المستشفى...

أخذت تمرر يدها على وجهه وهي تقول:

- لازم يا زين لازم تروح المستشفى...

لكنه ضغط على كفها بوهن هامسًا:

- مش مستحمل مستشفيات يا نور أرجوكي... خليه يعالجني في البيت..

عندها قالت نور لياسر:

- دكتور ياسر.. نزلنا البيت وهات أنبوبة أكسجين وأنا هاخلي بالي منه...

"لكن..." حاول ياسر الإعتراض وهو ينظر إليها في المرآة لكنها أشارت برأسها نفيًا فابتلع اعتراضه ثم قال:

- خلاص إحنا جنب بيت المزرعة هانزلكوا هنا عشان أروح أجيب الأدوية والأكسجين من المستشفى وأرجع على طول...

عاونه ياسر ليهبط من السيارة حتى وضعه بفراشه وجلس الطفلين ببهو البيت ليرحل ياسر ونور تحاول ضبط الوسائد خلف رأسه كي لا يضيق تنفسه أكثر إلا أنه عاودته نوبة السعال، فقامت نور بسرعة بحل أزرار قميصه والسماح بأكبر قدر ممكن من الهواء بالعبور إليه مع تدليك صدره حتى انتهت نوبة السعال فأخذت تدعو ألا يتأخر ياسر، بعدها لاحظت تورم قدميه فقامت بتدليكهما مع عمل كمادات عليهما حتى وصل ياسر بأنبوب الأكسجين ووضع القناع حول وجهه ليستعيد زين شيء من أنفاسه المفقودة وينام بهدوء.

تركته نور وخرجت للأطمئنان على صغيريها اللذين لم يفيقا بعد من صدمة ما حدث وما رأياه من مراودة مناع لها عن نفسها، فاحتضنتهما وحممتهما ثم أخذت تحدثهما عن بعض الأشرار الموجودين في الحياة وكيف بالاستعانة بالله مع الأخذ بالأسباب تخلصوا منهم ثم لاعبتهما قليلاً حتى غفيا في هدوء لتعود هي إلى ذلك الغافي بفراشه والذي رغم مرضه... رغم وجعه وألمه... إلا أنه جاءها... كان منقذها وبطلها... ابتسمت وهي تذكر لهفته عليها وجنونه مما فعله مناع بها، فأنحنت ببطيء وتردد ولثمت جبهته في حنان وهي تدعو أن يتعافى سريعًا حتى وإن لم يكن لها..!

***

" خلينا صابرين يا قلبى خلينا صابرين

وكفاية دمعك ياعين على مش سالين

الله علينا والغالى ناسينا"

في شرفتها يتناهى إلى أذنيها موال ذلك المزارع ذو الصوت الشجي وهو عائد من عمله مع غروب الشمس... عادة ما كانت تسمع مواويله لتعلم أن الشمس قد غربت ويمم ذلك المزارع وجهه صوب بيته البسيط مترنمًا بمواويل الواحات التراثية التي دائمًا ما تبعث في بدنها قشعريرة... ذلك الصوت الشجي المشروخ مع الشمس الغاربة وقمم النخيل المتراقصة على أنغام هواء الليل الحاني.. كل ذلك أثار في نفسها شجنٌ لم تعهده قبلاً بروحها التي تتشبث بأهداب المرح وتحاول لفظ كل حزنٍ وشجن...! أتراه بقايا أمل كان كسرابٍ خادع نهلت منه روحها حد الثمالة لتستيقظ على واقعٍ حياتها الذي صار أقسى من ذي قبل...؟؟!

تنهيدة حارة خرجت من بين شفتيها ودمعتين يتيمتين شقتا طريقهما على وجنتيها وهي تقر أن حياتها قبل إكسير الأمل الزائف ذاك كانت أكثر دفئًا وحميمة رغم كل الآراء السلبية المحيطة بها إلا أنها كانت قد وصلت إلى مرحلة من التصالح الذاتي والرضا بالواقع؛ إلا أن تلك الغربة الدخيلة التي علقت برحم روحها والتي تكبر مع كل دقيقة تأخير لتصير مضغة للألم... ثم تتضخم بعد عدة دقائق أخرى لتقوى عظام تلك المضغة ويكسوها الانتظار لحمًا ثم تضع غربتها جنين الأمل المشوه البشع فتزداد الفجوة بين ما تريده وتهفو إليه روحها وبين ما يصر أن يصبح ويُمسي عليه واقع الأشياء، فيمتص الرمق الأخير من قدرتها على مواصلة الحِلم والحُلُم.

صوت طرقات باب غرفتها ينتشلها من أوهامها وغربتها ليلقيها في وسط جحيم من الاسئلة والنظرات المشفقة.. تجفف دموع وجنتيها.. تستحضر بشاشة كانت طبيعة بها والآن صارت مجرد قناع... ثم تأذن للطارق بالدخول. تدلف أمها بنظرات قلقة حائرة... خائفة... تتأملها طويلاً ثم تسألها السؤال الصعب.

- مافي أخبار يا بتي...؟

وتراوغ في الإجابة..

- ما الدكتور ياسر طمننا على زين ونور يا أمي الحمد لله عدت على خير..

لكن أمها تمسك ذراعها وتسألها بحدة:

- أنت خابرة زين إني ما بسأل عن أخوك... أنا باسأل عن الداكتور وأهله اللي مستنظرينهم من وقت الغدا والمغرب أذن أهه ولا حس ولا خبر...

ابتسمت زهرة بسخرية مريرة وهي تقول:

- يعني يا أمي أنا هايكون عندي أخبار منين...؟ أنسي يا أمي... أنسي.. خلينا نطمن بس على صحة أخويا...

زفرت الأم في توتر ثم قالت:

- أخوك جنبه مرته... أنا ابغى أطمن عليكي مع زوجك يا بتي...

قبلت زهرة رأس أمها قائلة:

- اللي فيه الخير ربنا هايقدره يا أمي... وأنا راضية...

نعم... ستعود للرضا بكل أحكام القدر... فهو من صميم إيمانها الذي يهبها السكينة والاطمئنان... هي دائمًا راضية بالقدر... خيره... وشره...!

***

صخب محبب يتسلل إلى أذنيه... قناعٌ يجثم على وجهه يمده بأنفاس الحياة... تنميلٌ طفيف يشمل ساقيه... لكنه رغم كل ذلك يشعر بالدفيء... دفئًا لم يعهده قبلاً... دفئًا يحيط بقلبه فيكسر حاجز الرهبة والألم والخوف.. دفئًا هي وحدها قادرة على وهبه إياه بآثار ضمها له التي علقت في ثنايا روحه... آثار أمومتها الجارفة وخوفها عليه... حنانٌ فياض لم يذق مثله منذ أمدٍ بعيد... بين يديها يود لو يعود طفلاً تارة كي يلوذ بين ذراعيه كلما راعته الحياة صروف الحياة... يود لو عاد مراهقًا لم يكنه يومًا.. مراهقٌ تم اختزال سنى مراهقته الأولى بإدعاء رجولة مبكر وإعدادٍ لحمل مسئولياتٍ تتعدى سنى عمره...! معها يود لو ينظم لعينيها شعرًا أحمق لا يتقنه... يود لو يقتبس بعض الأبيات القبانية في وصف عطر جسدها "خطير النوايا" .. عطر جسدها الذي "به تتجمع كل الأنوثة كل النساء"... ذلك العطر الذي " يدوخه.. يذوبه... ويزرعه كوكباً في السماء.. ويسحبه من فراشه إلى أي أرض يشاء.. وفي أي وقت يشاء".

أزاح قناع الأكسجين من على وجهه وابتسامة طفيفة ترتسم على شفتيه.. لقد أتم لتوه عامه الخامس والثلاثين لكنه يهذي بخواطر حمقاء لفتىً لم يتعد العشرين. أتسعت ابتسامته لتتحول إلى قهقهة خافتة بالقدر الذي سمح له صدره به وهو يراها تدلف من الباب يرسم الضجر إماراته على وجهها وعندما لاحظت ضحكاته نظرت إليه قائلة:

- صح النوم... عامل إيه دلوقتي..؟

أشار إليها قائلاً وهو لا يزال يضحك:

- إيه اللي أنت لابساه ده...؟؟

تضرج وجهها بحمرة الخجل ثم قالت:

- أ.. أنت عارف هدومي كانت عاملة إزاي فـ... فأضطريت أخد بيجامة من بتوعك لحد ما تقى تبعت لي شنطتي..

عض على شفته السفلى باسمًا وهو يتأمل سترته السوداء ذات الكتابة الإنجليزية البيضاء التي تبتلعها تمامًا والتي شمرت كميها عدة مرات لتخرج يديها منهما وسروال منامته الأسود الذي تمسك به حول وسطها فينسدل محيطًا جسدها في حميمية أرهقته.

- يا بختها...!

عقدت حاجبيها الجميلين بينما تبعثرت بعض الخصلات الهاربة من شعرها الذي كانت ترفعه كيفما أتفق وهي تقول:

- بتقول إيه...؟

- البيجامة...

هنا تعالى صوت عيسى ومايا فزفرت نور في ضجر وهي تتمتم:

- هايرجعوا يتخانقوا تاني...!

قالتها وهي تسرع إليهما لتفض الاشتباك متعثرة بسروال منامته في كل خطوة؛ فرفع زين ذراعه خلف رأسه مسندًا رأسه عليه... مغمضًا عينيه وشعور عام بالراحة يسري بروحه لقد وجد سكنه... تلك المخلوقة من نفسه لتكون له سكنًا... لم يتبق سوى أن يطمئن على...

- "زهرة...!"

هتف بها وهو يعتدل في جلسته بعنف، نادى نور التي جاءت بسرعة قائلة:

- أيوة يا زين فيه حاجة..؟ أنت كويس...؟؟؟

- مافيش أخبار عن زهرة أو الدكتور بدر وأهله...؟ كان المروض يجوا النهاردة على الغدا... الساعة كام..؟

- الساعة 10...

أجابته نور بعد أن ألقت نظرة إلى ساعة يدها الصغيرة، فقال لها:

- فين تليفوني...؟

أجابته:

- تليفونك فاصل شحن ومافيش شاحن هنا... وأنا تليفوني مش معايا...

عقد حاجبيه في قلق وأخذ ينقر بأصابعه على الفراش وهو يقول:

- طيب إيه...؟ مش هانطمن عليهم...؟ مش هانعرف أخبارهم إيه...؟

ابتسمت نور في حنو وهي تقول:

- ماتقلقش... الدكتور ياسر قال هايجي يطمنا بعد ما العريس وأهله ياخدوا قعدتهم...

لم تكد تكمل جملتها حتى سمعا طرقًا على الباب، فقالت:

- أهو... أكيد هوا ده...

نهض زين من على الفراش قائلاً:

- طيب أنا هافتح له... أقعدي أنت هنا..

ساعدته على النهوض وهي تقول:

- أيوة يا زين بس أنت لسة تعبان...

توجه ببطيء إلى الخارج متجاهلاً اعتراضها لتقع عيناه على عيسى ومايا وحولهما بعض الأوراق والأقلم يلهوان بهما في سعادة، فقال ضاحكًا:

- شكل حد سرق مكتبي...

ضحكت نور قائلة:

- كانوا عايزين يلعبوا وزهقانين فروحت جبت لهم شوية ورق فاضي وأقلام من المكتب..

تقاطعت أصابعه مع أصابعها وضغط على كفها برفق مما جعل رعدة خفيفة تسري بجسدها قاطعها طرق على الباب ارتفع ثانية... وقف زين عند الباب وأخبرها بحسم:

- أدخلي أنت جوة..

وعندما تأكد من تواريها خلف باب الغرفة فتح باب المنزل لـ...

- دكتور بدر...؟؟؟

***

" يا نهار مستو يانهار

سو نولو قـلقي يا نهار

دوليسين يومقه يا نهار

جـِلـِرأي تكه

أونـِسـّن يومقه

ديسه يا زهرة"

أخذت تقرأ الكلمات مرة بعد أخرى وهي تحتضن باقة الزهور الرائعة المنتقاة بعناية... أول باقة زهور تتلقاها في حياتها... وأول رسالة حب... هي حقًا لا تعرف معناها لكنها تشعر بالكلمات كما نصحها.

" – معناها إيه الكلمات دي...؟

- دي قصيدة نوبية هابقى أترجم لك معناها بعد كتب الكتاب...!"

قالها وهو يشملها بنظرات عينيه السوداوين بحنوٍ بالغ أنساها غربتها وساعات الانتظار التي ذبحتها... يعتذر بهدوءه المعهود وبسمته التي لا تتلاشى عن تأخير غير مقصود لأن الطريق كان مُغلق وأضطر للانتظار حتى تم فتحه ثم تيهه في شوارع النجع سائلاً هذا وذاك بعد فشله في الوصول إلى زين حتى تمكن أخيرًا من الوصول إلى بيت رحيل العربي مع أذان العشاء. لم تنس نظرات أمه المتشككة التي لانت شيئًا فشيئًا مع حديثها معها هي وأمها واستشعارها بتقارب كبير بين الأسرتين حتى إنها احتضنت زهرة في نهاية السهرة وهي تمدح ذوق ابنها وحُسن اختياره وترجو أن يتم الزواج في أقرب فرصة لترقص ملامح نجاة طربًا وهي لا تصدق كيف تيسر زواج ابنتها إلى هذا الحد وهي التي كانت تظن أن ثمة عمل سُفلي خبيث يمنع الزواج عن بنتها التي لم يعرفها أحد إلا وأحبها حقًا..!

- "إيه يا بنتي يا ست الهيمانة... هوووو... صباح الخير بالليل..."

هتفت تقى التي دخلت بصخب غرفة زهرة توقظها من ذلك العالم الوردي الذي وجدت نفسها فيه عقب جلوسها مع هاك الطبيب الساحر.

- إيه يا ست تقى... إيه دخلة المباحث دي..؟ الواحد يخبط الأول...

صاحت تقى:

- يا حاجة إيدي وجعتني من التخبيط قلقت عليكي وإذا بي أدخل ألاقيكي هيمانة مع الورد بتاع الدكتور وأنا برة صوتي أتنبح وإيدي وجعتني...

ضحكت زهرة وهي تقول:

- طب اقعدي اقعدي وقولي لي عايزة إيه...؟؟

قالت تقى وهي تجذبها من يدها:

- لااا يا هانم... مافيهاش قعدة... أمك باعتاني أشدك عالمطبخ عشان تطلَّعي العشا لحماتك وأخت جوزك.. الناس ضيوفنا عيب يقعدوا من غير عشا...

تسائلت زهرة بتردد:

- و... والدكتور بـ...

لكنها قطعت كلامها في حرج، فمصمصت تقى شفتيها بطريقة مسرحية ثم قالت:

- يا عيني عليكي يا بنتي... خايفة نسيبه من غير عشا من دلوقتي...؟ لا تقلقي يا جولييت... سي روميو راح مع ياسر يطمن على أخوكِ عشان عمك عتمان قال له أن اللي يتفق عليه مع زين هوا موافق عليه... ومادام زين شكر فيهم وكدة فهو بيثق في رأيه... فسي الدكتور المتسربع ماضيعش وقت ونط مع ياسر وهوا رايح لزين عشان نكتب الكتاب ونعلي الجواب ونفرح بقى شوية...

عضت زهرة على شفتها في حرج وتضرج وجهها بحمرة الخجل وهي تنظر أرضًا مبتسمة، لتجذبها تقى من ذراعها هاتفة:

- مش وقت كسوف خااالص... أمك ومرات عمك عتمان في المطبخ لوحدهم ولو اتأخرنا ثانية كمان مش بعيد يطلعوا يجرونا من شعرنا... ياللا بينا يا حاجة... لسة شوية على دور العروسة الخجولة اللي مابتعملش حاجة ده...

ضحكت زهرة على مزاح تقى وهي تشعر بسعادة تغمر قلبها رغم كونها سعادة منقوصة... فغياب أبيها وعدم رؤيته لها عروسًا ينتقص من تلك السعادة التي تحياها لأول مرة في حياتها... إلا أنها تدرك جيدًا أن هذه هي الحياة... لا تهب لأحد إكسير السعادة الصافي... إذ لابد من بعض المنغصات التي تشوبه ودورنا هو الشكر والامتنان للحظات السعادة وعيشها بكل حذافيرها... والصبر والرضى على المنغصات التي لابد وستشوب سعادتنا في درب الحياة حتى نصل إلى الحياة الكاملة التي نسعد فيها سعادة لا حزن بعدها أبدًا... حياتنا الأبدية التي نعمل لها بالشكر والصبر في حياتنا الفانية تلك...!

***

- "يعني أنت بقى مش جاي تكشف عليا ولا حاجة... الهدف الرئيسي هوا الحوار ده يا دكترة صح..؟"

قالها زين مازحًا عقب إنتهاء فحص الدكتور بدر له ثم مفاتحته في طلبه بخطبة سريعة والبدئ في إجراءت وثائق السفر لكي يتزوجا بعد شهر على أقصى تقدير قبل سفره إلى ألمانيا.

- لا والله يا زين... أنا أول ما عرفت باللي حصل صممت على الدكتور ياسر أجي معاه عشان أطمن عليك... وبما إني لاقيتك كويس جدًا ما شاء الله وبتتلقى رعاية فائقة... خلاص خلينا نشوف مصالحنا...

تعالت ضحكاتهم بينما قام ياسر قائلاً:

- هاقوم أنا أعمل الشاي وأسيبكم تتكلموا في التفاصيل المملة دي...

دلف ياسر إلى المطبخ متنحنحًا، بينما قال زين:

- والله يا دكتور بدر... أنا من سؤالي عليكم ومعاملتي معاك الفترة اللي فاتت دي كلها حسيت إنك إنسان على خلق ودين... بس لازم برضه أسأل العروسة عن مدى استعدادها لارتباط سريع كدة... وأخد رأي أمي.. وأنتوا مشرفينا اليومين دول يعني أكلمهم وأرد عليك...

قال بدر بسرعة:

- يا ريت نلبس شبكة قبل ما أرجع البلد يا باشمهندس... وأنا تحت أمركوا في أي حاجة...

ضحك زين قائلاً:

- على مهلك يا دكتور... أقول للجماعة وأشوف المناسب إيه وأبلغك إن شاء الله ومش هانختلف...

هنا جاء ياسر حاملاً صفحة عليها ثلاثة أكواب من الشاي قدمهم قائلاً:

- وأدي الشاي... يا رب تكونوا خلصتوا...

تعالت ضحكاتهم ثانية وتناول كل منهم كوبه يرتشف الشاي بابتسامة تأذن بسعادة قادمة. نهض زين عقب إنهاء شايه ممسكًا بحقيبة صغيرة ذهب بها إلى غرفة النوم هامسًا:

- نور خدي... تقى بعتت لك...

لكنه قطع حديثه عندما وجدها مستغرقة في النوم على الفراش حيث ما كان نائمًا هنا منذ قليل... تبتلعها منامته وتنكمش هي على نفسها بوضع طفولي محببن فتوجه إليها بهدوء وأخذ يزيح خصلاتها من على وجهها.. آلمه تورم وجنتها وجرح شفتها.. مرر أصابعه عليهما في وجع.. ثم مس جروحها بشفتيه يرجوها أن تبرأ سريعًا وألا تظل هكذا تذكره بعجزه وبطئه... أبعد وجهه قليلاً وهو يشهد ابتسامة حالمة ارتسمت على شفتيها وكأنها تربت على قلبه وتخبره أنه لم يكن بذاك التقاعس... وحكت جانب وجهها بباطن كفه كقطيطة رومية تتلمس الدفيء، فأغمض عينيه لحظات ينعم بتلك النعومة التي تلامس يده وتتسرب إلى وجدانه لتزيد من وقوعه بشراك إدمانها... تلك الناعمة الرقيقة... الدافئة الشهية... لن يدعها أبدًا تتسرب من بين يديه.. هي امرأته وكفى.

استدعى قوة خرافية ليجذب يده من مجال النعومة والدفيء ذاك لأنه قد يظل هنالك إلى الأبد... ناسيًا زمانه والمكان... متماديًا مستسلمًا لطوفان مشاعره التي تتفاقم شيئًا فشيئًا..! هزها برفق هامسًا:

- نور...

أخذت تتمطى في كسل ولازالت تلك الابتسامة مرتسمة على شفتيها قبل أن تفتح عينيها ليتلاشى كل شيء.. تتسع عيناها في دهشة وهي تراه قريبًا منها بصورة مبالغ فيها... فتراجعت متمتمة:

- فيه إيه يا زين...؟ الدكتور ياسر مشي واللا إيه...؟

ابتسم لذعرها الرقيق وتراجعها السريع ثم قال:

- لأ مامشيش... بس للأسف لازم نرجع معاهم...

قفزت من الفراش قائلة:

- تقى بعتت لي هدوم...؟

لكنها مع قفزتها سقط سروال منامته الواسع ولم تدرك ذلك إلا وهي تقف أمامه عارية الساقين تنسدل سترة المنامة إلى منصف فخذيها فقط...! لم يمنع عيناه من أن تلتهمانها ببريق شغوف وهو يتمتم بصوت أجش:

- لأ كدة بقى خلينا هنا.. إحنا نبعت معاهم العيال و...

لكنها كانت تشتعل خجلاً وحنقًا... فجذبت السروال وهي تسبه لترتديه في سرعة وهي تهتف به:

- بس بقى يا زين...

وكان يلزمه قوة هائلة لمقاومة خجلها الشهي وهتافها الرقيق بصوتها المبحوح ذاك فضلاً عن ساقيها الفاتنتين المرسومتين بعناية، فاستحضر قوته لينهض ويقول بصوتٍ أجش:

- الشنطة دي اختك باعتاها لك... جهزي نفسك بسرعة عشان نرجع معاهم لازم اكون في البيت مايصحش اسيبه وهما هناك...

قالت وهي تقريبًا تدفعه للخارج :

- آه طبعًا طبعًا هاجهز بسرعة وأجي...

وما هي إلا عدة دقائق حتى استقر الجميع بالسيارة الجيب المكشوفة.. ياسر على مقعد القيادة وبجواره بدر وفي المقعد الخلفي زين ونور مع مايا وعيسى. كان كل منهم غارقًا في عالمه الخاص... ياسر وقد ذكرته أجواء العرس واللحظات الأولى بحبيبه وزوجته والتوتر الذي لم يتلاشى بينهما منذ آخر مشادة... أخذ يفكر كيف تعود سمائهما لصفائها...؟ كيف يبدد تلك الغيوم..؟ وقرر أن يجعل عرس ابنة خاله بمثابة عرس آخر له ويختطف زوجته إلى أيامهما الأولى معًا مرة أخرى.

أما بدر فقد أخذ يتذكر كيف رفضت أمه بعنف الاستمرار في تلك الزيجة عقب ما سمعته عن سمعة واحدة من بنات تلك العائلة وندمه الشديد على عدم إخبارها بالأمر منذ البداية؛ ثم استغراقه ساعات يشرح لها الأمر وكيف أنه مدبر بفعل فاعل... يخبرها عن زين وأخلاقه وزوجته الصابرة المثابرة... يخبرها عن زهرة نفسها... كيف إنها فتاة خجولة هادئة رقيقة... ووعدها أنها إن رفضت بعد مقابلتهم فلن يعارضها..ز لكن من يقابل زهرته ويتحدث معها ولا يقع في غرامها..؟؟ لقد سلبت زهرة بنقائها وتواضعها وطيبتها وقربها من طباعهم لب أمه من الدقائق الأولى... رأي أمه كيف بدأت تلين ويخف عبوسها بل كيف سبقته إلى احتضان زهرته وتقبيلها والدعاء لهما..!

زين من ناحية أخرى كان ثمة بركان ثائر بوجدانه... ظمأ السنين ثار عليه وطالب بسقيا رحمة من تلك التي لا يبعد عنها سوى عدة إنشات... كل تفاصيلها تهلكه... كل يوم يغوص أكثر في محيط سحرها الذي قد لا يلحظه سوى من يقترب منها حد الذوبان..! لكنه لا يريد إثارة ذعرها... فإرث الوجع والإساءة في حياتها أكبر من قدرتها على التغافل... يجب أن يحيطها بحبه ورعايته كي يمحو هذا الإرث اللعين ويفتح أبواب قلبها على مصراعيه كي ترفع راياتها وتسلم له ينهل من عذب سحرها دون ارتواء.

أما نور فقد كانت تشعر بسعادة جمة... سعادة من أجل زهرة... تلك الفتاة الرقيقة التي تتمنى لها الخير كله... تتمنى لها خطبة وزفاف وتفاصيل مبهجة حُرمت هي منها يومًا، فتمنت رؤيتها بأعين كل الفتيات.. وكأنها ترى نفسها عروسًا بعيني كل عروس..! وكأنها تثبت بالدليل القاطع خطأ المثل القائل أن "فاقد الشيء لا يعطيه.." هي افتقدت الكثير ولازالت قادرة على العطاء أكثر بكثير مما فقدته. تنهدت في سرور وهي تتخيل تفاصيل زفاف زهرة وثوبها وكأنها تعدها بداخلها أنها ستجعل كل شيء رائعًا... ستجعل كل شيء مبهجًا... وكأنه عرسها الخاص.

***

وبعد سكوت عقب السؤال وإطراقٍ خجل والجملة الشهيرة "اللي إنت شايفه أعمله يا أخويا..."، كانت الموافقة على شراء الشبكة وارتدائها في جو مبهج جميل قبيل عودة الدكتور بدر وأمه وشقيقته إلى بلدهم مع تحديد موعد الزفاف بعد شهر.

عاد زين مع نور والطفلين وأمه وشقيقته إلى القاهرة وعادت تقى مع ياسر وعمتها وصغيرتها بدورهم. كان لقاء نور وزهرة مع تقى شبه يومي إما لشراء حاجيات العروس أو للإشراف على ثوبها الذي يتم تفصيله بعناية بقصة نصحتها بها نور تناسب جسدها وتبرز جماله أو يجتمعن للتخطيط لحفل الزفاف خاصة عقب تلبية دعوة أهل العريس والقيام بزيارة سريعة لبيته الضخم المطل على النيل حيث سيقام العرس.

لم يتبق سوى عشرة أيام على موعد الزفاف والكل يعمل بجد للوصول إلى التجهيزات الملائمة للعروس التي ستقضي أول أيام زواجها ببلد أوروبية باردة. في ذلك اليوم عادت زهرة إلى المنزل تحمل ثوب زفافها برهبة وهي لا تصدق جماله وإتقانه... دخلت زهرة ونور لـ... لتجدا زين وأمه يجلسان مع الدكتور بدر في ردهة منزله بادرها شقيقها عقب دخولها قائلاً:

- أهي صاحبة الشأن جات أهيه... نسألها قبل أي حاجة...

تسللت نور إلى الداخل وهي تحاول أن تسترق السمع، بينما شحب وجه زهرة وهي تتسائل بتوجس:

- فيه إيه...؟

نهض بدر بقامته الفارعة متوجهًا إليها مناولاً إياها بعضص الأوراق وهو يقول بسعادة:

- أوراقك كلها خلصت... أنا باقول نتجوز بعد يومين ونسافر بعدها بيومين أنا لاقيت تذاكر كويسة جدًا على ألمانيا في الميعاد ده... هااه قلتي إيه..؟

أزدردت زهرة لعابها وأخذتها الصدمة لتبدو تعابير البلاهة على وجهها وهي تقول:

- إ... إيه...؟؟

فعاجلتها أمها قائلة:

- الفستان وجبناه وشوارك وخلصناه... خلاص يا بتي توكلي على الله...

بينما قال حازمًا:

- يا أمي خليها تاخد قرارها بنفسها...

كانت تنظر إلى كل منهم بشيء من البلاهة وكأنها لا تعي ما يقولون وبداخلها تردد ما هذا الهراء..!

- زهرة... إحنا مش محتاجين حاجة أكتر من كدة... أنا عايزك حتى من غير شنطة هدومك... خليني أبدأ الدراسة من أولها... ماتتخيليش أنا فرحت أد إيه أما أوراقك خلصت وربنا سهلها كدة... أرجوكي وافقي...

عادت زهرة تتطلع إليه ببلاهة دون أن تدري لماذا يأبى صوتها أن يخرج معترضًا على هذا الهراء..! فقالت أمها بسرعة:

- يوه يا داكتور... خلاص ما الجواب باين من عنوانه أهوه.. مش بيقولوا أن السكوت علامة الرضا..؟

أعقبت قولها بزغرودة أطلقتها لتلجم بها أي حرف اعتراض قد يخرج من حلق ابنتها، فضم بدر قبضتيه وابتسم بسعادة بالغة وهو يقول:

- تمام.... أنا هاروح ابلغهم في البلد بالخبر السعيد ده... أشوفك بعد بكرة الصبح...

قالها وهو يخرج متوجهًا إلى الباب فرفعت زهرة سبابتها وهي تتمتم:

- بس.....

لكنه كان قد خرج بالفعل، فهرعت إليها أمها تقبلها ودموعها تنزل على وجنتيها وهي تقول:

- مبروك يا بتي مبروك يا حبيبتي... يا رب يتمم لك بخير...

تبادلت زهرة النظرات مع زين الذي ابتسم وعيناه تخبرانها بوضوح أنها "أتدبست" خلاص ولا مجال للاعتراض.. لكن بداخلها تتذكر ابتسامة بدر الحانية فتهمس لنفسها أنها أحلى "تدبيسة"... أن تكون في كنف رجل كذاك لهو أمر لا تندم عليه أبدًا خاصة بعد أخذها بأسباب الاستخارة والاستشارة... عزز شعورها ذاك رسالته القصيرة التي استقبلتها على جوالها قبيل نومها...

"تصبحين على حب يا زهرة قلبي

تصبحين وأنتِ بين ذراعي أستأثر وحدي بعبقك

تصبحين وأنتِ زوجة عمري

هائنذا أرقب xxxxب الساعة...

أعد الدقائق والساعات التي تفصلك عني

أود لو اختصرتهم وأسكنتك بقلبي حالاً

لكن...صبرًا جميلاً...

والله المستعان على دقائق بعدك.."

***

- يعني إيه يا نور...؟

- يعني مش هالبس فستان... أنا كدة كويسة أوي..

- يعني تبقي مختارة لي أجمل تصميم لفستان ومش مختارة حتى لنفسك حاجة..؟

قالتها زهرة معاتبة، لترد نور:

- أنت العروسة... يعني أهم واحدة النهاردة...

قالت تقى وهي ترفع أحد حاجبيها:

- كنت عارفة أنك هاتعملي كدة... عشان كدة جبت لك فستان معايا...

عقدت نور حاجبيها هاتفة:

- فستان إيه يا تقى بس...؟

إلا أن تقى دفعتها إلى غرفتها قائلة:

- فستان تحفة... هتلاقيه على السرير في غلافه ياللا ألبسيه بسرعة...

حاولت نور التملص منها إلا أن تقى هتفت بها:

- يا بنتي إذا كنت أنا لابسة فستان مع كرشي ده.. يعني ماتلبسيش أنتِ ليه..؟

حاولت نور الاعتراض، إلا أن تقى دفعتها إلى الغرفة وأغلقت الباب آمرة من خلفه:

- تلبسيه وتخرجي في غضون دقيقتين وإلا هانيجي نلبسهولك بنفسنا...

