شبكة روايتي الثقافية

شبكة روايتي الثقافية (https://www.rewity.com/forum/index.php)
-   ارشيف الروايات الطويلة المغلقة غير المكتملة (https://www.rewity.com/forum/f524/)
-   -   كذبة أيار (https://www.rewity.com/forum/t483326.html)

سحابـــه 23-07-21 06:26 PM

بدايه جميله وموفقه خير حبيبتي💙

وجد الــ 25-07-21 05:11 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة حمدة بنت عثمان (المشاركة 15588388)
بداية موفقة 👏ياختي 😍

شكرا لك حمدة ♥️

وجد الــ 25-07-21 05:12 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة mona2020 (المشاركة 15589210)
بداية جميلة ....استمري وموفقه

شكرا لك منى ♥️♥️

وجد الــ 25-07-21 05:13 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة سحابـــه (المشاركة 15589266)
بدايه جميله وموفقه خير حبيبتي💙

شكرا لك سحابة، أسعدني مرورك ♥️

وجد الــ 26-07-21 06:36 PM

( 2 )


________



حَوراءُ جَيداءُ يُستَضاءُ بِها
كَأَنَّها خوطُ بانَةٍ قَصِفُ
تَمشي كَمَشيِ الزَهراءِ في دَمَثِ الـ
رَملِ إِلى السَهلِ دونَهُ الجُرُفُ
وَلا يَغِثُّ الحَديثُ ما نَطَقَت
وَهوَ بِفيها ذو لَذَّةٍ طَرِفُ
تَخزُنُهُ وَهوَ مُشتَهى حَسَنٌ
وَهوَ إِذا ما تَكَلَّمَت أُنُفُ

— قيس بن الخطيم


_____


ابتسم بسخرية على نفسه، لقد هربت.. هربت بالفعل!
وهذا ما تجيده أيان وتتقنه، إلى جانب اتقانها لعملها في المجال الطبي.
أغمض عيناه واستنشق الهواء، الكثير منه.. علّه يتمكن استنشاق شيئا من عبيرها، بالتأكيد من سيراه بتلك الحالة سيظنه مجنونا، أو مهووسا.. منتشيا على الأرجح!
رفع رأسه ينظر إلى المكان حيث اختفت منه، قبل أن يستدير وينزل إلى الأسفل.

أما هي..
صعدت بخطوات سريعة وكأن شخصا ما يلاحقها، حتى وصلت أمام شقة عائلتها وهي تلهث بتعب.
وضعت تيم على الأرض وانحنت هي تلتقط أنفاسها.
إلا ان دقات قلبها لا زالت تخفق بجنون.
حينها غيرت رأيها وقررت الصعود إلى السطح.
أمسكت بيد تيم، وصعدت.
هناك حيث كان طاولة خشبية كبيرة، اقتربت منها وجلست عليها، ترفع رأسها وتتأمل السماء المليئة بالنجوم وهي تتنهد بضيق.
تتمنى لو تتمكن من العودة إلى الماضي، حتى لا تجرحه مجددا، لاتتركه كما تركته سابقا، لا تبتعد عنه، لا تهرب منه!
أو ربما لو تمكنت من ان تتقيأ وتلفظ جراحها وتعيش بسلام؟
لا تحتار كلما رأته، لا تضيع وترتبك بهذه الطريقة!
تنهدت تنهيدة عميقة، وهي تقول بحسرة ( لو بس قدرت تترك المبنى وتروح من هنا؟ يمكن وقتها أقدر أنساك يا حارث!).

___


( ملاذ ).
رفعت رأسها من بين كتبها على صوته المحبب، ونهضت من مكانها على الفور تخرج من غرفتها باندفاع وسرعة وهي تبتسم بسعادة غامرة.
توقفت في مكانها للحظات حين رأته، ثم ما لبثت أن ركضت ناحيته فتلقفها وضمها إلى صدره بقوة ( وحشتيني يا بنت ).
نظرت إليه تصغّر عينيها وكأنها تشكّ في صدقه، قبل أن تكتب على هاتفها بسرعة ( لو انك اشتقت لي فعلا ما غبت عني أسبوعين يا الكذاب ).
ضحك مجددا وهو يمسح على شعرها بحنان ثم يقبل رأسها ( والله اني من جد مشتاق لك، بس الظروف حدتني يا روحي، ولأني اعترف بغلطي واعترف بتقصيري جبت لك هدايا راح تحبها قلبك ).
نظرت إليه ملاذ بعينين متسعتين فضوليتين، ليمسك بيدها ويسير بها إلى غرفة المعيشة، أجلسها على أحد المقاعد، ثم استدار عنها.. وعاد يحمل بيده نبتة رائعة للغاية ( إيش رايك؟).
غطّت ملاذ فمها بكفيها وعيناها منبهرتان بما ترى، ثم هزّ رأسها بإيجاب.. وأشارت بخنصرها بمعنى ( جيد ).
ابتسم عُدي لفرحتها الظاهرة على ملامح وجهها، ليجلس بجانبها ( والهدية الثانية راح تعجبك أكثر ).
اقتربت منه ملاذ بفضول وأمالت رأسها تجاه الهاتف.
لتتغير ملامح وجهها تماما هذه المرة، ويسودّ لونه كما لو أنها رأت شبحا.
رفعت عيناها إليه بهدوء، بتعابير غامضة لم يفهم منها شيء بينما كان يراقبها بحذر.. حتى يعرف ردة فعلها.
لم تعبر نظراتها سوى عن شيء واحد، التساؤل.
ليجيب وهو يقفل الشاشة ( نسيتيها بهالسرعة ملاذ؟ هذي أيار، أيار السلطان.. المحامية ).
ظنّ أنها أبدَت اهتماما أكبر حين تذكرتها، لذا أكمل وهو يبتسم ويمسح على ذراعها ( قلت لك يا ملاذ، ووعدتك وعد شرف إني راح آخذ حقك من كل شخص آذاك، وأولهم المحامية )..
سألته عن طريق الكتابة على الهاتف ( قصدك انت ورى هالشيء؟ انت اللي فضحتها؟ ).
هزّ رأسه إيجابا، لينصدم بها تنظر إليه باستياء وخيبة أمل، ثم تنهض وتغادر الغرفة بخطوات سريعة.
تتبعها بعينيه متعجبا حتى اختفت.
ظنّ أنها ستكون سعيدة، وأنها ستشاركه!
ولكن ما الذي يحصل؟ لمَ تصرفت بهذه الطريقة؟

رفع رأسه حين سمع صوت خطوات تقترب من الغرفة، ليبتسم بدون تكلف لزوجة والده.
التي وضعت صينية طعام مليئة بعدة أصناف أمامه ( تفضل كُل، بما انك ما تجينا كثير أكيد مشتاق لأكل البيت ).
أومأ لها بإيجاب دون أن يتفوه بشيء، قبل أن يمدّ يده ويبدأ بتناول الطعام بهدوء.
تحدثت الأخرى بارتباك ( عُدي.. ليش ما تزورنا كثير؟ ملاذ تظل تسأل عنك طول الوقت، وإذا قلت لها تتصل فيك تقول انها تستحي ولا تبي تتعبك عشانها، حاول تجي مرتين في الأسبوع على الأقل ).
ابتلع طعامه يهزّ رأسه ببطء، وكأنه يحاول أن يجعلها تفهم أنه لا يرغب بالحديث معها.
فهو يعلم إلى أين تريد أن تصل بحديثها.
ولم تخطيء ظنه على الإطلاق، حين بدأت بفرك يديها ببعضهما بقوة.. ثم تحدثت بتردد ( عُدي، إنت تعرف ملاذ لسه تروح لمركز إعادة التأهيل، و... راتب تقاعد أبوك يا الله يكفينا، فـ لو...... ).
قاطعها بسؤاله بنبرة جافة ( كم تبغين؟ ).
ابتسمت بارتباك وهي تشعر ببعض الخجل، إلا انها أجابت على الفور ( مو كثير بس مصاريف العلاج ).
نهض عدُي بعد أن وضع الملعقة على الطاولة بقوة، ليخرج محفظته تحت أنظاره القلقة والمتعجبة بذات الوقت، أخرج بعض الأوراق المالية ووضعها أمامها ( أدري إنك تبغيها لنفسك، لأني أدفع مصاريف علاج ملاذ أول بأول ).
تمنت لو تنشق الأرض وتبلعها في تلك اللحظة، حين مرّ من جانبها ورمقها بنظرة حادة.
إلا إنها وفور مغادرته المنزل وسماعها لصوت الباب أخذت المال بسرعة، وفغرت فاهها بذهول.
قبل أن تقف وتقفز في مكانها بفرح وسعادة!

