شبكة روايتي الثقافية

شبكة روايتي الثقافية (https://www.rewity.com/forum/index.php)
-   روايات عبير المكتوبة (https://www.rewity.com/forum/f202/)
-   -   23 -المـــلاك الحــارس ع.دار الكتاب العربي ( كتابة/ كاملة** ) (https://www.rewity.com/forum/t4633.html)

بلا عنوان 06-01-08 01:47 PM

23 -المـــلاك الحــارس ع.دار الكتاب العربي ( كتابة/ كاملة** )
 
الملاك الحارس

رابط الرواية
يجب ان ترد لمشاهدة المحتوى المخفي


-1-

الوصيــــة الأخيـــرة


والآن المجموعة الرابعة والثلاثون! تمثالان صغيران سيداتي وسادتي من يريد أن يفتح المزاد؟

وتحولت نبرة سمسار المزاد إلى همس خافت عندما أغلقت كريستينا وراءها باب غرفة الطعام بهدوء ومشت بخطى بطيئة عبر الممر الضيق المؤدي إلى مدخل البيت الصغير الخلفي .
لقد ارتكبت خطأ فادحاً في الانتظار لحضور المزاد العلني . إنها تدرك ذلك الآن . حذرها السيد فريث من مغبة تجربة كهذه ، تجربة مشاهدة محتويات منزلها معروضة للبيع . وهي التي الفتها طوال ستة أعوام ألفة حميمة ، يا ليتها عملت بنصيحته وتوارت عن الأنظار . ولكن عاطفتها كانت أقوى من أن تقاوم . غمرها شعور بشوق خفي لشراء ولو قطعة صغيرة من تحف ربة عملها ، لتحتفظ بها كذكرى سعادة غابرة.
ولكن جاءت الأسعار المعروضة لشراء الآنية الصينية وقطع الأثاث والتحف الأخرى لتذكرها بمدى إفلاسها .
كم ستفرح عائلة ويبستر بنتيجة المزاد . رأتهم يجلسون في آخر الغرفة يتبادلون ابتسامات الفوز . كان كل شيء بالنسبة إليهم يسير على ما يرام . ولا يفيدها الآن إقناع نفسها بحقهم الشرعي في التصرف هكذا . لم يتركوا فرصة تفوتهم إلا وشددوا على حقهم الطبيعي وهي تعرف أنها لا تملك أي حقوق من الناحية القانونية ولا علاقة للأخلاق في مثل هذا الأمور .
مشت مكتئبة إلى المطبخ الخلفي . كان كبقية البيت ، خاوياً من كل قطعة قابلة للبيع . وبدت خزانة الحائط الكبيرة كالحة ، مهجورة لا اثر للآنية الزخرفية والنحاسية على رفوفها.
توجهت إلى المغسلة ، وفتحت صنبور الماء البارد ، ورشفت من راحتيها لتطفئ عطشها ، ثم مسحت جبينها بقطرات منعشة .
كانت لا تزال عاجزة عن تفسير التغيير المفاجئ في حياتها و أوضاعها . وعرفت أن عليها التفكير في المستقبل ورسم خطة ما ، تماماً مثلما اخبرها السيد فريث عدة مرات . ولكن كيف؟ بدا لها أنها كانت تعيش في سعادة منحتها إياها العمة غريس ، تلك المرأة الحنونة والمستبدة في الوقت نفسه ، والتي ربتها تربية حسنة بعد أن أصبحت يتيمة ، ولكنها لم تساندها في اللحظة الحاسمة في حياتها.
ولكن ، وكما أشارت فيفيان ويبستر بأسلوبها المتغطرس ، ما الذي كانت تتوقعه من امرأة لا تربطها بها صلة قرابة ودم؟

وكانت هذه عبارة السيدة ويبستر المفضلة ، مع تجنبها الاقتراب من العمة غريس عندما كانت حية ، أو الاهتمام بها وبصحبتها . ولم تكن العمة غريس ، على أي حال قليلة العقل . كانت تعرف مدى اعتماد ابنة أختها عليها . وتركت كل شيء في وصيتها لفيفيان ويبستر ، ولم تذكر كريستينا بخير أو شر ، وهي التي لازمتها طوال حياتها ، وتولت أمور البيت الصغير وساعدت ربة عملها في أعمالها الخيرية وذكرت نفسها أنها لم تكن تطمع في الحصول على شيء . العمة غريس هي التي أصرت دائماً على توفير كل ما تحتاج إليه كريستينا في حالة وقوع طارئ لها ، مع أنها لم تحدد ما الذي تعنيه بذلك . ورددت كل هذا على مسامعها مرة تلو الأخرى خاصة عندما كانت كريستينا تقترح الحصول على مؤهلات دراسية لمهنة لائقة فتعترض العمة غريس .

وطالما سمعت الآنسة غرانثم وهو الاسم الأول لعمتها تقول :
- لا حاجة إلى المؤهلات يا عزيزتي . أعدك انه لن يعوزك شي وسوف أولى عناية خاصة لهذه المسألة ، لا تقلقي .

وها هي كريستينا الآن تجد نفسها بدون عمل أو أي ضمان آخر ومحرومة من البقاء في بيتها القديم ، والتفكير بالمستقبل بهدوء . تنهدت بأسى ونظرت من النافذة محدقة في حديقة الخضار الصغيرة حيث قضت مع العمة غريس ساعات طويلة من العمل المضني إلى أن سقطت صريعة مرض عضال.

علت وجهها ابتسامة عابرة وهي تفكر في نشر إعلان صحفي يعلن عن مواهبها الخاصة :
" فتاة كفؤة ، في التاسعة عشرة من عمرها ، تملك خبرة محدودة في طهي الطعام وزرع الخضار والكتابة على الآلة الكتابة ، ورعاية المرضى ... "

بلا عنوان 06-01-08 01:48 PM

بدا لها أن قائمة الخبرات طويلة لا تنتهي . ولكن لا بد لها من الإقرار بعجزها عن إتقان أية مهنة . وهل يوجد شخص آخر يرضى بخدماتها مثل العمة غريس؟
لقد وجدت نفسها تعيش فجأة مع ربة عملها عندما تعرضت والدتها لنوبة قلبية ، بعد أن فقدت زوجها ، و كريستينا لا تزال طفلة صغيرة .

وواظبت كريستينا على الذهاب إلى مدرستها وهي تعرف أن عمتها غريس هي التي تدفع رسوم التعليم ، كما كانت تفعل منذ البداية . وما أن بلغت سن السادسة عشر حتى طلبت منها العمة غريس التوقف عن الدراسة والبقاء معها في البيت ، فتخلت عن متابعة الدراسة وخضعت للأمر الواقع . وهي لا تنكر مدى راحتها في العيش معها ، والسكن ضمن أجواء قرية جميلة كانت عمتها أحد وجوهها البارزة .

بذلت كريستينا جهداً خاصاً لإيجاد رابطة ودية بينها وبين عمتها القاسية ، وذات الآراء المتزمتة فقد كانت ضد تحرر المرأة بما تحمله هذه الكلمة من معنى وترى ان كل امرأة تحتاج إلى رجل ليرعاها ويحميها من " عوادي الزمان "
ووجدت عمتها من يرعاها في شخص السيد فريث ، محامي العائلة والذي كانت تتقيد بآرائه حول أية مسألة ، باستثناء مستقبل كريستينا كما يبدو . وماتت بدون زواج أو أولاد . وما أن شيعوها إلى مثواها الأخير حتى تقدم السيد فريث من كريستينا ليبدي اسفه وعجزه عن إقناع عمتها لتغيير وصيتها لتشملها ولو على نحو متواضع .

قال لكريستينا بلوعة :
- تظاهرت بأنها لم تسمعني . وأنتِ تعرفين أسلوبها المعهود في هذه الأمور .

لم تجد كريستينا تفسيراً معقولاً لتصرف عمتها . أما السيدة ويبستر فهي لا تعرف معنى الشهامة والنبل . كان همها الوحيد بأسرع وقت ممكن وبدون إظهار أدنى اهتمام بمستقبل فتاة سهرت الليالي للاعتناء بعمتها إن عليها الآن الاعتماد على نفسها ، ولتحمد ربها على بقائها مدة طويلة تعيش حياة مرهفة هنيئة وهي كما تدل تصرفاتها لا تبدي أي اهتمام بالبيت الصغير أو محتوياته فهي لا ترغب في التخلي عن لندن والانتقال إلى الريف . لم تكن السيدة ويبستر مهتمة بأكثر من تحويل ارثها إلى أموال سائلة ، وبأقصى سرعة.

كانت كريستينا تتمنى أن تحتفظ عائلة ويبستر بالبيت الصغير ، لقضاء عطلة نهاية الأسبوع ، والإبقاء عليها لترعى شؤونه أثناء غيابهم . لكن خابت كل آمالها ، ورفضت السيدة ويبستر ان تساعدها في إيجاد عمل ، واكتفت بأن قالت لها : " هناك مكاتب التوظيف".

أما السيد فريث وزوجته فكانا كريمي الأخلاق ووعداها بإعطائها توصيات ملائمة عندما يحين الوقت وذهبا إلى حد دعوتها للسكن معهما ،عندما يأتي دور البيت الصغير لطرحه في المزاد العلني . لكن كريستينا لم تقبل عرضهما .
اعتقدت أن وجهة نظر عائلة ويبستر اكثر عملية بضرورة تولي أمورها بنفسها ودخول معترك الحياة قبل فوات الأوان . ثمة مجالات كثيرة خارج هذه القرية الصغيرة وعليها أن تبحث عنها .

وقررت أن اتخاذ الخطوة الأولى هي اصعب مرحلة في أي عمل . وكانت خطواتها الأولى استئجار غرفة في فندق القرية الوحيد ، مع إدراكها أنها ستكون خطوة مؤقتة . فهي لا تملك إلا النذر القليل من المال ، وستحتاج صاحبة الفندق السيدة ثرثتون لكل غرفة لاستقبال السياح مع تقدم فصل الصيف.

وظلت كريستينا تفكر في عمتها ، ومع ذلك ، لم يستقر رأيها على أحد وهي تعرف أنها تتمتع بقدر معين من الجمال ، شعرها الأشقر الطويل يزيدها جمالاً ، إضافة تموج عينيها الخضراوين .

ومنذ وفاة عمتها ، اتضح لها أن عدم زواجها يعود إلى إدراك معظم عائلات القرية لوضعها الاجتماعي وتواضع إمكانياتها المادية . وهي عائلات غنية في معظمها تتوقع مصاهرة من هم بمستوى قريب من مستوياتهم .

شعرت بالألم وهي تفكر في هذا الأمر ، وقررت طرد شبحه من ذهنها . ألقت نظرة على ساعة يدها . كان المزاد العلني مستمراً ، ففكرت أن تتوارى عن الأنظار فهي لا ترغب في لقاء عائلة ويبستر مرة أخرى والإصغاء إلى أسئلتهم الكثيرة عن مدى نجاحها في إيجاد عمل . تنهدت بحسرة . هذه هي الحقيقة المرة فهي تقدمت بطلبات عديدة للعمل وبدون فائدة.

علاوة على ذلك ، يبدو نهارها مملاً ، طويلاً . فلتركب القطار إلى لندن وتتصل ببعض مكاتب التوظيف . إنها الآن وحيدة ، وعليها أن تشق طريقها ومهما كانت الصعاب.

ألقت نظر أخيرة مليئة بالحزن على المكان والحديقة ، واستدارت نحو الباب ثم اكتشفت أنها لم تكن وحدها ، وانطلقت صرخة اندهاش من فمها . وخيل إليها ان المرأة الواقفة أمامها ، كانت تراقبها منذ فترة طويلة.

لم تكن امرأة طويلة ، ولكنها قوية الشخصية ترتدي ملابس أنيقة وتتكئ على عصا دقيقة الصنع مرهفة كالسيف.

بلا عنوان 06-01-08 01:49 PM

نادتها المرأة باسم عائلتها ، وبصوت هادئ خفيض ، وكان بلكنة أجنبية :

- الآنسة بينت؟

ترددت كريستينا ثم أجابت :

- نعم . ولكن للأسف الشديد لا أعرف ....

ابتسمت المرأة بتمهل ، كاشفة عن أسنانها البيضاء المتناسقة :

- كم تتصورين بالضبط ، لم يسبق لنا التعارف ولكن أؤكد لك يا آنسة إنني لا اعتبرك إنسانه غريبة ويخامرني شعور أن صداقتنا قديمة ومتينة.

اعترت كريستينا الدهشة . فتابعت المرأة :

- اسمحي لي بتوضيح ما اقصد . أنا مرسيل براندون يا آنسة ألم تحدثك عمتك عني أبداً؟

وقالت كريستينا بصراحة :

- لا أبداً .. هل ... هل كنتِ إحدى صديقاتها؟

وجدت صعوبة في تصديقها . كانت عمتها امرأة إنجليزية خالصة ، لم تغادر ارض بريطانيا في حياتها ، على ما تذكر كريستينا أن تكون لها علاقة من قبل مع هذه المخلوقة الغريبة.

هزت المرأة رأسها :

- كنا في المدرسة معاً ، وكذلك أختي مادلين ألم تذكر عمتك شيئاً عنها أيضاً؟

بلعت كريستينا ريقها :

- كلا لا أظن أنها تكلمت عن أيام دراستها . بدا لي دائماً أن لا أصدقاء لها خارج هذه القرية.

- يصح ما تقولين في الفترة الأخيرة من حياتها ولكننا كنا نتبادل الرسائل لسنوات عديدة وتلقيت آخر رسالة منها منذ ثمانية عشرة شهراً .

صمتت ثم ما لبثت أن قالت :

- آسفة لعجزي عن الوقوف على قدمي مدة طويلة ولا أرى آثراً للكراسي ...


أجابت كريستينا بحسرة :

- انك على حق ، إن كل شيء هنا معروض للبيع.

- ألا يمكننا الذهاب لمكان آخر حيث يمكننا التحدث والجلوس ، وحيث لا توجد ذكريات مؤلمة؟

فكرت كريستينا قليلاً . لم تجد أي مبرر لرغبة صديقة عمتها القديمة هذه في التحدث إليها سوى مجرد إشفاقها عليها ولكنها لم تقتنع بهذا التفسير . لاحظت أنها امرأة هادئة الطباع ، جدية الملامح ويستحيل أن تضيع وقتها في إبداء عواطف لا معنى لها وتساءلت لماذا لم تحضر المأتم وتجئ الآن بدلاً منه ، وعمن اخبرها بوفاة العمة غريس في المقام الأول . لقد تولت هي بنفسها مهمة إبلاغ النبأ المؤسف إلى أصدقاء العمة غريس ومعارفها ، وتعرف جيداً أنها لم تكتب إلى أحد يدعى براندون ربما أن السيدة براندون حضرت المزاد العلني لأنها أرادت هي الأخرى شراء آخر تذكار عن صديقتها ، ولكن يبدو أن تصرفاً كهذا يتلاءم مع شخصيتها .

ولكن ما دهاني؟ خاطبت كريستينا نفسها . لم أتعرف عليها إلا منذ لحظة قصيرة ولا يجوز ان انظر إليها هكذا منذ اللقاء الأول . ابتسمت تطمئنها:

- يمكننا الذهاب إلى فندق السيدة ثرثتون.

وهتفت زائرتها :

- إنها فكرة رائعة وربما تمكنا من تناول الشاي أيضاً.

وهكذا كان جلستا في غرفة الاستقبال تحتسيان الشاي مع بعض قطع الحلوى ولاحظت كريستينا أن مرسيل براندون ترتشف فنجانها بصعوبة ولا تلمس الحلوى وبدت انها ليست في عجلة من أمرها لخرق جدار الصمت الذي أقيم بينهما . ظنت كريستينا أنها تحلق بعيداً عنها ، غارقة في تفكير مزعج بعض الشيء ثم لامت نفسها على خيالها الجامح . ألم تكن هذه المرأة صديقة مربيتها الحميمة ومن الطبيعي أن تشعر بالانقباض؟

تنحنحت قائلة :

- كنتِ تحبين عمتي كثيراً يا سيدة مرسيل؟

وأخذت السيدة براندون تستعيد كامل ذاكرتها ورفعت حاجباً بأناقة تلقائية :
- طبعاً يا عزيزتي وإلا لما كنت هنا .

توردت وجنتا كريستينا قليلاً ، ثم استجمعت قواها:

- لا ... آسفة يا سيدة ولكن لا افهم سبب مجيئك ألى هنا . اعتقد .. اعتقد ... ان هذا الامر لا يعنني ولكن ...

تلقت السيدة براندون كلماتها برحابة صدر :

- على العكس تماماً . انا أتيت من أجلك أنتِ . تلقيت رسالة من عمتك عندما أحست بمدى خطورة مرضها . الم تذكر ذلك امامك؟ كلا ، لا اتوقع منها هذا كانت قلقة على مستقبلك بعد وفاتها وأدركت ان أي ترتيب مادي تضعه في وصيتها لك سوف ينتهي إلى المحاكم وسيكون ذلك مكلفاً ومزعجاً لك . ان ابنة أخيها كانت تكرهك ولما تورعت عن اتهامك بممارسة ضغط مجحف على عمتك لو أورثتك كما كانت ترغب .

قالت كريستينا مطرقة الرأس :

- ان السيدة ويبستر لا تحبني مع إنني لم التق بها إلا قليلاً ، إنها لم تكن تهتم بالعمة غريس طوال حياتها .

- أنتِ ما زالت في مقتبل العمر يا عزيزتي كريستينا أليس كذلك؟ وما زلت لا تفهمين الحياة بمعناها الحقيقي.

ردت كريستينا بحدة وهي تعض شفتيها:

- إذا كانت الحياة كما تتصورها عائلة ويبستر فأنا لا أريد فهمها .

ضحكت السيدة براندون واستقلت إلى الوراء في كرسيها ثم قالت بلهجة ساخرة :

بلا عنوان 06-01-08 01:50 PM

- حسناً انا فخورة بجرأتك . انك شاحبة بعض الشيء ، ولم أتوقع ... ( ثم غيرت مجرى الحديث ) اخبريني يا عزيزتي عن تفكيرك بالمستقبل لا يمكنك كما اعتقد التفكير في البقاء هنا؟

هزت كريستينا رأسها :

- لا طبعاً هذه مسألة غير واردة ، حتى ولو أردت البقاء علي البحث عن عمل .

- عظيم . عظيم هل تفكرين بعمل محدد؟

ترددت كريستينا برهة عز عليها الاعتراف بالحقيقة.

فتابعت السيدة براندون :

- إذا كان الجواب كلا ، فأنا لدي مشروع . إنني ابحث عن سكرتيرة جيدة ومخلصة واعتقد انك مناسبة تماماً ، إذا رغبتي في العمل معي .

وقالت بهدوء :

- إنها بادرة طيبة منك يا سيدة . ولكني سأعثر على عمل هنا أنا .. أنا لا احتاج إلى الصدقة أو الإحسان مهما كان النية حسنة.

- هل تظنين إنني أتصدق عليك؟ إذن أنتِ لا تعرفينني جيداً . أنا لا أعيل أحداً مجاناً إنني أعاني من التهاب في المفاصل كما لاحظت ولا أتحمل الألم ، فأنا حادة الطبع ثم هناك العزلة فنحن لا نتمتع بأساليب الترفيه والتسلية مثلما تفكرين أنت وسواك من أبناء الجيل الجديد.

لم تتملك كريستينا من إطلاق ابتسامة باهتة :

- لا تخافي فأنا لا انتمي إلى الجيل الجديد . تقولين انك تعيشين في منزل معزول يا سيدة؟ أين تسكنين؟ هل تعيشين في فرنسا إذ ....

هزت السيدة براندون برأسها :

- لم أذهب إلى فرنسا مرة واحدة . ولدت مثل أختي مادلين في المارتينك بجزر الهند الغربية وذهبت أنا وأختي إلى مدرسة للراهبات في إنجلترا وهناك تعرفت على عمتك وعندما تزوجت عشت في سانت فيكتوار وهي جزيرة أخرى ولكنها اصغر من جزيرة المارتينك وتقع تحت سيطرة بريطانيا وكان زوجي في الواقع يملك معظم الجزيرة وما زالت عائلتنا تعيش في ارك انجل .

أضاء الفضول وجه كريستينا :

- يا له من اسم مثير يطلق على منزل! ارك انجل : الملاك الحارس .

- نعم وقصته مثيرة أيضاً . انه ليس مجرد منزل بل يضم أيضاً مزرعة ولا تزال جزيرة فيكتوار تحتفظ بجمالها الطبيعي الأصيل ، لأن معظمها أملاك خاصة بخلاف الأماكن الأخرى التي امتدت إليها أيادي الأعمار الحديث . ستعجبين كثيراً بذلك المكان .

بلعت كريستينا ريقها ، محاولة العودة إلى ارض الواقع . إنها لا تكاد تصدق ما يجرى! هل يتم عرض عمل عليها في جزيرة كاريبية وهو ما لم تكن تحلم به؟ ولكن رغم حماسها الداخلي ، ظل صوت عقلها يكبح جماحها . سألتها :

- لماذا أنا بالضبط؟ لا بد أن المئات من الفتيات هناك اكثر كفاءة مني؟

ردت السيدة براندون :

- لا . انك تبالغين كثيراً كما قلت لك الجزيرة بعيدة جداً ولا تتوفر فيها حياة مغرية كما يتوقع البعض فنحن نعيش حياة هادئة ، وبسيطة وأؤكد لك أنها ليست محط أنظار السياح وتوجد سلسلة صخور شاهقة محفوفة بالمخاطر تحيط بالشواطئ وعندما تهب العواصف غالباً ما ننقطع عن العالم الخارجي لأسابيع طويلة . لذلك فقد تعلمنا الاعتماد على أنفسنا لأنه لا يوجد حل آخر.


استطردت كريستينا مرتابة :

- لا أكاد اصدق ما يجري ولا افهم سبب اختياري أنا بالذات وأنتِ علاوة على ذلك لا تعرفين عني أي شيء .

قالت السيدة براندون بوداعة :

- اعرف عنك ما يكفي . واعرف من رسائل عمتك لي أنها كانت تحبك كثيراً وهل تغيرين رأيك لو قلت لك أن أغلى أمنية لديها كان إصرارها على انضمامك ألي؟

صاحت كريستينا بامتعاض :

- كلا أنا لا اصدق ذلك ، إن ما تقومين به هو نوع من الشفقة وأنا لا أريد ذلك على أن أتعلم كيف أكون مستقلة . إنها بادرة طيبة منك واعرف أن العمة غريس كانت لا تريد لي إلا الخير ، ولكن لا احب فرض نفسي بطريقة غير لائقة .

قطبت السيدة براندون حاجبيها :

- ما هذا الهراء يا ابنتي؟ أنتِ تخلطين الأمور . أنتِ التي ستؤدين عمل خير وإحسان لي . أنا احتاج إلى فتاة شابة مثلك . واطمئني لن ادعك ترتاحين لحظة واحدة وستقومين بخدمات لا يضاهيها مرتبك . إنني امرأة أنانية عجوز لا احب مجالسة العوانس اللواتي يثرثرن طوال النهار حول ماضيهن وذكرياتهن الغابرة.

جلست كريستينا صامتة ، يضج رأسها بألف سؤال . إن ما تعرضه السيدة براندون بالغ الإغراء ولا سبيل إلى رفضه مع ذلك وفي الوقت نفسه منعها كبرياؤها عن قبول هذه الأسلوب في معاملتها.

أهذا ما كانت ترتبه لها عمتها قبل وفاتها؟ يا للإهانة وهي ترى عدم ثقة أحد بها لشق طريقها بنفسها!

مع ذلك كانت لا تستطيع أن تنكر أنها لو رأت أعلاناً عن عمل كهذا في مكان ما لما ترددت في تقديم طلب للحصول عليه . كأن عصا سحرية حققت حلم حياتها ولكن السيدة براندون بشعرها الأملس الأبيض وأسلوبها الأرستقراطي ، لا علاقة لها بمربية خرافية!

قطعت السيدة براندون حبل أفكارها :

- انك تشغلين بالك بدون مبرر . هل يلائمك اكثر لو قلت لك انك ستكونين تحت التجربة أولاً لمدة شهر تقريباً ومن الأفضل لو اعتبرت زيارتك مجرد إجازة . اعرف انك عانيت كثيراً مؤخراً ولا يحق لي الضغط عليك إلى أن ترتاحي قليلاً ماذا تقولين؟

احتارت كريستينا ثم تنهدت قائلة :

- ماذا يمكنني أن أقول يا سيدتي . أنتِ لطيفة كثيراً ولا تتركين أمامي أي مجال للرفض لا اعرف كيف أشكرك.

مدت يدها لالتقاط عصاها، شاعرة بألم طفيف وقالت تطمئنها:

- سأفكر بطريقة مرضية . إذن اتفقنا . تقضين بضعة أسابيع تتمتعين بأشعة الشمس ثم بعدها الخطوة التالية.

نهضت ببطء وحذر على قدميها ، ثم لاحظت كريستينا وهي تهم بمساعدتها فصاحت :

- هذا هو الدرس الأول يا عزيزتي لا يهمني أن يساعدني أحد سأعود إلى لندن الآن ولكن قبل ذلك سأدفع حسابك لسيدة ثرثتون وتفضلي بحزم أمتعتك هذا المساء استعداداً للمجيء في الصباح وقبل الساعة العاشرة ولتعلمي أنني لا أكره إلا عدم المحافظة على المواعيد.

قالت كريستينا :

- ولكنني قادرة على دفع حسابي ما تزال معي بعض النقود ...

وتوقفت عن الكلام يخالجها قلق مفاجئ . إن الأمور تسير بسرعة عجيبة حتى عمتها غريس لم تعاملها بهذا الأسلوب الحازم ، الأرستقراطي ، وكأنها مجرد دمية تحركها أصابع السيدة براندون بسلاسة وبدون عناء.

خاطبتها بلهجة باهتة :

- احتفظي بنقودك أو اشتري بعض الملابس الصيفية الخفيفة إن ما ترتدينه يلائم منطقة القطب الشمالي اكثر من المناطق الاستوائية الحارة . اختاري ملابس قطنية واشتري ثوب سباحة أيضاً .

بلا عنوان 06-01-08 01:51 PM

ازدادت حيرة كريستينا :

- ولكن لم تذكري لي شيئاً عن الحفلات قرب الشاطئ.

أخجلتها السيدة براندون بجوابها :

- لن تكون هناك حفلات ولكن الشطآن موجودة ولا بد من الاستمتاع بها وأتوقع انك تعلمت السباحة في المدرسة. وآمل أن تعتبري آرك انجل كمنزلك أنتِ وليس كسجن يأسرك ( ثم رددت تعليماتها السابقة وهي تلاحظ اضطراب كريستينا ) احتفظي بنقودك . اسمحي لي أن أؤدي هذه الخدمة لك تعبيراً عن حبي لعمتك الراحلة .