زفرت نور بغضب وهي تمسك بذلك الثوب تخرجه من غلافه الأنيق و... تتسع عيناها في ذهول...

إنه ثوب غاية في الرقة والأناقة... يماثل ذوقها جدًا... ذو لون وردي شاحب... صدره مشغول بالكروشيه والتل ومبطن حتى قبيل الكتفين... ظهره العلوي مشغول بالكروشيه صاعدًا من عند الحزام حتى الكتفين على شكل سبعة مع خلفية من التل الوردي الشاحب الجذاب. الثوب ينسدل من أسفل الصدر بعدة إنشات كتنورة واسعة من الشيفون الراقي االمبطن بثنيات طولية بسيطة من الأعلى.

ألجمها جمال الثوب مع إنها قررت أنها لا يمكن أن ترتديه بالعرس، إلا أنها لم تقاوم سحر تجربته عليها.. ارتدته لتجده ملائمًا لها تمامًا... كيف عرفت تقى مقاسها بتلك الدقة...؟؟!!

هنا دخلت تقى هاتفة:

- إنتهى الوقت وشكلك كدة...

لكنها قطعت حديثها بشهقة ثم قالت:

- ما شاء الله لا قوة إلا بالله... إيه الفستان الجميل ده...

لكن نور قالت بسرعة:

- خلاص يا تقى أنا هاقلعه مش هاينفع...

لكن تقى توجهت إلى سحاب الثوب لتحكم إغلاقه قائلة:

- أنت لازم تلبسيه يا نور... تعالي بس في الجنينة كدة شوفيه في نور الشمس عامل إزاي...

نظرت إليها نور بذهول قائلة:

- جنينة إيه يا تقى أنت جرى لعقلك حاجة..؟

جذبتها تقى قائلة:

- تعالي بس...

وفي حديقة المنزل وضعت زهرة مرآة طولية... لتقف نور أمامها و... تتسع ابتسامتها في إشراق... ما هذا السحر...؟ كيف لثوب كهذا أن يهبها تلك السعادة هي التي لم تكن من عاشقي الموضة والثياب البراقة...!!

وفي ركنٍ خفي من إحدى شرفات المنزل... أخذ يرقب ابتسامتها الخلابة... يرقبها وهي تدور حول نفسها بسعادة تزيح شعرها لتتأمل تصميم الثوب عليها... تمسك طرفي الثوب الطويل كالأميرات... تتسائل:

- عرفتي مقاسي إزاي يا تقى...؟

ويود لو يجيبها أنه يعرف عن ظهر قلب أـبعاد جسدها... وتوقع قولها:

- لكن يا تقى ده مكشوف شوية مش هاينفع فعلاً...

لتتقدم منها شقيقتها... تضع حول كتفيها وشاحًا من نفس لون ونوع الثوب قائلة:

- عارفينك يا نور... أتفضلي يا ستي... إيه رأيك بقى...؟

أحاط الوشاح ظهرها وكتفيها وسحرها الثوب لتذعن في النهاية:

- خلاص... هالبسه..

***

صخب... مرح... غناء وبهجة... سعادة تتقافز من أعين زهرة وأمها وشقيقتها... حيث رحن يتمايلن مع دقات الدف والأناشيد الفلكلورية النوبية التي رغم عدم فهمهن لأغلب كلماتها إلا أنها كانت تبعث على البهجة مع تحلق شقيقات بدر الأربعة حولهن يتمايلن في سعادة مع صوت الدفوف القادم من باحة المنزل عبر مكبرات الصوت وتحول الإنشاد للمواويل الواحاتية فتزايد حماس فتيات الواحات وأخذت زوجة بدر مع زهوة يبدين مواهبهن في الرقص الواحاتي بينما كانت تقى تقف بقامتها الفارعة وبطنها المنتفخ تحاول مجاراتهن.

كانت نور تجلس في ركنٍ قصي تصفق بشرود وقلبها يرقص طربًا لسعادة زهرة... لتلك الثقة التي تنبع من عينيها وكأنها أميرة من أميرات ألف ليلة وليلة بثوبها الأبيض الناعم المنفوش.

شعرت نور بمن يجذب يدها، فرفعت عينيها لترى بياضًا وابتسامة صافية مع غمازتين فاتنتين... فهمت نور ما ترمي إليه زهرة فهزت رأسها نفيًا قائلة بلهجة قاطعة:

- مش هاينفع... مش هاعرف...

لتجيب زهرة..

- مين بيعرف... وبعدين أنتِ وعدتيني... دي كانت نبؤتك وبتتحقق.. لازم تكملي جميلك للآخر...

لم تجد نور مهربًا من الإذعان ونهضت لكي تسعد زهرة... كي لا تسمح بذرة تعاسة من التسلل إليها. وعلى نغمات الدف المبعثة من مكبر الصوت وذلك المنشد الذي يشدو بأغنية صعيدية شهيرة.. تمايلت نور دون ابتذال... أمسكت بيدي زهرة ودارتا معًا في مجرة فرحة خاصة بهما... بسر زهرة الصغير الذي أودعته قلب نور الكبير وكان تحقق المحال الذي أنكرته زهرة وتنبأت به نور هو خلاصة فرحتهما.

لم تلحظ نور تراجع النساء وإسدالهن حجبهن... بينما كانت تمسك بيدي زهرة تدور بها... تشعرها أنها أميرة... لم تلحظ تلك التي أشارت إليها لتهمس لها نجاة بكلمات معدودات فتصمت... وتترك نور يد زهرة لتدور حول نفسها ويتطاير ثوبها حولها مع الوشاح على كتفيها... تدور كفراشة تبحث عن زهرة لتحط عليها بعد طول طيران. تدور و... تتوقف... ترفع عينيها... إنه هو...

"ياسلام منك يا سلام خلتيني معرفش أنام... دورتينى ورا الايام.."

هو بحلته الأنيقة وابتسامته الجانبية...

"عاوزك تكونى منتسمه

بوقت اللحظه الحاسمه

وإن سالوكى قولى نصيب وقسمه

هنجرح فى بعضينا ليه.."

هو بنظراته العجيبة التي يشملها بها مؤخرًا...

"آه يا نارى منك يا نارى

خلتينى أعيش بأفكارى

شربت البحر ولا طفى نارى"

نظرت حولها لتجد النساء جميعهن قد أرتدين حجابهن ماعاداها هي وزهرة طبعًا... تراجعت مفسحة له الطريق ليتقدم بدفتر عقد الزواج إلى شقيقته... يقبل رأسها ويطلب منها التوقيع فهو أحد شاهدي العقد وعمها وليها. ارتعدت يد زهرة وهي تمسك القلم وتخط صك ميثاقها الغليظ... الذي تمنته كثيرًا ورهبته أكثر... لكنها وقعت وطبعت بصمة إبهامها لتسمح برجل أراد قربها بشدة أن يشاركها أيامها القادمة.

***

- ماما... عايز أروح ألعب مع الأولاد اللي تحت دول...

- لأ يا عيسى...

- مامي... أنا عايزة تشوكليت تاني...

- لأ يا مايا كفاية تشوكليت عشان أسنانك يا حبيبتي...

- ماما... طب أروح ألعب مع حسن وأصحابه في الأوضة اللي جنبنا..

- قلت لأ يا عيسى... خلاص أنتوا بدلتوا هدومكوا والوقت أتأخر جدًا فيه نوم...

لكنهما لم ينما بل أخذا يتشاجرا حول من لعب أكثر اليوم بينما كانت نور تقف أمام المرآة تحاول خلع ثوبها.

أخذت ترفع يدها اليمنى تارة واليسرى أخرى علَّها تصل إلى ذلك السحاب اللعين متناهي الصغر... بينما كان شعرها المفرود منسدلاً حول وجهها في محاولة لإخلاء ساحة ظهرها منه كي لا يعيقها في الوصول إلى ذلك السحَّاب...!!

كانت مستغرقة في الأمر تمامًا وهي تزفر بعصبية تراكمت عليها من إرهاق وعدم نوم لثمان وأربعين ساعة متواصلين مما جعل أعصابها كوترٍ مشدود في انتظار لحظة كتلك لتنفجر... لم تلحظ الهدوء المفاجيء لضوضاء الطفلين حولها... لم تلحظ خطوات الأقدام الواثقة التي تقترب منها... لم تلحظ أي شيء حتى....

- "محتاجة مساعدة....؟؟"

انتفض قلبها في صدمة وهي تسمع صوته الذي تحفظه عن ظهر قلب.... رفعت خصلات شعرها من على وجهها بسرعة وهي تتأمل إنعكاس صورتهما في المرآة بعينين متسعتين وانتقلت الرجفة من قلبها إلى جسدها عندما وضع كفيه على ذراعيها اللذين يكشفهما ثوبها بسخاء.

- "ماكنتش أعرف أن ضهر الفستان عامل كدة... كويس أن شعرك كان مغطيه وإلا كان هايبقى ليا تصرف تاني..."

ازداد اتساع عينيها وهي تتسائل عن أي شيء يتحدث وما تلك الجرأة التي انتابته وجعلته يمرر كفيه علي ذراعيها ببطيءٍ مدروس نزولاً ثم صعودًا نحو ظهرها وهو ينحني إلى أذنها هامسًا:

- بعد الفستان والميكب ده... بعد ما شوفتك النهاردة.... بعد اللي حصل من كام يوم....هاين عليا أخبيكي في قلبي وأقفل عليكي وماخليش حد يشوفك أبدًا.... أنا كنت عارف من زمان إني من غيرك ولا حاجة... وأتأكدت من كدة الفترة اللي فاتت دي بكل طريقة ممكنة...

وكانت لسعة الهواء التي تسللت إلى بشرة ظهرها هي التي أفاقتها وجعلتها تدرك أن سحاب ثوبها مفتوح أمام ناظريه الآن فابتعدت بسرعة وواجهته ليخرج صوتها أخيرًا فتسأله بغضب:

- أنت إيه اللي جابك هنا؟ بتعمل إيه في أوضتي؟؟؟؟

رفع أحد حاجبيه قائلاً بمكر:

- قصدك أوضتنا..؟

نظرت حولها ثم تسائلت:

- فين الأولاد...؟

- عند أمي... الجدات الليلة دي متكفلين بالأحفاد...

قالها ثم اقترب مردفًا بهمس:

- الكل عايز الليلة يبدأ شهر عسل جديد...

زفرت نور في غضب ثم قالت وهي تجذب عبائة الصلاة الخاصة بها:

- دي الناس الطبيعية...

هم أن يرد عليها... لكنه تراجع إلى الفراش في ألم متأوهًا، فسألته نور بلهفة وهي تهرع نحوه:

- إيه اللي حصل...؟ حاسس بإيه..؟

أغمض عينيه بشدة وهو يتشبث بالفراش قائلاً بألم:

- نور... ساعديني أقعد... أنا مش حاسس برجلي...!

***

Just Faith 18-12-17 01:57 PM

- 7 –

"يا لذاك النهار البهيّ الذي

يحاكي بياض اللبن الحليب

يا لذاك اليوم الذي فـيه أحـببتها

ما يـزال عالـقـاً بذاكـرتي

الـيـوم الذي أبصرت فـيه

زهرة... تلك السميراء"

أضواء الشموع... ذلك العشاء الفاخر الغني الذي لم تستطع أن تمسه بعد أن شعرت بالامتلاء... الامتلاء حتى الفيض من عذب حديث رجلٍ نظراته العاشقة إليها تكفيها... لكنه لم يكتف بتلك النظرات التي تزلزل كيانها بل ها هو ذا يدغدغ أحاسيسها بكلمات غزل لم تظن يومًا أنها قد تسمعها من رجلٍ ما..! وكانت الغلبة لخجلها الفطري ووجها المشتعل... فخفضت رأسها أرضًا هربًا من كلماته... هربًا من نظراته.. هربًا من ذلك الجو المشحون بطاقات فاقت خيالها بمراحل فلم تتحمل.

- "مش كنتِ عايزة تعرفي الترجمة..؟"

- .....!

- ترجمة الشعر اللي كتبتهولك في الورقة مع الورد...

وكان ردها همهمة تفيد تذكرها دون أن ترفع رأسها، فمد يده أسفل ذقنها يرفعه برقة وهو يقول:

- ليه عايزة تحرميني منهم...؟

اتسعت عيناها في غير فهم لتغوص نظراته الهائمة بعينيها موضحًا:

- عنيكي يا زهرة... عنيكي فيهم دفا عجيب... عنيكي وطني اللي كنت بادور عليه من زمن...

تنحنحت في خجل وهي تحاول أن تخرج صوتها العاصي لترد على سيل كلماته العاشقة ولو بكلمة لكنها لم تستطع.

- "بَحبك... بَحبك يا زهرة... بَحبك يا أحلى حاجة في حياتي..."

توقع أن تبادله الاعتراف بالحب بعد أخرج قلبه ليضعه بمحراب عينيها... توقع حتى أن تبتسم بخجلها المعهود... توقع أي ردة فعل عروس يعترف لها زوجها لأول مرة بمشاعرٍ خبأها لها منذ سنوات... لكنه لم يتوقع أبدًا انعقاد حاجبيها وزمة شفتيها المتوترة تلك، فأمسك بيديها متسائلاً في قلق:

- فيه إيه يا زهرة...؟ فيه حاجة ضايقتك في كلامي يا حبيبتي...؟؟

زفرت توترها في تنهيدة حارة قبل أن تقول:

- خايفة... خايفة لتكتشف متأخر إنك اتسرعت في مشاعرك... خايفة لتندم وتقول بعدين إن ارتباطنا جه سريع مالحقتش تتأكد فيه من صدق إحساسك..

كانت تفرك كفيها بتوتر، فاحتواهما بين كفيه الكبيرين وهمس:

- زهرة... هل ممكن أنتِ تندمي في يوم إنك ارتبطتي بيا..؟

- لأ طبعًا...

جاء جوابها سريعًا عفويًا دون تفكير أعاد لبسمته اتساعها وهو يقترب منها برأسه أكثر هامسًا:

- يبقى لازم تثقي في مشاعري ناحيتك زي ما أنت واثقة في مشاعرك ناحيتي...

رفعت عينيها إليه بتردد وهي تتمتم:

- بس يعني.. أنت راجل مش ناقصك حاجة تقريبًا... دكتور.. وسيم.. متدين... من عيلة كبيرة... مسافر ألمانيا تكمل دراستك.. ليه مافكرتش تتجوز بنت أوروبية مسلمة مثلاً أما تسافر... ليه مافكرتش في زميلة ليك دكتورة أو....

لكن ملامسة إصبعيه لشفتيها بعثر كلماتها بجوفها لتبتلعهم مع ريقها وهي تنظر إليه في توتر وهو يقول:

- وأنتِ إيه...؟ أنتِ نجمة في السما ياما حلمت بيها... أنتِ الأنثى كما يجب أن تكون... أنتِ في نظري أميرة... لأ... أنتِ ملكة نساء الكون... تلزمني في إيه بنت أوروبية ماتملكش دفا عيونك وحنانهم... تلزمني في إيه أستاذة أو دكتورة مش شايف فيها أم ولادي زي ما أنا شايف فيكي... أنا إنسان كبر وسط لمة وهيصة وعيلة... محتاج أوي ألاقي إنسانة حارة المشاعر تدفيني في برد الغربة.. محتاج لولادي أم في حنانك وإخلاصك وقيمك ودينك وعشقك للأطفال اللي شوفته وباشوفه في تعاملك مع ولاد اخواتك...

بلغ توترها أقصاه.. عانق خجلها سقف التحمل... فلاذت بالابتعاد هربًا نحو الشرفة علَّ بعض نسمات الهواء تخفف من حرارة وجنتيها... أحقًا هي نجمة بالسماء...؟ أحقًا هي ملكة النساء..؟ أتعايش ذلك الإحساس حقًا أم هو حلمٌ ورديٌ يراودها ككل مساء..؟؟!!

- "ده غير إني اتأكدت النهاردة من وجهة نظري اللي حسيتها أما شوفتك أكتر من مرة رغم حجابك.."

لكنه لم يكن ليسمح لها بالهرب... شعرت بذراعيه القويتين تحيطين بخصرها من الخلف... رأسه تميل لتجاور رأسها وشفتيه تهمس لأذنيها:

- الفستان ده أكد لي أد إيه أنتِ جميلة... عقلي تاه من نظرة... مش مصدق بجد أن الجمال ده كله ليا أنا بس...

قالها مُذيبًا أوصالها ليكمل هجومه على وجنتها وجانب عنقها بقبلة عنقودية لم تنتهي سوى بابتعادها المتعثر وجسدها ينتفض من حضورٍ طاغٍ لرجل يعرف جيدًا كيف يحول الحجر إلى عجينٍ لين سهل التشكل... ففرت بما تبقى لديها من صلابة واهية بدعامة من خجلٍ لا حدود له..!

ابتسم وهو يخلع سترة حُلته وربطة عنقه وعاوده مرحه المدروس كي لا يخيفها.

- بس ماشوفتينيش وأنا بأحطب مع زين أخوكي...

قالها بزهو فرفعت عينيها نحوه بتساؤل ليقلب شفتيه بطريقة كوميدية مردفًا:

- هزمني من أول جولة... وأنا اللي باقول إن الصعايدة يغلبوا العرب في التحطيب... قهرني أخوكي... مش يجاملني ويخليني أكسب لأني العريس وكدة... لأ... كان بيحطب بقلب أوي لدرجة أنه وقع عصايتي من أول ضربتين...

ونجحت خطته في اختطاف ابتسامة واسعة من شفتيها، ثم قالت وهي ترفع شعرها من على جبينها:

- زين أخويا بيحطب من صغره... ومايعرفش يجامل في الكلام أو اللعب حتى... واخد كل أموره جد...

- آه والله... كبسني قدام الناس... بس قلت له أنا هاخلص حقي بطريقتي...

قالها وهو يشمر أكمام قميصه فعاودتها نظرة التوتر المتسائلة لتتسع ابتسامته مكملاً:

- تعالي بقى أما نشوف مين فينا اللي هايخلص العشا ده الأول...

تأملته بذهول ليتساءل برفعة حاجب:

- أوعي تكوني اتعشيتي.. أنا مارضيتش أكل مع الناس عشان أغلبك زي ما أخوكي غلبني...

ضحكت قائلة:

- لأ في دي اعتبر إنك كسبت لأني فعلاً مش...

- أبدًا أبدًا ... لازم السباق يكون نزيه من غير اعتبارات... ياللا.. تعالي باسم الله...

قالها وهو يشير إلى المقعد المجاور له، لكنها لم تتحرك وأخذت تفكر كيف تخبره أن توترها لا يترك مجال للقيمة واحدة تنزل جوفها؛ إلا أنه قال محذرًا:

- هاتيجي واللا تحبي أجي أجيبك أنا...؟

سارعت إلى المقعد المجاور قائلة:

- لأ... جـ... جيت أهوه...

وأخذها إلى أحاديث شتى حتى نست توترها بل صارت تضحك من قلبها على ذكريات طفولته ومراهقته التي أخذ يقصها عليها... ومع حكاياته... كان يطعمها بيده لتتناول منه الطعام دون حرج حيث كانت مندمجة بالحديث والضحك على مآثره... وعندما لطخ شفتيها شيء من الطعام... لم يجد سوى شفتيه لتكونا محارمها؛ وكانت تلك حجته الواهية كي يأخذها إلى عالمه غارقًا بدفئها واعدًا إياها بودٍ لا تشوبه تقلبات الحياة وأن يتقي فيها من جمعهما دون موعد.

******

وهي امرأته.. حبيبته... بجنونها وعقلها.. صياحها وسكونها... قوتها وضعفها... مزاياها وعيوبها... حتى مع تورم كفيها وقدميها وانتفاخ بطنها...!!

- وحشتيني...

وهو يحاول أن يرأب صدع علاقتهما...

- آااااه... تعبانة أوي يا ياسر...

ضم قبضتيه في غيظ وهو يتمتم:

- باقولك وحشتيني يا توتِّي...

لكنها تجلس على طرف الفراش تنزع حذائيها متمتمة:

- الشوز دي كانت عذاب...

هتف بها:

- ما أنت اللي دماغك ناشفة... قلت لك بلاش كعب عالي أو شوز كلاسيك وأنت حامل....

رفعت رأسها إليه قائلة:

- هوا ده كعب يا ياسر... هوا ده كعب...؟ ده مايتعداش الـ 2 سانتي... بس بقى يمكن من الوقفة والرقص...

جلس جوارها ممسكًا بيدها متسائلاً بعبث:

- إيه ده... أنت رقصتي...؟!!

ضحكت قائلة:

- آه طبعًا... يعني أنا خلصت الشهر الخامس ومافيش خطر...

اقترب أكثر هامسًا:

- طيب مادام مافيش خطر ماتفرجيني كدة عشان أعرف أقيم إذا كان السبب الشوز واللا الرقص...

دفعته قائلة بإرهاق:

- والله أنت رايق يا ياسر... أنا كل اللي عايزاه دلوقتي أغير هدومي وأنااام...

- ليه... ليه تغيري هدومك...؟ ما الفستان ده حلو أوي كدة...

صاحت بعصبية:

- حلو إيه... ده ضيق ومضايقني وقماشته زودت لي الحساسية... أنت عارف إن الحمل بيجي معايا بحساسية... هات لي يا ياسر الجلابية القطن بتاعة عمتي كانت أديتهاني وأنا حامل في حبيبة... واسعة وبتريحني... هتلاقيها في الشنطة...

رفع حاجبه في إحباط ممتعض وهو يقول:

- الجلابية القطن بتاعة أمي...؟؟؟ مش لاقية غيرها الليلة دي..؟

تمددت على الفراش قائلة:

- آه يا ياسر دي أكتر حاجة مريحة هاتهالي الله يخليك أحسن حاسة بشد عضلي في بطني ومش قادرة أتحرك...

قام وهو يتمتم بسخط:

- الجلابية القطن بتاعة أمي يا تقى...؟ بعد ما سربت البنت وأمي تقولي لي الجلابية القطن بتاعة أمي.. أوووف..!!

لكنه لم يتركها حتى بدلت ملابسها وقام بإعطائها باسطًا للعضلات كي تتمكن من النوم براحة... فاندست بين ذراعيه وراحت في سُبات عميق مرهق ليبتسم هو في سعادة حتى مع صوت أنفاسها المرتفع قليلاً من التعب ويطبع على جبينها قبلة حارة هامسًا:

- بَحبك يا توتِّي... بَحبك حتى وأنت لابسة الجلابية القطن بتاعة أمي...!!!

******

ها هو يضمها بين ذراعيه... وكأنه طفلٌ تائه وجد أمه أخيرًا... وكأنه وجد منبع لإرواء حنينه في حضنها...

ها هو يمرر أصابعه بين خصلات شعرها الداكن... وكأنه مَلَك الليل في يمناه...

ها هو يقبل جبينها في حرارة ويزيد من ضمها إلى صدره هامسًا:

"مش هاسمح لك تبعدي عني أبدًا... مش هاسمح لك تعاندي... هاعتذر لك بكل وسيلة عن كل غلط عملته في حقك... لأني...."

صمت طويلاً متأملاً ملامحها الدقيقة الهادئة ثم أردف هامسًا:

- بَحبك... أيوة... بَحبك يا نور... وأنتِ كمان بتحبيني رغم مكابرتك..

آهٍ لو تطلق سراح مقلتيها الساحرتين... آهٍ لو تصغي إلى حديثه...! أتراها مصغية لحديث دقات قلبه الذي تسند رأسها إليه...؟ أتراه يغزو أحلامها قسرًا ويخبرها عن كل شيء...؟ عن حنينه واشتياقه... عن سقوطه في العدم اللامتناهي إذا تركته يومًا...؟ بل ربما هنالك في أرض الأحلام حيث يخلعا كبريائهما قبيل الدخول يضمها إليه ويحتوي شفتيها في قبلة ظمئى...! يأخذها إليه دون خوف أو كبرياءٍ زائف أو عناد لمجرد إثبات وجهة نظر...!

ابتسم وهو يسترجع إمارات القلق التي بدت على وجهها بمجرد أن أخبرها رجليه تتهاويا في بئر العجز لتسرع إليه وتكون له سندًا... يتعكز ذراعها ويجلس على الفراش... ترفع رجليه بسرعة على الفراش... تؤنبه على الوقوف الطويل والمجهود... تذهب لتأتي بدوائه وبعض العلاجات الموضعية... تدس الأقراص في فمه وتربض على الفراش كقطة تدلك قدميه... وهو غير مصدق أن تلك الحورية ذات الثوب الوردي تجلس عند قدميه هو تحاول إعادة الحياة إليهما حتى ذهب عنه التنميل المؤقت وعادت قدميه إلى الحركة لتلتفت هي إليه لتستمر في توبيخه... ليدافع عن موقفه ويخبرها أنه فرح شقيقته الأثيرة وكان يجب أن يغطي غياب والده. لتزفر هي بتأثر وتحكي له عن شقيقته وبهجتها التي كانت بالفعل ينقصها وجود أبيها لكنهم حاولوا قدر الإمكان تسليتها وإلهائها كي لا يتعكر عليها صفو ليلة زفافها. لم يخف عليه مجاهدتها لكي تبقي عينيها مفتوحتين... فاعتدل في فراشه وأمسك يدها متسائلاً بقلق:

- نور مالك... شكلك تعبانة...

تثائبت وهي تقول بإرهاق ناعس:

- مش تعب ولا حاجة... أنا بس مانمتش من إمبارح... كنت باخلص التجهيزات والاستعدادات للفرح المفاجئ ده...

وابتسم ابتسامته الحلوة المشرقة التي شملت وجهه وهو يجذب كفها طابعًا عليه قبلة رقيقة ثم قال:

- شكرًا يا نور على كل اللي عملتيه مع زهرة...

كان النعاس يتخطفها وهي تتمتم:

- زهرة دي أخـ... أختي... وده اللي لا... زم يحصل...

وبين النوم واليقظة كان قد جذبها ليضع رأسها على صدره ويمسد شعرها هامسًا:

- نامي يا حبيبتي... ارتاحي شوية...

كان سلطان النعاس بالفعل قد فرض سيطرته على وعيها وجفنيها لتستلم إلى خدره اللذيذ المختلط برائحة عطر زين الساحرة المهدئة وصوته القوي الهامس الذي تغلغل في أحلامها متمتًا بتهويدة قلب..

"أحبك...

أيا امرأة هي عطر العطور

ومسك الختام"

******

وكأنها خلعت عنها رداء تحفظها وخوفها وسارت إلى عالم الحلم حافية القدمين عارية في فقاعة دافئة تحوم بمدن ذكرياتها تغلفها رائحة عطر تبعث بجسدها خدرٍ شهي... شعور عام بالأمان يهطل على روحها المشققة بالحرمان. طائفة في رحلة وداع لذاكرة الألم وهي تشهد ميلاد شمس جديدة تقبل أقصى قمم أمانيها وتعدها بغيث مزهر.

تمطت كقطة صغيرة تحاول نفض عالم الحلم عن كيانها والتسربل بالواقعية ودرع اللامبالاة لمواجهة الواقع.... لكن... لكنها تساءلت... ألازالت بالحلم...؟ ألازالت تطفو بتلك الفقاعة الدافئة...!! كيف اختلط الواقع بالحلم إلى هذه الدرجة...؟ على صدر من تغفو باطمئنان هكذا...؟ رفعت عينيها من على صدره المشدود ذو العضلات القوية لتقع عيناها على وجهه الغافي ببهاءٍ ساطع... ذراعه اليمنى تحيط بها واليسرى تمسك بكفيها.

أحست روحها مسرحًا للأحاسيس المتناقضة. فبقدر ما تعاظم إحساسها بالغضب والحنق عليه... بقدر ما استعذبت شعور خفي بالأمان والراحة يدفعها إلى أن تريح رأسها المتعب منذ ألف عام على صدره الذي صار لها كواحة أمان. لكن... تغلب غضبها وحنقها على ذلك الشعور الدخيل وهي تنهض بحدة نافضة عنها ذراعيه ليسقط كتف فستانها الذي كان ظهره مفتوحًا، فتعيد ثوبها مكانه بحرج بالغ وهي تواجه زين الذي بدأ يفتح عينيه بنظرات حارقة متسائلة بغضب:

- ممكن أفهم إيه ده...؟ إيه اللي حصل أمبارح بالظبط...؟؟ إيه اللي فتح الفستان كدة...؟؟

ابتسم بزاوية فمه الأيسر وهو يجيبها بتهكم:

- إيه ده... ده واحدة ونايمة في حضن جوزها... إيه اللي حصل أمبارح بالظبط... مافيش... أنتِ جيتي على السرير جنبي ونمتي على صدري... إيه اللي فتح الفستان كدة... هايكون مين يعني... أنا طبعًا...

شهقت بحدة وهي تضع يدها على فمها وتطالعه بصدمة عارمة دون أن تقوى سوى على التمتمة:

- لأ... إستحالة... إستحالة يكون ده حصل... أنت بتكذب...

كانت قد أحاطت نفسها بأغطية الفراش تمامًا وهي تحاول تذكر ما حدث ثم...

- ثانية واحدة... أنت كنت رجلك واجعاك و...

- أديكي قولتيها يعني راجل مريض مافيش قلق منه... ماحصلش اللي في بالك ماتخافيش...

قذفت إليه الوسادة بعنف وهي تنهض مبتعدة هاتفة:

- هوا إيه يعني اللي في بالي... بلاش قلة أدب...

علت ضحكاته وهو يقول:

- أنا ما قولتش كلمة قليلة الأدب لحد دلوقتي... أنت اللي بالك بيروح لحاجات غريبة...

صرخت بغيظ وهي ترتدي عباءة صلاتها وتجمع ملابسها في حقيبة صغيرة متوجهة نحو باب الغرفة ليناديها ضاحكًا:

- على فين البلد دي أحسن من غيرها...

قذفت نحوه بوسادة أخرى وهي تقول بغيظ:

- أنا مش مضطرة أستنى اسمع كلامك المستفز ده..

قالتها ثم خرجت وجسدها يغلي بحنق حتى دخلت دورة المياه وأغلقت بابها عليها جيدًا... وقفت أمام المرآة تجتر التغير المهول الذي حدث لزين... ورغمًا عنها ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها وهي تتذكر محاولاته الدؤوبة مؤخرًا للتقرب منها بطريقة تجعلها تتذكر حقيقة أنها أنثى تحتاج لرجل تذوب في أحضانه... رغم تجالها لتلك الحقيقة طويلاً... رغم ادعائها بقتل ذلك الإحساس ودفنه بأعماقها... لكنه أتى بكل كلمة وحركة من شأنها تدب الحياة في الكثير من الأحاسيس المنسية.

اغتسلت وتوضأت وبدلت ملابسها ثم خرجت لتصطدم بـ...

- تقى...؟؟؟!!!

تأملت شقيقتها التي كانت ترتدي ثوب واسع ذو خلفية سوداء ومنقوش بورود خضراء وبقدميها خف بلاستيكي وعلى رأسها وضعت حجابها كيفما أتفق.

