قصتي القصيرة الأولى: طوق هلاك

[kashib_armaa]

طوق هلاك

“وكم من وردة لم نشعر بوجود أشواكها إلا بعد أن أدمتنا”

*

ها بشتائي الرابع عشرة ينقضي ليبدأ الذي يليه ببرودة أقرص، أمطار أشد وروح عارية ازداد شوقها للسعادة
منزل فارغ، أهل غارقون في أشغالهم، مدرسة مملة مملوءة بالأرواح الغريبة
أيامي تسير وأنا لازلت مجرد صفر على الهامش، أتنفس وآكل وأنام فقط، لا فائدة مني ولا فائدة تأتي إلي
أنا مجرد جسد يعيش يومه بشكل كريه، الكل يتجاهلني، حتى الموت يفعل هذا ولم يقرر أن يزورني بعد ويريحني
حياتي مجرد فراغ، فراغ كبير



ــ يا فتاة! صوتك جميل جدا، إنه نسخة من صوت كلارا، أين كنت تخفين هذا الجمال كل هذه السنين؟
هذا كان حديث زميلتي في المدرسة بعدما أمسكتني متلبّسة في إحدى جلساتي الغنائية السرية التي أختلي فيها مع أحزاني في فترة الغداء
ــ تنقصك إطلالتها فقط وستصنعين شهرة كبيرة، فلتبثي موهبتك في مواقع التواصل الاجتماعي، ستجنين الكثير من المال والمعجبين
تتمة حديث زميلتي جعلني أسارع في البحث عن كلارا في الأنترنت، من أشهر المغنيات في هذه الأيام، خاصة بعد صدور ألبومها الأخير غدت الفتيات تتباهى بحفظ أغانيها وارتداء زينتها
اعتدت سماع أغانيها لكن تتبع أخبارها والاهتمام بإطلالتها لم تجذب اهتمامي قبل اللحظة
أتساءل عن حقيقة كلام زميلتي، هل أستطيع اعتبار هذا فرصة للتغيير؟



ــ من هذه الفتاة الجميلة؟ إنها نسخة من كلارا
ــ لا أعلم، إنها المرة الأولى التي أراها هنا
ــ أليس ممنوعا أن تصبغ شعرها؟ أشعر بالغيرة
ــ هيه شباب، أتساءل من المحظوظ الذي قد ينال قلبها


إنه يوم جديد رافقته تعليقات جديدة استهجنتها أذني، لأول مرة أشعر بهذا الشعور، وكأني مركز الكون، ضوء المسرح مسلّط عليّ وحدي واهتمام الجميع نحوي
ــ معذرة يا جميلة، هل يمكنك إخباري عن اسمك؟ أهو قمر أم شمس؟

سؤال صدر من الشاب المقابل لي، أتمعن النظر فيه بعدم تصديق، إنه أوسم شبان قسمنا والذي طالما جعلتني كلماته الموجهة لغيري نبضات قلبي في سباق مع بعضها البعض فكيف لو حديثه لي؟
أنظر حولي باحثة عن فتاة قريبة مني لربما هي من يخاطبها لا أنا لكن لا أحد
إنه يحدثني أنا حقا



أيام ثم أشهر تمضي لأمضي معها بروح لم يسبق وأن احتلت جسدي، فصول حياتي الشتوية غدت ربيعا دافئا ذو نسيم منعش وروح مزهرة
المنزل الفارغ غدا مسرحا واسعا والمدرسة عائلتي الجديدة، أصبحت أمتلك أصدقاءً، أخوات وإخوة، يشاركونني الضحكات والأوقات الممتعة، أصبحت أنا كلارا الصغيرة فردا منهم، نرقص ونغني ونشارك متعتنا في مواقع التواصل الاجتماعي لأكسب المزيد من المحبين
حتى المال الذي أجنيه من منشوراتي لا آخذه لنفسي بل أصرفه على أصدقائي الأعزاء دون أدنى تردد
كيف لا وهم من رسموا لي قيمتي، هم من غيروني من صفر على الهامش إلى واحد في أول السطر




