آخر 10 مشاركات
فتاه ليل (الكاتـب : ندي محمد1 - )           »          والروح اذا جرحت (2) * مميزة ومكتملة * .. سلسلة في الميزان (الكاتـب : um soso - )           »          فتاة المكتبة(61)-قلوب النوفيلا-للكاتبة فاطمة الزهراء عزوز{مميزة}-[كاملة&الروابط] (الكاتـب : Fatima Zahrae Azouz - )           »          البحث عن الجذور ـ ريبيكا ستراتون ** (الكاتـب : ^RAYAHEEN^ - )           »          اختلاف متشابه * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : كلبهار - )           »          بريئة بين يديه (94) للكاتبة: لين غراهام *كاملة* الجزء الثاني من سلسلة العرائس الحوامل (الكاتـب : Gege86 - )           »          رواية قصاصٌ وخلاص (الكاتـب : اسما زايد - )           »          الغيـرة العميـــاء (27) للكاتبة الرائعة: فـــــرح *مميزة & كاملة* (الكاتـب : فرح - )           »          أزهار قلبكِ وردية (5)*مميزة و مكتملة* .. سلسلة قلوب تحكي (الكاتـب : كاردينيا الغوازي - )           »          سحر التميمة (3) *مميزة ومكتملة*.. سلسلة قلوب تحكي (الكاتـب : كاردينيا الغوازي - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء

Like Tree1Likes
  • 1 Post By Habiba Banani
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 22-09-23, 06:06 PM   #1

ك.خديجة القطوس

? العضوٌ??? » 483982
?  التسِجيلٌ » Jan 2021
? مشَارَ?اتْي » 51
?  نُقآطِيْ » ك.خديجة القطوس is on a distinguished road
افتراضي تَياراتُ اِنتقَام


《 مُقَدمة 》

مَاذا يحدثُ حينَ تُحدق عينَا الكَاريبي الصَافيتانِ طمعًا في استعادة زَهرته المَكسيكية الأسيرة بينَ مخالبِ سنْوري شَرسْ، مُلقب باليَغور. فلِمنْ تَكون الغلبة؟ أتَراهَا لليَغور؟ أمْ لصَاحب العينَان بِزرقة الكَاريبي؟

«أليك مُوريس» المَعماري والمُصمم الداخلي المشهور من ولاية فلوريدا، كان يلقبُ برجلِ الخَبايا والأسرار لِشدة تحفظه وتجنبهُ للأحاديث الشَّخصية لأسبابٍ مجهولة. القليل من الأصدقَاء والعَلاقات الجِدية. والكثير من المُعانة التي تقوده نحو تلكَ الشواطئ الحَارة لفيراكروز، هناك حيثُ يجد نفسهُ وسط تياراتِ انتقامٍ عاتية.

في فِيزياء العِشق تَمتَ خيطٌ رَفيع بينَ الجُمود والانصهَار، يَجعل المَرء في تَهديدٍ دائمٍ لطَالما تَفنن في نُكرانهِ حتى وجد ذاته في آخر الأمر وَاقعة في عِمق تلكَ البَوتقة الحَامية، ولكن مَاذا لو طَرقت أيادي التَهديد بَابه، وهو منْ أقسم عَلى نَبذ المَشاعر والعَلاقات في حَياته لأسبَابٍ مظلمة كغبش الليل، فهل سيَرمي بقَوانين المَاضي ومبَادئه؟ وهل سيتَحرر من قُيوده ويَنطلق انطلاقة عَاشقٍ ولهَان؟ ويا تُرى هل سيُطفأ نِيرَان مَاضيه المُسعرة التي التَهمتْ سَرائره؟ الجواب لكل تلك هَذه الأسئِلة وأكثر، تتخلل سطور روايتنا الجَديدة.

تصنيف الرواية: عاطفة، أكشن، غموض وإثارة.

كيف وجدتم المقدمة؟

ستكون الرواية مشوقة بإذن الله. لذلك لا تنسوا إبداء رأيكم بها باستمرار ❤

❤ Doja Algatous


ك.خديجة القطوس غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 22-09-23, 11:01 PM   #2

Habiba Banani

نجم روايتي


? العضوٌ??? » 442853
?  التسِجيلٌ » Mar 2019
? مشَارَ?اتْي » 500
?  نُقآطِيْ » Habiba Banani has a reputation beyond reputeHabiba Banani has a reputation beyond reputeHabiba Banani has a reputation beyond reputeHabiba Banani has a reputation beyond reputeHabiba Banani has a reputation beyond reputeHabiba Banani has a reputation beyond reputeHabiba Banani has a reputation beyond reputeHabiba Banani has a reputation beyond reputeHabiba Banani has a reputation beyond reputeHabiba Banani has a reputation beyond reputeHabiba Banani has a reputation beyond repute
افتراضي

المقدمه مشوقه جدا

في انتظارك غاليتي ❤️


Habiba Banani غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 22-09-23, 11:04 PM   #3

ك.خديجة القطوس

? العضوٌ??? » 483982
?  التسِجيلٌ » Jan 2021
? مشَارَ?اتْي » 51
?  نُقآطِيْ » ك.خديجة القطوس is on a distinguished road
افتراضي

الفَصل الأول - مَدينَةُ السِحر

سَماء فُلوريدا في صَفاء، مَوج الأطلَسي يُلاطم رِمَال شَواطئها ذَاتْ اللَّون اللّؤلؤي النَاصع، كمَا لو يُعانقهَا عِناقًا حَارًا يَدعم بهِ سُيمفونية الطَّبيعة الرَّبانية الخَلابة. وسَعف النَّخيل المَلكي لا زَال عَلى بَهاءهِ، خُضرته وخِفته، يُرقص بنَشوة لاتينية بَحتة عَلى أنغَام «ميَامي دَاد» إحدى أشهَر مُقاطعَات الوِلاية وأشَدهَا كَثافة سُكانية واكتظاظًا بالسُياح، هنَا في مَدينة السِحر الأمر لا يَخلو منْ الرَّوعة، سَتجد النِساء عَلى حَرارة أجواءهَا يَتماشين كالزُهور بثيَابٍ فَاقعة مُلونة والعَجائز مِنهن يَشعرن كمَا لو أنْ صَباهن قدْ عَاد منْ جَديد، وأعدادٌ وَفيرة منْ المُتقاعدين أقَاموا وِجهتهم الاستجمَامية بالقربِ منْ الشَّواطئ حَيث الشَّمس تَلفح أجسَادهم وتَرفع منْ مستوى فيتَامين السَّعادة في عُروقهم. ثُم مَا أبهى تلكَ المَنازل البَيضاء المُنبهجة وهي تَعتمر قُبعة منْ القِرميد البُرتقالي البَاهت وسطَ أكوام الحَشائش الخَضراء عَلى امتداد البَصر، كانتْ تَبدو كجَنة منْ جِنان الأرض.