- صباح الخير يا نور... تعرفي هايحطو الفطار امتى..؟ أنا جعانة أوي...

ضحكت نور قائلة:

- إيه المنظر ده...؟

قالت تقى بملل:

- هوا أنت وياسر...!! يا بنتي الفستان بتاع امبارح زود لي الحساسية والشوز زودت لي ورم رجلي فمش طايقة ألبس حاجة إلا ده...

ضحكت نور ثانية وهي تقول:

- طيب يا بنتي شوفي حاجة واسعة شوية بس شيك يعني... مش كدة...

ضيقت تقى عينيها وهي تقول:

- أمممم... سيبك مني... وقولي لي إيه اللي اتغير فيكي من إمبارح...؟

ضحكت نور بتوتر وتوردت وجنتاها بحمرة الخجل وهي تقول:

- هايكون إيه اللي حصل يعني يا تقى...! عادي... مافيش...

رفعت تقى أحد حاجبيها وهي تقول:

- لأ وكسوف وخدود بتحمر... هيا إمبارح كانت دخلة مين بالظبط...؟؟

دفعتها نور بملل وهي تقول:

- والله أنتِ فايقة يا تقى... حاسبي خليني أروح أشوف الولاد فين... ماشوفتهمش من إمبارح...

شهقت تقى هاتفة بهمس:

- كمااااان الولاد ماكانوش معاكم... خلاص أنا كدة فهمت...

زفرت نور بغضب ثم قالت:

- والله ما أنتِ فاهمة حاجة... خليني أشوف الأولاد قبل ما يتخضوا واللا حاجة...

- إستني يا ست المتسربعة... أنا لسة كنت باطل على الولاد وعرفت أن أخوات بدر خدوهم يتفسحوا في الأرض...

فركت نور يدها بتوتر قائلة:

- إزاي خدوهم من غير ما يقولوا لنا...؟؟

- مرات عمك نجاة سمحت لهم وبعدين الأرض مش بعيدة...

عادت نور إلى غرفتها والتوتر يقضم قلبها دون رحمة مفكرة بعيسى الذي قد تنتابه حالة لعثمة فلا يستطيع توصيل ما يصبو إليه بسهولة لأي شخص... تفكر بمايا التي ربما لن تفهم لغة أو لهجة من حولها فتشعر بالغربة. كان الفراش فارغًا... فزفرت بارتياح وهي تتمتم بداخلها في تهكم:

- على أساس أنه ماكانش قادر يتحرك...

لكنها لم تفكر كثيرً وتوجهت إلى الشرفة علَّها تتمكن من رؤية طفليها و...

- أنتَ هنا....؟؟؟

كان يجلس بمقعد الشرفة المصنوع من الخيزران وأمامه طاولة تم بسط عليها بعض الأطعمة الريفية الشهية.

- فاكراني خليت بيكي... لأ متخافيش أنا مستعد أصلح غلطتي..

قالها متهكمًا، فتوجهت إلى إفريز الشرفة قائلة:

- أنا مش رايقة لهزارك السخيف ده والله...

نهض بصعوبة متكئًا على مقعده متجهًا إليها ثم قال:

- إيه اللي شاغل بالك يعني غيري وغير هزاري السخيف...؟

نظرت إليه بنفاذ صبر وهي تقول:

- يعني مافكرتش خالص الولاد فين ولا بيعملوا إيه...؟

أنحنى نحوها قائلاً:

- الولاد بيلعبوا مع بقية الأولاد في الأرض القريبة ومعاهم طلال وأخوات الدكتور بدر...

تساءلت بقلق:

- يعني ماينفعش نسيبهم لوحدهم كدة و...

- بطلي الحماية الزايدة دي شوية... المكان أمان ومعاهم ناس كبار... خلاص... خلينا إحنا في اللي إحنا فيه..

نظرت نحوه متسائلة بضيق:

- هوا إيه اللي أحنا فيه..؟

- أولاً... الفطار... ممكن تتفضلي تفطري عشان عايز أكلمك في موضوع مهم جدًا...

عاونته ليجلس ثم جلست قبالته وهي تقول:

- موضوع إيه...؟

أخذ رشفة من فنجان الشاي الخاص به ثم رفع عينيه إليها قائلاً ببطيء:

- والدك...

******

وكأنه رجلٌ خالف فطرته المتسرعة – مؤقتًا – وأضاء إشارات الانتظار ليأخذ وقته في قراءتها بتمعن...

وهي تسأل نفسها... كيف له أن جمع كلماتها المبعثرة.. حركاتها وسكناتها، وصنع منها دليلاً للمستخدم يدرسه على مهل..!

كيف توقع أماكنها المفضلة... مساحة البوح المسموحة... ومساحة القرب دون تعدي خطوطًا حمراء...!!

كيف جمع كل هذا وأتى به بطريقة جعلت الأمر ملتبسًا عليها بين واقع وحلم...!!

أحلمٌ هو أم حقيقة...! تعاود السؤال وهي ترقب الجنة المحيطة بها مأخوذة الأنفاس.. مياه النيل الرقراقة المحيطة بهما... الأراضي الخضراء الممتدة على مد البصر... شمس الصباح التي لم تبلغ ذروتها بعد ترسل أشعتها تدفئهما في هالة خيالية لا تكاد تصدقها... ذلك المركب الشراعي الذي أخذها إليه عقب تناولهما لطعام الإفطار ثم صرفه للفتى الذي كان يقوده وتوليه هو أمر توجيه الشراع الضخم للريح فانساب المركب بحالمية فوق مياه النهر.. ذراعه التي تحيط كتفيها في حنان دافئ جعلها تغمض عينيها قليلاً وكأنها تسجل تلك اللحظات في عقلها إلى الأبد.

- "كنت قولت لي أنك هاتكلمني عن..."

- "هششششش... مش دلوقتي.."

وزاد من ضمه لها عندما حاولت التملص من ذراعه... لتسلم لخدر اللحظة وكأنها – على سبيل التهور - توافقه ضمنيًا أن تنأى معه بعيدًا حتى لا يمكن العثور عليهما... أن يهربا من زخم الماضي والخوف من المستقبل ويغرقا فقط في روعة اللحظة الحاضرة..!

ولأنه يبدو أن دراسته لها كانت متقنة حد معرفته بتأثير نزهة نيلية على اتزان تحفظها.. على قناع الصلابة الذي تداري خلفه أنثى في منتهى النعومة والهشاشة... وكأنه قبل أن يضع قدمه في القارب سلب منها حقيبة همومها التي لا تفتأ تحملها على ظهرها وألقى بها في عمق النهر ومع التوغل بين المياه والمساحات الخضراء... سقط عنها قناعها... ورأى بها أنثاه... فضمها إليه وزرعها بين صدره وذراعه وكأنه يؤكد عليها أن هذا هو موطنها الطبيعي.

لكنه نسى شبح الخوف الذي بدأ يحوم حولها منذ أن غزت مشاعره قلبها..! فعلى صدره سفح الخوف أدمعها العصية... أهي الآن خائفة ومحتالة...؟ نعم.. هي تحتال حينما تخاف منه أو عليه... وتخاف لأنها حين تحتال تفقد شيئًا حفظته بأعماقها له هو فقط... هي تحتال على مشاعرهما التي انطلقت في التوقيت الخاطئ.. فكيف ستحتفظ به وقت بات كل ما فيه زلق ورخوي...؟! كيف ستحارب مخاوفها من تسرعه القاتل ويقاتل هو مخاوفه من خيانة مزمعة...؟ في أحسن الحالات سيبقيان معًا جافين متشققين... وفي أسوئها سيفترقان..!!

لكنه استشعر شبح خوفها الذي يحاول أن يحوم حولهما... فأحاط وسطها بذراعه الأخرى... لترفع إليه عينان دامعتان ببقايا احتيالٍ خائف، لكن عينيه واجهتهما بعزمٍ لا يلين ورسالة واضحة... سيأخذها إليه رغم أنف ترددها... سيمزق قمصان خوفها ويمرغ على صدره عنادها الملعون... سيقيد معصمي تلكؤها إلى قائمة إصراره... سيردم تلك الهوة التي يسقط أحدهما بها دائمًا قبل الوصول إلى الآخر.. سيخبرها كل شيء علَّه يشد من أزر مشاعرها نحوه ويسد به أفواه الظنون.

"أما قرر عمي سليمان أنه يسافر القاهرة يكمل تعليمه... كان عمري 4 سنين بس... ماكنتش أوعى عليه... وماشوفتوش لحد ما بقى عمري 8 سنين لأني عرفت بعد كدة أنه أعتقل وقعد في السجن من سنة 81 لسنة 84... رجع عمي سليمان البلد آخر سنة 84... كنت وقتها قربت أتم 8 سنين... قعد معانا كام شهر... قرب مني وكان صديقي الوحيد تقريبًا اللي بيسمح لي أعيش طفولتي اللي الجدة سرقتها مني بامتياز... كنت أما أضرب في المدرسة أشكي له هوا... وهوا يقول لي أتصرف إزاي... كانت روحه مرحة ومنطلقة والكل بيحبه... لكن... أما فاتح الجدة برغبته أنه يتجوز والدتك... الكل عارضه خاصة أنها كانت أكبر منه بسنتين تقريبًا... ممرضة ومطلقة ومن القاهرة... كل دي عوامل تخلي الجدة تعانده وتحاول منعه على قد ما تقدر من الجوازة دي... لكن عمي سليمان كان عنيد أكتر من الجدة ومااستسلمش لأوامرها حتى أفتكر انها أما لوت دراعه بالورث قالها مش عايزه... وأما جندت الجدة عمتي سنية أنها تسأل عن الممرضة دي لأن عمتي وقتها كانت عايشة في الجيزة مع جوزها قبل ما يموت... ورجعت عمتي بأخبار خلت الجدة تتمسك بموقفها أكتر وخلت عمي سليمان يقاطعهم وينزل يرتبط بالإنسانة اللي اختارها ويقاطع البلد تمامًا..."

وصل القارب إلى لسان صغير ينتهي بمنزل ككوخ كبير إلى حدٍ ما.. فأوقف زين القارب ثم عاونها على النهوض فالخروج إلى ذاك اللسان ليتوجه نحو المنزل الذي يبدو كالكوخ وتسير خلفه. كان منزلاً خشبيًا مؤثثًا ببساطة... جلست نور على إحدى الأرائك المطلة على النيل فجاورها زين مكملاً سرده شاردًا بالأفق:

- وكبرت وأنا جوايا رغبة ضخمة للتمرد... التمرد على أوامر الجدة وفرماناتها وتحميلي دايمًا مسئولية العيلة من بعدها وأنا طفل يا دوب كملت 10 سنين... هيا كانت شايفة أبويا ابنها الكبير ذكي جدًا زيها لكن تنقصه جرأة الشيخ رحيل وإقدامه... كانت شايفاه متردد مايصلحش أنه يشيل العيلة بعدها... أما عمي عتمان فكانت شايفاه مالوش فكر أو حكمة أو مستوى ذكاء مرتفع بس كان ممكن يشتغل لحد ما يتهد حيله بس حد يوجهه فمانفعش ده كمان... وبعدين جت عمتي سنية... ذكية وداهية بس الجدة كانت محتاجة راجل، وكان سليمان هوا أملها لكن معاندته وتمرده خلاها تفقد الأمل فيه وتاخدني من حضن أمي عشان تربيني تربية تليق بخليفة الشيخ رحيل خاصة وإني الوحيد اللي شكله بصورة كبيرة..."

زفر وأنصتت في اهتمام ليردف:

- "وقتها اتعرفت على مناع... شاب أكبر مني بخمس سنين أو أقل.. بيعمل اللي هوا عايزه... بهرني... اتصاحبت عليه... وكانت أول وآخر سيجارة أشربها من إيده... ولولا تدخل عمي سليمان كان زمان السيجارة دي بقيت اتنين وعشرة ومية... بقيت إدمان أو انحراف... لكن عمي رجع سنة 87 النجع وعرفت منه أن مناع كان مقبوض عليه وقضى فترة في الأحداث وأبوه تاجر مخدرات عمي قابله في السجن.. كان سجين جنائي وعمي سليمان كان مع المعتقلين السياسيين. أما وصل لعمي سليمان خبر صداقتي بمناع رجع النجع بسرعة من غير ماحد يعرف من البيت الكبير وحاول يبعدني عن مناع لكني كنت بحاول التمرد ورفضت نصح والدك ليا... وفي يوم كان مناع بيعرض عليا سيجارة تانية لاقيت عمي سليمان في وشي... زعق لمناع وهدده بطرده من البلد... لكن مناع ماكانش طفل خواف وكدة.. ده كان طول بعرض وكان معاه مطواة خرجها على عمي سليمان بس عمي مسك إيده وزقها فالمطواة جرحت وشه بالطول... ومن يومها ومناع بعيد عني لحد ما بقى الشيخ مناع بعد موت أبوه وأضطرينا نقبله بيننا..."

كان مع حديثه يقترب منها ليعاود ضمها بذراعه بينما كانت نور غارقة في تفاصيل الحكاية وكأنها ترى أبيها رؤي العين.. متمتمة:

- سنة 87 كان عندي سنة...

ضمها إليه أكثر وهو يقول:

- أيوة... عمي سليمان قالي وقتها أن بنته تمت سنة... ماكنتش أعرف أن بنته دي هاتبقى من الحاجات الحلوة والمهمة أوي في حياتي...

رفعت عينيها إليه في ذهول ليرتسم بهما قرص الشمس، فيهمس لها مردفًا:

- ماكنتش أعرف أني هاحب بنته الحب ده كله...

عضت على شفتها السفلى في خجل وهي تخفض عينيها ثانية لينحني هو إلى أذنها مكملاً همسه:

- آه لو كنت أعرف... كنت خطفتك وماخليتش أي حاجة وحشة تمسك... كنت سكنتك بين ضلوعي وماخرجتكيش من هناك أبدًا...

وكان العناق في تلك اللحظة لا مفر منه... عندما أحاط وسطها بذراعيه... رفعت هي ذراعيها لتحيط عنقه وتمزق بيدها قمصان خوفها مستسلمة لرحلة شفتيه على ملامح وجهها.

******

Just Faith 18-12-17 01:58 PM

- 8 –
"عزيزتي...
أتعلمين... لقد أخبرتني أمي يومًا ألا أتبع شراك الحياة.. ألا أتحول شيئًا فشيئًا إلى نسخة أخرى منها... أن أتحرر من لعنة التفاصيل المهلكة وأن أشرع أجنحتي إلى فضاء الاختلاف والسمو، لكن... أنَّى لي التحليق بدون أجنحة يا صديقتي بعد أن تم قص أجنحتي باحترافية على مدار سنوات عجاف...؟ كيف أوجد شيئًا من العدم...!! كيف أتحرر من سلاسل تفاصيل الماضي وإخفاقات الحاضر التي تثبتني إلى الأرض وتحجب عني رؤية مخططة وثابة ترنو إلى المستقبل...؟
تخبرني الجارات وبعض الناصحات أن أمتن لحالي فكثير من النساء يتمنين شيء مما وهبه لي القدر... من صغار جميلات وزوج رائع غاية في الوسامة نبيلٌ هو مع كل النساء...!
لا يعرفن يا عزيزتي أن كل هذا هباء... لا يدركن أنني فقدت أهم ما في الحياة... فقدت ما يعينني على تنشئة صغاري... فقدت ما يخوِّلني من استقطاب نُبل زوجي المزعوم... نعم يا صديقة... لقد فقدت ذاتي منذ أمدٍ بعيد ولا أستطيع العثور عليها حتى اليوم..!! فقدت تلك الروح التي توهجت قليلاً يومًا ما ثم خبت إلى الأبد... أسقطتها صفعات الحياة... ثم دفنتها رعونة بيتٍ كبيت العنكبوت بل هو أضعف...!
أخبريني بالله عليك... ما المنتظر من امرأة لا يربطها بالكون سوى خيطٍ واهٍ كخيط العنكبوت..؟ امرأة كالدمية تسير مع التيار دون أن تجرؤ على المقاومة.. المجابهة أو الاعتراض...؟
أليس حريًا بها التلاشي...؟ الاختفاء من الوجود كي يصير الكون أجمل...؟ فربما وجد أطفالها أمًا أكثر صلاحية وربما وجد زوجها امرأة تستحق نبله وربما وجد أهلها ابنة أكثر برًا وفائدة...!!
عزيزتي نور...
أكتب إليك في محاولة أخيرة للتواجد.. كتلويح غريق لصديقٍ رأى خياله على الشاطئ...!
عزيزتي نور...
أنا غارقة لا محالة... لا تحاولي الولوج إلى دوامة انسحاقي...
لا تحاولي إنقاذي...
ربما هذا هو الوداع...
نهى"
عَبَست نور بانقباض وقد تجمدت أصابعها على هاتفها والكثير من الأفكار تدور بعقلها... "كيف وصلت نهى إلى تلك المرحلة من الاكتئاب..؟ ما معنى رسالتها تلك...؟ " هي لا تنكر أن نهى ضحية نشأة مزعزعة لم تحظ فيها باستقرار... لكن يجب أن تضع كل هذا وراء ظهرها الآن... يجب أن تعثر على ذاتها وتحارب من أجل موقعها في الحياة.
جرت أصابعها على الهاتف وهي تحاول أن تصل إليها رغم آلاف الأميال التي تفصل بينهما... لكن... "الهاتف الذي طلبته قد يكون مغلقًا أو خارج نطاق الخدمة... من فضلك أعد الاتصال في وقتٍ لاحق..."
- "إيه التكشيرة دي بقى...؟"
جاء صوته من خلفها جعلها تنتفض وتُنزل الهاتف من على أذنها قائلة بتوتر:
- زين..؟ أنت رجعت أمتى..؟ خلصت مشكلة المينا..؟
تأمل ارتباكها قليلاً ثم قال باسمًا متجاهلاً إياه:
- آه تمام... كلمت العرب اللي كانوا عاملين اعتصامات قدام المينا واتفاهمت معاهم والشحنة طلعت الحمد لله وإن شاء الله مانفوتش موعد التسليم في روما...
أومأت نور في شرود، فأمسك زين يدها قائلاً:
- أنت مش معايا خالص... مالك يا نور...؟
- مافيش... واحدة صاحبتي بس بعتت لي رسالة كدة قلقاني عليها...
تناول زين منها هاتفها قائلاً:
- أنا قلت مافيش تليفونات اليومين دول خالص... خلينا نستمتع بجو مطروح يومين وبعدين نرجع لهموم القرايب والاصحاب...
وقرن قوله بالفعل مغلقًا هاتفها ثم نظر إلى عينيها قائلاً:
- خليني أخطفك اليومين دول من فضلك...
هنا سمعا صوت صخب وأقدام تعدو نحوهما...
"بابا... أنت جيت..."
"عموووو ... ياللا ننزل البحر..."
فابتسم زين مشيرًا إليهما مكملاً حديثه:
- ماشي.. هاخطفكم كلكم...
ضحكت نور بجذل وهي تشهد قفزات مايا وعيسى على زين فحملهما قائلاً:
- خلاص خلاص... هاننزل البحر حالاً... ياللا بينا...
صفقت مايا بيديها قائلة:
- هيييه بابا حبيبي...
ضها زين بقوة وهو يقبلها براحة بينما قال عيسى:
- واااو .. شكرًا بابـ.. قصدي عمو..
وانكسرت نظرته... فترك زين مايا وتوجه إلى عيسى قائلاً:
- هوا... ماينفعش أكون بابا...؟؟
نظر إليه الصغير بلهفة قائلاً:
- ينفع...؟؟؟
احتضنه زين قائلاً:
- ينفع طبعًا ده أنا هافرح أوي أن يكون لي ابن رائع وذكي وممتاز زيك يا عيسى...
وضع عيسى ذراعيه حول عنق زين هاتفًا:
- أنا كمان نفسي أقول لك بابا.. شكرًا يا عمـ... يا بابا...
وارتقى زين بقلبها درجة أخرى فقي سبيله للاستحواذ التام والاجتياح غير المنقوص... وأدرك هو ذلك من ابتسامتها الممتنة التي شملت قسمات وجهها ووعدتها عيناه بأنه لن يتوقف حتى يمتلك قلبها وعقلها وتصبح زوجته بمليء إرادتها كما يريدها هو بكل جوارحه.
******
أمريكا الحلم... أمريكا أرض الميعاد... هناك وكأنك ستجد مصباح علاء الدين لتحقيق أحلامك... وابتسامة هازئة تتعلق بشفتيه وهو يتأمل ذلك الحي القذر الذي ابتلعه منذ أن وطأت قدماه تلك المدينة منذ ثلاثة عشر عامًا... وقتها عندما كان شابًا غرًا محبطًا... انشغال أب مع نوبات من التعالي والاحتقار من زوجة ذاك الأب وأم لم يخبره أحد عنها شيئًا... أختان لا يريدانه بحياتهما... ثم جاءت صفعة زوجة الأب وتعييره بشرف أمه كالضربة القاضية التي جعلته يفر وهو يقسم أن يعود أقوى وأفضل منهم جميعًا.
ببعض الأموال الهزيلة التي جمعها يمم وجهه شطر نيويورك... ومرت أيامه الأولى حتى نفذت أمواله ولم يجد عملاً... يذكر تلك الأيام بشيء من القهر... يذكر وصوله إلى درجة تنقيبه عن بعض بقايا الطعام الصالحة بحاويات القمامة... يذكر استجدائه أي عمل دون جدوى.. يذكر أنه كاد يسلم بفشله وأنه لا يصلح لشيء ويعود صاغرًا لخدمة زوجة أبيه وأخواته غير الشقيقات... فيكون سائقًا لهما عند الحاجة وعامل توصيل حتى... يكفي أنه سيجد مأوًا وطعامًا وشرابًا...! ذلك عندما وجدته... تلك الفتاة النحيلة ذات الشعر القرمزي والأظافر المطلية باللون الأسود... كان يومها ينقب في بقايا طعام بعض المطاعم بشارع إيست فيلادج عندما نادته وقدمت له شطيرة ساخنة ووعدته أن تساعده كي يجد مكانًا يبيت فيه وعملاً.
- هاي... ما اسمك أيها العربي..؟
- ماجد... ماجد مراد...
- أنا بريتني... تعال معي...
لم يكن يملك خيارًا سوى الانصياع... فجيوبه خاوية كمعدته التي طالبت بالمزيد من الطعام ولم تكفها تلك الشطيرة التي قدمتها له تلك الفتاة النحيلة التي لم يدرك وقتها أنها ليست سوى.... نشالة..!!
وطأت قدماه أولى خطواتهما بحي ساوث برونكس... أحد أكثر المناطق فقرًا بالبلد. تأمل البنايات العتيقة ذات الجدران المليئة بالرسوم والخربشات كما تأملها أول مرة ولج إلى ذلك الحي الذي لم يتغير به الكثير منذ ثلاثة عشر عامًا عندما جاء لأول مرة تقوده النشالة النحيفة عبر البنايات حتى بناية بعينها... قادته إلى الأعلى حيث باب ينبعث من خلفه صوت موسيقى صاخبة... فتح شاب أسمر ضخم البنية الباب لتعرفه النشالة عليه قائلة:
- مرحبًا سايروس... هذا الفتى يبحث عن عمل...
وغمزت له مردفه:
- أعتقد أنه مناسب تمامًا للمهمة التي كنت تبحث لها عن متطوعين...
لم يدرك أيضًا وقتها أنه أمام أحد رجال أكبر مروجي المخدرات بالحي والأحياء المجاورة... لم يفهم أن عمله كان يلزمه بنقل كميات من المخدرات إلى أماكن مختلفة مقابل أن يبقيه ذاك السايروس معه بمنزله ويعطيه بعض المال... كانوا يريدون وجهًا جديدًا لإبعاد الشرطة عنهم وكان هو ذاك الوجه الجديد الذي ظل يعمل معهم حتى قابل مروج المخدرات الذي يعمل عنده هو وسايروس عندما ذهب ليقوم بنقلة إلى أحد دور تناول الكراك وعرف ماهية عمله وخطورته وطالب الرجل بأموال أكثر من الفتات الذي يتقاضاه... كان ينغمس شيئًا فشيئًا في أعمال قذرة خطرة... لم يحاول حتى الإفلات من شراكها يومًا ما... فكل ما كان يدور بعقله هو حديث زوجة أبيه عن أمه ومدى سوئها... فقرر عقله الباطن عنه أنها حتمًا تلك الجينات التي يحملها عنها هي التي جعلته لا يصلح إلا لتلك الأعمال.
زفر ماجد في تعب... وهو يذكر ذلك اليوم عندما طارده رجال الشرطة وهو خارج من دار تناول الكراك ذاك وتم إلقاء القبض عليه لكنه تخلص من المخدرات التي يحملها قبل ذلك ليُسجن بعض الوقت ويخرج محاولاً إعادة حساباته... وكانت الخطوة الأولى هي الحصول على هوية جديدة بدلاً عن جواز سفره الذي استولت عليه عصابة سايروس... وهناك... قابل أمه... في دفترٍ أسود قدمته له تلك الصغيرة المثابرة.. كانت تحتاج إلى مساعدة ورغم ذلك... كانت هي من عاونته ليخرج من أزماته...!!
******
الرمال البيضاء.. البحر الممتد شديد الزرقة... الهواء النقي الذي ملأت منه رئتيها وهي تتذكر تلك المكالمة التي جاءت لزين بأسوان عن شحنة البضائع الخاصة بهم والتي تعطل شحنها لعدم تمكن عمال الميناء من الدخول بسبب اعتصامات بعض عرب مطروح أمام الميناء. تذكر كيف أصر على اصطحابهم معه في رحلته السريعة الطويلة إلى مرسى مطروح.
- "زيديني غرقًا يا سيدتي... إن البحر يناديني..."
مرت همسته بجوار أذنها فاستدارت لتجده يخلع قميصه ويستعد للتوجه إلى البحر فخفضت عينيها إلى صغيريها تحاول الانشغال بهما وهي تقول:
- خلوا بالكم يا ولاد ما تدخلوش لجوة أوي وخليكم على الشط...
وقف أمامها قائلاً بمرح:
- على أساس إني خيال مآتة يعني معاهم..؟ا...؟
سألته دون أن تنظر إليه:
- يعني بتعرف تعوم كويس...؟
ضيق عينيه قائلاً:
- إمممم... يعني...
فقالت بحدة:
- خلاص يبقى ماحدش يبعد ...
ضحك ثم سابق الصغيرين إلى البحر وأخذ يلاعبهما في مرح لترتفع أمواج السعادة بقلبها... لكن سرعان ما تنحسر في خوف تحت وطأة سؤال أحمق... أحقًا هي تعيش تلك السعادة أم هو حلم سينقضي سريعًا...؟ هل ابتسمت لها الحياة حقًا أخيرًا أم لازال هناك بعض الطعنات الغادرة..؟
أخرجها من تأملها صوت صغيريها اللذين قررا اللعب بالرمال بعد انتهيا من السباحة فتابعتهما بنصف وعي وبقية عقلها مع ذاك الذي أخذ يتوغل في البحر بعيدًا عنها.
"ماما.. شوفي الشكل اللي عملناه في الرمل كدة..."
وجذب عيسى كامل انتباهها لتتأمل ما قام بتشييده من الرمال مع مايا التي كانت مبتهجة بمهارته فأثنت عليهما قائلة:
- برافو يا ولاد.. بيت رائع جدًا... مش ناقصه غير الشبابيك...
قالت مايا:
- اه ماحنا لسة هانعملها...
قال عيسى:
- ده البيت لينا أنا وأنتِ ومايا وبابا زين..
لكن موجة قوية امتدت حتى منزلهما الصغير لتهدمه تمامًا... ويعلو قسمات الطفلين الحزن لتقول لهما مشجعة:
- ماتزعلوش يا ولاد... مش مهم أن البيت راح مع الموجة... المهم أن انتوا تقدروا تبنوه تاني في أي وقت وأي مكان... مش لازم تستسلموا للموجة دي... حاولوا تبعدوا شوية عن الموج وتبنوا بيت تاني...
ومع ابتعاد الطفلين وقد عاودهما التصميم على إعادة بناء بيتهما... عادت هي تبحث عنه بعينيها حيث كان يسبح بالبحر... لكنها لم تره... نهضت واقتربت أكثر من المياه وهي تضع يدها على عينيها تقيهما من أشعة الشمس كي تتمكن من البحث عنه جيدًا... لكن أيضًا... لم تره...! سقط قلبها بين قدميها وأخذ جسدها يرتعد وهي تحاول النداء عليه... أين ذهب... لقد كان هناك منذ قليل...!!!
- "بتدوري على حد...؟"
انتفض جسدها وهي تستدير إلى صاحب الصوت خلفها لتجده ماثلاً أمامها مبللاً وعلى شفتيه ابتسامة عابثة. شهقت قائلة:
- زين الحمد لله ... الحمد لله... كنت هاموت من الخوف...
ضحك قائلاً:
- إيه... كنتِ خايفة لاغرق...؟
ضربته بغيظ وهي تقول:
- بجد قلبي كان هايقف... إيه الحركات دي...
ضحك مرة أخرى وهو يجذبها إلى ذراعيه قائلاً:
- ماتخافيش يا حبيبتي... جوزك سباح درجة أولى...
لم يتمكن عقلها من استيعاب كلمتي حبيبتي وزوجك في جملة واحدة، فدفعته هاتفة:
- أنت كدة غرقتني مية على فكرة...
- وإحنا على الشاطئ على فكرة... طبيعي يعني أنك تتبلي شوية...
سارت مبتعدة وجسدها ينتفض.. إنه يستغل أي فرصة ليقترب منها بطريقة يجعلها تبدو عفوية لكنها تشعلها... تهدم المزيد من حصونها وتحثها على رفع راياتها البيضاء.
"من فضلك ممكن تجيب لنا الكورة دي...؟"
كان صوتًا ناعما به مسحة غنج... فاستدارت لتجد فتاة ترتدي أقل قدر من الملابس... تميل نحو زين... تضع يدها على كتفه وتبتسم بإغراء وكأنها دعوة صريحة له. حددت نور هدفها الذي ستخرج به كل انفعالاتها وتوجهت للفتاة هاتفة:
- أتفضلي يا آنسة... تعالي معايا وأنا أجيب لك الكورة... دي على الشط على فكرة مادخلتش جوة البحر...
قالتها وهي تجذب الفتاة من ذراعها بعيدًا نحو بداية مياه البحر... ثم جذبت كرتها وقذفتها بعيدًا على الرمال هاتفة:
- وآدي الكورة أهيه... ياللا روحي جيبيها بنفسك...
توجهت بعدها إلى زين قائلة بحدة:
- وأنت ألبس ياللا عشان نروَّح نتغدا...
ضحك قائلاً وهو يهرول بجوارها:
- أنت كدة اتغرقتي مية على فكرة...
- وإحنا على الشاطئ على فكرة.. يعني طبيعي أتبل شوية...
******
وكلمات نهى تؤلمها.. تقتلها وتجعلها تغوص بداخل نفسها تنبش عن سبب مفارقة الحياة لكلمات صديقتها...!
نعم... فالمرأة لا تموت عندما تفارقها الروح وحسب... قد تموت المرأة قبل ذلك حين تتشابه أيامها وتعايش التفاصيل ذاتها وتتوقف عن التغيير.. حين لا شيء يتغير سوى عمرها وربما وزنها...!!
بعيدًا عن نشأتها المزعزعة... بعيدًا عن ذاتها التي تزعم فقدها... بعيدًا عن كل سبب آخر أدعته صديقتها في ضياع الروح... هي تعلم جيدًا أن لا شيء خلف ذلك اليأس سوى رجل... رجل ظنت صديقتها فيه الملجأ ورأته ملاكًا يمشي على الأرض، لكنها استيقظت على الواقع بكل قسوته وتقليدية تفاصيله..!
ويستحضر خيالها الابتسامة الحزينة لرفيقة عمرها... تكاد تتوحد معها في وجعها... تود لو تبكي وجع الرفيقة وخوفٍ من مصيرٍ مماثل يقض مضجعها... تتأرجح أفكارها مع تلك الأرجوحة التي تجلس عليها متأملة حبَّات النجوم الساطعة بثوب السماء الداكن... تتساءل عن تلك الخلطة السرية التي من شأنها كسر قانون النهايات المؤلمة ووضع نهاية مختلفة... شيئًا يصلح للحب حتى الشيخوخة..!!
- "لسة سهرانة..؟"
ويأتيها صوته كعادته مؤخرًا مخترقًا عزلتها... مُبددًا سحب خوفها.. وكأن قلبها يتمتع بذاكرة ذبابة.. ينسى ما حذره خوفها منه منذ خمس ثواني ويعود ليخفق له اشتياقًا..! وكأن مجرد وجوده الحاني يمنح قلبها الفرصة ليكرر محاولة النبض دون خجل..!
- الولاد بعد تعب السباحة والفسح طول النهار ناموا وقلت أقعد أقرا شوية هنا..
ويجاورها على أرجوحتها مكملاً اجتياحه وهو يسألها:
- مش بردانة...؟
- لأ.. بس معايا الشال بتاعي لو بردت ها...
لكنه يُهديها صدره ويدثرها ذراعه... يضمها إليه بصمت في دعوة صريحة ألا تلتجئ لسواه حين تُنشد دفئًا. تُنحِّي كتابها – الذي لم تقرأ به حرفًا – جانبًا ويطير قلبها مع الأرجوحة التي تتهادى بهما في سكون الليل الذي لا يقطعه سوى صوت الموج القادم من بعيد.
- نور...
- هممممم..؟
- يا ترى حاسة بقلبي...؟
قلبه ينبض بجنون أسفل رأسها المستريح عليه في سكون...! كيف لا تشعر بخفقاته وهي لصيقة به إلى هذه الدرجة هي التي تكاد تستشعر دقاته من على بعد ألف خطوة.!
- نور.. قلبي وعقلي وكل ذرة في كياني أتنقش عليها اسمك وكل تفاصيلك الصغيرة قبل الكبيرة.. كلهم محتاجين وجودك... كلهم ولا حاجة من غيرك يا نور... نور أنا أكتر من باحبك...
ويهمس في أذنها ببضعة كلمات... تغير قناعاتها... ترسم لوحة مشرقة لسنواتها القادمة معه... تجمع وساوسها ومخاوفها وهرطقتها في صندوق وتلقيه في عرض البحر.
ويرفع رأسها في مواجهته... يحيط وجنتها بكفه.. ينظر في عمق عينيها يسألها بصوته العميق:
- أنتِ... إحساسك بيا إيه...؟ ممكن تنقذيني من وجع الحياة بعيد عنك وتشاركيني كل لحظة في حياتي...؟
أيسألها إنقاذه وهو الذي ينقذها بحبه..؟!
لا يعلم كم تود لو تريح قلبها في كنف عشقه..! تود لو تسلِّمه له دون أن تصارع وساوسها... كم تريد أن تحبه بلا خوف... بلا حيرة.
لا يعلم كم تود لو تعد له قهوة الصباح.. أن توقظه بقبلة... أن تركض راقصة وتدور بفساتين قصيرة... كم تود لو تحبه بخشوعٍ كامل دون أن تلتفت إلى خوفها.
- نور.... روحتي فين...؟
لكنها قرون الاستشعار التي لا تفتأ أن تنبئها بوجود تلك الهاوية بينهما... قبل الديمومة الشرعية بخطوتين...! قرون الاستشعار التي تود انتزاعها من عقلها... سحقها.. كي لا تقوم دائمًا بإضاءة مصباح الإنذار الأحمر كلما اقترب منها واجتاح قلبها إلى هذه الدرجة.
- معاك...
- وده جواب أنهي سؤال..؟
- الأتنين...
- مش عايزك مجرد تكوني معايا يا نور... عايز أكون جواكي زي ما أنتِ جوايا...
- المشكلة مش في إحساسي أو إحساسك يا زين...
- أمال فين المشكلة..؟
- المشكلة في طباعنا اللي عند أي صدام ممكن تجرحنا بعمق... أنت متسرع وأنا عنيدة... يا ترى هانعرف نجمع الشرق والغرب مع بعض..؟
- نقدر يا نور... إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم... أوعدك إني أحاول عشان خاطرك... أحاول ماسببلكيش أي جرح..
وأمام وعده وعطره وحنانه الذي تحتاج إليه... تقهقر خوفها واحترقت قرون استشعارها وأسندت رأسها على ذراعه علَّها تريحه من الصراع المحتدم بأفكارها.. ومع نسمات المساء الهادئة.. وحركة الأرجوحة الرتيبة... مع دفئ ذراعيه وعطر أنفاسه... غفت وهي تعده بداخلها أن تحقق له كل أحلامه... ستسعد به وتسعده فقبَّلها على رأسها وحملها كطفلته الأثيرة إلى فراشها وغفى بجوارها.
******
اللمسات الأخيرة على التشيز كيك التي يعشقها بطبقة من صوص الفراولة مع حبات الفراولة الشهية... ثم تعيدها إلى البراد وتخرج من الفرن طبق اللازنيا مع شرائح اللحم بمرق الفطر والكريمة... سلطة زبادي وسلطة خضراء وأصبح كل شيء كما خططت له... مائدة الطعام مُعدة مزدانة بالزهور مُضاءة بالشموع.. مرت تقى صباحًا واصطحبت عيسى ومايا ليمكثا عندها هذه الليلة وربما ما يليها من ليال... لقد قررت شقيقتها أخيرًا اعتناق شريعة السعادة وضرب مخاوفها عرض الحائط.
وعلى الفراش الذي وضعت عليه مفارش جديدة كانت تلك الحقيبة التي دستها تقى بيدها قائلة "ألبسي ده وأدعي لي..". ابتسمت بخجل وعي تخرج قميصًا قصيرًا للنوم ناعمًا ذو شرائط رفيعة على الأكتاف وروب طويل من نفس اللون والنوعية... اتسعت ابتسامتها وهي تتذكر وعدها لزين أنها ستحقق له كل أحلامه عند عودتهم إلى بيتهم... ستكون لهما بداية أخرى لقصة أسطورية لأثنان يهرمان معًا... يعيشان تفاصيل الحياة... معًا... حتى وإن قست عليهما الحياة قليلاً... لن يترك أحدهما يد الآخر... لذا... قضت اليوم كله تستعد كي تكون أول ليلة لهما معًا بعيدًا عن الشك والخوف وسوء الفهم مميزة... محفورة بالذاكرة ككل لحظاتها الحلوة معه.
ارتدت قميصها الأبيض وتدثرت بمعطفه في خجل... وضعت بعض مساحيق التجميل التي زادت من تألقها... قرطين صغيرين لامعين وقلادة زهرة الأوركيد هديته الأثيرة التي لم تخلعها من عنقها يومًا و... أرتفع رنين هاتفها فهرعت إليه وهي تظنه حبيبها.
أما زين فقد أنهى عمله مبكرًا... ذهب إلى متجر الأزهار ليستلم باقته التي طلبها خصيصًا من زهور الأوركيد البيضاء ثم عرج على متجر المجوهرات وانتظر حتى جاءه الخاتم الماسي المنتظر... وكأنه سيخطب قلبها من جديد..!
كان يقود سيارته ببهجة مدندنًا بلحنٍ ما.. يكاد يطير من على الأرض ليصل إليها حتى وصل أخيرًا إلى البيت الساكن... عرج على الحديقة ثم توجه رأسًا إلى شرفة غرفة النوم في حركة عابثة ودَّ بها مفاجئتها كي تسقط بين ذراعيه كعادتها.. لكن.. تناهى إلى مسامعه صوتها المبتهج المرتفع الذي يصل إلى الشرفة حيث يقف..
- "... بجد...؟ أنا مش مصدقة نفسي... أنت فعلاً فعلاً في مصر...؟ حبيبي يا ميجو... مش ممكن على مفاجآتك... جيت مصر أمتى...؟ لازم أشوفك... دلوقتي مين يا عم الأمريكاني أنت فاكرنا لسة في أمريكا..؟ إحنا في مصر يا ميجو... أشوفك بكرة الصبح أكيييد... وبعدين أنا مشغولة الليلة دي أقفل بقى وأكلمك بكرة... ماشي حبيبي... مع السلامة..."
وسقطت باقة الزهور من يده عند باب الشرفة... ودخل محاولاً جمح شياطين غضبه... محاولاً الوفاء بوعده وعدم التسرع في حكم... لكن كلماتها كانت كخناجر مسمومة انغرست في قلبه... دخل في وجوم وهو يتأمل فتنتها التي لا تقاوم برداء النوم القصير والكحل الأسود الذي أبرز جمال عينيها وطلاء شفتيها الكرزي مع حمرة خديها التي لم تكن في حاجة إليها.
- "حبيبي... حمدًا لله على سلامتك..."
قالتها وهي تسرع إليه ببهجة بمجرد أن لمحته داخلاً من باب الشرفة.. طبعت قبلة على وجنته وهي تقول:
- العشا جاهز تعالى ياللا عشان نتعشا..
لكنه لم يستجب لها وكأنه تسمر مكانه بتعابير وجه غريبة تناقض الشخص الذي كان يفيض حبًا وحنانًا أمس..!
- زين... مالك...؟ أنت كويس..؟.
أومأ باقتضاب ثم قال:
- أيوة... عايز بس أنام شوية...
ابتسمت بخجل هي تقول:
- هاننام... بس... نتعشى الأول...
لكنه تناول ملابسه متوجهًا إلى دورة المياه الملحقة بالغرفة وهو يقول:
- براحتك أنت عايزة تتعشي اتعشي... أنا هاغير هدومي واريح شوية...
وكانت كلماته قاتلة ولامبالاته مهلكة... والأسئلة تدور كطيورٍ جارحة تنهش عقلها دون هوادة... ما هذا التغير...؟ ما الذي حدث...؟ أتسرعت دون جدوى أم أن ثمة أمر ما جد..؟! وفي خضم حيرتها كان قد خرج ووقف أمامها متسائلاً:
- فين مايا...؟
أجابته متلعثمة دون أن تدري سببًا لذلك:
- تـ... تقى أخدتها هيا وعيسى يلعبوا مع حبيبة...
قال بصرامة:
- بعد كدة يا ريت بنتي ماتباتش برة البيت من غير ما تقولي لي...
خنقتها غصة جارحة فلم تستطع الرد سوى بتحريك رأسها موافقة كي تهرب من حرب الأعصاب تلك، ليقول:
- تمام... يا ريت تطفي النور وأنت خارجة عايز أريح شوية...
وجرت قدميها مع إحباط أنوثتها التي تجاهلها كما تجاهل الطعام الذي أعدته له حتى وصلت إلى الغرفة الأخرى التي احتلتها عندما وصلت هذا البيت لأول مرة... ارتمت على الفراش شاعرة أن جدران الغرفة ستنطبق على صدرها... شاعرة أن البيت لا يسع ألم أنوثتها المحبطة التي انتعشت في لحظة فواق مؤقت كي يعيدها ببروده إلى سابع أرض... لم تدر كيف ولا متى غابت عن الوعي... كل ما تعرفه أنها ظلت تبكي حتى أظلمت الدنيا أمام عينيها.
*****