ولم يعد يليق بكريستينا رفض طلب كهذا وإلا أثبتت مدى عناءها .

صحبت السيدة براندون إلى الخارج وإلى أن ركبت سيارة الأجرة المنتظرة ولوحت لها بيدها مودعة ، لكن المرأة العجوز لم تلتفت إلى الوراء أو تبادر وداعها ، فأرخت كريستينا يدها ، تشعر بالخجل.

عادت ببطء إلى الفندق ، تكاد لا تصدق ما جرى أمامها منذ دقائق ممدودة . ها هي حياتها انقلبت رأساً على عقب وتبدل كل وضعها فأصيبت بالدوار.

تجاهلت كريستينا صاحبة الفندق ، وفضولها المعهود وأسئلتها المتكررة وتحذيراتها من الثقة بأي شخص غريب لا تعرفه لكنها ظلت تراودها الشكوك ، فقررت الذهاب لرؤية المحامي السيد فريث . لا بد أن يكون في المزاد العلني وهو خير من يطلعها على حقيقة السيدة براندون.

ما أن وصلت حتى كان المزاد قد انتهى ، ورأت السيارات تغادر المكان . ركضت كريستينا مسرعة . كان السيد فريث يقف قرب سيارة ويبستر لوداعها ترددت قليلاً ثم لمحته يومئ لتتقدم نحوه فلم تجد مفراً من الاقتراب منه ابتسم متسائلاً :

- أين كنتِ يا عزيزتي؟ كيف اختفيت فجأة؟

فكرت كريستينا ملياً لم تكن ترغب في مناقشة التطورات التي استجدت في حياتها على مسمع من عائلة ويبستر ، فاكتفت بابتسامة باهتة وغمغمت بكلمات غير مسموعة ، آملة أن تقلع سيارتهم وتمضي في سبيلها.

ولكن فيفيان ويبستر مدت برأسها من النافذة وحملقت في كريستينا بغرور واستفسرت :

- هل تريدين شيئاً؟

- أردت التحدث إلى السيد فريث.

صمتت فيفيان للحظة ثم قالت :

- تذكري أن وقته باهظ الثمن . لا تتوقعي من محامي مشهور كالسيد فريث ، تقديم خدماته إليك بدون مقابل إلى الأبد .

استدارت كريستينا صوب السيد فريث ووجهها يشتعل غيظاً :

- أنا آسفة لم يخطر في بالي .....

وامسك فريث بيدها قبل أن تركض وقال يطمئنها :

- ولم يخطر في بالي أنا أيضاً . كيف يمكنني مساعدتك يا كريستينا؟

هزت برأسها محاولة الانسحاب :

- لا يهم . لا يهم كل ما كنت أريد معرفته ...

وصاحت فيفيان ويبستر بسخرية :

- بالله عليك! إذا كان لديك ما تقولينه فيها ولنضع حداً لهذه السخافات.

حاولت كريستينا تجاهلها ، سألت فريث :

- هل سبق للعمة غريس أن تحدثت عن السيدة براندون أمامك؟

وقبل أن يجيب اقتحمت نفسها :

- عائلة براندون؟ طبعاً ذهبت إلى المدرسة مع الزوجتين ، كانتا أختين وتزوجتا اخين لماذا تسألين؟

لم تجد كريستينا مهرباً من الجواب :

-لأن السيدة براندون في إنجلترا الآن وعرضت علي عملاً .

ردت فيفيان ببرود :

- لا افهم معنى تصرفها هذا . أنتِ لا تعنين لها شيئاً . هل كتبت لها متوسلة لإيوائك؟ أتمنى انكِ لم تفعلي ذلك يا كريستينا انه تصرف سخيف.

قالت كريستينا متحدية :

- لا ليس كما تتصورين لم اعرف بوجودها حتى هذا اليوم يبدو أن عمتي غريس كتبت إليها عندما فاجأها المرض .

بلا عنوان 06-01-08 01:51 PM

أعلنت فيفيان :

- إن وجودها في إنجلترا أمر بالغ الغرابة هل حضرت المزاد إذن؟

- لا اعتقد.


قال السيد فريث بصوت هادئ :

- ما هو نوع العمل الذي عرضته عليك؟ إن اسمها مألوف جداً لدي واعرف علاقتها بعمتك ولكن لم أتصور أن العمة غريس كانت تنوي الاتصال بها مؤخراً لا بد من القول أن وجودها نعمة فائقة الآن.


قاطعته فيفيان ثانيه:

- لا افهم معنى النعمة هذه ولا أرى ضرورة لطلب مساعدة الأغراب.

احتفظت كريستينا برباطة جأشها ، وأطرقت برأسها صامتة ثم سمعت محرك السيارة يدور استعداداً للإقلاع . تنفست الصعداء ، إن عائلة ويبستر تختفي عن أنظارها وإلى اجل غير مسمى . طمأنها السيد فريث مجدداً وأكد لها مدى اهتمامه بمستقبلها :

- لا تخافي . إنها خطوة في الاتجاه الصحيح . توكلي على الله ولا تصغي إلى الأقاويل وأريدك أن تتصلي بي دائماً إذا ما تعرضت لأية مشاكل إن عمتك أوصتني بك أيضاً .

صعد إلى سيارته ومضى في سبيله بينما استدارت كريستينا وبدأت تسير في طريق العودة إلى الفندق . ظلت مشوشة العقل مضطربة القلب لا تدري ما الذي تخبئه لها الأقدار الغامضة .

بلا عنوان 06-01-08 01:52 PM

-2-

رحلـــة إلى المجهـــول


فتحت كريستينا شباك غرفتها ، وخرجت إلى الشرفة تستنشق الهواء المنعش ، وتتمتع بحرارة الشمس الدافئة . وأخذت تراقب الفناء الداخلي للفندق الذي يتوسطه حوض سباحة ذو ألوان تتلألأ زرقة مخضرة كالفيروز . استاءت السيدة براندون من تأخر طيارتها إلى المارتينك بعد ظهر ذلك اليوم ، لكن كريستينا لم تشعر بأي انزعاج . لم تكن في عجلة من أمرها لركوب الزورق والإبحار إلى جزيرة سانت فيكتوار الصغيرة . لا باس من قضاء بعض الساعات في المارتينك والتمتع بمناظرها . أوت السيدة براندون إلى غرفتها ، وأشارت على كريستينا بالمثل لكنها لم تعبأ بنصيحتها . إنها لم تستوعب بعد كل هذه التطورات الجديدة في حياتها ، ولم تزدها رحلة الطائرة إلا شوقاً لاكتشاف هذا العالم الجديد.

لم تكن كريستينا تعرف الشيء الكثير عن المنزل أو المزرعة حيث ستعيش بعض الوقت . كل ما تعرفه أن الأخت مادلين وزوجها لقيا أجلهما عندما غرق مركبهما قبل سنوات قليلة ، وبدون أن تلم بتفاصيل هذا الحادث . تأكدت من شيء واحد . أن السيدة براندون تماماً كما قالت ، حادة الطباع ، سريعة الغضب ، اكتشفت ذلك بنفسها أثناء التسوق في لندن ، وعبر أسلوبها في التعامل مع موظفي الفندق ولم تدع أحداً يفلت من لسانها وأوامرها عندما توجهتا إلى المطار للإقلاع إلى المارتينك . مرت نصف ساعة وهي تهبط سلالم الفندق العريضة ، حيث خلعت ملابسها التي ارتدتها أثناء الطيران ، وارتدت تنورة قطنية قصيرة قرمزية اللون ، وقميصاً ابيض عقدت ذيله حول خصرها وأرخت شعرها فوق كتفيها ، فبدت اكثر نضارة واصغر عمراً إن السيدة براندون اقترحت عليها ارتداء ملابس صيفية وشجعتها على شرائها عندما كانت بلندن ، وها هي تنفذ أوامرها .

اشترت كريستينا دليلاً سياحياً ، وأخذت تطوف في الشوارع تقلب النظر في البيوت ذات الهندسة العجيبة ، وتتوقف قليلاً أمام كاتدرائية شاهقة ، أو محلات العطور أو اللعب والدمى . واشترت دمية صغيرة تزينها أزياء المارتينك الشعبية ولاحظت أن الأزهار تنتشر في كل مكان ، وتتدلى من الشرفات بألوانها الصاخبة المرحة وتدافع الباعة يعرضون عليها باقات الزهور المختلفة . تابعت السير إلى أن شعرت بالجوع . تمنت لو تدخل مطعماً لتناول بعض الطعام التي كانت تترامى رائحته الذكية إلى انفها . تذكرت تحذيرات السيدة براندون المتكررة وضرورة تناول الغداء في الوقت المحدد ،
عندما قررت العودة إلى الفندق ، سرعان ما اكتشفت صعوبة ذلك إذ لم تعد تعرف طريق العودة . أتذهب عبر هذا الشارع وتنعطف يساراً عند تلك الزاوية ، أم تسير في الشارع الموازي؟ وأخذت تخرج من شارع وتدخل في آخر .

وتحولت رحلتها السياحية إلى كابوس رهيب . أبطأت الخطى وهي تحدق حولها مرتابة . سمعت صوت طفل يبكي بكاء متصلاً وكأنه يمزق جوارحها المتعبة وارتفع وراءها وقع أقدام المارة ، فاطمأنت قليلاً أنها عثرت أخيراً على أحد تسأله عن طريق العودة إلى الفندق ، وحتى بلغتها الفرنسية المحدودة ولكن ما أن استدارت حتى تجمدت الكلمات في حنجرتها . كانوا ثلاثة صبية .

رأتهم يتوقفون على بعد خطوات قليلة وينظرون إليها ابتسموا بصمت ، وأدركت كريستينا مدى ذعرها وعجزها لأول مرة في حياتها . إنها حرب أعصاب ، خاطبت نفسها مرتاعة . فكرت أن تطلق ساقيها للريح لم يكن لها إلا الهرب ، وهي لا تستطيع التراجع إذا ما فاجأتها نهاية ذلك الشارع شبه المعتم . وفجأة تقدم أحدهم فأمسك بها ورماها أرضاً . أغمضت عينيها مذعورة ، وانطلقت صرخات استغاثاتها تدوي في الشارع المقفر . فتحت عينيها ثانية ، فأحست بصمت رهيب يخيم حولها . واستدارت ليقع نظرها على رجل طويل القامة يقف وراءها . أرادت أن تشكره لكنها قالت بفزع :

- لقد ذهبوا !

قال بهدوء :

- طبعاً . هل أنتِ بخير؟

كانت لغته الإنجليزية سليمة لاعيب فيها ودون لكنة أو لهجة غريبة . سألها :

- ما الذي تفعلينه في هذا الحي؟ هل يعرف أهلك أنكِ هنا؟

- أنا هنا مع ربة عملي .

تمعن في قسماتها قليلاً :

- ربة عملك؟ اعذريني . لم اعتقد انكِ في سن يسمح لك بالعمل . احزر! هل أنتِ ممثلة أم عارضة أزياء؟

بلا عنوان 06-01-08 01:53 PM

كان يسخر منها . هكذا افترضت كريستينا ، فأسرعت بالإجابة :
- أنا اعمل سكرتيرة ، أرجوك يجب أن أعود الآن ثمة من ينتظرني .

- بدون شك . ماذا تفعلين بالضبط كسكرتيرة؟ هل تكتبين على الآلة الكاتبة؟

ازدادت غضباً . لماذا يتصرف بهذا الأسلوب الفظ؟ هو الذي بادر إلى مساعدتها ولم تطلب منه إنقاذها . قالت :

- قليلاً . نعم أجيد الكاتبة قليلاً.

- قليلاً ؟ إذن لابد أن مواهبك تبرز في أمور أخرى .

صاحت وهي تلقي نظرة على ساعتها :

- يا للويل . داهمني الوقت . هل تستطيع أن تدلني على الطريق العودة إلى فندق بوهرنيه؟ لقد ضللت الطريق كلياً .

قال هازئاً :

- كيف ستعودين بدون محفظة يدك؟ لقد نهبوها . كل ما كانوا يريدونه منك بعض النقود لا غير .

ازداد هلعها ، فحاولت إخفاء مشاعرها وقالت :

- لا بأس . هل تدلني على الطريق الفندق من فضلك؟

أمعن في سخريته :

- سيري في اتجاه الشوارع التجارية ، فأنتِ على مقربة منها الآن . انعطفي يساراً ثم يميناً وستجدين نفسك في الشارع الرئيسي . حاولي تجنب الأزقة والحواري الضيقة فهي غير آمنة أجمالاً .

انتحى قليلاً ، وابتعد عنها . ظلت كريستينا تراقبه حتى توارى عند الزاوية المحاذية وكم كانت سعادتها عظيمة عندما اكتشفت دقة توجهاته ، حيث وجدت نفسها أمام مدخل الفندق بعد دقائق معدودة فأسرعت الخطى إلى السيدة براندون قبل أن تفقد صوابها وينفذ صبرها .

وما أن همت بدخول بهو الفندق حتى لمحت مجموعة من السياح يتزاحمون ويتابعون شيئاً ما يدور هناك . تغلب عليها فضولها فقررت اكتشاف الحدث الهام الذي يستحوذ على انتباه الجميع . تقدمت قليلاً إلى أن تبينت زنجياً يجلس مقرفصاً على الأرض ويرمي عظاماً يابسة في الهواء ثم يلتقطها وهو يتمتم كلمات تنذر بالويل والثبور انه عراف يقرا البخت ، خطت خطوة إلى الأمام . ووقفت أمامه مذهولة ورأت رجلاً ينقده بعض الدراهم ، ثم يشكره . ساد صمت مزعج . لم يتقدم زبون جديد . فلتجرب حظها ، عساها تتبين ملامح مستقبلها الغامض . التقت عيناها بعيني العراف ووجدته يبدأ في قذف أصداف براقة ، ويومئ لها لتجلس قربه , أطاعت أوامره وكأن قوة سحرية تجذبها إلى سماع كلماته . تململ قليلاً . فرك جبينه وما لبث أن قال :

- عليك الاحتراس والحذر يا آنسة . أني أرى شراً في طريقك كوني حذرة من ابليس أرك . أينجل اللعين في آرك أينجل .

ثم نهض بغتة ، وجمع الأصداف والعظام ، وغادر مسرعاً ، متجاهلاً احتجاجات السياح . وقفت كريستينا محمرة الوجنتين ، مضطربة ، تركض كالمجنونة نحو الفندق ، و كلماته تتردد في أذنها : كوني حذرة من ابليس.

كانت تعاني من صداع رهيب عندما شدت الرحال في اليوم التالي للذهاب مع السيدة براندون إلى جزيرة سانت فيكتوار وهي لا تزال تتذكر عبارات هذه العجوز اللاذعة وتأنيبها لها لتأخرها وتعرضها لمشكلات كانت في غنى عنها.

واستعادت أحداث يومها الفائت ، وخاصة مقابلتها لذلك العراف وقراءته لحظها لا بد انه يتبادل المعلومات مع أحد موظفي الفندق حول النزلاء ، ولا شك أن السيدة براندون اشهر من أن تعرف ، فكرت كريستينا . الكل يعرف أين تسكن واسم منزلها . فكان من السهل معرفة مكان توجهها . إنها مسالة في غاية البساطة ومع ذلك كيف تفسر كلماته؟ ما الذي يقصده بالتحديد؟ وأخذت تتساءل بقلق عن الدافع الذي حمل السيدة براندون للسفر إلى إنجلترا والبحث عنها . فصحتها سيئة وتعاني من التهاب المفاصل ، ولا تكف عن تعاطي الأقراص والمسكنات ، مما يعني أن قلبها في حالة سيئة أيضاً . وإذا كان هذا هو الوضع ، تابعت سلسلة أفكارها ، فلماذا لم تكلف أحداً غيرها للقيام بالسفر إلى إنجلترا في رحلة طويلة مضنية كهذه؟ وتمنت لو تستطيع إقناع نفسها بعاطفة السيدة براندون الجياشة ، وإنسانيتها المفرطة ، ولكنها لا يمكنها أن تصدق كل ذلك بعد أن اختبرتها عن كثب.

إذن هناك سبب ملح دفع السيدة براندون إلى رؤيتها شخصياً ، مع أنها لا تعرف ما هو هذا السبب الملح لبؤس حياتها . وصلت إلى أرض المارتينك تفيض حيوية وغبطة وتخال إنها تعيش اسعد لحظات حياتها وها هي تجلس في هذا المركب حزينة ، مشوشة الأفكار ، تلمح جزيرة سانت فيكتوار فلا تترك في نفسها إلا انطباعاً مغلفاً بالأسرار والحيرة . همت بمغادرة المركب محاولة تعزية نفسها وتعليلها بمفاجأة سارة جديدة . قررت أن تشاؤمها لا يليق بها ، وربما كان إحساساً خاطئاً لا صحة له , فلتنتظر حتى تتضح الأمور اكثر . كانت تنتظرها على رصيف الميناء سيارة فخمة ، يجلس وراء مقودها رجل اسود يرتدي بزة رسمية ولاحظت تبدل طبيعة السيدة براندون ، وظهور دماثة لطيفة في تصرفها إزاءها ، وهما تتوجهان نحو السيارة .
ورأت السائق يرفع قبعته وتوجه صوبهما بابتسامة عريضة :

- الحمد الله على السلامة يا سيدتي . ويا آنستي.

أعطته السيدة براندون عصاها ، وصعدت إلى المقعد الخلفي قائلة :

- شكراً يا لويس باركك الله .

ولاحظت كريستينا السائق يلف بطانية حريرية حول ساقي السيدة براندون رغم رطوبة الجو الحار . جلست في المقعد الأمامي كما أشارت عليها ربة عملها . وانطلقت السيارة ، و كريستينا تعشر بالحر الخانق ، تمني نفسها بحمام ماء بارد وبعض المرطبات فور وصولها . لم تجد ما يلفت النظر في منطقة الميناء سوى مجموعة من المباني الصغيرة المسقوفة بألواح من الصباح المضلع ، ويعلو معظمها الصدأ والغبار . وكانت الشوارع المتفرعة من الميناء ضيقة ومزدحمة بالدراجات . ولاحظت كريستينا أن الأرصفة تتكدس فوقها أكشاك الفاكهة والخضار وتغص كل بقعة بالأولاد والصغار وشتى الحيوانات . وأبدت إعجابها بمهارة لويس وهو يشق طريقه عبر هذا الزحام وما هي إلا لحظات حتى وصلوا إلى طريق واسع ، مستقيم ، لا يعكر صفو هدوئه شيء ، فتنفست الصعداء ثم تبين لها أن هذا الطريق ليس اكثر من طريق ترابي تتخلله الحفر ، فتهتز السيارة يميناً وشمالاً رغم مهارة لويس في القيادة . وبعد أن قطعوا بضعة أميال صعدت بهم السيارة إلى طريق مرتفع ، وتراءى البحر لكريستينا من البعيد ، بلونه الأزرق العميق ، يكاد يعانق الأفق بعفوية أخاذة . نظر إليها لويس مؤكداً :

- سوف تشاهدين مناظر اكثر جاذبية .

ومضت بهم السيارة في طريق أخر يتوسط حقولاً زراعية . يعمل فيها عدد من الأشخاص . ورأتهم كريستينا يلوحون بأيديهم ، وتصورت بدون أن تلتفت وراءها السيدة براندون تهز رأسها لرد التحية . وفطنت انهم الآن على أطراف المزرعة التي ذكرتها لها ربة العمل . كانت حقولاً شاسعة ، تمتد إلى مسافات بعيدة ، بنيت بها مجموعات من المساكن لإيواء عائلات العمال ، كما افترضت ، كأنها عالم صغير وسط عالم آخر ، و ارتابت كريستينا من ضخامة هذه المزرعة . لم تعرف في حياتها سوى الريف الإنجليزي وجماله الوديع ، وها هي تصطدم بالحر اللاذع ، والتربة الظامئة ، والأشجار والنباتات الغريبة الشكل والبراعم . أحست أنها في غابة موحشة لم تروضها الحضارة بعد . تناولت منديلاً ومسحت عرق جبهتها ووجهها . وكانت السيارة الآن تجري بمحاذاة الشاطئ ورماله الفضية ، وأمواجه المتهادية بنعومة ، يلامسها نسيم البحر العليل ، ولكن الحر داخل السيارة براندون التي تعشق الحر مهما كانت درجته . لا بد انهم اقتربوا من نهاية الطريق ، عللت كريستينا نفسها ..

بلا عنوان 06-01-08 01:54 PM

استرخت في مقعدها ، مغمضة عينيها ، ومحاولة تناسي محنتها ، واهتزاز السيارة فوق الطريق الوعر . وما أن همت بالطلب من لويس للتوقف ، حتى وجدته يخفف سرعته ، وينعطف فوق طريق بدا لها ناعماً كالحرير بعد أهوال الأميال السابقة فتحت عينيها قليلاً ، واكتشفت انهم يمرون تحت قوس من الأشجار الخضراء المنعشة .
وهتف لويس وكأنه أحس بمعاناتها :

- سنصل بعد لحظة قصيرة .

انعطف بالسيارة فوق طريق منحدر ، فظهر المنزل يتراءى أمامهم ، تظلله الأشجار الوارفة .
كان مطلياً باللون الأبيض ، ويتكون من طابقين كبيرين تحيط به مصطبة عريضة وترتفع فوقها شرفة يزينها درابزين حديدي أمام الغرفة العليا . توقفت السيارة أمام درجات المصطبة ، ولمحت كريستينا امرأة طويلة القامة تنتظر عند الباب الأمامي للترحيب بهم ، ويدل فستانها الأسود ذي الشال النظيف انه مدبرة المنزل . تنفست كريستينا بعمق وهي تحس بتوترها يتلاشى تدريجياً ، نظرت إلى مدبرة المنزل وابتسمت بحياء ، لكنها لم تجد أي تجاوب . وتوكأت السيدة براندون على عصاها ، ومشت بتمهل وهي تهتف :

- سيدة كريستوف هل كل شيء على ما يرام؟

ردت مدبرة المنزل بصوت خفيض :

- كل شيء على ما يرام . لا توجد أية مشكلة.

وقفت السيدة براندون فوق المصطبة لاستعادة نفسها ، ثم أشارت نحو كريستينا التي كانت تسير وراء لويس وهو يحمل الحقائب :

- اقدم إليك الآنسة بينيت . سيدة كريستوف ، هل تلقيت برقيتي؟

قالت السيدة كريستوف وهي تتفحص زائرتها الجديدة :

- نعم تلقيتها ... وأعددت لها غرفة . أهلاً بك في ارك اينجل يا آنسة بينيت .

وتوجهوا جميعاً إلى الداخل كانت القاعة الاولى فسيحة مربعة الشكل مبلطة بألوان زرقاء وخضراء وبدا لكريستينا أن جميع الغرف الرئيسية تفتح أبوابها على هذه القاعة ، وتبين لها أن الطابق العلوي يأخذ شكل صالة عرض واسعة وانتصب عند أقدام السلم اللولبي تمثال رخامي لشاب في ريعان الصبا يعتمر درعاً معدنياًَ ويمسك برمح طويل يهم أن يطعن به حيواناًَ مجنحاً يرتمي عند قدميه وكان الشاب إياه يمد جناحين رائعين مخضبين بالذهب .

تقدمت منها السيدة براندون شارحة :

- هذا هو ملاكنا الحارس يا آنسة بينيت والذي تحمل المزرعة اسمه ارك اينجل أو الملاك الحارس .

أجابت كريستينا بتعجب :

- صحيح؟

- ألم اقل لك أن وراء اسم المزرعة قصة طريفة؟ إنها تعود إلى القرن السابع عشر عندما بنت أول عائلة بيتاً هنا وشرعت بزراعة قصب السكر . كانوا يستخدمون العمال العبيد في تلك الأيام ، كما تعرفين . وجلبت مجموعة من العبيد مرضاً وبائياً وانتشر المرض في كل الجزيرة كانتشار النار في الهشيم . كان مرضاً كالطاعون واخذ الناس يموتون كالذباب . و هكذا تضرع سكان الجزيرة وهو في مرحلة اليأس إلى هذا الرمز – الملاك

وسألتها كريستينا باهتمام ودهشة :

- وهل نفعت صلواتهم؟

أجابت السيدة براندون بانزعاج :

- زال الطاعون بعد مرور أسبوعين . وظن الأهالي أنها كانت معجزة بحق . ومنذ ذلك الحين ونحن نسمي المزرعة ارك اينجل . إن التمثال قديم جداً ، أحضرته العائلة معها من فرنسا كعربون وفاء ( وفجأة تبدلت لهجتها ) اصعدي إلى الطابق الأعلى وستدلك السيدة كريستوف على غرفتك .

شكت كريستينا في كل كلمة سمعتها . إنها قصة خرافية ، خاطبت نفسها ثم مشت وراء قامة مديرة المنزل عبر البهو وممر تعلو قنطرة حيث تؤدي إلى جناح خلفي وتوقفت السيدة كريستوف قبل نهاية الرواق أمام باب خشبي مزودج وفتحته .

أخذت كريستينا تجول بنظرها في الغرفة وهي لا تكاد تصدق عينيها . كان السقف مطلياً بلون عسلي لامع وكذلك الحيطان أما السجادة والستائر الحريرية فكانت تميلان إلى الصفرة وأدركت لتوها أن هذه الزخرفة الفخمة فوق مستوى موظفة قد لا تمكث مدة طويلة . لاحظت السيدة كريستوف دهشتها فقالت :

- ألا تعجبك الغرفة يا آنسة؟

بلا عنوان 06-01-08 01:55 PM

أجابت بتردد :

- على العكس تماماً إنها اجمل غرفة رأيتها في حياتي ولكن هل تنوي السيدة براندون تخصيصها لي؟

نظرت إليها السيدة كريستوف وكأنها توبخها :

- إن السيدة براندون تترك هذه التفاصيل لي . ولكن أؤكد لك أنها ستوافق على اختياري . لقد جلب لويس حقائبك . سأطلب من يولالي مساعدتك على فتحها ( ثم حدجتها هنيهة قبل أن تغادر مرددة ) لكن الظروف دائماً تتغير أليس كذلك؟ ربما كان من الأفضل لك الاستعداد لأي طارئ يا آنسة .

أوصدت الباب بهدوء تاركة كريستينا في مملكتها الصغيرة وكان أول ما فعلته الاستحمام وترتيب ثيابها في خزانة الحائط العريضة .

