شبكة روايتي الثقافية

شبكة روايتي الثقافية (https://www.rewity.com/forum/index.php)
-   ارشيف الروايات الطويلة المغلقة غير المكتملة (https://www.rewity.com/forum/f524/)
-   -   روايتي الثانية: قطفتُ الزيتونَ رماديـاً/ بقلـمي. (https://www.rewity.com/forum/t483336.html)

غُربة. 20-07-21 11:45 PM

روايتي الثانية: قطفتُ الزيتونَ رماديـاً/ بقلـمي.
 
بسم الله الرحمن الرحيم..

عُدت من جديد وكلـيّ شوقـاً، وكُلي شغفاً .. وحبـاً.
مولودتي الثانية بين ايديكم.
.
.
.
قطفتُ الزيتونَ رماديـاً،
فلم تخضرُ الأرض من بعد شجرتي التي زرعت.
ولم أعصرُ زيـتا من هذه الشجرة!
كانت هذه الشجرة تشابهني، لا هويةُ لها ولا وطن.
وكأنني أتيتُ بها من أوروبا وزرعتها "رغـماً" عنها وعن أرضِ فلسطين فيها.
هذه الارض العصيّـة!
تشبهُ جبروتَ ابي، وانانيته.
تشبهُ عطفَ امـي وحنيتها.
تشبهُ حنان اخوتي ورحمتهم.
تشبـهُ الجميع ما عدا أنـا .. هذه الارض شبهتني بهديتها لي .. زيتونها رماديـاً.


__



الفـصل الأول.



في الثـاني من شباط 1980

في ليالي القُدس البـاردة، ليالي شباط الذي حلّ في الأمـس، الذي لا أعلم ما يخفيه، ففي أولِ أيـامه عادت أمـي إلـى غزة وهي حاملةٌ في ذاتها القُدس وفي ذكرياتها البلدةُ القديمة وحيُ العطارين والإرث الذي تركتهُ لي في أزقته.
أتت مستبشرة لتشهد ولادتي بحفيدها الثالث، ورحلت مضطرة بعدما سمعت بالانتهاكات التي تحصل في المسجدِ الأقصى الذي لا يُبعد عني شيئاً وهو بعيد كل البعد عني وعن انتمائي، يقولون انه سيتغربّ في تموز!
سيصبح هو وقُدسـنا بأكملها عاصمة الدولة الصهيونية.
سنصبحُ أنـا وأبنائي في أورشيـلم بدلاً من القُدس.
ستتغرب المدارس سيدرسُ عـليـاً العبرية في أول مراحل تعليمه، لن يتعلم حروف الهجاء الثمانيةُ والعشرون، لن يرى الكسرةَ والضمة والسكون!
لن يرى الا الكسرةُ في نفوسنا، والضمّـة التي ضممنا بها جور السنين وجدران القُدسّ!
لن يرى إلا السكون العربي والصمت عما يحدث، أ غريبةٌ أنتِ يا قُدس؟
أ تنكّرُ لكِ عرب المشارقِ والمغارب؟
ما الذي سيراهُ ابني عندما يدرس، لن يسمع بالأمجاد العربية التي شهقت بها مدارس العرب.. الامجاد الكاذبة!
لن يرى الأفعال التي تُسـطر وتُروى على مسامعِ هؤلئك الطُلاب.. الأفعال الواهية!


***

أقفُ على أعتابِ بيتي!
الذي قد تطالهُ الازالة، سيُزال كل بيت يجاور القُدس، ستُهدم المساجد والمآذن، ستُقلع المساكن والمنازل، ستُغلق الدكاكين والمحلات!
ستُنهى حياة المقدسي من أجل توسيـع العاصمة الجديدة "لإسرائيل" قُدسنا.
لا أعلم بأي وجهٍ سأقابلُ عائشـة وما القول الذي يُقال لها.
أقول لها انني ذهبتُ فجراً إلـى البلدية وتأكدتُ من إزالته؟
أم أقول لها كان يجب عليكِ الذهابُ مع أهلكِ إلـى غزة؟
ماذا عسـايّ أن أقول لعليٍ الذي شَغفَ للدراسة بعدما سمعَ عنها من الطلاب الذي يكبرونه عمراً عندما يلتقيهم في حلقاتِ المسجد!
ولا أعلم يا علياً ان كان هنالك مدارس، ولا أعلم ان بقيت لنا حلقاتٍ وبقىَ لنا مسجد.
دلفتُ البابَ بعدما أحسستُ بموجةٍ ثلجيـةٍ باردة، أواجهُ مصيري مع عائشـة خيراً من مواجهتي لمصيري مع الثلج!

وما أن وصلتُ إلـيها حتى وقفتْ متلهفة واضعـة ابنها يمينـاً بجانب اخوته الذين قد ناموا.. يبدو اني تأخرت كثيـراً! : وينك من الصبح؟
انشغل بالي عليـك.

جلستُ بالطرف الآخر بجانب المدفأة وما توانت عن الجلوسَ بجانبـي.
حبيبتي الملهوفة، التي قصرت بحقها وحق بنيها، حمّـلتها مسؤولية الأبناء لأسبوعين فائتين وحدها.
لم تكن بحالة صحية جيدة حتى اطمأن وأنـا قد اثقلتها بالأولاد والغيابّ..
كنت بحاجة بمن يطمئنني عليها، ومن يطمئنني على القدسُ أيـضاً.
أصبحت القدسُ ضرتـها في هذه الأيـام المنصرمة،

أصبحت القدسُ جزءاً من يومي، بل كُلـه، ويا ليتنا نطمئن أو نرد حقنا بها ونحنُ نهديها أيامنا وارواحنا واوقاتنا: ولا اشـي!
الله وكيلك من الصبح وانا بالبلديـة، وفش فايدة.

تسكبُ لي سحلب وتتساءل: كيف فش فايدة؟
ما طلع معك اشـي؟

اجبتها وأنـا أنظرُ من النافذة إلـى حبّـات الثلج التي تتساقط، ويا ليتها تتساقط على روحي لتطفئ سعيرهـا، يا ليتها تتساقط على عيونهم وتقشع عنها غشاوتها وتخبرهم ان هذه ارضها منذُ أول بقـاءِ إلـى أخرِ فنـاء..
يا ليتكِ يا رُمـان الثلج تخبريهم انكِ لم تسقطِ إلا على القُدس، أمّـا أورشليم فأسمها وقسوتها قادرة على إذابتكِ إلـى ماءٍ عكرِ حيالُ سقوطكِ فيها: طلع معهم.. مش معي! - سكت قليلاً وأدرت رأسـي إليـها - شملتنا توسعتهم.

وضعت يدها على ثغرها.. بوهن، بعجز، بقلة حيلة: يعني شو؟
وين نروح – توسعت عيناها الدامعـة – نتهجر مرة ثانية !!

حادثتها وأنـا أقنعُ نفسي بما أقول قبل أن اقنـعها: مش حنترك لهم القدس ولو،
التوسـعة صغيرة ومش محرزة، يا دوبها على سوق العطارين وسوق الحصر وحي المغاربة وهيك، - اردفت وكأنني متساهل بالموضوع - اكم فدّان!

هبَت بوجهي كانتفاضة ثائرٍ أقدم على الثأر ولم يردعهُ إلا الموت المتجلي في ملامحه وقد طرحهُ قهراً وأرضاً أمامِ عدوه: اكمٍ فدّان؟؟!
وهالفدانات المش محرزة مش أرضنا؟ مش فلسطين يا أبو المفهومية!

ما بالها انقلبت وحشٍ كاسر؟
أ هكذا نسائكِ يا فلسطين؟ يهبّون بوجهِ من استهان بكِ ولو كان الخليل والروح؟
أ هكذا نسائكِ يا فلسطين؟ تحملُ طفلاً على ذراعها وتحملُ وطناً في قلبها؟
أ هكذا نسائكِ يا فلسطين، تحوم حولي كصقرٍ يبحثُ عن فريسة، وما علِمت أننا فريسة سهلة مستساغة بيد صهيون!

حملت ابنها الذي ما زال نائم، وكأنها تحاول إيجاد ما يشغلها او ما يفرّغ به مصيبة قولي " أكم فدّان": من بكرا نازلة ع الاقصـى.

تعلم بأن الجنود هنالك منتشرون كالجراد، تعلمُ أنها من الممكن ان تُقنص وتصبح ضحية من ضحايا قرارِ مناحم بيجن الغاشم.

تعلم جيداً منعي الذي لا جدال فيه، ولكنها تعاند: وأني كمان بدي انزل معكّ.

أرى الدهشة تعتلي محياها بعد حديثي، وتعقبُها دهشة أخرى عندما طُرقَ الباب وباتت تنظرُ إلـيّ وتؤكد: مين؟ الساعة تنتين بالليل!!

خرجتُ وأنا ليس بأقلُ منها دهشةً وخوف! خوفاً على أهلِ بيتي، فقد كنت صباحاً في البلدية ولا أعلم بعدها ان كان تلوّن مزاج أحد الضباط الذين يناوبون هناك وأراد الانتقام من فلسطين بي!
لا استبعدُ ان هدموا بيتي الليلة نكايةً بشبابٍ اغلقوا أبواب المسجد الأقصى ورابطوا امامها مانعين الجنود من الدخول الى باحاته.
لا استغربُ ان قُتلت على اعتابُ بيتي لأنني فقط سألت ان شملته الازالةُ ام لا.
فصهيونُ متعطشة للدم. أيُ دم!
وما ان فتحتَ الباب حتى تجلى أمـامي جاري اليهودي الذي أجزمُ أنه يهوديـاً بالاسم، والفعل والدم والمنطق
لا أعلمُ كيف يحملُ فِكر الصهيونية في جنباته، يحملها بشكلٍ مجنون، لم اعد قادراً على استيعاب يهوديته المفرطة وصهيونيته المنحطة، لا أعلمُ أيـضاً كيف اقتنع بترك أوروبا ليسكن مسالماً مع وحوشِ الغابّ.. نحن!

قطع صمتي وتأمليّ، وكـأنني اليوم تأملتُ بزيادة؟ حللتُ شخصيات، وهدمتُ منارات، وأقعدت رؤسـاء، واجتثيت قادة.. ما بالي حالماً ومتأملاً !: أهلاً خالد!
يتحاشـى قولِ "شلوم" لي ويستبدلها بـ " أهـلاً".

إذٍ، لك حاجةً يا يعقوب فأفصح بها، فما زال فيك عرقَ المصلحة المتجذر من يهوديتك، تتودد إلي بالـ " أهلاً" حتى أوافقُ على طلبتك، ولو لم يمكن لكَ طلباً لأبدلت الـ " أهلاً " بـ " شلوم " لإغاضتي: أهليـن يعقوب!
تجلت هذه المرةِ بروحِ الأبوة لا روح الصهيوني وهو يُمدد لي صغيره!
بِكره، قد علِمت في الأسبوع الماضي ان زوجتهُ متعبة، ولكن لم أتصور انها بهذا الحد.
لدرجة انهُ خرجَ إلـي بـ "ببجامة" لا تدفئ مع برودةِ شتاء القدس الذي استقبلنا هذه الليلة بالثلج.
حملتُ الولد الممدود بيننا بقلةِ حيلة وجزع يصاحب والده.
يهودياً يسلمني ابنه ليعودَ ادراجهُ مسرعاً لحملِ زوجته الى المشفـى، لم يكن بوسعه الذهاب بابنه لأحد من أبناء دينه.. رماهُ في أيدي مسلمٍ سيُزال بيتهُ قريبـاً لتكبرَ مساحة بيت يعقوبّ!
أي ان الامر تجاوز الألم!
تجاوز حدود العقل بالنسبةِ ليعقوبّ، وبالنسبةِ لي!
احتضنتُ الولدَ فوراً وأنا أتخيل لو أنه أحد ابنائي!
بمن التجئ؟ بمن ارتجي!
ابنهُ الذي لا يفرقُ مولده عن ابني الرضيع سوى بضعةُ أيّـام

***

دلفَ خالد الباب، ولم يتبينَ لي ماهية ما يحملهُ، بسبب الظلام الذي يحاوط باحة البيت، ظلاماً لا يخلوا من نورٍ يتسللهُ من الاضاءات الصفراء في بداية الشارع!

قدمَ خالدٍ إلـي وبيده طفلاً، وبادر قبل أن اسألهُ: ابن يعقوب، مرتو مريضـة ونقلها للمستشفى.

إذٍ، بطل العجب!
ابن جارتنا اليهوديـة، ابنُ زهافا الصديقة التي لا أعلم كيف اقتربتُ منها، بشكل يضجرُ منهُ خالد بحجة يهوديتهم وصهيونيتهم.
لم أكن أعلمُ ما تحملهُ زهافا بقلبها من حُبٍ ليهوديتها، ولكنني أعلم أنني أكنّ لها مشاعراً عظيمة لم تستنزف من قبلٍ إلا لأجلها.
أظن انها قد قدمت إلى هُنا مرغـمة، فهي تسكن في بيتٍ ما زالا يدفعانِ اجاره، لم يتسلموه بشكلٍ رسمي، ولم يراجعوا بإثباتِ ملكيته.
كان بمقدورهم مراجعة البلديةِ اليوم ومن غد ووثيقتهُ مسجلة بأسمائهم.
لطالما سألتها وأعدتُ السؤال كثيراً، لما لم يتملكوه إلـى الآن!
فتتحجج بمشاغلِ يعقوب الذي لا ينكفُ عن العملِ ليلٍ ونهار، زوجها وحبيبها الذي قدمت معهُ من فرنسا من أجل زيادة عدد المستوطنين وتقليل عدد الفلسطينيين في فلسطين.

***

يومان مــرّت والاحتلال لم ينفذ تهديداتهُ في إزالة البيوت ولم يعلن أن القدس عاصمة دولته.
يومان ويعقوب لم يمرّ لأخذِ ابنه، ثقيلٌ ذلك الابن على قلبي!
كيف احويّ صهيونياً في بيتي، وداري قد لفظت اهله؟
كيف يشتقُ العضو من الجسد ويخالفه؟
أشعرُ بخيانتي لفلسطين ما دام هذا الصغير في بيتي، ولا أعلمُ أن كان لأبيه عودةٍ أم لا.
في كلِ يوماً أرقب هذه العودة، ولم تأتِ!
يبدو ان الفلسطيني يُستحال أن يحظى بعودة، مشاكلهُ العظمى مع هذه الكلمة لا تنتهي!
لن نعود إلـى ديارنا ولن يعود يعقوب أيـضاً.
دخلتُ البيت بعدما أطلتُ انتظار يعقوب في الخارج، واستفزني مرأى عائشة وهي تحتضن اليهودي وتترك ابننا مع اخوته.
هل يُحتل قلب عائشة كما احتل اهله الأرض؟
هل مهنتهم احتلال الأرواح والأراضي؟ بل انهم يحتلون الاشيـاء!
احتل لباس ابنتي، يلبس الوردي ليس لغرضٍ، بل ليصبح محتلاً صغيراً !!

تبسمت عائشة وكأنها علمتَ ان ما في رأسي من مقاومة لصهيونية هذا الفتى: عين الله عليه، شوف كيف طالع عليه بجنن!
- لم تجد رداً وأكملت – العصر بدي روح اشتري له شوية ملابس.

جن جنوني!!
سيحتلُ مالي أيـضاً: مش حيظل للعصر،
إذا ما اجا ابوه رح زتو بالشارع.