امتدّتْ تلكَ الأبرَاج الشَّاهقة عَلى شَريطٍ منْ الشَّواطئ التَابعة للمَدينة، سَاحلٌ استرَاتيجي تَقبع عَلى جَوانبه فَنادق منْ الدَّرجة الأولى تَستقطبُ السُياح منْ كَافة أقطَار العَالم، كسِلسلة مُوريس الخلابة والتي حَظت باهتمام الكثيرين لمَا تَقدم منْ خَدماتٍ واعدة تَسر الزَّائرين، وتَضمنُ لَهم جَوًا منْ النَّقاهة والتَرف الغَير عَاديين، ثم أنهَا استَحوذتْ عَلى عُقول النُزلاء بغَرابتها ودِقة تَفاصيلها المَعمارية المُبتكرة وكل ما تَحتويه منْ أثاث عَصري صُمم ليَكون لأجلهَا دُون سِواهَا، بذلكَ تَفردتْ بمَا هي عَليه. وكَان الأهمُ لدى الكَثيرين هوَ ذاكَ الكَم الهائل منْ غُموض الذي يَلفهَا كمَا يَلف خِصَال مَالكها.

أحد فَنادق السِلسلة ذو الخَمسة نُجوم كَان يُعانق الشَّاطئ من خليجٍ ضَيق، بارتفَاعٍ قَصير مَا إذ قُرينَ بمَا يُحيطه منْ أبرَاجٍ شَاهقة، أي نَحو مِئتي مترٍ تَقريبًا، دَائري الشَكل مُتسع، جزؤه العُلوي مُزود بأجسَامٍ تُشبه المَخالب تتَفرع جَميعها منْ عندِ المُنتصف، لتَبدو فَعليًا كلوَامس هُلامية شَفافة تَلوحُ في الأفق.

وبهَذا كَان يُوحي إلى الرُّوح البَحرية، ويَحمل اسم «سِي أنَامني» أي شَقائق النُعمان. والمُذهل أيضًا في هَذا الفُندق المُحاط بالحَدائق وأحوَاض السِباحة المُتداخلة كَان مَظهره ليلًا حِينما تُضيء مَصابيحهِ المَوضوعة دَاخل تلكَ الأجسَام المُنحنية للأعلى وللأسفَل تُرسل وَميضًا أزرق مُشع لا يَسع المَرء أنْ يتفادى المتعة التي يجدها بتأمله عن كثب. ولتلك الأشياء جميعها حَظى هَذا الفُندق السَّاحر عَلى إعجابِ عَارضة أزياء تُحقق نَجاحًا وشُهرة وَاسعة بينَ سَاحات المُوضة «مِيلا مُورغان» العِشرينية القادمة لأجل قضاء جولةٍ استجمامية قَصيرة، قبلَ أنْ يَحين أوان عَودتها إلى نِيويورك، وذلكَ لأجلِ مُتابعة عَملهَا في مجَالاتهِ المُختلفة.

ولم تُغادر مِيلا جَناحهَا الذي كانتْ قدْ انتقته بحرصٍ ليَكون بمثَابة الحِرز المَنيع الذي يبقيها في مأمنِ عنْ الهُموم والأفكَار المُضلة، فهَذا المَكان ومنذُ اليَوم الأول أغدقَ بِئر حَاجتها منْ الرَّاحة والرَّفاهية ورفعَ منْ درجاتِ إعجابهَا به وافتنَانها، فكل زَاوية مِنه، كلُ تُحفة وقطعَة أثاثٍ كانت تبث بها إحساسًا بأنها تُلاقي مالكها شَخصيًا لا جُمودًا من التُّحف والأثاثُ العَصري الفَاخر.

في تلكَ الأثنَاء كانتْ ميلا تَرقد كلتَا رَاحتيها عَلى سِياج شُرفتها المُرتفعة عنْ الأرض نَحو السَبعين مترًا، تَستمتع بشَمس الصَّباح وهي تُداعب بَشرتها بلطفٍ لا بقَسوة، فتُجدد بهَا شيئًا منْ النَّشاط والحَيوية كمَا فعلتْ تلك الرّمال البيضَاء والمَوج الأزرق الخَلاب منْ أمامهَا. وإذ بَعد دَقائقٍ منْ التَأمل تَقد جِذعها الأنثوي في تَنهيدة غادرتْ شَفاهها المُكتنزة بلونِ التُوت الأحمر النَاضج حَديثًا، وتلكَ الرِّياح النَّقية المُنعشة لم تَكف عنْ العَبث بخصلِ شَعرها العَسلية الدَقيقة.

ويالسَعادتها تَلقتْ ما يَزيد عليهَا الفَرح والسُّرور في هَذا الصَّباح المُنير والمُشرق، حينما طرقتْ رِسالة نَصية شاشة هَاتفها الخَلوي، بينما كانَ يَغوص في قَاع جَيب سُترتها الحَريرية النَاعمة، أخرجته وإذ برسَالة صَادرة عنْ مُوظفة الاستقبَال للفُندق تَقول بها:

- صَباح الخير يا جميلة، أملُ أنكِ بالنشاط قد غادرتِ الفراش باكرًا. فلكِ مني بُشارة سارة ستسعدك. السيد موريس قد قدم الآن في زيارة قَصيرة ومُستعجلة، فإذ لا زلت متلهفة للقائه عليك بالتعجل.

رسمتْ ابتسَامتها السَّاحرة الأخَاذة تِلك ثم كَتبتْ:
- أشكركِ رُوز، بالطبع! دقَائق وسَأكون أمامك بالأسفَل، ولكن أرجوك لا تَدعيهِ يَخطو خُطوة وَاحدة قبل أنْ أتي حَسنًا؟

اختتمتْ الرّسالة بقَهقهة عَذبة تَدحرجتْ منْ بينَ شَفتيها بخِفة، ثمَ غَادرتْ شُرفتها في عُجالة نَحو خِزانة المَلابس الزّاخرة بشَتى أنوَاع الثِياب منْ فَساتين، وسَراويل، وقمصَان، وحقَائب، كلِ ما يَلزم للظهور بطلة آسرة.

تنَاولتْ أحدَ الفَساتين البَسيط والفَاتن كان يمزج بين للونين: الأسود منْ الأعلى، والأبيض منْ الأسفَل، قَصير يظهرُ نَواحي منْ جَسدها المثَالي المَمشوق، وكَثيرًا ما يضفي عَلى أنوثتهَا الصَّارخة نَوعًا خَاصًا منْ الجَاذبية تضَاهي جَاذبية الكَوكب.