_____

خرج من منزل والده وهو غاضب للغاية، يكاد يفقد أعصابه.
أتى وهو سعيد وفرحان، كونه آتيا بخبر كالبشارة بالنسبة لملاذ.
ولكن ما الذي حصل للتو؟
لم تفرح؟ لم تظهر ردة الفعل التي كان ينتظرها!
غير انه اضطر للتحدث مع تلك المرأة الكريهة والبغيضة.
ركب سيارته وأقفل بابها ليمسك بالمقود بعد ذلك بقوة.. حتى ابيضّت مفاصله وبرزت عروقه بشكل مخيف.
انتظر هذه اللحظة طويلا، انتظرها لسنوات عديدة.. لم يصدق أن الفرصة أتته على طبق من ذهب، حين وُضِعت خلف القضبان، وظلّ ينتظر وقت خروجها.
يعدّ الأيام والساعات، يراقب الأوضاع.. يسأل في الأرجاء حتى علِم بموعد خروجها، يومها.....
قطع تفكيره رنين هاتفه المفاجيء، أجاب بصوت هاديء بعكس ما يشعر به من غضب ( نعم ).
كان ذلك سكرتيره ومساعده في المكتب ( أستاذ عُدي مشغول؟ في مجال تجي للشركة الحين؟ ).
اعتدل بجلسته وهو يسأل ( ليش في شيء مهم؟ ).
ردّ الآخر بارتباك وكأنه أحدهم يراقبه وما يفعل ويستمع إلى ما يقول ( المحامية أيار السلطان عندنا بالمكتب، وودها تقابلك الحين ).
بابتسامة جانبية ساخرة، إذ كان متوقعا حضورها في أي وقت ( صدق، أجل خليها تنتظر شوي.. جيت أشوف ملاذ راح أوصل خلال ساعة، قول لها لو مو حابة تنتظر ساعة ما راح تقابلني في وقت قريب ).
أغلق الخط وهو يضحك باستمتاع، قبل أن يشغّل المحرك ويتجه إلى المدينة.

__________

أمام غرفة المدير، وبجانب مكتب صغير يخص السكرتير.
تجلس على أحد المقاعد متكتفة، تضع ساقا فوق الآخر.. تنتظر بملل.
لم تصدق أنه طلب منها انتظار نصف ساعة كاملة!
هل يظن جميع الناس موظفيه وتحت إدارته؟ وماذا قال بعد؟ انها إن لم تقابله اليوم لن تفعل ذلك مرة أخرى؟
ملّت الجلوس وتعبت، خاصة وهي تسمع وترى الموظفين يروحون ويجيئون وهم يهمسون لبعضهم ويشيرون إليها.
وقفت بغضب تحت أنظار السكرتير الذي صار يتصبب عرقا من شدة توتره وارتباكه، اتسعت عيناه حين اقتربت من طاولته وسألت بنبرة جادة ومخيفة ( هو عادة يتأخر كذا؟ يخلي الناس تنتظره ساعتين؟ ).
أومأ برأسه ببطء دون أن ينظر إليها.
أمالت فمها بابتسامة ساخرة، ليحاول السكرتير تلطيف الجو قائلا بابتسامة هادئة ( ودك تشربي شيء على ما يجي؟ ).
قاطعته بغضب ( ما أبغى، ما أبغى أشرب شيء هذي المرة المليون اللي أقول فيها إني ما أبغى، ما تفهم انت؟ ).
أجفل السكرتير من غضبها، وقرر أن يلوذ بالصمت حتى تغادر المكان وتسمح له بالتنفس مجددا.
ربما استجاب الله لدعواته الخفية فأرسل إليه المنقذ، الحارث ( أستاذة أيار؟ ).
التفتت إليه أيار بقلة صبر، تسأله بغيظ.. وبنبرة منخفضة حتى لا يسمعها أحد من الجمع البسيط على بعد عدة خطوات منهم ( مديرك هذا انسان؟ كيف يقول لي انتظره نص ساعة والحين مرت ساعتين وما جا؟ ).
ابتسم الحارث بعدم تكلف حتى لا يغضبها أكثر ( ما راح يجي ترى ).
كان وقع العبارة صعبا عليها للغاية، وأغضبتها للغاية.. إلا انها سألت وبكل هدوء ( إيش قصدك حارث؟ ).
الحارث بإحباط ( المدير ما يداوم إلا بالسنة حسنة، وإذا كان الموضوع جدا ضروري وعاجل.. أدري انه قال لك تنتظريه بس صدقيني ما راح يجي، خاصة لو الموضوع متعلق باللي صار أمس، لأنه مصرّ يخليه زي ما هو، لا راح يحذف شيء ولا راح يصدر أي بيان توضيحي أو يعتذر أمام الملأ مثل ما تبغين، وما عنده مشكلة مع القضية.. تقدري تستمري فيها، لا تحاولي تقنعيه بشيء ).
أيار بقلة صبر وبعدم تصديق ( مو من جدك حارث، أنا من متى كنت أحاول أخلي الطرف الثاني يتصرف ولا يروح المحكمة؟ انت تعرف قد إيش أحب أحط الناس جوة السجن خاصة لو كنت أكرههم، أمثال مديرك يعني.. كل اللي أبغاه منه يقول لي من وين درى، وليش سوى كذا بالضبط! ).
أغمضت عيناها تحاول تنظيم أنفاسها حتى تهدأ ( عموما حارث، شكرا لأنك قلت لي انه ما راح يجي، ووصّل هالكلام لمديرك، خليه يستعد كويس وانت بعد استعد، ما راح يوقفني عن تدمير هالصحيفة القذرة أي شيء ).
أنهت عبارتها وابتعدت بخطوات غاضبة، قوية.
حتى خرجت من المبنى دون أن تتفوه بأي شيء حتى داخل نفسها، لا تظن أنها طوال حياتها شعرت بمثل هذا الغضب العارم!
ربما ذلك الأحمق عديم الضمير والانسانية، لا يعلم ما الذي فعله بها، وماذا فعل ذلك الخبر.. كيف أثّر على حياتها.

_______

بداخل إحدى العيادات النفسية..

تدخل رجاء إلى قسمها الخاص، بعد أن ردّت على سلام البعض من الممرضين والأطباء، وسلّمت على الآخرين.
كانت مبتهجة كعادتها، تضحك للجميع وتسأل عن أحوالهم كأنها صديقة مقربة لهم وليست طبيبة.
عيناها تظهران الكثير من تلك البهجة، كذلك صوتها الرحب، وكلماتها المرحة.
حتى دخلت إلى الغرفة الخاصة بها، ورفعت ذراعيها تقترب من الممرضة المساعدة لها ( وااه يارا وحشتيني كثير يا بنت، كيف كنتِ؟ ).
ابتسمت يارا تبادلها الاحتضان تجيبها بهدوء ( مو كأنك غبتِ شهور، كلها كم يوم ).
ربتت رجاء على كتفها بمودة ( حتى لو يوم واحد، ما تعرفين شكثر تعودت عليك وأفتقدك يارا ).
اكتفت يارا بإيماء بسيطة وهي تساعد رجاء على خلع العباءة، وارتداء الرداء الخاص بالعيادة.
لتسأل رجاء وهي تجلس ( المواعيد؟ ).
عضّت يارا شفتها السفلى بارتباك واحراج، تشتت عيناها تحاول ألّا تنظر إلى رجاء.
فهمت رجاء مقصدها على الفور، لتضحك بسخرية على نفسها وهي تقف ( آآآخ عشان كذا أبي أترك هالعيادة وأروح لوحدة ثانية، أبيها تكون مليانة لدرجة اني ما ألقى وقت أرتاح فيه ).
يارا التي تتعجب منها دائما وأبدا ( ليش؟ مو الأفضل انك تاخذين راتب عالي ومراجعينك قليلين؟ يعني تاخذين الفلوس وانتِ مرتاحة ).
نظرت إليها رجاء بعدم رضا ( نعم؟ وش هالكلام يارا؟ كيف آخذ فلوس على شيء ما سويته؟ بس لمجرد اني جاية أضيع وقتي في أفخم مبنى بالرياض؟ وأنا لاني قادرة أساعد أي مريض ممكن يكون بحاجتي ولا قادرة أساعد نفسي وأرضى بهالوضع ).
تنهدت بضيق وهي تتكتف وتقف أمام النافذة التي تكشف عن منظر جميل ومهيب ( قولي لي يارا وش فايدة العيادات النفسية اللي مثل عيادتنا لو اللي يحتاج استشارة بمبلغ بسيط ما يقدر يقرب صوب الأطباء الشطار اللي عندنا؟ أمثال الدكتور هيثم والدكتورة فوز؟ مو حرام؟ لو ينزلون الأسعار شوي على الأقل صدقيني العيادة راح تكون مليانة وراح نكون مشغولين بدال لا نكون متكتفين نطالع هالمظاهر ونتحسر على وقتنا الضايع ).
لم تسمع أي رد من يارا، لم يكن هناك أي شيء بعد كلامها سوى الصمت المهيب والغريب، لتستدير مقطبة جبينها بتعجب.
حينها شهقت شهقة عالية وغطت فمها بيد مرتجفة من الارتباك والتوتر.
لم تعرف ماذا عليها أن تفعل أو تقول، وهي تراها تقف مكتوفة اليدين.. رأسها مائل.. تنظر إليها بشكل غريب.
ضحكت رجاء بتوتر وهي تقترب منها بخطوات متخبطة، تكاد تقع بسبب رجفتها ( أووه دكتورة إيمان انتِ هنا؟ آسفة ما حسيت فيك، كيف حالك؟ توي قبل شوي رجعت من الإجازة ).
هزّت الطبيبة إيمان رأسها بأسى من تصرفاتها اللامبالية على الدوام ( أشوفك مو راضية عنا دكتورة رجاء؟ ).
رفعت رجاء كفيها تلّوح بهما بقوة بدلالة النفي ( لا لا.. أكيد لا مين قال هالكلام؟ كنت ... أنا كنت ).
ابتسمت إيمان وربتت على كتفها حتى تهديء من روعها ( ما عليك، تعودت على حركاتك هذي يا رجاء وكلامك الفاضي، مو كأني ما أعرفك.. المهم، دامك تحبين الشغل قد كذا جبت لك شخص يحتاج لاستشارة عاجلة، وجلسات مطولة من العلاج النفسي ).
نظرت إليها رجاء بعينين متسعتين، وبغير تصديق ( تمزحين صح؟ ).
ضحكت إيمان بصخب ( أمزح؟ تشوفين بوضعي يسمح لي أمزح مع موظفيني ؟ ).
أكملت ( صدق يا رجاء وأنا أثق فيك، هذا الشخص مقرب مني.. شخص عزيز عليّ ومهم جدا، وضروري تكون هويته مجهولة ولاحد يدري عن جيته بالعيادة مفهوم؟ أدري انه الوضع كذا مع كل المراجعين، مع ذلك هذا الشخص لو أحد درى عن جيته لهنا ما راح تكونين بخير رجاء، وقتها بحقق لك حلمك وبتطلعين من عيادتي اللي ما تبغين تضيعين وقتك فيها، بس مو لعيادة ثانية، لا.. للسجن ).
اتسعت عينا رجاء مجددا وبهلع، تكفهرت ملامحها تنظر إليها بصدمة وعدم استيعاب ( ليش طيب؟ ).
هزّت إيمان كتفيها ثم استدارت تستدير عنها ( لأنه شخصية هامة، خليك جاهزة ومستعدة.. راح يوصل خلال ربع ساعة ).