اجابت وهي ترى استيائي: صغير ما الو ذنب،
نتركو هيك يتشرد بالشوارع؟

***

كلمتي الأخيرة اصابته في مقتل أراهُ يصرخُ صِراخ الجريح الذي لتوِه استفاق على جرحه: يتشرد متل مليون فلسطيني تشردوا بسببهم،
يتشرد متل الشباب اللي بدول العالم تشحد لقمة عيشها،
يتشرد متلي ومتلك ومتل كل فلسطيني، خايفة عليه؟
ما بدك يدوق من نفس الكأس؟
خايفة عليه من الشارع؟ هلأ عرفتي ان الشارع وِحِش؟
ما بتتذكري كيف تهجروا اهلك لغزة؟
ما بتشوفي شعب الشتات؟ ما بتشوفي بعيونك كيف بكرا نتشرد انا وانتِ وابوه يتملك بيتنـا؟
شو ؟؟ رفقتك لامو بتعمل فيكِ هيك؟
تغيرت مبادئك ونظرتك للموضوع ست عايشة؟

وضعتُ الولدُ أرضـاً، وأنـا أهرعُ للوقوفِ بجانب خالد الذي انفجر بعد أيـام من التوتر والحرب النفسية التي يمارسها الصهاينة علينا: يا حبيبي طوّل بالك،
أولاً هذا ولد صغير، مش صهيوني ولا يهودي، هذا مولود على الفطرة، باعتباره مُسلم متله متل أولادنا.
وثانياً ما نسيت ولا اشي ولا تغيرت بس ثأرنا ما بنوخذه من طفل صغير، نحنا بنعرف عدونا مليح وبنعرف من مين بدنا نوخذ بثارنا.

تركني ودخل الى داخل البيت وهو يُعلي صوته: بلا حكي فاضي،
يبقى صهيوني ومش حيظل يوم زيادة ببيتي.

***

خرجتُ من المشـفى بهمٍ جديد، ومرضٍ نادر أثقل كاهلي.
بجانبي يعقوب، الحبيب وخليل الروح، الذي شاطرني الوجع والاسـى، ملامحهُ متعبة وكـأنهُ حمل المرض جسدياً فضلاً عن حملهُ نفسـياً.

حادثتهُ بروح واهية ونفسٍ متعبة وقلبٍ يتفطر: يعقوب،
بنرجع فرَنسا.

التف نصفِ لفةٍ بجسده إلـي وعيناه تشتت نظرها بيني وبين الطريق: ليش؟

نطقتُ بعد كفراً، حييتَ بعد موتٍ: لأنها مش أرضنا ولا تشبهنا،
شوف كيف حجارتها صلبة وقوية، متل ناسها اشرار واشداء، تطلّع كيف الأشجار مغروسة جذورها غرس بالأرض متل شعبها،
نحنَ ما لنا بالحرب، ولا لنا بالقضية هي كاملة، نحنَ نحب بعض يعقوب،
يا اللي يحب ما بيحب الدم، ولا بيحب الظلم، بدنا نعيش شي يشبهنا، بدنا نعيش انا وانت وابننا بسلام..
بديّ بلدنا يعقوب!

لم يتحدث يعقوب، وبل اسعفهُ الوصول الى بيتنا وهمّ بالنزول واسترد قائلاً: بديّ جيب الولد من عند جارنا، اسبقيني ع البيت.

إذٍ، كلامي المتكرر في مهبّ الريح!
بل لم يساعدني على النزول، فقط ذهب ليأتي بأبني، أواه يا أبني!!
كم اشتقت إليـك بشكلٍ لا يوصف، كم اشتقت أن أعيش معك أخرُ أيـامي في أرضٍ لم يختارها أبيك.
كم تمنيت لو كانت هويتك فرنسية بدلاً من الإسرائيلية!
لقد أعمى الحُب بصر وبصيرة والدتك مما جعلها تأتي لهذه الأرض البركانية التي ستنفجر بأي لحظة.
مال والدتك ومال الحربّ!
لا تعرفُ اليهودية إلا اسمٍ فكيف تأتي للدفاعِ عنها، هل كان دين يعقوب المُتزن يغلب على دين والدتك " الرعاع" ويجعلها تقدمُ من باريس إلـى أرضِ الموت!
أواهٍ على باريس يا ابني، وأواهٍ عليـك أنت من بعدي..
أعلمُ أنني "مواته" كما يقولون العربّ، ولا أعلم ما الذي سيجري عليك من بعدي.
فأنت ابنٍ لأبٍ طائش بما تعنيه الكلمة!
لا يحسبُ حساب مستقبله، لم يكن طيشهُ نعمةً إلا في الحُب!
وكان هذا الطيش نقمةً في ارضِ الحرب.
سنرحلُ أنـا وأنت يا ابني، ولن يتأخرُ أبيـك سيلحقُ بنا، سيكون بصف الحُب لا الحربّ.

***

طُرقَ البابَ وفزّ خالد متلهفاً ، لعلهُ يعقوب!
قد اثقل كاهلهُ هذا الولد وكـأنه يحملُ على ظهره اطنانٍ من الهم.
ما الذي يجعلهُ هكذا؟
أعلمُ ان قلبه عطوف، ما بالهُ تغير هكذا؟
الاحتلال لم يبقِ من عطفهِ شيئاً، انتزع كل جميلاً من حياتنا.. حتى صفاتنا!
عاد خالد مُجدداً وهو يستبشر، أولِ عودةٍ يرحب بها خالد، أو بالأصح أول عودةٍ تتحقق له!: هاتي الولد.
لم يتنظر اجابتي، أخذه من بين أحضاني.
إذٍ، جـاء يعقوب.
فليرتاح ضميرك وبالك يا خالد، نمّ قريرَ العين فأُخذَ كابوسك!
انتهى جزعَـك.

***

بعد أسبوعِ من توتر علاقتي مع عائشـة.
أقفُ متوسط ابنيّ، في ضُحـى أزقة القدس، منتظرين إذن الدخول من باب العمود للصلاة.
لا أعلمُ لما تركت عائشةُ مغاضباً،
لا أعلمُ لما لا أعلمُ لما نُقمتي عارمة بهذه الطريقة؟
حمّلتها مسؤولية وجودهُ في بيتي، وأنـا من أتـى به لها.
هل يعقل ان وجود طفلاً من هذه السلالة يغطُ على انفاسي؟
هل يعقل ان وجود طفلاً يزلزلُ كياني المتزنّ؟
كياني الذي لم يهتزّ أمـام قواتِ جيشه الذي أقفُ الآن أمامهم منتظراً الدخول الى المسجد الأقصـى لصلاةِ الجمعة.
ندهُ العسكري مناديـاً لصغيري "علي" يتلفتُ يمنةً ويسرة ينتظر ردة فعلٍ من الشباب الواقفون بجانبنا بعدما يأسَ من ابيه.
تقدمتُ قليـلاً وأنـا أرى الجندي يقترب منهُ ويقول له: شـو؟
بدكَ تصلي؟
أومـأ ابنُ الخامسة برأسـه، وتوتري يزيد أكثر فأكثر!
ما الذي يجعله يطلبه بهذه الطريقة من بين كل هذه الجموع؟
لما ابني من بينهم كلهم؟
لما لم يتركُ ابني يعود إلـي وهو يُمسكَ بيده ويرفع رأسـه للجموع من حولي: بس ياللي قد هذا يدخلون يصلون!
ما الذي يتفوهُ بـه؟
يصلون أبناء الخامسة والرابعة والثالثة .. ونحن؟
هل نبقَ منتظرون عودةِ أبناؤنا من الصلاة؟ هذا وإن عادوا! لم تترك الجموع الفلسطينية للتفكير مجال وهم يقتحمون باب العمود صفٍ بالبنيان المرصوص.
أطاحوا بجنديٍ بسبب التدافع وصفع أحد الفدائيين جندياً آخراً.
أمـا أنـا، فأنـا أحاول اختراق الصفوفِ وانتشالُ صغيري من بينهم.

***

ما الذي جعلني اتأخر بالعادةِ في الغداء، حانت عودةِ خالد وابنائي والغداء ما زال لم ينضج!
هل ضجري الغير محسوس في عدم ذهابي معهم سببٍ؟
هل مثولي أمـام المطبخ والمواعين سببٍ؟
أصبحت مجهدةً من كل شيء، من خالد وعصبيتهُ وتلوّن مزاجـه، من دراسةِ ابنائي التي لا أعلمُ كيف ممكن ان أسيطرُ عليها وعلى دروسهم التي فاتتني وفاتتهم الأسبوعين الماضيين، ومن ابنتي التي ما زالت غارقة فالنومِ وهي السبب الرئيسي لتأخيري على الغداء.
مما جعل البابُ يطرق بخفـةٍ وأنـا ما زلتُ أحاول الانتهاء من طبقي!
يبدو ان ابنائي قد سبقوا أبيهم الى البيت.
فتحتُ البابَ ولم أجد احداً، وما أن أردتُ إغلاقـهِ حتى وجدتُ رسـالةً في مقبضـه.
هل أمتلك اليهود اخلاقاً تجعلهم يخبروننا بإخلاء البيت؟
دلفتُ البابَ ورائي وأنـا افتشُ عن مضمون هذه الرسـالة:

" السـلام والتحيـة،
إلـي عائشة خليلة الروح ولبّ الفؤاد،
أشكركِ على رعايتكِ لأبني في الأيام الفائتـة، وأشكرُ أمومتكِ التي فاضت عن بنيكِ وشملت صغيري، لا أعلمُ أي وجهٍ اخاطبكِ به، ولكن صديقتكِ تحارب الموتَ وتحارب نوايا يعقوب.
وحدها في صراعٍ أزلـيّ لا ينتهي، لا تعلم ان كان للعمرِ بقيـةً حتى ترحل، أو ترحل وتترك عمرها " ابنها" بين يديَ يعقوب.
لا أأتمنهُ على ابني بسبب طيشه وتسـرعه، فهو يحاول جاهداً ان يبعدُ هذا الطفل عنـي بقدر الإمكان، يرى انه مصدرَ شؤم حل بنا.
يظنُ ان مرضـي المستعصي بسبب هذا الطفل.
سأومنك عليـه، ليس لنا احدٍ في فلسطين إلا أنتِ وخالد، ابننا سيبقَ امانةً في عنقكِ انتِ.
سأواجهُ الموتَ مبتسمة ما دام ابنـي عندكِ، سأحاولُ بيعقوبَ جاهدةً أن يرسلـهُ إليـكِ.
يعقوب وخالد.. حرباً تشابهُ حربَ بلدينا، أواهٌ منهم! لا يفتؤون عن المناوشاتِ بينهم التي سيكون ابني ضحيتها، سيعاندُ يعقوب ولن يضعهُ في بيتِ خالد، كما اعلمُ ان خالداً ايضـاً لا يود بقاء هذا الطفل بجانب بنيـه.
عائشــة،
إن عاد لكِ ابني ثانيـة، اغدقي عليـه بعطفٍ اطلبهُ منكِ، ليس بعطف امومةٍ، ولا بعطفٍ يتمـهُ من بعدي.
بل بعطفِ الإسلام يا عائشـة
زهافا"..


ويلٌ لها تطلبُ مني أن أدخلُ ابنها الإسلام!
ويلٌ لها تطلبُ مني أن أفرقُ بينهُ وبين ابيـه، ما الذي تتفوهين به يا زهافا؟
هل انتِ محقـة؟ كيف يُسلبُ الابن من ابيه؟
ومن دينه ومن ذاته؟
كيف لي ان احويهِ في بيتي و"ربُ بيتي" معارضـاً ذلك!
هل تظنين ان خالد كيعقوب؟ بكلمـةً منكِ يلين؟
خالدٌ بقـي في أرضـه ولم يلينُ لمحـتلٍ حتى يلينُ على ابنكِ التي تودين اسلامه كي يبقى بيننا، ألم تأخذكِ الغيرةُ على دينك التي تجردين ابنكِ منه؟
ألم تأخذكِ الغيرةَ على صهيونيتك وتريدين تجريد ابنك من تصهينٍ محتوم بين يدي يعقوب.

دُلِفَ الباب ودخل ابنائي قبل ابيهم، أخفيتَ رسالتها وذهبت أعدُ الطعـام لهم.





روابط الفصول

الفصل 1 .. اعلاه
الفصول 2, 3, 4, 5 .. بالأسفل

الفصل 6






قصص من وحي الاعضاء 21-07-21 01:44 AM

روايتي الثانية: قطفتُ الزيتونَ رماديـاً/ بقلـمي.
 



اهلاً وسهلاً بك بيننا في منتدى قصص من وحي الأعضاء ان شاء الله تجدين مايرضيك موفقة بإذن الله تعالى ...


للضرورة ارجو منكِ التفضل هنا لمعرفة قوانين المنتدى والتقيد بها
https://www.rewity.com/forum/t285382.html

كما ارجو منك التنبيه عندما تقومين بتنزيل الفصول على هذا الرابط
https://www.rewity.com/forum/t313401.html

رابط لطرح اي استفسار او ملاحظات لديك
https://www.rewity.com/forum/t6466.html


في حال وجود اغلفة او تواقيع مصممة من قبل الكتاب والكاتبات نرجو الاخذ في الاعتبار ان المقاس المطلوب هو 610 × 790



هل الرواية حصرية لشبكة روايتي الثقافية ام هي غير حصرية؟ الرجاء الإجابة بحصرية او غير حصرية دون اضافات....






واي موضوع له علاقة بروايتك يمكنك ارسال رسالة خاصة لاحدى المشرفات ...

(rontii ، um soso ، كاردينيا الغوازي, rola2065 ، رغيدا ، **منى لطيفي (نصر الدين )** ، ebti )



اشراف وحي الاعضاء



غُربة. 22-07-21 09:30 PM

البارت الثانـي


تموز 2004

السادسة صباحاً بتوقيتِ القدس، أرى اخويّ يساعدا والدتي على الإفطار، فكلاهما هذا العام او هذا اليوم خريجان جامعيان، أحدهما امتهن الطبّ في جامعةِ القدس والآخر قد اختار الهندسة في جامعة بيرزيت.
يوسفَ يُنفذُ ما قد يدور في رأسـه غير آبـهٍ بالعقبات التي تسبقهُ أو تليه.
اختارَ جامعة بيرزيت التي تُبعد من هُنا ثلاثون كيلو، فقد باركَ له أبي هذه الخطوة، أمّـا والدتي بقيت عاماً كاملاً تُقيم له عزاءً كل صباحٍ حتى يعود.
والآن هو على اعتابِ التخرج بعد عنـاءٍ في الهندسة التي قد شاركتهُ عناءها عندما كنت طالبٍ فيها والمرةُ الأخرى عندما درّست يوسف وأصبح كلانا اليوم مهندسـاً.
أمّـا الآخرُ يحيى، مُسالماً هادئاً، بل خانعاً لأمـه ومطيعاً لأبيه، يرى ان رأيهما لابد ان ينفذ وإلا حلّت عليـه اللعنة من سابعِ سماء، يتوق لدراسة الفن ولكن امّـي صرخت بوجهه وقالت: " بكرا النسوان يقولو ابنك المغنواتي".
وصرفَ النظر عن الفن واتجه الى الطب لكي تقول النساء غداً لوالدتي "أبنكِ الدكتور يحيى".

أتـى يوسَف ليعمّ مجلسي الخالي من سواي بضجيجه: شو عملت بموضوع امبارح؟، خلصـت!

لا يفتأ هذا الفتى عن استفزازي: سكّر تمّـك، لا أحد يسمعك.