Just Faith 18-12-17 02:00 PM

- 9 –

إذن لــن نهـيـم مـعـا فــي الـــدروب و نوغـل فـي اللـيـل حـتـى السـحـر

بـــرغـــم الـحـنــيــن بـــهـــذا الـــفــــؤاد و رغـــــم الـبــريــق بـــــذاك الــقــمــر

فــقــد أكــــل الـسـيــف مــــن غــمــده و قد أضنت الروح صدري الجريح

فـــــلا بــــــد لـلـقــلــب مــــــن هــــــدأة و لا بــــــد لــلــحــب أن يـســتــريــح

-قصيدة لورد بايرون - ترجمة غازي القصيبي -

***

أضغاثُ أحلام راحت تلهو بعقله وقلبه ليلة كاملة... تحول الفراش إلى جمرات تذيقه صنوف العذاب..

بينما في صدره بحر ثائر ينكسر في موجة واحدة... موجة تحمل دفيء صوتها وهي تهاتف غيره...

وعقله الذي استيقظ يؤثر الأرق على نعاس ممتلئ بكوابيس قاتلة يؤنبه... يذكره بكلمة نادته بها... خرجت من بين شفتيها اللتين كانت لهما المبادرة هذه المرة... لكنه يُذَّكره بدوره بصوتها الذي وصله... صوتها الذي يعرف ماذا يحرك في جسده كل مرة بذكاء... صوتها الدافئ الذي كان يهاتف شخصٍ آخر ويناديه "حبيبي".

لكم الجدار في غيظ ولجأ إلى المياه علَّها تُطفيء شيء من اشتعاله... وقف أسفل رذاذ المياه القوي في المغطس يحاول النسيان... يحاول إزالة ما سمعه من عقله مفكرًا في العودة إليها معتذرًا... معتذرًا لشفتيها التواقتين وجسدها الذي كان أكثر من شهي ليلة أمس كوردة تتغنج... كعاشقة ليلة عرسها... لكن تعاظَمَ كبرياؤه بداخله كنبتة شيطانية يهمس إلى عقله... كم مرة تغنجت وتوددت لكم رجل قبلك... من الذي تحادثه بتلك الأريحية التي كانت عليها بالأمس... بل من الذي تناديه حبيبي..؟ وتسائل عن اسم الدلال الذي نادته به.. أكان... ديدو.. ميدو... ليس مستبعدًا أن يكون اسمًا مصغرًا لمهند...!!!

وانتفض جسده أسفل المياه وصرخ "لااااا..." وقرر الاستماع لذلك الصوت الضعيف بعقله الذي يحثه على سؤالها... وسيصدقها حتى لو كذبت عليه سيصدقها... يجب أن يسألها ويخرج من ذلك الجحيم.

لف منشفته على وسطه وخرج من دورة المياه إلى غرفته ليراها...! في كامل أناقتها تستعد للخروج... وضعت منظارها الشمسي على عينيها عقب تلاقي نظراتهما وأشاحت بوجهها عنه تسأله ببرود:

- فطرت واللا تحب أحضر لك الفطار...؟

تأملها مليًا... أي امرأة تلك... أناسكة زاهدة تناست ما حدث ليلة أمس ونهضت لتمارس دور الزوجة دون نقصان... أم هي لعوب تمارس حيلةٍ ما عليه..! وأمام صمته... تناولت حقيبتها متوجهة إلى شرفة الغرفة وهي تقول:

- عامة الفطار على ترابيزة المطبخ وفيه أكل في التلاجة للغدا طنط نجاة هاترجع من عند عمي مع الدكتور ياسر بعد شوية ممكن تبقى تسخنهولك لو تحب.. عن إذنك عشان عندي مشوار مهم...

أنهت آخر كلماتها ثم خرجت من الشرفة وهي تلقي نظرة جانبية غير مكترثة على باقة الأوركيد البيضاء الملقاة بإهمال على الأرض ليخرج زين من وضع التمثال ويسرع بارتداء ملابسه بدوره وشياطين الشك تعبث بعقله حد الهذيان.

******

مقهى مشمس... في صادرته كان يقف.. طويل القامة... ذو ملابس أنيقة متناسقة وشعر مصفف بعناية.. لحية خفيفة مشذبة وابتسامة ساحرة... يقف مستقبلاً إياها بذراعين مفتوحين... لتُسرع إليهما... ترتمي بينهما و... تضمه في دفئ فاق احتماله... زاد من اشتعاله... كيف يُلدغ للمرة الثانية من ذات الجحر كالأحمق...؟

وأسرع يسابق شياطين غضبه... والبركان بصدره يوشك على الإنفجار... أسرع إليهما ليُنهي سيناريو إستغفاله ويثبت لها أنه لم ولن يسقط بشباكها.

- "وحشتني أوي يا ماجد... بجد من ساعة ما شوفتك آخر مرة في أمريكا أما جيت مع زين كنت قلقانة عليك أوي..."

- " عشان كدة أصريتي تيجي معايا أمريكا مش كدة...؟"

والصوت أتى من خلفها مباشرة... صوت عشقته وذابت في نبرته القوية... إنه صوته...! ومع استدارتها أكمل:

- كنتِ عاملاني كوبري عشان تشوفي حبيب القلب...

همت أن تقول شيء ما إلا أن زين صاح بعنف:

- ليه... ليه تلعبي بمشاعر راجل فعلا حبك وكان مستعد يعيش معاكي حياة نضيفة...

- زين أهدى ده....

- أنتِ طالق....

ملامحه متغضنة في غضبٍ شيطاني... صوته مرتفع جذب أنظار العاملين ومرتادي المقهى... ماجد تجمد مذهولاً... نور شعرت بقلبها يسقط في أعماق سحيقة ومعدتها تتقلص في ألم وكأنها ستلفظ روحها ليستمر هو في غيه مهشمًا روحها شظايا متطايرة:

- والحمد لله... أنا متأكد المرة دي أنك مش شايلة ابني أو بنتي ومش هاتلففيني عليه خمس سنين كمان... آااه... وبنتي مالكيش دعوة بيها خالص... أنا أعرف أربيها كويس بعيد عن ست زيك...

استندت نور على ظهر مقعدها مطرقة في إنكسار، بينما قال ماجد:

- يا باشمهندس زين يا ريت حضرتك تفهم الموضوع أنا....

- أنت إيييه...؟ عشيق مراتي...؟

- استغفر الله العظيم يا زين من فضلك...

- آاااه ... افتكرتك... مش أنت اللي كنت معدي من قدام البيت في أمريكا أما جيت للهانم أول مرة...؟ وأنا اللي كدبت أخويا وصدقتها أتاريها...

- "كفااااية..."

صرخت نور في غضب، ليقول زين بجنون:

- آه... آه كفاية خداع وكذب بقى... الحمد لله إني كشفتك قبل فوات الأوان... عشان تخليكي مع الراجل اللي يتحبيه... عشان مايوحشكيش يا مدام... عن إذنكوا...

قالها وهو يرحل هادرًا، فهم ماجد اللحاق به، لكن نور أمسكت ذراعه قائلة بوهن:

- ماجد... أرجوك... ماتروحش تكلمه... أرجوك...

استدار إليها قائلاً:

- يا حبيبتي لازم أفهمه الموضوع... مش لازم يردك بس أفهمه الموضوع وأفهمه أن الطلاق مش لعبة يمين يرميه في أي وقت كدة...

- أرجوك يا ماجد بلاش... سيبه أرجوك...

تأملها قليلاً محاولاً أن يستشف ما يدور بعقلها لتتأمله بدورها لتهدأ قليلاً وهي تلمح طيف أمها في وجه أخاها غير الشقيق... تراها في قسمات وجهه الهادئة... في حاجبيه العريضين ورسمة وجهه التي ورثها عنها... تراها في نظراته الثاقبة التي يشملها بها وشبه إنعقادة حاجبيه عندما توقف قليلاً ونظر إليها متسائلاً بهدوء:

- ليه مش عايزاني أوضح له الموضوع..؟

- والله يا ماجد لو روحت قلت له كلمة لا أنت أخويا ولا أعرفك...

- ليه طيب... أفهم...؟!

- لأن كدة أحسن... أنا تعبت...

- بس أنتِ بتحبيه... بتحبيه جدًا كمان... فاكرة مكالمتك ليا في أمريكا أما زين طلع من المستشفى..؟ فاكرة أما حكيتي لي مواقفه معاكي وأتفقنا على خطة تحافظوا بيها على حبكم وقولتي لي بكل سعادة أن الخطة دي نجحت..؟

- آه حبيته... وأفتكرت في يوم من الأيام أنه ممكن يكون زوجي وحبيبي... بس عادي... مالناش نصيب...

قالتها بكل بساطة كعادتها بينما قلبها تشطره نصفين تلك الكلمة التي ألقاها زين منذ قليل، وضعت منظارها الشمسي على عينيها كي لا تخونها نظراتها المنكسرة.. واستأذنت من ماجد راحلة إلى الشخص الوحيد الذي قد تصرخ أو تبكي في حضرته دون أن تخشى إنكسار قناع صلابتها.

******

تراها في قسمات وجهه الهادئة... حاجبيه العريضين ورسمة وجهه التي ورثها عنها... تراها في نظراته الثاقبة التي يشملها بها وشبه انعاقدة حاجبه عندما توقف قليلاً ونظر إليها متسائلاً:
- ليه مش عايزاني أوضح له الموضوع..؟
- والله يا ماجد لو روحت قلت له كلمة لا انت اخويا ولا اعرفك
- ليه طيب... أفهم...؟؟!
- لأن كدة أحسن... أنا تعبت...
- بس أنتِ بتحبيه... بتحبيه جدًا كمان... فاكرة مكالمتك ليا في أمريكا بعد ما طلع من المستشفى...؟ فاكرة أما حكتي لي مواقفه معاكي واتفقنا على خطة تحافظوا بيها على حبكم وقولتي لي بكل سعادة أن خطتنا نجحت؟؟
- اه حبيته... وافتكرت في يوم من الأيام أنه ممكن يكون زوجي وحبيبي.... بس عادي... مالناش نصيب...
قالتها بكل بساطة كعادتها بينما قلبها يشطره نصفين تلك الكلمة التي ألقاها زين منذ قليل، وضعت منظارها الشمسي على عينيها كي لا تخونها نظراتها المنكسرة واستأذنت من ماجد راحلة إلى الشخص الوحيد الذي قد تصرخ أو تبكي في حضرته دون أن تخشى إنكسار قناع صلابتها."
تراها في قسمات وجهه الهادئة... حاجبيه العريضين ورسمة وجهه التي ورثها عنها... تراها في نظراته الثاقبة التي يشملها بها وشبه انعاقدة حاجبه عندما توقف قليلاً ونظر إليها متسائلاً:
- ليه مش عايزاني أوضح له الموضوع..؟
- والله يا ماجد لو روحت قلت له كلمة لا انت اخويا ولا اعرفك
- ليه طيب... أفهم...؟؟!
- لأن كدة أحسن... أنا تعبت...
- بس أنتِ بتحبيه... بتحبيه جدًا كمان... فاكرة مكالمتك ليا في أمريكا بعد ما طلع من المستشفى...؟ فاكرة أما حكتي لي مواقفه معاكي واتفقنا على خطة تحافظوا بيها على حبكم وقولتي لي بكل سعادة أن خطتنا نجحت؟؟
- اه حبيته... وافتكرت في يوم من الأيام أنه ممكن يكون زوجي وحبيبي.... بس عادي... مالناش نصيب...
قالتها بكل بساطة كعادتها بينما قلبها يشطره نصفين تلك الكلمة التي ألقاها زين منذ قليل، وضعت منظارها الشمسي على عينيها كي لا تخونها نظراتها المنكسرة واستأذنت من ماجد راحلة إلى الشخص الوحيد الذي قد تصرخ أو تبكي في حضرته دون أن تخشى إنكسار قناع صلابتها.
تراها في قسمات وجهه الهادئة... حاجبيه العريضين ورسمة وجهه التي ورثها عنها... تراها في نظراته الثاقبة التي يشملها بها وشبه انعاقدة حاجبه عندما توقف قليلاً ونظر إليها متسائلاً:
- ليه مش عايزاني أوضح له الموضوع..؟
- والله يا ماجد لو روحت قلت له كلمة لا انت اخويا ولا اعرفك
- ليه طيب... أفهم...؟؟!
- لأن كدة أحسن... أنا تعبت...
- بس أنتِ بتحبيه... بتحبيه جدًا كمان... فاكرة مكالمتك ليا في أمريكا بعد ما طلع من المستشفى...؟ فاكرة أما حكتي لي مواقفه معاكي واتفقنا على خطة تحافظوا بيها على حبكم وقولتي لي بكل سعادة أن خطتنا نجحت؟؟
- اه حبيته... وافتكرت في يوم من الأيام أنه ممكن يكون زوجي وحبيبي.... بس عادي... مالناش نصيب...
قالتها بكل بساطة كعادتها بينما قلبها يشطره نصفين تلك الكلمة التي ألقاها زين منذ قليل، وضعت منظارها الشمسي على عينيها كي لا تخونها نظراتها المنكسرة واستأذنت من ماجد راحلة إلى الشخص الوحيد الذي قد تصرخ أو تبكي في حضرته دون أن تخشى إنكسار قناع صلابتها.
– "بس غريبة موضوع أخوكي ده..!"

قالها ياسر وهو يكمل إرتداء ملابسه بينما كانت تقى تلف حجابها وهي تقول:

- منا حكيت لك الحكاية كلها يا ياسر... ياللا بسرعة عشان نفسي أشوفه من ساعة ما عرفت من نور إنه موجود...

ضحك ياسر قائلاً:

- ياللا بسرعة إيه وأنت بتتحركي زي السلحفة الحامل ..!

تحركت تقى ببطيء تحت حمل بطنها المنتفخ ثم قالت بغيظ:

- يا سلاام بريء أوي يا بيبي... مش ابنك اللي جوة بطني ده...؟!!

قالتها ثم تأبطت ذراعه بالقوة لتستند عليه فيميل ضاحكًا وهو يقول:

- ما بالراحة يا بيه...

لكنها تجاهلته متوجهة إلى الخارج لتُخبر جارتها الشابة التي جاءت للاعتناء بعمتها وصغيرتها كل الأمور الهامة المتعلقة بهما وتعدها أنها لن تتأخر.

طوال الطريق وكل منهما شارد في عالمه... أحقًا صار لها أخ...؟ ترى.. كيف شكله في الواقع... كيف ستتعامل معه..؟ كيف سيستقبلها..؟ لقد أخبرتها نور أنه ذو شخصية طيبة حنون رغم كل المشاكل التي مر بها في أمريكا إلا أنه مثابر طموح لا يحب المتعالين لأنه غاية في البساطة.

أما ياسر فقد كان يفكر في هذا الأخ الذي ظهر لزوجته فجأة... يفكر في عمله ووضعه وإن كان شخصًا موثوقًا يمكنه أن يكون خالاً لصغيريه أم هو مستهترًا عابثًا لا يؤتمن..!

وما هي إلا دقائق حتى وصلت سيارة ياسر المتهالكة إلى المقهى الخارجي للفندق الذي يقيم به ماجد ليترجلا منها ويقول ياسر متسائلاً:

- هانعرف أخوكي ده إزاي...؟ تعرفي شكله أو...

- نور معاه يا ياسر وبعدين أنا شوفت صورته قبل كدة.. خليني أركز..

والإثارة تأخذ بمجامع قلبها... هي تلتقي أخيها الذي تمنت وجوده منذ سنوات عمرها الأولى... ستلتقيه الأن.. أخيرًا...

- "هـ.. هوا ده.."

قالتها وهي تشير في تردد إلى منضدة يجلس عندها شاب في مقتبل العمر يطالع جريدة ما... وشعور بالفخر يملأه لأن امرأته تحتمي في كفه... تدفعه أمامها... لم تهرع إلى أخيها وتنساه خلفها، فتقدم دون خوف واثقًا من حبيبته التي تثبت له في كل وقت أنه سيكون دائمًا رجلها الأول.

- "سلام عليكم... أ... أستاذ ماجد مراد..؟"

رفع ماجد عينيه إلى القادمين وأومأ برأسه قائلاً:

- أيوة يا فندم مين..؟

مد ياسر يده قائلاً:

- ياسر عويس المصري... أنا زوج تقى... تقى سليمان رحيل العربي...

انتفض ماجد واقفًا وهو يقول بابتسامة عريضة:

- آاااه... تقى... نور حكت لي كتير عنك... إزيك...

ابتسامته دافئة مطمئنة... نظراته متلهفة لدفئ أسرة كتلهفها تمامًا... صافحته وهي تحاول منع دموعها من الهطول لكنها لم تستطع وهي تقترب منه وترى ملامحه التي ورثها عن أمها بخلافها هي ونور اللتين لم ترثا عنها الكثير من الشكل الخارجي... لكن ذلك الشخص يبتسم كما كانت أمهم تبتسم... عيناه التي ورثها عنها ترسلان النظرات ذاتها... فتساقطت أدمعها وهي تضمه في شوق قائلة:

- يا حبيبي يا أخويا...

كانت جلسة مطولة.. تمكن ماجد فيها بلباقته ورقيه من اكتساب ياسر كصديق له حيث أُعجب ياسر بثقافته بعد أن تناقش معه في مواضيع شتى وأصر عليه أن يأتي إلى منزلهما مع إلحاح من تقى، لكنه رفض بلباقة واعدهما بزيارة قريبة لكي يرى الصغيرة حبيبة... لم يخبرهما بقلقه على نور التي لم يدر أين ذهبت كي لا يضطر أن يحكي ما حدث من زين دون رغبة أخته، ثم ودعهما شاردًا.. متسائلاً... ترى أين ذهبت نور..؟!!

******

- " يا مدام... يا مدام... عايزة أكون أول من..."

- "شششششش...."

- " يا مدام اسمعيني واللا الحاجة قالت لك وعايزة تاكلي عليا الحلاوة..؟"

- " أنت تسكتي خالص وتمشي من قدامي الساعة دي..."

هتفت نور بعد أن فاض بها الكيل من تلك الممرضة الثرثارة التي تلاحقها منذ أن دلفت الدور الذي به غرفة عمها بالمستشفى لتدخل الغرفة وتغلق الباب في عنف منهية ثرثرة الممرضة التي لا تكف عن سرد بطولاتها لقيامها بعملها فقط لتأخذ المزيد من الأموال.

استندت على الباب قليلاً تلهث في عنف... ترقب عمها الغافي في عالم آخر... وهنا... انفجر ينبوع دموعها وهي تقترب من فراش عمها تحاول كتم نهنهاتها...

- " ليه يا عمي...؟ ليه ولادك مصممين يكسروني ليييه...؟"

هتفت به بإنكسار يقوِّض ظهرها المنحني منذ دهرٍ أمام عواصفٍ متتابعة... وهي تشاهد حياتها التي تمضي في كل يومٍ إلى طريق بعيد عن ألبوم الصور الذي كانت تقلبه في خيالها بين الحين والآخر.