راقبتها رجاء وتأملت قفاها حتى اختفت من الممر الطويل، دخلت بعد ذلك وأغلقت الباب خلفها، لتقف أمام المرآة تسأل نفسها بنبرة مليئة بالتعجب والاستغراب ( بس ليش؟ ليش السجن؟ ).
لتزفر أنفاسها ثم تمرر عيناها على أنحاء الغرفة الواسعة ( ما علينا من كلامها، هذا مريضك يا رجاء تعاملي معاه بأسلوبك لا يخوفك كلامها الفارغ، أصلا أنا متى سربت معلومة تخص أي أحد يجيني؟ ).
دخلت يارا وقاطعت أفكارها، تسأل بفضول ( إيش قالت ؟ ).
اتجهت رجاء إلى مكتبها وانحنت تخرج شيئا ما من الدرج ( في شخصية هامة على قولتها، راح يراجعنا من اليوم ورايح.. رتبي المكان وجهزيه مثل دايم ).
أخرجت رجاء ولاعة من حقيبتها، وأشعلت بها احد شموعها العطرية.. برائحة اللافندر، والتي تبعث الدفء والهدوء، وتشعر بالطمأنينة.
أكملت يارا ترتيب باقي الأشياء، حتى انتهت الربع ساعة.. وخرجت يارا، تاركة رجاء بمفردها، تنتظر تلك الشخصية الهامة!
لم تنتظر طويلا، كانت ربع ساعة بالتمام.. حين دخلت إيمان مجددا، ثم أشارت لمن خلفها بالدخول.
وقفت رجاء ترحب به وهي في مكانها، بينما إيمان تعرفهما على بعضهما ( هذي الدكتورة رجاء، وهذا الأستاذ علي الناصر ).
تكلمت رجاء دون أن تشعر ( خوفتيني على الفاضي دكتورة إيمان، جلستِ تحذريني حتى اعتقدت انه واحد من المشاهير أو أحد أفراد العائلة المالكة ).
رفع علي عيناه إليها بتعجب، وشيء من الذعر.. بينما إيمان رمقتها بحدة.
لتنتبه إلى ما قالته وتضرب فمها وهي تشعر بالإحراج ( آسفة، أقصد.. لا تشيلين هم، بحياتي ما غلطت مثل هالغلطة وسربت معلومات المراجعين عندي ).
ابتسمت إيمان بإحراج لعلي، ثم أومأت له باحترام وغادرت الغرفة بعد أن وضعت ملفه على مكتب رجاء.
ليظل هو واقفا في مكانه مرتبكا ومنحرجا.
ابتسمت رجاء حتى تشعره بالإطمئنان ( تفضل اجلس ).
اقترب عليّ بخطوات مترددة، حتى جلس على أحد المقاعد أمامها.
وجلست هي تتأمله وحركاته وانفعالاته للحظات قصيرة قبل أن تسأل ( إيش ودك تشرب؟ ).
أجاب الآخر بعد صمت قصير وهو يهزّ رأسه نفيا عدة مرات ( لا ولا شيء ما في داعي ).
أومأت رجاء رأسها بتفهم ( تمام براحتك.. قول لي الحين، إيش اللي تعاني منه بالضبط؟ تكلم خذ راحتك ).
ساد المكان صمت مهيب مجددا، كان عاديا بالنسبة لرجاء التي اعتادت على التعامل مع مختلف الأنواع من البشر حتى لو لم يأتِها الكثير ممن يعانون من بعض الاضطرابات.
لكنه لم يكن كذلك بالنسبة لعلي، فهو شعر على الفور أن سؤالها العادي جعله يهبط في قاعِ مظلم سحيق، ليجيب بعينين دامعتين وهو يفرك يديه بقوة حتى اتضحت عروق يديه واحمرّ وجهه بشدة ( أبوي، أبوي يضربني ).
لتقطب رجاء جبينها بتعجب، ثم تفتح الملف.. تقرأ الورقة الأولى قراءة سريعة صامتة، تبحث عن تاريخ ميلاده، لتجده في الـ 28 من عمره!
هل يُعقل؟ أن يُضرب أحدهم وهو بهذا العمر؟


_____


لمَ لستُ قادرة على النوم الليلة؟
لمَ تعصف بذهني كل هذه الأمور؟ كل الذكريات.. تتخبط ببعضها، فتسبب لي هذا الألم الفتّاك.. الذي ربما سيفجّر رأسي عمّا قريب.
هل كانت الآلام بهذه الحدة دائما؟ هل كانت بهذا القدر من العظمة بالنسبة لي؟
إذن لمَ أبدو الآن وأنا في فراشي، بهذا الوهن.. وهذا الضعف؟

منذ أن فاتحها حُسام بالموضوع بطريقة عفوية، بل عشوائية.. وعقلها لم يتوقف عن التفكير لحظة واحدة.
لمَ يفعل بها ذلك؟ لمَ يرغب بإيذائها إلى هذا الحد؟ أليس هو من انتشلها من الوجع في الماضي؟
ألمْ يعده بأنه لن يسمح حتى للشوكة بأذيتها؟
الآن.. هو بنفسه يغرس تلك الشوكة بها.. معللا بأسباب حمقاء للغاية!
ماذا؟ وصية والدتها؟ هل كانت تملك ذلك الوقت؟ الذي سمح لها بكتابة وصية من أجلها!
إذن لمْ يكُن عليها أن تكتب مثل هذه الوصية الخرقاء، وتجعلهم يربطون اسمها باسم ضياء، وهم مجرد أطفال.
لم يكن عليها محاولة ربط مصيرها بمصير من شهد كل ذلك، من يعرف كل شيء عنها، عن حياتها.
عن كل التفاصيل المؤلمة والمحرجة، يعرف ما لا تعرفه هي عن نفسها.
هي لا تطيق ذلك، لن تتحمل الحياة معه!