تدارك يوسف ذلك وهو يحادثُ أمي القادمة إليـنا: يمّــه،
هسه بابا جوزو لحتى نتصبح عليه كل يوم!! " زوجو"

يرونه يحاول إغاظتي، بينما وحدي انا من يعلم انه مُشفقٌ على زوجتي وابنائي التي اذهبُ إليهم كـ زيارة.
يظنُ انني أتـيٍ هُنا لاجئ من بيتي، لا يعلمُ أنني أخافُ على بيتي لذلك أتيت إلـيه.
أخافُ على بيتي وعلى أهلـه من نفسي!
يُفترض أنني مصدرُ الأمان الأول لذلك البيت، فأن لم أكن كذلك.. لن أكون العكس يا أخي.

ردت أمـي قبلي، بل شرودي جعلها تردُ عليـه: وانت مالك؟
خلي نتصبح بهالوجه الحلو لحتى يتبارك يومنا.

ابتسمت لها، وانا اسمع ردُ يحيى: وين بابا بدي اتبارك بوجهه ئبل الامتحان.

أجبتهُ: طلع من ساعـة للأقصـى، - استطردت قبل ان يسألا مجدداً – ويمامّ كمان طلعت معه، وبلا كثرة حكي ادرسوا ئبل الامتحان.

اقترب يوسف بجانبي وهو يشيرُ إلـى معادلة في مذكرته لأنغمسَ في مراجعتها له قبل أن يذهب إلـى بيرزيت.

***

عُكازتـي، واربعةً وخمسون عاماً تمرُّ أمـامي.
في رباطي الرابع، في سنتي الرابعةُ من الرباط في باحاتِ المسجد الأقـصى!
منذ ان اندلعت الانتفاضة عام 2000 م حتى عاث اليهود فساداً فوق فسادهم ومنعوا أي ترميمات في المسجد، وهبّ الناس يرممون ما تبقَ من ذاتهم من حبّ في قلوبهم واخذوا يدافعون بقوةِ الايمان في أكثرِ بقعةً حربٍ وأكثرُ بقعةً امان.
وكيف تكون أمّـان ونحنُ نُقمعُ أمام أبوابها ونسجن ونُضرب ونُبعد؟
نعمّ!
انها الامّـان وكل الاطمئنان، انها بيت الله ومسرى نبيـه، معراج الهُدى، بقيّـةُ من اهتدى
اربعـةً وخمسون عاماً .. وأنـا أسيـراً حُراً.
أسيرُ القُدس ومسجدها، أسيـر الساحةِ والباحـة.
أسيـرُ حراً يتجولُ في اقصـاه، وحُبها نابعٍ من القلب واوردةٍ في أقـصاه، ابعدَ سنينٍ وشرع صهيون به القانونَ وأقـصاه .. وعاد مجدداً بعكازه يعانقُ رحابُ أقصاه.
أسيرٌ يعلم انه لا يوجدُ حُريـةً تعادل اسره، ولو فتحت له حدود العالمُ بأسرِه.
اربعـةً وخمسون عاماً من ثمارها ابنتي، يمامتيّ!
تقعدُ كل يومٍ أمـام قبـةِ الصخرة، تُدونُ ما جُهِلَ، وتوجدُ ما فُقِدَ، وتُحررُ ما أُسِرَ، وتكتبُ شعراً في القدس والصخرة، ولن تتزحزحُ حتى تتزحزحُ الصخرة!
رباطي مع يمامـتي .. حمامةُ القدسِ وحمامتي.
كُفَ عن لهوِكَ واضغاثُ احلامكَ يا خالد.
أي رباطٍ أنت به الآن؟
وأي ثمارٌ جنيت وانت تحاربُ محتلاً وبيتك مُحتل!
وزوجتـكَ قد احتل قلبها ومن ثم عقلها وأمومتها ..
أي نضالٍ تحكي عنهُ؟
وَأبنائك مناضلٌ وصهيوني!
أ تظنُ عائشـة انني غفرت؟ نسيت؟
تغدق عليـه بالحُبِ والحنان، وتقحمـهُ في حياةِ ابننا وتقول انها تؤامـه!
فيصدقُ الفتيّان ويتشاركان الطفولة، والشباب، والاسم، والمشيبّ.
لقد اخطأتُ عندما وهبتهُ اسمـي، ولكنني كنتُ في مأزقٍ لم يخرجني منه الا نسبهُ إلـيّ.
سامح الله عائشـة ولا غفر الله ليعقوب وابنه!

***

خلا البيت من ابنائي، فذهب الصغارُ إلـى جامعاتهم ورحلَ عليٍّ إلـى بيته.
لا أعلم ما الذي يجعلني قلقـةٍ عليـه الى هذه الدرجة، شرودهُ عندما مازحهُ يوسف، او كلامه القليل، او نونةً معقودةً بين حواجبه!
ولدي قد تغيّـر كثيراً، وتغير جذرياً بعدِ زواجه، ولا أشـك أن زوجته سبب ذلك التغيير، فأنـا أعلمُ انها لا حول بيدها ولا قوة!
هي لا تراهُ إلا قليـلاً، لقد أخبرني يوسفَ أن علـي لا ينامُ في بيته، يهجع الناسَ ويقوم، ويقوم الناسَ ويهجع!
لما تخالف الفِطرة في نومـك وتخالف النّـاس؟
ما الذي غيّـرك يا علي؟

رنّ هاتفي فإذا هي بزوجةُ علـي رددتُ علـيها بطريقة مازحـة:
كنت بدي اتصل فيكِ لو ما اتصلتِ.

ابتسمت وكأنني أرى تلك البسمةُ الندية: الئلوب عند بعضها،
كيفك خالتي، كيف الأولاد وعمـي؟

اجبتها: كلهم مناح ويسلموا عليكِ، انتِ طمنيني كيفك وكيف يافا وخالد؟

وصلت الى مربط الفرس كما يقولون: ماهو بدي احكي لك عن يافا يا خالتي،
بدي سجلها بالمدرسـة، وابوها مش راضي تدرس هون بالقُدس،
بدو يدرسها برام الله!

رام الله مرةً أخـرى وهاجسُ غياب يوسف المتكرر في ذهابه إلـيها، لم أصدقُ انه اليوم سينهي امتحانهُ الأخير بها، ويبدأ عليّ في تدريس صغيرته هناك: لا مش ع كيفه!
كيف بنت صغيرة بتدرس هناك؟

زادت ناري وهي تقول: بدو ايّـاها تروّح مع الباصات العموميـة.

جُننتّ!

كيف تذهبُ طفلةٌ الخمسِ أعوام هنالك لوحدها؟: هالحكي ما بيصير،
بس ييجي خالد بدو يحاكيـه.

أغلقت السماعة بعدما ودعتها وأنـا أبحثُ عن أسمِ خالد: ألـو.

ردّ بهدوئه المعتاد رغم السعير الذي بين جنباته: أهليـن عايشـة.

يستفزني هذا البرود وهذا الرد وهو يسمعُ في صوتي العَبرة: بدي تيجي ع البيت.

وأيـضاً ببرود وهدوء أجاب: إن شاء الله،
بس تكفيّ يمام ياللي بيدها ونرجع. " تكفيّ = تنهي".

اعتلى صوتي قليـلاً: هلأ!! "الآن".

أعاد بنفس النبرةِ وطبقة الصوت: بس تكفيّ يمام.

***

يا لها من مصيبـة!
أي خلاصٍ انوي وهذه المرأة لا تفتأ عن ابلاغُ أمـي بكل شي.
ولو شككتُ خيطاً لأخبرتها وقالت "عليـاً فعل"
لا أعلم لما كل هذا الخِناق؟ ألم تستوعبَ أن هذه القرارات خاصـةً بنا ؟
وأن درستَ يافا برام الله أين المشكلة؟
أيـن المصيبة التي يرون؟

بل أن المُصيبـة قادمة عندما دخلت وقالت لي: أبـوك بدو إيـاك تمر لعندو.

إذٍ، وصلَ الأمر لأبـي يا أمـل!: مبسوطة؟
خبرتي الكل ان بنتك بدها تدرس برام الله؟
مبسوطة ع البهادل اللي بسمعها مشان قرار يخص بنتنا؟

صمتت!
فلم تجيب ثورتي الهادئـة، ولم تجيب اسئلتي.
تشعل النار في براكيني لتزيد من حميتها، وتبقى صامتة كقطعة جليد تراقب البركان
لما تخبرُ والدايّ.. لمَ لا يتدخلَ والدها مثلاً؟
هل ترى سطوة أبـي جائرة حتى تستغيثُ بـه؟
أم ترى يد امي الحانية سوف تطبطبُ علـيها؟

***

دخلَ علي وخالد في انتظاره، خالدُ الذي بدأت تهدأ ثوراتُ غضبـه منذُ ان دخلَ الخمسين.
هل شيّبت يا أبـا علي؟
لم يعد لديك المقدرة على مجابهة هؤلاء الأولاد؟
أ عجزت يديك الساطية ان تسطو مرةً أخرى؟
أ عجزَ لسانك السليط ان يتسلطُ ثانية؟
لمَ تعجزُ عن فعلِ شيءٍ وأنـا بحاجة هذا الفعل؟
لمَ تعجزُ؟.. وكل مقدرتك قرعِ عصاءك بالأرض منتظراً علي ان يبادر ويبرر لنفسـه!
هل يعقل ان خالداً ينتظرُ تبريراً؟
أم يواجهُ عجزه الذي احسست به قبل ان يتكلم.

تحدث علي: طلبتني يابـه!

اجابهُ والدهُ: ليش بدك تدرسـها برام الله؟

جلسَ علي يشرحُ وجهةُ نظره: رام الله فيها مدارس مستواها عالـي، وجيـدة بالتدريس – ثم اكمل وجهة النظر .. تبريراً - صاحبي من هون وبيدرس أولاده برام....

قاطعهُ وهو يرفعُ راسـه المسنود على عكازته: وانت شو بدك برام الله؟
ماهي القدس كلها مدارس، وأنت واخواتك كفيتوا علامكم فيها. " علامكم = دراستكم".

تدخلت هذه المرة يمام: القدس كلها مدارس متل ما قال بابا، ويافا صغيرة على الروحة لوحدها بالباصات العـمومية.

اجابها عليـاً: انا بدي وصلها كل يوم، بتروح معي!

تحدثتُ أخيـراً: و وظيفتك؟

اخذ نفسـاً وعيناهُ تنتقل الى والدهُ وكأنه يخاف مما يقول: نقلت على رام الله.


***


صمت عمّ المكان!
علـي يتعدا على قوانين والديّ.. علي يعرفُ مـعنى ان يبقى المقدسي في قدسـهُ.
علي يعلم ان والدي لا يرضَى ان نتبعد عن القدس، كيف ان يتجاوز علياً ذلك!
ألا يعلمُ ان وجودنا هُنا وحده رباطاً؟
ما بالهُ بدأ ينسـى ما فُطرَ عليـه، فُطرنا على اننا نموت هنا ونحيا.
وأننا نضلُ هنا ونبقى، ونناضل ونرابط ونُقتل ونَقتل.. ويفنى الجميعُ والقدسُ تبقى!
طرقُ عصـاء والدي المتواتر الخفيف ينبأ عن تحكمهُ بأعصابهِ أمـام جُرأة قرار علي الذي اتخذه بلا مشورةٍ من أحد!
أي جرأة تملكتها يا أخي وأنت تتجاوز حدود والدي وحدود القُدس؟

تحدث والدي منهي الجدال والكلام: روح وين ما بدّك،
بس يافـا تضل عند أمـها.. البنت لأمها، البنت لأرضـها.. لقُدسـها.

لحقتُ بعلي الذي خرج غضبان من ردةِ فعل والدي: علي!

توقفَ وهو يزفرُ ما في صدرهِ من أكوام غضبـه وأسـاه، تحدثتُ وأنـا أراهُ ينظرُ لي مستجوباً ما سأقولـه: ما تدايئ حالك، " تدايئ = تضايق".
البابا مو حابب تبعد البنت عنه، وما تشغل بالك انا أوصلها كل صُبح للمدرسة.. روح لرام الله وئلبـك متطمن.
ابتسم على مضضٍ: إن شاء الله.

ابتسمتُ له: عارفة انك مش زعلان على بنتك ولا على "مصادرة" قرارك،
انت زعلان لأنه سمح لك تطلع من القدس!
كان بدك يرفض هالقرار ويئولك تضل عندي؟

أخيـراً أجابني: لا،
ما كنت حابب ردة فعله اتجاه نئل عملـي.. او نئليّ من القدس!
كنت حابب يرفض ويعترض متل ما اعترض على يافا – أردف – صاروا أولادنا هم الكُل بالكُل واحنا صفر ع الشمال – ابتسم مازحاً – راحت علينا يا خيّـه!

***

العودةُ إلـى القدس.
ليس مثلُ أي عودة، أنها العودة الأخيرة بل اللقاء الأول بعد غيابٍ متكرر عنها بسبب دراستي في رام الله!
رام الله، ستبقى الرامُ جديرة بالقصص والحكايا المسرودة للأولاد والاحفاد،
ستبقى الرامُ مرامُ مريد البرغوثي وعبدالحليم حافظ ومرامـي أنـا أيـضاً.
أ تعي ماذا يعني أن يكون صباحي في رام الله؟
أن يكون صباحي مختلف!
صباح البائسين والفقراء الذي توسدوا قارعة الطريق فراشاً لهم.
صباحي الكهل الصبور الذي يحمل على أكتافه أعباء حرفته القديمة الموروثة أبـاً عن جد.
ويعود أدراجه عند غروب الشمس حاملا بكفيه قطعة شوكولاتة، وبضع شواكل!
صباحي الطفل الصغير الذي يجرُّ خلفه حقيبته المدرسية متذمرا من يومه الصباحي قبل بدايته.
صباحي حيـطان ومساجد، صباحي "سلطة أوسلوا" التي اجتثت الصمود الماجد.
صباحي الأخيـر في الرام قد انتهـى، وبدأ ظهراً سرمديـاً في القدس!
أوقفتُ سيارتي في حارتنا الخالدة، الصـامدة " حـارة السعديـة" وأنـا أرى يحيى أيـضاً يفتحُ الباب.. لتوهِ انتهى من آخر امتحانٍ في مسيرته.
أ تعلمُ معنى ان تعود لأمـك وأنت حاملاً بيدك وردٌ وشهادة.
ففي بلادنا نحملُ الورد والشهادات، شهادة نُطِوقُ وردها، وشهادةً نُطوّقُ وردها!

فتحَ الباب ودفعتهُ قليـلاً لكي أدخلُ قبلـه: بدي بشرو ئبلك،
حلوان الوالد محرز!


***


توتر الجو الذي ساد بعد خروج علي لم يبدده الا دخول ولدايّ وشمعةُ فؤادي، أقبل يوسفَ يقبلُ رأسـي ويهتفُ بصوتـاً عالِ: ابنك خريج يا أم علي!

ضممتهُ: مبروك يا حبيب أمّـك، عئبال الوظيفة!

ودخل اخوهُ بعده بهدوءه المعتاد، يقبل رأسي ويسألُ عن والده: وين بابا؟

رَكض يوسفَ قبلـه: ابنك بدو يوخذ الحلوان ئبلي!!

ضحكتُ على شيطنته المحببة، التي تزرع في بيتنا البسـمة!
جديـةُ يحيـى، وانغلاقُ يمام، وانشغـالُ علـيّ.. لا يجتمع البيت إلا على ضحكة يوسفَ وعفويته المحببـة.
يبدو ان ابنائي ورثوا جديتي وانشغالي بين اعمالِ المنزل وبينهم، لم يكن يوسفَ مثيلاً لهم منذ صِغـره.. يشابهُ أبيـه.. يوسف خالـد، بل خالد صغيراً.