تَأملُ حَقًا أنْ تفتعل شيئًا في نفس السَّيد فَتسقطهُ في شبَاكها المَنيع، أنهَا تتَمنى ولا تَظن أنْ كل مَا يتمنَاه المَرء يَدركه، خُصوصًا إذ تَعلق الأمر بذاك المِعماري غَريب الأطوار، صَاحب المَكانة الرَّفيعة في نفوس مُعجبينه، وقد غدت واحدة منهم منذ صَدفة جمعتها به في أحد عروضها دون سلامٍ أو حديثٍ، فقط نظراتٍ شحيحة عن بعد.

إلا أنها وجدت نفسها في الأيام التالية شديدة الهوس به، كثيرة الاطلاع على أخباره الشَّخصية والعَملية كأنما هو الإعجاب الذي يرتقي لدرجات التعلق. وتَذكر في ذاتِ المَرات أنهَا استدعتْ رُوز لمقَابلة خَارج الفُندق، كل ذلكَ لأجلِ أن تتَقصي الحَقائق حَول وَضعهِ العَاطفي بالتحديد، فلطالما كانَ السُّؤال يَحومُ في رأسهَا دونمَا تَوقف، وروز هي الأقرَب إليهِ منْ بينِ معَارفها في الوِلاية.

فكَان رد الفَتاة مُحيرًا حينما قالتْ:
- عزيزتي إذ أمكنك الرؤية من خلال الثُقب الأسود فحينما ستعلمين ما يدور في رأس السيد موريس. فلطيلة سَنوات كان يخرجُ مع نساءٍ فاتنات ولكن ليس لوقتٍ طويل، يهجرهن وليس بوسعهن الحديث سوى عن الملابس الباهظة، وجولات اليخت، والأطعمة الفاخرة. ولكن يبدو أن في الآونة الأخيرة قد تبدد كل شيء.

تجاهلتْ ميلا تلكَ الكَلمات الأخِيرة واتَجهتْ لتَسأل في الأولى وِسط انصَاتٍ التَام:
- أي نَوعٍ منْ النِساء يَستهويه؟
- لا نَوع مُحدد يُمكنكِ القَول، لَكن أكثَرهن النَّوع اللَعوب، المُتغانج والجَريء. أنتِ تعلمين...

لم تخفي اشمئزازها ممَا قَالته روز، حتى أنها شعرتْ بالغيرة تجتاحها. ثم تجاهلت ذلك الشُّعور وفَكرتْ مَليًا بينمَا تُريح ظَهرها عَلى كُرسي المَقهى الوَثير لتَستأنفَ بَعدها الحَديث قَائلة بتَصميم:
- أودُ مُقَابلته، لا أدري لمَ، لكنني أودُ وبشِدة رُوز!

وعَلى وُقع تلكَ الكَلمات انطَفأتْ ذكرَاها مُحيلة كُل الاهتمَام للوَاقع الحَي، فإذ عليهَا أن تُسرع وإلا ستفوتُ حتمًا فُرصتها. تَركتْ شَعرها عَلى حَاله يَحوم منْ حَولها يَمينًا وشِمالًا مع كلِ حَركة تَصدر عنهَا، ووضعتْ أحمرَ الشِفاه القَاني مُكتفية بهِ لتَهمس أخيرًا بينمَا تُحدق صُورتها البَديعة على المِرآه:

- سَيد مُوريس، أنَا في طَريقي إليك، أرجو أنْ يَكون لقَائنا الأول مُميزًا مِثلك.

كَعب حِذائهَا عَانق الأرضية الرُّخامية للرِواق المُؤدي للمِصعَد، ونَجحتْ جاذبيتها في استقطَابٍ أولى ضحاياها ما إن قابلت أحدَ السَادة الكِرام داخل المِصعد الزجاجي، حَتى وهو بِرفقةِ اِمرأة حَسناء استطاعت أن تفتنهُ بسحرها ثم ما لبث حتى تعرف إلى هويتها، كونها تلك العَارضة الشَّهيرة التي تَحظى بإعجَابه الشَّديد.

تَحقق فُراقهمَا عِند الدَّور الأرضي، حِينما سَلكتْ ميلا غَير مَسلكه تَوجهًا بِسُرعة مُنتظمة إلى حَيث تَقبع تلك المُوظِفة خلفَ المنصة الخَشبية الفَخمة، وبجِوار عَلامة السلسلة واسم الفُندق، وَجدتهَا تَخوض حَديثًا مع أحَدهم عَبر الهَاتف.

- عَزيزتي روز، هوَ في مَكتب السَّيد جِيمس أليسَ كَذلك؟

رفعتْ رُوز نَظرهَا فإذ بهَا تُقابلُ عينَا الكهرمان المُشبعتان بالفُضول والحَماسة لكنهَا لم تتَمكن منْ الإجَابة مع تلكَ المُكالمة المُهمة عبر هاتف الفندق لتَكتَفي بالإيمَاء تلقائيًا، وبدورهَا ابتَسمتْ ميلا بغبطة ومُكر لتَسير عَلى الفَور إِلى حيث يقع مَكتب السَّيد عَازمة عَلى نيَل مُرادها وِسط نَظراتْ الجَميع. تَخطتْ كل منْ يُقابلهَا أو منْ يَصد طَريقها ابتِداءً منْ العَمال إلى النُزلاء، وسَارتْ في تلكَ الأروقة الرُّخامية ذَات الأسقُف المُعلقة إلى وجهةً لا رُجوع فيهَا حَيث ستَقتحم مَكتب المُدير دُون هوادة.

ولكن قبلَ الشُروع في تَنفذ مُخطتهَا الماكر مع تلك الابتسَامة الخبيثة التي استَقرتْ عَلى شَفتيها تَوافد إلى مسَامعها صَوت روز وهي تَنهرهَا بصَوتٍ هَامسٍ:

- ميلا بحَق السَّماء مَاذا تَفعلين! لا يُمكنك اقتحَام موعدهما هَكذا، عَليك الانتظَار قليلًا ريثمَا ينتهيَان.

فَردت ميلا قائلة بصرامة:
- لا لنْ انتَظر يا عَزيزة قَلبي، أني اتحَرقُ لأعَانق تلك العينين السَّاحرتين. دعيني وشأني.

لكن بعد برهة من التَفكير تقدمتْ نحو مكتب السِّكرتيرة وتحدثتْ مُتراجعة عن طَيشها:
- أريدُ أن أقابل السّيد جيمس حالًا، أخبريه بأنني ميلا مُورغان.

فكانَ رد السِّكرتيرة بكلِ صَرامة:
- عذرًا لا استطيع أن أقاطعه فلديه مقابلة مهمة.
- فقط أخبريه بأنني أريدُ مقَابلته ألا تفهمين؟! أفعليها الآن.