_____



يحدث أحياناً أن أبكي
مثل الأطفال بلا سببٍ
يحدث أن أسأم من عَينَيَ بلا سببٍ
يحدث أن أتعب من كلماتي
يحدث أن أتعب من تعبي
و بلا سببٍ


— نزار قباني

مهضومه 28-07-21 04:55 AM

بالتوفيق لي عوده عشان تعليق اكبر ....🌼

وجد الــ 29-07-21 11:24 PM

( 3 )



____


وَاتْرُكِ الْحِرْصَ تَعِشْ في رَاحَة ٍ
قلَّما نالَ مُناهُ من حرَصْ
قد يضرُّ الشئُ ترجو نَفعهُ
رُبَّ ظَمْآنَ بِصَفْوِ الْمَاءِ غَصْ



— محمود سامي البارودي

____

تدخل إلى المنزل بجسد واهن وضعيف، فاقد للروح.
بدت وكأنها لا تقوى على السير إطلاقا، ربما لا تقوى حتى على رفع جفنيها للنظر إلى ما أمامها.
لم تنتبه إلى ما كان على الأرض، وتمشي فوقه.. حتى شعرت بشيء قوي يخترق باطن قدمها ويدميها.
تأوهت بألم وهي تجلس أرضا على الفور، بينما من أسقطت الكوب الزجاجي صاحت مذعورة ( يمه أيار ).
جلست بجانبها بعد أن سارت بحذر، وأحنَت رأسها لتشهق بصوت عالي، ثم ترفع صوتها عاليا أيضا ( كايد.. كاااااايد ).
خرج كايد من حجرته مرتاعا من صوتها الذي نبأ أن هناك مصيبة.
لتتسع عينيه بفزع وهو يرى الدماء تنزل من قدم أيار المكشوف كماء شلال، أسرع ناحيتها وجلس قريبا منها.. يسأل ليال ( إيش اللي صار؟ ).
كانت ليال ترتجف من رؤيتها لهذا المنظر، ثم من خوفها الكبير على أختها.. لم تتمكن من الرد، إذ سقطت مغشيا عليها حين صارت قدم أيار تنزف المزيد من الدماء.
تأفف منها كايد، قبل أن يحملها برفق ويضعها على الأريكة، ليعود إلى أيار بسرعة ويلقي نظرة على الجرح، تحدث بقلق ( واضح انه جرح عميق، لازم نروح المستشفى، تقدري تقومي لوحدك ولا أساعدك؟ ).
كانت عيناه على الجرح وهو ينتظر إجابتها، لذا رفع رأسه مستغربا حين لم يسمع منها أي رد يدل على انها سمعت سؤاله من الأساس، أمسك بكفها برفق ( أيار، تسمعيني؟ أساعدك ولا تقومين بنفسك؟ ).
دقق النظر إليها، لينصدم بعينيها الدامعتين وتعابير وجهها الساكنة.
كأنها شاردة الذهن، عقلها ليس هنا بل في مكان آخر.
بدَت وكأنها لا تتألم من ذلك الجرح العميق.
هزّها من ذراعها برفق ( أيار ! ).
نظرت إليه متفاجئة، وللتو شعرت به ( هااه؟ ).
عضّ كايد باطن شفته وهو يحكّ مؤخرة رأسه، قبل أن يشير إلى قدمها ( رجلك، لازم نروح المستشفى ).
أخفضت رأسها تنظر حيث أشار، لتتسع عينيها.. ثم تهدأ ملامحها مجددا، قبل أن تتدفق المزيد من الدموع من محاجرها.
ثم تصدم كايد ببكاءها وشهقاتها المرتفعة والمتتالية، حيث أمسكت بقميصه ووضعت رأسها على كتفه بضعف، قائلة بنبرة أدمت قلب شقيقها ( يعور كايد يعور ).
واصلت البكاء، وشهقاتها ترتفع أكثر فأكثر.. وكايد يمسح على ظهرها بلطف، وبعجز.
لم يكن ذكيا بما يكفي ليفهم مقصدها ويعلم أن ما كان يؤلمها قلبها، بل ظنّ أنها غير قادرة على تحمل ألم قدمها بالفعل.
لذا استجمع قوته، وأبعدها عنه قبل أن يستدير عنها، ثم يحملها على ظهره ( بسرعة ما عندنا وقت، راح تخسرين دمك كله ).
شهقت أيار بصدمة وعيناها تتسع ( كايد مجنون؟ راح يشوفونا الجيران ).
( خليهم ).

في طريقهما إلى المستشفى..
اتصل كايد بأيان يطلب منها الصعود إلى منزلهم للإطمئنان على حالة ليال.
إلا ان الأخرى أخبرته أنها في مناوبة ليلية.
اتصل بعد ذلك برجاء، وأخبرته هي أيضا أنها لا تستطيع العودة باكرا.. لذا لم يجد بدا من الاتصال بعمته، والدة الحارث.

_______

صباح اليوم التالي.
الخامس من يونيو.

على أحد مقاعد الطوارئ، يجلس ورأسه مائل.. وقد غلبه النعاس.
إلا انه انتبه على الفور، وهزّ رأسه قبل أن يقف ويحرك ذراعيه إلى الأعلى ثم الأسفل ليستعيد نشاطه.
نظر إلى ساعة معصمه، كانت تشير إلى الخامسة فجرا.
ليعيد أنظاره إلى أيار النائمة بهدوء.
كان الجرح عميقا بالفعل، القطعة التي دخلت بها لم تكن صغيرة.
لذا استغرق تنظيفه وخياطته بعض الوقت، إلا انه لم يكن السبب الأساسي لتنويمها.. بل بسبب ضعف جسدها، نتيجة سوء التغذية لفترة طويلة!
ربما في الفترة التي كانت بها وراء القضبان، لم تتناول الطعام جيدا.. لذا أصبحت هكذا، نحيلة للغاية وضعيفة.
بينما في السابق كانت نشيطة وقوية جدا.. تنافس عشرات الرجال مثله هو بنشاطها المفرط.
تعمل طوال اليوم دون أن تملّ أو تتعب.
إذا ما الذي أوصلها إلى هذه الحالة؟
شقيقته المسكينة! التي كان كل همها عائلتها.
كانت تحاول بكل جهدها أن تجني ما يكفي لتغيير حياتهم للأفضل، تمكنت من ذلك بالفعل، إلا انها لا تشعر بالرضى.. ترغب بتقديم بالمزيد لوالديها.
تريد منهما أن يعيشا في قصر كبير للغاية، قصر يليق بهما وبمكانتهما.
جزاء لتربيتهما الحسنة لها ولأولادهم..
أيار وأيان أكبر الأولاد، بلغتا الـ33 من عمرهما قبل أمس، ثم رجاء البالغة 30 سنة، ثم هو.. 28 سنة، ثم الصغرى ليال، 19 سنة.
لم تكن أيار وحدها من تفكر بتلك الطريقة، بل الجميع.
أيان التي بذلت الكثير من الجهد أيضا حتى أصبحت طبيبة، بالرغم من انها تأخرت بضع سنوات بسبب زواجها ثم انجابها لـ تيم.
أما رجاء.. فكان ذلك حلمها منذ الصغر، بسبب حبها الكبير للناس وشخصيتها المرحة الرائعة، أرادت أن تستمتع لآلامهم وتساعدهم على تجاوزها.
كذلك ليال.. تحلم أن تصبح محامية مثل أيار!
عداه هو، لكونه الذكر الوحيد بين 3 إناث، كان مدللا للغاية.
الدلال الذي أفسده وجعله يهمل دراسته، ولا زال يحاول المواصلة حتى يتمكن من مجاراة شقيقاته على الأقل!
والدين مثل هذان، قدما كل ما يملكان.. وبذلا الغالي والنفيس من أجلهم، يستحقان الكثير بالتأكيد.

انتبه من شروده على صوت أيار الواهن، وهي ترفع يدها نحوه وتناديه، ليقترب منها بسرعة ويسألها بقلق ( تبين شيء؟ تتعورين ولا تتألمين في أي مكان؟ ).
ابتسمت أيار وهي تنظر إلى الأنبوب الموصل بيدها ( ليش كل هالمبالغة كايد؟ كله جرح بالرجل ).
كايد باحباط ( ليته كان مجرد جرح، حطوا لك مغذي لأنك تعانين من سوء التغذية، وأنا أقول انك نحفتِ كثير، أيار كنتِ تاكلين شيء بالسجن؟ ).
رفعت عيناها للسقف تزفر أنفاسها بضيق ( أكلت ولا ما أكلت.. ما عاد أبي أتذكر هذيك الأيام، لا تسأل ).
سأل كايد بعد صمت قصير، وبعد تردد وارتباك، يشبك أصابعه ببعضها ويحركها بتوتر ( ما دامك بتندمين لهالدرجة، ليش سويتِ كذا أيار؟ ).
نظرت إليه بتعجب ( إيش سويت؟ ).
هز كتفيه ( ما أعرف، أيا كان هذا اللي خلاهم يسجنوك ).
شتتت أيار أنظارها بعيدا عنه دون أن تجيب على سؤاله.
ليقول هو بعد أن جلس على الكرسي ( أيار احنا أهلك مع ذلك ما تحبين تقولي لنا شيء، لا نعرف السبب ولا كنا أصلا عارفين انك بتروحين للسجن، قلتِ لنا انك مسافرة.. كان لازم ننصدم واحنا نسمع بالصدفة من أيان بعد كم يوم؟ ولا كأننا اخوانك ).
أيار بهدوء ( حتى لو قلت لكم إيش اللي كان بيتغير؟ لو حارث وهو محامي شاطر ما قدر يدافع عني ولا قدر يساعدني بأي طريقة ؟ ).
ضحك كايد ضحكة قصيرة ( حتى لو ما كنا كفو ولا مفيدين لك مثل حارث كنا بندعمك عاطفيا على الأقل، أكيد الموضوع ما كان هيّن عليك ).
رمقته أيار بحدة ( وش هالكلام الفاضي؟ مين قال اني ما أتعامل إلا مع الناس اللي تفيدني؟ أنا ما علمتكم عشان ما تشيلون هم ولا تقلقون، الوضوع منتهي كايد ).
هزّ كايد رأسه متفهما، طالما كانت أيار كذلك.. مراعية للجميع حتى وإن كانت قاسية للغاية.
سأل بفضول ( بس أيار أحس مستحيل، ليش يتهموك بمثل هالتهمة؟ مستحيل تكوني محتالة ).
أيار بغضب حقيقي هذه المرة ( كايد يكفي ).
أجفل كايد من صوتها الغاضب، ليغمض عينيه بقلة حيلة ثم يلوذ بالصمت.
بالرغم من انه يرغب بمعرفة المزيد، ويرغب بفعل أي شيء من أجل شقيقته.. إلا انه شبه عاجز.
ولا يتمكن من ارغامها على الحديث الآن وهي بهذه الحالة.