دخلتُ إلـى الصالـة وأنـا أرى ابتسامةُ خالد التي رسمها يوسفَ على وجهه رغماً عنه، ورغمـاً عن علي الذي عكّر جو والدهُ منذ أربـعِ ساعاتٍ فائـتة، وما أن رأني خالداً حتى تحدث: امكم هلأ فرحانة لرجعة يوسف من رام الله اكثر من تخرجـه.

تذمرَ يحيـى: بيظل لازق بوجهي ع الأربع وعشرين!!

تحدث والده منكراً ذلك: بدو ينزل كل يوم ع الاقـصى معي أنـا ويمام – التف الى يوسف – ما هيك يوسف؟

تحدث الآخر بعيونٍ فرحـِة ويداهُ تعانقُ يدا والده: هيك يا أبو علي هيـك.

استطرد يحيـى الذي لا يُنسيـه الفرحَ مراقبة الحزن والكدر في ملامحنـا، بل ويبدو أنـه استنتج سبب ذلك الكدر: وين عـلي؟

رأوا التهجم والضجر في وجهِ خالد، والأسـى في ملامحي، فدخلت يمام التي انقذت الموقف، بل انقذت علياً الغائب من لسانِ والده: اجا اليوم وقال بدو ينتقل من يوم الاحد ع رام الله، نقل دوامه فيـها.

وقف يوسف: وينو هلأ؟

اومأت بأكتافها بمعنى لا أعلم، وخرج يوسفَ وَ بقينا في انتظار عودته التي أعلمُ انها لا تُثمرُ شيئـاً.
وقفَ يحيى بعد صمتٍ دام لدقائق: بدي صلي الظهر بالاقصـى

خرجَ وكأنه يُعطي خبراً لا يطلب مرافقـاً كتلك التي وقفت لاحقة به.
استغليت الفُرصـة!

خرج الأبناء وبقيَ البيتُ خاليـاً: خالـد،
لازم تفرح للأولاد، قتلت فرحتهم!

رمقني بنظرة: افرح للأولاد؟!
ما هيني فرحان وعين الله علي!
ابنك واحد بيروح لرام الله، والتانين تخرجوا وبكرا بيطاردوا ورا الوظائف – استطرد مستهزأ – ما ئلتي لي عايشة!
كيف بدي وظفو وأجوزه؟ اقولهم هيو ابني اليهــ.....

فززتُ من مقعدي متجهةً إلـيه وأنـا أضعُ يدي على فاهه!: اشش!
- عاتبتهُ- ما نسينا الئصـة هاي يا خالد؟ - اكدتُ عليـه - خلاص هاد ابننا، اخو الأولاد بالرضـاعة، ما فيك تمنعو من حئو بأخوتهم، ومن حئي بأمومتي.. ومن أبوّتـك له كمان "حقـه".


***


خرجَ يحيى وخرجتُ خلفـه، ظن والديّ انني ذاهبـةً مـعه!
لا يعلمون أنى استغليت الفرصـة حتى اختلي بنفسي، نفسي التي يحرمني والداي من الاختلاء بها حتى لا تؤذيني بأفكارها وسُبل الماضي التي تجرّني إليـه جرا.
الماضي الذي تجسدَ في صورةٍ احملها بين يديّ.. آواه من هذا الماضـي!
الماضي الذي يرسمُ حاضريّ ومستقبلـي.. ماضي مرتبطٌ بمستشهدي.
وحاضراً مرتبطاً بك أيـضاً، فأُنادى بشكل دائمٍ في الأقـصى بكَ، تعرفني مرابطة على مرابطةً أُخرى وتقول هذه " يَمامّ أرمـلة عُمـر".
بتُ مقيّـدة يا عُمر، سنتان من غيـابك وسنتان من انتمائي الحقيقي لك.
ظننتُ ان شهور زواجنا كانت اعظم ارتباطاً بيننا، ولكنني جاهلـة!
لم ارتبطُ بك الا بعد استشهادك، بعدمّـا زيّنت قبركَ بالآس وأعلنتُ حدادي على ذلك القبـر!
العروس الارملـة، العاشقـة المتوجـعة.
يمامُ خالد، لم يخلد لها عُمر!
يمامُ خالد، سُلب منها العمُر.


***


صـلاةُ الظهر في المباركة التي تتجلى أمامي.
هذي هي , وما عادت مقولة تميم البرغوثي تمثلني
التي كنت اسمعها أحس أنني المعني بها
" في القُدس من في القُدس إلا أنت "
اليوم يا تميم في القدس تختفي كل الحكومات
وتختفي جميع المسميات، وتختفي صهيون ومن على شاكلتها
ويبقى على هذه الأرض اثنانِ فقط، القدس وأنا.
أتوه بين شوارعها وتعرفني القبة واهتدي بها
اعرف دليلي من أزقتها الكثيرة المتشابهة، المتاهة لمن لا يعرفها
أعود من مدرستي محملاً بكُتب فوق ظهري
و فوقها الهم اللطيف الذي يحمله طُلاب المدارس
اللذين لا يعرفون من الحياة، إلا مقاعد الدراسة ..
فلتفخر يا أيها المقدسي
بان مقاعد القدس احتضنتك اثنا عشر سنة
ومن ثم ارتقت بك الى صفوف جامعاتها،
التي تصقل المناضل وتكشف العميل
لا ينكشفون إلا في القُدس، لان المباركة حرم الله عليهم خديعتها ومهانتها ,
هي ملاذ المقدسين , وهداهم ورشدهم ،فكثيرا ما كانت يحميهم من بطش الاحتلال
فيختفي المقدسي بين زوايا الأزقة ويبقى صهيون تائه بها.
هي القدس التي وِلدتُ فيها .. يا حزنُ المولدِ والمولود.
صادف سنةُ ميلادي قرار عبريتـها .. أرادوها عاصـمةً لهم.
أرادوا سلب هويتي رضيـعاً، واليومَ أنـا شاباً مقدسياً خريجـاً، أتـى ليبارك الله تخرجهُ في رحابها.


#انتهى

منـال مختار 22-07-21 10:13 PM



مساء الخير ❤


ي هلا وغلا ب غربة يعمري منور المنتدى ماشاء الله تسلم يدگ بداية جميله ❤❤❤

شمالية الهوى 23-07-21 11:03 AM

اهلًا بعودتك غربة
بداية رائعة، وعودة قوية، وطرح جريء كما عودتينا
قرأت روايتك الاولى ومازلت غارقة في جمال وصفك وسردك وروعة افكارك وغرابة طرحك الجميلة
اتمنى لك التوفيق لك مني اجمل تحية..

AbuHossam 06-08-21 08:12 AM

هلا وغلا
بداية مميَّزة

غُربة. 07-08-21 08:03 AM

.
.

أعتذر جداُ على التأخير، ولكني حبسني حابس:(
عُدت من جديد بالبارت الـثالث

*ملاحــظة

أهل القدس يتكلمون بالـهمزة بدلاُ من القاف، ولكنها صعبة وجداً ثقيلة في الكتابة، لذلك وجب التنبيه والقراءة في الهمزة وليس القاف


.
.
.
.


البــــارت الثـالث..




خرجتُ خلفَ عليّ وأنـا أعلم أن نيتهُ في الذهاب الى رام الله ليس بسبب نقل عمله لها، بل هو من نقلَ عملهُ لسببٍ لابد ان اعرفه!
ذهبتُ إلـى بيته وخرجت إلـي ابنته تقول انه لم يعد منذ ان ذهب إلـى أبي.
إلـى أين أنت ذاهب يا علي؟، أعرفُ دروبك ومخارجك ومداخلك!
عكستُ سيري الذي كان إلـى المسجد الأقـصى فقد حادثتُ يحيى وقال انهُ لم يراه هناك، لأتذكرُ مكانٍ واحدٍ فقط يمكن أن أجده بـهِ.
رام الله.. ليس سواها.
على بُعِد ثلاثين كيلوا متراً، أخرجُ من القدس ليكون رفيق رحلتي الجدار العازل الذي بُني ليمنعنا من الوصول الى الداخل المحتل!
فقد كانت اللد هوى فؤاد عليـاً، وكانت حيفا طبيبةُ والدي بحدائقها البهائية، وكانت عكا موطنُ خالي الذي بقيَ عالقـاً بها بعد ان رحل اهله الى غزة..
وكانت يافا وكانت عكا وكانت الجليل... واليوم لم يعد لدينا أي تصريح عبور لمناطق الـ 48، أصبح تنقلنا في بلادنا يقتصرُ على الضفـة!
مما جعل علياً يتوجه الى الرام.. فقد صعُبَ عليـه الوصول الى اللد.
لابُد ان هذا هو سبب مجيئه الى رام الله!
يبدو ان تفكيري الطويل وثقتي بوجود عليّ هُنا أنساني ان اتصل به اتأكد من وجوده، وأنساني الربـع ساعة التي قطعت دون ان اشعر الى ان رأيت رام الله تتجلى امامي.
قد عُدت إليـكِ يا رام الله في نفس اليوم الذي قد ودعتكِ بـه!

رفعتُ هاتفي متصلاً بـعلي: ألـو.

أجابني بهدوئه المعتاد: أهـلين.

ما هذا الانقباض ياعلي؟: ويـن كاين؟ "وين أنت؟".

أجاب وهو مستلم، يعلم انني قادماً إليـه لا محالة: سلفيت– ثم استطرد – رافات!

أي على بعد 34 كيلو من هُنـا.
رافاتٌ يا علـيّ.. وعندما تختارُ رافات اعلم ان الامر ليس بالهيّـن!
فأنت اخترت ايقونة الشهداء وام المناضلين وبلد يحيـى عياش.

***

في رافــات!!
هل يعقل ان هذه رافات أمامّـي وأنني اجلسُ في أحد مغاراتها؟
صعدتُ فوقَ المغارة وها هي رافات تجلّت بجمالها الريفي وطيبة أهلها الكرام وبيوتها المتراصة المبنية بالصخر القديم، التي تشابه أزقة القدس، وتُظهر منارة الشهيد يحيى عياش من بين بيوتها، والكروم والبيادر والبيارات الخضراء كأنها تخبرك أنهُ ما زال هُنا حيـاة.
ديوانُ شحادة وبيوت عياش وعِمارة جودة تخبرك انهم مازالوا باقون.
الحياة الريفية هنا تختلف عن الحياة في اللدَ والقدسَ ورام الله..
الحياةُ هنا تختلف.. والروحُ هُنا تختلف أيضاً!
رافات.. هُنا الانتفاضة الثانية.
رافات.. هُنا الجدار العازل يغيب القدس عن الأنظار.
إلا انه لم يغيب عنـيّ يوسفَ القادم مما جعلني أنزلُ من مرتفعيّ العظيم إليـه.

قدمَ إلـيّ وبادرتُ اسألهُ: كيف كان الطريق؟

قعد بجانبي بتذمر عمّ ارجاء فلسطين في هذا الشهر: هو احنا نشوف طريق؟
ما هو كله جدار طويل ما بنشوف منه الا الشارع.

تنهدتُ لهمـه وهمي.. وهمُ كل فلسطيني!
الأراضي المحتلة في الـ 48 لم نعد قادرين على الذهابِ إليـها: وهيهم منعوا الفوته على الداخل، لازم ادبّـر لي فوته ع اللد.

التفّ إلـي: شو بدك باللد.

استغربت سؤاله!: ولو أبو يعقوب،
مش عارف شو بدي باللد؟!

وكأنه ادكر: فكرتك نقلت من اللد كمان! – استطرد – انا اروح للد انت خليك هون.

ابتسمت: مشان تقتلني امّـك.

وكـأني فتحتُ عليه باباً نسيه وهو بالتأكيد قدمَ لأجله: اللي بدو يقتلك أبوك،
شو صاير لك؟ جانن ع الاخر، في حدا براسو عقل يتعدا على حدود أبـوي؟!

ما بالهُ مصدوم وكأن حدودَ أبي حدود دين!: بهالارض إذا بدك تعيش لازم تقلع كل حد قُدامك!
ليش ابوك بدو يحتلنا؟ ما يكفي احتلال اليهود؟
ليش ابوك ما يقتنع انو كل شخص وحياتو يعمل فيها كيف ما بدو؟
ليش الديكتاتورية؟ ماهو رافض وجود الاحتلال ليش يحتل خطواتنا ومشاويرنا؟

تحدث يوسف برفض: انت مكبر الموضوع،
بابا مو حابب لنا ارض إلا القدس.

صمتت فأكمل يوسفَ: انت بدك تنقل يافا ع رام الله، ما خذيت برأيـها ولا رأي إمها، كمان انتَ ديكتاتور!

بررت، بل نفيت عن نفسي التهمة!: بديّ مصلحتها، أنـا أبوها وبعرف شو يناسبها.

فتحدث يوسف والحميةُ تدفعه لوالده: وبابا كمان بدو مصلحتك، أبوك بيعرف شو يناسبك!

***

بعد أسبوعٍ من معضلـة علي، وغضبَ أبي المستمر هذه المرة.
يبدو أن قلقه على حياة ابنه هو ما يغضبه. وليس الابنُ نفسـه!
أخبرتُ يمامّ أن تتحايل عليـه ليبقَ في البيت هذين اليوميـن، لا أريد ان يذهب للاقصى او لأي مكان آخر وهو بهذا الغصب!
أعلمُ انه لن يتحكم بأعصابه فقد يتمشكلُ مع جنديٍ ارعن يزجُ به في غياهبِ سجونهم، أو يقابلُ مستوطن ويهدمُ استيطانهُ على رأسـه!
لابُد ان نمتصُ غضبـه قبل كل شي..

رفعتُ هاتفي مستنجداً بيوسف: وينك؟

يبدو ان الشمس الحارقة، حرقت اعصابه ايضاً: هيني راجع البيت،
شو فيه؟

اجبتهُ: بدنا نتسلى، ونسلي بابا شوي،
من طلع علي من القدس وهو متدايق " متضايق".

وكأن الذي قلتُ له امراً ليجيب بانصياع: يلا يلا،
ما بتأخر.

خرجتُ إلـى يمامَ التي تعدُ الحلوى منذُ وقتٍ ليس بالقصيـر، وبجانبها أمّـي تقعدُ على كرسـيٍ تحادثُها او تُسليها في عملها الشاق المحُبب إليـها، وما أن دخلتُ حتى طلبت مني يمامُ المساعدة.. ولم اتوانَ!

حادثتُهم مخبراً بعض الشي ومبتدأ الحديث: علي مش هون،
ويوسف هيـو قريب من البيت.

تحدثت والدتي ببعض الهم: الله يهدي علي ويريح بالو.

صمتّ عمّ المكان، فما القولُ الذي يقال عن ابنٍ عاصٍ، عصى والديـه.. وعصى أرض القُدس ليرتحلُ إلـى غيرها.
كيف تتهادى خطواتهُ بأرضٍ غير هذه الأرض؟
كيف تبتسمُ شفاهه في وطن غير هذا الموطن؟
كيف يتركُ بنيـه في بيتهم ويرحل!!
كيف نصمت؟ ولما لا نصمت!

ولما لا يطبق الصمت ولمحة الحزنَ في عينِ أمـي وفي نبرةُ الهم في صوتِ أبي.. صمتٍ يطبق لولا صوت عكازة أبي وهو يقفُ على بابِ المطبخ مبتسماً، موجهٍ حديثهُ إلي: يا ريت في منك اتنين،
ما كنت بتغلب!

كنت سأردُ لولا اقتحام يوسفَ لنا وهو يعلق: وأنـا كمان بابا ما بدّك منّـي نسخة تانية!

رفعَ عكازتهُ وكأنه يريدُ ضربـه: أولاً النـاس بتقول السلام عليكم اول ما تدخل،
وثانياً ما بدي منك نسخة تانية ولا تالتة

ضم يوسفَ كتفيّ والدي من الخلفِ ممازحـاً له: لأنه بيكفيك وجودي!