خرجت إلى الشرفة ولمحت عن يسارها سلماً حديدياً يؤدي إلى الحديقة ، وبركة سباحة طويلة مستطيلة الشكل . وامتدت في كل النواحي مروج خضراء تختلط بعد مسافة شاسعة بشجيرات مزدهرة ونباتات برية كثيفة الأوراق وبعد ذلك يبدو منبسطاً جميل المظهر .

لم تمر دقائق معدودة حتى سمعت رنين الهاتف في غرفتها فأسرعت ترفع السماعة قائلة :

- ألو . كريستينا بينيت .

سمعت زفيراً وأصواتاً خافتة ، ولكن لم جيبها أحد . صاحت بحدة :

- نعم؟ من تريد من فضلك؟

سمعت ضحكة مكبوتة وكأن صوتها المذعور أدى إلى النتيجة المرجوة ازداد توترها :

- هل تكف عن هذا المزاح وتخبرني ما تريد؟

ثم سمعت دقات خفيفة على الباب . استدارت مرتاعة ، فرأت الباب ينفتح ببطء . دخلت فتاة تناهزها في العمر . بدت بالغة الجمال بشعرها الداكن وعينيها السوداوين وبشرتها الضاربة إلى السمرة ، ابتسمت الفتاة ابتسامة بريئة عفوية كاشفة عن أسنانها البيضاء السوية :

- تفضلي بالنزول إلى المكتبة لاحتساء الشاي أو ربما تفضلين أن أجلبه لك إلى هنا؟

قالت كريستينا بعجلة :

- كلا سأنزل بنفسي . لا بد أنك يولالي؟

برقت عيناها متسائلة وهي ترى سماعة الهاتف فيد يد كريستينا :

- نعم أنا يولالي . ولكن هل تريدين شيئاً آخر؟

أحست كريستينا بحرج شديد :

- لا ولكن رن جرس الهاتف ولم يجبني أحد .

استأذنت يولالي وأخذت سماعة الهاتف تتحرى الأمر بنفسها وضعت أذنها على السماعة لحظة ثم استدارت صوب كريستينا :

- لا يوجد أحد يا آنسة . هذا هو هاتف المنزل الرئيسي ومن السهل الاتصال برقم خاطئ .

لم تقتنع كريستينا :

- ولكن لا أحد كان يتكلم لم يكن هناك صوت أي صوت أنه تصرف سخيف .

قالت يولالي ببرودة :

- ربما أخطأت الظن . لا يوجد أحد في هذا المنزل يتصرف هكذا.

ومشت نحو الباب ، متوقعة من كريستينا السير وراءها ولم يخب ظنها . لحقت بيولالي عبر الممر ، متجهة إلى السلم الرئيسي وهي تبحث عبثاً عن موضوع ما للتحدث إليها .

وكان وضعها في المنزل غامضاً . أنها الآن مجرد ضيفة ولكنها أتت إلى هنا لتعمل هل أساء تصرفها إلى أحد؟ فكرت كريستينا . لم تتعرف إلا على لويس و السيدة كريستوف ويولالي . لا يمكنها تصور أحد من هؤلاء يعمد إلى ممارسة ألاعيب سخيفة ضدها في يومها الأول .

بلغتا أسفل السلم . وحدقت كريستينا في التمثال مرة أخرى وفوجئت باكتشاف شكل جديد للحيوان المستلقي عند قدميه . لم يكن تنيناً كما ظنت من قبل بل يشبه شكلاً بشرياً . وقررت انه قبيح المظهر ويثير الاشمئزاز .

عبرت يولالي القاعة ، تنتظر بفارغ الصبر أمام الباب في الجهة المقابلة . وضعت كريستينا يديها في جيبي تنورتها وقالت مستفسرة :

- يولالي ... أخبريني من فضلك من هو هذا السيد الذي تدوسه الأقدام؟

وقبل أن تتفوه يولالي بكلمة ، أرتفع صوت بدا مألوفاً لديها ، هز كيانها هزاً :

- انه إبليس يا عزيزتي إبليس نفسه .


رأت صاحب الصوت يقف عند المدخل الأمامي وعرفته رغم ملابسه الجديدة . أن عينيه لا تزالان تتماوجان بذلك اللون الفضي الذي لفت نظرها وهو يقف هناك في ذلك الزقاق الضيق بعد تعرضها للهجوم . قال بلطف :

- هل كنتِ تتوقعين أن يكون كائناً آخر؟

بلا عنوان 06-01-08 01:56 PM

-3-
شبـــــح الليــــــــل



تسمرت كريستينا في مكانها ، تتأجج في حيرة ، وتبحث عن عبارات تنطق بها . ظلت معقودة اللسان . لم تكن تتوقع أن تراه ثانية . لا بل تمنت إلا ترى وجهه في حياتها ، خاصة بعد تلك الحادثة المؤسفة ، وتصرفه البارد معها . ألم يؤنبها بعد أن خلا الشارع من المارة ، واعتبرها مجرد طفلة صغيرة ضالة؟ ألم يعتبرها سيئة النوايا لا هم سوى استغلال امرأة طاعنة في السن؟ ألم تشكره على مساعدته ، ومضى كل منهما في سبيله ، فماذا يريد الآن؟ من هو بالضبط ..؟

هتف هازئاً :

- ما هذا الصمت أيتها السكرتيرة البارعة؟ آمل انك لم تتعرضي لمزيد من المصائب منذ لقائنا الأخير .

شمخت كريستينا بأنفها . يدل مظهره ، وطريقة دخوله المنزل انه أحد الزوار الدائمين ، أو ربما يكون أحد أقارب السيدة براندون . وعرفت ان من الأفضل لها إخفاء عدائها إزاءه ولكن كلماته تجرح مشاعرها ، وتثير أعصابها إلى ابعد حد .

قالت بتأفف :

- شكراً . كل شيء على ما يرام .

رفع حاجبيه :

- هل أنتِ في طريقك إلى المكتبة لتناول الشاي؟

كادت تنكر كل شيء ، وتنسحب إلى غرفتها . ولكنها قاومت رغبتها العابرة وهي ترى يولالي منتصبة قرب باب المكتبة تصغي إلى تبادلهما العبارات المثيرة بدهشة . لا ، لن تتصرف بحماقة ، خاطبت نفسها ، ومشت بخطى وئيدة صوب المكتبة .

كانت غرفة المكتبة جميلة للغاية ، مربعة الشكل ، منخفضة السقف ، مفروشة بسجادة عجمية . وتمتد أرفف الكتب فوق ثلاثة من جدرانها وتزين الجدار الرابع نوافذ فرنسية ذات شراعات لاستقبال النسيم العليل . ولمحت مقاعد جلدية أمام النوافذ مع طاولة صغيرة في الوسط ووضعت هناك صينية ، يتوسطها إبريق شاي فضي وإلى جانبه فنجانان فاخران . وأدركت لتوها أن الشاي معد لشخصين فقط .
التفتت وراءها وهالها أن تراه يهم بإغلاق باب المكتبة . نظر إليها مبتسماً وكأنه يقرأ أفكارها . ثم قال ساخراً :

- افضل الشاي مع بعض الحليب ولكن بدون سكر من فضلك .

احمرت وجنتاها ، وأسرعت تظهر انهماكها بإبريق الشاي . بدا قديماً وثقيلاً وأحست بارتعاش خفيف بيدها ، حيث اندلق بعض الشاي فوق الصحن والصينية عضت شفتها آسفاً ، وأخذ المجهول المتطفل يهز رأسه تشفياً :

- ما هذا أيتها السكرتيرة البارعة؟ عليك تلقي بعض الدروس قبل أن تصبي الشاي لعمتي . إنها لا تتساهل أبداً حول أشياء كهذه ، وتبدي رأيها بصراحة . ألم تلاحظي ذلك؟

أرخت كريستينا إبريق الشاي باضطراب . تنبهت إلى كلمة واحدة نطق بها:

- تقول عمتي! هل أنت .... هي ...

قال بهدوء :

- هذه هي الحقيقة المرة . اعتقد أن الأوان حان لتقديم نفسي . أنا ديفلين براندون ابن أخت السيدة براندون .

ردت كريستينا بعد لحظة مليئة بالدهشة :

- هكذا إذن!

اخرج ديفلين براندون علبة سجائر من جيب قميصه وأشعل واحدة منها وعلق ببرود :

- اعرف أن وجودي مفاجأة غير سارة . هل يهدأ بالك لو قلت أن ردة الفعل كانت متبادلة؟

أجابت بامتعاض :

- وكيف ذلك؟

ابتسم بخبث :

- لأنك لم تشبعي فضولي كسكرتيرة حول حاجة عمتي إلى خدماتها .

تمالكت كريستينا أعصابها ، وصبت الشاي في الفنجان ، وحملته إليه بثقة و ثبات :

- ألا تعتقد أن سؤالاً كهذا يوجه إلى عمتك؟ وكف عن مناداتي بهذا اللقب!

أشار بأسلوبه اللاذع :

- لا يمكنني . إن ذلك يبدو لائقاً .

قالت وهي تشعر بالاعتزاز :

- لم أتصور أن اللياقة تهمك كثيراً يا سيد براندون .

ظل محافظاً على هدوئه ، مسترخياً في المقعد الجلدي ، وابتسامة ساخرة تعلو وجهه :

- إن للقطة الصغيرة مخالب إذن . أنصحك بعدم إظهارها . لا يتسع هذا المكان لأكثر من نمرة واحدة ، وكما ستلمسين ذلك بنفسك وإنني انتظر .

بلا عنوان 06-01-08 01:58 PM

- ماذا تنتظر؟

- انتظر لأسمع اسمك وماذا تفعلين هنا.

ترددت كريستينا . كان عقلها يحثها على ردعه وإفهامه أن هذه الأمور لا تعنيه لا من قريب ولا من بعيد . ولكن ربما كانت مخطئة؟ انه من عائلة براندون ، ولا تعرف ما هو مركزه في العائلة بعد وأخيراً قالت بجفاف :

- اسمي كريستينا بينيت واختارتني السيدة براندون لأكون سكرتيرة ومرافقة .

أجاب بعذوبة :

- هل هذا صحيح؟

حدجته بنظراتها في غضب :

- يبدو ... يبدو انك لا تصدقني . ولكن هل يوجد مبرر آخر لوجودي هنا؟

أطفأ سيجارته في المنفضة :

- هذا ما تبادر إلى ذهني . وحتى الآن لم احصل على إجابة مقنعة .

أعادت كريستينا فنجانها إلى الصينية و قالت بحدة :

- انك تثير غضبي!

لوى فمه :

- ماذا؟ اسمعي يا آنسة بينيت أنتِ التقيتِ بعمتي ، ويمكنك أن تحكمي بنفسك عما إذا كانت تحتاج إلى مرافقة .

طوت كريستينا أصابعها باستياء :

- اعتقد أن ذلك يتوقف على ما تنتظره من خدمات.

- وما هي الخدمات التي يمكنك تقديمها؟

اضطربت قليلاً :

- لم نناقش هذا الموضوع بالتفاصيل ..

- هذا هو الصدق بعينه . قولي لي يا آنسة بينيت هل سبق لكِ أن قمتي بعمل مشابه؟

قالت تتحداه :

- نعم كنت اعمل مع ... مع ... عمتي ولعدة سنوات .

أجابها بفتور :

- وتعتقدين ان ذلك يؤهلك للعمل مع عمتي . انك أما بالغة السذاجة أو خارقة الذكاء يا آنسة ولا أدري أيهما أنتِ؟.

فغرت كريستينا فمها :

- انك قليل الحياء يا سيد براندون . إذا كانت عمتك تعتبر مؤهلاتي كافية فهذا يكفيني ( ونهضت واقفة ) والآن اسمح لي بالانصراف ...

قال بفظاظة :

- اجلسي مكانك . لم انته من الكلام بعد .

ابتسمت باستخفاف :

- يا لحظك السيئ . لم يعد لدي ما أقوله . ومن الواضح انك تجدني غير مؤهلة لهذا العمل ، مع إنني لا افهم لماذا ...

قاطعها بحزم :

- لا تفهمين لماذا؟ أمعني النظر يا عزيزتي الصغيرة .

وقبل أن تأتي بحركة ، توجه نحوها ، وامسك بكتفيها ، فوجدت نفسها أمام مرآة معلقة قرب الباب . صدمها مظهرها الغريب بشعرها الأشعث ، و وجنتيها المحمرتين ، وعينيها المتطايرتين شرراً . بدت مخلوقة همجية . حاولت التملص من بين يديه فمنعها بصوت أجش :

- لا تتحركي . واسألي نفسك ما الذي يمكن أن تقدمه فتاة في مثل سنك ومظهرك إلى امرأة مثل عمتي .

رددت بعنف :

- ربما كانت السيدة براندون لا تريد الانزواء كسيدة طاعنة في السن . تريد أن تنعم بصحبة أحد في مثل عمري وهذا ما قالته لي .

- وأنتِ أغرتك الحياة الصاخبة في هذه المنطقة من العالم فتشبثت بعمل كهذا.

بلا عنوان 06-01-08 01:59 PM

كانت خائفة ومتوترة الأعصاب وكادت تبوح له بكل الحقيقة وتروي له شكوكها ومخاوفها التي تقض مضجعها ولكن لتتركه يفكر كما يشاء لن تبالي به .
وقالت ضاحكة :

- طبعاً ولا تعتقد إنني وقعت في خدعة معينة . إن السيدة براندون شرحت لي كل السلبيات والمصاعب والتي ستعترضني .

تركها وشأنها ومشى نحو النافذة :

- وماذا عن الإيجابيات والفوائد ... هل ذكرتها لك ؟

استطردت بثقة :

- إنها اشهر من أن تعرف .

ورأته يلتفت إليها بمرارة وامتعاض :

- ربما كنت على حق ، لا ادري ما الذي دفعك لقبول العمل في هذا المكان المنعزل ومع سيدة مستبدة لا تزال تظن أن عصر الرقيق لم يتم إلغاؤه بعد .

قالت كريستينا بصوت مضطرب :

- يا لك من خسيس قليل الأدب . كيف تقول هذه الأشياء عن عمتك ...

قاطعها :

- إن آرائي لا يهضمها خيالك الشاعري وتصورك لحياة المزرعة . لا تخدعي نفسك يا آنسة بينيت أنت لا تعيشين في الفردوس ، ولا توجد ملائكة هنا .

حمدت ربها وهي تلاحظ انفتاح باب الحجرة . ظنت أن يولالي عادت تطمئن عليها . لاكن خاب ظنها .

رأت شاباً في ريعان الصبا ، فائق الوسامة بشعره الأسود وعينيه اللامعتين وفمه الجميل . كان يرتدي ملابس الفروسية بأناقة تامة .

خاطب كريستينا بلباقة مهذبة :

- تأخرت كثيراً ويبدو انك تناولت الشاي . أردت العودة مبكراً أرجو المعذرة اسمي ثيو براندون .

ثم انقبضت أساريره قليلاً ، كان شيئاً ما أزعجه ، قال :

- مرحباً يا ديفلين

أجابه ديفلين بانحناءة من رأسه :

- لم اكن اعلم انك تحب الشاي يا ثيو؟

هز ثيو بكتفيه ونظر إلى كريستينا بلطف :

- أردت الترحيب بالضيفة الجديدة .

رفع ديفلين حاجبيه :

- ضيفة؟ تقول أنها أتت لتعمل هنا .

رد ثيو متبرماً :

- لا بأس . ستجد جدتي شيئاًَ يشغلها في ساعات الضجر ولكن عليها أن تستعيد نشاطها تحت أشعة الشمس ( ونظر إليها بإشفاق ) لقد عانت جدتي كثيراً مؤخراً إذ فقدت إحدى قريباتها .

- آه ... لو أنني عرفت ذلك لوفرت على نفسي متاعب كثيرة ( ومشى نحو الباب ثم توقف ) عندما ترتاح عمتي من عناء السفر ، هل أبلغتها أن وفداً من لجنة الجزيرة يرغب في مقابلتها وفي الوقت الذي يلائمها .

ابتسم ثيو ابتسامة باهتة :

- هل من الضروري أن تجتمع بالوفد؟

- لا . ولكن طلبوا مني إبلاغها .

جلس ثيو على حافة المقعد ، ينقر حذائه بسوط الركوب ، واستفسر :

- وهل ستكون أحد أعضاء اللجنة؟

استدار ديفلين يهم بالخروج . كان معكر المزاج وسمعته يردد بعنجهية :

- طبعاً ، طبعاً .

قالت بنبرة واضحة عذبة :

- وداعاً يا سيد براندون .

هدر غاضباً .

- افهم معنى كل ما قلتيه لي ، آنسة بينيت ولكنك تبالغين قليلاً لاشك أننا سنلتقي اكثر من مرة وأثناء إجازتك .

لحظها السيئ ، فكرت كريستينا ، وهو يوصد الباب وراءه بشدة ووجدت ثيو ينظر إليها باستغراب ، فخجلت قليلاً . سألها ثيو بوقاحة :

- هل تجدينه جذاباً؟

كادت أن ترد عليه بوقاحة أشد ، ثم تذكرت أن الاثنين تربطهما صلة القرابة :

- آسفة . لم اقصد ....

قهقه :

- ما لنا وللمجاملات . كانت ردة فعلك طبيعية سيشعر بصدمة رهيبة لو عرف حقيقة مشاعرك تجاهه . انه يعتبر نفسه فاتن النساء . وما الذي قاله فأغاظك هكذا؟

أجابت تتعمد إخفاء اضطرابها :

- لا شيء . سبق لنا أن التقينا قبل هذه المرة وهذا كل ما في الأمر .

علت الدهشة وجهه .

بلا عنوان 06-01-08 02:01 PM

- متى كان ذلك؟ هل تعرف جدتي ذلك؟

اعترفت كريستينا على استحياء :

- لا . حاولت أخبارها لكنها كانت غاضبة جداً ورفضت الإصغاء ألي .

ابتسم ثيو ابتسامة غامضة :

- يا لك من مسكينة يا كريستينا هل أتعبتك جدتي كثيراً ؟

قالت تغالب توترها :

- أنني معتادة على السيدات المسنات .

- أنا لست مستاء منك . وكلي لهفة لسماع أخبارك . متى التقيت بابن العمة ديفلين وماذا فعل لإزعاجك؟

عضت كريستينا شفتها :

- لم يزعجني أبداً . كان بالغ التهذيب . تصادف مروره وأنا أتعرض للسرقة في المارتينيك أمس . كانوا ثلاثة وما أن رأوه حتى اختفوا كلهم .

- وهل عاملك كرجل شهم يفيض نبلاً؟

ردت كريستينا محتدة :

- لم يعجبني تصرفه أبداً عاملني بأسلوب استفزازي

- وهل دعاك لرحلة على زورقه؟

ازدادت لهجتها جفافاً :

- أبداً ولم اعرف انه يملك زورقاً .

- يملك زورقاً كبيراً احسده عليه . أحذري من خدعه الملتوية يا كريستينا .

قالت بفتور :

- أنا لا تعنيني أموره الخاصة . هل قلت انه ابن عمتك؟

أجاب بتأفف :

- أناديه هكذا وهو في الحقيقة عمي ، ولكنه لا يحب أن أخاطبه بهذا اللقب . وقد افعل ذلك للاقتصاص منه ولتصرفه غير اللائق معك .

جن جنونها :

- لا أرجوك . انه يعترض على وجودي هنا لسبب ما . ربما يغير رأيه عندما يراني اعمل بإخلاص مع السيدة براندون .

قال مطمئناً :

- لا تجزعي فهو لا يسكن هنا . هل أنتِ مسرورة الآن؟

أحست كريستينا بارتياح عميق . ثم حاولت أن تحافظ على حيادها في خلافات العائلة أو منازعاتها التي لا تفهمها :

- لا يمكنني إبداء سروري . يكفي انه أنقذني من أولئك الأشقياء اللصوص الذين سرقوني .

تثاءب ثيو قليلاً :

- لا تشغلي بالك كثيراً . ربما كان أولئك الأشقياء من أصدقائه وقاموا بتمثيلية مرتبة ولذلك فروا هاربين . انه شخص غريب الأطوار ، وذو ماض يفوح بالقذارة .

سرت رعشة مخيفة في مفاصلها . واصطكت ركبتاها هلعاً ، فارتمت على المقعد وتقدم منها ثيو يهدئ روعها :

- أنا آسف

قالت بحرج شديد :

- أنا آسفة جداً لا بد أن الحر اثر علي . من الأفضل أن اذهب إلى غرفتي الآن .

وقف ثيو يساعدها على النهوض قائلاً :

- فكرة رائعة . استريحي لبعض الوقت . لا شك أن الطاهية كوكو تعد لنا عشاء شهياً إكراما لك.

أعلنت كريستينا محتجة :

- ولكن لا ضرورة إلى كل هذا

تركها تصعد السلم ، متجهة إلى غرفتها فاستلقت على فراشها قلقة حائرة وتذكرت كلمات العراف : احذري من إبليس آرك اينجل .

وهي تعرف الآن أن إبليس ليس سوى ديفلين إنها تعرف ذلك جيداً وعليها الاحتراس واليقظة . هل كان العراف يخدعها بعد أن اكتشف هويتها ووجودها مع السيدة براندون وهو لا شك يعرف ديفلين فحاول إثارة مخاوفها عمداً؟

أغمضت عينيها وشبح ديفلين بوجهه الساخر الجامد يحوم في مخليتها . تمنت لو تطرد هذا الشبح المخيف وتحل محله صورة ثيو بأناقته وعذوبة كلماته . وأدركت أن ديفلين يستحوذ على تفكيرها مهماً فعلت ، بحركاته وأقواله ورجولته ، في حين أن ثيو مجرد صبي . ولكنها تكره ديفلين . تكره حتى ذلك اللون الفضي في عينيه انه عدوها وعليها ألا تنسى هذا أبداً .

بلا عنوان 06-01-08 02:02 PM

سمعت دقات خفيفة على الباب ثم دخلت يولالي وقالت مباشرة :

- السيدة براندون تسأل عنك .

أسرعت كريستينا ترتب هندامها .

- حسناً خذيني إلى غرفتها .

مشت خلف يولالي إلى أن بلغتا البهو الرئيسي . وأدركت كريستينا أن جناح السيدة براندون يقع بمحاذاة البهو الكبير ، ويتكون من غرفة نوم كبيرة وحمام وحجرة صغيرة تضم آلة بيانو .
كانت السيدة براندون منفرجة الأسارير عندما دخلت كريستينا :

- أجلسي يا ابنتي هل أنتِ بخير؟

أجابتها كريستينا بانحناء من رأسها ثم قالت :

- آسفة كان علي تغيير ملابسي لتناول العشاء .

تقبلت الأمر برحابة صدر :

- لا أهمية لذلك . لا أتوقع منك أن تعرفي كل شيء منذ اليوم الأول . اخبريني ما هو رأيك في ارك اينجل؟ هل أعجبك الحال هنا؟

لم تتوقع كريستينا سؤالاًَ كهذا ، فغمغمت ببضع كلمات غامضة . فطمأنتها السيدة براندون :

- اعرف انك تحتاجين إلى مزيد من الوقت لاتخاذ قرار كهذا . ولكن أريدك أن تتصرفي وكأنك في بيتك.

أجابت كريستينا بحياء :

- هذا من لطفك يا سيدتي أعدك ببذل جهدي لتلبية كل طلباتك وأتمنى أن تحددي مهام عملي هنا وما يتطلبه بالضبط ، ونوعية واجباتي .

لوحت السيدة براندون بيدها ، تتلألأ منها الماسة كبيرة ، وقالت :

- يوجد متسع من الوقت لبحث كل ذلك أما الآن فخذي فسحة من الراحة وتمتعي بما حولك واعتقد انك تعرفت على حفيدي .

قالت كلماتها الأخيرة بدون مبالاة ولكن كريستينا أحست بتوتر خفي . أجابت على نحو طبيعي :

- نعم تعرفت عليه آتى عندما كنت أتناول الشاي .

- هذا ما قاله لي . يبدو انك تركت لديه انطباعاً طيباً .

نظرت كريستينا مذهولة :

- انك تبالغين قليلاً يا سيدتي . إن الأولاد في مثل سنه يتأثرون بسرعة .

تجهمت السيدة براندون :

- في مثل سنه؟ انه لا يصغرك إلا بأشهر قليلة . وفي الحقيقة تبدين بشعرك المتدلي فوق كتفيك اصغر منه .

قررت كريستينا اتباع سياسة الحذر :

- نعم . ولكن يقال أن البنات ينضجن قبل الصبيان ولو كانوا في سن واحدة .

ردت باقتضاب :

- من المحتمل . لم يحدث أن تعرفت على عدد كبير من البنات ، ولذلك أعجز عن إعطاء رأيي في هذا الأمر . هل تجدين ثيو صغيراً بالنسبة إلى عمره؟

سارعت كريستينا بالقول :

- لا . أبداً يبدو انه ناضج تماماً ويحب الحياة .

طاب خاطرها فتنهدت قائلة :

- صحيح انه لم يرزق بصحبة أبناء من جيله حتى الآن . واعلق آمالي عليك لسد هذا النقص قدر المستطاع . أنكما مثال الرفيقين مع بعضكما البعض .

بلعت كريستينا ريقها محتجة بدون طائل :

- ولكن اعتقدت إنني سأعمل سكرتيرة لك .

عقدت السيدة براندون حاجبيها :

- ليس تماماً يا ابنتي . أنا لا أدفعك للعمل مع ثيو . أريد القول أن لديك كامل الحرية لتقبل دعوة منه .

احمرت وجنتا كريستينا وتمتمت :

- شكراً يا سيدتي .

- هل يزعجك اهتمام حفيدي بك؟

مدت كريستينا يدها تفرك أذنها :

- كلا انه شاب مهذب ولكن لا افهم كيف تسمحين لي كموظفة ليست أرقى من الخادمات كثيراً بعمل صداقة مع حفيدك .

تجمدت عينا العجوز وقالت مصعوقة :

- أنتِ ضيفتي وكانت ربة عملك صديقتي . لا أريد سماع أي حديث عن خدمات وما إلى ذلك بعد الآن . تتكلمين كأنك تعيشين في القرن الماضي .

أطرقت كريستينا رأسها :

- أنا آسفة ولكن وضعي هنا يبدو غامضاً جداً ...

داعبت وجنتها بنعومة :

- هدئي من روعك لا داعي إلى القلق وهذا الاضطراب والآن دقي الجرس ولنذهب لتناول العشاء .

التهمت كريستينا طبقها بشهية رغم أفكارها المشوشة ومراقبة ثيو لها خلال فترة العشاء بأكملها. ثم توجهوا إلى صالون خاص تزينه ألوان ذهبية وعاجية وانتهزت كريستينا انهماك ثيو في لعب الورق لتتجول في الغرفة وتمعن النظر في اللوحات والرسوم المزخرفة . ومر أمامها شريط من صور عائلة براندون مغرقة في القدم ثم لمحت لوحة زيتية تصورت أنها بريشة الرسام الفرنسي الشهير رينوار .

