كان أيهم يجلس مع عمه إبراهيم في الصالة يتبادلان الحديث .... لقد أصبح يتردد لزيارتهم بإستمرار .... وبكل مرة يذهب بها هناك كان يتأمل أن يراها لكنه لم يلمحها أبداً ... واليوم أيضاً نبع هي من قدمت لهم الضيافة ورحلت .... سحب نفساً وهو يفكر .... لن يستمر بهذا الشد والجذب طويلا .... أبنه عمه تعجبه وهو يعترف بهذا ... أعجبته منذ البداية ... تحركت مشاعره الراكدة نحوها على غير العادة ... لفتت أنتباهه كما لم تفعل نبع طوال تلك السنوات مع أنه لو فكر ملياً بالمنطق كانت نبع هي التي من المفترض أن يختارها ... كانت أكبر سناً .... اكثر هدوءاً وخجلا ..... وكان يعرفها طوال حياته .... لكن لقلبه رأي أخر ... أنجذب لغصن .... واعجبه جرائتها وطبعها الناري .... حسناً ... هو لو أراد لخطبها من عمه الآن حالا ... لأنه لا يرد أن يتصرف مثل تصرفات الشباب الرومانسية ... حب وتردد طويل الأمد ... لا .. كان يريدها وقد أعجبته رغم أختلافاتهم .... لكن هناك سببين يجعلانه يتريث قليلا ... اولا والدته وغضبها المتوقع والذي يجب أن يعد العدة له ويستعد جيدا .... وثانيا عمه ... أجل فهو لم يكن يريده أن يعتقد بأن إقدامه على الصلح كان بسبب ابنته ... حتى وأن كان ذلك صحيحا بعض الشيء ....ثم ماذا لو رفض ؟ أجل كان الرفض وارداً جداً بالنسبة له .... ماذا لو قال بأنه كبير جدا بالنسبة لها ؟ خمسة عشر عاماً ليس بالفارق الهين !!!!
نحى تلك الأفكار وقال لعمه بهدوء ورصانه :
- بالنسبة للبستان ياعمي أريد ان أخبرك بأني في حال لو كنت قد أشتريت الحصة منك فأنا لم أكن أفكر ببيعه أبداً...ولولا وصية أبي رحمه الله لكنت قد تنازلت عنها منذ وقت طويل .
سحب عمه نفسا عميقا ثم زفره وقال :
- وأنا ايضا .... لم ولن أفكر ببيعه .... هذا البستان عزيز على قلبي جدا وليس من السهل أن أفرط به ! كما إني لا أريد التنازل عنه أيضاً فمالحل ؟!!!!
أومأ أيهم وقال مفكرا :
- إذا كان الأمر كذلك لما لا نتقاسمها بيننا مناصفة بالتراضي ؟!! سيكون هذا أمرا سهلا خاصة وإن المشكلة بيني وبينك فقط يا عمي ! ولا يوجد ورثة غيرنا !!هذا حل منطقي يرضي جميع الاطراف !
حدق به عمه إبراهيم بصمت وكأنه يفكر باقتراحة ليردف أيهم بمحاولة منه ليقنعه وينتهي من هذا الموضوع الشائك :
- لن يتم الفصل بين الحصتين يا عمي .... كل شيء سيبقى كما هو ... التقسيم سيكون بالأسم فقط ... وكل ما تأمر به أنت بالنسبة للمحاصيل المنتجة سينفذ ... أنا لن أتناقش به او أجادل أبدا .. وسيتم التعامل مباشرة معك .
بعد عدة دقائق ثقيلة أجاب عمه بجدية :
- لا تظن بأن المشاكل التي ابعدتنا عن بعضنا البعض في الماضي كانت تفرحني يا ولدي ! الله وحده يعلم كم كنت أتألم بسببها ... لكن الشيطان لعنة الله عليه تدخل وزرع الفرقة بيننا ... وأن شاءالله لن يحدث هذا مجدداً ..
حبس أيهم أنفاسه ليسأله بأمل :
- إذا فأنت موافق على فكرتي يا عمي ؟!!
أنحنى عمه وضرب على ظهر أبن أخيه بمحبه وقال :
- موافق يا أيهم ... موافق ....وليتنا فكرنا بهذا الحل منذ البداية .