ضحكت يمامّ: لأنك فريد بيحافظ على تفردك وجوهرك الثمين خييّ!

ابتسمت أمي: وأنـا بلاقي ابن متل يوسف؟

***

في الجو الصافي إلا من سحابات صيفٍ تعتليه تشبهُ حالنا وسحابة الصيف التي نمرُ بـها، لا أعلم لما خالد يكبر الموضوع بهذه الطريقة ويضيقُ لحال علي.
أ ليس رام الله بأقرب من التفاتتك؟
أ ليس رام الله أقرب من غيرها؟ رام الله اقربُ من غزة التي نقل إليـها أهلي وتركوني وحدي في القُدس!
فكان أخي قريبٌ جداً في الداخل المحتل، أمـا الآن فأهلي في غزة أقربُ في الوصولِ إليـهم من الوصولِ إليـه.
لقد احتجزهُ الصهاينة وتركوني وحدي في القدس.
هل يُعقل ان يتهجرُ آلاف الفلسطينيين ونبقى عائلةً متكاتفة باقية يا خالد؟
كُتبَ على شعبنا الشتات والهجرة، كُتبَ علينا ان نذوق ألم الهجران والبُعد.
فلما انت ضائقٌ من رحيل علـيّ؟
ألا يكفيك وجودِ هؤلاء البنين حولك؟
فقد تركت يمامُ الذهاب الى الاقصـى من أجلك، وترك يحيى حفلة اصدقاءه من أجلك.
وتركَ يوسف موعده مع أخيـه من أجلك.
ألا يكفيك هذا الحُب يا خالد؟
نظرتُ إليـه وهو يتكئ على عكازته وينظرُ إلـى يوسف الذي يتحدثُ إليـه.
يوسف.. صُنعة الخالق واحسانُ بدعهِ!
بشعره الأسود الكثيف، وعينيه العسلية، واستقامةُ أنفه، واكتنازُ شفتيـه.
فيأتي بملامحه الجميلة ليناقضُ يحيـى فأحتارُ أي جمال احتوى اولادي!
شعراً يميلُ للبني الغامق، وعينيه الخضراء، ونورٍ يسطعُ من وجهه، ومسباحٌ في يمينه، وأنفٍ أشـمّ، ونظرةٍ حادة تحطمُ الجبل الأشـمّ!

ملامحهُ حادةً وصارمة عكس يوسف التي لم تكن ملامحه حادةً إلا عندما سمع حديثُ والـده بعدما سألتهُ يمامَ عن حرب الـ67 م: كنا ساكنين ببيت عنان وكنت ولد صغير أمـشي بين البيوت طالع من المدرسـة مروّح ع البيت، ألف يمين أشوف دبابات بعيدة وجنود منشرة على الجبال!
دخلت البيت وسألت ابوي أنو شو عندهم الجنود هون؟
وخبرته انهم عرب وجيش "عرب": جيش عربي وهو الجيش الأردني، والجيش المقصود به جيش الاحتلال".
ما جاوبني ابوي الإجابة اللي تريح بالي او تريح فضولي، ورحت لأمي وهي بالصالون بتتسمع بالراديو وأسـمع نشرة الاخبار بتقول ان العرب بدأوا بحرب من اكم يوم لتحرير فلسطين، سوريا ومصر والأردن!
الله أكبر، بدنا نتحرر!!
وما ظلت بجنب أمّـي لثواني حتى بدأ طلق النار يقرب أكتر وأكتر، صار بشكل جنوني وخيالي، جيشين تقابلوا وتحسيهم كلهم عطشانين لشوفة الدم على الأرض!
صارت منطقتنا والمناطق اللي حواليها صوت طخ نار وبين كل فترة وفترة صوت مدفـعية عم بتضرب ضرب على المساجد والبيوت.
أخذتني امـي ودخلتني جوا الغرفـة وجاء أبـوي وخبرنا انو لازم نطلع لازم نمشـي!
الدمار عمّ الشوارع والبيوت صارت بتتهدم فوق راس أصحابها، هنا رفضت أمـي انها تطلع، بحجة انو ما راح نواجه النار بصدورنا العارية خلينا بالبيت وجدرانه تحمينا بعد الله!
هنا جن جنان ابوي الناس بدت تطلع وماضل أحد، الحربّ بين التلال واحنا بالوسط الضحية!
طلعنا بعد محاولات كتير من امي انها تطلع، وكان خوفها على أختي اللي أكيد احتجزت بالمدرسـة، بحكم انها ثانوية تتأخر شوي بالحصص!
والقريـة كلها يا دوب توصل 1000 شخص، مشان هيك ابوي طلعنا على امل ان اختي يعرفوها الكل وراح يقدروا يوصلوها لنا بأي طريقـة.
طلعنا من بيت عنـان، وضلينا نمشي نمشي لحد ما تعبنا وهلكنا وانا مش عارف الطريق او مش عارف وين رايحين!
وظلت امي بتصيّح على ابوي وين بدنا نروح يا أبو خالد، وين رايحين، شو صاير، وين الجيوش العربية؟
وأبوي وقتها ولا كأنه بيسمع ولا بيتكلم، ماسكني على يمينه وامي على يساره وشادد على يدينا وشادد حيله بالمشـي!
لين وصلنا لرام الله بعد نص يوم، ع العشاء تقريباً.
وكانت أمـي بين خوف على بنتها وخوف على مستقبلنا.. وخوف من بكرا.

قاطعهُ يحيى وهو يتساءل: وفعلاً وين الجيوش العربية؟
ليش الجيش الأردني اللي بيحارب وحده بالقدس؟

اجابه والده بالخيبة التي مازلت أراها منذُ ان تزوجته، الخيبة التي رافقتهُ منذُ ان كان عمره سبعة عشرا عاما: الجيوش العربية انهزمت من أول يوم، احتلت سينا والجولان والعقبة، فكانت الدول العربية اللي قامت بالحرب مشغولة باللي احتل منها ورجعت جيوشها لحتى ما يوصل الاحتلال لعواصمهم متل ما صار مع مصر!
أمّـا الجيش الأردني اللي يحارب بالقدس فكان الحماية الهاشمية او العهدة الهاشمية ما كان الو علاقة بالحربّ.

يبدو ان يوسف خشي أن يدخل اباه واخاه في معمعة الحرب ونطقَ: كفّي السيرة يابا. "كفّـي = أكمل".

أكمل اباه الحديث: متل ما انتو عارفين ما كان في احتلال الا بمناطق الـ 48، يعني احنا طلعنا من القدس وهي حُرّة ورحنا لرام الله وهي حُرّة.
وكانت الأيام هاي أصعب أيام عليي كشبّ صغير دوبو يفتح عيونو على الدنيا ويستوعب شو قاعد يصير. "شبّ= شاب"
ما كنت بفهم معنى الخذلان والنكسة والنكبة والاحتلال بالشكل يلي احنا فاهمينو اليوم، كنت متوقع انو لابد من عودة للجيوش العربية!
كيف هيك تنسحب؟
حاطط ببالي مصر بدها تسترد سينا وترجع تساعدنا، والأردن بدها تسترد العقبة وتشارك بالحرب كردة فعل منها، وسوريا أكيد لما تسترد الجولان راح تتمركز فيها وتكسب الحربَّ.
كانت هاي أفكار ولد صغير طايش يتوقع الحرب تنتهي بيوم وليلة والغايب يعود والمحتل يتحرر والغاصب يرحل.. بس كل هاد حكي مافي منو شي على ارض الواقع.
وما ضلينا كم يوم حتى سمعنا خبر ان رام الله ياللي احنا فيها صارت تحت وطأة الاحتلال!
والضفة بشكل عام صارت تحت الاحتلال ما عدا القُدس وما كان يمنع الصهاينة قوتنا ولا بسالتنا.. كان يمنعهم او يمنع موشيه ديان الأماكن المقدسة حسب قولو!
وبآخر يوم من الحرب سمع موشيه ديان ان الأمم المتحدة راح توقف اطلاق النار من الطرفين، وسمع الكلمة من هون ودخل قواته للاماكن المقدسة من هون!
احتل الحائط البراق والاقصــى وجبل الزيتون كمان، وبهيك صارت القدس مُحتلة.
وقتها ابوي ضاقت فيـه، مش عارف لوين يروح، كل فلسطين احتلت!
وبالأخير رسـا رايه على العودة الى القُدس، ورجعنا بنفوس جديدة تقيلة بالخيبة وفقد الامل!
رجعنا واحنا تحت حكم اليهود، ومن بعدها بدينا نحارب الجيش من جهة والمستوطنين من جهة.
كان الجيش يضمن حياة المستوطن ويمشي له حرس وجند!
يختار المستوطن بيت ويأشر للجند عليه ويطلعون اهلو منو، كانت هديك السنين مرحلة ضعف لان قلوبنا وارواحنا بنجتها الخيبة الأخيرة..
ما كنا متخيلين كيف ست أيام تغير مجرى الحياة بالشرق الأوسط وبفلسطين، مش متخيل ان مصيرنا المجهول من الـ 48 تحدد في ست أيام!
كنا مش قادرين نقاوم المحتل اللي احتل البلد كاملـة، ومش قادرين نقاوم حتى انفسـنا، وبعدها جات حرب الـ 73 وانا بعمركم يابا – ينظر الى يوسف ويحيى – بس كنت وقتها عندي مناعة ضد الخيبة اللي عايشت سبع سنين، كنت قادر اتجاوز الخيبة، ممكن كنت رح أصيب بأزمة نفسـية لو انتصرنا لأن الخيبة متأصلة بالروح ومش قادرة ارواحنا تستوعب النصر.. وفعلاً ما كذبت ارواحنا انهزمنا، ووقتها ما كان في شي نخسروا، الأرض ملك لهم من 7 سنين شو الجديد يعني؟

زفَر الخيبة والوجع الذي عشتهُ انا أيـضاً ونحن ننظر الى يمامَ التي تحدثت: وَ عمتي شو صار عليـها؟

ابتسم خالد: رجعت بعد ما رجعنا للقدس، وكانت مع جيراننا.
ما بتخيل كيف كانت بتضيع مني الأرض والاخت!

***

كلامُ أبي شحن الخواطر وأشجى الأرواح!
كيف تحتلُ البلاد في ستِـة أيام وسبعِ ليال!!
وكأنها عقوبة الله لقومِ عاد حينما أرسل عليهم الريح سبع ليال، كأنها عقوبة إلهية!
كلامُ أبي يشجيني ويبدو انه أشجـى الذي أتصـل على هاتفي وكأنه بيننا يسمعُ ويرى.
أطلتُ النظر في اسـمه وهو يضيء الشاشة مما جعل ابي يستفهمُ: مين؟

اجبته وانا اخرجُ من سكرتي او من بنجُ الخيبة الذي بنجَ أبي منذُ 37 عـاماً: علي.

وما انهيت كلمتي حتى رددتُ عليـه، فسبقني بالحديث: وينـك؟

علمت ان لديه امرٍ مـا: بالبيت.

تحدثَ بهمسٍ وكأنه يخافُ مما يقول: اللي جبت من اللد اليوم خِلصت!
بدي نفس الكمية مرة تانية.

خرجتُ حتى لا يسمعني أحد: طيب، بكرا بدي اجي لعندك ونروح سوا.

عارض رائي: بدي الليلـة!!

شرحتُ له: انا هلأ قاعد مع أبـوي بالجنينة "حديقة المنزل" بس يناموا وينتصف الليل بدي رنّ عليك.

أغلق الخط بعدما قال: طيب طيب ماشي!

***

خروجَ يوسفَ مُريب!
ليس يوسفَ من يخرج لكيلا أسـمعه، يبدو ان عليـاً أفسد علي أخلاقُ أبني كما فسدت أخلاقه!
لـن اسمح له ان يجترّ احد اخوته الى دربـه الذي يبدو انني عرفتُ وجهته.
يوسفَ صغير على هذا يـا عليّ.. يوسفَ صغيراً على معصيتي.

وما ان عاد يوسف حتى رأيت الوجلُ في وجهه: شو فيـه؟

نظرَ إلـيّ وكأن الروحَ تُسلب منه!: مافي شي،
بس يـافا مغلبته بدها تروح معاه، وبدو اياني اروح اسليها او اخدها للدكاكين مشان تنسـى!

غمّـضتُ عيناي محاولاً السيطرة على غضـبي: يعني كان هون وما مرق لعنّـا " لم يأتي لنا".

هذه المرة بررت له أمـه: مو مشكلة،
اكيد كان مستعجل، وهو قالي يومين وبيرجع استقراره برام الله مش دائم، يوم هناك وعشرة هون.

صمـتُ!
وانا لا يهمني امر انتقاله كما يزعمون بقدر ما يهمني لماذا انتقل!
هل الهواجس القديمة بدأت تلعبُ بعقلك يا خالد؟
هل ما زال حسّك الأمني والمطاردة القديـمة تُخيفـك على ابنك.
هل تظنُ أن علـيّ مطارد لذا التجئ الى رام الله؟

نظرتُ إلـى يوسف: تعال هون!

***

لهجةُ الامر الذي يخاطب بها والدي أعرفها جيداً.
أعرفُ غضبـه الأرعن الذي سيطرَ علـيه، يندهُ على يوسف الذي ينظرُ إلـي!
فقد أوقعهُ علـيٍ في مأزق!!

وما ان قَرُب من أبي حتى جذبهُ من ياقة قميصـه: علي لوين بيوصل!
صمت يوسف جعل أبي يصرخ بـهِ: أحكـي!!

تحرر يوسفَ من أيدي أبي وهو يعدل لباسـه وما زال يقعدُ في الأرض امام قدمِ أبي: يابا علي متمشكل مع رئيس قسـمه، وهاد الرئيس مابدو عليّ يترفع بوظيفته وصار يقلل منه الساعات ويقلل منه الشهادات ويهضم حقو.
وهيك ما كان قدام علي إلا انه يبقى بوظيفته ويتحمل تقل دم رئيسو او ينتقل لجامعة تحترمو وتقدر مكانتو كـ محاضر فيـها.
وهو لما نقلَ قدم على كذا جامعـة ولا انقبل الا ببير زيت، وبدل الشحططة والبُعد كان بدو ينقل اولادو لهنيك.
بس إم خالد – زوجة علي – رفضت وعنّـدت ما بدها تطلع من هون، وبهيك اضطر انو يبقى برام الله وقت دوامو.

تدخلتُ أنقذُ يوسف وأنا لا أعلم صحة كلامه: صحيح يابا،
وبعدين مش بعيد ولا اشي، هيو يوسف بيداوم اربع سنين وكل يوم بوجهنا!

صمتَ أبي قليـلاً: بصدقكم هاي المرة،
بس اسمع انت وياه، الله يطعمني واسمع انكم لعبتوا بعقلي تعرفوا شو بعمل؟
بنسيكوا الحليب اللي شربتوه!!

وقفَ يوسف وكـأنهُ نجى من طوقِ المشنقة، واخذ يقبلَ راس والدي ويديه: حاضر ولا يهمك،
هلأ تؤمر على شي؟
بدي روح فسّـح بنت علـي ربـع ساعة هيك وراجع.

ردَ أبـي: الله يـرضى عليـك.

اعقبتُ حديثَ أبي وانا انظرُ يوسف يهمُ بالخروج: بدي روح معاك.. استنى!