بلا عنوان 06-01-08 02:04 PM

انتهت من جولتها فأحست بالملل الشديد . تمنت لو تستطيع التنزه في حدائق ومنتزهات المنزل لكنها عدلت عن ذلك لمعرفتها أن ثيو لن يتوانى عن رفقتها كانت لا تريد التورط في أية علاقة غرامية معه والأفضل أن تخرج وإياه للتفرج على المزرعة والحقول المجاورة في وضح النهار وليس تحت ستار الظلام . همس ثيو في أذنها ، فاضطربت قليلاً :

- هل تحبين الموسيقى؟

أجابت :

- احبها كثيراً رغم أنني لا أجيد العزف على أية آلة .

تقدم من دولاب قديم وفتحه . رأت آلة ستيريو ومجموعة ضخمة من الاسطوانات وأشار عليها باختيار ما تريد قائلاً :

- أنها كلها موسيقى كلاسيكية للأسف جدتي تمقت الموسيقى الراقصة يوجد ما يشبه النادي الليلي في سانت فيكتوار يمكننا الذهاب معاً إلى هناك ذات مساء إذا أحببتِ .

كانت دعوته العفوية تلقائية وطبيعية لذلك كان لا يجوز رفضها ، قررت بينها وبين نفسها ولم تكن مفاجأة لم تتوقعها ، فابتسمت شاكرة .

وقع نظرها على اسطوانة تعجبها فطلبت منه سماعها وجاءت الموسيقى الناعمة لتشكل خاتمة لطيفة ليومها . هكذا حدثت نفسها وهي تتوجه نحو غرفتها مخلفة وراءها ثيو مكسور الخاطر . بدت غرفتها مريحة مزهوة باستقبالها ولاحظت أن أحداً ما أشعل المصباح بجوار سريرها . خاطبت نفسها :

- علي الاحتراس ، وإلا وقعت ضحية هذه الحياة الجديدة .

وهذه هي مشكلتها أتت إلى هنا لتعمل وتكسب رزقها بعرق جبينها وها هي تكتشف أن للحياة أشكالاً أخرى مختلفة ولن ترضى بحياة كهذه تؤدي بها إلى الكسل والخمول والاعتماد على الغير أوت إلى الفراش وظلت مسهدة لا يجد النوم إلى عينيها سبيلاً . تمنت لو نفذت خطتها وقامت بنزهة قصيرة بدلاً من الإصغاء إلى الموسيقى . إن الهواء العليل يهدئ الأعصاب و يجلب النعاس . وبعد أن تقلبت في الفراش متململة لبعض الوقت نهضت من السرير وارتدت معطفها . مشت نحو النافذة وفتحت الشيش المطل على الشرفة . كان الجو منعشاً فكرت وهي تحدق إلى صفاء الفضاء يتهادى فيه قمر فضي بشعاع باهت . تنفست بعمق وإحساس بالمرح . بدا كل ما يحيط بها عالماً جديداً لا عهد لها به .
وبينما هي غارقة في أحلامها العذبة ، لفتت انتباها حركة مكبوتة في الأسفل . عرفت لتوها القامة التي خرجت من الظلال وسطعت تحت ضوء القمر رغم اختفاء الجاكيت الأسود ، إنها يولالي تمشي بجسدها الأهيف . ورأتها كريستينا تدور حول حمام السباحة تسرع الخطى في اتجاه شجيرات كثيفة كالشبح .
عادت كريستينا إلى غرفتها وخلعت معطفها . تأكد لها أن يولالي ذاهبة للقاء أحد ما ولا بد انه شخص لا يسكن في آرك اينجل .

استلقت على فراشها يساورها الارتياب . إن هذا الشخص ليس سوى ديفلين براندون ولكن لماذا تشغل بالها به وبهذه الخادمة .

بلا عنوان 06-01-08 02:05 PM

-4-
مشــــاعر وليـــدة


أمضت كريستينا ليلة مليئة بالقلق ونهضت في الصباح تغشى ذاكرتها أطياف كوابيس مرعبة . فتحت عينيها خائرة القوى غير أن أشعة الشمس المنبعثة عبر الستائر أعادت إليها بعض حيويتها . وأعلن القرع الخفيف على الباب وصول يولالي تحمل كوباً من عصير الفاكهة الطازج ، وبعض الخبز ولزبده وإبريق قهوة حارة شعرت كريستينا ببعض الحرج وهي تتمدد فوق الفراش . لم يسبق لها أن تناولت فطورها في السرير ، إلا في حالة مرضها . وبدت يولالي مستاءة هي الأخرى وألقت عليها تحية الصباح بلهجة شبه عدائية . وما أن غادرت يولالي الغرفة حتى ألقت كريستينا نظرة عاجلة على المنبه الذي جلبته معها من إنجلترا . لا يزال الصباح في بدايته فقررت البقاء في غرفتها مدة ساعة أو ساعتين طالما أن السيدة براندون لا تحب النهوض باكراً كما علمت منها.
أنهت فطورها ، وارتدت بنطلوناً ضيقاً قصير الأكمام ، ثم رتبت سريرها ، وأسرعت بالعدو في اتجاه الحديقة عبر السلم الخلفي . وقادتها قدماها إلى الشجيرات الكثيفة عند أطراف الحديقة فلمحت ممراً ترابياً يؤدي إلى الشاطئ . كان الهواء يترنح بهمهمة النحل وحشرات أخرى وترامى إلى مسامعها همس الأمواج تداعب الشاطئ البعيد .
حثت الخطى ، متفادية الجذور الجافة البارزة ، حانية رأسها مخافة شبك شعرها في الأغصان المتدلية . كان ممراً ضيقاً وبدت الشجيرات الكثيفة تمتد أمامها مثل نفق داكن اخضر لا تخترقه أشعة الشمس .
وأخيراً وصلت إلى بقعة الرمال الفضية المنحدرة برشاقة نحو المياه المزبدة ورفعت وجهها تتأمل بامتنان ، تخال أنها تقف وحيدة في عالم هجره أهله ، ولم تعد تسمع سوى تغريد عصفور سعيد وصوت مياه البحر الحالم . انه شاطئ مثالي هادئ ، خاطبت نفسها ، ولا بد لها من انتهاز الفرصة غداً فتجلب ملابس السباحة ، وتنعم بدفء الموج اللذيذ . خلعت حذائها ومشت حافية إلى حافة المياه فلامست قدميها بنعومة رقيقة . ثم بدأت تمشي على الشاطئ ، والنسيم العليل يداعب شعرها ويبعث في شرايينها حياة جديدة ، طارداً بقايا ليلتها البائسة .
وخالت أنها الآن قادرة على تحمل كل المصاعب التي تواجهها في موطنها الجديد وحتى ثيو ستعرف كيف تتعامل معه ، مهما كانت نوياه . علت فمها ابتسامة وهي تفكر في ثيو ، ذلك الفتى الدمث الأخلاق المرهف الشعور ومع ذلك قررت انه لا يلائمها أن تتزوج أحد اقرب إلى مزاجها ، وتصورها لمواصفات الرجل ، رجل المستقبل ووجدت نفسها تفكر في ديفلين براندون ، فاجتاحها مشاعر غامضة وكأنها ترفض إصدار حكم نهائي عليه .

كانت غارقة في أفكارها ، تمتع أذنيها بهدير الأمواج فلم تنتبه إلى صوت إيقاع مكبوت يرتفع وراءها وعندما تبينته قليلاً ، احتارت في معرفة مكان انبعاثه ثم أدركت بهلع انه إيقاع حوافر حصان يعدو فوق الشاطئ . نظرت وجلة ممتعضة تعلن حظها السيئ ورأته بقامته الطويلة يمتطي حصاناً أسود اللون ضخماً كان عاري الصدر ، داكن البشرة يفيض رجولة ورقة . أين المفر الآن؟ فكرت كريستينا لتركض مسرعة إلى الأشجار ، فهي ملاذها الوحيد .

أدركت انه يلاحقها عمداً ، فضاعفت من سرعتها . زلت قدمها والتوى كاحلها التواء مؤلماً دفعها إلى إطلاق صرخة ألم موجعة وتهاوت على الرمال بائسة تمسك قدمها .

شد ديفلين لجام حصانه وقفز برشاقة عنه ، مندفعاً نحوها وهتف :

- هل جننتِ يا كريستينا..؟

كان يتوقد غضباً وأدركت مدى جنونها وهي تحاول الهرب على هذا النحو . كانت نزوة صبيانية لا يجوز أن تخضع لها بعد نضوجها وما هو عذرها؟ لا شيء سوى عنادها ورفضها مواجهته ، وها هي الآن تنبطح أرضاً وتخسر ما تبقى من كرامتها.

حاولت النهوض ، فتهاوت لا تستطيع حراكاً . انحنى ديفلين براندون بجانبها وراح يتفحص باهتمام كاحلها بإصبعه ، فأغمضت عينيها بقوة . قالت بجفاف :

- سأكون بخير بعد برهة قصيرة

وقف على قدميه معلناً في تهكم :

- يفرحني أن اسمع رأيك الحكيم . بدأ كاحلك بالتورم كما ألاحظ . لابد من غسله بالماء البارد وربطه . سآخذكِ إلى حجرة المركب لمعالجته .

وكأنها أصيبت بصدمة عنيفة صاحت :

- كلا! ( ثم غيرت لهجتها ) اعني ... اعني شكراً على مساعدتك ولكن سأكون بخير إذا ما استرحت لبضع دقائق هنا .

استشاط غيظاً :

- يالك من مخلوقة عنيدة . اعرف كم يصعب عليك الاعتماد علي مرة ثانية ولكن لا خيار لديك . وأعدك بالاهتمام بكاحلك ولا شيء غير ذلك ، إذا كانت الشكوك تساورك .

انحنى ليساعدها على النهوض ، فاشتعلت حقداً وغرزت أسنانها في يده بسرعة البرق . شتمها وسحب يده وقد لطختها بقع حمراء غائرة دامية . جلست كريستينا صامتة متوجسة تشعر بالذنب . نظرت إليه وكلمات الاعتذار ترتجف فوق شفتيها فرأته يبتسم قليلاً :

- ما معنى هذا العض ، هل صدر مني ما يغضبك؟

غصت حنجرتها :

- أنت .... أنت ....

- انكِ قليلة الحياء ، ولا بد من تلقينك بعض الدروس في كيفية التعامل مع الآخرين .

بلا عنوان 06-01-08 02:07 PM

وفجأة انكب فوقها وحملها إلى حصانه . أقعدها فوق السرج وامتطى الحصان وراءها ، قطعا مسافة قصيرة خالتها كريستينا أميالاً تتلوها أميال . يا لها من لحظات حرجة انعقد خلالها لسانها وهي تصارع أحاسيسها الغريبة . تجمدت فوق ظهر الحصان لا تجرؤ على الآتيان بأية حركة ، كان راكباً وراءها وكأنه لا يبال بما يدور في داخلها من صراع رهيب . لا شك انه رجل جذاب وتدرك ذلك من أعماق قلبها ، لكنها لن تفصح بأي شيء . لا ، لن تخضع لوسامته ، لن تبوح بعواطفها المتأججة .

تمهل الحصان قليلاً ، ووقع نظرها على مركب فخم يتهادى قرب الشاطئ وقرأت اسمه المطلي بإتقان : عذراء القمر . لم تكن معتادة على امتطاء الخيول من قبل فأحست بالإعياء وظل كاحلها يؤلمها بشدة . حمدت لله عندما ترجل ديفلين وحملها وأنزلها عن السرج وبدأ الحصان يعدو مبتعداً عن الشاطئ .

سألته :- لماذا فعلت هذا؟
قال :- إن الإسطبل في ارك اينجل وهو يعرف طريق العودة . مارك سيهتم به .

لم تصدقه . انه لا يسكن في ارك اينجل ورأت كوخاً صغيراً قرب تله رملية . ترى هل يعيش في هذا المكان؟ سألت نفسها حاولت أن تمشي ، فأخفقت إخفاقاً مزعجاً حملها بين ذراعيه واخذ يصعد بها السلم الخشبي . دخل غرفة كبيرة مبعثرة الأثاث تغطي أرضها بطانيات مزخرفة الألوان . ورأت في الزاوية مقعداً خشبياً تتكوم فوقه بعض الأقمشة تستر شيئاً ضخماً تحتها .

فتح باباً داخلياً فوجدت نفسها في غرفة النوم ، حيث ألقى بها فوق السرير . توارى عن نظرها لبعض الوقت ، فعرفت انه يجلب بعض الماء وضمادة . عادة يحمل إبريقاً وصندوق إسعاف وقال آمراً :

- ارفعي أطراف بنطلونك إلى أعلى . هيا وإلا طويتها أنا .

فأذعنت لأوامره صامتة . وأخذت تراقبه بحذر وهو يعلب دور الممرض والدكتور خف الألم الموجع وقد لف كاحلها ضماد متين ، قالت بامتنان : شكراً .
ابتسم بعذوبة : - حاولي الوقوف الآن .

وأمسك بيدها ، وتحاملت على نفسها حتى لمست الأرض بخفة . وقفت منتصبة رغم إحساسها ببعض الوجع وتمتمت :

- إنني بخير الآن . يجب أن انصرف .

أشار نحو الباب :

- كما ترغبين . ولكن القهوة الآن جاهزة إلا تريدين شيئاً ساخناً؟

- شكراً من الأفضل أن اذهب . ستفتقدني السيدة براندون .

ألقى نظرة سريعة على ساعته :

- في هذا الوقت؟ ما بالك ، هل تخافين مني؟

توردت وجنتاها : - ما الذي تقصده؟ لم يخطر ...

قال وهو يلتهمها بعينيه :

- يوجد مشط في الدرج أنصحك بالاعتناء بمظهرك سأتدبر آمر القهوة . انضمي لي ساعة تشائين .

استدار وخرج . ياله من وغد! خاطبت كريستينا نفسها ما الذي يدبره لها؟ يا ليتها لم تخرج إلى الشاطئ . إنها الآن أسيرة نزواته الشريرة . كان العراف على حق انه إبليس بعينه ، إبليس الذي يعذبها بأساليب ملتوية و يهزأ منها كلما حاولت مقاومته .

وقفت أمام المرآة تسرح شعرها ، وتفكر في وضعها . قررت أن تشرب القهوة فتهدأ أعصابها قليلاً ، وتتمكن من التفكير بوضوح اكثر . توجهت إلى غرفة الجلوس . كان ديفلين يجلس في الزاوية يحمل إبريقاً وبعض الفناجين . استنشقت نكهة القهوة وكأنها فخ لاصطيادها ، فجلست على طرف المقعد ، متمنية أن يظل بعيداً عنها وبدا للوهلة الاولى منهمكاً في احتساء القهوة ، فاطمأنت .

أخذت تتمعن في الغرفة . رأت صفاًً من البنادق قرب الجدار المجاور لها وبعض أدوات صيد السمك . كان كل شيء يدل على مكان لا اثر لذوق النساء فيه .
تنحنحت : - هل تعيش هنا منذ مدة طويلة؟

- منذ أربع سنوات ، منذ وفاة أهلي .

حملقت فيه كريستينا بدهشة . غاب عنها للوهلة الأولى انه ابن مادلين شقيقة السيدة براندون ، تألمت لحاله بدون أي مبرر . سألته بعفوية :

- وتسكن هنا وحدك؟

قال وهو يقهقه :

- ياله من سؤال! لا تتوقعي مني أي جواب .

بلا عنوان 06-01-08 02:08 PM

وتابع وهي تشعر بالإحراج : - علاوة على ذلك ، لا شك أن عمتي قد ألمحت أمامك إلى حياتي المتحررة الصاخبة . واعتقد أن هذا هو سبب فرارك مني على الشاطئ .

رمت بشعرها إلى الوراء :

- لم افر منك . كنت أتمتع بالبحر والهواء ، ولم اكن ارغب في رؤية أحد .

قهقه عالياً :

- انه تصرف لا يليق بسكرتيرة ، إذا كنت ستمارسين أي عمل .

فغرت فاها : - ماذا تقصد يا سيد ديفلين؟ إلا تصدق إنني سكرتيرة؟
استطرد هازئاً :

- لا أظن ، لأنني اعرف عمتي جيداً . إنها إنسانه ذات شخصية مستقلة ومستبدة ولم يسبق لها أن احتاجت إلى مساعدة أحد .

وضعت كريستينا كوبها على الطاولة الصغيرة ، وشبكت أصابعها مضطربة :

- يبدو لي أن خلافاً ما نشأ بينك وبينها . لا اعرف ما هو ، ولا علاقة لي بذلك . لكنها ربة عملي ، وعاملتني بكل لياقة ، وأشعر بالحب والولاء لها . ربما كنت على حق فهي لا تحتاج إلى سكرتيرة ، ولم تعرض علي العمل إلا حرصاً على كرامتي وحفاظاً على صداقة قديمة ...

توقفت عن الكلام ، وهو يحدق فيها وكأنها مجنونة . قال متجهم الوجه :

- ما هذا؟ ما هي هذه الصداقة القديمة؟

بلعت ريقها قائلة :

- كنت أعيش مع عمتي ، وربة عملي الآنسة غرانثم غريس . ماتت منذ بضعة أسابيع ولكنها كتبت إلى السيدة براندون قبل وفاتها ، وأعتقد إنها طلبت منها الاعتناء بي . لذلك جاءت إلى إنجلترا وعرضت العمل علي والبقاء في هذا المكان .

بدا وكأنه لم يسمع كلمة قالتها :

- ولكن أنصحك بالعودة إلى إنجلترا وهذه نصيحة صديق .

تفجرت غضباً :

- لا احتاج إلى نصيحتك أو نصيحة أي إنسان . ولا يمكنني العودة إلى إنجلترا الآن بدون أي نقود .

قال بهدوء :

- يا لها من ورطة!

ردت بكبرياء :

- إنها ورطتي أنا . اعرف أن الوضع صعب ولكن علي تلبية رغبات السيدة براندون.

قال مهدداً :

- إذن ابقي عند عمتي ، وتحملي وضعك ولكن إياك أن تجئ إلى باكية صارخة عندما تسوء معك الأحوال .

وقفت متثاقلة على قدميها وقالت بصوت مرتجف :

- أنت آخر من أفكر في اللجوء إليه يا سيد براندون آسفة لإزعاجك لن ترى وجهي بعد اليوم .

مشت نحو الباب ، فأحست بيديه تمسكانها بفظاظة :

- لماذا لا تعضين الآن؟

استعادت صوابها ، وصرخت مبتعدة عنه ، والخجل يغمرها :

- يا لك من وغد أيها الإبليس اللعين!

وأطلقت ساقيها للريح ، تعدو هاربة رغم آلام قدمها . كانت تتلوى آلماً عندما بلغت سلم الحديقة المؤدي إلى شرفتها . ولم تعثر على حذائها الذي خلفته وراءها قرب الشاطئ ، فصعدت حافية القدمين . شعرت بنعومة السجادة وهي تدخل غرفتها وارتمت فوق سريرها .

استلقت منهكة ، لا تجد تفسيراً لمغامرة طفولية تخوضها مع رجل لا يحترمها تمنت لو تنشق الأرض وتبتلعها . رن جرس الهاتف بشكل متواصل . رفعت السماعة :
- الو .

وهدر صوت السيدة براندون :

- كريستينا؟ هذه ثالث مرة اتصل بك أين كنت؟

اعتدلت كريستينا ترفع عن وجهها شعرها المشعث :
- ذهبت في نزهة قصيرة . أنا آسفة هل كنت تريدين شيئاً؟

- تعالي إلى غرفتي فوراً .

وأقفلت العجوز السماعة بعنف .

بدلت كريستينا ملابسها بسرعة لتخفي آثار نزهتها المشؤومة وسرحت شعرها وخرجت تكاد تجري .

بلا عنوان 06-01-08 02:09 PM

كانت السيدة براندون تجلس على مقعدها الوثير ، تطرز قطعة من القماش . نظرت إلى كريستينا باستهجان . ثم رأت ضمادة كاحلها فهتفت :

- جرحت قدمك يا ابنتي !
- كنت على الشاطئ والتوى كاحلي .

ركزت العجوز نظرها على الضمادة :

- هكذا إذن ولديك خبرة في تضميد الجروح والإسعاف؟

تلعثمت كريستينا وهي تشعر بالحرج والخوف :

- كلا لقد التقيت ... التقيت بابن أختك على الشاطئ . وقام بمساعدتي .

أجابت السيدة براندون بهدوء :

- صحيح؟ يا لها من بادرة كريمة . وليست هذه هي المرة الاولى كما علمت . اخبرني ثيو انك التقيت بديفلين في المارتينيك؟

قالت كريستينا بحياء شديد :

- نعم ولكنني لم اكن اعرف من هو آنذاك بطبيعة الحال .

صمتت السيدة براندون برهة ثم تأوهت :

- إنني في موقف صعب يا كريستينا . اشعر إنني مسؤولة عنك تماماً مثل أمك وعلى تحذيرك من ديفلين . لم يكن يصغي إلا لوالدته وما أن رحلت عن هذا العالم حتى تحول إلى شخص حاد الطباع ، لا يهمه رأى أحد .

وتابعت السيدة براندون ، و كريستينا تنصت باهتمام :

- لم يعد يبالي بالعائلة وسمعتها . وهكذا هجر هذا المنزل وقطن في ذلك الكوخ على الشاطئ وتخلى عن مسئوليته تجاه المزرعة وهو الآن يعيل نفسه من دخل الثروة المالية التي ورثها عن أهله ويحصل على رزقه من خلال حفر التماثيل الخشبية وبيعها .

كان صوتها جليدياً ، مفعماً بالازدراء . وعاد بكريستينا الخيال إلى ذلك المقعد الخشبي الذي لمحته في غرفة الكوخ . سألت العجوز بعفوية :

- هل يجيد حفر الخشب؟

حدجتها السيدة براندون بغطرسة :

- ما أهمية ذلك؟ انه يجد دائماً زبائن لشراء بضاعته . ولكن عمله لا يليق بمن ينتسب إلى عائلة براندون . أن واجبه أن يكون هنا ، يساعدني في المزرعة وفي إعداد ثيو من اجل ميراثه .

استفهمت كريستينا :

- ما الذي تقصدينه يا سيدتي؟

تأوهت السيدة براندون ثانية :

- أن المسألة في غاية البساطة . كان زوجي وكاري توأمين . ولد زوجي قبله بنصف ساعة ولذلك ورث المزرعة عندما توفي والده واصبح هو وأخوه كاري شريكين يديران المزرعة سوية . وفي أثناء ذلك التقى كاري بأختي مادلين وتزوجها بعد عام ، عشنا هنا جميعاً حياة سعيدة في البداية ثم بدأت المصاعب .

قالت كريستينا شاعرة بالحرج الشديد :

- هل من الضروري إخباري كل هذا يا سيدتي؟ إنها مسألة لا تعنيني و ...

استأنفت السيدة براندون التطريز :

- نعم ، من الضروري إخبارك . أنتِ الآن واحدة من العائلة يا عزيزتي . لا بد أن تفهمي سبب كره ديفلين لنا جميعاً ( وتناولت مقص الخياطة ) عندما ولدته أختي طارت فرحاً هي وزوجها وأخذا يدللانه إلى أن فسدت طباعه وتوهم ديفلين ، نتيجة الشراكة بين والده وزوجي في زراعة المزرعة ، أن له حقاً في الوراثة . وعندما أطلعناه على حقيقة الامر ، وفهم أن ثيو سيكون الوريث الوحيد ، جن جنونه . وجاراه والداه في آرائه وآخذو يضيعون أوقاتهم في السفر والرحلات والإبحار في المركب وكان ثيو في ذلك الحين لا يزال صبياً صغيراً ( وتنهدت متابعة ) وأثناء إحدى تلك الرحلات البحرية هبت عاصفة هوجاء وغرق المركب بمادلين وكاري وماتا .

صمتت قليلاً ، تتفرس في وجه كريستينا ثم استطردت :

- ومرة ثانية جن جنون ديفلين . اتهمنا بشتى التهم المخجلة و أمعن في تهمه وشتائمه إلى أن علا صراخنا بالشجار والكلام القاسي فقرر الرحيل . بعد مرور عامين أصيب زوجي بمرض شديد فطلب رؤية ديفلين ورجوت منه من كل قلبي أن نتوصل إلى تفاهم ما ، ولكنه أصر على موقفه أثناء تأبين زوجي ومنذ ذلك الوقت وهو يعمل ضدنا ويكن لنا العداء .

دهشت كريستينا لهذه العبارات فغامرت بسؤالها :

- وبأي أسلوب يمارس مضايقاته؟

أبدت السيدة براندون تأففها :

- ذهب ليدرس في الجامعة وتشرب بعض الأفكار الغريبة وعندما عاد بدأ ينتقد طريقة العمل في المزرعة ، وكيفية اقتصارنا على زراعة قصب السكر دون سواه . ادعى أن مصاعب جزر الهند الغربية وخاصة الاقتصادية منها سببها هذه الزراعة الأحادية . كان يريدنا تنويع المحاصيل . وزراعة الحبوب الغذائية وبالطبع رفضنا هذه الآراء وما لبث أن جمع حوله بعض الأشخاص الذين يشاطرون نظريته وهم الآن يدعون أنفسهم : لجنة الجزيرة .

تململت في مقعدها وعلت وجهها مسحة من القلق ثم تابعت :

- إنني أخبرك كل ذلك يا ابنتي لتأخذي حذرك أنتِ حديثة العهد هنا ، ولن يتردد ديفلين عن استغلالك خدمة لأهدافه الخاصة . حاولي تجنبه ولن يصعب عليك ذلك فهو قلما يزورنا .

بلا عنوان 06-01-08 02:10 PM

هزت كريستينا برأسها صامته . إنها نصيحة من السهل تنفيذها ، خاطبت نفسها .

قضت كريستينا ساعة من الزمن تملي عليها السيدة براندون بعض الخطابات وكانت في معظمها تافهة المضمون ، كما اكتشفت ، تدور حول أعمال خيرية أو تلبية دعوات اجتماعية وهذا كل شيء .

من الواضح أن السيدة براندون لا تحتاج إلى سكرتيرة ولن تجد عملاً يشغلها طوال اليوم . فكرت كريستينا .

جلست في المكتبة تكتب الرسائل على الآلة الكاتبة . راحت تستعيد آراء ديفلين حول شؤون المزرعة ، والمصاعب الاقتصادية في جزر الهند الغربية .

وجدت نفسها توافق على ما ذهب إليه ، مع إنها لم تكن خبيرة اقتصادية . تذكرت مقالاً قرأته في إحدى المجلات يناقش هذه النقطة ومن زاوية مشابهة .