__________


السادسة صباحا..

بعد انتهائها من مناوبتها الليلية، عادت سريعا وهي قلقة.
حيث أخبرها كايد بكل ما حدث.
طرقت الباب على عجل وهي تنادي باسم ليال، وانتظرت قليلا حتى فتح لهما أحدهم الباب، اتسعت عيناها بدهشة وارتباك وهي ترى عمتها، دخلت وصافحتها باحترام، تحاول اخفاء ارتباكها وتوترها ( صباح الخير عمتي ).
أجابتها الأخرى بلا مبالاة ثم عادت إلى الصالة.
لتقول وهي تجلس حتى قبل أن تستفسر هي عن شيء( ليال نايمة لا تصحيها، وأيار لسه ما رجعت ).
أومأت برأسها بصمت وهي تخلع حجابها ثم تجلس، أخذت تعصر يديها وتشتت أنظارها، تجيل بصرها على جميع أنحاء المنزل، لا تدري ماذا عليها أن تفعل بالضبط.
وجودها بمفردها مع والدة الحارث مربك للغاية.
لم تتوقع أبدا ولم تتمنى أن تكون بمثل هذا الوضع.
نظرت إليها بطرف عينها، وهي تصبّ القهوة لنفسها وتتظاهر بالانشغال بمشاهدة التلفاز.
سحبت أيان لرئتيها هواءً عميقا ثم زفرته حتى تهديء ضربات قلبها المتسارعة، لتنظر إلى عمتها بعد ذلك قائلة بهدوء ( تقدري تروحي ترتاحي الحين عمتي، أنا بهتم بليال ).
رمقتها الأخرى بحدة ( تطرديني من بيت أخوي؟ ).
هزّت أيان رأسها نفيا بسرعة ( لا مستحيل ليش أطردك؟ أقصد.. أكيد تعبتِ من السهر طول الليل ).
ردَت والدة الحارث ببرود وهي تعيد أنظارها إلى شاشة التلفاز ( روحي انتِ، أكيد زوجك وولدك ينتظرونك ).
هزّت رأسها إيجابا حين علمت أن عمتها لن تتراجع عن قرارها ( تمام أجل بنتظر أيار ).
شتمت نفسها بداخلها بعد أن استوعبت ما قالت، كانت ستتمكن من رؤيتها في أي وقت، ليس من الضروري أن تنتظرها الآن وتجلس بمفردها مع عمتها!
الوضع غريب للغاية، ومربك جدا.
وهي أيضا تشعر الحرج، ما فعلته لم يكن هيّنا.
لذا.. تخشى أن تتحدث عمتها عمّا حدث في الماضي، حينها لن تتمكن من فتح فمها بشيء، لن تتمكن من الرد عليها إطلاقا.
لم تخيب عمتها هذا الظن، إذ سألتها ودون أن تنظر إليها ( مبسوطة يا أيان؟ ).
( هااه؟ ).
لم تعقب عمتها بكلمة أخرى، وكأنها تجعلها تتأكد بنفسها أنها سمعتها جيدا.. لذا لا داعي لتكرار السؤال!
ضحكت أيان بارتباك وأجابت وهي تكاد تتلعثم ( أنا؟ طبعا مبسوطة ليش ما أكون مبسوطة؟ ).
سؤال آخر، أشبه بالتطفل ( بس اللي أشوفه عكس هالكلام ).
أظلمت عينا أيان فجأة، واختفت ابتسامتها المصطنعة وهي تسأل ( إيش قصدك؟ ).
لم تنظر إليها عمتها، إلا انها تمكنت من رؤية ابتسامتها الجانبية وهي تجيبها بذات الهدوء ( أنا أتكلم عن اللي تشوفه عيني وتسمعه أذني، لا تنسين انه بيتي قدام بيتك تماما، أعرف وأشوف متى تطلعين ومتى ترجعين، وزوجك متى يطلع ومتى يرجع.. تتعمدين تخرجين بوقت تواجده في البيت، وإذا رجعتِ وكان موجود تطلعينه بأي طريقة، هذا غير الصراخ اللي أسمعه بين فترة وفترة.. صراخ زوجك طبعا لأنك دايم هادئة وتمسكين أعصابك حتى لو تكونين زعلانة ومعصبة، هذي مستحيل تكون حياة وحدة مبسوطة ).
كانت أيان فاغرة فاهها بذهول، أصيبت بصدمة عظيمة جعلتها تجفل.. حتى تحدثت أخيرا بعد فترة صمت لم تكن قصيرة، وبنبرة في قمة الجدية، حتى باتت مخيفة ( تتجسسين عليّ؟ هذا هو انتقامك مني؟ اسمحي لي عمتي، بس لو إيش ما سويت لولدك مو من حقك تراقبيني بهالطريقة القذرة عشان تثبتي لي انه ولدك أفضل الكائنات الحية على وجه البسيطة، وإني يوم رفضته ضيعت من يدي كنز عظيم ).
ضحكت العمة بطريقة مستفزة، قبل أن تقول ( بس ما تقدرين تنكرين هالشيء، إنك فعلا ضيعتِ من يدك شيء ثمين يا أيان، الشيء الوحيد اللي أبي أعرفه إيش أعجبك في هالولد؟ لا مال ولا جاه.. شهادته يا الله تسمح له يشتغل بوظيفة كويسة، عشان كذا كل ما توظف في شركة ينطرد منها بعد كم يوم! وما كفاه انه حظه سيء وفقير عشان يعتمد عليك بكل شيء ).
لم تفقد أيان قدرتها على السيطرة على غضبها بعد، بالرغم من أن نار الغيظ تحرقها من الداخل ( ممكن ما يكون أحسن من ولدك من نواحي كثيرة ويمكن فعلا ما أكون مبسوطة معاه مثل ما تقولين، بس يظل زوجي وأبو ولدي.. عشان كذا ما أسمح لك تتكلمين عنه بهالطريقة، صدقيني عمتي لو ما وقفتِ حركاتك ما أقدر أضمن لك نفسي، أنا مو دايم هادئة كذا ).
رمقتها مجددا بحدة ( ما راح تسأليني ليش قاعدة أراقبك كل هالوقت؟ لو انك اكتفيتِ بتركك لولدك وزواجك من هالنكرة كنت بتفهم وأنسى بمرور الوقت، بس لما تظلين في نفس البيت اللي فيه الشخص اللي جرحتيه، لا وفي الشقة اللي قدامه على طول! وتخليه يشوف حياتك البائسة ويتوجع ويلوم نفسه كل يوم مع انه بريء وانتِ الظالمة، أكيد راح أحاول أسوي أي شيء ممكن يشفي غليلي، حتى لو اضطريت أفضحك قدام أهل الحيّ مستقبلا ).
لمعت عينا أيان مجددا، واحتدّت للغاية، أصبحت كما لو انها عينا وحش يقترب من فريسته بحذر، وسيهجم عليها بأي لحظة، حين قالت العمة ( اطلعي من هالبيت يا أيار واتركي ولدي يعيش بسلام، يوم انك تركتيه اتركي عنك الأنانية بعد واعطيه فرصة ينساك ).
أكملت بسخرية لاذعة، جعلت جسد أيان يقشعر بشدة حتى ظنت أن طنا من الأشواك أُلقيت عليها ( مع اني أدري إنه زوجك المسكين ما راح يتحمل إيجار أي بيت ثاني غير هذا، بالنهاية راح تضطري انتِ تدفعي الإيجار بنفسك والمسؤولية كلها تصير عليك، السبب اللي خلاك تستأجرين الشقة هذي من جدتك لأنها أعطتك إياها بسعر رخيص، وانتِ بطبيعتك مقهورة انك مضطرة تتحملي حتى نص المسؤولية بسبب زوجك الشبه عاطل ).
يا إلهي..
ما كل هذا الهراء؟ ما الذي تتفوه به هذه المرأة؟
هل كانت تحقد عليها بهذا الشكل من قبل؟
هل كانت تكتم كل هذا في قلبها؟
هل كانت تنتظر أن تنفرد بها حتى تفجر بوجهها كل المفاجآت؟