#انتهـى



شمالية الهوى 08-08-21 03:49 PM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
رائعة هي روايتك، الاسلوب والسرد والقصة مشوقة جدا
اتساءل ما المشكلة التي يواجهها علي في القدس تجعله يترك اهله وبيته ويبتعد عنها
اشعر ان يوسف هو ابن اليهودي، الفكرة صعبة جدا بأن يكتشف ان اصوله يهودية
بانتظارك دائما♥

غُربة. 14-08-21 06:41 PM


#البارت الرابع





خرجتُ خلف يوسف وأنـا أراهُ يعكس سيره للأزقة والأسواق القديمة تاركـاً بيت أخي وحارتنا خلفـه!
ألم يقل انه ذاهبٌ لجلبِ يافا الى هذه الأسواق؟
ما بالهُ يذهب اليها وحيداً بلا يافا؟
ما بالهُ يسرعُ في سيره ولا ينتظرُ إلـى ان احاذيـه المسير؟
أسرعتُ بخطاي حتى وصلتُ إليـه: مالك هيك مطيور!؟
نظر إلـي وأكملَ سيره وكأنهُ يقول لي أصمت حتى أصل لوجهتي!
يريبانني هذين الاخوين إذا اتفقا على أمر مـا.
أعلمُ ان خلف هذا الاتفاق مُصيبـةً عظمـى، ألا يكفي انهم اتفقوا على حبِ رام اللهَ؟
فما الذي ورثنا من حبهم لها؟ حسرةُ قلبَ أمّي، وقلقُ فؤادُ أبـي.
ألم يفكرا بهما؟
ألم يفكر يوسف بالذي يفعله وهو يقودني كالشاهُ إلـى المسلخ! لا أعلم أي وجـهةٍ هو موليـها؟
ألا انه أقترب من موقفِ سياراتنا التي تكون خارج الحارة بسبب ضيق الازقة فيـها.

وقف حائراً وكأنه تردد فيما أراد ولكنه عاد وعزم على امره هو يركبُ سيارته وما توانيت عن الركوب بجانبه فإذا به يقودها خارجٍ من الحـارة ومن المنطقةِ السكنية بأكملـها: وين رايح؟

نظرَ إلـي نظرةً خاطفة وإلـى الشارعُ مثلُها: جبل الزيتـون!

نظرتُ إلـى الجهة الثانيـة، فإذا بالجدارُ العازل يحجبُ الرؤيـا عن الحيـاة وعن كل شي!: وعلـي هناك؟

اجابني باقتضاب وهو يهدئ من سرعته التي بالكاد تتجاوز الستين لوجودِ نقطة تفتيش روتينية امامنا: لا،
بس بدي روح له اليوم!

تهكمتُ في حديثي: وأنـا بديّ أعرف كل اشي اليوم.

أجابني وكأنه يصمتني!: طيب طيب،
بس نوصل وأنـا احكي لك اشي – فأردف – محتاجك تساعدني!

ابتسمتُ على مضضٍ!: حاضر، بس بدي فهم كل اشي بالأول.

لنتوجـه ويكونَ سيرنا إلـى جبل الزيتون.. محلُ شكواهُ وريبته!
إذٍ، أمركَ صعبـاً يا يوسف!
تظنُ أن سكينة رابعة العدوية ستتنزلُ على قلبك ان آويت لجبلها؟
تظنُ أن جبالُ فلسطين اختصت بالرحمـةِ الإلهية، لذا تلجـئُ إلـيها؟

***

لا أعلم ما الذي اخرجني من البلدة القديمة وازقتها، ولكن كل ما اعلم اننا نمتلكُ عقلاً يخرجنا من القدسِ إذا ضاقت علينا رحابها.
لا أعلم كيف أُسيّـر أمور علي هذه المرة فيحيى لم يذهب معي إلا لأصراره على معرفة ما قد يدور من خلفـه! يمثلُ مع أبي دور الضحيـة الذي تمشي الماء من تحت قدميه وهو لا يعرف.
لابُد ان يعلم يحيى طبيعة الحال حتى يساعدني على أبـي، فعليّ قد اوقعني في شِباكِ خالد! ومن يفلتُ من هذا الشباك ان التفَ حول عنقـه؟

جلستُ على صخرة عظيمة تقابلني مثلها يجلسُ عليها يحيى: وهلأ بدك تحكي يا سيد يوسف.

اخذت نفسـاً عميقاً وانا لا أعلم من أين ابدأ وإلـى أيـن انتهي!: علـيّ – ثم صمتت قليلاً وأنـا أراقبُ تعابير وجهه – مقاوم!

لم يتغير الجمود الذي في ملامحه بل رفعَ حاجبـه دلالةُ غضبه وأجاب: أي!!
وشو يعني مقاوم؟ المقاومة عزّة وشرف!
المقاومة بتخليه يتمسك بأرضـو وأهلو، ما بتخليه يترك اهله، ولا بتخليك تطلعني اخر الليل مشان تقولي هالكلمتين!
- اردف باستغراب – ماهو كل بيت فيه مقاوم وين الغريب؟!
ما حدا بترك اهله مشان المقاومة، ما حدا يخبي على اهله هالإشي وكأنها جريـمة او اشي بيستحى منه لا سمح الله!!

ما بالهُ هبّ في وجهي، وكأنه هبّـة العرب في حربِ حزيران التي عادت خائبـة!: طول بالك عليّ شويّ.
تراجع الى الخلف واتكأ على تلك الصخرة بعدما وقفَ نتيجة انفعاله من خبرٍ يراهُ عادي ولا يستحقُ ان اذهب بهِ إلـى هنا لأخبره: علـي قائد، مش مقاوم وبس!
اعتدل في وقفته وأكملتّ: قائد وبيتهدد،
طلـع من القدس لأنه حس بالخطر!

نظر إلـيّ: ومن مين بيتهدد؟!

ضحكتُ بخيبةً اعتلتنا منذُ عشرِ سنوات منذُ الالفُ والتسعمائة والاربع والتسعون: اكيد مش من اسرائيـل.

أخفضَ رأسـه قليلاً وكأنهُ يرتب أفكاره ويستوعب ما يحدثُ حولـه، أكملت: وهلأ ضروري اروح ع اللد مشان احتياجاتهُ.

تكلمَ بسرعـة وهو يشرحُ لي ماهية ما يقلقه: كيف بدك تفوت ولمين بدك تروح؟
ممنوع يا بني ادم ممنوع، وهسه ببركات الجدار العازل ما بتقدر تنفذ لا يمين ولا شمال، طريقك سيييدة للمراكز العسكرية والتفتيش!

هدأت من روعـهِ: هاي الشغلة بسيطة بإذن الله،
بس ياللي بدي منك هلأ، بدي نزلك على مدخل الحارة وبتروح ع الدُكان وبتاخذ معاك حلوى ليـافا مشان بكرا لما يسألها المحقق أبـوك بنكون صادقين قدامو، وكمان بدك تأخذ معاك بزر ومكسرات وهيـك شغلات لأمّـي مشان يبصموا لك ع العشـرة انك صادق.

استفهم: ولما يسألوني عـنّـك؟ شو بدي قول؟

اجبـتهُ: عادي أي عُذر!
قولهم لقى صاحبو بالطريق وراح مـعاه، أو أي عذر عادي.

أومـأ براسـه، وهو ينفضُ غبارٌ علقَ بلباسـهِ، ويا ليتك يا أخي قادرٍ على نفضِ الهم الذي اعتلى قلوبنا، وخوفي من مصيرِ علي غدا.
ليتكَ تعلم ما الذي ينوي فعلهُ أخيـك وإلا كسرتُ قدماي قبل ان تذهب للد وأعدت أخوك من سلفيت!
أ تظنهُ فعلاً في رام الله؟
ألم اقل لك ان الذي ينوون له الشــر هناك مقرهم الذي تعرف مما جعلهُ يتنقل الى سلفيت.

تحدث وهو يفحصُ لبـاسه أن بقيَ به غبار أم لا، فهو سيذهبُ لتتفحصه عيونَ خالد السـاهرة: يلا مشينا.

سبقتهُ وأنـا أرفعُ صوتي محادثٍ لـه: ما بدي حدا يحس بشي،
لو حدا عرف رح نكون سبب ضرره اكثر من نفعه!
- خفضتُ صوتي بعدما اقترب وأنـا أفتح باب السيارة – ما حدا يقدر يساعده ولا احد يقدر ينفعه بذرة!
بالعكس بنضـره وبنفتح العيون عليـه أكتر.

***

رحلا اخويّ وامتعاضُ أبي الذي للتوِ هدأت اعصابه قد زاد.
يطرقُ بعصـاته بلاطِ الحديقة، أعلمُ أنـه يفرغُ غضبـه بهذه الطريقة،
وأعلم انه نادمٌ أشد الندم على ضربـهِ ليوسـف، أبي وأعرفـهُ!
يندم على كل فعلِ يفعله بأبنائه ولو كان محقـاً، فالأب مربـي، ومعاقب، وصارم.
ليس الاب الشرقي الذي تأخذهُ الرأفـةُ واللين وبنيـه بهذا الحال والتذبذب!
أكبرهم يرتحل بلا انذار مسبق، والآخر تحيطه الريـبة!
ويحيـى من بينهم كالذي دخل الوحلَ وتمسـك بصبارة، أن افلتها سقط، وأن بقـي ضرّهُ شوكها.

أعلم ان أخي بريئـاً مما يعملون، ولكنهُ أخيهم لابُد ان يشاركهم امرهم الذي ارتاب والدي منه، سألتهُ وأنـا لا أعلم أن كنت أزيد عليـه أم لا: يا حزرك شو مالهم؟
شو بدو علـي من يوسف بهالوقت؟

زاد طرقِ عكازته وهو ينظرُ إلـي تارة ويعيد نظره إلـى الأرض، وكأنه يعلي صوت هذه العكازة حتى ينخفضُ صوتـي، ولكن أمـي أجابتني: ممكن يكون مقاوم!

تحدث أبـي بفزع!: شو مالك يا عايشـة!
من ايمتى والمقاومة اشي يتخبـى؟ نسيتي كيف كُنا نقاوم ونساعد قدام عيونو وهو ولد صغير؟!
عمرنا ما حاربنا المقاومة وعمرنا ما نبذناها، ماهي قعدتنا بالقدس لحالها مقاومة!

استفهمت أمـي وهي تخرجُ المقاومة من احتمالاتها: طيب ليش كل هاد؟!

اجابها ابي هذه المرة بغضب ولوم: أبـنك وراه مصيبــة، سرّ كبير كتير، وهالسـر ما بيعرفو الا يوسف،
يا ما حذرتك من صحبـة علي ليوسف، من دخل هندسـة وأنـا بقولك يوسف بيقلد علي، وعلي التاني كمان ما صدق خبـر،
صار يجروا خلفو لأشيـاء بنعرفها وأشياء بنعرفهاش!

أجابت امي معترضـة، وكأن عليّ سيئ الخلق حتى يرى ابي انه قد لعبَ برأس يوسف: ولو يا خالد،
هذا اخوه، وعلي من يومه الكبير والقدع، ولا شفنا منه اشي غلط !
هيو مشهود لو بالخير بالحارة وبالمدرسـة وبالاقصـى وبجامعته، مش معناته يخبي عليـك اشي انو خلاص صار كخة!

نقاشـهم الحاد جعلني أتحدث: يابـه،
هلأ مش مهم هاد الحكي كلو، بديـاك تتصل بعلي تشوف وين أراضـيه وشو بدو من يوسف.. هاد المهم!

أيدت والدتي رائي وهي ما زالت ممتعضة من حديثُ أبـي عن علي وعن الدمار الذي يراهُ حل بيوسف بعدما رافقـه!

***

أولادي فلتوا من يدي!
لم أعد ذا سلطةً عليهم، ها هم يرحلون امام عيني واحدٍ تلو الواحد.
لا أعلم ما الذي يخبيـه علي، وما الذي يخافُ يوسف ان اعرفـه.
وأرى تخبطَ يحيـى ورائهم!
يبدو ان الأبـوة وهيبتها تُسـلم للزمن مع شهادةِ الجامعـة.
لم يعصيني علي إلا بعدما تخرّج، وها هم اخوته لم يكملا الشهر من تخرجهما وبدأوا يمشون على طريقـه!
لطالما تمنيتُ انني الظل الوارف، والمرفأ الدافئ لهم.
تمنيتُ ان أبقـى خالداً بنظرهم، وليس خالداً في ليلـي لا أستطيع أن اغمضَ جفناً حتى يعطفُ علي أحدهم ويأتي ليخبرني بما يحدث!
وتقول لي يمامّ اتصل بعلـيٍّ، هه!
علي بحاجـة الى التـخلص من كل شي يربطـه بالقُدس، لا أريد ان اعيقـهُ باتصال تصلـه تذبذباتهُ من القدس!

دلف الباب ونحنُ في جلستنا تلك، إلا وهذا يحـيـى، خليلُ يوسف الذي لا أعلمُ منذ متى خالـلهُ: السـلام عليكم.

رددنا السـلام بأصواتٍ خافتة، فإذا بـهِ يمدُ أشيـاءً في يدهِ ليمام، التي أخذتها وهي تستكشفُ ماهيتها: الله بزر!! " مكسرات".

سألتهُ أمـه: وين يوسف؟

تحدثَ وهو يستند على الكُرسـي: صادف صاحبو بالطريق وراح معاه،
ما بيطول.

بدأت عائشـة باستجوابه: ما حكّـاه علي؟ " حكّـاه = كلّمـه".

نفـى ذلك بإيماءة رأسـهِ قبل حديثـه: لا.

ما بالهُ مقتضب الحديث هكذا؟
وكأنها تشحذُ الكلماتُ مـِنه!

***

نزلَ يحـيى في أولِ الحـارة، وبعدها شققتُ الطريق وكأنني استحثـهُ أن يوصلني بسرعـةٍ قصـوى إلـى اللد.
خمسين كيلو متراً، ليس بالمسافـة البعيدة في المعتاد، أو في الدول الطبيعية!
أمـا هُنا فأنت قادرٍ على أن تلفُ كل دول العالم، ما عدا الخمسين كيلو التي أمامك.
الطريقُ مظلم ويخلوا من السيارات ما عدا اثنتين او ثلاث!
الصهاينة دخلوا مراكز التفتيش ليكملوا سهرتهم متجاهلين حركة المرور القليلة التي لابُد انها نقل بضائع او تجار او ما شابهَ ذلك!
فمنطقة الـ 48 تبدو وكأنها عصيـةً على الدخول، صعب الوصول إليـها، وصعبـة المغامرة واقتحامها بهويتك الفلسطينية!
فأنت من الضـفة!
أي أن تبقـى على ضـفةُ الأيام والحياة!
أن تبـقى تعانق كل يوم رام الله والقدس، متجاهلاً اللد والناصـرة!
أنت من الضـفة!
أي أن تبقى أسير الجدار العازل الى ان يشـاء الله.
يُقال إن غزة تعاني قسوة الاحتلال أكثر من غيرها، ولا يعلمون اننا نعاني من الاحتلال النفسـي أكثر من الاحتلال المعنوي!
ونعاني من تلك السُلطة.. التي لم تكُن الا سِلطةً عليـنا.
وقفتُ عندما رأيت لوحة إرشادية كُتبَ عليـها " اللد 15 كيلو ".
تنحيتُ جانبـاً وأنـا ما زلتُ في الضفـة!
رفعتُ هاتفي متصـلاً بذلك الشخص الذي أوصاهُ عـلي بكل ما يحتاجه.

رنّ الهاتفُ مرتيـن فقط فإذا بالذي رد وكــأنه رجل مهماتِ خاصـة، ردهُ المتأهبُ وصلني: مـرحبا.