أنهت كتابة الرسائل وهمت بالصعود إلى الطابق الأعلى لتطلب من السيدة براندون التوقيع عليها . لكنها ظلت مسمرة على الكرسي تغرق في لجة من القلق والاضطراب .

ماذا تفعل؟ سألت نفسها . هل تعود إلى إنجلترا ... وكيف؟ لا يمكنها البقاء في منزل مغلف بالأسرار والمشاكل ويقطنه أناس غريبوا الأطوار .

وماذا عن ديفلين براندون؟ إن مشاعرها إزاءه مشوشة ومتناقضة . انه الشيطان . عرف كيف يدبر لها مكيدة تلو الأخرى . ويتقرب إليها حتى خال إنها استسلمت له بكل جوارحها يا لبؤسها!


تلك كانت غلطة مشؤومة . لن تكررها أبداً . قررت أن تستمر في العمل في ذلك المنزل مهما كانت المصاعب .

بلا عنوان 06-01-08 02:12 PM

-5-
القـــــرار الصـــعب


ومر الأسبوع التالي بشكل طبيعي رتيب . كانت كريستينا تتناول الفطور في غرفتها ، ثم تذهب للتنزه إلى أن تستدعيها السيدة براندون . ولكنها لم تغامر بالابتعاد عن المنطقة المحيطة بالمنزل متجنبة الشاطئ رغم ولعها به .
لم يأت ديفلين للزيارة ، وتفادى الجميع ذكر اسمه . أما السيدة براندون فأحجمت عن الحديث معها حول تاريخ العائلة وخلافاتها وكأنها ندمت على ما تفوهت به وظلت كريستينا تبحث عن أجوبة لمسائل تقلقها . وأدركت أن السيدة براندون لم ترغب في ذكر أي شيء يتعلق بابنها والد ثيو واحتارت لماذا تعمدت العجوز تجاوز هذه النقطة الهامة وطافت كريستينا غرف المنزل المتعددة تتمعن في صور عائلة براندون . لم تعثر على أي اثر لصورة ابن تشارلز و مرسيل براندون .

ازداد فضولها ، لكنها قررت عدم المضي في البحث في تاريخ الآسرة . تعرضت العائلة في الماضي القريب لمأساة مؤسفة ذهب ضحيتها كل من كاري ومادلين والدا ديفلين ، وربما حدثت مأساة أخرى لوالدا ثيو اكثر إيلاماً لا يريد أحد ذكرها ، وصممت كريستينا أن لا تثير الجراح ولن تجد في ذلك صعوبة .

ثم بدأت التطورات تتوالى ....

أخذت بدون إرادة منها ، تلتقي بثيو اكثر فأكثر ولاحظت انه يندفع إلى تعزيز صداقتهما ، تشجعه موافقة جدته على هذه الخطوة . رفضت كريستينا دعواته لركوب الخيل والسباحة قرب شاطئ يقع في الطرف الآخر من الجزيرة متحججة بوجع كاحلها . ولكن هذه الأعذار لم تمنعه من الانضمام إليها ساعة تنزهها في الحديقة بعد العشاء . واطمأنت إلى رفقته وهي تلاحظ اقتصار أحاديثهما على المواضيع العامة ، وبعض المداعبات الكلامية البريئة .

ولاحظت أيضاً أنها كلما أرادت الاسترخاء قرب حمام السباحة لتتمتع بأشعة الشمس يهرع ثيو إلى جانبها . فاجأها هذا التصرف إذ ظنت أن أعمال المزرعة تستحوذ على معظم وقته . كان دائم الشكوى حول المزرعة والعاملين فيها وخاصة المشرف الذي يقطن مع زوجته وولديه في كوخ ريفي وسط المزرعة .

وهي لا تزال تحتفظ اسم المشرف العام كلايف مينارد حيث التقت به وبعائلته أثناء جولة في المزرعة قامت بها بصحبة ثيو . وتذكر لهفة السيد مينارد في الإجابة على كل أسئلتها التي تحيرها عن العائلة المنكوبة ، وإصراره على تقديم الغداء لهما في كوخه . واسترسلت في الحديث مع زوجته لورنا التي طهت طبقاً شهياً من الدجاج والأرز . لكن ثيو ظل يتأفف مبدياً تبرمه . وأنقذ الموقف إعلان كلايف عن اضطراره للعودة إلى العمل ، فانفض شمل الجميع .

تذكر أيضاً مدى استياء ثيو عندما لامته على تصرفه وهما في طريق العودة حيث قال لها ببرود :

- إن كلايف إداري كفء وينال مرتباً عالياً . ولا أجد ضرورة لعقد صداقات بيننا.

تفرست كريستينا في وجهه معلنة :

- وأنا موظفة كذلك ولكنك لا تعاملني بالأسلوب نفسه .

ابتسم ثيو قائلاً :

- أنتِ من نوع آخر يا عزيزتي.

بدا جوابه غامضاً ، فلزمت كريستينا الصمت واجمة . وكم كان سرورها عظيماً عندما دعاها لتناول العشاء معه في أحد المطاعم لكنها اعتذرت بحجة انهماكها في كتابة بعض الرسائل لجدته . وبررت رفضها فيما بعد بأن عمدت إلى كتابة رسالة إلى السيد فريث . كتبت رسالة طويلة وهي تجلس في غرفتها .

وصفت له المنزل وشرحت معنى اسمه . وحكت له ما تعرفه عن تاريخ العائلة وتعمدت تحرير رسالة خفيفة مسلية ، تتضمن النواحي السارة من حياتها في سانت فيكتوار . كانت تريد إدخال الطمأنينة إلى قلب السيد فريث وتبديد أي مخاوف قد تساوره حول عملها الجديد.

لكن ثيو لم يعتبر رفضها للدعوة اكثر من خيبة أمل عابرة ، وانتهز الفرصة ليسألها ثانية في وجود جدته ولم تجد مهرباً من إبداء موافقتها وهي ترى السيدة براندون منفرجة الأسارير تبدي تأييدها لاقتراح حفيدها .

ومضت إلى غرفتها لتبديل ملابسها . قررت ارتداء فستان سهرة بالغ البساطة ووضعت بعض المساحيق على وجهها وبينما كانت تهم بهبوط السلم رأت ثيو يقف مزهواً ببذلة جديدة في البهو ، ولاح لها شاباً ناضجاً لأول مرة . تقدم صوبها متناولاً يدها وهم بتقبيل كفها ، هاتفاً :

- يا لجمالك الساحر!

سحبت يدها على عجل ، مضطربة البال . ثم لاحظت أن السيدة براندون تقف أمام باب الصالون تراقبهما بشغف ، وما لبثت أن تمنت لهما سهرة ممتعة ، وناشدت ثيو قيادة السيارة بحذر ، وعدم التأخر كثيراً ، ومضت في سبيلها .

بلا عنوان 06-01-08 02:13 PM

قال ثيو وهو يفتح باب السيارة المكشوفة :

- سنتناول العشاء في فندق مونت فورت . ثم نذهب بعد ذلك إلى ناد ليلي .

استرخت كريستينا في مقعدها الوثير المبطن وهي تردد : - إنها فكرة رائعة .

وانطلقت بهما السيارة تنهب الأرض نهباً ، متوجهة إلى سانت فيكتوار . بدا الطريق هذه المرة اقل إزعاجاً ، رغم الحفر الكثيرة ، والمنعطفات الحادة . ولمحت كريستينا من نافذتها صخرة شاهقة تنحدر صوب البحر ويمر الطريق عبرها على نحو منذر بالخطر . حبست أنفاسها ، وأشاحت بنظرها متمنية أن يكون ثيو سائقاً ماهراً كما كان يتبجح أمامها .

انفرجت أساريرها وهي ترى في البعيد أضواء المدينة الخافتة وسمعت ثيو يعلن :

- انه موسم السياحة الآن . نحن لا نشجع السياح على المجيء إلى هنا ولكن صاحب الفندق بليرز وابن عمي ديفلين وشلته يجنون أرباحاً طائلة من هذا النشاط السياحي .

علقت كريستينا بحذر :

- إن السياحة تجارة مربحة .

ابتسم معتداً :

- لولا معارضتنا لكانوا سيطروا على المزرعة ، وحولوها إلى حدائق للتسلية . إننا في الواقع نملك معظم الأراضي هنا، ونسيطر على شتى الأمور .

التزمت كريستينا بالصمت . فكرت أن التمتع بالسلطة وقوتها تجربة مقلقة ، تنذر بعواقب لا تنتهي . وهالها أن تنتمي إلى مجموعة تحوز هذه الموصفات وداعبها في الوقت نفسه بعض الاعتزاز .
لمست كريستينا معنى هذه السلطة وهما يتناولان العشاء . كان الطعام شهياً فاخراً ووجدت نفسها تحيطها هاله من الاحترام والتبجيل وكأنها إحدى الأميرات . وراحت تراقب ثيو بحرج شديد وهو يلقي الأوامر يميناً وشمالاً ويرفض هذا الطبق أو ذاك ، مؤنباً الجرسون بأسلوب مهين .

كادت تختلق عذراً واهياً لإنقاذ نفسها من هذا الجو الخانق . لماذا لا تدعي أنها تعاني من صداع وتهرب من ثيو واستبداده؟

وما أن فتحت فمها حتى انبرى بالاحتجاج ، والرفض القاطع لأي عذر من أعذارها اقترح عليها أن يسيرا على الأقدام إلى النادي الليلي وتنشق بعض الهواء العليل لتبديد صداعها . واظب على إلحاحه إلى أن رضخت مجبرة . انتهزت هذه الفرصة الذهبية لتعلن :
- يبدو أننا لن نجد مكاناً .

تجاهلها ونادى أحد الموظفين بإشارة من يده وبسرعة عجيبة وجدت نفسها أمام طاولة معدة سلفاً ، تزينها الشموع وباقة رائعة من الزهور . قالت كريستينا وهي تجلس على كرسيها متعجبة :

- انهم يعاملونك كأنك الحاكم المطلق !

رد بفتور :

- لا تشغلي بالك انه تصرف طبيعي ستعتادين عليه .

جلب الجرسون بعض المرطبات . احتست عصير الأناناس لتروي ظمأها ، مجيلة الطرف فيما حولها . لاحظت انهما محط الأنظار وترامت إلى أذنيها موسيقى صاخبة تتماوج بين الجدران كتدفق شلالات المياه في كهف عميق . همس ثيو :
- كريستينا هل ترقصين؟
- ليس الآن يا ثيو .

كانت الموسيقى تصدح بأنغام سحرية ، ووجدت نفسها تتابع إيقاعها وهي تنقر الأرض بقدميها . ومع ذلك ، لم تكن ترغب في الرقص . تصورت منظر اندفاع الناس لأخلاء مكان مريح أمام ثيو وتخيلت نفسها وسط حلقة الراقصين والراقصات والكل يحدجها بنظرات استغراب وتعجب . لا، لن تشترك في هذه المسرحية السخيفة ، خاطبت نفسها .
اخذ ثيو يتلفت حوله ، متسائلاً بصوت مرتفع :

- لا أدري من جاء بكل هؤلاء الناس . سيصبح هذا النادي مكاناً لا يطاق إذا استمر الوضع هكذا!

وسمعته يهتف فجأة ، وكأنه لمح وجهاً أليفاً . نهض ببطء وامتعاض ظاهر . قال يخفي دهشته :

- يا له من عالم صغير!

رد ديفلين براندون :

- إن العالم يشبه جزيرة صغيرة جداً .

جلب جرسون كرسياً وجلس ديفلين بدون استئذان . أحست كريستينا بغثيان في أمعائها . حدجها ، ولوى فمه بابتسامة باهتة . أما ثيو فكان يتلظى غيظاً ، وغمغم :

- لم اكن أتوقع رؤيتك هنا هذا المساء .

رد ديفلين بفتور :

- طبعاً . ولكن أنا اهتم وأتابع استثماراتي بدقة .

امتعض ثيو :

- إن جدتي على حق . لقد قالت لي انك تستثمر أموالك بالتعاون مع بليرز وفرمبتون ألا يعد تصرفك هذا خيانة لاسم العائلة؟

اخرج ديفلين علبة فضية من جيبه وأشعل سيجارة ونفث قائلاً :

- لا يحق لك يا عزيزي ثيو التعليق على أمور كهذه .

كانا يتحدثان بالغاز غامضة ، لم تفهم كريستينا معناها . قاطعت هذه المهاترة ، أو هكذا خيل إليها :

- من فضلكما . لا يكون النقاش هكذا أمام الناس .

نظر إليها ديفلين باستخفاف :

- لا تشغلي بالك . سنعلن في العام المقبل عن كل خلافات عائلة براندون وبأسلوب يجذب المزيد من السياح . أما أنتِ يا عزيزتي كريستينا فستكونين ضحية بريئة .

بلا عنوان 06-01-08 02:14 PM

ياله من نقاش مخيف ، فكرت كريستينا . ألم يكن من الأفضل لها الاكتفاء بالتنزه في الحديقة؟ ها هي تتورط اكثر فاكثر ، ولن يتورع ديفلين هذا الإبليس اللعين عن كشف قصتها كاملة معه في كوخه الحقير . وفجأة رجع الجرسون ينحني قائلاً :

- مطلوب على الهاتف سيد براندون.

تنفست الصعداء ، ثم خابت آمالها . كان الجرسون يخاطب ثيو وليس ديفلين وحملق ثيو في الرجل متعجباً :

- أنا؟ ولكن من يريدني؟

ووقف على قدميه ، ومشى وراء الجرسون مندهشاً . جلست كريستينا صامتة ، متمنية لو أن ديفلين يتركها ويعود من حيث أتى . كان وجوده قربها . لا يفصل بينهما سوى طاولة صغيرة مقلقاً يثير في نفسها مشاعر غريبة لا تدري كيف انتابتها . قررت الاعتصام بالصمت وتجاهله . قال كأنه يقرأ أفكارها :

- إنها خطة فاشلة ( وشدها من معصمها ) تعالي نرقص .

اشتعلت وجنتاها خجلاً :

- لا . لا أريد أن أرقص .

تابع بإصرار :

- أما أن نرقص أو نتصايح أمام الناس . وإياك التعلل بآلام كاحلك . انك شفيتِ تماماً وتعرفين ذلك جيداً .

رضخت بامتعاض . وقادها إلى حلبة الرقص . حاولت الاحتفاظ بمسافة بينهما ، سألت نفسها . وكيف حرك عواطفها تجاهه وهي تعرف مدى خبثه وكره عائلة براندون له؟

تأمل وجهها لحظة ، ثم سألها :

- متى سيطلب ثيو يدك؟

حبست أنفاسها :

- ماذا تقول؟ هل تريد الإيقاع بيني وبين ثيو؟

استطرد مازحاً :

- لا تتظاهري بالغباء . ما معنى وجودكما هنا الليلة؟ ولماذا أتيتِ من إنجلترا في المقام الأول؟

ازداد صخب الموسيقى . ظلت تدور حوله وكأنها تغرق في حفرة عميقة لا قرار لها .

ألح بصوت أجش :

- أريد جواباً . أليس صحيحاً ما أقول؟

تنهدت مرتاعة في غضب :

- كلا. لقد شرحت لك سبب مجيئي إلى سانت فيكتوار ، لماذا لا تصدقني؟ أنا .. أنا لم اكن اعلم بوجود ثيو حتى وصلت إلى ارك انجل . وهو ليس خطيبي فأنا بالكاد اعرفه .

بدت عيناه جامدتان في قسوة .

- لم اكن أتحدث عن الحب . ومدى معرفتك به مسألة لا أهمية لها عندي . ألم تذكري لي بنفسك انك فقيرة لا تملكين شلناً واحداً وربما كنت تبحثين عن زوج ثري مثل ثيو .

كادت أن تلطمه بقوة قبضتها . ولكنها أرادت إغاظته بأسلوب آخر :

- هل تعتقد إنني دمية معروضة للبيع؟

خرجت الكلمات من فمها حادة ، تقطر المرارة منها . وعجبت لقلقها الزائد واهتمامها بآراء ديفلين ، وكيفية اهتمامه بها .

هز كتفيه ممعناً في سخرية لاذعة :

- إن عمتي هي التي تقرر ذلك . ولا اعتقد أنها أتتِ بك إلى هنا بدون أن تتأكد من إتمام الصفقة .

- أنت مخطئ ولكن لا ألومك على إساءة فهمي . لقد أخبرتني عمتك عن مدى خيبة آمالك لحرمانك من الإرث . وأستطيع أن أتصور لماذا لا تريد أن اعقد قراني على ثيو ولكن ما لا افهمه هو لماذا تنظر إلي كجزء من مؤامرة دنيئة لتجريدك من أي حق لك في ارك اينجل .

- اعرف انك بريئة من التورط في أي مؤامرة دنيئة . إن المؤامرات هنا بدأت منذ سنوات عديدة وقبل أن تدري عمتي بوجودك . ولكن هذا لن يغير شيئاً إذا كنت تؤمنين فعلاً بكل كلمة تقولينها ، فستغادرين هذا المكان وتعودين ألى انكلترا بأسرع وقت .

توقف عزف الموسيقى وتفرق ، عائدين إلى طاولتهم . استدارت كريستينا تهم بالذهاب مرددة :

- سبق لي أن أخبرتك انه مستحيل علي الرجوع . والآن أرجوك اتركني وشأني .

شدها من يدها :

- تريدين مني أن أتركك وشأنك مع ثيو !

شمخت بأنفها :

- نعم ، إذا كان عقلك يظن ذلك .

وسحبت يدها بعنف وسارت متثاقلة نحو طاولتها . كانت أعصابها كالوتر المشدود يا لها من سخافة ! فكرت والندامة تعضها . لقد نجحت في إغضاب ديفلين ولا شك أن ثيو ينتظرها غاضباً هو الآخر .

ولكنها أخطأت الظن . رأت ثيو يجلس مبتسماً ، بادي الارتياح . أثنى عليها قائلاً :

- انك تجيدين الرقص يا كريستينا ( ثم تفرس في ملامحها ) هل أنتِ بخير؟ يبدو عليك الشحوب .

بلا عنوان 06-01-08 02:15 PM

ياله من نقاش مخيف ، فكرت كريستينا . ألم يكن من الأفضل لها الاكتفاء بالتنزه في الحديقة؟ ها هي تتورط اكثر فاكثر ، ولن يتورع ديفلين هذا الإبليس اللعين عن كشف قصتها كاملة معه في كوخه الحقير . وفجأة رجع الجرسون ينحني قائلاً :

- مطلوب على الهاتف سيد براندون.

تنفست الصعداء ، ثم خابت آمالها . كان الجرسون يخاطب ثيو وليس ديفلين وحملق ثيو في الرجل متعجباً :

- أنا؟ ولكن من يريدني؟

ووقف على قدميه ، ومشى وراء الجرسون مندهشاً . جلست كريستينا صامتة ، متمنية لو أن ديفلين يتركها ويعود من حيث أتى . كان وجوده قربها . لا يفصل بينهما سوى طاولة صغيرة مقلقاً يثير في نفسها مشاعر غريبة لا تدري كيف انتابتها . قررت الاعتصام بالصمت وتجاهله . قال كأنه يقرأ أفكارها :

- إنها خطة فاشلة ( وشدها من معصمها ) تعالي نرقص .

اشتعلت وجنتاها خجلاً :

- لا . لا أريد أن أرقص .

تابع بإصرار :

- أما أن نرقص أو نتصايح أمام الناس . وإياك التعلل بآلام كاحلك . انك شفيتِ تماماً وتعرفين ذلك جيداً .

رضخت بامتعاض . وقادها إلى حلبة الرقص . حاولت الاحتفاظ بمسافة بينهما ، سألت نفسها . وكيف حرك عواطفها تجاهه وهي تعرف مدى خبثه وكره عائلة براندون له؟

تأمل وجهها لحظة ، ثم سألها :

- متى سيطلب ثيو يدك؟

حبست أنفاسها :

- ماذا تقول؟ هل تريد الإيقاع بيني وبين ثيو؟

استطرد مازحاً :

- لا تتظاهري بالغباء . ما معنى وجودكما هنا الليلة؟ ولماذا أتيتِ من إنجلترا في المقام الأول؟

ازداد صخب الموسيقى . ظلت تدور حوله وكأنها تغرق في حفرة عميقة لا قرار لها .

ألح بصوت أجش :

- أريد جواباً . أليس صحيحاً ما أقول؟

تنهدت مرتاعة في غضب :

- كلا. لقد شرحت لك سبب مجيئي إلى سانت فيكتوار ، لماذا لا تصدقني؟ أنا .. أنا لم اكن اعلم بوجود ثيو حتى وصلت إلى ارك انجل . وهو ليس خطيبي فأنا بالكاد اعرفه .

بدت عيناه جامدتان في قسوة .

- لم اكن أتحدث عن الحب . ومدى معرفتك به مسألة لا أهمية لها عندي . ألم تذكري لي بنفسك انك فقيرة لا تملكين شلناً واحداً وربما كنت تبحثين عن زوج ثري مثل ثيو .

كادت أن تلطمه بقوة قبضتها . ولكنها أرادت إغاظته بأسلوب آخر :

- هل تعتقد إنني دمية معروضة للبيع؟

خرجت الكلمات من فمها حادة ، تقطر المرارة منها . وعجبت لقلقها الزائد واهتمامها بآراء ديفلين ، وكيفية اهتمامه بها .

هز كتفيه ممعناً في سخرية لاذعة :

- إن عمتي هي التي تقرر ذلك . ولا اعتقد أنها أتتِ بك إلى هنا بدون أن تتأكد من إتمام الصفقة .

- أنت مخطئ ولكن لا ألومك على إساءة فهمي . لقد أخبرتني عمتك عن مدى خيبة آمالك لحرمانك من الإرث . وأستطيع أن أتصور لماذا لا تريد أن اعقد قراني على ثيو ولكن ما لا افهمه هو لماذا تنظر إلي كجزء من مؤامرة دنيئة لتجريدك من أي حق لك في ارك اينجل .

- اعرف انك بريئة من التورط في أي مؤامرة دنيئة . إن المؤامرات هنا بدأت منذ سنوات عديدة وقبل أن تدري عمتي بوجودك . ولكن هذا لن يغير شيئاً إذا كنت تؤمنين فعلاً بكل كلمة تقولينها ، فستغادرين هذا المكان وتعودين ألى انكلترا بأسرع وقت .

توقف عزف الموسيقى وتفرق ، عائدين إلى طاولتهم . استدارت كريستينا تهم بالذهاب مرددة :

- سبق لي أن أخبرتك انه مستحيل علي الرجوع . والآن أرجوك اتركني وشأني .

شدها من يدها :

- تريدين مني أن أتركك وشأنك مع ثيو !

شمخت بأنفها :

- نعم ، إذا كان عقلك يظن ذلك .

وسحبت يدها بعنف وسارت متثاقلة نحو طاولتها . كانت أعصابها كالوتر المشدود يا لها من سخافة ! فكرت والندامة تعضها . لقد نجحت في إغضاب ديفلين ولا شك أن ثيو ينتظرها غاضباً هو الآخر .

ولكنها أخطأت الظن . رأت ثيو يجلس مبتسماً ، بادي الارتياح . أثنى عليها قائلاً :

- انك تجيدين الرقص يا كريستينا ( ثم تفرس في ملامحها ) هل أنتِ بخير؟ يبدو عليك الشحوب .

بلا عنوان 06-01-08 02:16 PM

واغتنمت كلماته قائلة :

- أخبرتك إنني أعاني من صداع حاد .

- لا تقلقي . هيا بنا . آن لنا أن نعود قبل أن ينفذ صبر جدتي .

فوجئت كريستينا برباطة جأشه ، ودماثة أخلاقه وهو يمضي بها إلى الخارج ربما أدرك خطة ديفلين لاستفزازه ، فأحبط مساعيه . رأت كريستينا أن ثيو انضج عقلاً مما كانت تظن .

استلقت فوق مقعد السيارة ، وأسندت رأسها إلى الوراء ، مصممة على التزام الصمت المطبق وكأنها تعاني فعلاً من ذلك الصداع . وغرقت في تفكير عميق بينما كان ثيو يركز أنظاره على الطريق الملتوي .

استعادت كلمات ديفلين براندون . هل تصدق ما يقوله؟ حدثها بمنتهى الجدية وكأن زواجها من ثيو أمر مؤكد ومحتم! مع ذلك ، انه شخص يعاني من المرارة ويكن حقداً شديداً لعمته وحفيدها ، وكل عائلة براندون . إذن ما يقوله ليس أكثر من تنفيس لأحقاده الدفينة ، ومجرد وهم من الأوهام .

انعطفت السيارة مخلفة وراءها تلك الصخرة الشاهقة التي أرعبتها . أغمضت كريستينا عينها . وتابعت أفكارها ، أيقنت أن ديفلين مجرد إنسان خسيس ، لن تسمح له بالاقتراب منها بعد الآن . وستطرد شبحه من ذهنها وتنساه وتدفن كل ما يذكر به في طيات المجهول . أحست بالإعياء الشديد عندما توقفت السيارة أمام المنزل تمنت لو تتوجه في الحال إلى غرفتها ، وتوصد الباب وراءها لتبكي لكن أمانيها ذهبت أدراج الرياح .

كان ثيو يلح عليها الجلوس قليلاً في الصالون ، واحتساء بعض القهوة ويعلن لها أن السيدة كريستوف ستجلب لها مسكناً يزيل صداعها . أذعنت لرأيه بعد أن بدت اعتراضاً لم يقنعه ، لم تعجبها فكرة خلوتها مع ثيو مجدداً ، وتنفست الصعداء عندما رأت السيدة براندون لا تزال مستيقظة ، تجلس تنتظرهما .

جلس ثيو بجانب جدته مقبلاً يدها ، ثم انطلق يروي لها أحداث الليلة على نحو لا تذكر منه كريستينا شيئاً . عدد لها مثلاً قائمة طويلة من الناس الذين التقيا بهم في الفندق والنادي وبطريقة توحي بأنهما قضيا الوقت وسط مجموعة كبيرة من الناس وليس وحدهما ولم يأت على ذكر ديفلين ، فأدركت كريستينا أن التغاضي عنه مسألة بديهية .
دخلت السيدة كريستوف حاملة صينية القهوة ، فقامت السيدة براندون ومضت نحو الباب بعد أن طبعت قبلة على وجنة ثيو وتمنت لكريستينا ليلة سعيدة .

وما أن خرجت السيدة براندون ، وأغلقت الباب وراءها حتى استدارت كريستينا نحو ثيو تعاتبه :

- لماذا لم تخبرها حقيقة ما جرى؟

رفع ثيو كتفيه بحركة لا مبالية :

- لأنها لا تريد سماع ذلك . عليك أن تتعلمي كيفية التعامل مع جدتي وهذا ما ستكتشفينه مع مرور الوقت .