بينما كانت أيان تحاول بذل المزيد من الجهد لكي لا تفقد أعصابها، وساد هذا الصمت المخيف والغريب.. نظرت إليها عمتها مستغربة.
وأجفلت وهي ترى هذه النظرة الشريرة والمخيفة للغاية بعينَي أيان.
ويداها ترتجفان بشكل غريب.
أخذت تراقبها وتتأملها بتوتر من هذه التعابير الغامضة، لذا لم تنتبه أيا منهما إلى رجاء التي فتحت الباب بمفتاحها ودخلت، لترى هذا المنظر فور دخولها وتزدرد ريقها بصعوبة.
وهي منصدمة للغاية.. بسبب رؤيتها لأيان بمفردها مع عمتها، ثم نظرات أيان المخيفة.
تنحنحت رجاء، وعبثا حاولت أن تجعل الجو لطيفا ( صباح الخير عمتي، من متى إنتِ هنا؟ ).
قبل أن تجيب العمة بشيء، نهضت أيان من مكانها وانقضّت عليها بشكل مفاجيء، جعلها تجفل وتصرخ بفزع.
أمسكت أيان بذراعها بغضب وهي تصرخ بها ( وين كنتِ طول الليل؟ ليش ما رجعتِ من الدوام على طول؟ ليش تخلين الغرباء يدخلون بيتنا وما في أحد من أهل البيت غير وحدة تعبانة مغمى عليها؟ ليش سمحتِ للغريب يهتم فيها ).
رمشت رجاء عيناها بشكل متتالي، ومررت أنظارها على جميع أنحاء وجه أيان حتى تتأكد.. إن كانت هي بين يديها أم بين يدي أيار!
ردّت وهي تسحب ذراعها من قبضة أيان المؤلمة ( إيش فيك أيان ليش عصبتِ عليّ، كلمتني أمي ورحت للديرة مع البنات، ورجعت معاهم مرة وحدة ).
كانت أيان تتنفس بسرعة وصدرها يعلو ويهبط في حركة تعبّر عن مدى انفعالها، وبعد أن ردّت عليها رجاء.. ساد في الجو صمت كئيب، وأصبح الجو محرجا للغاية.
ليرتفع صوت عمتها التي وقفت فجأة وعيناها تدمعان ( أنا غريبة يا أيان؟ كيف تقولين هالكلام وأنا سهرانة طول الليل أهتم بأختك بدون ما أغمض عيني ثانية وحدة، وكل شوي اتصل بكايد أتطمن على أيار، بالنهاية هذا اللي أسمعه منك؟ كأني بسرق أخوي يعني ولا أأذي أختك ).
كانت أيان تنظر إليها باستغراب تام، لمَ تبكي؟ لمَ تتصرف بهذه الطريقة فجأة بعد أن جعلتها تتجرع السمّ قبل لحظات؟
ضحكت بسخرية وهي تسأل ( الحين راح تتصرفين كذا؟ كأنك بريئة وما سويتِ شيء؟ ).
شهقت رجاء وغطت فمها بسرعة وهي غير قادرة على تصديق ما تراه عينها.
تجاهلتها العمة وأسرعت ناحية الباب، حيث كان والدَي أيان يقفان على وجهيهما تعابير غامضة.
تتبعتها أيان بعينيها وانصدمت وهي ترى والديها، لم تعلم أبدا أنهما يقفان هناك!
تراجعت خطواتها إلى الخلف دون أن تشعر.
أوقفتها والدة أيان ( وين رايحة يا نورة؟ وإيش اللي صار هنا؟ ).
نورة وهي تبكي بحزن ( هذا هو قدري عند بناتك يا فوزية، هذا الكلام اللي أسمعه منهم.. بعد ما سهرت طول الليل هذي جزاتي، بعدي بروح بيتي، وهذي آخر مرة أجي فيها هنا ).
كانت دقات قلب أيان تتسارع وأنفاسها تتباطأ وهي ترى هذا المشهد الغريب.
شعرت وكأنها داخل أحد الأحلام المزعجة.
إذ كانت والدتها تحاول جاهدة أن تمنع نورة من المغادرة وهي غاضبة، كذلك والدها ورجاء.
لم تنتبه لنفسها أبدا، ولا لدموعها وهي تنزل وتبلل خديها.. حتى اختفت نورة وغادرت رغما عن الجميع، ثم اقتربت منها والدتها، لترفع كفها وتطبقها على خدها بكل ما أوتيت من قوة.
حتى دوى صدى تلك الضربة بأنحاء البيت، ورنّت أذن أيان.
التي ألجمتها الصدمة، ونظرت إلى والدتها بغير تصديق، وهي توبخها كما توبخ أيار دائما ( ما كفاك اللي سويتيه بحقها هي وولدها؟ مين سمح لك تعامليها كذا؟ مين سمح لك تقللين من قدرها وهي في بيتي، بيتي أنا ).
كانت تشير إلى نفسها وهي ترتجف من شدة الغضب.
قبل أن تبتعد وهي تهز رأسها بأسى وإحباط، قائلة ( اطلعي من بيتي الحين، ولا عاد أشوف وجهك مرة ثانية ).
رفعت عيناها إلى والدها الذي رمقها بأكثر نظرة كرهتها في حياتها على الإطلاق، كأنه يريد أن يؤكد لها أنها خيّبت ظنه بجدارة.
ليترك هو الآخر المكان ويخرج من المنزل، مغلقا الباب خلفه بقوة.
أصبحت رجاء بمفردها مع شقيقتها في هذا الموقف المربك، ولم تعرف ماذا عليها أن تفعل.
حتى خرجت ليال من حجرتها مسرعة، لتقف أمام أيان تنظر إلى وجهها.
شهقت بصوت عالي وهي ترى هذا المنظر، حيث كانت وجنة أيان حمراء للغاية، وكأن كل الدماء بجسدها تجمعت بتلك المنطقة، وأصبح شكلها مخيفا.
علمت أيان من نظراتها المشفقة أنها سمعت كل ما دار بينها وبين عمتها، تحدثت بصوت متحشرج وهي تأخذ حجابها وتلفه بإهمال ثم تحمل حقيبتها ( لا تقولي لهم شيء، لأنك لو قلتِ ما راح يوقفني شيء عن قتلك يا ليال ).
هزّت ليال رأسها بتردد وهي تتبعها بنظراتها حتى خرجت من المنزل.
أمعنت رجاء النظر فيها بقلق، ولم يخطيء ظنها.. حين فقدت ليال الوعي مجددا، فقط بسبب رؤيتها لوجنة أيان!