حادثته برسمية وبسرعة وكأنني اعطيه الخلاصـة التي تليق بعمله، فمثلهُ لابُد ان يحسب الدقيقة من وقته!: انا اخوه لأبو خطّاب!

فَهِمَ ما يجب ان يُفهم: طيب نص سـاعة وبكون عندك.

يجب أن انتظر في هذا المكان وهذه النقطة تحديداً كما اوصاني علي، يجب ان انتظر هُنا، كما حذرني من الاتصال به او معاودة الاتصال بصاحبه.
لا أعلم ان كان الرجل يقصد بالنصفِ ساعة قصداً ضمنياً للوقت، أو يتأخر اضعافها.
كُل الذي علي ان انتظره حتى وان طلعت الشمس..

***

" بزر وليـل"
يعني سهرة طويلة طويلة جداً، تمتدُ إلـى السابعة صباحاً.
آواه، لو كانت هذه الجلسـةُ الطويلة في رحابِ الاقصـى.
جلسـةً على شـرفة غرفتـي، التي تطلُ نافذتها علـى حارة السعدية وأجزاءً من باب الساهرة.
لم أتصور هذه الهيبة وهذا المنظر يا باب الساهرة، هل غيابي عَـنك الايـام الماضيـة جعلني أهابُ لُقياك ولو من بعيد؟
أبعدتُ كأس الشاي وصحن " البزر" وأنـا أضغط زر إيقافُ التشغيل وأوقفت مسرحيـة مصرية لتوها بدأت، وأنـا أخرجُ من متصفحها لأبحثُ عن قائمـة الملفات التي تحملُ أسـم الاقـصى في جهازي المحمول.
لأجد مستنداً فارغـاً، أبتدأ بـه موضوع بإسم " باب الساهرة".

قطـع سكون الجو من حولي عدا من صوت لوحة المفاتيح التي تكتبُ ما تأمرها بـهِ نفسي قبل يداي: بعدك فايقـة؟

نظرتُ إلـى خلفي وأنـا أرى يحيـى، مددتُ يدي مُقرّبـة الكرسي البعيد الى الطاولة: تعال حياك!

قعدَ مقابلاً لي، ولكنهُ نظر الى خلفـه والمشهدُ الذي شدني قبل قليل نفسـه بات يشدهُ هو أيـضاً، سكتُ، لأتركهُ يتأملُ قُدسـه من بعيد.
بعيـدة المنالِ.. سهلة الوصول.
ولا أعلم أن كانت ستبقى سهلة الوصولِ أم لا، في ظلِ التشديدات التي نسمعها يوماً بعد يوم.
تارةً سيبعدوننا عنها، وتارةً سندخلُ إليـها بتصاريح.. وتارة لن ندخلها ما داموا فيـها.
لا أعلم ما الذي سيجري عليـنا وعليكِ يا أقصـى!

ولكنني أعلمُ لهفـةُ قلب اخي التي لا تبعد عن لهفتي وهو يقول: بتروحي معي ع الأقصـى؟

فززتُ وبعدنا عنها اليومين الماضيين أضنى قلوبنا وصهر اكبادنا: ثواني بس لألبس حجابي!

***

السـاعة تتجاوز الواحدة، ويوسف لم يقدم ولم يأت عنهُ نبأ.
ما الذي أخّـرك يا عينُ أخيك؟
هل رميتُـك للتهلكـة؟ لأكون على موعد عزاءً فيـك؟
هل كان أبـي محقـاً عندمـا يغضب من أمرنا، ولكن والدي يعاملني معاملة أبناء يعقوب، ويعامل يوسف بخوفِ يعقوبَ على يوسـفه!
ألا يأمنني عليـه؟ هل آتيه بميثاقٌ غليـظ حتى أؤتمنَ على يوسف؟
أم ماذا عساي فاعلاً يا خالد حتى ترضـى عني؟
ما الذي يرضيـك يا يعقوبَ بنيـك؟ أُخفيـك بأفعالي، وتخاف على يوسف مني!
الأرض تخلو من الذئاب والآبار، فهل ما اخافكَ ينافي ما اخافَ نبيـنُا؟
أخبرني يا أبي، أشـرح لي مخاوفـك، برر لي غضبــك!
لا تتركني هكذا لا أعلمُ أن كنتَ أضرُ أخي ام لا، لا أعلم ان كنت اغضبكَ أم لا!
لا أعلم أيـضاً أن كنتُ عققتُك ام لا.
هل تظنني تركتُـك وحدك يا أبي، بل انني تركتُـك وتركت بأمانتك أمـي وزوجتي وفلذات كبدي.
لم يكن سهلاً علي ان اغيب كل هذه الايامُ عنكمّ!
فأنـا من طالتهُ نيران الهجرانِ والفقد، أنـا من فقدَ ثمانية أشـخاص.. بينما أنتم فاقدون واحد!
لا تظن أن رحيلي من سِـعةً يا أبا علي!
فو الله ان الرحيل يكوي القلب ويصليـه الى نارٍ تلظى شوقـاً وبعداً، وماهي وارثـةً هذه النار؟
ستورث رماداً؟، بل ستشتعلُ ناراً فوقَ ناراً وتستعرُ كنارِ النمرود التي مرّت على الخليل برداً وسـلاما، فهل تمرُ علـيّ أنـا أيـضاً برداً وسلاما؟
وهل ذهابُ يوسف للدِ سيمرُ برداً وسلاما، يا ألطافُ الله بإبراهيـم مُــرّي بنـا.

***

في الطريق الى الاقصـى..
في فيـهِي مـاءً!
أريدُ ان أتحدث، أود ان أقول شيئـاً، هل أخبرها أنني انتظرُ عودةَ يوسف من اللد؟
أو أقول لها عن حالـةِ أخيـها البكر والخطر الذي يحاوطـه؟
هل أخفى ابتسامتها التي تعانقُ الاقـصى، هل ابترُ اللقـاء المقدس؟
ولكن وأن أخبرتها هل تكتمُ الخبر؟
يوسف حذّرني أن أخبر أحدٍ، كما حذّره علي ان لا يحدثُ أحد!
هل أخـون العهد؟ أن أخون قلـبي وأسلى في القدسِ متناسـياً أمر هذين الأخوين.

تحدثتَ يمام وهي تتراجع خطوةٍ خلفي: هنيك جنود مـا ؟!

نظرتُ إلـى باب العامود الذي يحاوطـه الجند: آه.

أحسستُ وكأنها تتراجع خطاها قليلاً: شو مالك؟!

تحدثت وكأنها تأكدُ ما ترى: جُنــد!!

ليسَ غريـباً وجودهم، ولكن الغريب تجمعهم بهذا العدد بعد منتصفِ الليل!: وإذا جُند؟!
بنكفّـي طريقـنا.

أمسكتُ بيدها وأنـا أحثـهُا على المسيـرَ إلـى تلك الباحـة المقدّسـة.
وما أن وصلنا إليـها حـتى وجدنا المقاعدُ فارغـة، فارغـة تماماً، فتـرى هُناك رجال لا يتجاوز عددهم العشرين في داخل المسجد بعضهم معتكف والبعض الآخر
أتى يصلي الوتر هُنا.

قعدنا على تلك المقاعد ويمام ما زالت تختلسُ النظر الى الجند الذين يحاوطون باب العامود، أشرتُ بيدي أمامها بمزح: نحنُ هُـنا.

ابتسمت وهي تنظرُ إلـيّ: يا حزرك شو ناويين عليـه!

ما زالت تفكر بأولئك الجُند: ولا اشي،
مش طالع بيدهم ولا اشي.

بدأت تتحدث بمخاوفها: بس قبل اربع سنوات اقتحموا الاقـصى،
طلع بإيدهم!

صححت لها معلوماتها: شارون .. مش الجند.

وأصرّت على فكرتها: الجُند جُند شارون،
كبيرهم الذي علمهم السحر!

زفرتَ وأنـا أشعرُ أن عقدة الاقتحام ما زالت عالقة في رأسـها ورؤوسنا جميعا ليس هي وحدها، فهي فجيعـةً عظيمة حلّت في عام الالفين وما زلنا نخاف ان يعاودوا الكرّةِ بمثلها.
قطعَ علي ذكرى الاقتحام صوتُـها: الا ما قلت لي،
شو ناوي تعمل بعد التخرج!

نظرتُ إليـها: شو بدنا نعمل،
من الشهر الجاي بدي قدّم على كذا مستشفى ببالي، وربّـك بييسر.

وكأنها تُحذر: مستشفى بالقدس بس!

أكدتُ ذلك: أكيد أكيد،
ماهو يكفي علي برام الله بدك ياني كمان اطلع!

عادت الى محورِ حديثنا وهي تخاف ان يطرأ موضوع علي مرةً أخرى: وقبل يجي الشهر الجاي، بتقعد بالبيت هيك؟

ابتسمت لها: خليني ارتاح اكم أسبوع خيـة!

نفت ذلك بابتسامة: مافي راحـة،
بدك تنزل معانا كل يوم انا وبابا للاقـصى وبدي تساعدني بالمقالات بتعرف إني مطلوبة هلأ أكتر من مقال وأكتر من تقرير ولا قدرت اكفّيـهم!

نظرتُ إلـيها وإلـى جهادها اللطيف المُحبب إليـها: من بكرا بدنا نكفّيهم سوا ولا يهمّـك، كم يمام عندنا؟



#انتهى

غُربة. 26-08-21 09:32 PM

الفصل الخامس






في الطريق الى الاقصـى..
في فيـهِي مـاءً!
أريدُ ان أتحدث، أود ان أقول شيئـاً، هل أخبرها أنني انتظرُ عودةَ يوسف من اللد؟
أو أقول لها عن حالـةِ أخيـها البكر والخطر الذي يحاوطـه؟
هل أخفى ابتسامتها التي تعانقُ الاقـصى، هل ابترُ اللقـاء المقدس؟
ولكن وأن أخبرتها هل تكتمُ الخبر؟
يوسف حذّرني أن أخبر أحدٍ، كما حذّره علي ان لا يحدثُ أحد!
هل أخـون العهد؟ أن أخون قلـبي وأسلى في القدسِ متناسـياً أمر هذين الأخوين.

تحدثتَ يمام وهي تتراجع خطوةٍ خلفي: هنيك جنود مـا ؟!

نظرتُ إلـى باب العامود الذي يحاوطـه الجند: آه.

أحسستُ وكأنها تتراجع خطاها قليلاً: شو مالك؟!

تحدثت وكأنها تأكدُ ما ترى: جُنــد!!

ليسَ غريـباً وجودهم، ولكن الغريب تجمعهم بهذا العدد بعد منتصفِ الليل!: وإذا جُند؟!
بنكفّـي طريقـنا.

أمسكتُ بيدها وأنـا أحثـهُا على المسيـرَ إلـى تلك الباحـة المقدّسـة.
وما أن وصلنا إليـها حـتى وجدنا المقاعدُ فارغـة، فارغـة تماماً، فتـرى هُناك رجال لا يتجاوز عددهم العشرين في داخل المسجد بعضهم معتكف والبعض الآخر
أتى يصلي الوتر هُنا.

قعدنا على تلك المقاعد ويمام ما زالت تختلسُ النظر الى الجند الذين يحاوطون باب العامود، أشرتُ بيدي أمامها بمزح: نحنُ هُـنا.

ابتسمت وهي تنظرُ إلـيّ: يا حزرك شو ناويين عليـه!

ما زالت تفكر بأولئك الجُند: ولا اشي،
مش طالع بيدهم ولا اشي.

بدأت تتحدث بمخاوفها: بس اربع سنوات اقتحموا الاقـصى!

صححت لها معلوماتها: شارون .. مش الجند.

وأصرّت على فكرتها: الجُند جُند شارون،
كبيرهم الذي علمهم السحر!

زفرتَ وأنـا أشعرُ أن عقدة الاقتحام ما زالت عالقة في رأسـها ورؤوسنا جميعا ليس هي وحدها، فهي فجيعـةً عظيمة حلّت في عام الالفين وما زلنا نخاف ان يعاودوا الكرّةِ بمثلها.
قطعَ علي ذكرى الاقتحام صوتُـها: الا ما قلت لي،
شو ناوي تعمل بعد التخرج!

نظرتُ إليـها: شو بدنا نعمل،
من الشهر الجاي بدي قدّم على كذا مستشفى ببالي، وربّـك بييسر.

وكأنها تُحذر: مستشفى بالقدس بس!

أكدتُ ذلك: أكيد أكيد،
ماهو يكفي علي برام الله بدك ياني كمان اطلع!

عادت الى محورِ حديثنا وهي تخاف ان يطرأ موضوع علي مرةً أخرى: وقبل يجي الشهر الجاي، بتقعد بالبيت هيك؟

ابتسمت لها: خليني ارتاح اكم أسبوع خيـة!

نفت ذلك بابتسامة: مافي راحـة،
بدك تنزل معانا كل يوم انا وبابا للاقـصى وبدي تساعدني بالمقالات بتعرف إني مطلوبة هلأ أكتر من مقال وأكتر من تقرير ولا قدرت اكفّيـهم!

نظرتُ إلـيها وإلـى جهادها اللطيف المُحبب إليـها: من بكرا بدنا نكفّيهم سوا ولا يهمّـك، كم يمام عندنا؟

ابتسمت وهي تقول: إذا هيـك،
خلينا نصلي الفجر هون ونمشـي، مشان بكرا نبلش شغل من هون!

الاقـصى ملهمها لا تستطيع الكتابةَ إلا بـهِ، أحب جهادكِ اللطيف يمامّ.
ليتَ اخواكِ يتعلما كيف يكون الجهاد الذي لا يُقلق القلب ولا يُذهبَ العقل.
أ يُعقل أن أحدهم الآن يقتحم الحدود متحدياً الاحتلال، ليذهب لأخيـه الذي يقتحمُ حدود السُـلطة متحديـها.
أ يعقل انني قاعداً هُنا وأخويّ لا أعرفُ مصيرهم!
وما من اتصالٍ ينقذني، بل سيكون اتصالي وبالٍ عليـهم

انتبهتُ على صوتِ يمام وهي تقول: شو وين سارح الأخ؟!

آواهٌ لو تعلمين بما أنـا سارح! : ولا إشـي،
انتقلت لي العدوى وعيوني ما بتروح عن هالجنود.

تظنَ أنني صادقاً وأن قلقها قد انتابني ايضـاً: بتعرف بابا عندو خبـرة!
وقت نفوت ع الاقـصى وبس يلمح جنود يخبرني شو جابون، بتتذكر الاقتحام كان بابا متوقع انو بيحصـل، مـع انو وقتها ما كان في شي من هالاحداث.

ما بالها مبهورةً بوالدها هكذا؟: أووه!
البابا صار بيعرف الصهيوني من عيونو شو بدو يحكي وشو بدو يعمل،
يعرف اللؤم بعيونهن شو ممكن يساوي!


***


في الرابعةِ صباحاً.
عاد يوسف مُحمـلاً بغضب من والده.. وكـعك القُدس!
بين يديـه خمسُ كعكات وفي يديّ إبريقُ شـاي، نتوجـه جميـعاً إلـى خالد الذي لم ينم منذُ البـارحة منتظراً يوسف.
ذهبنا إليـه يشاركنا افطارنا البـاكر على غيرِ العـادة، أمـن أحداً يسلمُ بعد صلاة الفجرِ وفي فاهُ كعك!

هذا ما سيتحتمُ على خالد الذي لم يستطع الذهابُ إلـى الاقصـى، وها هو ما زالَ في مُصـلاه.
أقبـلَ عليـه يوسف، يقبلُ رأسـه ثم يديـه وهو يقول: صباح الخـير.