انحنت كريستينا تلتقط فنجان القهوة , ورشفت قليلاً منه بشفتين مرتجفتين . استطرد ثيو :

- كانت جدتي فرحة للغاية الليلة . ارتاحت إلى رؤيتنا نخرج ونجلس معاً . إن أحدنا يكمل الآخر ، ألا تعتقدين ذلك؟

علقت كريستينا مضطربة البال :

- اشعر بالإرهاق ، والأفضل أن اذهب إلى حجرتي وآوى إلى الفراش .

علت ملامحه ابتسامة ذات معنى :

- هل تنوين تمثيل لعبة القط والفار؟

صاحت ساخطة في حدة وغضب :

- انك شاب وقح .

اقترب منها قليلاً :

- لا يمكنك خداعي . هل تفضلين ديفلين علي؟ أتظنين أنني لم الحظ كيف كنتِ تراقصينه؟ أنا لست غبياً يا كريستينا .

وانقض عليها كالذئب الكاسر ، ملقياً بثقله فوقها . استجمعت قوها ، فدفعته عنها بقوة وركلته بقدمها ، فتدحرج فوق ارض الغرفة . استلقى على ظهره يحدق فيها . اخذ ينتحب كالطفل الرضيع . فوجئت كريستينا وانتابها الذعر :

- بحق السماء يا ثيو ما الذي دهاك؟ ما هذا العويل؟

نظر إليها والدموع تنهمر من مقلتيه :

- كيف لا ابكي وأنتِ تعاملينني بهذه القسوة؟

قالت غاضبة :

كف عن هذه السخافات . هل كنت تتصور إنني سأستسلم لتصرفاتك المشينة أيها الغبي؟

قال راكعاً على ركبتيه :

- لا . لا انك تسيئين فهمي . فقدت السيطرة على نفسي وأنا آسف جداً . لا اعرف كيف اعتذر لك . ترفقي بي يا كريستينا ، إنني احبك ....

انتفضت واقفة :

- اخرس! لن ادعك تخاطبني بهذه الكلمات أيها الأبله!

أجاب متوسلاً :

- لقد غضبت مني لأنني كذبت على جدتي ، ولم اكن صادقاً معها ، وتغضبين مني الآن لأنني أقول الصدق . ماذا افعل؟.. سامحيني يا كريستينا لم اكن انوي اطلاعك على حقيقة مشاعري ، ولكن عندما رأيتك مع ديفلين وعرفت كيف يتآمر لأبعادك عني ، كادت الغيرة تقتلني .

ياله من كابوس مرعب! فكرت كريستينا مجيبة :

- لا يحق لك أن تشعر بالغيرة ولا يوجد أي مبرر لذلك .

نهض على قدميه وحملق في وجهها :

- اسمعي يا كريستينا . أتذكرين تلك المكالمة الهاتفية في النادي؟ ذهبت إلى الهاتف فوجدت السماعة مقفلة ، فعرفت أنها خدعة ولما عدت كنت ترقصين معه فاتضح كل شيء . كانت مكالمة مجرد خدعة لابعادي عن طريقه . إن ديفلين رجل حاقد فهو يحقد على جدتي ويحقد علي انه يخطط لتدمير حياتي وأخذك مني .

بلا عنوان 06-01-08 02:18 PM

قالت كريستينا بلهجة جادة صريحة :

- دعنا نؤكد حقيقة واحدة . أنا لست فتاتك .

خيم الصمت مثقل بالتوتر . أدار ظهره واعترض بصوت مخنوق :

- أنتِ تقولين ذلك بقصد جرح مشاعري .

أجابت بنعومة :

- كلا يا ثيو . إنها الحقيقة . أنا لا أحب خداعك منذ البداية وابدي أسفي إذا ما جعلتك تسئ تفسير موافقتي على الذهاب معك النادي . انه خطأ لن أكرره . تصبح على خير .

أوصدت الباب واتكأت عليه لحظة تستعيد هدوءها ثم سارت بخطوات وئيدة إلى غرفتها ...

كانت متأكدة من عدم تشجيعها لثيو على الاعتقاد بأنها أصبحت ملكاً خاصاً له . لا بد أن السيدة براندون هي التي دفعته إلى وضع كهذا . وطالما لاحظت علامات الرضى ترتسم على محياها كلما رأتهما سوية . ولكنها ظنت أن كريستينا فتاة فقيرة غريبة وتعرف أن هذه الأمور ذات أهمية بالنسبة إلى عائلة مثل براندون . إذن لا يوجد سوى سبب واحد . هل يحبها ثيو حقاً؟ حاولت النظر إلى المسألة بتجرد وموضوعية .
ولكن الحب قصة أخرى! لم يبدر منه ما يدل على حبه لها . ان تصرفه معها يتصف بالطيش وغياب الأدب والاحترام .

ظنت أن دوافع ديفلين سيئة النية ، وتهدف إلى استغلال براءتها كما حدثتها السيدة براندون أما دوافع ثيو فهي اكثر تعقيداً .
راحت تضرب أخماساً بأسداس إلى أن قر رأيها على الرحيل من ذلك المكان وبأقصى سرعة . ستقابل السيدة براندون وتقدم لها اعتذارها واستقالتها ومن ثم تكتب رسالة إلى السيد فريث تشرح له الوضع ، وتتوسل إليه لقرضها بعض الدراهم لتتمكن من العودة إلى إنجلترا . ما أن تستقر في بلدها حتى تبحث عن أي عمل وتدفع له القرض بشكل أو بآخر . وضعت يدها على رأسها . إنها تعاني الآن من صداع حقيقي . صعدت إلى فراشها ودفنت وجهها في وسادتها واستسلمت لملاك النوم مرهقة قلقة البال .

بلا عنوان 06-01-08 02:19 PM


-6-
المـــــنديـــــــــل


ما أن استيقظت في الصباح اليوم التالي ، حتى توجهت كريستينا إلى غرفة السيدة براندون . دقت الباب . ففتحته يولالي بوجه عابس ، وكادت أن تغلقه ثانية معلنة :

- الأفضل أن تعودي في وقت آخر ، السيدة براندون لا تريد رؤيتك الآن!

دفعت يولالي جانباً ، ودخلت إلى غرفة الجلوس :

- أرجوك أن تخبريها عن حضوري .

ترددت يولالي لحظة . ثم مشت متأففة نحو غرفة النوم . ظلت كريستينا واقفة قرب النافذة الكبيرة تمعن النظر في جمال الحديقة وزرقة البحر المتلألئة في البعيد . أدركت كم سيصعب عليها فراق هذا المكان ، بعد أن الفت عالمه الغريب . تراءى أمامها الشاطئ الفضي ، وأشجار النخيل المحيطة به وغمر أحاسيسها دفء المياه المترقرقة . أنها مشاهد لن تنساها أبداً . وستحمل معها ذكريات أليمة أيضاً ، وخاصة ذكرى ديفلين براندون بكل عباراته وآرائه وحركاته وهمساته الخبيثة .

أحست في قرارة نفسها أن شبحه سيظل يلاحقها مهما ابتعدت عنه . كان جزءاً لا يتجزأ من كل هذه الأجواء من المنزل والشاطئ وجزيرة سانت فيكتوار حتى المارتينيك .
تنهدت بحسرة بأسف ، واستدارت تلقي نظرة متبرمة على باب غرفة النوم المغلق بدا لها أن السيدة براندون تتعمد التلكؤ في الاستجابة لطلبها . ربما أخبرها ثيو عن أحداث الليلة الفائتة وهي تعبر عن استيائها بأسلوبها الخاص . ولعلها تنوي طردها من عملها ولا حاجة إلى تقديم استقالتها ثم لم تلبث كريستينا أن طردت هذه الفكرة من ذهنها . لا ، إن السيدة براندون تبذل قصارى جهدها لاقامة علاقة حميمة بين حفيدها وفتاة مجهولة ، متواضعة الحسب ولدت صدفة في إنجلترا ولكن ما الذي ترمي الهي من وراء هذه العلاقة؟ فكرت كريستينا ملياً . لا أهمية لذلك الآن . كل ما تريده هو الرحيل والابتعاد ليس عن ثيو بل عن ديفلين الذي كادت أن تمنحه جم مشاعرها .
انفتح باب غرفة النوم ، و أطلت يولالي تومئ برأسها علامة استعداد سيدتها لاستقبالها . كانت السيدة براندون جالسة في سريرها ، متدثرة بغطاء حريري ، ارجواني اللون ومنكبة على ما وصلها ذلك الصباح من رسائل . رفعت حاجبيها ترحب بكريستينا :

- صباح الخير يا عزيزتي . إنها زيارة مبكرة هل من مشكلة؟

أحنت كريستينا برأسها ، وجلست على كرسي ملاصق للسرير وأدهشتها هدوء السيدة براندون إلى حد أخجلها . ولمست يدها قائلة :

- ما هي المشكلة؟ هل تضايقت من قضاء السهرة ليلة أمس مع ثيو؟

اضطربت كريستينا :

- هل بلغتك أخبار ليلة أمس؟

ردت السيدة براندون بهدوء :

- طبعاً يا ابنتي لا يفوتني أي شيء يجري هنا.

وسارعت كريستينا إلى القول :

- إذن لن تكون مفاجأة لك إذا ما قدمت استقالتي ورحلت فوراً .

قطبت السيدة براندون جبينها :

- لماذا ؟

تململت كريستينا فوق كرسيها :

- المسألة واضحة لا يمكنني البقاء هنا بعدما جرى بالأمس .

هزت العجوز برأسها بسلبية وقالت :

- ولم لا؟ لأن صبياً أحمق فقد صوابه في لحظة عابرة تريدين التخلي عني؟ إن تصرفك يذهلني . هذه المسائل تتعرض لها كل فتاة جميلة مثلك.

أجابت كريستينا بصوت خفيض :

- من السهل عليك اعتباري فتاة ساذجة . لكنك لم تشاهدي بأم عينك حقيقة ما جرى .

ردت السيدة براندون :

- اعرف ما فيه الكفاية . اعترف لي ثيو بكل شيء . وهو يأسف جداً لتمزيق أكمام فستانك ويبدي استعداده لمرافقتك إلى المارتينيك كي يشتري لك فستاناً آخر جديد ....

بلا عنوان 06-01-08 02:22 PM

قاطعتها كريستينا :

- يبدو وانك يا سيدة براندون مصرة على تجاهل ما قلته لك ، لقد طلبت منك قبول استقالتي .

تحولت عينا العجوز إلى قطعتي جليد :

- لا يا كريستينا . لست مستعدة أن اقبل ذلك انك فتاة جذابة وان لك أدراك هذا وأوافق على أن ثيو تمادى ....

لم تدعها كريستينا تسترسل في عباراتها :

- لا فائدة من الاعتذار يا سيدتي . أوضحت لك موقفي ، ولا انوي التراجع عنه .

علت مسحة من الشحوب وجه السيدة براندون وبدأت شفتاها بالارتجاف كورقتي خريف :

- من الأفضل لك يا كريستينا اعتبار حديثك مجرد زلة لسان . يمكنك الانصراف الآن . عندما تهدأ أعصابك سأرسل ثيو ليعتذر لك . وأرجو ألا تخيبي ظني بك فتصفحي عنه .

ازدادت كريستينا استياء وهي تتصور لقاء عاطفياً جديداً بينها وبين ثيو :

- لا حاجة إلى ذلك . أرجوك لا أطلب اكثر من قبول استقالتي والسماح لي بالرحيل إلى إنجلترا .

أجابتها السيدة براندون بحنق ظاهر :

- إن ما أحاول قوله هو انه يستحيل عليك مغادرة هذا المكان والرحيل بهذه البساطة لا يمكنني التخلي عنك يا عزيزتي .

أمعنت كريستينا في استفزازها :

- لماذا؟ هل وضعت خطة لتقرير مستقبلي ؟

قررت العجوز مهادتنها :

- أرجو المعذرة يا كريستينا يبدو إنني أخطأت التقدير ولن تتيح لي الظروف تحقيق أمنية عزيزة على قلبي وقلب عمتك . انك ترفضين هذه الأمنية بكل قواك وأستميحك عذراً إذا ما أغضبتك .

حملقت كريستينا في قسمات وجهها . اربكها تواضع ربة عملها المفاجئ ماذا قالت بالضبط؟ استفسرت علها تبدد مخاوفها :

- أتيتِ على ذكر عمتي غريس ....

أجابت السيدة براندون بانحناءة رأسها :

- عقدنا اتفاقاً ونحن في فصول الدراسة ، فالتزمت أن انجب ابناً والتزمت هي بإنجاب ابنة ، ويتزوجان عندما يبلغان سن الرشد وحافظ كل منا على هذا الاتفاق ولهذا السبب ذهبت إلى انكلترا بمجرد إعلان وفاة عمتك في الصحف وجلبتك إلى هنا لتحقيق وعد قطعته على نفسي .

جلست كريستينا صامتة ، مشوشة الأفكار . وجدت صعوبة في تصديق كلمات السيدة براندون . هل تريد القول أن عمتها غريس عقدت معها صفقة حول مستقبلها هي؟ الهذا السبب أتت إلى هنا لتنفيذ شروط الصفقة التي تخصها ، ولم تكن تدري بوجودها؟ غمرتها موجة من اليأس القاتل فقررت الإفصاح عن رأيها بوضوح :

- إنني آسفة يا سيدتي . لم يكن لي علم بكل ذلك ، وإلا لما كنت أتيتِ إلى هنا . لا شك أن الكثيرين يرسمون خططاً كهذه لمصلحة البنين والبنات ولكن نادراً ما يتوقعون تنفيذ هذه المشاريع حرفياً عندما يبلغ الأولاد سن الرشد .

توهجت عينا السيدة براندون ببريق عجيب :

- هذا ما توقعته . ولم يغب عن بال عمتك موقفاً كهذا . فكري في مستقبلك قليلاً يا كريستينا . ما الذي تأملينه؟ تقلد منصب هام؟ إنها مسألة بعيدة الاحتمال ، وأنتِ تنقصك المؤهلات اللازمة إن الزواج هو الحل الأفضل ، لا بل الوحيد ، إلا إذا كنتِ تريدين قضاء حياتك عانساً وعالة على الآخرين .

تسارعت نبضات قلبها ، فاكتفت كريستينا بالقول :

- شكراً على نصيحتك الثمينة ، وتصويرك الأمور بهذه الصورة القاتمة .

اتكأت السيدة براندون على وسادتها وأشارت :

- أحاول أن أكون واقعية . لا ادري لماذا يقلقك الزواج من حفيدي . ألا يعجبك أن تكوني سيدة ارك اينجل؟

أطرقت كريستينا برأسها . اشتعل في داخلها صراع عنيف لا بد لها من حجبه عن السيدة براندون ، وعدم إعطائها فرصة استغلاله لمصلحتها . دغدغت أحلامها فكرة استمرار بقائها في ارك اينجل والتمتع بهذه الرفاهية والثروة الطائلة التي تراود مخيلة الملايين من الناس ولكن وفي الوقت نفسه ، رن في أعماقها صوت ديفلين ساخراً محزراً ، فارتعت فرائصها هلعاً . لا يمكنها الزواج من ثيو أو من أي شخص آخر لا تكن له حباً عميقاً . علمتها تجربتها القصيرة المبتورة أشياء كثيرة حول أسرار القلب ، والعواطف الملتهبة . وهي تعرف معرفة أكيدة أن ثيو لا يثير فيها أي إحساس بالحب كما تفهم الحب وتفسيره .

داهمها الشعور بالشفقة والذنب إن ثيو يعرض عليها الزواج بإخلاص وصدق نية ومع ذلك لا تبالي به ، بل تمتعض من اهتمامه بها . في حين أن ديفلين ، الذي تعشق طيفه بدون مبرر ينظر إليها كمجرد دمية للتسلية مع ذلك يتحتم عليها مواجهة الحقائق كما هي ومهما كانت الآلام والعقبات .

رفعت رأسها ورمقت السيدة براندون :

- أنا آسفة يا سيدتي لا يمكنني الزواج من ثيو .

تجهم وجه السيدة براندون :

- إن في العجلة الندامة يا ابنتي . أنتِ ما زلت في مقتبل العمر ، وأمامك متسع من الوقت لاتخاذ قرار حول هذه المسألة ( وعلت وجهها ابتسامة شاحبة واستطردت ) إن الإنجليز مثاليون جداً ويحلمون دائماً بالحب الحقيقي الصافي . إن الأرض يا ابنتي وال****ات واستمرار الميراث هذه هي الأمور الهامة في الزواج . لم تخطر على بالك هذه الأشياء لأنها كلها بعيدة عن حياتك السابقة . سأترك لك مجالاً أوسع للتفكير والتمعن في هذه المسائل . لست في عجلة من أمري . أما الآن يا عزيزتي فيمكنك الانصراف . أرسلي إلي يولالي وأنتِ في طريقك إلى الخارج .

بلا عنوان 06-01-08 02:23 PM

مضت كريستينا إلى غرفة الجلوس ، وهي في حالة يرثى لها . ما هذه الورطه المرهقة؟ تساءلت يائسة وهي تعود إلى غرفتها . تنوي تقديم استقالتها منذ لحظات قليلة . وها هي تحمل معها خطاب الاستقالة وتطويه في جيبها كأنه خطأ شنيع . وتتعرض لشتى الضغوط لكي تتزوج ثيو ، وبطريقة طبيعية ولا اثر لاحترام مشاعرها في كل ما يدور كأن المسألة لا تعنيها مباشرة .

قررت أن تعيد الكرة وتقدم حججاً دامغة تثبت من خلال شخصيتها وحريتها في رسم مستقبلها ولكن ما الفائدة؟

عليها الرحيل عن هذا المكان . لماذا لا تذهب إلى المارتينيك على الأقل وتشتغل هناك لاعالة نفسها ، وتوفير ثمن تذكرة العودة؟ هذا إذا رفض السيد فريث مساعدتها تلخصت مشكلتها الأساسية في كيفية الذهاب إلى المارتينيك . كان باستطاعتها الطلب من لويس ليقلها بالسيارة إلى الميناء حيث يرسو المركب المتنقل بين سانت فيكتوار و المارتينيك ولكن لويس موظف يعمل لدى السيدة براندون وقد يشي بها . إذن ليست طليقة حرة الإرادة كما توهمت .

داعبت خيالها فكرة اللجوء إلى كلايف ولورنا مينارد . ان لورنا ستساعدها إذا ما عرفت حقيقة الامر . ولكن هل يحق لها جس نبضها؟ إن كلايف هو الآخر موظف لدى عائلة براندون ومن الخطأ التوقع منه تعريض وظيفته للخطر .

دفنت رأسها في راحتيها ، تحاول إيجاد حل لورطتها وأدركت انه يوجد أمامها خيار واضح ينهي محنتها إذا ما وطدت النفس على تنفيذه .

إن ديفلين براندون يملك مركباً يبحر فيه جيئة وذهاباً . وهو علاوة على ذلك طلب منها وبصراحة مغادرة الجزيرة . هل سيكون عند حس ظنها؟ ويبدي استعداده لتقديم خدماته؟ لا تخاله سيرفض مساعدتها طالما انه لا يشعر بأي ولاء لعمته وهو الذي أعلن ذلك مراراًَ . ولكنها هي كريستينا ، مدينة له بشيء الكثير . هل يجوز لها التماس مساعدته؟ ألم يحذرها من عدم اللجوء إليه عندما تسوء أحوالها ؟ وهي الآن تلجأ إليه متضرعة ، ويا للمصيبة إذا أشاح بوجهه عنها!

مشت متثاقلة نحو النافذة . وسمعت صوتاً في داخلها يقول لها لا لن يطردها رافضاً مساعدتها ، ولكنه سيرفض ثمناً مقابل أتعابه . ضغطت بيديها على أذنيها ، لإخراس الصوت المزعج . لا بد أن تكف عن التفكير في هذه الناحية وإلا فقدت ما تبقى من بأسها وشجاعتها .

وانسلت عبر السلم إلى الحديقة ، لا تبالي بما تقوم به . كانت تلهث يهدها التعب . بلغت الكوخ . توقفت لاسترداد أنفاسها . أخذت تجيل النظر متوجسة . لم تعثر على أي اثر لمركب ديفلين ، عذراء القمر . وكان الكوخ رابطاً مسدل الستائر موصد الأبواب .

انتابها قلق اليم . لم يعد أمامها سوى العودة إلى المنزل وانتظار عودته . هذا ما يجب عليها فعله ، قالت لنفسها وقدماها تشدانها إلى الوراء .

تقدمت من الكوخ ، فرأت المفتاح لا يزال في قفل الباب . فتحته و دخلت . كان الجو في الداخل خانقاً ، يخيم عليه سكون رهيب . خطت بحذر نحو النافذة وسحبت الستار فتدفقت أشعة الشمس تغمر الجدران وتضفي بعض الدفء على قطع الأثاث .

بدا الكوخ نظيفاً ، مرتباً ، ناصعاً ويوحي كل شيء فيه أن صاحبه لم يغادره لقضاء أمر مستعجل ولن يلبث أن يعود . لا بل يدل على غياب في رحلة طويلة الأمد . راحت تبحث عن أي دليل يكشف سره الغامض . تمنت أن تعثر على عنوان أو رقم هاتف حيث يمكن الاتصال به و أدركت مدى حماقتها . إن ديفلين براندون لا يهتم بهذه السخافات . وبأي حق تسمح لنفسها التطفل هكذا؟ لا حق لها إطلاقاً .

ورأت نفسها أمام المقعد الخشبي . هنا يقوم ديفلين بممارسة فن الحفر . ازداد فضولها لاكتشاف نوع العمل الذي ينتجه . رفعت الغطاء بحذر ، والتقطت قطعة من القطع . كانت تمثل صقراً منفرج الجناحين . تأملته ملياً مبدية إعجابها بأسلوبه الفني البارع . وأخذت تتفحص بشغف القطع الأخرى التي لا تقل اتقاناً وتبرز مهارة عالية مرهفة .

وقع نظرها على قطعة ملفوفة بغلاف ورقي . فضت الغلاف وحدقت فيها . جف حلقها . كانت تمثالاً صغيراً لفتاة ساجدة على ركبتيها ولا تزال تحتاج إلى اللمسات الأخيرة ولكنها عرفتها لتوها أن التمثال يشبه تماماً الخادمة يولالي .
أعادت التمثال إلى مكانه بإصبع مرتعشة . قفز خيالها إلى تلك الليلة عندما لمحت يولالي تتسلل عبر الحديقة . لقد صح توقعها وتحققت من لقاء يولالي بالفنان ديفلين في هذا الكوخ .

بلا عنوان 06-01-08 02:24 PM

لم تعر المسألة أهمية آنذاك . أما الآن فانتابها ثورة من الغضب . اغرورقت عيناها بالدموع . وأدركت مرتاعة أنها تعاني من الغيرة ويشتعل حسد قاتل في شاريينها يا لحماقتها ! لامت نفسها بحدة . استدارت كالمجنونة ، وخرجت من الكوخ تعدو هائمة على وجهها .

اكتشفت شيئاً جديداً حول نفسها . لمست واقعاً ملموساً ، كانت تظن انه مجرد وهم من الأوهام إنها وبطريقة ما تحب ديفلين براندون حباً جامحاً .

هزت برأسها مستنكرة عواطفها الجامحة وهي تتمهل فوق رمال الشاطئ لا إن ما تشعر به ليس حباً ، بل مجرد نزوة عابرة لا علاقة لها بالعاطفة الثابتة التي تضم روحين في عناق ابدي .

رددت بكآبة دامية لا . لا احبه وظلت تكرر العبارة كالتعويذة إلى أن استقرت ثانية في غرفتها . شعرت كريستينا بضياع تام خلال اليومين التاليين . لم تطلب منها السيدة براندون القيام بأي عمل . وواظبت على تناول وجبات الطعام ، كأنها تؤدي مهمة شاقة . وكان ثيو يتصرف أمامها على افضل وجه وذلك بعد أن أبدى اسفه الشديد لسلوكه السابق ، كان يبذل جهداً خاصاً للتودد إليها ، وتجنب كل ما يمكن أن يعكر مزاجها أو يغضبها .

ولكنها لم تعد تبالي بمسلك ثيو أو بأحلامه . كان يشغلها اكتشافها المفاجئ لمشاعرها الحقيقة وفي كلا الحالتين يتوجب عليها الفرار من هنا .. حدثت نفسها . ولا ينقصها سوى الوسيلة الناجحة .

يستحيل عليها الآن اللجوء إلى ديفلين ، وإلا كانت كمن يصب الزيت على النار ومن الأفضل لها الرحيل قبل عودته ، وقبل أن يخترق بعينيه الحادتين سرها الدفين ، ويمزق حجابها الذي يستر عواطفها .

وأضحى وجود يولالي معها تحت سقف واحد مسألة لا تطاق كانت تمر أمامها متهادية بانشراح ودلال ، كأنها تعلن عن تحديها وإدراكها لصراعها النفسي وآمالها الخائبة واستحواذها على اهتمام ديفلين كرمز للجمال والفتنة الساحرة.

ازداد تصميم كريستينا على الرحيل ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ قررت البقاء إلى أن تلتقي الدفعة الأولى من راتبها ولم يحن موعدها بعد . ولا يمكنها الطلب من السيدة براندون أن تعطيها سلفة فتثير شكوكها . ولا تريد كذلك أن ترحل وهي تدين لعائلة براندون بشيء . ويترتب عليها نقل نفسها وحقائبها من البيت إلى الميناء بطريقة ما وربما تطلب سيارة أجرة لهذا الغرض بدلاً من التسلل ليلاً ولكن ثمة صعوبة أخرى . توجد آلة التليفون في غرفة جلوس السيدة براندون ولن تتوفر لها فرصة ملائمة لأجراء مخابرة إلا في حالات نادرة . تنهدت كريستينا وهي ترى صعوبة جديدة تنتصب في وجهها .

كانت عائدة من نزهة قصيرة على الشاطئ ذات صباح ، عندما استدعتها السيدة براندون إلى غرفتها . وما أن دخلت كريستينا حتى تلقفتها العجوز هاتفة :

- تعالي يا عزيزتي علي القيام بمقدار كبير من العمل اليوم . انظري هذه للائحة من الأسماء والعناوين عليك كتابتها على مظاريف وبسرعة . وصلت بطاقات الدعوات من المطبعة هذا الصباح وأود إرسالها بدون إبطاء .

أمسكت كريستينا باللائحة تدرسها . كانت تضم أسماء أعيان الجزيرة . سألت :

- ما هي هذه الدعوات؟

أجابتها العجوز :

- إن عيد ميلاد ثيو الأسبوع المقبل وسوف نقيم له حفل بطبيعة الحال .