تفاجأت الفتاة من ردة فعلها الهَوجاء فمدتْ يدها إلى سَماعة الهاتف، وأجرتْ اتصالًا بالسيد جيمس لكي تخبره بأمرها وحول إصرارها الشَّديد لمقابلته، فجاء رد السَّيد صَادمًا بالنسبة لها حينما أخبرها بأن تمهله دَقيقتان للرد. وبالفعل فورَ انتهاء المُهلة كان رده دون ترددٍ بأن سَمح لميلا بالدخول.

ما إن طرقت البَاب ودخلتْ بخطواتٍ واثقة حتى تحولتْ أعيُن الرجلان لتُرامق قامتها الرًّشيقة والمتنَاسقة، المُدير جيمس عَلى يَسارها والسيد مُوريس كان يقابلهَا تمَامًا وكلاهمَا واقفان.

وبالطبع لم يَستحوذ عَلى عَقلها واهتمَامها غَيره في حين كان على بُعد ما يقارب أربع أمتار منها بقَامته المثالية، رأته وكيف بات يُحدقها بقزحِ عيناه اللتان تُضاهيان جَمال المحيط نقاءً وصفوً، وجهه الماسي وملامحهِ ذات التَفاصيل الرجولية الحَادة، ثم جَسده الصُلب المنيع بعضلات تتجلى لها بوضح عبر قميصه الأبيض ذو الأكمام المرفوعة، أزراره العلوية مفتوحة تأمن لنظاراته الشمسية ذات العدسات اللامعة ملاذًا أمنًا، وقد كان يرتدي بنطالًا كريمي يتماشى مع حذاءه الصيفي بلون البندق.

وشيئًا أخر سرق انتباهها كما في كل مرة تشاهد ألبوم صوره مع بعض الشخصيات المشهورة، شيئًا كان يتخلل فروة شعره البني الداكن وذقنه الخفيف، أنه الشيب بالفعل مثل تساقط الثلج في أولى ليالي الشتاء خفيفًا وجميل. عضت شفاهها السفلية بتوتر حينما رأته وكيف ضَيق مجال بصره بها باستنكار، لكن أتى صوت السيد جيمس لينقدها حينما قال:

- آنسة ميلا! أرجوك تفضلي.
فتقدمت بضع خطواتٍ حذرة ثم قالت باستيحاء:
- أعتذر ما إذ كنت قد قطعت أمرًا مهمًا.
- لا على الإطلاق. أنا والسيد موريس لا نرى إي مانع من حضورك.

أطلق المدير جيمس والذي كان مقربًا جدًا من السَيد ليعرض عليه رغبة ميلا في مقابلته والحديثِ معه على اِنفراد. وعقب تلكَ الكلمات استأذن للانصراف وسطَ ابتسامة مُشرقة وعينان تتناقلان بينهما في حين يغادر المكتب.

- سَعيدة بلقائكَ سيد موريس. أدعى ميلا مُورغان عارضة أزياء لدى وكالة آي إم جي مُودلز، لا أعلم ما إذ كنتَ تَعرفني، ولكن لا بد وأن السيدٌ جيمس قدْ حدثكَ عني القَليل.

- أجل بالفَعل، مرحبًا.
أطلق تلكَ الكلمات الجَافة المتضمنة لقليلٍ من الاهتمام والمُبالاة، ولكن ذلك أبدًا لم يضمر حماس الأخرى وقد أخذت تستنشقُ الهواء بعمقٍ مَسرورة وهي على بعدِ خطواتٍ منه قليلة. وقد حمل عناقِ الأكف أحولًا متنافرة، فأمدها بصدمة البرد من طرفه، والحَر من طرفها لشدة ما شعرت من اضطرابٍ وتوتر جاهدت في إخفاءه، وقد بات يبدو لها كم هو معتادٌ على رؤية الفاتنات ليس وكأنها ستشكل ذلك الفارق في عيناه، أو ربما هو ليسَ ممن يظهرون الاهتمام بتلك السرعة.

وبعد جُلوسهما متقابلان أمام طَاولة المكتب على المَقاعد الوتيرة ذات التَّصميم الفَريد تحدثتْ ميلا بحَماس:
- تمت عدة أمور أودُ مناقشتها معك أيها السيد. إذ تفضلت.

- مثل مَاذا؟! أتعتقدين أنني متفرغ جدًا للخوض في نقاشٍ غير رسمي. حَتى أن الساعة قد تجَاوزت الحادية عشر.

تجمدت ملامحها بصدمةٍ وإحراج قبل أن تعلق متأوهة:
- أعتذر! لا أظن بأنني سأبقى في ميامي طويلًا حتى أطلب موعد رسمي من السكرتيرة.

- دعك من الاعتذار وأخبرني ما الذي تريدينه.
راقبت كيف انحرفت عيناه ثم عادت تسألانها عن الأمر المهم التي تودُ الحَديث عنه. ثم وجدته يفترسها بنظراته في جرأة عالية الطراز.

سريعًا جعلتْ تفكر أي حجةٍ هي الأنسب ثم ما لبثت حتى أطلقتْ بدلال:
- حسنًا، كنت أريد أن استشيركَ في سبل الاستثمار في فلوريدا، وربما شراء منزل يَحظى بإطلالة فَريدة على الشاطئ.

طَغت ابتسَامة ساخرة على شَفتيه ثم أجابها بحاجبين مُحلقين نحو أفق جبينه:
- لستُ سمسارًا آنسة ميلا، ولا أحد يستشيرني في مثل هذه الأمور، مهمة مثل هذه يمكنكِ اتمامها من أحد أبراج نيويورك كما تَعلمين.

- ومَاذا عنْ منزلٌ فَاخر يطلُ على البَحر؟
- جدولي مزدحمٌ. ولن يسرك الانتظار لوقتٍ طَويل.

وقد كانتْ على علمٍ مسبق من روز بشأن رأيه المتزمت، تعلم كم هو يعتذر عن قُبول الطلبات العشوائية، حتى أنه قد أكتفى بتصميم سلسلة فنادقه ومنزله الخَاص وبعض المَشارع الضخمة الأخرى. لكنها لا زلت على إصرارها ورغبتها في الحُصول على تصميمٍ خاصٍ بها، ربما لأجل أن تقتحم عالمه المحصن من أوسع أبوابه.

وفي تلكَ اللحظات سَمعت رنين هاتفه فإذ بيده تغوص في جيبِ بنطاله مخرجةٍ إياه، توقف متأملًا فيه لبضعة ثواني قبل أن يستأذنها للرد قائلًا:
- عذرًا! ولكن يجب أن أخذ هذه المكالمة، عن أذنك.