ردّ ذلك الابّ ببعض الندمِ على ما فعلهُ بــهِ البارحـة: تتصبح بأنوار النـبي،
شو؟ ، راجع الفجـر.

وقـعَ يوسف في المحظورِ إذٍ، وها هو يبرر: يابـه صاحبي ستو تعبانة واضطرينا ننقلها من هون للمستشفى، ومانه حلوة اوصلهم واسيبهم هنيك، ما؟

لم يرد ابيه على تساؤلـه بل امرني: عايشة،
اليوم بدك تزوري ست صاحبو، عيب نعرف عنها ولا نسأل.

أرى يوسف يخللُ شعرهُ بيدهِ، على فرعونَ تلعبُ يا هامان!

تحدثتُ هذه المرة: يلا بدنا نروح نفطـر.

نظرَ خالد إلـى ما نحملـهُ وكأنهُ للتوِ ينظر: في حدا يفطر مع طلعـة الضو!

تحدث يوسف: آه،
لأن بعدها بدي أخدك معي للاقصـى، من زمان ما رحت هنيك.

زفرَ خالد: وأنـا كمان من قصـة اخوك ما رحت.


***


في صالون المنزل، يقعد والديّ وبجانبهم يوسف الذي يُأنبني احمرارُ عينيه عن سهره المتواصل وقلـةِ نومـه، وهُناك يحيـى الذي يتوسدَ فخذُ أمـي ليكملَ نومـته ونهيَ والداي لـهُ من هذه الحركة الطفولية التي لم يكبرُ بعد عليـها.

وصلـتُ إليـهم وأنـا ألتزمُ الصمت ولم اقاطعُ يوسف الذي يسألُ أبـي: البيت هاد لمين؟

يأشـرُ بيده على البيت المجاور لبيتنا يساراً، ولكن اجابتهُ أمـي قبل أبي بانفعال!: وشو بدك فيــه؟

اجابها يوسف بحركاته المعتادة التي تزيدُ من غضبها : بديـاه!!
- ثم اردف – بدي اشتريـه.

قامَ يحيـى المستلقـي وهو يقول: بدك تتجوز!

اعتلى صوت أمي وهي تنظر ليحيى: سمّـعنـا – ثم نظرت ليوسـف – سؤالي واضح شو بدك فيـه.

أجاب يوسف وكأنهُ يبرأ نفسـه من تهمه البستها إياه بسبب انفعالها الغير مُبرر، هبّـت وكـأنها تسألُ ملك الموت ماذا يريدُ بروحـها: بدي اجيب مرة علي وأولاده قريب من ناحنا.

هدأت ملامحُ والدتي وهي تعود لتجلس وهي تزفرُ الراحـة!: فكّـرت!

شدّتني كلمتُـها وتسألت: فكرتي شو؟

ابتسم أبـي: تخاف يتجوز من دون علمها،
هيو مجننها كل يوم بدو يتجوز، وكل يوم بدو وحدة شكل وكل يوم بدو وحدة لون!
بعرفش كيف بدي جوزو هو واخوه، ما بيكفي علي زوجـناه بالزور وآخر شي شرد وتركهم!

عاد يوسف المصـرّ على قراره: ما جاوبتني يابه،
البيت هاد لميـن؟

أرى انعقادُ حاجبـيّ والدي وهو يقول: مهجور من سنييين، مين بيرضـى يسكن فيـه.

تكلم " أبو الحلول" يحيـى: أنـا ويوسف نروح هنيك، وأم خالد بتقعد هون.

أجاب أبـي برويّـة: مانها محرزة،
بيت علي من هون خطوتين، وتاني اشي ما بدي اياكم تبعدوا عنـي، من لي بهالدنيا غيركـم؟


***


سألتهُ ثلاث مرات ولم يجيبّ!
لمَا لم يخبرني لمن هذا البيت؟ يتحدثُ عن زواج علي الذي يراهُ " بالزور" ويتحدثُ عن نتائجـهُ، ويبرر لأمـي انها تخاف ان اتزوج من غير داريتها، ويتحدث عن هجر اهل البيت لـه.. ولكنه لم يخبرني من همّ!
ما بالكَ مراوغـاً هكذا أبـا علي؟
هل هذا خوفـاً من أن ابتعد انا واخي عـنك؟
أو تقصيراً منك بشـأن علي ولا تود ان يقتربَ هو وأهله اكثرُ من هذا القرب الذي تراه بعيـنك وأنـا لا أراه.

وقفتُ وأنـا مازلت مصراً على معرفـة هوية صاحب البيت التي يخبئها عني والدي، البيت الغامض عرفتُ كل القدس سواه: يالله يابه،
بدك تنزل معي للاقصـى؟

همّ بالوقوفِ فإذا بيمام تجلسـهُ بقولها: لا مش هلأ،
بدي روح معكم، بس بخلص كم شغلـة.

قعدتُ وأنزل والدي عصـاه جانبـاً حتى تنتهي الـ " كم شـغلـة".


***


تجّـهم وجهَ يوسـفي الذي لم أسمحُ له بشراء ذلك المنزل، ألا تعلمُ لما رفضت يا يوسف؟
بررت هجر المنزلَ سبباً، وما هو سبباً يا بني.
ولكني هجرتُ بداخلـهِ قصـة عتيقـة لو فُتحت لانتزعت روحي من أضلعي.
لو فُتحَ باب ذلك البيت لأريت آثارُ قدمـي على اعتابـهِ لم تمحها السنين من هولِ ما فعلت!
لو فُتحت سيرةُ ذلك البيت لذهبتُ أنـا ووالدتك إلـى الجحيـم..
الجحيم الذي يسـعّـرُ روحي منذُ أربعـةً وعشرين عاماً، الروح تذوي وتذوي وتأتي أنت لتوقدَ نارها مجدداً؟
هل تودُ إحراقُ أبيـك؟ هل ستحرقني بدلاً عن بقرةً يبحث عنها يهوديـاً ليتطهّـر؟
هل تودُ عذابُ أبيـك؟ هل ستجرني إلـى بابِ الآلام كمسيحيّ أرقـهُ ذنب وأتى ليتغفر؟
هل تودُ إبـعادُ أبيـك؟ هل ستبعدني كما يبعدُ مقدسيـاً عن أقـصاه وروحـه في طريق المهاجرين تحتضـر؟
هل ستستطيع فعل هذا يا يوسف؟
هل ستوقد ناراً كتلك التي أوقدتَ منذُ أربـعة وعشرين عاماً؟
هل ستفتحُ الصحف وتُنشر؟
كذاك الخبر الذي نُشـرَ وشد انتباهي يحيـى وهو يُـعلي صوتَ التلفاز:

" في هذا الفجـر المبـارك، عمليـة مباركة في مغتصـبة سديروت، أسفرت عن مقتلِ عشرة صهاينة وجندييـن، وأنبـاء تؤكد إصابـة المُنفذَ وهروبـه".

وقفَ يحيـى مبتهلاً، ووقف الآخرُ فـزعـاً!
أمـا عائشـة تضربُ صدرها بخـفةٍ تبكي لحالِ والدة هذا الفـتى.
أمـا أنـا فما ابتهجتُ بيومٍ كهذا ، قد ولى زمنُ الفدائيـةِ الفردية التي تُبرّد على القلب نيرانه.
سمعـتُ يحيـى يخبرُ يمام التي ما زالت غارقـة بعملها المجتهدة به حتى لا تؤخرنا على الاقصـى : عمليـة بسديروت!
أتت راكضـة وهي تنظرُ بالتلفازِ الاشـلاء والدمـاء مبتهجةً بمنظرها!
هل قتلت هذه الدماء رقتكِ؟
هل دمـاء زوجـكِ ما زالت تلوّن لك دم الصهاينة عبيراً احمرا ؟
هل روح الانتقامِ ما زالت تنتزعُ منكِ البراءة؟

ندهتُ عـليها وأنـا أرى يديها المرتجفـة وعينيها الفـرحة الدامـعة: تعالي هون بابا، بدنا نكفّــي الخبر وبعدها ننزل للاقصـى.

تحركَ يوسف من أمـامنا: بدي جيب حلوان!


***


أيـن أنت يا علي؟
هل حقـاً أصبت؟
أرى الفرحـةُ تملـئ البيت والدعوات لك لا تنكف من والديـك والفرحُ يعم البيت ورحابـه وأقصاه.
أخذت بثـأر يمام يا علـي، أطفأت نارٍ في صدر والديّ، أطلقتَ دعواتٍ عذبـةٍ من والدي.
هذا ما فعلت في بيتنا وانت مجهولاً لهم يا علي، كيف لو عرفوا انك ابنهم وان هذه الدعوات قد تطفئ جحيم الغضب الابويّ عليـك.
اتصلت عليـه ولم يرد!
هل كُشُف امره؟ لم يرِد بالخبر شيئاً هكذا، فقط اتى الخبر منبئ عن هروبـك واصابتك.
وكيف حالُ هذه الإصابة يا نور عينِ أخيـك؟
هل حدّت من مسيرك؟ هل دلّـتهم دمائك الطاهرة على سيّـرك وكأنها تتبُـع الأثر لهم؟
أخبرني أيـن أنت يا علي!
ذهبتُ عجلاً إلـى الدكاكين لكي اشتري الحلوى التي تحججتُ بها لأطمئن عليـك.


***


في الطريق إلـى القدس.
كأس الشـاي في يدي وصوتَ أغاني الانتفاضـة تُزينُ إذاعة فلسطين بعد خبرِ العمليـة.
آهٍ عليـكِ يا قُدس!
كم أنـا ولـهٍ عليـكِ وعلى رحابـكِ وعلى أقصـاكِ ومحرابـكِ ومن يسكنُ عندَ بابكِ.
عُدتُ إليـك يا خالد!
عُدتُ إليـكِ يا عائشـة!
قد انتهت مُهمتي الحاليـة، سأعود إلـى الأقصـى حتى أُجاهد من أجهلها ثانية!
وأطارد من أجلها ، وأُصابُ من أجلها.. وأغرق في بحارِ الفداء من أجلها.
وصلتُ إلـى حارتنا وأنـا أركنُ سيارتي جانبـاً، وأغلقها مهذبـاً لباسي بعد سفرٍ .. متجهاً إلـى بيتي أولاً.

دلفتُ باب منزلـي وأنـا اندهُ: أمـــل ، يــــافا ، خــــالد.
وينكم .. بابا أنا أجيت!

خرجتَ لي محبوبتي .. و مظلومتي أمـل: أهلـين أبو خالد.

أوه!
أبو خالد.. غضبانةً أم الولد حتى تناديني باسمـه!

سألتها وكأنني اتجاهل هذا الغضب الذي بان بصوتها وكنيتي وملامحها: وين الولاد؟

ادارتني ظهرها وهي تتجـه للمطبخ: اخدهم عمي الله يجبر بـخاطره ويخلي لنا إيـاه.

رسـالةً ثانيـة .. جبرَ والدك بولديك وانت لاهيٍ عـنهم: لوين اخدهم؟

أعلت صوتها قليـلاً وأنـا أسمـع صوتَ المواعين وهي تبتدأ بعملِ الإفطار: للاقصـى، يتوزعوا حلوان عملية امبارح.

ابتسمت خفيـةً حتى ابتسامتي اخافُ ان تفهمُ صح!: أساعدك؟

اتكأت على طاولةِ المطبخ بحيث تكون مقابلاً لي واستطيع رؤيتها: شو؟!
السي سيد علي بيتنازل عن كبريائه ويساعدني؟

أرى طيفَ ابتسامة اعتلى محياها رغمَ غضبـها: أي وشبو علي لحتى ما يساعدك؟
ابن عشر شهور؟!

زادت ابتسامتها وهي تفسـحُ لي الطريق حتى أجلسُ على الكُرسـي وأحادثها وهي تنهمكُ بتقطيع البصل.. هذه المساعدة التي كانت تتمناها .. فقط!

أسندتُ يداي على الطاولة وما أن فتحتَ هاتفي المُغلق منذُ أمـس، حتـى بدأت أملي تسألني: ها كيف رام الله؟

اجبتُـها " بغلاظـة" تشابهُ سؤالها : بتسلم عليـك.

أدارت وجهها لي وهي تقول: مين هاي؟

أ نست انها سألت عن رام الله؟: رام الله!

نظرتُ لها وهي تعود إلـى عملها وتقول: فكرِت!!

ابتسمت: بتغاري عليي؟!

هذه المرة أوقفت عملها تماماً وهي تجلس بجواري: القصـة مش غيرة وبس!
علـي انت تارك ورا ظهرك مرة وولدين، وهلأ جاي تسأل بغار؟
ما هو لازم أعرف من شو بدي غار!
وشو ياللي خلاك فجـأة بتحب رام الله وبدك تسكن فيها، - استطردت – علي حبيبي احنا عشرة عمر ما بعرفك أمس أو اليوم لحتى أعدّي لك الموضوع هيــك.
من ايمتى وأنت بتفكر تروح وتتركنا، وأبصـر لشو بدك تتركنا!

تغلفُ غيرتها وشكها بأنها هي وابنائي في رقبتي، يا لغيرتكِ المُحببـة أملـي، أمسكتُ يداها وأنـا أحنثُ لها يميني: والله ما بشوف بهالدنيـا غيـرك ولا بدي غيـرك، بس لازم تستوعبيني أمل.. لازم تفهمي مخ جوزك!
لازم تستوعبي الجنان اللي براســو.. هيـك بدو يدرّس برام الله، خطر لي هالخاطر فيها اشي؟

أومأت برأسـها " لا" وأكملت : وهلأ هالحديث سابق لأوانه، العطلة بدأت ومافي روحـة ع رام الله من هلأ لحتى تبدأ الدراسـة - نظرتُ إلـى عينيها التي وكأنها تلوح فيـها البهجـة – صافي يا لبن؟

اكتفت بابتسامة وعادت بروحٍ جديدة تكملُ عملـها، تظنُ أنني أحبُ عليـها.
هه !
وأين الحبُ وعليـكِ أين يا أمل؟
قلبـهُ لم يعد يحملُ سواكِ احدٍ، وجيداً انكِ لقيتي بـه "مطرح" فـ فلسطين لم تبقِ ولم تذر على هذا القلب من الحبِ والحرب شيئـاً.


***


" الحلوان أكتر من المصليـن".
قالتها يمام وهي تبتسمُ لثُلـةِ الأطفال التي توزعُ الحلـوى.

وأجيبها وأنـا أملأ السلة التي بحوزةِ خالد مرةً أخـرى: شوال حلـوى مو حلوان!

ضحك أبـي: حقهم يفرحوا يابه حقهم!
من ايمتى لايمتى نسمع بهيـك عملية.

ابتسمت يمام وهي تقول: الله يستر على ابن الحلال ويرجعُ لأهلو سالم غانم.

أمّنت من قـلب صادقٍ يتمنى السـلامةُ لأخيـه: آميــــن آميـــــن.

قدمتَ يافا وعلى وجهها عبوسٍ يشابـهُ عبوسَ جدها الذي عبسَ وجهه لعبوسـها: شو مالها حبيبة جدو؟

ارتمت بحضـنه وهي تكشفُ عن ساقها المخدوشـة: وقـعت جدو!

يمسـحُ والدي على ساقها التي يبدو أنها لامست شيئـاً وانخدشت، وأرى تفحصُ يمام لتلك الساق: ما بها شـي اجرك يا سندريلا " اجرك = رجلك ".

ضحكتُ وأنـا أنظرُ لها : غرّتي ست يمامّ!

لفت للجهةَ الأخرى غير آبـهة بضحكتي وابتسامة والدي الخفيـة: ومن شو بدي غار؟ من هالفصعونة !!




#انتهى


الساعة الآن 09:35 PM

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.