- "لأ... آسفة... زكريا عمره ما كسرني رغم كل اللي عمله فيا... عارف ليه..؟"

قالتها وهي تمسح أنفها ووجنتيها بظهر كفها محاولة ابتلاع دموعها ثم تكمل رسم خريطة دمارها بلوعة:

- لأني عمري ما حبيته يا عمي... أنا ماحسيتش ناحية زكريا بأي مشاعر ممكن تكنها ست لراجل... ضربني آه... أهاني مانكرش... لكني كنت دايمًا باقف له بقوة عارف ليه...؟ عشان ماكنتش باحس ناحيته إلا بالشفقة بس... الشفقة في الأول على ضياعه والشفقة في الآخر على مرضه... لكن زين...."

وعند ذكر اسمه صمتت طويلاً وأغلقت عينيها بقوة لكن دموعها أبت إلا أن تتدفق كسيول عارمة اجتاحتها... بللت حجابها ووجهها كله وأخذت تنهنه وهي تقول بصوت مبحوح:

- حبيته أوي... آه والله يا عمي... مش عارفة أمتى واللا إزاي بس فعلاً حبيته... وصبرت عليه كتير رغم إنكساري أدام حبه أكتر من مرة... كانت مشاعري أقوى من أخطائه... أداني دفا وحسسني بأنوثتي ووعدني أنه هايبقى بيتي ووطني طول العمر... وعدني يا عمي أنه يحبني.... خلاني أرمي خوفي وحذري وأسلم له كل قلبي... أديته قلبي عشان يكسره يا عمي ويكسرني... طيب ليييه...؟ أنا عملت لكم إيه عشان العذاب ده...؟ أنا.... أنا ساعدتكم كلكم... أنا وقفت جنبه لحد ما لقى بنته... وقفت جنبه وهوا تعبان... استحملت نفسيته بعد العملية... وصدقته... ده جزائي إني صدقته.... والله العظيم صدقته وحبيته ولسة قلبي الغبي بيحبه ومش قادر ينساه..."

ارتفع بكائها ولم تستطع قدميها حملها فسقطت أرضًا على ركبتيها وضمت جسدها المنتفض بذراعيها وأكملت مع نهنهاتها:

- آاااه يا زين.... قد ما حبيتك... قد ما كسرتني... قد ما أديتك من نفسي قد ما دوست عليا... نسيت إني بنت عمك لحمك ودمك قبل ما أكون مراتك...؟ نسيت كلامك ووعودك...؟ ليه ماحستش بحبي...؟ ليه ماقدرتش تثق فيا ولو لمرة...؟ ليه مش قادر تفهم أنك أول لمسة... أول شاهد على براعم أنوثتي اللي ختمتها بصك ملكيتك بكل أنانية وأنت عارف أنك هاتبعد...؟"

استمر بكائها عدة دقائق قبل أن ترفع عينيها المتورمتين عن صدرها الغارق بدموع انكسارها وتلتمع بهما نظرة غريبة وهي تقول بقوة:

- بس خلاص... أنا اتعلمت منكم الدرس يا عمي... اتعلمت منكم آل رحيل إني أعيش لنفسي وبس... أعيش لنفسي وابني وطز في العالم... والواحد مابيتعلمش بلاش يا عمي... كان لازم أتكسر عشان أفوق من الغيبوبة اللي كنت عايشة فيها مع أمي... مافيش عالم مثالي... مافيش تضحيات تاني بدون مقابل... وحقي هاخده منكم يا عمي... حقي هاخده غصب عنكم..."

قالتها ثم سارت بخطوات آلية إلى الخارج وهي تشعر أنها لفظت نور القديمة الحمقاء مع دموعها في تلك الغرفة وستتركها خلفها إلى الأبد... ستبحث عن البدائل الرابحة الممكنة لما اعتقدته منذ قليل خسارة أبدية.. لن تضيع وقتها مرة أخرى في التقوض والنحيب والولولة والتأنيب. ومع ابتسامة جليدية ارتسمت على شفتيها أقنعت نفسها بالدرس المُستفاد... الخسارة والربح مترادفين للشيء ذاته.. لأنها عزمت أن تجعل من خسارتها... ربحًا مؤجلاً.

******

- "بابا... فين ماما نور...؟"

- "بابا... عايزة أشوف ماما نور بقى وحشتني أوي..."

- "بابا... بابا... بابا... مش هاتوديني عند ماما نور...؟ هيا راحت فين...؟ طيب تعالى نروح لها.."

صغيرته التي لا تكف عن الثرثرة والسؤال رغم صده لها بصرامة لكنها تذبل يومًا بعد يوم في فراق نور.

" وإنِّي أُحبُّكِ..

لكنْ أخافْ التورُّطَ فيكِ،

أخافُ التوحُّدَ فيكِ،

أخافُ التقمُّصَ فيكِ،

فقد علَّمتْني التجاربُ أن أتجنَّب عشقَ النساءِ،

وموجَ البحارْ..."

حتى عندما قرر الإنعزال في غرفته والاستماع إلى المذياع كعادته قبيل النوم... وجده متآمرًا بدوره يبث أغنية تمزقه...

" دعيني أنادي عليكِ، بكلِّ حروف النداء..

لعلّي إذا ما تغنيت باسْمِكِ، من شفتي تُولدينْ

دعيني أؤسّسُ دولةَ عشقٍ..

تكونينَ أنتِ المليكةَ فيها..

وأصبحُ فيها أنا أعظمَ العاشقينْ..."

وبقبضة جُنت من فرط الحنين قذف بالمذياع مهشمًا إياه... فتح صوان ملابسها وأخذ يبعثر أشيائها التي لم تعد حتى لأخذها... ألقى بعطورها وتفاصيلها المهلكة... متسائلاً... حتى لو تخلص من أغراضها... كيف سيتخلص من ذكرياتها المنقوشة بجدران هذا المنزل... كيف ينسى عندما ضمته في هذا الفراش محاولة ضبط وضعية رأسه عقب العملية... كيف يمحو من ذاكرته رائحة المسك والفانيلا التي غرق بهما ليلتها... كيف يُنسي جدران الردهة وممرات المنزل ذراعها التي كان يستند عليها عليها متعلمًا السير مرة أخرى... كيف ينسى مذاق شفتيها ونظرة عينيها... كيف ينسى إنكسارها أمام كلمته الطائشة التي ألقاها في لحظة جنون..؟!!

ورغم أنه ليس يومه الأول في الفراق، لكنه يعتبره كذلك... فهو كل يوم يفتح وجعه بذكرى مختلفة لهما... بكلمة من صغيرته ونظرة لائمة من أمه التي توقفت عن الحديث عندما لاحظت هزاله بعد أن صار طعامه لقيمات قليلة وانقطاعه عن العمل والتواصل مع أي شخص، هذا غير انقطاعه عن تمشيط شعره أو حلاقة لحيته التي صارت نامية إلى حدٍ ما.

وقف أمام المرآة يتأمل ما جنته يداه... يهتف بإنعكاس صورته أنه ليس في حلٍ من شيء... فهو لا يسامح هذا الفراق رغم أنه هو من حفر طريقه وأطلق رصاصة إعدام علاقتهما... فصار يحمل إثمه كما يحمل الكهل قبره ولا يرقد فيه...! ويسأل إنعكاس صورته... كيف سيعايش ذلك الوجع...؟ كيف يعيش وقلبه قد غادره إلى ما لا يعلم...؟ هذا فراقٌ لا اسم له في لغته... لا هو ليس بوداعٍ بل حُرقة... حرقة وندم على تسرعه اللعين وكبريائه القاتل... نعم... هو يحبها... يحبها لدرجة تجعل منه أبًا يخشى على صغيرته ويغفر لها؛ وإن اقترفت ذنبًا لا يُغتفر...!

وعندما تجلى طيفها كما كانت في تلك الليلة هتفت روحه من عمقٍ سحيق... "أين أنتِ يا نبية قلبي...؟ أبحث عن يديكِ الدقيقتين.. يا أميرة الوقت والحكاية؛ أبحث عن عينيكِ... حيث يسكن اللون الذي مزق الكلام من شفتي... أبحث عن أمنياتي لديكِ... أبحث عن أطفالنا الضائعين..."

أغمض عيناه ليجتر تلك اللحظة التي وقفت بها على أطراف أصابعها تطبع قبلة رقيقة على وجنته شاعرًا بخنجر الفراق المسموم يتوغل بين أضلعه...! فنهض منتفضًا هاتفًا:

- لأ... لأ يا نور... ماقدرش... ماقدرش أعيش من غيرك... أنا إزاي كنت مجنون وغبي للدرجة دي...؟؟؟

وتذكر حقًا أصيلاً له سينتشله من غياهب الوجع وأنياب الفراق... ولاح له شبح أمل... فنهض مرتديًا ما وقعت عليه يده من ملابس دون النظر إلى إتساقها وخرج متتبعًا شبح أمله.

******

كان فطورًا مصريًا أصيلاً... فول ساخن بالزيت والطحينة وطعمية مقرمشة ساخنة... خبز أسمر خرج من الفرن لتوه وبيضًا مقليًا في السمن.. أصابع بطاطس محمرة وجبن أبيض مع زيتون وبصل أخضر وخيار وخس.

- "الله الله... يا صباح الفل... أنا شامم ريحة الطعمية من وأنا عالسرير..."

قالها ماجد بمرح، فضحكت نور قائلة:

- ناموسيتك كحلي يا متر... الضهر قرب يأذن وأنا مستنياك... ياللا تعالى بسرعة قبل الأكل ما يبرد...

تناول ماجد قرص طعمية وتناوله في تلذذ وهو يقول:

- أممممم... الله... كان نفسي في الأكل ده من زمان...

ضحكت نور قائلة:

- بالهنا والشفا يا حبيبي... بس قول لي إيه اللي مسهرك طول الليل... حاساك قلقان كدة...

أخذ ماجد يتناول الطعام في نهم وهو يقول:

- كنت بادور على شغل... وباقدم السي في بتاعتي...

- طيب ليه يا ماجد ماشتغلتش في أمريكا بعد ما اتخرجت..؟

- كان جايلي فرصة كبيرة فعلاً في مكتب في أمريكا واشتغلت فيه شوية بس لاقيت عصابة سايروس رجعت تطاردني وبيهددوني إني أرجع أشتغل لحسابهم أو ممكن يلفقولي أي مصيبة... عايزني أخرج ناسهم من السجن أو أدافع عنهم... وأما رفضت لاقيت كام واحد كدة منهم متابعين حركاتي... فقلت أنزل مصر لحد ما الدنيا تهدى شوية وأبقى أرجع تاني أو أستقر في مصر وخلاص...

قالت نور في فزع:

- لأ يا حبيبي... أوعى ترجع... أنت معاك ليسانس حقوق من أمريكا وأي مكتب يتمناك تشتغل معاه، وأنا أول موكلة عندك بس تعمل لي ديسكاونت في الأتعاب بقى ماشي...؟

وجم ماجد قليلاً ثم قال:

- نور... أنتِ لسة مصممة على القضية دي...

تلاشت إمارات المرح من وجهها وحل محلها صلابة وإصرار كسيا صوتها وهي تقول رافعة أحد حاجبيها:

- أيوة يا ماجد... ده حقي أنا وتقى ومش هاسيبه لهم...

زفر ماجد وهم أن يقول شيئًا ما، إلا أنها نهضت قائلة:

- يا نهار أبيض... أنا أتأخرت على الشغل... ياللا سلام عليكم أشوفك بالليل... عيسى هايرجع من مدرسته مع الدادة أبقى استلمه بقى... ماشي...؟ سلام يا قلبي...

قالتها وهي تلوذ بالفرار كي لا يصر على نبش صلابتها الهشة ويسألها عنه.. هو الذي يسكن أسفل جلدها رغم جرحه... هو الذي كلما طردته من غرفة بعقلها يظهر لها من أخرى... لذا قررت أن تسلك كل السُبُل في سبيل استئصاله من روحها... فهي امرأة مسكونة بشبح رجل؛ وإذا لم تخرجه من قلبها وعقلها كما نبذها من حياته في لحظة... فسيؤول بها الأمر إلى مشفى الأمراض العقلية يومًا ما.

وصلت إلى المشفى الذي أفنت أمها عمرها به كممرضة... دخلته بثقة وهي شبه متأكدة أنها لن تفني عمرها هاهنا بدورها وأنه مجرد محطة في سبيل تحقيق مخططها الكبير. ارتدت زي التمريض وشرعت في عملها وهي تدندن محاولة تجاهل كل الهمسات والغمزات التي تحوم حولها... تهمس لنفسها أن كلام الناس الآن ليس أكبر همها.

- "نور..."

ناداها صوته وكأنه خارج من ماضٍ سحيق، فاستدارت إليه لتجده كما هو اللهم إلا بضعة كيلوجرامات زائدة.

- أفندم دكتور محمود أي خدمة...؟

كانا يقف عند كاونتر التمريض، قال بتردد:

- ممكن نتكلم شوية...؟

وضعت كفيها بجيب معطفها الوردي قائلة:

- أتفضل...

- ممكن نتكلم في مكتبي...؟

- دكتور محمود... لو فيه حاجة عايز تقولها قولها هنا وبسرعة يا ريت أنا ورايا شغل...

تلفت محمود حوله قليلاً ثم قال بعبارات مترددة متقطعة:

- نور... نور... أنا عرفت قيمتك متأخر أوي... وكل يوم باندم إني سيبت إنسانة رائعة زيك... نور... أنا عرفت إنك انفصلتي عن زوجك... و... وكنت حابب اسألك... يعني... تقبلي تتجوزيني...؟؟

أتسعت عينا نور في ذهول و...

"إيــــــــــــــــــــــ� �ـــــــــــــــــه...؟!!"

لم يكن ذلك السؤال الهجومي أكثر منه متعجبًا صادرًا منها.... بل من ذاك الذي كان يقف خلف محمود بهيئة شبحية مشعثة... ذاك الذي أمسك بتلابيب الطبيب ولكمه في أنفه بعنف لتصيح هي في غضب:

- زيييين... أنت بتعمل إيه هنا...؟ أنت مالك بيا أصلاً...؟

استدار نحوها ممسكًا بذراعيها وهو يقول بنبرة متعبة ضائعة:

- نور... أنا... رديتك ليا...

******

Just Faith 18-12-17 02:02 PM

- 10 –
" تكبّر…تكبّر!
فمهما يكن من جفاك
ستبقى، بعيني ولحمي، ملاك
وتبقى، كما شاء لي حبنا أن أراك
نسيمك عنبر .. وأرضك سكّر
وإني أحبك ... أكثر"
لم يصدق أذنيه وهو يجر قدميه نحو غرفته عقب ليلة طويلة عاند فيها النوم الذي لم يقرب جفنيه منذ عدة أيام... ليلة موجعة بدأت بتجوله في الطرقات بعد خروجه من المشفى الذي تعمل به مهزومًا مكسورًا عندما أخبرته بكل برود أن لا عدة لها وهي تعيد كلماته التي أطلقها في وجهها ذلك اليوم الذي فقد به كل عقل ومنطق وتخلى عنها كالأحمق... عندما أخبرها عن راحته الجمة ليقينه من عدم حملها طفلٍ منه... هي الآن تعرب عن راحتها وهي تقول أنه لا يمكنه ردها حتى وإن كان بإمكانه ذلك فهي لن تعود إليه أبدًا. وعندما حاول أن يمسك بيدها.. يحادثها سألته بقسوة أن كيف يعود لامرأة خائنة تلقى عشيقها سرًا، لم يدر سر نظرتها القاتلة عندما قال لها:
- خلينا نغفر كل أخطاء الماضي ونبدأ من جديد... ناخد بإيد بعض و...
لكنها دفعته باحتقار وهرولت مبتعدة... لا ينسى عندما حاول اللحاق بها يذكرها وعدها الذي قطعته بالبقاء معه مهما حدث... يحاول إمساك يدها... ضمها إلى صدره علَّها تهدأ.. لم يتخيل أبدًا أنها قد تصيح بهيستيريا تنادي أمن المشفى الذين جاءوا على عجلٍ كي يلقوا به إلى الخارج.
شعر حينها بشيء ينكسر بينهما لن يمكن إصلاحه أبدًا... شعر بروحها تعاند جاذبية عشقهما وتخرج من مداره إلى فضاءٍ آخر... شعر بروحه تهوى في أعماقٍ سحيقة لا تقوى على حمله. ركب سيارته وتجول في الطرقات دون هدفٍ واضح... استقر في أحد المقاهي الشعبية يحاول محادثة الغرباء كي لا يُجن... عجائز المقهى ينظرون إليه بإشفاق وهو يحكي باكيًا عن امرأة تسكن أسفل جلده لا يمكنه الحياة إلا بتنفس عبيرها عوضًا عن الهواء، لكنه بكل حماقة الدنيا أفلت يدها... بل استئصل وجودها من حياته وكأنه قد استئصل قلبه فصارت حياته لا معنى لها... بل صار جثة تسير على قدمين.
قاوم النعاس بأطنان من فناجين القهوة والشاي... قاوم البكاء بلعب الطاولة والدومينو مع عجائز المقهى والضحك بصخب على أقل مزحة...ود لو يبقى هنالك إلى الأبد... يدفن نفسه في جدران المقهى ولا يعود إلى منزلٍ يعذبه كل ركن به يوميًا بذكرياتهما؛ إلا أن وعيه الذي بدأ في التسرب رغمًا عنه وثقل رأسه عقب سهر ليالٍ طوال أجبراه على جر رجليه إلى السيارة ومحاولة إبقاء عينيه مفتوحتين حتى وصل إلى منزله بالكاد.
" غنائي خناجر ورد .. وصمتي طفولة رعد
وزنبقة من دماء فؤادي .. وأنت الثرى والسماء
وقلبك أخضر…!
وجزر الهوى، فيك، مدّ
وجزر الهوى، فيك، مدّ
فكيف، إذن، لا أحبك أكثر "
لكن... تلاشت مخاوفه عند سماع صوتها الدافيء ذو البحة المحببة يترنم من داخل غرفتهما... نعم... يبدو أنها راجعت نفسها وعادت إليه... نعم هي ليست بتلك القسوة كي تتركه ينازع رحيل روحه... ستعطيهما فرصة أخرى كما وعدت أن تحبه أكثر مهما يكن من جفاه... كما وعدته أن تكون له أمًا يتسع قلبها لكل أخطائه كما تكون له زوجة ومعشوقة... ستغفر له كما غفر لها ويسطرا معًا حكاية جديدة بعيدًا عن كل جروح وندبات الماضي.
"وإني طفل هواك... على حضنك الحلو
أنمو وأكبر.."
تقف أمام المرآة كطيفٍ لحلمٍ رائع... تدندن قصيدتها المغناة التي كانت تتغنى بها ذلك اليوم بالمطبخ وهي تعد له فطائرها الشهية، واليوم تتغنى بها وهي تُعد له ما هو أشهى من تلك الفطائر... تطلي شفتيها بلونٍ كرزي قاتل... تضع زخات من عطرها المسائي فيصل إلى أنفه عبق المسك والفانيلا يسكره ويعيد يومه إلى توقيته الصحيح... تستدير إليه بثوب نومٍ قصير من الساتان الأبيض يعلوه معطفًا من الشيفون الأبيض أيضًا.. نفس ملابسها التي استقبلته بها تلك الليلة التي انتهت بإنكسارهما... لكنه لن يسمح بأي إنكسار بعد اليوم... أسرع إليها يمسك وجهها بين كفيه تأمل عسل عينيها المسيج بإطار من الكحل الأسود ورموشٍ سوداء ناعمة...
- نور... نور أنتِ رجعتي...؟
ابتسامتها تُعيد إليه روحه وكفيها الصغيرين يستريحا على كتفيه وهي تهمس:
- ماقدرتش أشوفك في الحالة دي ومارجعش يا زين...
كان إنعكاس صورته في المرآة خلف نور يصف حالته بكل وضوح... شعر أشعث... لحية نامية... هزال.. ملابس مبعثرة.. عينان منتفختان وقد بدأت الهالات السوداء في التكاثف حولهما.
- نور أنا آسف... والله آسف على كل حاجة... أنا....
وضعت سبابتها على شفتيه هامسة:
- بلاش نفتح الجرح تاني... خلينا ننسى...
أخذها بين ذراعيه... ضمها بقوة وهو يقول:
- كنت عارف أنك مش هاتتخلي عني...أنتِ قلتي لي كدة... وعدتيني أنك تديني الحنان اللي أمي ما اديتهوليش... أمي يا نور سابتني للجدة عشان ظنت أنها أقدر منها على تربيتي... وأما كنت متفوق ومثالي كانت وجة نظرها دي بتترسخ أكتر... الجدة عمرها ما طبطبت عليا... عمرها ماحسستني إنها بتحبني لشخصي... لأ.. كل حاجة أراضي العيلة... ميراث العيلة... خلي بالك.. أنت خليفة الشيخ رحيل... الناس كلها بتتآمر لازم أسيطر عليهم... كنت هاتجنن... سافرت إنجلترا أدرس ماجستير ودكتوراه ماخلونيش أخلصهم... ماخدتش غير الماجستير بس وأبويا قال لي إني مش ممكن أطول أكتر من كدة... نزلت أكمل الدكتوراة في مصر... واتربطت في ساقية الجدة تاني... وكانت كارمن محاولة تانية للتمرد بس محاولة فاشلة للأسف... أنتِ يا نور أحسن حاجة الجدة قدمتها لي... ماحدش حبني وخاف عليا كدة... أمي وأبويا مطمنين عليا مع الجدة... آه كانوا بيخافوا عليا من المرض... من البرد.. لكن ماحدش خاف على قلبي زيك... ماحدش حسسني بقيمة روحي وإرادتي قدك... وأنا بكل غباء وتسرع... رميت الكلمة اللي تقطع رباطنا المقدس... أنا آسف يا حبيبتي بس لازم تقدري موقفي... أنا كنت هاتجنن وأنت مع راجل تاني... ولأن حبي ليكي أكبر... سامحت... ومديت لك إيدي نبدأ من جديد... أرجوكي...
قاطع استرساله صوت طرقات متتابعة على باب الغرفة... فانتفض مستديرًا نحو الباب وهو يسمع نداءات أمه:
- زين... زين يا ولدي أنت جيت...؟
عاد برأسه إلى حيث تقف حبيبته... لكنها لم تكن هناك... نظر إلى كفيه ليجد ملابس النوم التي كانت ترتديها تلك الليلة... فألقاها على الفراش بعنف وهو يصرخ:
- جننتيني... جننتيني يا نووور... خلتيني أكلم نفسي وأكلم الحيطان والهدوم...
فتحت أمه الباب في ذعر وهي تسأله:
- زين يا ولدي... إيش اللي حصل...؟ ليش بتصرخ يا ولدي...؟
أخذ زين نفسًا عميقًا مغلقًا عينيه وهو يقول جازًا على أسنانه:
- ماما من فضلك لو مافيش حاجة مهمة يا ريت تسيبيني لوحدي...
تأملت أمه حاله في حسرة لكنها ابتسامة صغيرة شقت طريقها وسط ملامحها المتحسرة وهي تقول:
- زين... أبوك يا ولدي... أبوك فاق....
***
"يداك خمائل ولكنني... لا أغني ككلِ البلابل
فإن القيود تعلمني.... أن أقاتل... أقاتل... أقاتل..
لأني أحبك أكثر..!"
تسير كشبح بائس... شاردة... تقاوم هطول الأمطار من غمامتي عينيها... تعيد فرش غطاء طاولة الطعام عقب تناولهم طعام الغداء في شرود وهي لا تفتأ تدندن ذلك المقطع هامسة إلا أنه سمعها رغم تظاهره اللعب مع صغيرها... وبداخله تحتشد كلمات وتساؤلات... لكنها لا تدع لها فرصة لفتح الموضوع أبدًا... منذ أن أحضرته إلى بيت أمهما وهي تحاول أن تبدو أمامه قوية... ثابتة... لكنه يدري أي حرب طاحنة تدور رحاها بداخلها.
أنهت ترتيب وتنظيف ما بعد الغداء ثم انسلت إلى غرفة أمهما التي تحتلها منذ مجيئهما... فزفر في ضيق متألمًا لما آل إليه حال أخته.
وضعت هاتفها على الوضع الصامت ثم استلقت في فراش أمها بين ذراعي رائحته... معطفه الجلدي الذي دثرها به عندما جاء كإعصار لينقذها من ذاك الذي يُدعى وليد والذي حاول انتهاكها... جاء يومها زين ليجدها ملقاة على الأرض وملابسها ممزقة فخلع معطفه الجلدي ودثرها به ومن يومها والمعطف هاهنا... ومن يومها والمعطف يحمل رائحته التي تدير رأسها وتشعل قلبها إشتياقًا... دفنت وجهها في معطفه الذي لازالت به رائحة عطر هوجو بوس الذكورية المركزة التي تجمع بين عبق اللافندر والبنفسج مع مزيج دافيء وجذاب من المسك وبعض الأخشاب العطرية... عطره الأثير الذي لا يغيره... ذلك العطر الذي صار مرادفًا لاسمه خاصة وهو يمتزج بجنون مع رائحة جسده.
لم تلحظ هاتفها الذي أخذ يضيء في صمت معلنًا عن وصول مكالمة بينما دمعت عيناها وهي تزفر هامسة:
- كنت مستعدة إني أمشي معاك على الشوك شويتين وعلى الورد شوية... كنت مستعدة أمسك إيدك وماسيبهاش أبدًا... والله كنت مستعدة أخبيك في قلبي يا زين وأديك كل الحب والثقة اللي طلبتهم مني... كنت مستعدة أكون أمك واختك وحبيبتك ومراتك وبنتك... بس أنت اللي رفضت.. رفضت ورميتني من علو شاهق عند أول منعطف... أنت اللي قسمت قلبي نصين... نص بيحبك ويشتاق لك بجنون... ونص بيكرهك ومش عايز يشوفك ولا يسمع صوتك تاني.... أنت اللي كتبت النهاية يا زين بكل قسوة... أنت لو حبيتني نص الحب اللي حبيتهولك... كنت اتمسكت بيا شوية...
وتزايد سيل عينيها فتنهدت مردفة:
- بس طلعت مالياش قيمة عندك أبدًا... أبدًا...
لكن هيئته المشعثة التي كان عليها صباح اليوم جالت بذهنها وأوجعتها تمامًا كما أوجعتها قناعته بخيانتها له فجاء محملاً بصكوك الغفران وكأنه أسبغ عليها شيءٌ عظيم بذلك العفو السامي عن جُرمٍ ما كان له أن يطوف بذهنه حتى.
سمعت طرقات على باب الغرفة فسارعت بمسح أدمعها وارتداء أجمل ابتساماتها وهي تقول بصوت متحشرج:
- أتفضل...
دخل ماجد حاملاً عيسى وهو يبتسم قائلاً:
- نور... تقى بتتصل بيكي من شوية ومابترديش... أنتِ نمتي واللا إيه..؟
أجابته باسمة:
- أنا كنت عاملة الموبايل صامت ومريحة شوية... فيه حاجة...؟
تنقلت عيناه بين المعطف الرجالي المستقر جوارها وبين عينيها الحمراوين وابتسامتها المصطنعة ثم قال بهدوء:
- عمك يا نور... تقى بتقول عمكم سليم فاق.
رفعت نور أحد حاجبيها في تصميم وضيقت عينيها وهي تقول بصرامة:
- تمام... كويس أوي كدة... أول مرة يعمل حاجة في وقتها مظبوط...
********
- "مبروك يا باشمهندس الوالد زي الفُل الحمد لله وفاق تمامًا من الغيبوبة..."
بادرته الممرضة وهو يهرع مسرعًا إلى غرفة والده فقال:
- الله يبارك فيكي يا ناهد متشكر أوي... يعني هوا بيتكلم وعارف اللي حواليه...؟
- هوا بدأ تظهر عليه إمارات الفوقان من كام يوم كدة... يعني كانت شوية إشارات من غير رد فعل... بس النهاردة صوته طلع شوية وبدأ يكون له رد فعل للي حواليه فالدكتور اتطمن وبلغكم...
وفي الداخل كانت أمه تحتضن كف أبيه ويلهج لسانها بالحمد... كانت عمته سنية على مقعدها المتحرك تبتسم له... كان ياسر يحادث خاله ويمزح معه محاولاً تخفيف عبئ تلك الأشهر الماضية التي قضاها بعيدًا عنهم... تقى وحبيبة وسعادة خالصة تغلفهم جميعًا... إلا سعادته... كانت منقوصة وهو يقبل أباه معربًا عن فرحه بعودة والده الذي تأمله بنظرة غريبة لأول مرة يشمله بها... وكأنه سبر أغواره واستشف ما بداخله ورأى بوضوح جرح قلبه.
توجه ياسر إلى باب الغرفة ذاهبًا لإحضار بعض المشروبات لهم، فلحق به زين إلى الخارج يسأله عن وضع أبيه تفصيلاً..
- الحمد لله خالي على حسب الأشعة اللي شوفتها كله تمام... بس الحركة هاتبقى صعبة شوية لأن العضلات فيها تيبس بعد فترة الغيبوبة الطويلة دي... بس مع العلاج الطبيعي هايتحسن بإذن الله...
شرد زين عند ذكر العلاج الطبيعي في امرأة وقفت خلفه حتى استجاب... امرأة قدمت له ذراعها كي يستند عليها وتعود خطاه لشق طرقها حثيثًا حتى عادت لسابق عهدها.
- "يعني سبحان الله... خالي يفوق بعد ما خال بنتي يظهر... دي علامة يا مارد... ههه ماجد ده شكله وشه هايبقى حلو علينا..."
قالها ياسر فهز زين رأسه وهم أن يعود إلى غرفة أبيه في شرود لكنه توقف ورفع رأسه في حدة إلى ياسر قائلاً:
- خال بنتك...؟؟ مين خال بنتك ده...؟ مين ماجد ده...؟
تسائل ياسر في دهشة:
- إيه ده... أنت ما تعرفش عن أخو تقى ونور اللي نور قابلته في أمريكا ولسة واصل مصر من كام يوم..؟
عقد زين حاجبيه في شدة وهو يقول:
- أخوها....؟
- آه يا زين والله أنا شوفته مرة شكله إنسان مهذب ومحترم ومثقف... درس حقوق في أمريكا ونزل...
- أخوهم إزاي وأمتى...؟
- أخوهم الكبير يا زين من مامتهم... مش مامتهم كانت متجوزة حد قبل خالي واتطلقت منه...؟
وبدأت قطع الأحجية تتجمع في عقله... فرحل سريعًا من أمام ابن عمته الذي أندهش من ردة فعل زين وحاول اللحاق به أو مناداته متسائلاً عما حدث له له، لكن زين كان قد أستقل سيارته وأنطلق بها وهو يلكم المقود بقبضيته لاعنًا تسرعه وغباءه.
******
- "ودي أوراق بكل أملاك عيلة رحيل روحت كذا مصلحة عشان أجردهم..."
قالها ماجد وهو يجلس جوار نور على أريكة الردهة بمنزل أمهما العتيق، فاعتدلت نور قائلة:
- ما شاء الله يا متر.. والله برافو عليك...
كان عيسى يلهو بسيارة أحضرها له ماجد هدية تعمل بالتحكم عن بعد وتصدر أصواتًا صاخبة، فقالت له نور وهي تحاول التركيز في الأوراق التي أعطاها لها ماجد:
- عيسى من فضلك ألعب بعيد شوية... يعني بتشوف الكارتون واللا بتلعب بالعربية..؟ عايزة أركز يا حبيبي..
قال عيسى متذمرًا:
- يا ماما بس أنتِ وخالو وعدتوني إنكم هاتلعبوا معايا وماحدش لسة عايز يلاعبني...
كانت نور مستغرقة في قراءة الأوراق تمامًا، فقال له ماجد:
- ماشي يا سيسو هانلعب مع بعض بس نخلص الهوم ورك بتاعنا زيك... أتفقنا..؟
أومأ عيسى برأسه ليهتز شعره الناعم ويرحل نحو باب المنزل بعيدًا عنهما ليكمل لهو بسيارته الجديدة بينما مال ماجد على نور يتناقشا فيما أمامهما من أملاك لا تعد ولا تُحصى عائدة لعائلة أبيها.
كان صوت الطرق خفيضًا يكاد لا يُسمع في خضم صخب التلفاز ولعبة عيسى الذي كان هو أول من سمع الطرقات فأتجه نحو باب المنزل القريب منه يفتحه ويصيح:
- عمووو زييين... هيييه أنت جيت تلعب معايا بالعربية الجديدة..؟
شعر ماجد بتصلب نور وبرودة أطرافها فأمسك كفها يربت عليه عندما دخل زين مطرقًا... أنحنى يقبل عيسى ثم رفع رأسه نحوها... تجلس على الأريكة باسترخاء... شعرها الليلي الطويل المنساب بحرية تجمعه كله على كتفها الأيسر وتنحني يمينًا على كتف ذلك الـ ماجد...!
- "آااااه... وأخيييرًا يا باشمهندس مسكتني بالجرم المشهود تاني..."
قالتها وهي تستجمع صلابتها وتنهض لتقف برهة أمامه في تحدين ثم همت بالرحيل إلى غرفة أمها إلا أنه ناداها:
- نور من فضلك عايز أتكلم معاكي...
قالت دون أن تستدير:
- مافيش كلام يتقال خلاص يا باشمهندس...
- نور من فضلك...
- عن إذنك ... ما ينفعش أقعد معاك من غير حجاب...
قالتها ثم توجهت إلى غرفتها موصدة الباب خلفها، فمرر زين أصابعه في شعره في غيظ عندما أقترب منه ماجد بملامح هادئة لا تعبر عن شيء قائلاً:
- أهلاً وسهلاً يا باشمهندس...
استدار نحوه زين قائلاً في حرج:
- أستاذ ماجد يا ريت تعذرني أنا اتسرعت المرة اللي فاتت و...
- مش لازم أنا اللي أعذرك يا باشمهندس... حد تاني هوا اللي إنكسر فعلا باللي عملته ولازم تحاول تصحح الوضع معاه وبعدين نتكلم...
قالها وهو يوميء برأسه نحو الغرفة التي توارت نور خلف بابها، فعض زين على شفته السُفلى متمتمًا:
- ماهو أنا ماكنتش أعرف أنكم...
- وهوا ده تحديدًا اللي كاسرها... عدم ثقتك فيها... هيا كان ممكن تعذرك في حالة غضب عادية أو حساسية في غير محلها لكن عدم ثقتك فيها يا باشمهندس دمرتها..
أغمض زين عينيه في ألم وآخر كلمة من حديث ماجد تشطر قلبه كخنجر مسموم طعن حبيبته به ثم جاء دوره كي يشاهد ماا جنته يداه.
- شوف يا باشمهندس... أنا ليا معاك كلام كتير إذا قررتوا أنكم ترجعوا لبعض... أنت يمكن ماتعرفنيش بس أنا عرفت عنك حاجات كتير... عشان كدة هاديك فرصة أخيرة أنك تصالح نور بعد كدة أنا موجود في حياة أختي عشان أحافظ عليها ومش هاسمح لأي حد أنه يقلل منها أو من كرامتها...
تجمد زين ولم يدر كيف يرد على حديث ماجد الذي لم ينتظر ردًا وذهب إلى غرفة نور يطرقها بهدوء قائلاً:
- نور افتحي من فضلك... أنا ماجد..
فتحت نور الباب ليهمس لها ماجد ببضعة كلمات ثم ينظر إلى زين يوميء له بالمجيء هامسًا له:
- آخر فرصة يا باشمهندس ولو أصرت على رأيها مش هالومها...
دلف زين مغلقًا الباب خلفه فانتفضت نور هاتفة:
- أنت بتعمل إيه...؟
- نور أنتِ مراتي... خلينا نعرف نتتكلم شوية...
- لسة بتقو مراتك..؟ أنت مش أتخليت عن الصفة دي بكل سهولة من كام يوم...؟
- مش هادافع عن موقفي يا نور... أنا غلطان بس فعلا أنا ندمت على تسرعي من قبل ما أعرف إن ماجد أخوكي...
ضحكت ساخرة ثم أولته ظهرها لتنظر من النافذة قائلة:
- غلطة عن غلطة تفرق وأحيانًا فيه غلطات بتهدم... بتقطع كل طريق للرجعة...
اقترب منها مترجيًا:
- خلينا نبني طريق مع بعض نعرف نلاقي فيه نقطة تلاقي...
- وأتعب نفسي ليه في بناء طريق عشان نمشي عليه مع بعض وتيجي في يوم تهدمه وتقول غلطة بكل بساطة بعد ما يعدي العمر في وهم وحلم الطريق...
- اللي مايتعلمش من غلطاته غبي...
- إيه اللي يضمن لي أنك ما تبقاش غبي في يوم من الأيام...؟
- نور أنا بحبك...
- وأنا بطلت أشغل قلبي وعقلي بأمثالك... مش هافكر إلا في نفسي وابني وبس...
وضع كفيه على كتفيها وأنحنى إليها هامسًا:
- الأنانية والكذب مايليقوش عليكي يا نور... أنت لسة بتحبيني قد ما بحبك واكتر... قولي لي أعمل إيه عشان أكفر عن غلطتي وأرجع جنتي اللي أتطردت منها...
دفعت نور يدي زين عن كتفيها مبتعدة عنه وهي تقول بصرامة:
- لو لسة عندك ذرة مشاعر ناحيتي... كمل اللي بدأته وأبعت لي ورقة طلاقي من فضلك...
صاح زين منفعلاً:
- مش هاطلقك يا نور... وبعدين مستعجلة ليه على ورقة الطلاق كدة...؟ تكونيش بتفكري في عرض الدكتور الاهبل اللي عرض عليكي الجواز ده...؟
هزت نور رأسها في أسف وهي تتمتم:
- مش هاتتغير...
قالتها ثم أشارت إلى الباب مردفة:
- يا ريت تتفضل عشان عايزة أستريح شوية...
لم يتحرك زين من مكانه، فتوجهت نور إلى الباب وفتحته ثم خرجت إلى باب المنزل تفتحه وهي تكمل حديثها:
- انتهى وقتك يا باشمهندس... أتفضل...
خرج زين محبطًا... لتغلق نور الباب خلفه في عنف وتهرع إلى غرفتها... تدفن وجهها في الوسادة وتبكي باحتراق... تبكي شطر قلبها الغبي المتعلق به... تهشم صلابتها التي جثمت على مشاعرها التواقة حتى أدمتها... تبكي رجلاً كانت له الدواء فأصبح داءها.
- "ممكن أدخل...؟"
تسائل ماجد وهو يخطو إلى الغرفة شاهدًا إنهيار نور... فربت على كتفيها وأخذ يحاول تهدئتها حتى نجح في ذلك لينهض إلى المطبخ يعد لها كوبًا من عصير الليمون ويعود يعاونها على احتسائه.
- " ممكن نتكلم دلوقتي بصراحة يا نور..؟"
أومأت دون أن تنبس ببنت شفة، فأكمل:
- هوا زين غلطان آه... مانكرش... بس أنت كمان غلطانة يا نور...
رفعت رأسها إليه في ذهول، ليردف:
- كان المفروض تحكي لزين كل حاجة عني من البداية... خاصة وأنك عارفة كويس طبعه الحامي وتسرعه وتجاربه السابقة اللي عملت له أزمة ثقة مع رواسب تربية أحادية المنظور...
- يا ماجد الأحداث كلها جت ورا بعض امريكا بنته الحادثة.. جواز زهرة... ماكنش فيه فرصة.. وأما أنت كلمتني من مصر بعد ما نزلت... زين مابصش في عنيا حرفيًا ليلتها...
قال ماجد بهدوء:
- ده ما ينفيش غلطك يا نور... مش مفروض تحطي نفسك موضع شبهة... الرسول صلى الله عليه وسلم كان ماشي مع إحدى زوجاته بالليل مرة والصحابة شافوه فقال لهم هذه زوجتي... وإحنا بشر يا نور... أنتِ تخيلي إنك شوفتي زين رايح يقابل واحدة وبيحضنها... هاتعملي إيه...؟
قالت نور ببساطة:
- هاسأله مين دي...؟ مش هاخلي سوء الظن هو المتصدر...
صمت ماجد قليلاً ثم قال:
- برضو يا نور... حاولوا تدوا نفسكوا فرصة تانية...
أشارت نور بكفها في حزم وهي تقول بحزن:
- خلاص يا ماجد... لا فرصة تانية ولا تالتة... قصتي أنا وزين انتهت... دلوقتي لازم أركز في الحرب اللي هاشنها على الجدة وأعمامي...
قالتها ثم التمعت عيناها في جذل وهي تضع خطتها في استعادة ما سُلب منها.
******
نظرات أبيه اللائمة دون أن يفهم لها سببًا والحسرة البادية في ملامح أمه وسؤال صغيرته الدائم عنها جعلوه يحاول تمضية جُل يومه خارج المنزل هائمًا في الطرقات دون وجهة محددة... يقضي أمسياته بين المقاهي والنادي وأشباه أصدقاء وصباحاته متشابهة بين العمل وجلسات علاج والده حتى ذلك الصباح الذي أستيقظ به على صوت هاتفه يرن برقم عمه عتمان الذي كان يحمل له خبرًا نزل عليه كالصاعقة... الجدة مريضة وترغب في لقاء ابنائها وأحفادها مع أولادهم.
تلقى ياسر الإتصال ذاته مع التأكيد على اصطحاب أمه وتقى وحبيبة... وأغلق عتمان الهاتف وهو ينظر إلى أمه التي ساءت حالتها منذ أن جاءتها نور مع أخاها وتناقشت معها طويلاً حتى انتابها التعب.
- "صباح الخير يا عمي..."
كان ذلك صوت نور التي دلفت إلى الغرفة في هدوءٍ واثق... لينظر إليا عتمان بغضب وهو يرد:
- صباح النور...
وجاء صوت الجدة واهنًا تطالب عتمان بالرحيل وإغلاق الباب خلفه، فتوجهت نور إليها قائلة:
- أنا آسفة يا جدة لو كنت تعبتك إمبارح أنا كنت هاكلم عمي سليم لو كان جه هنا بس بما إني ماقدرش أروح له في المكان اللي هوا فيه قلت أما أكلمك... يا ريت ماتزعليش عشان ده حق ربنا...
تأملتها الجدة بعينين منهكتين ثم قالت:
- بس أبوك ترك الحق ده يا بتي بخط يده...
هزت نور كتفيها قائلة:
- ساب حقه تحت ضغط منك.. وعامة لو أنتِ مصرة على رأيك ده أنا هالجأ للمحكمة تشوف الورقة اللي معاكي دي صحيحة واللا لأ... والحق فين...
أومأت الجدة برأسها متمتمة:
- حاضر يا بتي... راح أنرد عليكي... بس اتركينا نريح الحين شوي ونتكلم المسا...
أومأت نور في صمت ثم استأذنت راحلة إلى غرفتها تحاول ضبط إنفعالاتها وخنق ذلك الصوت اللائم بداخلها حتى حل المساء ونادتها زينب إلى طعام العشاء... فنزلت لتفاجأ بأعين كل عائلتها تقريبًا متعلقة بها في مشاعر متباينة بين الذهول والحنق والغضب.
- "تعالي يا نور يا بتي..."
قالتها جدتها وهي تناديها إلى جوارها، فذهبت إلى هناك وعبر الردهة ألتقت عيناها بعيني ماجد الباسمتين عكس كل من بالغرفة.
- أفندم يا جدة...
قدمت لها الجدة بعض الأوراق قائلة:
- أنا وقعت مع الاستاذ ماجد على كل الورق اللي يثبت حقك أنت واختك من ورث أبوكم..
نظرت نور إلى ماجد بسرعة فأومأ موافقًا في تأكيد، لتكمل الجدة:
- أنا كل اللي كنت أبغاه هو توحد العيلة والمحافظة على الأرض... واللي شوفته منك يا بتي أكد لي إنك مش اللي يفرط في أرضه خاصة وإن حقك في الورث هوا جزء كبير من مزرعة زوجك....
نهض زين هاتفًا:
- إيه........؟؟؟؟
قالت الجدة:
- أيوة يا ولدي... المزرعة الحين حق مرتك يعني ما راحت بعيد... هيذا غير مبلغ مالي باقي حق نور هاينتقل لحسابها إن شاء الله...
طرق زين بقبضته على طاولة الطعام هاتفًا:
- لأ يا جدة... لأ... إلا المزرعة... المزرعة دي بتاعتي...
- المزرعة ما راحت بعيد يا ولدي...
غامت عينا زين وهو يتمتم:
- لأ راحت... راحت بعيد...
قالها وهو يخرج ورقة من جيبه يدفع بها إلى نور هاتفًا:
- ورقتك يا مدام اللي طلبتيها... ودلوقتي خطتك اكتملت صح...؟
قالها ثم غادر هادرًا بينما الجميع يتابعه في ذهول إلا نور التي لم يتحمل قلبها طعنة أخرى وسقطت فاقدة للوعي.
******