راحت كريستينا تقرأ الأسماء المتعددة . لم تجد أثراً لاسم ديفلين . تأكد لها أن عمته حذفت اسمه عمداً تعبيراً عن استيائها منه . هذا في حين أن أصدقاءه من أعضاء اللجنة كانوا من بين الأسماء المختارة . استدارت نحو الباب قائلة :

- سأبدا العمل فوراً يا سيدتي .

صاحت السيدة براندون :

- لحظة من فضلك .

رأتها كريستينا تغالب نفسها للنطق بشيء يقلقها . ثم سمعتها تقول :

- سأكون في غاية سرور يا كريستينا لو أن الحفلة لا تقتصر على الاحتفاء بعيد ميلاد ثيو بل تكون أيضاً حفلة إعلان خطوبة .

تجمدت الدماء في عروقها . كم كانت مخطئة ساعة اعتقدت أن هذه المسألة طويت إلى الأبد . قالت كريستينا محاولة كبت غيظها :

- ولكنك يا سيدة أفسحت لي المجال للتفكير ودراسة الموضوع ....

نظرت إليها السيدة براندون برقة :

- لا بد انك توصلت إلى قرار الآن . إن ثيو شاب حساس وعنيد لن ينتظر طويلاً للحصول على جواب منك .

ردت كريستينا بإصرار :

- لا أريده أن ينتظر . لا يمكنني الزواج منه يا سيدة براندون . أنا لا احبه أرجوكِ حاولي أن تفهميني .

تشبثت العجوز برأيها :

- أن الحب ينمو مع مرور الوقت يا عزيزتي . وهذا معنى الخطبة في المقام الأول . إنها فترة التعارف المتبادل ، وتمتين أواصر الصداقة لكي تصبح حباً بكل معنى الكلمة . إن ثيو لن يصبر كثيراً وسيجد وسائلة الخاصة لتلقينك بعض الدروس !

كانت كريستينا تتأجج غضباً :

- هل أنتِ جادة؟ ما معنى كلامك هذا؟

انهالت عليها السيدة براندون مؤنبة :

- لا تدعي السذاجة يا ابنتي . أنتِ تعرفين ما الذي اعنيه . ان وجودكما معاً في عش الزوجية تحت سقف واحد سيؤدي حتماً إلى علاقة حب وتفاهم بينكما . وعندما تعلنين خطوبتك ستلمسين بنفسك مدى التغير الذي سيطرأ على عواطفك .

بلا عنوان 06-01-08 02:25 PM

كادت كريستينا تفقد صوابها :

- انك تثيرين في نفسي الغضب يا سيدة براندون . أؤكد لك أن مشاريعك مصيرها الفشل الذريع .

هزت العجوز بكتفيها متأففة :

- المعذرة لم اقصد جرح مشاعرك . آنا آسفة . كنت اطرح عليك مجرد حل عملي .

أوصدت كريستينا الباب وراءها بأحكام . ووقفت لحظة لالتقاط أنفاسها . كانت صدمة عنيفة هزتها هزاً . وحيرها أمر عمتها غريس وصداقتها مع العجوز البليدة الإحساس . توجهت إلى المكتبة وباشرت باكية كتابة مظاريف البطاقات .

كانت في حال يرثى لها ، فوجدت نفسها تخلط الأسماء ببعضها . سحبت الورقة من الآلة الكاتبة وطوتها كالكرة ثم قذفتها صوب النافذة المفتوحة . ولفورها سمعت صوتاً أليفاً يهتف وراءها :

- طلقة موفقة أيتها السكرتيرة البارعة . يبدو أن مهارتك بدأت تخونك.

مشى ديفلين بخطى وئيدة ووقف بجانبها ، يحملق في اللائحة الملقاة قرب الآلة الكاتبة . أعلن في سخرية :

- أرى أن عمتي قررت الخروج من عزلتها وإقامة حفلة اجتماعية . لا ترهقي نفسك في طباعة دعوة لي آنسة بينيت سآخذ البطاقة معي .

لفت ظرفاً جديداً على الآلة قائلة بجفاف :

- لا اعتقد انك مدعو إلى الحفلة .

استقبل كلماتها ببرود:

- إذن سأقتحم المكان اقتحاماً . هذه الحفلة لن ادعها تفوتني مهما كلف الامر أريد أن أكون حاضراً عندما يقلدك ثيو خاتم الخطبة . وبالمناسبة هل رأيت الخاتم؟ انه خاتم هائل من الزمرد والألماس ، يا للذوق السوقي المبتذل!

واظبت على الكتابة وأجابته بحدة:

- أقول لك للمرة الألف لن اعقد خطبتي على ثيو .

ارتمى فوق مقعد وثير ، ماداً رجليه أمامه :

- كلا؟ أن الجزيرة كلها تتكلم عن الموضوع .

سألته مندهشة :

- ما الذي يقوله الناس؟

قال بنبرة جادة لا اثر للسخرية فيها :

- الكل يقول انك على وشك الزواج من ثيو وستكون هذه الحفلة مسك الختام .

أجابت يائسة :

- ولكن هذه الأقوال مجرد تخمينات .

سمر عينيه على وجهها المتجهم :

- ربما. ومع ذلك ، مازال أمام عمتي متسع من الوقت لأقناعك . لن يحل عيد ميلاد ثيو قبل أسبوع ، فلا تيئسي ولا أظنك تغفلين نية عمتي في عقد قرانكما .

قالت مطرقة الرأس :

- لا . لا أنكر ولكنني لم اكن اعرف شيئاً عندما جئت إلى هنا يجب أن تصدقني .

أشعل سيجارة ثم عقب :

- أنا أصدقك . هذه مسألة بسيطة ولكن ما الذي تنوين فعله؟

- ما الذي انوي فعله؟

كاد ينفذ صبره :

- نعم إن هذه المسألة تخصني مباشرة كما تعلمين .

تنبهت إلى مغزى كلامه:

- طبعاً لأنه إذا تزوجني ثيو ورزق ولداً سيبطل أي حق لك في الإرث .

خيم صمت ثقيل ثم أطلق قهقهة ممزوجة بالمرارة :

- يا للذكاء الباهر! نعم أن مصلحتي أن يظل ثيو عازباً . هل يمكنني الاعتماد عليك لتحقيق هذه الغاية النبيلة؟

أحست بوخز حاد في حنجرتها :

- قلت لك، وبكل وضوح أنني لا انوي الزواج من ثيو . لا مبرر للتخوف على مشاريعك مني .

رد بلهجة جافة :

- أشكرك من أعماق قلبي . وكيف تنوين الهرب من مصير رسمته لك عمتي العزيزة؟

هزت بكتفها :

- لا تقلق علي . أستطيع تدبر أمري.

أجاب بعذوبة :

- ولكني قلق عليك . خاصة إذا كنت ستحتاجين إلى مساعدتي .

اضطربت قليلاً :

- لا لن احتاج إليك يا ديفلين .

نهض واقفاً وتقدم منها بحذر ثم مد يده إلى جيبه :

- اعتقد أن هذا المنديل الذي يحمل أول حرف من اسمك لم يكن في كوخي صدفة .

هتفت : - كيف وجدته؟

- لا مجال إلى المراوغة يا كريستينا . أنتِ أتيتِ إلى الكوخ تبحثين عني عندما كنت في المارتينيك .

صمتت قليلاً ثم قالت متمتمة :

- أشكرك على عرضك لمساعدتي . ولكن زيارتي إلى الكوخ لا علاقة لها بذلك . كانت مجرد فضول . وتفريج عن النفس لتبديد السأم والضجر .

حدق فيها بعينين تتماوجان سخرية واعتداداً بالنفس .

- والآن دعني وشأني . أريد الانتهاء من كتابة هذه للائحة الطويلة .

غمغم :

- كلا يا عزيزتي . أنتِ ارتكبتِ خطأ كبير عندما زرت كوخي بهذا الأسلوب واطلعت على قطعي وعملي الفني بدون إذن مني .

صاحت في وجهه :

- اخرج من هنا ودعني أكمل عملي .

رد وإمارات الهدوء تكلل محياه :

- سأخرج الآن لرؤية عمتي . وثقي أنني لن أتخلى عن مساعدتك .

بلا عنوان 06-01-08 03:11 PM

-7-
الهـــروب من إبليـــس

نظرت كريستينا بارتياح إلى الآلة الكاتبة . لقد أنجزت كل ما عليها وكتبت القائمة بأكملها ، وراجعتها اكثر من مرة . انه إنجاز عظيم ، خاطبت نفسها وهي تمزقها تيارات عاطفية هائلة .
حملت مظاريف الرسائل والقائمة لتتوجه إلى الدور العلوي من المنزل وتسليمها إلى السيدة براندون . ثم ترددت قليلاً . لن تصعد الآن ، فتواجه ديفلين وعمته سوية لا ليس الآن ، كان عزاؤها الوحيد جهل ديفلين التام لحقيقة مشاعرها تجاهه وهكذا تستطيع أن تغادر سانت فيكتوار بدون أن تتورط معه في قصة حب فاشلة . أمامها الآن فرصة ذهبية للرحيل محتفظة ببعض كرامتها وكبريائها . نهضت متوجهة نحو النافذة . كانت تشعر بالحر الخانق والعرق يتصبب منها . غمرها توق جارف لمداعبة مياه حوض السباحة . ركضت مسرعة نحو غرفتها ، واختطفت منشفة كبيرة ، ثم هبطت السلم المؤدي إلى الحوض . كانت المياه رائعة كما توقعتها . سبحت متوانية من طرف إلى آخر . استعادت نشاطها وحيويتها ، فقررت الاسترخاء قليلاً على حافة الحوض لتجفيف شعرها ، والتمتع بأشعة الشمس . كان الهدوء يخيم على المكان ، ماعدا هسهسة بعض الحشرات . غلبها النعاس ، فأغمضت عينيها واستسلمت إلى نوم عميق .

أيقظتها بعد فترة قصيرة قطرات ماء تتساقط فوق وجهها . فتحت عينيها فرأت ثيو أمامها يرش فوقها رذاذاً من مياه الحوض وحدجته متعجبة . كان يرتدي ملابس السباحة ،

قالت متلعثمة :

- شكراً على إيقاظي . علي العودة لا شك أن جدتك تنتظرني .

قطب جبينه :

- إن جدتي لا تحتاج إلى أحد اليوم . جلست مع ديفلين طوال الصباح واعرف أن مزاجها يصبح لا يطاق بعد كل جلسة من هذا النوع والأرجح أنها لن تغادر غرفتها .

ردت :

- مع ذلك ، علي الذهاب الآن ...

ولم يدعها تكتمل كلماتها . مد يده وشدها من قدمها وقال :

- لا تتركيني يا كريستينا . لا يمكنك أن تحقدي علي إلى الأبد بسبب حادث مر وانتهى .

أكدت له :

- لم اعد أفكر في الامر .

ابتسم قليلاً :

- إذن امكثي بعض الوقت .

قالت :

- إذا أمعنت في كلام كهذا ، سأمضي لتوي إلى الداخل .

تنهد مستاء ثم أرخى قبضته عن قدمها وقال متلوعاً :

- أف لديفلين . ما الذي أتي به اليوم؟ جاء ليلهي جدتي ويعكر مزاجها ، وكنت احضر نفسي لذهاب معها بعد الظهر لمشاهدة زورقي الجديد .

سألته كريستينا ببعض الدهشة :

- زورق؟ أي زورق؟

قال :

- انه هدية عيد ميلادي . وهو زورق رائع ، أكثر جمالاً من مركب ديفلين ويرسو الآن في سانت فيكتوار ينتظر عمتي لتوقيع عقد الشراء أما الآن فقد ترفض بعد اجتماعها بذلك اللعين .

علقت كريستينا بجفاف :

- لا اعتقد ذلك يا ثيو . أن جدتك لا ترفض لك طلباً .

نظر إليها بتمعن :

- نعم هذا صحيح باستثناء أمر واحد احتاج إليه اكثر من أي شيء آخر . لماذا لا تأتين معنا لرؤية الزورق؟ انه ملائم جداً لقضاء شهر العسل .

قالت بنبرة استنكار :

- لا اعتقد أنها فكرة صائبة .

نهضت على قدميها فارتبك متوسلاً :

- لم اقصد إزعاجك المعذرة . أرجوكِ ألا تذهبي واعدك بتهذيب سلوكي إذا قبلت الإجابة على سؤال واحد :

قالت بتأفف :

- وما هو هذا السؤال؟

سألها بصوت خفيض :

- لماذا ترفضين الزواج مني؟

أدركت مدى كآبته وعمق مأساته ، فحاولت أن تهدئ من روعه :

- لأننا لا نستطيع التحكم بمشاعرنا يا ثيو . لا اعرف كيف اشرح لك ولكن ...

قاطعها برفق :

- أنتِ ترفضين وهذا كل شيء . كوني صريحة معي لا تخافي أستطيع تحمل الصدمة .

استطردت :

- إن المسألة ليست في هذه البساطة أنا لا أريد أي شخص ...

انفجرت أساريره :

- لا ينطبق هذا تماماً على ما رأيته عبر نافذة المكتبة صباح اليوم.

تجمدت في مكانها ، والغضب يشتعل في داخلها . تنهد ثيو بتكلف :

- آه يا كريستينا كم يؤلمني أن أرى ديفلين يستغلك بهذا الأسلوب القذر ولكن لا تجزعي لن أبوح بشيء أمام جدتي . وأنا لست متزمتاً كثيراً وعندما نتزوج ستكشفين ذلك بنفسك.

جن جنونها :

- ما هذا الهراء يا ثيو؟

ابتسم بوداعة وانتصب واقفاً :

- هيا بنا لنسبح معاً .

ظل يلح عليها إلى أن أذعنت للأمر الواقع وأخذا يتسابقان لبلوغ الطرف الآخر فظنت أن ثيو يتعمد التلكؤ ليترك لها فرصة تجاوزه . انتظرته فلحقها صائحاً :

- أحسنتِ .

قالت محتجة :

- أنت تعمدت التأخر .

- لا أبداً اقسم لك .

بلا عنوان 06-01-08 03:13 PM

ألقت نظرة على حافة الحوض ، حيث كانا يجلسان فلم تجده ثم أحست بقوة هائلة تشدها من قدميها إلى قاع الماء . فغرت فمها مشدوهة فابتلعت بعض الماء . أفلتت من القبضة الملتفة حول قدمها واندفعت نحو سطح الماء .

قالت صارخة :

- يا لك من صبي أحمق يا ثيو ...

وشدها مرة ثانية إلى الأسفل . حبست أنفاسها توجسا ً. ثم أخذت تركل بعنف وتجاهد للإفلات منه . استمرت في عراكها خائرة القوى ، تشعر بألم حاد في رئتيها . ضاعفت جهدها للإفلات منه وأدركت فجأة أن ما بدأ كلعبة مسلية تحول إلى حلبة قتال حقيقة ليثبت ثيو تفوقه عليها ، فهو أقوى منها حتماً كان يبارزها ليؤكد لها انه السيد المطلق .

أصابها رعب شديد ممزوج بغضب هائل ، حاقد . حاولت السيطرة على أعصابها معللة نفسها بعدم قدرة ثيو على البقاء تحت الماء طويلاً . سيضطر للتوقف والتنفس بعد قليل فلتصبر وتتحمل ما دام ذلك ممكناً .

ولكنها لم تعد تملك قوة على الصبر وهو مستمر في جذبها نحو القاع فتضيق أنفاسها ويضج رأسها ألماً وتخال أنها تكاد تنفجر كالقنبلة وكانت قبضته تمسك بها بقوة حديدية لا تستطيع الإفلات منها مهما تلوت وركلت .
ياله من وغد مجرم ، فكرت كريستينا ملتاعة . انه لا يسمح لأحد بعصيان أوامره وهو الآن يعاقبها بكل وحشية لأنها رفضته ، عصت أوامره ، ولم تركع ساجدة أمامه كما يتوقع من الجميع .

اخذ يشدها بكل قواه بوحشية هائلة فأطلقت صرخة ألم حاد وتدفقت المياه إلى فمها كتيار جارف . غمرتها ظلمة قاتمة وأخمدت أنفاسها .

كانت تتقيأ كل ما في أمعائها وهي تحس بقبضة متينة تضغط على ظهرها وتدفع الماء من فمها . فتحت عينيها متأوهة . كانت مستلقية على حافة الحوض ورئتاها تقذفان الماء خارجاً . حاولت اكتشاف هوية صاحب اليدين اللتين تضغطان عليها سمعت ديفلين يقول بصوت هادئ :

- لا تتحركي ستكونين بخير الآن .

ثم تكلم ثيو :

- كريستينا . كريستينا ( ثم ارتمى أمامها) اعذريني . لم اقصد إيذاءك كانت مجرد لعبة .

كان صوته يقطر ندامة . ولكنها لمست في نبرته مسحة من الابتهاج بالانتصار أيضاً وأدركت كريستينا أنه يحاول تلقينها درساً لن تنساه . أغمضت عينيها لكي لا تراه .

انحنى ديفلين يساعدها على النهوض . ثم حملها بين ذراعيه شعرت باطمئنان غريب وهو يمضي بها إلى غرفتها واستلقت على سريرها ، كأنها في حلم من تلك الأحلام التي تختلط فيها لحظات اليأس والذعر بقبس من الأمل والرجاء .

جلس ديفلين على حافة السرير ، وحدجها بنظرة عتاب :

- هل تسبحين دائماً بهذا الأسلوب المحموم؟ لو لم أصل في اللحظة الحاسمة لكنت في وضع سيئ للغاية .

كان صوت في داخلها يحثها على قول حقيقة ما جرى والارتماء بين أحضانه والتنفيس عن مخاوفها ولكنها ترددت وهي تدرك نتيجة خطوة كهذه .

غمغمت بإعياء :

- كنا نلعب في الماء . ثم تطورت الأمور أنها غلطتي منذ البداية .

قال في عذوبة :

- لا شك في ذلك ربما يكون من الأفضل الحذر قليلاً عندما تمارسين ألعاباً كهذه أو على الأقل التريث في اختيار من تلعبين معه .

أطرقت برأسها :

- ربما كنت على حق . يبدو أن علي أن أشكرك ثانية .

صمت قليلاً ثم نهض واقفاًَ وهو يقول :

- سيجلبون لك الشاي في أي لحظة الآن أرجوك أن تعتني بنفسك والإصغاء إلى نصائحي .

هزت برأسها ، يهدها التعب غمرتها رغبة جامحة لتغرق في نوبة من البكاء المرير ولكنها لن تسمح لنفسها بالظهور بمظهر الضعف أمام ديفلين يجب عليها ومهما كانت الظروف ، الاحتفاظ ببعض كرامتها . لم تنظر إليه نهائياً ، فتدحرجت على خديها دموع كالجمر الحارق .

مسحت دموعها ، متأهبة لاستقبال السيدة كريستوف التي ستحمل إليها إبريق الشاي في أي وقت . رأتها تدخل بصحبة السيدة براندون التي هتفت فور دخولها :

- كريستينا! ما الذي جرى؟

حدقت فيها كريستينا ملياً وهي تتناول فنجان الشاي . وأحست بقشعريرة باردة تنفذ إلى عظامها رغم جو الغرفة الدافئ . اقتربت السيدة براندون من السرير بعد أن أشارت على السيدة كريستوف بالخروج . قالت العجوز بشفتين مرتجفتين :

- يا له من حادث مؤسف! كدت تغرقين في حمام السباحة لولا أن أسرع ثيو لإنقاذك .

انحنت كريستينا إلى الأمام :

- أهذا ما قاله لك؟ لولا وجود ثيو هناك لما كنت في حاجة إلى الإنقاذ يا سيدتي .

تأوهت العجوز منكمشة في كرسيها . أخرجت منديلاً ومسحت به جبينها :

- اعرف انك منهمكة القوى يا عزيزتي ولا تدركين معنى كلامك الآن سنتحدث في وقت لاحق .

ردت كريستينا بأسى :

- أنا أدرك تماماً معنى كلماتي . ناقشت موضوع الزواج مع ثيو ولم تعجبه آرائي ولذلك قرر أن يعاقبني هذه هي الحقيقة المرة .

حاولت السيدة براندون تملقها :

- يجب أن تراعي شاب مثل ثيو ، وتتفهمي مدى خيبة أمله إن لم يتزوجك .

ردت كريستينا بمرارة :

- آسفة لجهلي لم تخطر على بالي مسألة بديهية كهذه . ولكنك تعلمين أنه يستحيل علي البقاء هنا بعد ما جرى . أود أن ارحل بأسرع وقت ما يمكن ...

تأوهت العجوز في حركة تمثيلية :

- لا . لا . مستحيل ...

لاحظت كريستينا بارتياع اضطراب السيدة براندون ، إذ كانت تتنفس بصعوبة وإجهاد وتضغط بيدها على صدرها . قفزت كريستينا من سريرها بانزعاج :

- سيدة براندون هل أنتِ بخير؟

وسمعتها تتمتم :

- أقراص الدواء ... محفظة يدي ...

فتحت كريستينا المحفظة وناولتها علبة الدواء ... ابتلعت قرصاً ثم لم تلبث أن هدا روعها ، واستعادت بعض حيويتها ، قالت تخاطب كريستينا بلهجة قاسية :

- هل تدركين الآن كما أنا مريضة ؟ مع ذلك لم أتعرض لنوبة كهذه منذ مجيئك إنني اعتمد عليك يا ابنتي .

بلا عنوان 06-01-08 03:53 PM

قالت كريستينا باحتجاج :

- ولكني لم افعل شيئاً .

مدت السيدة براندون يداً مرتعشة :

- ولكنك أدخلت الأمل إلى قلبي يا ابنتي . شارفت حياتي على نهايتها ولا أتمنى أي شيء سوى رؤيتك أنتِ وثيو في بيت واحد . أنتِ وحدك قادرة على إسعاد ثيو وإسعادي .

جحظت عينا كريستينا :

- استمعي إلى جيداً يا سيدة براندون . لن أتزوج ثيو الآن أو في أي وقت آخر وانوي الرحيل عن سانت فيكتوار والاستقرار في إنجلترا سواء قبلت أو رفضت .

أغمضت العجوز عينيها:

- نعم ربما كان ذلك افضل حل ، سأحجز لك مقعداً على الطائرة من المارتينيك ولكن ليس الآن . أرجوك يا كريستينا أن تتكرمي علي و تساعديني في الترتيب لعيد ميلاد ثيو الأسبوع المقبل وبعد ذلك لك مطلق الحرية وسأقدم كل مساعدة ممكنة .

جلست كريستينا على سريرها ، تتجاذبها آراء متضاربة . أقنعت نفسها أن بقاءها بضعة أيام أخرى لن يغير شيئاً طالما أن السيدة براندون رضخت للأمر الواقع كما يبدو . قالت متنهدة :

- حسناً سأبقى ثم ارحل فور انتهاء الحفل .

راحت تتقلب في فراشها تلك الليلة حائرة غاضبة ، تتقاذفها أصابع القدر الخفية وصورة مستقبلها المجهول . لماذا قررت البقاء على ذكرى صداقتها القديمة مع عمتها غريس.

دفنت رأسها في الوسادة . هتف صوت داخلي هازئاً . ان عدم رحيلها مباشرة يتعلق به هو ،، ديفلين،، انه السبب الرئيسي وراء بقائها وأملها في سماع كلمة واحدة تغير مجرى حياتها . ومهما كان تعلقها به وحبها له ، فكرت يائسة ، ما الفائدة من هذا الانتظار؟ آن لها الاقتناع بطبيعته واستهتاره . استغل يولالي وهو يريد استغلالها اكثر . هذا هو الواقع الأليم . ولكن عليها مواجهته كما هو . إن ديفلين رجل شرير عليها الابتعاد عنه .

كانت لا تزال كئيبة ومتعبة عندما استقبلت أنوار الصباح . ارتدت ملابسها بسرعة وتوجهت لتوها إلى جناح السيدة براندون . اعترضت يولالي طريقها قائلة :

- إن السيدة براندون لا تزال مرهقة . وقد استدعينا الطبيب لمعالجتها ولا ترغب في رؤية أحد .

عادت كريستينا أدراجها كانت تلقت تعليمات واضحة بالأعداد لحفل ثيو . عمدت إلى إرسال كل بطاقات الدعوة ، ثم توجهت للتباحث مع السيدة كريستوف ، وجدتها متجهمة الوجه ، تبدي تأففها من الحفل وهموم استقبال الناس والاهتمام بهم فقررت أن تتحدث ألى الطاهية مباشرة .

كانت كريستينا في حالة يرثى لها ، عندما سمعت هدير سيارة خارج المنزل ولمحت السيدة كريستوف تفتح الباب لزائر أتى للاطمئنان على صحة السيدة براندون ولكن أصابتها الدهشة وهي ترى لورنا مينارد تدخل غرفة المكتبة فلحقت بها :

وتهللت أساريرها :

- لورنا! يا للمفاجأة السارة . ماذا تفعلين هنا؟

ردت لورنا تتكلف ابتسامة باهتة :

- استدعتني السيدة براندون هذا الصباح ويبدو آن علي مساعدتك في شؤون الحفل خاصة وانك ستكونين سيدة المنزل عما قريب .

حملقت كريستينا مندهشة :

- ماذا تقولين؟ هل أصبحت حديث الجزيرة؟

أجابت لورنا بعفوية :

- أنك على كل شفة ولسان . لم تعد القضية سراً أليس الحفل من اجل إعلان الخطبة؟

قالت كريستينا ببطء :

- لا . أن الحفل من أجل عيد ميلاد ثيو لا أكثر ولا اقل .

نظرت إليها لورنا بارتياب :

- كنا نتوقع زواجك من ثيو منذ أن وطئت قدماك ارض سانت فيكتوار .

قالت كريستينا مستاءة :

- يا لخيبة الأمل . أطمئنك يا لورنا إنني سأعود إلى إنجلترا الأسبوع المقبل ولن يرى وجهي أحد من عائلة براندون بعد ذلك.

ارتسمت إمارات الغبطة على وجه لورنا :

- هل أنتِ جادة؟ يا له من خبر سار! ولا أخفي عنك مدى كراهيتي لهذا الصبي الأناني المدلل . إن زوجي كلايف لا يقل كرهاً لثيو عني ياله من ولد قذر وجبان كلما وقع نظري عليه أخال أنني أرى إبليس اللعين .

نعم ، فكرت كريستينا هذه هي الحقيقة التي فاتتها ، حقيقة غطرسته وحبه للسيطرة والاستبداد وفظاظته . كانت تظن أن تحذير العراف ينطبق على ديفلين ولكنها كم كانت مخطئة! الآن تعرف من هو إبليس الحقيقي .

