02-10-19, 10:27 PM
| #1 | ||||||
| نجم روايتي  
|  حفرة معتمة... قصة قصيرة وقف أمام بناية قديمة المنشأ، تقشرت صبغتها البيضاء، علق على شُرفها الصغيرة والقريبة من بعضها، الملابس، والبطانيات، بينما ظهر اصيص النبات معلقا على السطح والآخر موضوع على الجوانب. مشى بهامة مرتفعة إلى بناية اعتاد الدخول إليها منذ فترة، وقامته الفارعة وتقاسيمه السمراء القاسية زادت عمره الذي لم يتخط العشرين سنوات اضافية، أمسكت يده بعصا غليظة قصيرة بينما استقرت الأخرى في جيب بناطل أزرق عسكري ممسكة بالمسدس. فتح باباً بنياً مهترئاً قبل أن يلج إلى ردهة ضيقة مليئة بالأوساخ والاتربة، صعد الدرجات بخطوات واسعة مخلفاً أثاراً على سطحها الأبيض المغبر... يدٌ تلوح بالعصا والأخرى تستقبل الضربات بإيقاع بطيء، أخيراً توقف أمام أحد الأبواب الرديئة كالمبنى، مد يده فأمسك أكرة الباب. اتسع شدقيه، ظهرت لثة داكنة فوق أسنان صفراء لوثتها أغبرة السجائر، اليوم هو أول أيام الشهر، اليوم الذي ينتظره على الدوام، ليعود إلى ممارسة لعبته التي اكتشفها مؤخراً، جربها على شخص واحد في البداية، ثم على اثنين وثلاثة ورأى أنها ذات فاعلية عالية، لأنه لم يجد منهم إلا الرضوخ! في حجرة واسعة طويلة، يتدلى من سقفها المنخفض عدة مصابيح بيضاوية تشع بنور أصفر باهت، بينما تصطف على طولها عدة أسرة حديدية وخشبية، جلس رجال كثر بعضهم على الأسرة والبعض الآخر على الأرض، منهم من يأكل الطعام أو يلعب بالورق. يجلس على أحد الأسرة رجل في منتصف العمر، تعد أصابعه الدراهم، تلوح على ثغرة ابتسامة خفيفة سرعان ما تختفي عند سماعه لصوت حركة خفيفة بجانبه، بسرعة يدس الأوراق النقدية بين طيات وسادته الذابلة خوفا من فقدانها. مقابل ظهره، يستند جسدٌ هزيل إلى حافة السرير الحديدية، تنظر عيونه الغارقة بلون البحر إلى المروحة التي تدور في السقف، يخيل إليه أنه هناك في تلك المروج الخضراء، تزخم أنفه رائحة العشب الندية، تطوف به أرواح صغاره بثيابهم الرثة الممزقة، يعانقهم واحداً واحداً، يقبل صغيرهم حتى كبيرهم بكل شغف ولهفة، يريهم ذلك المنزل الذي اختار أرضه منذ نعومة أظفاره، تخيل أنه من طوب، شيئاً يشبه أحلامه الصغيرة. أما الذي انزوى عند النافذة المفتوحة، لفحة حرارة الجو وجهه الأسمر الذي نقش عليه الزمن ملامحه، رفع قدح الشاي الأحمر، ارتشف عدة رشفات منه، لقد بقي القليل ليتخلص من هذا العمل الذي سرق زهرة عمره، لكي يتخلص من تلك الديون التي اثقلت كاهله، إنه على مشارف سدادها كاملة، رسم شبح ابتسامة ولكنها ذبلت عندما فتح الباب، ودخل ضوءٌ جديد من فتحة الباب الضئيلة التي سرعان ما اتسعت على مصراعيها، مظهرة ظلاً عملاقاً اكتسح زاوية الغرفة.. ضاعت الأحلام، تبعثرت الأماني، اضمحلت الابتسامات لرؤية ذلك الوجه الذي بات يغزو مضاجعهم منذ فترة ليست بطويلة. تقدم بخطوات واثقة، فظهرت بزته الزرقاء، وقف أمام أجساد قد غطتها الجروح وإرهاق السنين العجاف، وعيونه الصغيرة تنظر بخبث وجبروت إلى تلك الوجوه الوجلة، ضرب بالعصا على يده لمرات عديدة، قبل أن يُخبئها في طرف بناطله، مستبدلاً إياها بالمسدس، لم يرف له جفن أمام ملامحهم الشاحبة وأشكالهم الرثة الفقيرة، لم يأبه