Just Faith 18-12-17 02:05 PM


- 11 –
بعد ليلك، ليل الشتاء الأخير
أقام الجنودُ معسكرهم في مكان بعيد
وحطَّ على شرفتي قمر أَبيض
وجلست وحُرّيتي صامتين نُحَدِّقُ في ليلنا
مَنْ أَنا ؟ مَنْ أنا بعد لَيْلِكِ
ليلِ الشتاءِ الأَخير؟
محمود درويش – غيمة من سدوم
***
"لأن الحياة ليست يومكِ الحاضر أو غدك فقط... لأن الحياة هي تلك التجارب والذكريات الضاربة بعمق الذاكرة...
هي كل ما مررت خلاله منذ مولدك إلى يومك الحالي... هي تلك اللبنات التي شكلت بنيان روحك...
هي أنا في أبهى صوري.. جميلة رغم فقري ويُتمي... شامخة بمؤهلي اليتيم من ثانوية التمريض التي أنهيتها بتفوق وبدأت رحلة البحث عن عمل أعول به نفسي وأمي المسنة. لم يطل بحثي في الواقع... وتم تعييني في مشفى استثماري فاخر تحت إشراف كادر تمريض محترف. لم يكن لي في نميمة الزميلات ولم أدرك سبب حقدهن ونظراتهن الحانقة وعمدهن الدائم إلى إيقاعي في مشاكل... كنت شبه طفلة عندما جلست يومًا على سلم الطوارئ للمشفى أبكي بحرقة... هذا عندما وجدت ذلك الطبيب الشاب الذي أجرى معي المقابلة وقام بتعييني على الفور يمد يده بمنديل قائلاً:
- شكلك مش وش بهدلة خالص...
رفعت عيناي إليه وأنا أنهنه... حاولت الاعتذار منه... لن أتحمل فقدان عملي هنا...
- دكتور مراد أ... أنا آسفة والله... أنا آسفة إني سبت شغلي هارجع حالاً...
نهضت أحاول الهرولة إلى عملي كي لا يستمر مسلسل فشلي الذي تعرضه زميلاتي دون توقف، لكنه أمسك معصمي ملقيًا إلى مسامعي بكلمتين زلزلاني حرفيًا...
- عُلا.... تتجوزيني..؟؟؟
نظرت إليه كالبلهاء بعينين متسعتين وأنا لا أصدق أذناي... هل أهلوس أم هو حقًا قال ما ظننت أنني سمعته...؟ أحقًا الدكتور مراد عبد الكريم الأغا الشاب الوسيم ذو الأصول التركية ابن صاحب المشفى يرغب في الزواج من ممرضة معدمة تبكي كطفلة حمقاء مثلي...؟؟؟؟!!
- د... دكتور مراد... أ... أنا....
- عُلا... من ساعة ما شوفتك وأنتِ شاغلة بالي... وأنا ماليش في المشي البطال زي بعض الدكاترة هنا... أنا جاي دُغري اسألك سؤال وعايز إجابته...
- دكتور مراد.... بس حـ... حضرتك متجوز...!!!
هز كتفيه ولمحتُ اهتزاز طفيف في أحد صدغيه وهو يقول:
- مش حرام إني أتجوز على مراتي على فكرة...
- بـ... بس الدكتورة ناريمان يعني بنت عم حضرتك و....
- وإيه يا عُلا...؟ أنا أقول لك وإيه... ومافيش في حياتها أهم من شغلها ومستقبلها كطبيبة نساء لامعة... نسيت أنها متجوزة وأن زوجها ليه احتياجات... الدكتورة ناريمان هانم باشوفها بالصدفة... حتى بناتها التوأم اللي عمرهم مايتعداش سنة سايباهم ليل ونهار للمربية... أنا تعبت يا عُلا... وياما نبهتها وقولت لها إني محتاج لست جنبي وبناتها محتاجين أم لكن هيا ولا هيا هنا... عشان كدة قررت اتجوز قبل ما اعمل حاجة تغضب ربنا...
ووقف بجواري بقامته الفارعة... أمسك كفاي مردفًا:
- أنا شوفت فيكي يا عُلا كل اللي محتاجه في الست اللي باحلم بيها.. طيبة وحنان ورقة قلب غير جمال هادي مريح أتمنى يكون لي أنا وبس....
كنتُ صغيرة... غَرة ساذجة... بهرني مُراد بثرائه وحبه ووسامته... بهرني بمعاملة راقية تذوقتها لأول مرة في حياتي... كان يعاملني كملكة متوجة... أصر على تركي للعمل وتفرغي له وتكفل هو بكل مصاريفي أنا وأمي... فرحت كالحمقاء وظننت أن الدنيا قد ابتسمت لي أخيرًا غير مدركة أي باب قد فتحته على نفسي عندما قبلت الزواج منه... سرًا....!!
في شقته الصغيرة المجاورة للمشفى عشت معه أيام أكثر من رائعة.... فمُراد كان مثالاً للحنان والرُقي... لم نكن نلتقي كثيرًا لكن أوقاتنا القليلة معًا كانت ممتعة لدرجة ظننت معها أنني أعيش حلمًا خرافيًا، لم أستيقظ منه إلا على معرفتي لخبر حملي، وعلى قدر فرحتي... على قدر الخوف الذي ملأني... هرعت إلى منزلنا الصغير وطلبت ملاقاته بشكل عاجل... وعندما جاء...
- مراد... لازم نعلن جوازنا...
- .............!!
- مراد... أنا حامل...
وكان رد فعله هي ثاني صفعة أيقظتني من حلم العشق والدلال الواهي... لم أتوقع منه ذلك الوجوم... لم أتوقع من ذلك العاشق الراقي أن يتمتم في إحباط:
- مش قولنا نأجل الموضوع ده شوية يا عُلا...؟
- وأنا سمعت كلامك وعملت اللي قولت يا دكتور بس حصل... إرادة ربنا... هانعمل إيه يعني..؟
- ..........................
- ماكونتش أتوقع ردة فعلك دي أبدًا يا مراد... وبرضه أما قابلنا جارتي من بيت أمي أمبارح وأحنا خارجين وعرفتها أنك جوزي أتضايقت... للدرجة دي بتستعر مني...؟
- يا عُلا ماتكبريش الموضوع... كل ما في الأمر إني مش عايز حد يشغلك عني...
وصدقته كالحمقاء...
- ماتقلقش يا حبيبي... ده هايبقى حتة منك... وعمره ما هايشغلني عنك...
- خلاص يا عُلا... اللي حصل حصل....
- طيب مش هانعلن جوازنا...؟
- ماقدرش يا عُلا... ماقدرش دلوقتي... ناريمان تعبانة وممكن يحصل لها حاجة لو عرفت.... استني شوية...
وانتظرتُ... شهرًا... واثنين... وتسعة... ووضعت صغيري الجميل الذي رغم كل شيء أبهج أباه كثيرًا كما أدخل السعادة على روحي المحبطة... وعوضني قليلاً عن غياب أبيه الذي أصبح يطول كثيرًا... فابنتيه كبرتا وزوجته الأولى ربما شعرت بشيء فصارت أكثر تفرغًا له، وصرت أقضي جُل وقتي ببيت أمي مع صغيري... أذهب إليها تحت جنح الليل وأخرج متسللة كالمذنبين لا أريد أن يراني أحد مع صغيري لربما أساءوا فهمي...! لكنه حدث... ورأتني إحدى الجارات تسأل عن صغيري غامزة لامزة فأخبرتها بثقة مهزوزة:
- ده ابني...
لتضحك وتمصمص شفتيها وهي تلقيني بنظرة موحية، عندها لم أتمكن من الاستمرار على هذا الوضع... وعدت إلى منزل زوجي ثائرة... أي حياة مظلمة تلك...؟ لقد تزوجنا زواجًا صحيحًا موثقًا... فلمَ نخفيه...؟
وتلقيت ليلتها ثالث وأكبر صفعة أيقظتني تمامًا من أوهام العشق والحب الوردية.
- مراد... لازم تيجي معايا عند أمي ونعلن جوازنا.... إحنا مابنعملش حاجة غلط زي ما قلت لي... ليه مانعلنش جوازنا...؟
- حبيبتي... بس والدتك عارفة وموافقة... وقولتي لي أن بعض جاراتك عرفوا..
- ماحدش مصدق إني متجوزة يا مراد... سُمعتي بقيت على كل لسان...
واحتضنني مهدئًا... يعدني بالمجيء معي غدًا كي يشهر زواجنا أمام العالم... يخبرني أنه لن يستطيع التخلي عني.. ولن يسمح لأحد بإيذائي... فاستسلمت لخدر كلماته وكانت ليلة بدايتها كالحلم ونهايتها طرقًا صاخبًا على الباب مع رنينًا مستمرًا للجرس... لا أنسى يومها مراد ناهضًا في فزع متعثرًا في ثيابه التي كان يحاول التقاطها وارتدائها سريعًا... لا أنسى تلك الجلبة التي وصلت إلى غرفتي بمجرد أن فتح مراد الباب، ثم اقتحام الغرفة بعنف من قبل رجل مسن وامرأة يتطاير الشرر من عينيها... امرأة اعرفها جيدًا... امرأة تُدعى ناريمان.
حاولت التدثر بالأغطية في خجل مخبئة جسدي؛ إلا أن الدكتورة ناريمان جذبتني من ذراعي وهي تكيل لي إهانات وترميني بتهم أقشعر لها بدني وأنا استمع مذهولة لما تُفضي به للدكتور عبد الكريم والد مُراد.
- "كفاية يا دكتورة... أنا مرات مُراد وده ابنه.... ما تتكلم يا مُراد..."
ومُراد يقف كالملجم في طرف الغرفة.. مطأطئ الرأس كالمذنبين.... ذلك الذي كان يخبرني منذ قليل أنه لن يستطيع التخلي عني... تخلى عن الدفاع عن شرفي ولو بكلمة... ذلك الذي وعدني أنه لن يسمح لأحد بإيذائي يرى زوجته تطعنني بأبشع الصفات وتغرس مخالبها في ذراعي دون أن تهتز له شعرة... لكنني استوعبت صدمتي سريعًا وتحول بكائي إلى صمت استمر حتى انتهت جلسة التعذيب تلك... وتحول صمتي إلى اشمئزاز من رجل لم يكلف نفسه عناء الدفاع عن أم ابنه... نهضت متلحفة بصمتي البارد اليائس وأحضرت قسيمة زواجنا لأضعها أمام زوجته الأولى وأباه في محاولة مني للمحافظة على الرمق الأخير من ماء وجهي.
- "طلقها..."
كان قرار أبيه حاسمًا، فرفع مراد عينيه بضعف متمتمًا
- لكن...
- قلت طلقها...
لم يقاوم كثيرًا وألقى يمينًا منهيًا به ميثاقًا لم يكن غليظًا لبعده عن استيفاء شروط ذلك الميثاق وبقائه في الظلام... كبلتني الصدمة للحظات لم أدرك بها قيام والد مراد بحمل صغيري الذي أيقظني بكائه، فهرعت إليه أحاول استعادته لكن الدكتور عبد الكريم قال في حسم:
- معلش يا بنتي إحنا مابنسيبش ولادنا بعيد عنا...
صرخت ورفضت وحاولت استرداد صغيري الذي حملوه معهم ورحلوا... ارتديت ملابسي على عجلة... هرولت إلى الشارع المظلم كالمجنونة وأنا أنادي باسمه (ماااااااااااااااجد)... لكن لم يجبني سوى الصدى والفراغ القاتل... لقد رحل صغيري... لقد أخذوه مني. حاولت الذهاب إلى منزلهم لاستعادة صغيري الذي لم يتعد عدة أشهر... لأسمع الجواب ذاته... الدكتور مراد والدكتورة ناريمان وأولادهم... سافروا.
ترددت على منزله كثيرًا أنادي على ماجد... قلبي يكاد يتمزق.. واللبن في صدري يحرقني... وصغيري لا أدري أين هو... كم مر علي من ليالٍ وأيام لم أذق طعم النوم والراحة... وأصابتني حمى لم أكف بها عن النداء على ماجد. لكن... كان علي النهوض من أسر حزني الأسود والعودة للبحث عن عمل أقتات منه أنا وأمي... قطعت الطرقات هائمة أود لو تنتهي حياتي التي لم يعد لها أي معنى بعد فقدان قطعة من روحي. قدمت على وظيفة في المشفى الإسلامي القريب من منزل أمي لكن... لم يكن عندهم مكان شاغر... خرجت من المشفى يائسة... لقد انغلقت كل أبواب الحياة في وجهي... جلستُ على السلم الخلفي أبكي في يأس.
حينها وجدتُ يدًا حانية تربت على كتفي... طبيبة شابة... أخذت بيدي واستمعت لبعض حكايتي وأخبرتني ألا أيأس من رحمة الله... وأن أذهب إلى بيته أطلب منه ما أريد فهو الكريم. دخلت إلى المسجد... توضأت ولأول مرة أصلي بهذا الخشوع وذاك الذل... سجدت طويلاً أبكي بين يدي ربي... أناجيه... أشكو إليه شوقي إلى صغيري الذي رحل عني... أطلب منه تخفيف ألمي وأن يرزقني برزق حلال يسد رمقي أنا وأمي.
من يومها وصار بيت الله هو ملاذي... أجد به الراحة والسكينة... أقضي أوقاتي في قراءة الكتب التي أجدها هناك.. المشاركة في حلقات القرآن... وكلما زات معرفتي بالله... كلما زاد يقيني بأنه لن يضيعني... كلما زاد اطمئناني... كلما زاد رضاي عن كل أقداره.
ولم يمر أسبوع حتى عرفت برحيل إحدى الممرضات بالمشفى القريب... أسرعت وأنا أدعو الله أن أحصل على تلك الوظيفة فما معي من أموال شارف على النفاذ؛ وبالفعل... تم تعييني وصرت أبذل قصاري جهدي في عملي مما كان مجال تقدير من جميع الأطباء وغيرة من كل الزميلات، لكن عملي على تحسين علاقتي بربي التي أهملتها كثيرًا جعلني اتغاضى عن تلك المكائد والغيبات.
كان الجو شتائيًا باردًا ذلك اليوم من أواخر شهر نوفمبر لعام 1984... أغلب الممرضين والممرضات يتهربون من العمل... الأطباء في غرفهم... أجلس شبه وحيدة في استقبال المشفى عندما دخل رجل يستند إليه رجلاً آخر فاقدًا للوعي تقريبًا وتبدو عليه آثار جروح.
- من فضلك يا ست الحكيمة يا ريت تساعدي زميلي بسرعة...
قالها الرجل في عجلة فسارعت بإحضار مقعدًا متحركًا جلس عليه المُصاب لأسأل الرجل الذي أحضره:
- في إيه...؟ إيه اللي حصل له...؟؟
تردد الرجل قليلاً قبل أن يقول:
- أ.. أصل...
- أصل إيه يا افندم...؟ ممكن تقول لي إيه اللي حصل بالظبط ومين اللي ضربه كدة وإلا هاضطر أبلغ البوليس...
أنحنى الرجل نحوي قائلاً:
- يا ستي أبوس إيدك إهدي... هاقولك أهوه... أحنا لسة طالعين من المعتقل... وده تصريح إطلاق سراحنا... يا ريت بس تساعدي زميلي لأنه تعب جامد من اللي حصل له جوة...
تأملت زميله... شابًا أسمر يبدو عليه في منتصف العشرينات ضئيل البنية وسيم المُحيا منهك إلى أقسى حد وثمة علامات تعذيب منتشرة على جسده اقشعر لها بدني.
- طيب يا ريت حضرتك تكمل بياناته اسمه سنه...
- اسمه سليمان رحيل العربي... سنه 23 سنة...
****
وكان هذا أول لقاء بحبيب العمر... الشاعر الحالم خفيف الظل الذي كان يمزح مع جميع من بالمشفى رغم آلامه... لكنه كان دائمًا ما يرمقني بنظراتٍ لم أعرفها قبلاً... ليست نظرات مليئة بالرغبة كبعض الرجال ولا نظرات محتقرة كبعض النساء... بل نظرات مشبعة بالاحتياج واللهفة... نظرات كنت أتحاشاها دائمًا حتى عرفت أنه يسأل عني كل طبيب يقابله فشعرت بغيظٍ شديد وقررت أن اسأله لماذا يسأل عني بأسلوبٍ قد يُسيء إلى سمعتي...! لكنه كان مبتسمًا أمام غضبي لم يفقد أبدًا ابتسامته التي تسكنها راحة جمة وهو يقول:
- وده ها يسيء لسمعتك في إيه...؟ واحد معجب وعاوز يعرف الباب فين عشان يدخل البيت من بابه...
لاحقًا كان يحكي لي عن ردة فعلي العجيبة ونضحك عليها سويًا... عندها فتحت عيناي على أقصى اتساعهما وسقط ما بيدي من ضمادات وظللت أتمتم بكلمات غير مفهومة ثم رحلت مسرعة ليغرق هو في الضحك.
خرج سليمان من المشفى وبعد عدة أيام عدت من العمل لأجد أمي تخبرني أن ثمة ضيف عندنا... دخلت وإذا به هو بابتسامته الواسعة... يجلس في منزلنا ويتحدث مع أمي عن خطبتي.
- خطوبة إيه حضرتك أنت عارف عني حاجة...؟
- عرفت اللي يخليني أخد الخطوة دي... يا مدام عُلا...
قالها ليؤكد معرفته بحالتي الاجتماعية... حاولت التملص منه لكنه لاحقني بإبطال كل حججي، لكنني كنت خائفة فطلبت منه مهلة للتفكير والاستخارة.
- تمام... خدي وقتك... وأنا هاسافر البلد أقول لأهلي وأرجع معاهم إن شاء الله عشان نطلبك رسمي...
وسافر سليمان ولم يفارقني طيفه... سافر ليواجه اسرته بحبه لمُمَرضة فقيرة مطلقة لا تملك من حطام الدنيا شيئًا.. عرفت فيما بعد برفضهم القاطع وعرفت مؤخرًا أن شقيقته التي تقطن بالجيزة تحرت عني بالمشفى الذي أعمل به وتوصلت لسيرتي الذاتية ووصلت لمشفى الدكتور مراد هنالك حيث أساءت الدكتورة ناريمان كثيرًا لسمعتي وزاد زميلاتي القدامى في نفث النار على سمعتي المهترئة هنالك لتعود شقيقة سليمان إلى أهله بصورة بشعة عن المرأة التي يريد شقيقها الاقتران بها. لكن سليمان وقف في مجابهة الجميع... لم يؤثر به كلمة مما سمعها... كان يثق فيما رآه مني من جدية والتزام.... كان يثق في حدسه بأنني امرأة حياته... هددته أمه بحرمانه من الميراث فأخبرها أنه لا يهمه سوى أن يكون معي... وكأن الله عوضني برجلٍ حقيقي عن شبه الرجل الذي اقترنت به قبلاً.
رغم عودته خالي الوفاض لا يحمل سوى قلبه العاشق وثقته الجمة في شخصي... رغم خيبته البادية على مُحياه... إلا أنه كان جادًا عندما عرض علي وضعه بكل صراحة... عندما أخبرني بتخلي أهله عنه وأنه سيتعين عليه مجابهة الحياة وحيدًا. ولأنه كان فارسًا في زمن ندر به الفرسان... ولأنه كان يحارب طواحين الهواء من أجلي ويسبح ضد التيار... قبلت أن أجابه الحياة معه... كانت ثقته أغلى هدية قدمها لي... تلك الثقة التي تعطي إحساس بالأمان... أن ذلك الرجل يثق بك وبقدرتك على النجاح... يثق بأخلاقك ودينك... تلك الثقة التي كانت محركًا لكل مكامن الإبداع بداخلي، تلك الثقة التي كانت أغلى من الذهب والفضة جعلت قلبي يتسع كي أحمله بداخله إلى الأبد... تلك الثقة وذلك الاحترام الذي كان يعاملني بهما دائمًا كانا سببًا في نسياني على أية أشواك خطونا خطواتنا الأولى ونحن نبحث عن منزل صغير يضمنا أنا وهو وأمي... ونحن نبحث عن عمل له معلمًا للغة العربية بأي مدرسة... وهو يفقد قدرته على مواصلة أي عمل بسبب ضعفه وما ألم به عقب خروجه من المعتقل... وأنا أخبره بكل ثقة أن يكتفي هو ببعض الدروس الخصوصية التي يعطيها بالمنزل ولا يخرج كي لا يتعرض للمزيد من التعب... تلك الثقة التي كانت تجعله يستقبلني بضمة دافئة وقبلة أكثر دفئًا عند عودتي من نباطشية طويلة. تلك الثقة وذلك الحب اللذان نتج عنهما أجمل بنتين لم تكد صغراهما تولد حتى فارق والدها الدنيا وتركني وحيدة أتخبط بعده... فقدت قلبًا يعشقني كما أنا... فقدت رجلاً تفهمني ومنحني أكثر مما تخيلت... ضاق عليَّ البيت الصغير الذي كنا نعيش به... وازداد خوفي ذلك اليوم عندما جاءت شقيقة سليمان لأول مرة... أخافتني نظراتها النارية وهي تسأل عن صغيرتيَّ... ودق ناقوس الخطر في ذهني مسترجعًا أحداث فقدي لابني من قبل... أفضيت لأمي بمخاوفي فجمعنا حاجياتنا البسيطة ورحلنا على عجلة إلى بلدة أمي بالمنصورة مكثنا عامًا عند أحد معارفها ثم عدنا إلى منزل أمي العتيق وعدت إلى العمل في مشفاي وأنا أدعو ألا يجدني أهل سليمان كي لا يسلبوا مني صغيرتاي.
لا أدري أكانت أنانية مني أن أحرمكما من أسرة أباكما الثرية فقط كي أبقى إلى جانبكما أم إنني فعلت الصواب بعدم التفريط بكما عزيزتاي وتعليمكما ما تعلمته من الحياة بالطريقة الصعبة... فالعقيدة الصحيحة والصدق والإخلاص معانٍ عمدت زرعها بوجدانكما بطريقة عملية كي تحميكما من أي خيبة أو إخفاق قد يصيبكما ولابد أن تدركا أن كل شر من وجهة نظركما حتمًا في طياته يحمل خيرًا لكن نحن لا ندري. أنا سأفارق هذه الدنيا لكنني مدركة أن حكايتي لن تنتهي عند هذا الحد... قد يعود الماضي ليسبح في مداراتكما لكن كل ما أريده منكما هو البقاء شامختين فقد كان لكما أبٌ فارس... وأمٌ أفنت عمرها في سعادة مع زهرتين مثلكما فلا تنكسرا أمام صروف الحياة... يمكنكما الانحناء قليلاً عند هبوب ريحٍ عاصف لكن يجب أن تنهضا أقوى وأكثر صلابة، فأصلكما ثابت... فلا تقبلا بما دون السماء... أجعلا أفرعكما تلامس السماء قوة وطموحًا وعلمًا وتسامحًا."
******
وسط أكوام من ملابسها وعطورها وبعض أشيائها التي أخذ يهشمها ويلقي بها عندما عاد إلى منزله تحت وطأة ظلمٍ شعر أنه وقع عليه كمقصلة إعدام.. عندما كان غارقًا في ظلمة يتخبط فيها ثائرًا... ممزقًا... لا يدري أي دور لعبه في تلك المسرحية كي يفقد كل شيء له معنىً في حياته... عندما دخل ثائرًا منذ قليل وروحه تصطرخ في ألم فقد لم يعرفه قبلاً... كان يصرخ وهو يلكم جدران المنزل... يصرخ وهو يهشم مقاعد رقيقة تحمل لمسات انتقائها.. يصرخ وإحساسه بالغربة يتفاقم... غربة عن كل شيء... عائلته.. ابنته... حتى المرأة الوحيدة التي ظن أنها مرسى نجاته من عواصف الماضي والحاضر والمستقبل، فإذا بها إعصارًا قاتلاً.
كان يرزح تحت إعصار الغضب الأسود الذي يطحن كل ذرة تعقل لديه مهشمًا في حنق كل ما تقع عليه يده.. ثم يلج إلى غرفته يفتح صوان ملابسها ويلقي بأشيائها التي تمزق قلبه... يلقي بملابسها... كتبها... عطورها... يهشم كل ما قد ينتمي إليها بينما ظلمات روحه تسقطه أكثر في بئر الظنون؛ فيراها سلبت منه ابنته... مزرعته... بل سلبت قلبه وما تبقى من عقله ليصير حطام إنسان. وفي وسط إعصار غضبه رآه يسقط مع حاجياتها المخبأة بعناية داخل إحدى الحقائب... دفترًا أسودًا متوسط الحجم... كان بمثابة الترياق... كان كضوء الفجر الواهي الذي يتصارع مع هيمنة العتمة... كان دليله للخروج من الظلمات إلى النور... وأخذ يقلب الصفحات يكملها في نهم متنقلاً بين أوجاع امرأة لم يرها لكن عرفها عن قرب من كلماتها... وامرأة رآها ولم يعرفها حتى قرأ حروفها التي تنزف ألمًا تارة وأملاً أخرى، و... أستمر في تقليب الصفحات.
****
وفي الظلام... يمكن لبعض رغباتنا الملحة أن تفصح عن ذاتها بحريةٍ لا تنالها في وضح النهار، كأن تجتاحنا رغبة ملحة للعناق... ذلك العناق الذي يأتي على سبيل المواساة... كأن تجتاحنا رغبة في التخلي عن كل شيء وكل شخص والبحث عن بدائل أخرى قد تربت على قلبك المنهك المهزوم. لكن حتى متعة البقاء في الظلام تفقدها بعودة متدرجة لوعيٍ لا ترغبه... لدخول مفاجئ للضوء في محيط إبصارك الذي اعتاد الظلام مما يدفعك إلى إغلاق عينيك مرة أخرى في محاولة يائسة للعودة إلى عالم الظلام الساكن.
- نور...
يجلس بجوارها لكن صوته وكأنه يأتي من أعماق سحيقة... تنظر إلى عينيه.. أتراه يظل فارسًا كما تراه هكذا مع امرأة يحبها أم يتحول بدوره إلى ضفدع أو ربما وحش مثل أغلب الرجال الذين مروا في حياتها..؟!
ففي القصص الخرافية يعود الأمير الوسيم إلى طبيعته عندما يجد حبيبته... يتحول من ضفدع إلى فارس يعشقها ويتحول من وحشٍ إلى أميرٍ وسيم؛ لكن الواقع يسير عكس تلك القصص تمامًا... فالفرسان في واقعها يتحولون إلى ضفادع بمجرد سقوط الحبيبة في مدارهم؛ والأمراء الرائعين يتحولون إلى وحوشٍ ضارية بمجرد الركون إلى تسليم امرأة عاشقة قلاعها إلى أكفهم...! أتراها كان يجب عليها عدم التخلي عن دور المقاتلة...؟ لماذا ألقت درعها وسيف حذرها وقبلت كالحمقاء بدور الحبيبة...!