ــ أغربي عن وجهي أيتها المجنونة القبيحة، اذهبي أنت وغيرتك بعيدا عني
أصرخ بهذا بكل غضب وانفعال جاعلا الفضول يعتلي جميع من حولي والنظرات مشتتة بيني وبين الفتاة التي تقابلني، أستمر في صراخي إلى أن يتقدم حبيبي الوسيم ويسحبني بعيدا خارج المطعم
ــ اهدئي يا فتاة هل جننتِ؟ يستطيع أي أحد تصويرك ونشر هذه الفضيحة في الأنترنت، ستُدَمّر سمعتك
تمتلئ عيني بالدموع لأنهار غاضبة

ــ أهذا كل ما يهمك؟ ألن تسألني عن كلام تلك الغيورة الغبية، لقد ظلت تخبرني بأن علي التوقف عن ما أفعله لأن هذا خاطئ، زينتي خطأ، غنائي خطأ، رقصي ومنشوراتي كلها خطئ وشر يؤذي الغير ويؤذيني لذا يتوجب علي التوقف، تخيل أنها قالت إني لؤلؤة يجب علي حفظ نفسي من الذئاب البشرية بالستر وأنكم مجرد مخادعين تستغلوني

ــ حسنا اهدئي يا فتاة، إنها مجرد غيورة حسودة لذا لا تهتمي، نحن نحبك جدا ونعتبرك جزءا لا يتجزأ منّا، نحن لا نستطيع العيش بدونك لذا من المحال أن نتركك

يختم حديثه ليضمني محاولا تهدئتي لأبادله الحضن محاولة تجاهل فتاة المطعم، من المحال أن أتخلى عن حياتي هذه، عن موهبتي وأصدقائي، لن أتخلى عن طوق نجاتي



ــ هل هذه كلارا الصغيرة نفسها؟
ــ أظننا أخطأنا الفتاة من المحال أن تكون ذاتها
ــ صدقتِ، منذ متى كانت كلارا صلعاء
ــ نعم منذ متى كانت بهذا القبح، أنظروا لوجهها وجلدها المليء بالكدمات والجروح


أشد على ثيابي وسط هذه التعليقات المؤلمة، إنه يومي الأول في المدرسة بعد أشهر من العطلة المرضية التي أخذتها بعد التقرير الطبي التي قمت به إثر آلام في الرأس والأذن، أنا مصابة بالسرطان

يمر حبيبي وبقية أصدقائي أمامي، أرمقهم بفرحة وشوق، تلتقي نظراتنا وأكاد أحييهم لولا تجاهلهم لي وإكمالهم السير بدون أدنى اهتمام، أنادي عليهم ببحة إثر المرض مما جعل صوتي الجميل يتغير كليا

ــ هيه رفاق انتظروا، أنا صديقتكم كلارا الصغيرة لا تبتعدوا
ــ ابتعدي عنا أيتها القبيحة، ألم تري انعكاس صورتك في المرآة؟ لا فائدة منك الآن، من المحال أن تجدي جمهورا وأنت بهذا الشكل

أتيبس بصدمة، ما الذي يقولونه؟ أسرع في إمساك حبيبي لأخاطبه والعَبرات تأخذ مكانها
ــ أخبرني ما الذي يقصدونه الأصدقاء، إنهم يمزحون أيس كذلك؟ أنت لن تلقي مزحة كهذه، أنت حبيبي، لقد وعدتني بأنك لن تتخلى عني، أنت تحبني صحيح؟

ثوان طويلة خلتها أطول من أعوام حياتي قضيتها أنظر بصدمة نحو عينيه، نظرة ساخرة لم يسبق لي وأن رأيتها، يبعد ذراعه عني بقسوة مردفا