استطردت لورنا :

- ولكن كيف ستغادرين هذا المكان؟ إن عائلة براندون لا تنهزم بسهولة .

- وعدتني السيدة براندون أمس بمساعدتي على الرحيل فور انتهاء الحفل .

حدجتها لورنا مستغربة :

- يبدو لي أنها تخدعك ، وإلا ما معنى طلبها منا اخذ الخاتم إلى الصائغ لتنظيفه وتصغير حجمه وطلبت منا الاستعجال .

علقت كريستينا :

- هكذا إذن . كانت السيدة براندون تريد وضعي أمام الامر الواقع في ليلة الحفل معتقدة أنني لن اجرؤ على رد طلبها أمام أصدقائها .

سألتها لورنا برقة :

- وهل ترفضين طلبها في وضع كهذا؟

تنهدت كريستينا :

- أنه موقف حرج . ولذلك علي الهرب بأسرع وقت . متى يبحر المركب من الميناء؟

- الساعة الرابعة بعد الظهر . ولكن كيف ستصلين إلى هناك؟

تراقصت عينا كريستينا :

- سأطلب من لويس نقلي بالسيارة . سأختلق عذراً ملائماً فأقول له أنني أريد مقابلة فرقة موسيقية لاكتشاف إمكانية استئجارها ليلة الحفل .

سألتها لورنا :

- وماذا عن أمتعتك؟ كيف ستحملينها معك بدون إثارة الشكوك؟

رمت كريستينا يديها متأوهة :

- لابد من العثور على وسيلة ما .

قالت لورنا :

- احزمي أمتعتك وضعيها في مكان أمين . ثم أخذها معي إلى بيتي واحتفظ بها حتى تتدبري أمرك فأرسلها إليك .

- شكراً يا لورنا . لا أدري كيف أعبر عن عرفاني بالجميل .

تنهدت لورنا :

- والآن لنعد إلى الحفل وتدبير شئونه .

تناولت كريستينا طعام الغداء بسرعة ، ثم تسللت إلى غرفتها لحزم أمتعتها وكانت قد أنهت إعداد كل الترتيبات اللازمة للحفل ومن كل النواحي . ظل شبح ديفلين براندون يطاردها ، ويلقي بينها وبين مستقبلها ستاراً غامضاً ملياً بالتساؤلات . عقدت العزم على نسيانه ، تابعت أفكارها ، لم يبدر منه ما يشجعها ويمنحها بعض الأمل لتوقع تطور إيجابي حقيقي في موقفه .

ألقت نظرة أخيرة حزينة حولها ، ثم حملت حقائبها عبر السلم الخلفي ، ومضت إلى طرف الحديقة واخفت الحقائب تحت شجيرة مورقة بانتظار مجيء لورنا لنقلها في الوقت اللائم ثم أقفلت عائدة إلى غرفتها وهبطت إلى الدور الأرضي حيث كانت لورنا تتوقعها بلهفة مع السيدة كريستوف وقالت لورنا بهدوء :

- أن لويس ينتظرك في السيارة ، لقد أخبرته على ضرورة ذهابك إلى المدينة للاتفاق مع فرقة موسيقية .

شكرتها كريستينا بابتسامة ذات معنى ، وسارت نحو الباب الأمامي فرأت لويس يتمشى أمام السيارة مترقباً قدومها , هرول يفتح لها الباب بكل لباقة واحترام .

انطلقت بهم السيارة تترنح صعوداً وهبوطاً فوق الطريق وبقى لويس صامتاً يصفر ألحاناً ناعمة . نظرت كريستينا من النافذة إلى الحقول ، غارقة في تفكير عميق . كان عليها أن تدبر مكاناً للسكن .

ورأت أن يكون هذا المكان غرفة في فندق حيث تعرض على صاحبه بعض الخدمات مثل الغسل أو الكنس أو أي شيء آخر مقابل سكنها مجاناً وما أن تستقر حتى تعمد إلى كتابة رسالة مفصلة تشرح فيها مشكلتها لسيد فريث .

بلا عنوان 06-01-08 03:55 PM

لاحظت فجأة أن السيارة تزداد ترنحاً وتأرجحاً ورأت لويس ينحرف إلى جانب الطريق ويتوقف . خرج من السيارة وألقى نظرة على العجلات وصاح :

- لا بد من تغيير العجلة الأمامية يبدو أنها ثقبت .

ولم تعد تذكر كم استغرق تغيير العجلة اللعينة . لكنها انتظرت مدة طويلة ، ونفذ صبرها ، ولويس كان لا يزال منكباً على العجلة يفكها بجهد النفس ولا يجد سبيلاً إلى وضع عجلة أخرى مكانها .

وأخيراً نجح لويس في إنجاز عمله ، فداخلها بعض الاطمئنان ، وانطلقت بهم السيارة نحو الميناء .

غادرت كريستينا السيارة وأشارت على لويس بعد انتظارها فرفع قبعته قائلاً :

- كما تشائين يا آنسة .

أدركت كريستينا أن لويس هو الآخر سمع باقتراب زواجها من ثيو واخذ يظهر لها احتراماً يليق بسيدة البيت في المستقبل . أسرعت الخطى عبر الشوارع المزدحمة التي عرفتها جيداً أثناء وصولها المارتينيك . تفقدت ساعة يدها لتتأكد من عدم تأخرها عن موعد إبحار المركب وما هي إلا لحظات حتى رأت الميناء أمامها والمركب يرسو قرب رصيفه . وكان الناس حوله ، فاعتقدت انهم يستعدون للسفر والإبحار .

ومر أمامها أحد راكبي الدراجات فتقدمت منه مستفسرة عن حقيقة ما يجري ومعنى تجمع الناس بهذه الكثافة . أجابها بعجب :

- ألم تلاحظي تلبد الغيوم في الفضاء . إن العاصفة على وشك الهبوب ولن يبحر المركب نتيجة لذلك بانتظار تحسن الجو يوم غد انه الإعصار الرهيب يا آنسة .

تراجعت كريستينا تجر أذيال الخيبة والفشل . أين تذهب الآن؟ لا يمكنها العودة إلى ارك اينجل وليس من السهل العثور على مكان تلجأ أليه حتى موعد الإبحار الثاني . كانت تسير ببطء فوق الرصيف تضرب أخماساً بأسداس عندما أحست بقبضة عنيفة تطوق يدها وأعلن ثيو براندون مبتهجاً :

- يا للصدفة العجيبة! ماذا تفعلين هنا يا عزيزتي .

بلا عنوان 06-01-08 03:56 PM

-8-
ســـيدة الملاك الحارس

ارتمت كريستينا فوق مقعد سيارة ثيو في طريق العودة إلى ارك اينجل ولم تحاول اللجوء إلى حجة الاتصال بالفرقة الموسيقية لتبرير وجودها قرب الميناء . فاكتفت بكلمات غامضة مركزة انتباهها على تلبد الغيوم السوداء ووميض البرق فوق الأفق .

- لا أجد تفسيراً لهذا التصرف يا كريستينا . كيف تسمحين لنفسك بالرحيل على هذا النحو وقبل الإعلان عن خطبتنا بأيام . أن الحب بالنسبة لي مسألة ثانوية لا تشغلي نفسك به انه يأتي بعد الزواج ولا اخفي عنك أن زواجي بك ليس مجرد شغف صبياني بجمالك .

صاحت كريستينا :

- كفى! يبدو أنك فقدت عقلك .

نظر إليها ثيو بتمعن :

- لا يا كريستينا . انك لا تفهمين معنى كلامي . إن زواجي منك يعني أنني سأرزق بصبي يرثني بعد وفاتي وهكذا احول بين ديفلين وسيطرته على ارك اينجل . وأنتِ افضل فتاة للقيام بهذه المهمة النبيلة خاصة وان جدتي خططت لذلك فور وفاة عمتك .

أخذت كريستينا تتلمس باب السيارة محاولة فتحه وجدت انه أوصده بأحكام . أرادت أن تقفز خارج السيارة عندما يبطئ ثيو السرعة وهو يقترب من منعطف في الطريق لكن فشلت خطتها فحدقت فيه بمرارة :

- يا لك من إنسان قليل الحياء . إن عمتي غريس لم تتفق مع جدتك على أي شيء من هذا القبيل .

رد ثيو بهدوء :

- هذا صحيح . كل ما في الامر أن عمتك كتبت رسالة إلى العمة مادلين أخت جدتي عندما كنت تعيشين معها ، أخبرتها عن مدى سعادتها بك وتم الاتفاق على أن تكوني زوجة ديفلين يا عزيزتي . عثرت جدتي على الرسالة بين أوراق عمتي مادلين بعد مأتمها فأخفتها والعمة مادلين هي التي كانت صديقة عمتك غريس وليس جدتي .

أغمضت كريستينا عينيها ، تشعر بدوار عاصف . حبست الدموع المترقرقة في عينيها وهي تفكر في مصيرها المؤلم . إنها تحب الرجل الذي اختارته لها عمتها وهي الآن لا تجد إليه سبيلاً .

استطرد ثيو :

- تتلقى جدتي جريدتها المفضلة من إنجلترا ، تماماً كما كان يفعل جدي وعندما قرأت عن وفاة عمتك غريس ، قامت فوراً بالسفر إلى إنجلترا بحثاً عنك ولو اكتشفت انك قبيحة المظهر أو غير ملائمة لأسباب أخرى لما كانت تابعت مساعيها .

هتفت كريستينا ملتاعة :

- يا ليتني كنت اقبح فتاة في الكرة الأرضية .

انفجر ضاحكاً :

- ولكنك لست كذلك . كفي إذن عن هذا الهراء .

وفجأة ضاعف ثيو من سرعة السيارة ، وانعطف نحو حافة تلك الصخرة الشاهقة التي تذكرها جيداً . ارتعدت فرائصها وجلة ، خائفة . نظر إليها ثيو ساخراً :

- ما بالك يا عزيزتي؟ اطمئني . هذه المرة سنموت معاً وتحضننا الأمواج في عناق أبدي .

عادت تحاول فتح الباب وهي تتوسل قائلة :

- بحق السماء يا ثيو ، أوقف هذه السيارة قبل أن يصيب أحدنا أي مكروه .

أعاد ثيو السيارة إلى وسط الطريق وظل يتأرجح بها يميناً ويساراً . كان الظلام يزحف بعتمته الداكنة ، وازداد تلبد الغيوم المنذرة بعاصفة عاتية . تبينت كريستينا أمامهما شجرة كبيرة ، تمتد أغصانها كأنها رماح تتلظى شوقاً لخوض معركة دموية وتذكرت لتوها تمثال ارك اينجل برمحه المسنون .

أمعنت في البحث عن وسيلة لفتح الباب وفجأة انفتح بقوة فأمسكت به تأهباً للحظة ملائمة . كان ثيو يقهقه كالمجنون وهو يقود السيارة في اتجاه الشجرة الكبيرة . أدركت انه يمارس لعبة قذرة ولن يجرؤ على تنفيذ أي شيء وسيتجنب الاصطدام مباشرة وينحرف عن الشجرة .

مدت يدها ، وقبضت على المقود مصوبة السيارة نحو جذع الشجرة مباشرة . أخذ ثيو يلعنها ويحاول الضغط على فرامل السيارة لإيقافها . قفزت بسرعة من الباب فتهاوت فوق الحشائش بجانب الطريق .

ظلت تتدحرج على الحشائش إلى أن استلقت بظهرها تعاني من بعض الألم ثم نهضت قليلاً وببطء شديد ، تتحرى مصير ثيو وسيارته . رأت السيارة مصطدمة بجذع الشجرة وقد تحطم جزء من غطاء المحرك . لم تبدر أية حركة من داخل السيارة فمشت متثاقلة نحوها . كان ثيو منبطحاً فوق المقود واعتقدت للوهلة الأولى انه يرقد ميتاً إلى أن جست نبضه فتنهدت الصعداء لبقائه حياً . خطت إلى الوراء وهو يئن متأوهاً ، وقررت أن تبتعد عنه بأقصى سرعة وقبل أن يستعيد كامل وعيه أطلقت ساقيها للريح هائمة على وجهها . كانت تجري بكل قوتها ، وبدون أن تعرف في أي اتجاه تحملها قدماها.

مرت دقائق طويلة وهي تمضي راكضة ومهرولة ، ثم تلألأت وراءها أنوار السيارة ، فانتابها ذعر شديد وهي تفكر بوقوعها ثانية فريسة سهلة بين أيدي ثيو اللعين . ارتطمت بحاجز خشبي ، فقفزت فوقه بحذر ورأت البحر يمتد تحتها مزبداً مرغياً وسمعت هدير محرك السيارة يقترب منها ، فانزلقت فوق صخرة ناتئة ببطء واختبأت وراءها وتابع ثيو طريقه متجهاً إلى ارك اينجل لا يلوي على شيء .

رفعت رأسها قليلاً تجيل النظر حولها . رأت في البعيد نوراً خافتاً ، فداخلها الشك والأمل في آن معاً وكانت العاصفة على وشك الهبوب . نزلت إلى الشاطئ وراحت تسير بخطى ثابتة في اتجاه ذلك الضوء ولاح أمامها كوخ ديفلين يقف جميلاً آمناً وادعاً . كان التعب يهدها هداً عندما وقفت أمام باب الكوخ وانهالت عليه بقبضتها . قرعت الباب أكثر من مرة فلم تسمع أي جواب .

وقفت صامتة يمزقها الألم كالطير المذبوح . همت أن تعود أدراجها ، عندما انفتح الباب على مصراعيه . تفرس في وجهها مدهوشاً ثم جذبها من يدها إلى الداخل واغلق الباب . صاح غاضباً :

- ما الذي تفعلينه هنا أيتها المجنونة وفي هذا الطقس؟ أن الإعصار على وشك أن يهب في أي لحظة وما الذي جرى لك يبدو انك مشعثة الشعر ، ممزقة الثياب؟

قالت بصوت مرتعش :

- كنت أخوض معركة حياة أو موت . وكدت أهوى فوق إحدى الصخور .

أجاب مهدئاً من روعها :

- اذهبي إلى الحمام واغسلي وجهك ويديك وخذي قميصاً نظيفاً من دولابي والتفي به .

ظل يراقبها من بعيد إلى أن نفذت أوامره ، جلست على حافة المقعد اقترب منها ببطء مستفهماً :

- والآن ماذا حدث بالضبط؟

قالت متلعثمة :

- كنت على حق . إن عمتك تريدني أن أتزوج ثيو . واعدت كل شيء لوضعي أمام الامر الواقع . لذلك قررت أن اهرب إلى المارتينيك لكن المركب لم يبحر بسبب الإعصار وكان أن اعثر علي ثيو وأعادني بسيارته .

فهم لتوه ما تعنيه رغم كلماتها المتقطعة المقتضبة .

سألها :

- وأين ثيو الآن؟

بلعت ريقها :

- أتوقع أن يكون في ارك اينجل الآن . كان يمارس معي إحدى ألاعيبه القذرة لتخويفي ، فأخذ ينحرف بالسيارة يميناً وشمالاً ويوهمني انه سيصعد فوق المنحدر الصخري . قبضت على المقود ، فارتطمت السيارة بجذع شجرة ، فقد ثيو وعيه لكن لم يصب بأذى . قفزت وأخذت اجري إلى أن وصلت إلى هنا .

صفق بيديه :

- يا لها من تجربة مروعه . الحمد الله على سلامتك .

ردت بحياء :

- لست أدري ما الذي وسوس بعقله . قال لي أنه يريد الحفاظ على اسم عائلة براندون ولذلك سيتزوجني رغماً عني .

هز ديفلين برأسه :

- اطمئني يا كريستينا . إن ثيو لا ينتمي إلى عائلة براندون . لا أدري مدى معرفتك بتاريخ العائلة وربما لا تدركين أن عمتي عاقر لا الأولاد لها ، ولذلك كانت تكره أمي . عندما كبرت ودخلت المدرسة بدأت اشعر بالحرج إزاء تصرفات عائلتي وأخجلتني أننا كنا نملك العبيد ، فأخذت أتحدث عن ضرورة تغيير أسلوب معيشتنا عندما يصبح ارك اينجل ملكاً لي . وكم كنت مغفلاً إذ ما أن انتهت إجازتي وعدت إلى المدرسة ، حتى بادرت عمتي إلى إبراز ثيو . وتدعي انه الابن اليتيم لاحد أقربائها الذين لا نعرف عنهم شيئاً في المارتينيك . واعتقد أن السيدة كريستوف هي الوحيدة التي تعلم حقيقة ثيو ولكنها تكن الولاء التام لعمتي .

- ولكن لا يمكنها أن تجعل من ثيو الوريث ....

- أقنعت زوجها ، عمي تشارلز ، بتبني ثيو ، وكان آنذاك ولداً صغيراً ولم يعلنا انهما والداه بل وأصرا للناس بأنه حفيدهما . واستطاعا أن يربياه كما يريدان وفق لمبادئ عائلة براندون الشهيرة ، فيتزوج عندما يبلغ سن الرشد فيحجب عني ميراث ارك اينجل . ثم توفي عمي تشارلز ولحق به كل من أمي وأبي فاستولت عمتي على كل شيء وشب ثيو تحت رعايتها . بذلت جهوداً متواصلة لعقد قرانه على فتاة من العائلات التي تعرفها هنا ، فجوبهت بالرفض القاطع بسبب غموض اصله . عندئذ صممت على البحث في مكان آخر .

تمتمت كريستينا :

- وعثرت علي . يا الهي ، عثرت علي .

واغرورقت عيناها بالدموع ، فوضع ديفلين يديه على كتفيها مربتاً :

- ولكن خاب ظنها ، ولم تنجح في ترويضك ، فقرر ثيو كسر عنادك وتحطيم إرادتك بأسلوبه القذر .

ولمع بريق خاطف ، ثم دوى قصف الرعد ، وانهالت الأمطار بغزارة تطرق سطح الكوخ كأنها وحوش جبابرة ، أحست كريستينا بقلبها يرتعش كالعصفور الوجل . احتمت بصدر ديفلين وهي تشعر ببعض الطمأنينة .

قال بهدوء :

- لا تجزعي . ليست هذه هي المرة الأولى التي يتعرض فيها الكوخ للإعصار وظل صامداً لا يتزحزح . وما أن يطل الفجر حتى تنقشع الغيوم وتهدأ العاصفة .

حدقت فيه متوترة الأعصاب ، ما الذي يعنيه؟ هل يتوقع منها أن تقضي ليلتها معه؟

قالت بتمهل :

- أتمنى أن يخف سقوط المطر بعد قليل . علي الذهاب إلى المنزل ...

قاطعها :

- لا لن تذهبي إلى المنزل قبل أن يهدأ الإعصار .

أوت إلى الفراش بحياء وبعض القلق ولاحظت أن ديفلين يجمع بعض البطانيات من خزانته ويمضي إلى الغرفة المجاورة .

كانت منهكة القوى فلم تلبث أن غلبها النوم وغرقت في سبات عميق . وما هي إلا لحظات حتى انهالت طرقات متوالية شديدة على الباب الخارجي يتخللها عويل الرياح الحاد . خالت أنها في حلم مزعج . فتحت عينيها قليلاً وترامى إلى أذنيها صوت ديفلين يتبادل الحديث مع كلايف مينارد .

بلا عنوان 06-01-08 03:57 PM

ثم دخل ديفلين غرفة النوم صائحاً :

- استيقظي يا كريستينا وارتدي ملابسك علينا الذهاب إلى ارك اينجل حالاً .

استفسرت متثائبة :

- ما الذي جرى؟ هل ألم مكروه بالسيدة براندون؟

قال متأففاً :

- لا . لا . انه ثيو .

أسرعت تنضم إلى كلايف مينارد في سيارة الجيب و جلست قرب ديفلين في حالة انفعال .

كانت المصابيح الكهربائية تضئ المنزل عندما توقفا أمام السلم ولمحت كريستينا سيارة ثيو مهشمة تهشيماً رهيباً ، وقد ارتطمت بقوة بالبوابة الحديدية أمام المدخل . صعدوا درجات السلم المؤدية إلى المنزل وأطلت السيدة كريستوف مولولة :

- سيد ديفلين الحمد الله على مجيئك . يا لها من فاجعة مؤلمة .

دفعها جانباً :

- أين ثيو؟

- وضعناه في غرفته وبذلنا المستحيل لإسعافه .

صاح ديفلين بحدة :

- لا بد من أجراء تحقيق أين عمتي؟ كيف جرى الحادث؟

تلعثمت السيدة كريستوف وقالت متأوهة :

- عاد السيد ثيو إلى المنزل مضطرباً غاضباً سأل عن الآنسة كريستينا فقلنا له أنها لم تعد بعد . جن جنونه واخذ يشتم ويلعن ثم أسرع إلى سيارته وأدار المحرك ولست أدري ما الذي حدث بعد ذلك . ارتطمت سيارته بالبوابة الحديدية هرعنا لمساعدته ولكن بعد فوات الأوان . كان شاباً رائعاً بكل معنى الكلمة . رحمه الله .

ثم راحت تولول وتنتحب بحزن واسى . واستدار ديفلين نحو كريستينا :

- الأفضل لك أن تذهبي مع كلايف إلى بيته . ابقي مع زوجته لورنا وسوف انضم إليك في الصباح وبالمناسبة انوي مفاتحتك لقبولي زوجاً لك .

تجمدت كريستينا في مكانها لا تصدق ما قاله لا تكاد تصدق شيئاً .

شدها كلايف من يدها :

- هيا بنا يا كريستينا ستغتبط لورنا لرؤيتك قلقت عليك كثيراً وظنت أنك تعرضت لحادث ما .

ظلت تراقب ديفلين إلى أن اختفى عن أنظارها . ثم تأبطت ذراع كلايف وعادت أدراجها .

كانت العاصفة تهدأ بسرعة وحبست الغيوم هدير أمطارها .

صعد ديفلين إلى الطابق العلوي ، فاعترضت طريقه يولالي تئن بألم . ضمها إليه يهدئ من روعها . ودخل غرفة عمته فوجدها في حالة من الانهيار التام . رفعت رأسها عندما اقترب منها وقالت شاكية :

- أنت المسؤول عن كل هذا أنت قتلت ثيو وإياك أن تتفوه بكلمة واحدة . سأغادر هذا المكان واتركه لك وافعل ما شئت بالمنزل والمزرعة . لم يعد يهمني أي شيء بعد وفاة حلم حياتي .

قرر ديفلين أن يتركها وشأنها ، وتوجه إلى غرفة ثيو . ألقى عليه نظرة سريعة ثم أوصد الباب ، ودخل إلى غرفة كريستينا ، وغط في نوم عميق .

نهض مبكراً في صباح اليوم التالي . وعمد إلى الاتصال بالشرطة للمجيء إلى المنزل والتحقيق في الحادث وأسرع إلى بيت كلايف لمتابعة بحث مستقبله مع كريستينا .

وجدها تجلس مع لورنا في غرفة الاستقبال . وما أن دخل حتى خطت كريستينا نحوه بلهفة :

- هل من جديد؟

قال برباطة جأش :

- لا . ستأتي الشرطة بعد قليل ، وتنهي القضية عند هذا الحد ويعلنون الحادث قضاء وقدراً . أما عمتي فسترحل إلى المارتينيك وربما إلى فرنسا . ولكنها لن تبقى في ارك اينجل مهما كانت الأحوال . والآن لنعد إلى موضوعنا الأساسي .

نهضت لورنا ، واستأذنت بالذهاب إلى المطبخ لاعداد بعض المرطبات ....

ظلت كريستينا قلقة البال فقررت أن تواجه ديفلين بحقيقة شكوكها . سألته وهو يجلس بجانبها :

- وماذا عن يولالي؟ هل ستتركها؟

طافت ابتسامة باهتة :

- ما علاقة يولالي بي؟

خالته يمعن في خداعه المعتاد :

- لقد رأيت يولالي تتسلل عبر الحديقة إلى كوخك تحت جناح الظلام ثم رأيت تمثالها بين مجموعة التماثيل الأخرى . وثمة شيء أخر ، سر احتفظت به ولم اطلع أحد عليه . إن يولالي حامل ولا بد ....

تجهم وجهه وانقبضت أساريره ورد مقاطعاً :

- يا عزيزتي كريستينا . كم أنتِ ساذجة! أولاً ، إن يولالي زارتني مرة واحدة وبعد إلحاحها علي لحفر تمثال لها لكي تهديه إلى حبيب قلبها . أما حبيب القلب هذا فهو ثيو . نعم ثيو كان يقيم علاقة سرية معها وبدون معرفة عمتي . أما السيدة كريستوف فكانت تعلم كل شيء وأنا بالطبع عرفت القصة بكاملها من يولالي نفسها .

تنفست الصعداء :

- ما أغباني . لم أتوقع أن ذلك الإبليس اللعين قادر على كل هذه الأعمال المنكرة .

- والآن ، أحب أن أتقدم طالباً يدك ، فهل تقبلين الزواج مني؟

صمتت كريستينا غارقة في بحر أفكارها . ماذا تقول له؟ هل تقبل به زوجاً لها؟ أنها حتماً تحبه ، واكتشفت مع مرور الوقت وتوالي الأحداث انه رجل صادق ، مخلص ، حاولت عائلة براندون تلطيخ سمعته النظيفة . وماذا عن استعدادها للعيش في هذه الجزيرة الصغيرة؟ وكيف ستدير شؤون منزل بهذه الضخامة؟ ثم ، قبل كل شيء ، هل يحبها كما تحبه؟ قطع ديفلين سلسلة أفكارها :

- أني انتظر ألان جواباً واضحاً وصريحاً وأؤكد لك أن حبي لك صادق وعميق ونابع من إعجابي بشخصيتك وذكائك وقدرتك على تحمل المصاعب .

عادت لورنا تحمل أكواب المرطبات انتهزت كريستينا الفرصة لتعلن موافقتها :
- لورنا ، ديفلين يريدني زوجه له وقد قبلت ما رأيك؟

أجابت لورنا مغتبطة :

- هذا اسعد نبأ سمعته منذ زمن طويل .

غمغم ديفلين بعض الكلمات الغامضة ثم رفع يد كريستينا وضمها إلى صدره .

وكانت الشمس ترسل أشعتها عبر النافذة ، فتغمر الغرفة بنور متوهج ، متألق وكأنها تعلن عن ابتهاجها بالنبأ السار ، وتتمنى لهما حياة سعيدة هنيئة .



تمـــــت

هبهوبة 10-01-08 08:20 PM

تسلمى حبيبتى بلا عنوان للرواية الجميلة

بلا عنوان 10-01-08 08:22 PM

العفووووووو عزيزتي هبهوبة


الساعة الآن 08:58 PM

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.