ترتسم على شفتيها ابتسامة باهتة وهي ترى عينيه تسألانها عن ذلك الحزن المتجذر بعمق عينيها اللتين تفتحان بابًا على روحها المحبطة... تتحول ابتسامتها الباهتة إلى ضحكة باهتة أكثر...
" مالك يا سوسن زعلانة ليه...؟"
"عروستي ضاعت وأعمل إيه..؟"
"واسمها إيه..؟"
"مالهاش اسم.."
"شكلها إيه..؟"
"مالهاش شكل..."
"قومي اختاريها وألعبي بيها بس أوعي تضيعيها.."
لعبة أطفال كانت تلعبها في صغرها مع بنات الحي... طافت على ذاكرتها الآن وهي ترى نفسها دمية سوسن التي ضاعت لا اسم لها ولا شكل، ويتعين عليها الآن أن تبحث عنها حتى تجدها ثم لا تفرط بها أبدًا.
- نور ماتقلقنيش عليكي... مالك يا حبيبتي...؟
مسحت وجهها بكفيها ثم قالت بعد تنهيدة حارة:
- هوا الضحك بيقلقك يا ماجد...؟ المفروض إني أعيط صح...؟
- نور أنتِ...
- أنا ماحصلتش حتى سوسن اللي بتعيط وتزعل وعايزة عروستها... أنا الدمية اللي ضاعت... ماليش حتى حق في البكا...
- نور... حاولي تنسي كل حاجة وتبدأي من جديد...
- أنسى...؟ وكأني هادوس على زرار ينسيني كل حاجة... أنا خسرت كل حاجة يا ماجد...
- خسرتي إيه...؟ أنتي أخدتي ورثك كامل وانتقمتِ من زين..
أغمضت عينيها بشدة ثم فتحتهما قائلة:
- ماكانش غرضي الانتقام منه... أنا خسرت رهان على قلب إنسان حبيته وخسرت معاه نفسي وفي نفس الوقت حطمته بأبشع طريقة...
قال ماجد في غيظ:
- لسة بتفكري فيه...؟
أومأت مطرقة في صمتٍ يائس ثم قالت:
- ماجد... من فضلك عايزة أشوف عمي سليم بسرعة...
- هوا كان موجود في المستشفى من شوية هاروح أشوفه بس قولي لي الأول عايزاه في إيه...؟
شردت بعيدًا ثم قالت:
- أما يجي هاتعرف...
وكانت عازمة على التحرر من كل خيط يشدها إلى ماضٍ أضاعت فيه روحها... كانت عازمة على قطع أواصر عشقٍ بالي لم تجن منه سوى الألم... على كلا الصعيدين.
****
"الليلة الماضية يا أمي رأيتك في رؤيا جميلة تحتضنيني... تربتين على كتفي... تأمريني أن أكون قوية كما عهدتني... لكن يا أمي لا أعرف كيف التصرف مع شخصٍ غارق في المحرمات هكذا... شخصٍ لا يتوانى عن ضربي يوميًا كي أتنازل له عن إرثٍ لا وجود له..! أخبرته أن لا إرث لي، لكنه لم يصدق.. كيف يا أمي يكون هذا قريبًا بأي شكل لأبي الفارس النبيل الذي ما كان يخدش روحك ولو بكلمة سيئة...!!
لكنني سأكون كما عهدتني دائمًا... سأكون قوية وأواجه مخاوفي منه وأستعين بالله عليه... تصبحين على خير يا حبيبتي.."
"أمي... سأخبرك بخبر مرعب... نعم... أنا حامل... لماذا مرعب...؟ لأنه سيكون لي طفل نتيجة اجتياح رجل مثل زكريا لي دون أن أعي... كيف سيكون طفله...؟ كيف سيمر حملي في بلد غريبة لا أعرف بها أحد وليس لي سوى زوجٍ يمتهنني ويضربني يوميًا كي أتنازل له عما لا أملك..! أنا خائفة جدًا يا أمي.."
"سلام عليكم أمي الحبيبة... أعلم أنني لم أكتب لكِ منذ زمن... لكن أريد أن تعرفي أن الله رزقني بامرأة رائعة ساعدتني كثيرًا لا يربط بننا سوى دين سمح... الألمانية إيفا ساندتني كثيرًا ووجدت لي عملاً لكن لا تقلقي لازلت أقرأ في مجال الأورام وكيفية الوقاية منها حتى وإن لم يتسن لي دخول كلية الطب كما حلمتِ يومًا... إن المكتبة المجاورة هنا ثرية بالمراجع والأبحاث التي لا أمل من قراءتها في وقت فراغي وثمة مسابقة في هذا الموضوع تحديدًا سأشارك بها ببحثٍ لي إن شاء الله... أحبك يا أغلى ما في وجودي..."
"ماما.... عندي لكِ مفاجأة....
خمني من قابلت اليوم...؟
ماما... لقد رأيت قطعة قلبك الضائعة منذ زمن... رأيته وتحدثت معه... أخي ماجد... يشبهك كثيرًا... لكم كانت فرحتي جمة عندما أرسل الله لي أخي كي أعثر عليه... إحساس رائع أن يكون للفتاة أخٍ أكبر حتى وإن كانت ظروفه صعبة لا تسمح له بمساندتي... لكن حقًا يا أمي أخي شخصٌ رائع... صقلت الغربة والتخبط بها شخصيته ومع ذلك لم تفقده رقته وحنانه... لقد أحببته وشعرت أنني رأيتك اليوم... إنه صورة حية منك.
أحبك.."
"صباح الخير يا أحلى جدة في الوجود...
نعم حبيبتي... أنتِ اليوم رسميًا جدة الأستاذ عيسى...
حقًا هو لا يزال في الحضَّانة لأنه تم ولادته بعملية قيصرية بعد أن...
بعد أن ضربني أباه بقسوة لدرجة فقدت معها وعيي ونزفت بشدة وكدت أفقده وأفقد روحي أيضًا لولا مجيء إيفا في الوقت المناسب.
لا تحزني من أجلي أمي الحبيبة... أنا اليوم سعيدة بمجيء صغيري لينير عالمي... سأكرس حياتي من أجل تعليمه وتربيته كما ربيتينا....
قبلة مني... وقبلة من عيسى..."
"ماما... لقد رحل زكريا... أشعر بألم عميق... رغم كل ما عايشته معه لم أملك سوى محاولة تحسين رحيله... وعقب إزالة الصدأ الذي علا روحه والسماح لما داخله من نقاء بالخروج إلى النور.. رحل... هكذا..... فقط.."
"للمرة الثانية تجبرني الظروف على الزواج رغم إرادتي... لكن هذه المرة يا أمي فعلتها من أجل صغيري... من أجل ألا يتكرر السيناريو الذي أفقدك ماجد فيما مضى... سأتزوج زين ابن عمي غدًا يا أمي.."
"ماما... هل لي أن أخبرك سرًا مخجلاً...؟!
حسنًا...
هذا الصباح... شعرت بأنوثتي لأول مرة في حياتي...
أمي... لقد قبَّلني زين بطريقة لن أنساها أبدًا...
يبدو أن الحياة تصالحني بزواجي من زين... رغم كل شيء أشعر أنه سيكون فارسي مثلما كان أبي لكِ حقًا...
لقد خفق قلبي بعنف يا أمي بطريقة لم أعهدها...
ثم إنني كنت أحلم به ليلة أمس ينقذني أنا وعيسى من السقوط بهاوية عميقة..."
أوراق... وأوراق... اعترافات مزقت قلبه... كانت كماء بارد سُكب على نيران غضبه فأطفئها وحوله إلى رماد... حوله إلى بقايا إنسان لا يُرى به سوى شبحٍ مقيت من شك وعدم ثقة بامرأة هي أنقى ما يكون وأروع ما يكون... امرأة تبتسم للحياة رغم كل ما لحق بها من بلايا... امرأة راهنت على قلبه الذي خذلها في نهاية المطاف.
"آه يا نور... كيف صادف خريفي ربيعك المبهج فأدخله في شتاء دائم..."
قاطع أفكاره رنين جرس الباب... لم يأبه به حتى عندما تواصل الطرق والرنين... ظل جالسًا في مكانه يتأمل الدفتر الأسود مع بعض الأوراق المنفصلة بخط نور، لكن الطرق تحول من باب المنزل إلى باب الشرفة المواجهة له مما أضطره إلى النهوض مترنحًا ليفتحها.
- "فينك يا ابني...؟"
جاءه صوت ابن عمته الذي دلف من الشرفة معاونًا أباه الشيخ سليم في السير حتى جلس على الفراش وعاد زين إلى جلسته على الأرض بهيئته التائهة المبعثرة.
- "إيش فيك يا ولدي...؟" سأله أباه بقوة، فرفع زين رأسه متسائلاً..
- هاااه...؟ بتقول إيه...؟
- يا زين يا ولدي أنا اللي قلت للجدة تكتب لنور المزرعة...
أغمض زين عينيه في قوة دون تعليق، فأكمل الشيخ سليم:
- لأن نور حكت لي كافة شي دون ما تدري إني واعي وسامعها... حكت لي كيف أنت وأخوك أذيتوها... حكت لي كيف كان جرحها منك أكبر لأنها تحبك يا زين... حكت لي كيف فرطت فيها يا وليدي بكل بساطة... عشان كذا كنت أبغى أعطيها شيء يرد لها ولو قدر من اعتبارها وفي نفس الوقت قرصة ودن لك وأهم شي... حفاظًا على المزرعة اللي ممكن تضيع من يدك بتسرعك الأهوج هيذا....."
مسح زين وجهه بيديه ثم مررهما بشعره في إنهاك وهو يقول:
- معاك حق يا والدي تعمل كدة وأكتر... ونور تستاهل كدة وأكتر...
تبادل الشيخ سليم مع ياسر النظرات المتعجبة من الحال التي وصل إليها زين التي تتنافي مع حالة الدمار التي بالبيت ليكمل الشيخ سليم:
- ومع هيذا... بت عمك طلعت بت أصول ورفضت تأخذ منك حلمك وأصرت وهيا في المستشفى تكتب لك المزرعة بيع وشرى... أتفضل...
كان الشيخ سليم يمد يده لابنه بورقة ما، إلا أن زين لم يتناولها وهو يسأله بلهفة:
- هيا نور في المستشفى...؟ ليه يا بابا...؟
قال ياسر:
- ماتقلقش يا زين... أعصابها تعبت وقعدت شوية في المستشفى وخرجت خلاص الحمد لله...
عض على شفته السفلى في غيظ وهو يتمتم:
- بسببي طبعًا...
قال الشيخ سليم بحدة:
- وأنت كان اللي عملته شوية...؟ عمرك ما راح تتعلم يا ولدي...
أومأ زين بيأس وهو يقول:
- اتعلمت يا والدي... اتعلمت بخسارة أهم الناس في حياتي... أتعلمت بالغالي قوي...!
******
وكان اللقاء... كليهما يدرك أنه آخر لقاء ولا مفر... في غرفة هي له بلمساتها الساحرة... كم تمنى لو تجمعهما تلك الغرفة في صفوٍ لا يعكره غروره أو غباءه... لوهلة.. رأى في عينيها لحظاتٍ ضائعة مع تلك الأثيرة.. الدافئة كمأوى في العراء... كانت هي فرصة عمره كي يتغلب على ندبات الماضي... كان القدر رائعًا عندما جمعه معها، لذلك كان ألمه عظيمًا لحظة الفراق.
السماء الغائمة التي تطل عليهما من الشرفة الضخمة كادت تقبض روحها عندما دخل إليها وهي تجمع حاجياتها... تدري أن تلك هي لحظاتها الأخيرة معه... تدري أن طرقهما افترقت ويتعين عليها الرحيل.
خيم عليهما صمتٌ قاتم... وصوت عقرب الثواني الواهي يدوي عبر الغرفة... وكأن لحظات الوجع تمر ببطيء شديد... تجرجر أذيال الخيبة وتحمل حقيبة الخطايا على رأسها... تسلب أنفاسهما في مرورها... كاحتضار الغرقى... كالمشهد الأخير قبل الموت. صمتا كثيرًا لكن الكلمات التي قالها الصمت كانت أكثر من الكلمات التي تبادلاها عقب صمتهما الموحي.
- نور... إزيك دلوقتي...؟
قالها وهو يود أن يقول أشتاقك جدًا..
- الحمد لله كويسة...
قالتها تعني... متحطمة... منهارة... لا أدري هل أفتقدك أم أهرب منك..!
- بتعملي إيه..؟
- آسفة إني جيت من غير ميعاد بس كنت عايزة أخد حاجاتي من هنا...
قالتها وخفقة من قلبها أفلتت رغمًا عنها... في تحدٍ سافر أنها لن تسطيع لملمة كل الذكريات من هنا ولن تستطيع استرجاع خفقات قلبها التي سكنت ثنايا المكان.
- نور... ده بيتك... أنتِ اللي لازم تبقي هنا وأنا اللي هامشي...
قالها وهو يحسد زوايا المنزل... جدرانه وآرائكه على متعة مشاركتها صباحاتها المعبقة بعطر الياسمين ومساءاتها الأخاذة بسحر المسك والفانيلا.
- لأ طبعًا ماينفعش... أنا قاعدة في بيت ماما مع ماجد متشكرة أوي...
- أسمعيني بس... مايا محتاجة وجودك هنا ودي آخر حاجة هاطلبها منك...
خفق قلبها بعنف... لا تدري كيف تجيبه إذا طالبها بالرجوع إليه...! فجرحها أكبر من حنينها... وبقايا كرامتها لازالت توخز قلبها الخافق باسمه.
- ..............!!
- دلوقتي أنا جالي عرض شغل في الخليج ومسافر ومافيش غيرك أقدر أسيب مايا معاه... مش هاينفع أخدها معايا في الأول... أنا آسف فعلا بس...
- بجد...؟ بجد مايا هاتسيبها معايا..؟
كانت بهجتها تلك لا تقدر بثمن.. داعبت قلبه الممزق ليردف بيأس:
- ده لو مش هايضايقك...
- لأ طبعًا... مايا دي بنتي وبعدها عني هوا اللي ممكن يقتلني...
أغمض عينيه لحظات يحاول تسجيل بهجتها العفوية تلك في ذاكرته وقلبه.
- تمام أتفقنا... أنتِ ومايا وعيسى وماجد هاتخليكوا هنا...
- معلش... وليه مش مآمن مايا تيجي معايا في بيت أمي...؟
ابتسم في ألم... حتى تنمرها وعنادها سيفتقده...!
- أنا مآمن على مايا معاكي في أي مكان... بس أعتقد أن هنا أقرب لمدرستها وحديقة البيت ممكن يلعبوا فيها براحتهم... وبعدين زي ما تحبي... عايزة تقعدي هنا أو في بيتك القديم أنا واثق في قراراتك يا نور... في النهاية البيتين بتوعك... أنا كتبت البيت ده باسمك.
التهمت عيناه رد فعلها المصدوم... اتساع عينيها العسليتين... طريقتها في زم شفتيها... ومحاولتها الرفض والتمتمة..
- يـ... يعني... يعني إيه الكلام ده..؟؟؟؟
أخرج عقد بيع المنزل لها قائلاً:
- يعني البيت ده باسمك يا نور... أنا مسافر واحتمال مارجعش تاني... أما أموري تستقر هابعت لمايا... هاتبقى بيننا.. لأنها متعلقة بيكي جدًا......
وكأنها لم تسمع سوى كلمات رحيله دون عودة التي ولَّدت بداخلها رغبة عجيبة بالبكاء...! أما هو.. فتأمل صمتها وإطراقها كأميرةٍ كسيرة... ود لو يلقي بكل ترهات ابتعاده التي تلفظها توًا وجذبها إلى ذراعيه دون أن يتركها أبدًا؛ إلا أنه تابع حديثه بسرعة كي لا يُقدم على شيء أخرق لربما زاد من جرحها وتشتتها:
- ودي يا نور ورقة البيع المبدئي اللي عملتيه لي بالنسبة للمزرعة...
أخرج الورقة أمامها ثم مزقها إلى قطع صغيرة مردفًا:
- صدقيني يا نور المزرعة مابقلهاش أي قيمة في نظري... وأنا أصلا مسافر ومش هاعرف أخد بالي منها، فالأفضل إنها تفضل معاكي... وأنا موصي المهندس عصام زميلي يتابع معاكي الشغل..
همت بالاعتراض لكنه كان قد تقدم منها يلتهم المسافات بينهما في خطورة أخذت أنفاسها وجعلتها تتراجع مع كل خطوة يتقدمها حتى اصطدمت بالجدار.. فانحنى نحوها يسجل ملامحها في ذاكرته ويهمس بصوتٍ أجش ذو حواف اشتياق حادة:
- عايزك بس تعرفي إنك أجمل حاجة في حياتي وأنا بجد كنت غبي إني سبتك تضيعي من إيدي.... أنا آسف يا نور... بجد آسف....
قالها ثم أعتدل سريعًا لاهثًا وكأنه يبذل جهدًا مضاعفًا كي يكبح جماح جوارحه ويمنعها من ترجمة مشاعره الفائرة إلى أفعال قد لا تقبلها حبيبته الأثيرة... الرقيقة كزهرة أوركيد بيضاء ناعمة.
رحل عدوًا يجر خلفه حقيبته... يجر إخفاقاته وغباء فقدان امرأة مثلها... امرأة سكنت قلبه ولن تخرج أبدًا مهما مر الزمن... هي امرأة الذاكرة الحاضرة الرائعة التي تكفيه ذكرياته معها كي يقتات عليها لبقية عمره.
******
ولأن الحياة لا تتوقف عند رحيل أحد أو انتظار مجيء آخر... ولابد لها أن تأخذ مجراها رغمًا عن الحنين.. رغمًا عن ذلك الألم الممض بالقلب، لكن... سنة الحياة أن يذهب كل شيء رويدًا رويدًا بالتقادم... أن تنتهي الأوجاع بتحقيق بعض الأحلام والوصول إلى أهداف لم تُدرك منذ زمن.
العودة إلى مقاعد الدراسة... بذل الجهد لمحاولة مواكبة ما فاتها.. محاولة طي الصعوبات التي تقف في طريق تحقيق حلمها... يعاونها شقيقها الذي حصل على عمل في مكتب من أكبر مكاتب المحاماة بالبلد مع دعمٍ من عمها سليم الذي لازال يشعر بالذنب ناحيتها... تكتفي بزيارة دورية للمزرعة التي يديرها طلال وفقًا لتعليمات المهندس عصام.. مايا وعيسى.. ماجد وتقى... ثم انغماسها في الدراسة حتى النخاع كي تملأ ذلك الفراغ القاتل بيسارها. كل ذلك مع وجود الدكتور باسل... صديق ماجد المصري العائد من أمريكا... كان في مثل عمر أخاها.. عاونها كثيرًا في مراحل الإعداد من اختبار لغة ومعادلة شهادة ثم الالتحاق بكلية علوم طبية بأمريكا التي تعدها لدخول كلية الطب هناك.
- خلاص... أنتِ كدة رسمي هاتسافري أمريكا تكملي دراستك...
قالها ماجد وهو يهنئها عقب إتمامها كل الخطوات اللازمة لإكمال الدراسة بأمريكا، فقالت بسعادة:
- أنا بقالي سنة مستنية اليوم ده يا ماجد....
صمت ماجد لحظات قبل أن يقول:
- هاتاخدي عيسى معاكي طبعًا...
أومأت قائلة بمرح:
- آه طبعًا أمال هاسيبهولك...
- طيب ومايا...؟
صمتت قليلاً ثم زفرت قائلة:
- هابعت لباباها أقول له الوضع ولو وافق هاخدها معايا... أما لو طلب وجودها معاه مش هاقدر أقوله حاجة..
طال صمت ماجد وهو يلاحظ تجنبها ذكر اسم زين أو حتى التحدث عنه وكأنها لا تريد تأجيج نيران حنينها إليه... إنه شبه موقن من عشقها اليائس لزين لكنه أيضًا مدرك أن شقيقته تحاول التخلص من حالميتها الزائدة والتصرف بواقعية أكثر، لذا قال بهدوء:
- نور...
- .........؟
- باسل طلب إيدك مني إمبارح... عايز يرتبط بيكي وترجعوا مع بعض أمريكا...
لم يفاجئها الخبر كما توقع ماجد... فباسل يحاول منذ فترة التلميح لها بشيء من ذلك القبيل...! أغمضت نور عينيها في قوة وهي تحاول استحضار مواصفات باسل في ذهنها دون جدوى... لا يحضرها سوى صورة ضبابية عن شاب طويل القامة دون ملامح تذكر... لكنها تذكر دماثة خلقه ومعاملاته الطيبة ومحافظته على الصلاة وثناء ماجد عليه، وفي ركن الذاكرة ينزوي زين.. تبتلعه أمواج الذاكرة عقب ابتعاده دون محاولة واحدة حتى للتواصل معها.
- أنت شايف إيه يا ماجد...
- أنا شايف أن باسل شاب ممتاز ومحترم... ومعجب بيكي جدًا... هاتبقوا ثنائي هايل...
زفرت نور قائلة باستسلام وهي تقتل آخر أحلامها الوردية الحالمة:
- موافقة...
******
هي التي لم تغب عن باله في أيام ضيقه الأولى تحت وطأة تحكمات كفيل يعتقد أنه امتلك كل من يعمل في مزرعته... يود فرض وجهة نظره حتى وإن كانت خاطئة... متجاهلاً رأي من يحمل درجة الدكتوراه في الهندسة الزراعية، فأفصح زين عن رأيه به بصراحة...
- أنت مابتفهمش حاجة وهاتقضي على مزرعتك دي... وأنا مش هاشتغل شغل مليان مغالطات كدة...
قالها ثم رحل تاركًا البلد كلها قبل أن يكمل بها عامًا... فروحة الطليقة وحبه للعمل المتقن جعلاه يفر من ذلك الجو القمعي الخانق إلى تكساس حيث طلب منه مستر بيل آندرسن إدارة مزرعته، فعاد زين إلى نقطة بدايته معها... إلى موقع أول عناق لهما.
كان مبنى موظفي المزرعة فسيح يضم موظفين من كل الجنسيات.. أقربهم إليه كان زميله السوري عبد المعين الذي يكبره بعشرة أعوام لكنه كان يتمتع بروح شابة مرحة.
- "صباح الخير مستر زين... أنا لم أصدق أنك عدت للعمل مع أبي..."
ذلك الصوت المغناج يعرفه جيدًا... أخرجه من شروده في حبيبته التي تركها ومعها قلبه وقطعة روحه الجميلة مايا ورحل عبر البحار.
- هاااي زيين... أحدثك...
نظر إلى لورين بملابسها الفاضحة ثم خفض بصره بسرعة قائلاً:
- مرحبًا مس لورين...
جلست لورين على طرف المكتب واضعة ساقًا فوق الأخرى مبدية جمال ساقيها المكشوفين أسفل بنطالها القصير وهي تقول:
- أين زوجتك إذن...؟
أشاح زين برأسه قائلاً:
- لقد انفصلنا...
التمعت عيناها جذلاً ثم قالت:
- أمممم... لم أكن أعرف ذلك...
نهض زين خارجًا من المكتب وهو يقول:
- عن إذنك مس لورين سأذهب للمرور على المزرعة..
قالها وهو يسارع بالفرار من براثن إغوائها، إلا أنه لم يسلم من زياراتها اليومية لمكتبه ومناقشتها له في كل أمور المزرعة ومعها دائمًا سلة طعام تصر على أن يتشاركان معًا في تناوله.
لكن ذلك اليوم كان مزدحمًا بالعمل لم يسمح لها بلقائه مما أبهجه جدًا... مر بالمزرعة ثم عاد إلى مكتبه ينهي بعض التقارير والطلبات عندما شعر بوخز في قدمه التي كان قد أجهدها كثيرًا... فجلس على مقعد مكتبه واستدار به إلى النافذة التي خلفه يطالع الليل الساكن باسمًا وهو يذكر نور بثوبها الوردي مفتوح الظهر عندما أخبرها بأن قدمه تؤلمه... يذكر هلعها... هرولتها إليه... كفيها الدقيقين يدلكان قدمه... ثم سقوطها في النوم فجأة ليأخذها بين ذراعيه... يذكر دفيء جسدها وشعرها الطويل المسترسل على ذراعه و...
- زين...
- نور...؟؟
ذراعان بضتان تحيطان بعنقه... أنفاس حارة تلفح جانب وجهه... وجه نور في مخيلته... لم يدر كيف جذب ذراعيها وأحاط بجسدها وهو ينادي..
- نور... وحشتيني أوي.. أوي...
وعندما كاد يقرب الشفتين بقبلة محمومة... رأى التماعه عينين زرقاوين... فدفعها بعيدًا وهو يقول بذهول:
- لورين...؟
- زين... أنا لازلت عاشقة لك... أرجوك زين أكمل...
نهض مستغفرًا يهرول بعيدًا عنها وعيناه تذرفان دموع ندم يمزق قلبه... كيف غاب عن وعيه للحظات مستسلمًا لإغوائها... كيف رأى وجه نور المضيء براءة وخجل بوجه تلك اللعوب.
- لك شو شو شو يا زلمة... إيه شو بيك خيي..؟ زين...؟
ناداه عبد المعين الذي رآه يهرول بالمزرعة على غير هدى، فسقط زين بين يدي زميله باكيًا في حرقة يحكي له عما بدر منه منذ قليل ووشك سقوطه إلى هوة معصية عظيمة. أخذه عبد المعين إلى بيته وقدم له كوبًا من الشاي الساخن ثم أخبره عندما هدأ قليلاً:
- والله مافي إلا حل واحد لمشكلتك يا زين...
- اللي هوا إيه يا عبد المعين...؟
- أنك تتجوز يا زلمة... والله الزواج يبعد عنك كل هالشغلات البطالة...
ضحك زين بسخرية مريرة قائلاً:
- اتجوز مين بس يا عبد المعين...؟ هوا أنا عارف حد هنا...
ربت عبد المعين على رجله قائلاً بحماس:
- يا زلمة أنت بس أنوي ونحنا نجيب لك بدل العروس عشر تختار منهم...
نظر إليه زين مفكرًا فانحنى إليه زميله هامسًا:
- وأولهم أخت مرتي... بنية حبابة وهادية... إذا بتحب تشوفها نرتب لك موعد...
لم يدر زين كيف مر الأمر حتى حانت تلك اللحظة التي جلس بها في صالون بيت عبد المعين في مواجه اخت زوجته الشابة ذات الثلاثة والعشرون ربيعًا... جميلة بيضاء... ذات وجه ممتلئ وعنين عسليتين وجسد جميل قريب من الامتلاء... محجبة يبدو عليها إمارات الاحترام والدين كما هو معروف عن بيت عبد المعين.
لم يدر كيف رفع هاتفه لاحقًا عند عودته إلى مسكنه بالمزرعة يقول لعبد المعين:
- موافق يا عبد المعين... يا ريت لو فيه قبول عند العروسة نعمل خطوبة في أقرب وقت.....
******