لنظرة الحزن والرجاء المختزنة في العيون، سيطرة عليه لذته، رؤية ذلك الألم كان متعته. تقدم إلى الأمام، تلاعب بالمسدس بين يديه، أمرهم بجفاء: -هيا.... أظهروا ما عندكم، وإلا أخذت هذه المرة كل ما لديكم، أو قتلت أحدكم والصقت التهمة بكم أسوأ مما فعلت في المرة السابقة، فكما تعلمون لقد تم اثبات تهم السرقة على بعضكم وبفضلي نجوتم وعليكم تحمل ما جنته أيديكم! لقد اثبت لهم أنه ذو شأن ورجل ثروة وجاهه عندما رأه أحدهم ذات مرة مع بعض الأشخاص ذو شأن... كان أكبر تكلفت من أن تتحملها اعناقهم، لقد كان رجل شرطه أيضاً بنظرهم، رجل أمن متسلط متجبر يلاحقهم على أتفه الأسباب، يحاول السيطرة عليهم كما يقول، كانوا مجرد دمى متحركة يلعب بها، يشد أوتارها متى أراد تسيرها. لم يرق ذلك القلب الأسود أمام كهل أحنت الحياة ظهره، ارتعشت يده النحيلة وهو يخرج محفظة مهترئة الجلد، انتزع المحفظة من يده، عبثت أصابعه بها، أخرج الأوراق النقدية، وتلك اليد المرتعشة تتقدم وتتأخر في رجاء، صورة قديمة ألوانها رمادية انتزعها بقسوة منها، مزقها نصفين دون أن يأبه، سقطت لتغرق في السطح الرمادي أمام أنظارهم المبهوتة، وأخيراً رمى المحفظة على وجه الرجل الهزيل الذي أخذت تقاسيمه تهتز ببؤس وضعف، انتقل من واحد إلى آخر، دون أن يكون لهم رأي آخر! فمن هم لكي يحتجوا، فهم غرباء على أرض وطن، أتوها جوعى ينشدون الإغاثة، بعيداً عن أشباح البرد والجوع والحمى، فهم لم يظنوا أن لهم حقوق يطالبون بها! فهم مجرد أجساد تعمر، أرواح تجهد، أنفاس تزهق بين بطن النهار وأحشاء الليل، من أجل لقمة العيش، للعيش بعيداً عن بؤس الفقر! بعد ذهابه، وقفوا حفات الاقدام في أماكنهم، بعضهم على سجادة خضراء مهترئة، والبعض الآخر على البلاط البارد بجانب أكواب الشاي المندلقة على الأرض، وأوراق اللعب المتناثرة، ومصباح يومض في كل مرة ترف فيها أجفانهم، أيدهم تدخل الجيوب الخالية ثم تخرجها، أعينهم تنظر إلى أيديهم الفارغة في بؤس. عادوا إلى أماكنهم، منهم من اضطجع على الأرض مستنداً على الحائط، أو على حديد السرير، تظهر أمام بعضهم أقدام بعضهم المتشققة والمغبرة الممددة إلى الأمام، حدقوا ببعضهم بمقل شربت الحزن واحتضنت الدموع، فلقد ضاعت أموال استقطرت زخات عرق رسوم أيام لم تكن لتنتهي. هتف أحدهم بوجه حمل القنوط: -أيبقى الحال هكذا؟ اشتدت قبضتي أحدهم، كان شاباً أسمراً، خشن البشرة والمظهر، ضرب الأرض بعصبية وهو يعدل جلسته ويصيح عليهم، متخلصاً من خوفه وضعفه الذي تلاشى الآن، بعد أن خسر المعركة: -يجب علينا أن نقف بوجهه، إنها أموالنا، ليس له الحق في أخذها، ولا في رفع السلاح علينا، لمجرد أنه شرطي! تقوست شفتي أحدهم، بوجه رسم الاستهزاء بالرفقة: -في المرة السابقة طعن قدم ماهر لأنه قاومه وضربه، تمزقت أوتار قدمه، وماذا استفاد؟ إلا أنه أصبح معاقاً وعاطلاً، نحن أضعف من أن نقاوم ذلك المتجبر، لأننا نفسنا نرتكب الأخطاء لندانا بها دون أن يكون هناك مجال للإصلاح! همس أحدهم بقنوط: -ومن يقدر؟ *** يتبختر في مشيته، ينزل الدرجات سريعاً، يخرج الأموال من جيبه، يعدها، ترتفع زوايا شفتيه عن ابتسامة استحقار، يصل إلى سيارته السوداء، يفتح صندوقها، يبدأ في نزع القبعة الزرقاء ثم القميص والبنطال، ملابسه هذه ما هي إلا غطاء ألتحف به، لتحقيق مأربه الهوجاء، وأطماعه العمياء، لأنه ليس شرطياً ولن يكون، إنما استعارها من أحدهم. لبس لابساً عادي أبيض، رمى الزي إلى الداخل بعد أن كوره في يديه ثم اغلقها بكل عنف. جلس في السيارة بعد أن شغلها، أشعل سيجارة، شفط منها نفساً عميقاً ثم حرره بعمق، إنه يشعر بنشوة الانتصار، يرى في عمله هذا لذة لا يمكنه الاستغناء عنها، فقط لأنه يرى أنه لا يجب للضعيف أن يعيش، يرى في سحقهم غاية له. انطلق بسرعة هستيرية في شارع شبه خالي من السيارات، كعادته لم يعط أي اهتمام لقواعد السير، أراد اليوم تجاوز كل قوانين الحياة. اشغل الراديو، ضجة الأغاني جعلته لا يسمع شيئاً سواها في رأسه، على الطريق الذي انارته مصابيح الشارع، ظهرت أمامه شاحنة سوداء ذات حمولة كبيرة، اراد تجاوزها، خفف من سرعته، انعطف إلى الرصيف المظلم خلف ظلها العملاق، دخل بينها وبين الصحراء التي لم يكن يرى منها شيئاً بسبب ظلمة السماء في ذلك اليوم، كانت مسافة شبر هي التي فصلت بينهما عندما رأى أمامه شيئاً أسوداً، أرتطم به بشدة، انحرفت السيارة، نزلت من على الرصيف انطلقت إلى عامود الكهرباء، اصطدمت به ليعتوي حديده، اصطدم بالزجاجة الأمامية، تكسر الزجاج رامياً إياه إلى خارجها، تدحرج في الظلام على الرمل، ثم سقط على ظهره مذهولا، تنفس بصعوبة، أحس وكأن قفصه الصدري تهشم، حرك جسده بصعوبة ثم وقف حادباً ظهره، مشى يحسب قدمه في الرمل، دافعاً جسده المتألم إلى الأمام، جر خطوة وراء الأخرى إلى أن وصل قرب الرصيف، ومن بعيد في الظلام تلاشت صورة الشاحنة في الشارع إلى أن انعدمت رؤيتها، صعد إلى الاسفلت، انارت المصابيح وجهه، من جهة اليمين عند الأذن، ظهر شق بطول انشين، انهمرت منه الدماء مخلفة بقعاً حمراء على كتفه الأبيض، بينما انتشرت بعض الخدوش على وجهه ويديه، وضع يديه على ركبتيه وهو يلهث بينما تعلقت زخات العرق على جبينه الأسمر، حاول فتح عينيه أمام الضوء فلم يقدر لثوانٍ، بعدها بدأ بالبحث حوله، تقدم محاولاً الاعتدال، ولكنه توقف فجأة لأنه كاد يصطدم بشيء لم ير هيئته، ولكن سرعان ما وضحت الرؤية أمامه، على السطح الرمادي استلقى جزءاً لتلك الكتلة التي هدسها بسيارته، والتي تسببت بكل هذا. بهت وجهه، تراجع خطوة متعثرة إلى الخلف ثم أخرى سريعة، سقط على الأرض من شدة الذهول، تراجعت كفيه إلى الخلف تسحبانه، أخذ أنفاسه بصعوبة... إنها جثة بشرية، لا يمكنه تصديق ذلك، فهذا المنظر من أبشع المناظر التي رآها في حياته، فالأمعاء ظاهرة بل كل ما يوجد في البطن يفترش الأرض وينزف، رفت أجفانه لجزء من الثانية، أهي مقدمة سيارته المدببة من قطعته إلى نصفين، يالله.... إنه كابوس!! لا يمكن أن تنهار حياته بسبب حادثة غير مقصودة؟ ما الذي جعل هذا المعتوه يمشى في هذا الليل هنا؟ الآن ما الذي يجب عليه فعله، الهرب نعم عليه الهرب، لكي ينجو بحياته قبل أن يعلم أحد بذلك! صلب جذعه رغم الألم، نزل من الرصيف إلى التراب، ركض إلى السيارة، أدارها وانطلق...مخلفاً وراءه معالم جريمة طويت بلا عقاب.. *** | ||||||
|  |
 |
| أدوات الموضوع | |
| انواع عرض الموضوع | |
|
|
1Likes
.png)
.gif "Eh S(7)")
العرض العادي