هذا ما قاله قبل أن تراه يستدير مبتعدًا نحو النَافذة الزجاجية المطلة على أمواج الأطلسي، وضع السَّماعة فَوق أذنه ثم استطرد بحزم:
- رودي أنني مَشغول. ماذا هُناك؟!

وأخذت ميلا تسترقُ النظرات نحوه لتلاحظ كيف تلاشتْ نبرته الجَادة ليحلِ محلها الحَنان والعَطف بينما أخذ يتابعُ قائلًا:
- آه! حبيبتي ساندي هذه أنتِ.

توسعتْ ابتسامته الجذابة حتى أنها بدت واضحة لها حِينما انحرفتْ زاوية عُنقه قليلاً نحو اليمين، كل هذا جعلها تتسأل عن هوية تلك المرأة أو الفتاة، لا يمكنها الجَزم حول ذلك ولكن يبدو واضحًا كونها تحظى باهتمامٍ فائقٍ من ناحيته لمجرد سماع صوتها. كان طِيلة المُكالمة يتغزل بها بفكاهة الأمر الذي يشير بأنه محض طفلة صغيرة، إلا إذ كانت تلك هي طريقته في الغزل. ثم فرت منه بعض الضحكات متناسيًا وجودها، وكيف أثارت كلماته غبار القلق الذي جعلها تختنق بصمت، صار بوسعها الآن أن تتنفس الصعداء.

- حسنًا، سأرى ما إذ كان بوسعي القدوم. إلى اللقاء الآن.

أنهى المكالمة على وقع تلك الكلمات الدافئة، ثم عاد لمكانه أمامها وهو يقول مبتسمًا:
- المعذرة! هل أطلت عليك كثيرًا.
- لا بأس.

فأفاقت من شُرودها في ملامحه بابتسامة بلهاء، ولم تَستطع حديثًا بعد ذلك ممَا جعل الأجواء بينهما شَديدة السُّكون. ثم حينما استعادَ أليك تفاصيل النِقاش قررَ تأجيله إلى يومٍ آخر غير هَذا اليوم حيثُ يمتلأُ جَدوله حد الفَيض.

- دعينا نَتحدث في يومٍ أخر. قلتِ بأنك لن تبقي في مَيامي طَويلًا أليس كذلك؟ حَسنًا، سأكون على تواصلٍ معاكِ في خِلال يومين.

وعلى الفَور أجابتْ:
- جيد، سأكونُ على ترقبٍ للمَوعد.
- شكرًا لتَفهمك.

وما أن منحتهُ رقم هاتفها وعنوان بريدها الإلكتروني حَتى انصرفتْ عائدة إلى جناحها الفاخر، مستبشرة وسَعيدة جدًا إذ سيتسنى لها مقابلتهُ مرة أخرى في ظروفٍ أفضل حيث ربما ستتمكنُ من خوضِ بعد الأحاديث الشَّخصية، وفي أفضل الظُّروف سَتصبح على تواصلٍ دائمٍ به. والآن قبل وجبة الغداء قررت أخذ قسطٍ من الراحة وهي لا تصدقُ كَون امرأة نشطة وصَحية مثلها أصبحتْ بهذا الكَسل.

* * *

مساءُ الخير ما رأيكم بالفصل الأول؟

كيف كانت الأحداث والمعلومات؟

ميلا مورغان؟

أليك موريس؟

هل تعتقدون بأنها قادرة على حل شيفرته؟


ك.خديجة القطوس غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 22-09-23, 11:06 PM   #4

ك.خديجة القطوس

? العضوٌ??? » 483982
?  التسِجيلٌ » Jan 2021
? مشَارَ?اتْي » 51
?  نُقآطِيْ » ك.خديجة القطوس is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة habiba banani مشاهدة المشاركة
المقدمه مشوقه جدا

في انتظارك غاليتي ❤️

❤ قمت بنشر أول فصل وأتمنى ينال إعجابكِ.. شكرًا❤


ك.خديجة القطوس غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-09-23, 08:33 PM   #5

ك.خديجة القطوس

? العضوٌ??? » 483982
?  التسِجيلٌ » Jan 2021
? مشَارَ?اتْي » 51
?  نُقآطِيْ » ك.خديجة القطوس is on a distinguished road
افتراضي

الفَصلُ الثاني - مَنزلُ العَائلة

عَلى المَرسى ترك مركب الصَّيد الخَاص به حَاملًا في يمناه مِحفظة مليئة بالأسماك الطازجة، رجلٌ ناهز من عمره الواحد والستون عامًا، وكست ثلوجٌ كثيفة قمم شعره بأكملها بَياضًا يأزر لون بشرتهِ الناصعة. وقد كان منهُ الوقار ما يحيطه من كافة الجَوانب حتى بالرغم من تقدمه بالسن لا زال شديدُ البنية وشديدُ الطباع، إذ بنظرة ثاقبة من عيناه الجارحتين الزرقوتين تريك عمق هَيبته. رجل الحُدود والبُنود والنَظام، رجلٌ لا معنى للمزاح عندهُ في أغلب الأوقات، هاوي للبحر، تراه لا يتورى عن ركوب الأمواج بواسطة مركبه المجهز بكافة المعدات، فهنالك كان يحظى بدقائقٍ من الصَمت والسكينة ويعود حاملًا بعضًا مما يثمر المحيط من أسماكٍ شهية.

وهو لا يتناسى تلك الأيام العزيزة التي كان بها صيادًا من أمهر الصيادين في المنطقة حيثُ كانت تلك مهنته المربحة والممتعة في آنٍ واحد. إلا أنه قد تخلى عنها مع تقدمه في العمر.

سَار بخطى ثابته نحو منزله القريب، تلك الفيلا الكلاسيكية التي يقطُنها وزوجته الحبيبة «باربرا»، وصل في غضون دقيقتان وظل لبرهة من الزمن يتأمل قرميدها الباهت على بياض جُدرانها ونوافذها الزجاجية الجميلة، شجيرات النخيل المغروسة في الباحة فوق بساط الطبيعة الخلاب وكل ما بتلك الحديقة من سحر. ثم تخطى الحجر الأبيض الذي يرسم له الطريق نحو الواجهة، حيثُ اهتدى أخيرًا إلى بابٍ خشبيٌ مهيب وجده مفتوحًا على مصرعيه وحينها تيقن بأن شقية ابنه الصغير قد وصلت لاجتماع العائلة الذي طال انتظاره.