Just Faith 18-12-17 02:06 PM

خـــــــــــــــــاتمة
"إنَّ النهاية
أُختُ البداية، فاذهب تَجِدْ ما تركتَ
هنا، في انتظارك
لم أَنتظِرْكَ، ولم أَنتظر أَحداً.
كان لا بُدَّ لي أَن أُمشِّطَ شعري
على مَهَلٍ أُسْوَةً بالنساء الوحيدات
في ليلهنَّ"
محمود درويش – لم أنتظر أحدًا
***
"... في عمق الليل عندما يخلد الجميع إلى النوم... لا أدري ما الذي يوقظ اشتياقي ويقودني إلى صوان ملابسك فأفتحه وأتحسس ما تبقى منك.
نعم... لازال يأخذني حنينٌ أحمق إليك...
نعم لازلت أشتاق إلى كلمة منك ولو حتى تحية صباح...!
وأعود إلى مرآتي... أجلس أمامها أمشط شعري أتذكر ولعك به، فأمسك المقص في يدي ككل ليلة وأقرر الانتقام من نفسي كي لا يجرفها الحنين مرة أخرى... أحاول قص شعري.. فملعونٌ هو كل ما تعشقه في؛ لكنني أعود وأسأل نفسي... كيف سأغير لون عينيَّ الذي أخبرتني ذات يوم أنك تذوب به..؟ كيف سأغير طباعي التي تعشق تناقضها... الحالمة تارة والهجومية أخرى..؟
أدري أنك تقول عني امرأة التناقضات...
كيف أشتاق إليك وأنا التي طالبتك بالرحيل، ثم راقبتك وأنت تبتعد عني في صمت..!
كيف أحن إلى أيامنا معًا وأنا التي أبعدتك عن مداري بمحض إرادتي الحرة...؟
لكنني يا سيدي – رغم عشقي – لم أكن لأعْلق في تلك المساحة الرمادية التي توقفتْ حياتك عندها...
لقد تعرقلتُ كثيرًا ونهضتُ كثيرًا... وكان يجب أن أسير إلى الأمام... لا أن أعلق بين الشك واليقين..!
نعم... لقد قدمتُ العقاب على المغفرة رغمًا عن قلبي الذي يمسك بتلابيب قلبك...
لأنك فقدتَ – في غيرة – عقلك، لترحل عنك – في أسفٍ – ثقتي...!
لن أعتذر لقلبي الغاضب مني على الدوام،
فأنا امرأة لم أُخلق كي أبرر أفعالي أو أشرح نفسي..
بل كي أبقى مع من يستطيع فهم دوافعي وتقديرها دون أن يسيء ظنه بي...
ولم أجد معك – رغم كل شيء – ما خُلقت من أجله...
فإذا كان الزواج والحب يتطلبان التضحية...
فأنا أضحي بما أملك كي أسعدك؛
لكنني لا أضحي بثقة تُعطيني إياها ثم تسلبها مني...!
لكنني - رغم كل شيء - لازلتُ أتساءل... هل تستيقظ كل صباح بحثًا عني..؟
أم إنك حقًا قد تجاوزت ألم الفراق...؟؟
فاليوم مر ثلاثمائة وخمس وستون يومًا دون محاولة واحدة منك لرأب ثوب الثقة المهترئ بداخلي...
اليوم يجب أن أذبح حنيني بيديَّ وأنسى حكاية اثنين كانا على أهبة العشق...
امرأة حاولت انتشال رجلاً من أسره الرمادي والزج به إلى طريقٍ مشجرٍ
حتى انكسرتْ كالقلم في كوب ماء،
وظلت صامدة، حتى مسها شيء من الغبن، فانهارت؛
ورجلٌ ابتعد كثيرًا دون أن يعرف حجم ما خسر من عشق ربيعي لن يصادف مثله
حتى إذا استيقظ ذات نهار مدركًا حجم فجيعته محاولاً العودة...
سيجد ذلك العشق من حق قلب آخر... قلبٌ ليس له...!
نعم عزيزي...
لقد قررت التخلص من حنيني إليك في تلك الورقة لأن خطبتي على شخص آخر ستتم الأسبوع المقبل
ويجب أن أتخلص من ذلك الحنين الممض إليك...
يجب أن أقطع شرايينه...
وسأبدأ بشعري...
سأفعلها اليوم...
فلا يصح أن أكون مع رجل وأنا مسكونة بطيف رجل آخر رحل دون حتى سؤال واحد...!"
****
"لا أدري أي حماقة أقبل عليها...!
أنتِ الوحيدة التي كنتُ أقرأ اسمي في وجهها وبين شفتيها...
أنتِ المرأة الوحيدة التي أعرف تاريخي من عينيها...
وجهكِ كان هويتي وذاكرتي..
فأين وجهك من ذلك الوجه الذي يطالعني منذ عدة أيام..؟
كيف أكتب تاريخي دون عيناكِ...؟
كيف أعرف اسمي دون أن أرى ابتسامتك المطمئنة...؟
ففي وجهك اسمي يظل محفورًا بسكينة... في وجهك أنتِ فقط.
أدركتُ ذلك مؤخرًا عندما حاولت الهروب من أسر ذكرياتي معك إلى امرأة أخرى
وكنت أظن أن النساء يتشابهن في النهاية...
لكنني لم أقرأ اسمي في وجهها
لم أتمكن من تدوين تاريخي في عينيها التي لا تشبه عينيكِ سوى في اللون فقط...
وجدتني تائهًا معها رغم أنها امرأة قد يتمناها أي رجل،
إلا أنني لا أجد بها ذلك النور الذي أبحث عنه...
لا أجد نفسي محفورًا في قسمات وجهها كما كان وجهك مرآتي...
وجهها مزدحم جدًا رغم صفائه...
أحيانًا أود لو أهرب منها وأستقل أول طائرة وأطلب اللجوء إلى وجهك ليعيد تثبيت إعدادات اسمي وتاريخي
لكنني كنتُ قد قطعتُ على نفسي عهدًا ألا أكون أناني معك...
فقربي منكِ يكسرك...
وأنتِ امرأة هشة – رغم صلابتك – لا تستحق طيشي وغبائي...
حسنًا... سأفقد تاريخي وربما معنى اسمي إذا تطلب الأمر ولا أكسرك ثانية...
سأبقى مع تلك المرأة كشبحٍ تائه وتبقين أنتِ سالمة شامخة... كأسطورة عشقي الخالد...
سأبكيكِ كل صباح وأبحث عنكِ كل مساء رغم يقيني بعدم عودتك، لكنني سأحيا على أمل واهم رغم كل شيء..
ولن أتحرك كثيرًا على شرخ فقدك...
كي لا تنهار الأرض من تحت قدمي وإلى ظلماتٍ أبدية... أسقط."
****
- "نور بتعملي إيه.....؟؟؟"
صاحت بها تقى التي دلفت إلى غرفتها فجأة لترتجف يدها ويسقط المقص.
- كنت ها... هاقص شعري إيه رأيك...؟
- والله أنتِ مجنونة..
قالتها تقى ثم وكزتها وهي تغمز قائلة بلهجة موحية:
- إلا إذا كان الدكتور باسل بيحب الشعر القصير بقى دي حاجة تانية...
كانت نور شاردة لم تسمع تقى التي جالت بعينيها في أرجاء الغرفة لتلمح قميصًا أزرق اللون ملقىً بإهمال على فراش نور.. هي تعلم جيدًا لمن هذا القميص.
- نور... أنتِ متأكدة أنك فعلاً مستعدة ترتبطي بالدكتور باسل...؟
هزت نور كتفيها متمتمة:
- الدكتور باسل فرصة عريس مثالي يا تقى... لو رفضته أبقى عبيطة...
قالت تقى بتردد:
- بس زين...
انتفضت نور واقفة وهي تصيح:
- زين صفحة وانطوت خلاص... وهوا تقريبًا نسيني... يبقى أتعلق في حبال دايبة ليه...؟ إحنا مش في قصة واللا فيلم واللا مسلسل تركي من اللي بقيتي تتفرجي عليهم... الواقع مختلف تمامًا يا تقى فوقي....
كانت وكأنها تحدث نفسها وتوقظها، لتنظر إليها تقى وتدرك أي صراع داخلي تخوضه شقيقتها بين قلب لازال متعلق بمن رحل وعقلٍ لا يرى صوابًا في تفويت زوج رائع مثل الدكتور باسل بكل وسامته وأناقته ورقيه ودماثة أخلاقه. خرجت تقى وهي تفكر... تُرى لمن تكون الغلبة...؟ للقلب الغاضب المشتاق لحبيبه أم للعقل الحكيم الذي يختار أكثر الحلول واقعية..؟؟؟
******
- "صباح الخير...؟ صباح الخير بالليل يا زين... الساعة 1 يا ابني..."
- يا ياسر بلاش ألش... أنت عارف أن عندنا نهار...
- خلاص خلاص... آسف.. أخبارك إيه يا عم ياللي قطعت بينا وروحت وقولت عدوا لي...
- كل خير يا ياسر... هاخطب يوم الأحد الجاية...
- إيه...؟ مين...؟ فين...؟
- مالك يا ياسر الشريط سف واللا إيه..؟ باقولك خطوبتي الأحد الجاي...
- ده أنت صحيت لاقيت نفسك كدة واللا ده حصل إزاي...؟
- تموت في الألش والهزار... يا ابني أسمعني... هاخطب يوم الأحد الجاي وهاتجوز بعدها بكام أسبوع وهابقى أجيبها وننزل مصر زيارة إن شاء الله...
- هيا مين دي يا زين...؟
- أ... هويدا... لأ... لأ... عايدة... لأ... اسمها رويدة... آه رويدة...
- أنت مش فاكر اسمها كمان...؟ ألطم..!
- بتقول إيه يا ياسر...؟
- لا يا حبيبي مابقولش حاجة... ألف مبروك... وأنت عرفت عايدة واللا رويدة دي منين...؟
- دي أخت مرات واحد صاحبي سوري هنا...
- آاااه سورية ما شاء الله... ونور يا زين....؟
- ...........................................!
- زين... ألو.... معايا...؟
- معاك يا ياسر...
- باقولك ونور...؟
- مالها نور...؟
- نسيتها أوام كدة...؟
- لأ طبعًا.... نور عمري ما هانساها...
- يعني بتتجوز البنت دي وقلبك متعلق بواحدة تانية...؟ مش شايف إن كدة ظلم...؟
- هيا عارفة كل حاجة على فكرة وموافقة... بل وداخلة تحدي إنها تنسيني نور...
وأعقب حديثه بضحكة صاخبة مستنكرة، ليقول ياسر مشفقًا وقد شعر بمدى تمزقه:
- أنت بتتقطع يا صاحبي...
- بكرة الزمن ينسي وكل شيء هايعدي... أنا كل أما أكون مع نور بأكسرها بطريقة مختلفة... خايف عليها مني يا ياسر...
- مادام وصلت للنقطة دي يبقى خلاص الوجع علمك إنك ماتكسرهاش...
- خلاص يا ياسر أنا أخدت قراري... والبعد هوا أنسب دوا...
- ماشي يا زين... بس أوعى تكون بتاخد دوا غلط... لأنه مش بس مش هايعالجك... ده ممكن يفتح عليك أوجاع جديدة أنت في غنى عنها...
- ماتقلقش... أدعي لي أنت بس يا صاحبي...
- ربنا ينور بصيرتك ويريح بالك وتعرف أنت عايز إيه بالظبط يا زين.
*******
قلقٌ عارم يلتهمه دون رحمة... يود لو تمر ساعات الطائرة التي تزيد عن العشر ساعات بأقصى سرعة... يخشى أن تسوء حالة أبيه في غيابه ويستمر في عناده بألا يذهب إلى الطبيب، فمنذ تلقيه تلك المكالمة القلقة مساء الأمس من ياسر الذي أفضى إليه بتدهور حالة أبيه الصحية ورفضه الذهاب إلى المستشفى وهو يود لو يكون عند أبيه بأقصى سرعة وإجباره لو استدعى الأمر على تلقي الرعاية الطبية المناسبة في المشفى الذي كان يتم علاجه به.
الوقت يمر بطيئًا... وهو لايزال معلقًا بين السماء والأرض... يحاول تجاهل قلقه وخوفه على أبيه، فيتذكر أوركيدته البيضاء عندما صاحبته في الطائرة لأول مرة مع عيسى... يذكر جديتها وحنوها على صغيرها... يذكر كتابها الذي كانت تغرق به أثناء تحليق الطائرة... يذكر حرصها على أداء الصلاة وقياسها للمواقيت بدقة... يذكر شيء كصاعقة خفيفة ضربت كيانه يومها عندما تأمل ملامحها الهادئة الدقيقة.
زفر توتره في عنف وأرجع رأسه إلى الوراء مغمضًا عينيه... لترتسم على شفتيه ابتسامة جذلة وهو يذكر شكلها الفوضوي عندما ارتدت منامته السوداء الواسعة عليها وكانت ترفع شعرها كيفما اتفق... اتسعت ابتسامته عندما تذكرها وهي تقفز بعيدًا عنه من الفراش ليسقط سروال منها كاشفًا عن ساقيها ليتورد وجنتيها في خجل وتطرده من الغرفة.
هذه المرة زفر اشتياقه وهو يتمتم:
- آه يا نور... إزاي هانسى كل ده...؟ إزاي...؟؟
*******
- "والله العظيم يا طلال ده اسمه هبل..."
صاحت نور في حدة وهي تضع كفها على جبينها تحميه من أشعة الشمس تصيح بطلال في حنق شديد، ليتبادل طلال النظرات مع تقى ثم يقول:
- يعني يا بت عمي ده ملكك لازمن كنتِ تشوفيه وتعرفي كل شيء كيف بيسير...
صرخت نور:
- منا كنت لسة هنا من كام يوم يا طلال وشوفت كل حاجة... ماكانش لازم تكلمني وتقولي تعالي بسرعة لازم تشوفي المزرعة... حسستني أن فيه حريق واللا مصيبة... مش مجرد شوية عمال غايبين.... أنا مالي بالعمال يا طلال... ده شغلك أنت...!!!
أومأ طلال قائلاً:
- معلهيش يا بت عمي آسفين...
هدأت نور من روعها وقد شعرت أنها قد رفعت صوتها إلى حد ما، ثم قالت:
- لا يا طلال مافيش مشكلة خلاص... أنا اللي آسفة إني عليت صوتي... بس أنا كنت مستغربة أنك تناديني عشان حاجة زي دي وأنا متعودة منك أنك بتحلها بكل سهولة خاصة كمان إن خطوبتي بعد بكرة فأعصابي تعبانة شوية... عامة حصل خير... استأذن أنا بقى عشان ألحق أسلم على الجدة وعمي سليم قبل ما أرجع القاهرة...
أومأ طلال إليها مودعًا، لتسير نور نحو باب المزرعة مع تقى وهي تسألها:
- ياسر برة يا تقى...؟
لحقت تقى بها لاهثة وهي تقول:
- ماعرفش هاكلمه أهوه...
قالتها وهي ترفع الهاتف إلى أذنها وصمتت لحظات قالت بعدهم:
- سلام عليكم... أيوة يا ياسر... أنت فين...؟ آه إحنا خلصنا.... إيه...؟ بتقول إيه...؟ طب احنا هانعمل إيه دلوقتي...؟ آه معايا في الشنطة... تمام... حاضر حاضر... سلام...
اقتربت منها نور متسائلة فزفرت تقى بتعب ثم قالت:
- ياسر بيقول العربية اتعطلت على الطريق...
- يا سلاااام... وإحنا نرجع في إيه دلوقتي...؟ مافيش حد تاني يجي لنا...؟
- آه هايبعت لنا حد تاني فعلاً بس قال لي نستنى في بيت المزرعة لحد مايجي ياخدنا.. تعالي نقعد في الضل شوية ونشرب حاجة على ما يبعتوا حد... أنا معايا المفتاح...
زفرت نور في غيظ ثم قالت:
- استغفر الله العظيم.... هوا يوم باين من أوله... ياللا بينا..
وصلت نور وتقى إلى بيت المزرعة فارتمت تلك الأخيرة في إنهاك على الأريكة بينما أخذت نور تقطع الردهة جيئة وذهابًا.
- إيه التوتر ده يا نور...؟ اقعدي ريحي شوية...
- يا بنتي باقولك خطوبتي بعد بكرة ولسة ماعملتش حاجة ولا جبت فستان حتى... لازم أرجع القاهرة بسرعة...
قالت تقى:
- خلاص... أكسبي وقت وأدخلي خدي شاور على ما العربية تيجي ونطلع من هنا على القاهرة على طووول..
فكرت نور للحظات ثم قالت:
- تصدقي فكرة برضو...!
قالتها ثم توجهت إلى صوان الملابس تتناول منه مناشف نظيفة ثم دلفت إلى دورة المياه... لتقف أسفل رذاذ الماء تحاول تشتيت تفكيرها عن ذلك الطريق الذي لا يفتأ يأخذها إليه منذ أن دلفت ذلك البيت الذي يحمل بين طياته أكثر من ذكرى... تحاول تذكير نفسها بالدكتور باسل وكيف يحبها ويحترمها... تهمس في أذن قلبها دائمًا أنه يتعين عليه أن ينسى... أن يمحو تلك الذكريات ليتسع لأحداثٍ أخرى مع رجل حياتها... الدكتور باسل.
أنهت اغتسالها ثم قامت بلف جسدها بمنشفة وشعرها بأخرى ثم خرجت من دورة المياه في طريقها إلى الغرفة لـ......
"بابا......"
لتصطدم به مرة أخرى.... ويعودا إلى نقطة البداية.
******
- تفتكر هاننجح...؟
قالتها تقى وهي تتناول اللب في إثارة جالسة على السلم الخارجي لبيت المزرعة بجوار ياسر.
- والله أحتمال كبير تحصل خناقة لرب السما ونقع إحنا فيها... خلينا نشوف آخرة أفكارك الذكية وخططك الجهنمية...
شردت تقى مسترجعة خطتها في جمع زين ونور ووضعهما أمام الأمر الواقع وهي تقشر حبات اللب في توتر... لقد تم تنفيذ الخطة بالحرف... تم إبلاغ زين بمرض أباه ليأتي على الفور... تم جلب نور إلى المزرعة بمشكلة وهمية ثم تم تركهما ببيت المزرعة ليصفيا خلافاتهما واتخاذ القرار الصحيح... هزت رأسها متمتمة:
- لأ... لأ يا ياسر... إن شاء الله خطتي تنـ...
"ياااااااسر"
صوت زين الأجش الذي خرج من بيت المزرعة على عجلة مناديًا ابن عمته في قوة جعلهما ينتفضا، ونهض ياسر قائلاً:
- هاشرح لك يا زين... بص والله أنا ماليش دعوة دي.......
"هات أبويا وأي مأذون وشاهد كمان معاك بسرعة.... حالاً....."
شهقت تقى في غير تصديق ثم رغمًا عنها أطلقت زغرودة فرحة حتى وكزها ياسر قائلاً:
- حاضر يا زين هاكلم خالي سليم يجيب....
"وإحنا جينا أهووه..."
كان أباه يترجل من سيارته مصطحبًا مأذونًا مع طلال ويتقدم نحو بيت المزرعة، ففتح زين الباب قائلاً:
- اتفضلوا... اتفضلوا بسرعة....
نظر ياسر إلى تقى قائلاً بغيظ:
- وده من ضمن الخطة برضو...؟
ابتسمت تقى قائلة بدلال:
- عايزني أحط النار جنب البارود كدة ونسيبهم... كان لازم نجيب اللي يربطهم يا حبيبي...
هز ياسر رأسه غير مصدقًا ما قامت به زوجته، ثم لحق بخاله إلى بيت المزرعة ليشهد على عقد زواج زين للمرة الثانية.
******
أمام المرآة وقفت لتمشط شعرها الطويل مبتهجة بأنها لم تطع نفسها وتقصه... ترتدي قميصًا أرجوانيًا للنوم كانت تقى قد أعدته... ابتسمت على ذكر شقيقتها التي أيقنت حاجتها الداخلية وعملت على جمعها بمن تحتاج إليه.. تذكرت زين الذي تجمد عندما رآها.. هي أيضًا تجمدت في خجل جم وارتبكت وتلجمت للحظة.. كادت تستلم لنظراته العاشقة، لكنها ابتعدت عنه رغمًا عن صوته المشتاق الذي يناديها... رغمًا عن كل خلايا جسدها التي تناديه.. وسارعت للتوارى خلف باب الغرفة قائلة بصوت مبحوح يرفض مناداته لها:
- ماينفعش يا زين... مايصحش... حرام كدة...
- خلاص... نخليه حلال...
تجمدت ثانية على إثر قراره لا تدري بم تجيبه...
- أنا هاجيب المأذون حالاً يا نور...
لم تعترض... وما هي إلا لحظات حتى جاءها عمها بدفتر المأذون كي توقع وتبصم على قسيمة زواجها.
لم تدر كيف حدث كل شيء بتلك السرعة... رفعت إبهامها الذي يحمل الحبر الأزرق تتأمله في سعادة وهي تبتسم، ذلك عندما شعرت به يفتح الباب... يقترب منها... يحيط وسطها بذراعيه ويدفن وجهه بين شعرها المتساقط على كتفها وهو يهمس:
- مش عارف كنت هاكمل حياتي إزاي من غيرك...
اشتعلت وجنتاها في خجل وخفق قلبها بعنف لا تدري حقًا أحلمٌ هذا أم واقع تحياه.
- أنا روحي ساكنة جواكي يا نور... أما بعدتِ... حسيت إني جسم من غير روح... بس كنت خايف عليكي مني عشان كدة بعدت... كنت مستعد أدفن نفسي ولا أذي شعرة منك تاني...
أمسكت بكفه المحكم حول وسطها وتنحنحت قائلة:
- أ.... أنا كمان كنت كل يوم بنام أحلم بيك... بس أما بعدت وما اتصلتش قلت أنك نسيتني خلاص...
أمسك كتفيها ليديرها إليه هاتفًا:
- عمري ما نسيتك يا حبيبتي... وعمري ما هانساكي ولا هاتسبب لك في أي شيء يضايقك أو يئذيكي...
ابتسمت في خجل وأطرقت ووجنتيها يزدادان توردًا، فرفع رأسها لتصطدم برأسه المنحنية إليها وهو يقول:
- أعتقد دلوقتي بقى يصح وينفع...
همت أن تسأله عما يقصد إلا أنه كان قد بدأ في شرح وجهة نظره عمليًا، فاستسلمت لاجتياحه الحاني وعشقه الصارخ في خدرٍ لذيذ تخبره لأول مرة بحياتها.
******
ودون استئذان... عمت شمس الصباح الغرفة في محاولة لإيقاظ هذين العاشقين بعد ليلة طويلة لم يذق أي منهما مثلها في حياته... نهض زين غير مصدق أن حوريته تغفو على صدره... يتناثر شعرها حولها كما يعشقه تمامًا... أخذ يعبث بخصلات شعرها ويوزع قبلاته على وجهها حتى استيقظت في تململ، وما إن رأت زين حتى عادت وجنتيها للتورد وهي تتذكر ليلتهما.
- صباح الورد على أحلى عروسة في الدنيا...
تدثرت بالغطاء في خجل وهي ترد عليه بصوت خفيض:
- صباح الخير يا حبيبي...
- إيه...؟ ماسمعتش قولي تاني كدة....
- باقول صـ... صباح الخير...
- يا إيه...؟
- خلاص بقى يا زين...
- يعني ألاقيها من حبيبي واللا زين...
ضحكت في خجل ليشد ذراعه حول كتفيها قائلاً:
- يا هناه زين ويا سعده زين بحبيبته اللي زي القمر دي... بالله عليكي حد في الدنيا بيناديني بالرقة دي...؟
لم تتمكن من كتم ضحكاتها الصافية التي تأملها زين بسعادة وهو يقول:
- ربنا يخليكي ليا يا حبيبتي...
دفنت رأسها في صدره وهي تقول:
- ويخليك ليا يا حبيبي...
شرد زين قليلاً ثم تسائل بتردد:
- بس يا نور أنتِ إزاي........
تنحنحت نور وقلبها يخفق في عنف وهي تتمتم بكلمات غير مترابطة:
- أنت عارف أن يعني... المرة اللي حملت فيها... ماكنش هوا في وعيه تقريبًا فمحصلش أممم... وبعدين أنا ولدت قيصري مش طبيعي فالموضوع ما تمش زي ماـ...
لم تجد كلمات تتمم بها عبارتها لكنه فهم تمتماتها... وأعترف لنفسه أنه كان في غاية الحماقة والشك في غير موضعه معها... لقد ظلمها كثيرًا وأساء الظن بها... بينما هي العفيفة الخجول كالعذراء في خدرها... ولماذا يضع حرف تشبيه...؟ لقد تأكد له منذ قليل عذرية جسدها وكأنه كُتب في اللوح المحفوظ أنها له رغمًا عن كل شيء... قد تكون تزوجت غيره وأنجبت منه لكنها له منذ البداية...
هي خطوات بدربِ القدر قطعتها كي تصل إليه... بكامل قلبها ومشاعرها وأحاسيسها وجسدها..
وها هو يعدها أن يحافظ على هدية القدر الفريدة تلك بكل ما أوتى من قوة..
وها هما يخطوان معًا أول خطوة في حياتهما الجديدة بعيدًا عن أشباح الشك والخوف والخذلان.
****
- تــــــــــمـــــــــــــ ت بحمد الله –
آلاء محمود
10/3/2017

فيتامين سي 01-01-18 12:21 AM

https://www.haeaty.com/wp-content/up...mages-2-76.jpg


الساعة الآن 06:39 AM

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.