ارتسمت على وجه أيهم ابتسامة واسعة وسعيدة وهو يتنفس الصعداء أخيراً ..... لن يخبر والدته بهذا الأتفاق الآن بكل تاكيد ... لم يحن آوانه بعد ...بل لم يحن الآوان لأخبارها بالكثير من الأشياء الأخرى فكر بسره وهو يستأنف حديثه مع عمه بحماس وسعادة .... بعد مرور عدة دقائق تفاجأ بجرس الباب وقد كان أحد الجيران قد جاء لزيارته ... وعندما أراد عمه أن يحمل صينيه الضيافه التي أحتوت على أقداح الشاي الفارغة وبعض المخبوزات المتنوعة ليطلب من إحدى ابنتيه أعداد ضيافة أخرى ... وقف هو بأدب وأخذ الصينيه منه متوجهاً إلى المطبخ أجلى حنجرته قبل أن يدلف ويتجمد عند المدخل ... سحب نفسا حاداً وهو يراقبها دون شعور منه ... حاول أن يبعد عينيه ويصدر صوتاً أعلى وأكثر خشونة لكنه لم يستطع ... فنظراته أنجذبت إليها لا إرادياً .... كانت غصن تقف أمام الكاونتر وظهرها ناحيته .... ترتدي فستانا اسود واسع يصل لركبتيها ... وشعرها الطويل يتدلى على طول ظهر بشكل خصلات مجعدة وغزيرة ... تقف حافية القدمين و اصابعها البيضاء الصغيرة تنغرس عميقاً في السجاد ... الظاهر بأنها كانت مشغولة بشيء ما !!!!!
ابتلع لعابه الذي أحس بأنه سال كالأبله وسعل بقوة ثم قال :
- السلام عليكم !!
لتسدير بسرعة وشعرها يتناثر حولها ... نظرت له متسعة العينين وفمها مملوء بالأكل وحول شفتيها ملطخ بكريمة الشكولاته ... كانت تأكل كيكة الشكولاته !!! بدت بريئة جدا ... وضعيفة للغاية ... كان هناك شيء ما متغير فيها .. هل كانت تبكي ؟!!!!
لما لاحظ صمتها وذعرها قال بحرج وهو يبعد عينيه المعجبة عنها :
- اممم ... عمي ... احم ... يريد شاي ... المزيد من الشاي ...
ثم أشار برأسه ناحية الصالة رادفاً بغباء :
- من أجل الضيوف ... لقد جاء ضيوف لزيارته ....هناك .
مسحت فمها بسرعة بورقة كلينكس التقطتها من علبة وضعت جانبها ... ثم تقدمت وسحبت الصينيه من يده وهي تتجنب النظر إليه .... لتقول مغمغمة بخفوت ولأول مرة دون جرائتها التي اعتاد عليها :
- سأعدها وابعثها مع أخي محمد .
ودون ان تنظر رده استدارت بسرعة ليجبر هو قدميه ويعود أدراجه للصالة ... لكن صورتها لم تفارق خياله ابدا ... ارتسمت ابتسامة بطيئة على وجهه وهو يفكر بثقة .. أن كان يريدها سابقاً مرة ... الآن يريدها ومتمسك بها ألف مرة .... أبنه عمه ويريدها ولن يمنعه أحد عنها ... أتخذ قراره وانتهى !
.............
تنفست غصن بلهاث متسارع ... وضعت يدها على قلبها لتهدئة جسدها المرتعش ... لقد جاء أيهم قبل عدة ساعات وقد قدمت لهم نبع الضيافة قبل أن تخرج هي ووالدتها لزيارة الطبيب .... وأخيها محمد يدرس في غرفته ...
وضعت يديها بحرج لتغطي وجنتيها الملتهبة وهي تزيغ حدقتيها وتهمس :
- يا الله ماذا سيفكر عني الآن بعد أن رأني أأكل كالمفجوعة التي لم تشاهد كيكة شكولاته بحياتها !!!!
لكن أوليس هذا صحيحا يا غصن ؟ أخبرها بهذا صوت بعيد في عقلها ... فهي لم تتذوق طعاما ولا حلوى ولا فاكهة كالتي أكلتها بمنزل والدها أبدا وطوال حياتها !!!! في بداية وجودها هنا وعندما تدخل وحدها للمطبخ ... كانت تاكل بسرعة وكأن الأكل سيطير أو يختفي ... حتى إنها أكتسبت بعض الوزن بشكل ملحوظ لا يعني هذا إنها كانت هزيلة لا ... لكن كان لطعامهم بركة في جسدها كالمثل العراقي الذي يقول ( الخير يخير والشر يغير ) وخير والدها ظهر عليها جلياً ...
عادت لتظهر الدموع بعينيها مرة أخرى ... لا تعرف الآن لما كانت تبكي أبسبب والدتها التي للآن هي مجروحة وحزينة من تصرفها أم بسبب أيهم ورؤيته لها تأكل كالمتسولة التي لم ترى أكلا بحياتها !!!!!
مسحت أنفها بالمنديل ثم أستدارت لتعد الضيافة وقد عادت الكآبة تغسل وجهها والحزن يخيم على روحها من جديد ... لتهمس داخلها بوجع فليفكر كما يشاء ... فبعد الذي أكتشفته خلال الأيام الماضية لم يعد شيئاً يهم في حياتها التي أنتهت مسبقاً !