________


ربما للمرة الأولى في حياته منذ أن أنشأ هذه الشركة الصغيرة الخاصة به، يأتي إلى العمل باكرا.
حتى إنّ الموظفين كانوا مذهولين للغاية ومصابين بالدهشة.
ليس بسبب حضوره في هذا الوقت فقط، بل وأحضر لهم القهوة أيضا!
كان الحارث يسير بجانبه، يحمل الباقي من أكواب القهوة ذات الرائحة المنعشة.
حيّاهم بابتسامة واسعة، ابتسامة عذبة.. نادرة للغاية!
ثم بدأ يوزع على كل واحد منهم قهوته المفضلة لديه.
هذه المرة لم يتمكنوا من التفوه بأي كلمة بسبب ذهولهم وعدم تصديقهم لما يحصل، وليس بسبب خشيتهم غضبه.
ضحك عدُي وهو يقف بجانب الباب قبل أن يغادر ( إيش فيكم مصدومين كذا؟ اعتبروا القهوة مكافأة على جهودكم خلال اليومين الماضية، أدري إنه الأمور كانت صعبة عليكم وفوق كذا ما سمعت لكم، لكن مثل ما شفتوا.. بعد هالخبر انهالت علينا عروض الإعلانات، واللي كلكم اشتغلتوا عليها أمس وما قصرتوا، وأبغاكم تعرفون هالشيء.. دايم الأزمات تخلق الفرص، لما نشرت الخبر عن المحامية كلكم زعلتوا وتضايقتوا، بس لما زادت الشركات اللي تبغى تتعامل معانا كلكم فرحتوا ولا؟ ).
أمال فمه بسخرية وهو يراهم يطأطؤون رؤوسهم خجلا، أو بالأصح.. اتفاقا لما قاله للتو.
ليغادر المكان متجها إلى مكتبه الخاص، يتبعه الحارث ( قول لي إيش اللي صار الحين؟ ).
فتح عُدي الباب وجلس على مقعده حين أكمل الحارث ( وبعدين إيش اللي سويته أمس؟ قلت انك بتجي تقابل المحامية وما جيت ).
عُدي بابتسامته الهادئة المستفزة ( وليش لازم أقابلها؟ مو انت اللي تمثل الشركة قانونيا؟ المفروض تتكلم معك انت مو أنا ).
جلس الحارث على أحد المقاعد أمامه ( بس ما يصير كذا، انت ما تعرف إيش العواقب اللي ممكن تواجهها مستقبلا بسبب اللي سويته، كنت قابلتها على الأقل وسمعت لها وقدمت لها تفسير معقول ).
بدا عُدي وكأنه يحاول كظم غيظه وهو يفعل حركته المعتادة، يضرب القلم على الطاولة بطريقته المربكة ( وليش لازم أسوي هالشيء؟ أنا سويت شيء غلط؟ هذا شغلنا وهذا اللي نسويه في الصحيفة، مو غلطي انها ارتكبت غلط خلاها تنسجن 6 شهور ).
لم يعرف الحارث بماذا عليه أن يرد.
عُدي محقا بالفعل، وأيار لن تلومه على نشر أي شيء.. فقط ترغب بمعرفة مصدره.
هذا ما أخبرته به.
وهو أيضا يرغب بالمعرفة، ولكنه يخشى سؤال عُدي.. يخشى أن يفتح له المزيد من الأبواب التي قد تضر أيار أكثر.
انتبه من شروده على سؤال عُدي، الذي كان كان يدقق النظر فيه ( مخبي عني شيء؟ ).
( مثل إيش؟ ).
هزّ عُدي كتفيه ( ما أعرف، انت أكيد قابلتها.. ما قدرت تعرف السبب اللي خلاها تنسجن؟ ).
قطّب الحارث جبينه بحدة ( ليش؟ تبي سبق صحفي جديد؟ بدون ما تهتم إذا هالخبر يضر أحد ولا لا؟ ).
تظاهر عُدي بالبراءة ( ليش حارث؟ ليش قاعد تحاول تتهمني كل شوي؟ أنا ما ضريت أحد، كل اللي سويته إني خليت الناس تعرف أي نوع من الأشخاص هي، وإنه مو أي واحد يشتغل بالقانون يكون جدير بالثقة ).
وقف الحارث حين شعر أنه سيفقد أعصابه إن سمع المزيد من هراء عُدي ( ما أعرف شيء، والحين اسمح لي، بروح أجهز أوراق القضية ).
توقف في مكانه حين قال عُدي ببرود ( ما في داعي لأنها أسقطت القضية، أكيد وصلك اشعار الحين على إيميلك ).
استدار إليه الحارث وعيناه متسعتان بذهول وصدمة.
مستحيل! كيف لشيء مثل هذا أن يحدث؟
أيار لن تفعل ذلك، إطلاقا!
كان عُدي يراقب انفعالاته وهو يشعر بالنشوة والانتصار، خاصة حين سأل الحارث وهو لا زال تحت تأثير الصدمة ( مستحيل، إيش سويت؟ ).
تظاهر باللامبالاة وهو يجيبه باختصار ( كلمت المكتب اللي تشتغل فيه، أقنعتهم وقلت انه هذا شغلي، عرضت عليهم مبلغ كافي للتعويض ووافقوا ).
رفع هاتفه حين رنّ، ثم أشار للحارث نحو الباب.. ليغادر بخطوات متثاقلة من الصدمة وعدم التصديق.
أيار لن تكون بخير! أُجبرت على ذلك بالتأكيد.
لم يعهدها ضعيفة، أو تستسلم بهذه السهولة.

رفع عُدي الهاتف إلى اذنه وظل صامتا ينتظر الطرف الآخر، والذي لم يتحدث على الفور أيضا.
بل كانت تصله صوت أنفاس غاضبة، وكان هو يستمتع بذلك أيّما استمتاع!
حتى تحدثت أخيرا، بنبرة خافتة.. ضعيفة وواهنة بعكس ما توقع ( تتوقع اني بستسلم بهالسهولة؟ ).
أخذ وقته قبل أن يرّد عليها، وهو يدور بكرسيه ذي العجلات بكل برود ( لا أبدا، بس أحس اني مليت، وودي لو نبدأ الجولة الثانية بسرعة ).
ساد صمت قصير، كان عُدي خلاله يبتسم باستمتاع مجددا كأنه يقرأ أفكارها.
علَم أنها كانت مستغربة ومستنكرة ما قال، لتؤكد له بسؤالها ( جولة ثانية؟ ).
( إيه، مستحيل تكوني صدقتِ كلامي يوم قلت إنه اللي سويته كان مجرد عمل بديهي للصحيفة، كنت متوقع انك أذكى من كذا، وراح تعرفين فورا انه الموضوع شخصي بحت ).
كان هذا دورها كي تدهشه، بل تجعله عاجزا عن الكلام حين قالت بصوت هاديء للغاية ( عُدي الناصر؟ تعرف شخص اسمه ..... الناصر؟ ).
سقط القلم من يده من فرط دهشته.
ولم يتمكن من الرد عليها، حينها أكملت هي بذات الصوت والنبرة ( راح أقبل عرضك السخي وأتنازل عن القضية، عشان كذا بطل تتدخل في شغلي وحياتي، صدقني لو عرفت أو سمعت انك تواصلت مع مدير مكتبي مرة ثانية، ما راح تلوم إلا نفسك ).
أغلقت الخط فور أن انتهت من قول ما اتصلت من أجله.
وظلّ هو مندهشا وغير مصدق ما سمع.
بالرغم من انه كان عليه أن يتخذ كل التدابير الاحتياطية من هذا الجانب حتى لا تعرف شيئا عن الأمر.
كيف فاته ذلك؟
يذكر انه لم يّدخر جهدا ليمنعها من التعرف عليه والوصول إليه بأي طريقة ممكنة.. لكنه في النهاية نسيَ أنها ضليعة في الأمور القانونية، وستصل إليه بتلك الطريقة.