ــ لا تكوني غبية، أحبك؟ هه، يبدو أن أغاني كلارا المليئة بالحب أغرقتك في أفكار الحب الغبية، يا لك من بلهاء، بدون وجهك الجميل وصوتك لا فائدة ترجى منك، لن نستطيع جني المال والشهرة بعد الآن لذا اغربي عنا
ابتسامتي الضعيفة تلاشت والعَبرات تجمدت رافضة الانسياب من هول الصدمة، هل ما سمعته خيال أم خيال؟ من المحال أن يكون حقيقة، من المحال



اللون الأبيض الطاغي ورائحة الأدوية
المرض تغلب مني، جسدي محطم وروحي مجوفة، هابي عدت للهامش مجددا، لكني لم أعد صفرا عاديا كما كنت إنما صفرا مهشما لا يقوى على الوقوف حتى، حياتي الربيعية تغيرت لتصبح فصلا آخر، فصلا غريبا لا تعرفه السنة، فصلا لا يملأه شيء غير الندم والخيبة

ــ يا آنسة لديك زيارة

في وسط ملامحي الذابلة يرتسم الاستنكار، من سيزورني يا ترى؟ أحد أفراد عائلتي المشغولة بحل مشاكل العالم أم أصدقائي الذئاب؟ أبتسم بسخرية على كلمة “الذئاب” متذكرة فتاة المطعم التي شاجرتها سابقا

تتسع عيني بصدمة بعد رؤية وجه الزائر، إنها ذات الفتاة، فتاة المطعم، تلقي السلام لتجلس بهدوء على كرسي الزوار، حديث أعين صامت، هل أتت للشماتة؟
أبتسم بسخرية على حالتي، حتى لو كانت هذه نيتها فمن يهتم، كل شيء انتهى

ــ أعتذر على تكذيبي لك سابقا، لقد أُعمِيتُ بغبائي، أردت فقط بعض الاهتمام، بعض السعادة، لكن كل شيء تدمر، كل شيء كان خدعة، أنا غبية، أنا لا شيء، المرض وصل لدرجته الأخيرة، سأموت ولن يهتم أحد، لا جمالي ولا صوتي أفادني في النهاية، لا الشهرة ولا المال، لا فائدة من كل هذا، حتى الصحة لو عادت فلا فائدة منها، حياتي خاوية في كل الحالات

دموعي تنهمر بغزارة والشهقات تتعالى بصعوبة، أبكي كل شيء، أريد الموت وحسب

تسقط يد الفتاة على رأسي الأصلع ماسحة عليه بدفء وابتسامة

ــ صدقتِ، لا فائدة من كل هذا بما أنك جعلتِ الدنيا هدفك الرئيسي، السعادة التي عشتِها كانت مزيفة وقد ظهر زيفها بوضوح في النهاية، أليس كذلك؟

أومئ بإيجاب، إنها صادقة، لتردف

ــ سواءً متِ أو لا سأخبرك بأمر مهم، تستطيعين عيش السعادة التي تريدينها وأكثر في كلتا الحالتين

ــ وكيف هذا؟ هل تقولين الحقيقة؟

ــ نعم، توبي إلى الله فقط، إرضيه كي يرضيك، حتى لو نساك الجميع فالله لن ينساك، هو لم يخلقنا كي ينسانا، الله يرحم الجميع، صالحين كنا أم مفسدين، لذا لا تيأسي من رحمة ربك، إنه الوحيد الذي يستقبلنا بكل عيوبنا مهما تكررت الزلات

أغمض عيني مستمرة في البكاء بهدوء، صدقت الفتاة، الله هو المعين، لا خير في البشر، ولا خير في السعادة الزائفة، في النهاية كانت مجرد طوق هلاك




*

تابعوني في حسابي بــ:

إنستقرام
https://www.instagram.com/mokhmal0/
تويتر
https://twitter.com/mokhmal0
فايسبوك
https://www.facebook.com/profile.php?id=100071689705613