في الداخل وجد زوجته تحادث إحدى الخادمات بهدوء لكنها تلفتت ما إن شعرت بقدومه، وعلى الفور ناولته ابتسامة طفيفة يكسوها التجاعيد، تلك الابتسامة ذاتها قبل عقودٍ من الزمن، حين صادفها أول مرة بالقرب من الشاطئ. سارعت الخادمة لأخذ المحفظة من بين يديه حاملة إياها إلى المطبخ. في حين تقدمت باربرا نحو زوجها لتقول:
- هل كان الصيد جيدًا؟

- بعض الشيء.
تحدث دون أن يطرأ على تعابيره أي تغيير، أم زوجته فرويدًا هيمن الاستياء على ملامحها الجميلة، ولم يعد بمقدوره تجاهل ذلك الشعور من الخذلان لتعقب:
- أتى رودي وماثيا أنهما في غرفة المعيشة، أم هارلين فقالت بأنها ستأتي بعد أن تتم عملها، ثم حاولت الاتصال بأليك لكنه لم يجيب...

وبذات الرواية والهدوء رد قائلًا:
- وألم يقم رودي بأخباره؟ لا تتكدري! إذ لم يكن هنالك ما يشغله فسيأتي.

وكان القلق الذي ينتاب قلبَ باربرا ناجمًا عن مدى شوقها لابنها الكبير، فهي لم تجتمع به منذ شهر أو شهرين سوى من خلال شاشة الهاتف، وقد بدا كيف أنه يتجنب الزيارات حتى لا يصطدم بأبيه وعجرفته. لم يستطع إليجاه إلى حد هذا اليوم أن يتناسى أفعاله، بينما باربرا مثل كل الأمهات، بوسعها أن تغفر لأبنائه أخطائهم بلا تردد.

ثم كان عليها نسيان الأمر برمته والتوجه نحو المطبخ كي تتابع تحضير الأطباق لمائدة الغداء العائلية بمساعدة الخادمة. وعلى الجانب الأخر قطع إليجاه الردهة إلى غرفة الجلوس ذات الطراز الخشبي، هناك حيث وجد رودي وماثيا زوجته يجلسان الأريكة في مقابل التلفاز وقريبًا منهما كانت الطفلة ذات الأربع أعوام متربعة في الأسفل وهي تلهو ببعض الألعاب. بينما شعرها البني المُتدرج كان ينسدل على كتفيها بنعومة وانسياب.

بمجرد أن شعر رودي بمجيئهِ استيقظ لكي يحييه كما فعلت زوجته ماثيا، أم ساندي فهي لم تميز شيئًا مما يحدث لانشغالها في الألعاب. بعد حين تقدم إليجاه بقامته العريضة نحوها وتوقف هناك متأملًا إياها باستنكارٍ صامت مما تطلب من رودي التدخل مخاطبًا ابنته بلطف:
- ساندي كفاكِ لعبًا وحيي جدكِ.

رفعت ساندي عيناها البنيتان لتقابل تلك الملامح التي لطالما أشعرته بالخوف والخشية، فتجدها كما في كل مرة خاليةً تمامًا من معالم البشاشة. لم يكن إليجاه يمازحها ولا يتحدث معها بلغةٍ تليق بسنها الصغير بل يعاملها في أغلب الأحيان مثلما يعامل الكبار، وبداخله رغبةً في جعلها خالية من النواقص، منصاعة، وهادئة لا تتسم بتلك الصفات التي يحملها أليك. فرجلٍ حاذق مثله يعي تمامًا الأثر الناجم عن شدة التعلق، وكيف يلقي بظلاله على شخصيتها المتسمة بالتذمر والانفلات منذ الصغر.

وجهة نظره كانت متعمقة أشد من اللازم، وإن كانت سديدة، فساندي متعلقة بعمها وتحمل كل ذلك الحب نحوه لما كان يعاملها بعطفٍ وحنان متفانيان، مسرفًا في تدليلها بكافة الأشياء ربما أكثر من والديها حتى، وكل تلك الأمور جعلت من علاقتهما غير قابلة للهدم.

- مرحبًا جدي، لقد اشتقت إليك بعض الشيء.
تحدثت بصدق وهي تمدُ يدها لتصافحه، فجعد إليجاه حاجبيه، وناد عليها رودي ببعض التحذير، فنهضت وسلمت على جدها بأدبٍ جاعلةً إياه يتناسى فعلتها.

وعلى مائدة الغداء الفاخرة في غرفة الطعام المطلة على الفناء بنوافذها الفرنسية الكبيرة. كان الجميع حاضرًا فيما عدا أليك، فحتى شقيقته الوحيدة هارلين أتت على الموعد، جلست بجانب والدتها في مقابل كلٌ من رودي وماثيا، وساندي التي خصص لها مكانًا بين والديها، أم إليجاه فكان يترأس المائدة وهو يتطلع إلى المقعد الخالي أمامه.

كانت هارلين هي الأخت الوسطى من بين الأشقاء. تحمل الكثير من سمات والدتها الشكلية بشعرها الأشقر خصيصًا، وبعض الطباع الداخلية لوالدها، وقد كانت أمٌ لتوأمان، وزوجة محبة تمتهن الطب التجميلي. أما رودي فكان أستاذًا جامعي من قسم الكيمياء الحيوية. لا تختلف هيئته عن الباقية سوى أنه كان يرتدي النظرات الطبية التي تخفي جمال عينيه الفضيتان.

- ألن يأتي أليك اليوم؟
وسط صمت الجميع المحدق شعرت هارلين بالفضول لتطلق تلك الكلمات التي جعلت باربرا تلتفت ناحيتها بقلقٍ كأنما تود منه التزام الصمت. لم تقابل هارلين أخاها منذ مدة. كان بالإمكان أن تتجاهل كل شعورٍ سلبي نحوه وتلك العلاقة المتهالكة التي تجمعهما على خلاف علاقته برودي، إلا أنه أخاها في آخر المطاف وحقيقة أنها تشتاقه غير قابلة للنكران. في ذلك الوقت أراد رودي التدخل لكن أباها فض الحديث الجاري بصرامه أمرًا الجميع بالشروع في تناول الغداء وكان أول من يلتقط سكينه وشوكته في وجوم مطبق.


ك.خديجة القطوس غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-09-23, 08:34 PM   #6

ك.خديجة القطوس

? العضوٌ??? » 483982
?  التسِجيلٌ » Jan 2021
? مشَارَ?اتْي » 51
?  نُقآطِيْ » ك.خديجة القطوس is on a distinguished road
افتراضي

عجز الجميع عن التصدي لرأي إليجاه وعبست والدتهم ذات الوجه الجميل، ثم سرعان ما استجمعت قوتها لتخاطبه قائلة برجاء وأمل:
- لربما يكون على وشك الوصول...