________


( ليش رجعت؟ ).
وجدت نفسها تنطق هذا السؤال بنبرة موجعة للغاية.
كانت هي من تألمت بالطبع وشعرت بالوجع، حين شعرت بوخز في قلبها، وحجم أنفها يتضخم مع كل نفس تتنفسه.
كانت قد هبطت للتو إلى الدور الأرضي، كما اعتادت أن تفعل.. لتنظيف الصالة الأرضية.
وفور دخولها لمحت جسدا رجوليا ضخما.
يتحرك هنا وهناك.. يلتقط المخلفات من الأرض، يفعل ما عليها هي فعله.
متى أتى ولمَ يفعل هذا؟
ألم يكن على والدها تنبيهها على الأقل؟
حمداً لله أنها أبصرته فور دخولها ولم تخلع عباءتها ولا الكمامة التي غطت بها نصف وجهها.
لم تتعرف عليه وهو يعطيها ظهره، ولكنها فعلت حين لمحت جانب وجهه.
توترت واقشعرّ جسدها، إلا انها وجدت نفسها تسأله هذا السؤال القصير.
لتراه وهو يستدير إليها ببطء بعد أن تفاجأ من سماعه هذا الصوت، وبهذه السرعة.
تلاقت عيناه بعينيها الناعستين، ولم يتمكن من إزاحتهما وإبعادها عنها على الإطلاق.. لم يحاول.
بدا كأنه مغيبا عن الواقع وهو يتأمل الفتاة أمامه، بقامتها القصيرة وجسدها النحيل.
أواااه.. ألا تكبر الفتيات على الإطلاق؟ أم انها هي فقط من بقيت كما كانت؟ ولم يتقدم بها العمر كما تقدم به؟
وجد نفسه يبتسم أخيرا بهدوء حين سألت مجددا بنفس النبرة الغاضبة ( سألت ليش رجعت؟ ).
وضع ما بيده جانبا وسار ناحيتها مطأطئ الرأس، حتى صار قريبا منها نوعا ما.. بالرغم من المسافة الكبيرة بينهما بسبب حجم الصالة الكبيرة جدا ( إيش قصدك شام؟ هذا سؤال تسألينه؟ طبعا راح أرجع لبلدي وأهلي.. ولازم أتزوج، ولا إيش رايك؟ ).
تجاهلت ملاحظته الأخيرة بشأن الزواج، وسألت مجددا ( وكلامك عن أحلامك اللي ما راح تتحقق هنا؟ وانك لو ظليت مواهبك راح تندفن ولا راح تصير رياضي مشهور؟ ).
لم تغِب شبح الابتسامة عن ثغره وهو يجيبها بهدوئه المعتاد ( الأوضاع تغيرت الحين، حاليا ممكن ألقى الكثير من الدعم، غير اني مستحيل أحصل مدرب مثل أبوك في أي مكان ).
ابتسمت بسخرية من وراء كمامتها، ثم قالت بتردد ( عموما.. دامك رجعت عيش بهدوء واسعَ لتحقيق أحلامك، إياك تفتح أي موضوع سخيف مع أبوي، لأنك تعرف رايي من زمان، واللي ما تغير ولا راح يتغير ).
استدارت عنه تنوي العودة إلى الأعلى، إلا انه أوقفها بعبارته الصادمة ( لو كنتِ إنتِ أحد أحلامي؟ راح تمنعيني من السعي لك؟ ).
اتسعت عيناها مما قال، ليست من الفكرة العامة بأنه يرغب بالزواج بها.. بل طريقة صياغته للعبارة.. والتي أربكتها للغاية.
لتزدرد ريقها ثم تلتفت إليه، وتتحدث بإنفعال ( أنا أنبهك ضياء، إياك.. إياك تفتح الموضوع مع أبوي من جديد، أنا........... ).
قاطعها بحدة ( ليش؟ إيش السبب شام؟ لأني أعرف ماضيك وأعرف حقيقتك؟ وإذا عرفت! وين الغلط بالموضوع؟ طبيعي كل شخص يتزوج يعرف حياة شريكه ).
أخفضت شام رأسها حين بدأت الدموع تتجمع بعينيها، ترفض أن يراها بهذا الضعف، رغبت بأن تريه الجانب القوي منها، وأن تريه أنها أصبحت شخصا آخر غير الذي كانت عليه قبل سفره.
ولكنها فشلت مجددا.. وهذا ما سيجعله مصرّا في رغبته بالارتباط بها!
أجابت بصوت مرتجف ( بس حياتي مو زي حياة أي شخص، غير انك تعرف كل صغيرة وكبيرة عني.. حتى الأشياء اللي أنا ما أعرفها انت تعرفها ).
قاطعها مجددا بحزم ( عشان كذا أبي أتزوجك، شام لا تتصرفين كذا، مو كأنك انتِ الغلطانة ولا اخترتِ مصيرك بنفسك! لو بطلتِ تشيلين ذنب أمك على رقبتك كنتِ صرتِ إنسانة ثانية مختلفة ولا ظليتِ على حالك حتى بعد مرور كل هالسنين ).
رفعت عيناها إليه بوجع، شعرت بأنفاسها تختنق ( شفت؟ هذا اللي راح يصير لو تزوجتني، راح تظل تذكرني بأمي، وتقول انها هي الغلطانة مو أنا، يعني كأني ما أعرف؟ ).
صاحت بغضب وهي تشد على قبضها ( هذا اللي أكرهه يا ضياء، أكره كون أمي هي الغلطانة مو أنا، لأنه غلطها هو اللي دمّر حياتي وخلاني أعيش بجحيم، ما أبغى أتزوج شخص يعرف شيء عني، ما يعرف شيء عن غلطة أمي، ما يعرف شيء عن حياتي المثيرة للشفقة ).
صمتت فجأة لتكمل بنفس النبرة الغاضبة ( ما تقدر تتركني؟ ما تقدر تنسى وصية أمي؟ ما تقدر تنسى اتفاقهم السخيف اللي خلاهم يربطون اسمي باسم شخص ما أطيق حتى أسمع اسمه! ).
أصابته الدهشة والذهول من انفعالها الغير متوقع في لقاءهم الأول بعد هذه السنين الطويلة.
لم يتوقع منها أن تتصرف بهذه الطريقة على الإطلاق!
بالرغم من انه اعتادها بهذه الشخصية العنيدة.. إلا انه تمنى لو تغيرت قليلا، تمنى لو تغيرت مشاعرها تجاهه.
لينصدم بالواقع المر، برفضها.. بموقفها ونظرتها للأمور من نفس الجوانب.. بل نظرتها الضيقة.
خاصة لمّا أكملت بهدوء ( لو تبغاني لأنك تشفق عليّ، انسى.. أنا مرتاحة الحين، ما راح يعكر عليّ صفو حياتي غيرك ).
قبل أن يجيب ضياء، فُتح الباب الرئيسي للصالة.
ليلتفت ناحيتها، وتلتفت هي.
فزع من صراخها مجددا وهي توجه الحديث لوالدها ( يوم يجي غيري ينظف صالتك القذرة ليش ما تنبهني؟ ولا ودك تجمعني بولد أخوك تنفذ وصية أمي بأي طريقة؟ ).
صعدت بعد ذلك تضرب الأرض بقدميها بعد أن أغلقت الباب الداخلي بقوة، حتى دوى الصدى بأنحاء المكان.

دخل حسام واقترب من ضياء، عيناه على المكان حيث اختفت منه شام بلمح البصر ( إيش صار؟ إيش فيها معصبة كذا؟ ).
ابتسم ضياء بإحباط وهو يكمل تنظيف الصالة ( معاها حق، كان لازم تنبهها وتقول لها إني موجود ).
( بس أنا نبهتها فعلا، أرسلت لها رسالة والظاهر انها نزلت بعد ما قامت من النوم بدون لا تمسك جوالها ).
اقترب حسام من ضياء وربت على كتفه بتشجيع ( لا تتضايق، يمكن تكون معصبة الحين.. بس صدقني راح تقتنع بمرور الأيام وتتزوجها ).
أومأ ضياء رأسه بإيجاب ( بعطيها كل الوقت اللي تحتاجه، بس لا تتزوج غيري ).
أكمل بابتسامة هادئة وصادقة وعيناه على الباب ( مو عشان وصية أمها ولا عشان الظروف حكمت علينا، أنا أحبها وأبغاها بكل صدق يا عمي، ما أقدر أتخيلها متزوجة من أي شخص غيري، ولا أقدر أتخيل نفسي متزوج غيرها ).
ضحك حسام وهو يرمي عليه قارورة ماء ( احمد ربك اني مو أبوها الحقيقي، ولا كنت ذبحتك الحين على كلامك عنها بهالطريقة، بس برضو انتبه ولا تتوقع اني بسمح لك بهالشيء، بعدين تعال.. متى مداك تحبها لهالدرجة؟ أذكر انها كانت صغيرة لما سافرت ).
ابتسم ضياء ابتسامة عذبة مجددا والذكريات الجميلة برفقة شام تعود إلى عقله واحدة تلو الأخرى ( صحيح كانت صغيرة، كان عمرها 14 بس.. ما سمعت اللي يقول حب الطفولة أطهر حب؟ ).
تنهد من أعماق قلبه ( وهذا اللي صار معي، ولا أخاف أتكلم عن حبي لها عند أحد لأني ما سويت شيء غلط، اهتميت فيها لما كانت بحاجة للإهتمام، وقفت جنبها لما كانت بحاجة لشخص تفضفض له، كنت موجود بعد لما كانت بحاجة لشخص يشاركها أفراحها، بس الظاهر انها ندمانة على كل هالأشياء الحين ).
ربَت حسام على كتفه مرة أخرى ليواسيه ( صدقني فترة وتعدي، بس تستوعب صدمة رجوعك المفاجيء راح تتقبلك، وإن شاء الله ربي يكتب لكم اللي فيه الخير ).
هزّ ضياء رأسه موافقا.
هذا ما يأمله ويتمناه، بل كل ما يتمناه ويريده.
فهو حقا لم يعد يملك شيئا الآن، سوى الأمل بعودتها إليه.
بعد أن سافر لتحقيق أهدافه، ثم أُجبر على العودة.. حين فقد القدرة على المواصلة!

______


نَظَرتُ بِبِشرٍ نَظرَةً ظَلتُ أَمتَري
بِها عَبرَةً وَالعَينُ بِالدَمعِ تُكحَلُ
إِذا ما كَرَرتُ الطَرفَ نَحوَكِ رَدَّهُ
مِنَ البُعدِ فَيّاضٌ مِنَ الدَمعِ يَهمِلُ
فَيا قَلبُ دَع ذِكرى بُثَينَةَ إِنَّها
وَإِن كُنتَ تَهواها تَضِنُّ وَتَبخَلُ


— جميل بثينة

وجد الــ 29-07-21 11:26 PM

معذرة أخطأت بكتابة رقم الفصل، الثالث وليس الرابع 💙
قراءة ممتعة للجميع.
أتمنى من كل قلبي أن أجد تعليقات تشجعني على الإستمرار، إن كانت روايتي تستحق
💕💕

قصص من وحي الاعضاء 26-08-21 06:27 PM

تغلق الرواية لحين عودة الكاتبة لانزال الفصول حسب قوانين قسم وحي الاعضاء للغلق

عند رغبة الكاتبة باعادة فتح الرواية يرجى مراسلة احدى مشرفات قسم وحي الاعضاء (rontii ، um soso ، كاردينيا الغوازي, rola2065, ebti ، رغيدا)
تحياتنا

اشراف وحي الاعضاء


ebti 23-06-22 12:17 PM

صباح المسك والعنبر.. تم فتح بطلب من الكاتبة لاستئناف تنزيل الفصول..


الساعة الآن 09:56 PM

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.