قضم لقمة من الطعام القليل الذي وضعه في صحنه، ثم رفع عينيه نحوها لبعض الوقت قبل أن يتوافد إلى مسامع الجميع رنين الجرس، ثم وقع خطوات الخادمة التي همت لفتحه. ثم مرت بعض الثواني قبل أن يشاهدوا كيف قفزت الصغيرة ساندي من مقعدها مسرعةً نحو عمها، فيمد الأخر ذراعيه حاملًا إياه في عناقٍ حار تحت أنظار الجميع. بعد برهة كان قد أرخى قبضته من حولها في حين هي ما انفكت تطلق ضحكاتها الطفولية في ابتهاج. ألقى أليك التحايا على أفراد عائلته الملتحمين في ذلك المشهد، ثم لم يشاء أن يفسد أجواء الغداء بالعناق والقبلات وجلس على الفور مقابلًا لوالده بجوار كلٍ من هارلين وماثيا.

واتخذت ساندي لنفسها مكانٍ في كنفه، بعد أن كان عناقها له شديدًا إلى الحد الذي جعل رئتيه تختنقان. ويبدو بأن ذلك المشهد لم يعجب إليجاه الذي ترك شوكته وأخذ يصَر عَلى أسنَانه بنقم.

- أرجو ألا أكونَ قد تأخرتُ كثيرًا، كيف حَالكم مجددًا؟
أطلق أليك في ابتِسَامة شقت طَرِيقهَا نحو شفَتيه بِعفو، فردت والدته بسَعادة لا يمكن وصفها:
- إننا بخيرٍ يا بني، ما أخبارك أنت؟
- بخيرٍ أيضًا.

وتصنعت هارلين المكر والغيرة بينما تطلق بسخرية:
- كيف لا مع كل ال****ات التي تمتلكها.
- أجل، ولكنني لا أتحصل جلسات تجميلٍ مجانية.

فأخذ الجميع يطلق بعض الضحكات باستثناء إليجاه فبالكاد مط شفتيه مبتسمًا. وفي حين باشر الجميع تناول تلك الأطباق الشهية بتلذذ، ساد الصمت سوى من قعقعة السكاكين والأشواك وهي تتخبط الصحون البيضاء، وأيضًا كانت الهمسات التي يتبادلها أليك مع ابنة أخيه واضحة في معظمها، مما دعَا أعين الجميع لتفحصهم بين الفينة والأخرى. لا سيما ماثيا التي لم تتوقف عن التأمل بهِ طيلة الوقت مستغلة انشغال الجميع.

أخذ أليك على نفسه مسؤولية اطعام الطفلة بنفسه حريصًا على التأكد من خلو قطع السمك من الأشواك الدقيقة التي قد تعترض حلقها، ثم أتى دور الأخرى لتلتقط بعض القطع بواسطة الشوكة من أجله.

كان لا أحد يستطيع تفسير ما يجري ولكن بالطبع، كان هنالك من بوسعه أن يكدر الأجواء اللطيفة باحتجاجاته.

- ساندي!
صدرَ نداءٌ جادٌ منْ فاه إليجاه يطالبُ من خلاله حَفيدته المدللة بالتوقف والنظر إليه، ظلت عيناه ترامقانها بحدة ووضوح معنى، فيلاحظ مدى ترَددها وخوفهَا من تلبية أمره، إلى غاية تدخل أليك الذي أشار له بالذهاب إليه مبتسمًا ومطمئنًا.

ووسط ترقب الجميع وقلقهم تركت مكانها وتوجهت ناحية الجد بشفاهٍ مزمومة ومتذمرة تكاد تطلق عبارات الاستياء والرفض بلا هوادة.

- أجلسي بجانب والديك فوق الكرسي.
أمرها بنبرة صوت منخفضة لكنها كانت كافية لتدركها مسامع الجميع. عبست ذات الملامح الرقيقة ثم قالت بتذمرٍ لطيف:
- لكنني أريد البقاء بجانب أليك!

مجددًا صر إليجاه على أسنانه محاولًا قدر الإمكان أن يكظم شرارة الغيظ التي بدأت بالتكون داخله، ليتابع بوعيد:
- لا أريد أن أعيد كلامي.

تابع الجميع الموقف وسط وجوم تام، زفر رودي الهواء بشدة، وباربرا كان يبدو عليها الانزعاج ثم التأهب خشية احتدام الأمر ونشوب خلاف جديد يصاعد الصراع بين الابن وأباه، وبينما ظل أليك يحدق الفَراغ مظهرًا عدم اهتمامه غير أنه كان أشدهم متابعة للموقف. وفي أخر الأمر لم يكن أمام الطفلة غير الانصياع لطلب جدها.

توجهت إلى حيث كانت تجلس بجوار والديها في حزن واضح، حتى لم يعد لها أي رغبة في تناول الغداء.

- أيان كان منكم متلهفًا لأن يصير أبًا فلينجب.

أطلقها بِكل صَرامة دون أن ينظر لأحد، ولكن جملته كانت واضحة المعاني والدلالة فعليًا حتى دون التأمل بها. أخذ رودي يَبتلع لعابه من شِدة التَوتر، وكذلكَ جثم الحزن والخوفُ عَلى قَلب والدتهم أكثر فأكثر، أما ماثيا وهارلين فلم تكن تعابيرهما تشي بغير الحذر الطفيف.

أم عن أليك فجاهد في تلك الثواني العصيبة أن يبدو صامدًا أمام المذاق اللاذع لكلمات أبيه، وازداد بريق عيناه عقب ابتسامة صغيرة وساخرة مدت شفتيه المطبقتين لثانية قبل أن يولي العبوس والتجهم. كان الأمر أشبه بزلزلٍ أفاق عليه مستذكرًا كل المعانة التي عاشها خلال الأشهر الماضية دون أن يتلقى مساندة من أحد.

كان الزواج والأنجاب أمرًا سهلًا على الجميع فلمَ هو بتلك الصعوبة معه؟! ولمَ دائمًا عليه أن يواجه نقاط ضعفه بالصمت المطبق، غير قادرٍ على البوح بشيءٍ مما يعتريه! وأليس هو الرجل الذي استطاع أن يحقق كل الأماني بعيدًا عن رعاية والده؟ يؤسفه أنه لا يزال تمت ما ينتقصه في نظره.

وفي خلال ذلك راودته رغبة قوية في هز الطاولة ومغادرة المنزل كإعصارٍ ضارب لكنه تراجع عنها في اللحظة الحاسمة.

وإليجاه لم ينهر مخيلته عن استعادت ذكرى الماضي برفقة عائلته بين جدران بيتٍ واحد، بالتحديد حين كان مسؤولًا تمام المسؤولية عن أبناءه وشؤونهم في الحياة. وذلك قبل أن ينتقل كلٍ منهم للعيش في استقلالية ويقصدون منزل العائلة كضيوف.

ذات يوم كان إليجاه يعمل ليل نهار لأجل تدبير أمورهم وتلبية احتياجاتهم المادية كاملة، كان قبطانًا لأحدى سفن الصيد الكبيرة لا يخفي عليه أية خبرة، بالإضافة إلى إتقانه عدة أعمال حرّة عديدة أغدقت عالمه بمالٍ وفير، وربما يعود كل هذا النجاح بفضل عزيمته وطبيعته الحذرة والمغامرة التي تعاين الأمور بدقة فائقة قبل الانخراط بها.

يذكر ذاك الشائب جيدًا كيف أستقبل خبر ميلاد طفله الأول، ذاك اليوم كان من أسعد أيام حياته وأجملها على الإطلاق لا ينفك يذكره بأبويته لهذا الابن العَاص، ليس بالأمر الفعلي تمامًا لكن أليك لم يولي الطاعة لوالده يومًا دون جدال ومشكلة، كان منذ صغره متذمرًا جدًا وصعب المراس فيما يتعلق بتنفيذ الأوامر الأسرية والالتزام بها، مستهترٌ وساخر، يهوى العيش بحرية مطلقة دون عناء ودون تحمل ولو عبء خفيف من المسؤولية، ويرى في والده رجلًا من العصور الوسطى وربما نوعًا ما هو محق، فمثلما كان أليك فتىً مستهترًا كان والده بالمثل متشددًا بمبالغة أتت آكلها مرّ المذاق.

هنالك الكثير من المواقف والأحداث التي أدت الى تدهور العلاقة بين الأب وابنه طوال الفترة التي كان أليك يعيش فيها برفقة والديه وأشقاءه. إلا أن فترة المراهقة كانت الأسوأ على الإطلاق.

في صفوف الثانوية كان معروفًا بكونه طالبًا ذكيًا بالأخص في مادة الرياضيات حيث كان يتحصل فيها على علاماتٍ عالية ادهشت زملائه المجتهدون، كما يتسم بحسٍ فني عظيم جعل من يده بمثابة كنزٍ لا يقدر بثمن. إلا أن كل هذا لم يضع حدًا لشغبه ونشاطه الزائد، ولذلك حاول إليجاه جاهدًا أن يبعده عن تلك الأجواء عبر إجباره على العمل معه في أوقات الفراغ.

لكن هذا لم يكن ليغير شيئًا فيه. استمرت المشاكل وتفاقمت إلى الحد الذي لم يعد جائزًا السكوت عليها، بالأخص مع أبٍ صارم مثله كان لابد له أن يضاعف من تشدده وحزمه.

كيف لا يفعل وابنه الذي لم يتجاوز السن القانونية بعد، يقضي الأوقات مع رفقاء السوء في اللهو المسرف كما يحلو لهم طيلة المساء، في حين كان شقيقيه الأصغر سنًا يقضيان معظم أوقاتهما في المنزل ينفذان ما يُطلب منهما ويعينانه على الظروف.

ويذكر ذلك اليوم الذي عاد فيه أليك من سهرته الباذخة وهو يترنح من مفعول الكحول. لطالما تذوق ذاك الطعم القوي واللاذع لكنه كان لأول مرة يبلغ هذه الدرجة العالية من السكر والثمالة، سار باعوجاج الى غاية السلم وعيناه ليست بذاك الوعي حيث تطلب منها الكثير لتلاحظ ذاك الجسد الصلد المهيب الذي تسمر أمامها ثابتًا بذراعين معقودتبن للخلف.

- جميل يبدو بأن أولئك الحثالة صانعوا من ابني رجلًا.

سكت ثم أخذ ينظر إليه من الأعلى إلى الأسفل بازدراء أضاف به:
- أتعلم! لو كنت مكانك لما عدت، بل أكملت لعب دور الرجل البالغ الذي يعلم مصلحة جيدًا. حملت أغراضي ورحلت عن المنزل دون عودة. ولكن ليس أنت، أنت ستبقى هنا لأتكفل بإصلاح كبدك المسكين حين يتلف جراء هذا السم الذي تحتسيه أنت وأولئك الحقراء.

ثم صاح بقهر:
- ألا تملك عقلًا تفكر به؟ ألا تعي بأن ما تفعله سيدمر مستقبلك كاملًا؟ ماذا إذ قامت الشرطة بالقبض عليكم مجددًا؟ أتعتقد بأنك ستفلت هذه المرة.

أمال أليك عنقه مبتسمًا ببعض الاستفزاز وبصوتٍ يغلب عليه تأثير السكر أطلق:
- لا لم يقبض علي أحد أنا هنا ألا تراني؟ لن أترك المنزل الآن لأنني لا أملك نقودًا لأجار غرفة. ولكن أعدك سأعمل بجد.

وحينها لشدة الغيظ رودت إليجاه رغبة قوية في خنقه أو قتله أو ربما حرقه حيًا، إلا أنه بالطبع لم يفعل شيء حياله في تلك الليلة فيكفي بأنه قد قضى معظم الساعات التالية في الاستفراغ والأعياء الشديد. وحاول جاهدًا أن يتغاضى عن تكراره للأخطاء التي هي متناقضة جدًا مع مستواه المعيشي والدراسي، وربما تركيزه التام على هذا الأمر بدل التحري عن الأسباب زاد الأمر سوءً بعد سوء.


ك.خديجة القطوس غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-09-23, 08:36 PM   #7

ك.خديجة القطوس

? العضوٌ??? » 483982
?  التسِجيلٌ » Jan 2021
? مشَارَ?اتْي » 51
?  نُقآطِيْ » ك.خديجة القطوس is on a distinguished road
افتراضي

علاقة أليك بعائلته؟

وما توقعاتكم للأحداث القادمة؟

أخبروني بها وإلى الملتقى في الفصل القادم إن شاء الله.❤


ك.خديجة القطوس غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 24-09-23, 09:35 PM   #8

ك.خديجة القطوس

? العضوٌ??? » 483982
?  التسِجيلٌ » Jan 2021
? مشَارَ?اتْي » 51
?  نُقآطِيْ » ك.خديجة القطوس is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الثالث - جُنونُ مَاثيا

بَعْدَ تِلكَ الأجْواء الحاميةْ عَلى مائدةُ الغَداء، جَلسَ أفراد العائِلةْ سويًا في غُرفَة الجُلوس يتبادلون أطرف الحَديث في تجاهلٍ تامٍ لمَ حدث سابقًا. فجلس كلٌ من مَاثيا وزَوجها وَبينْهُما مَسافةٌ شَاسعَة، والشَقيقة هارلين بِجوارِ أليك الذي كَانَ بالقرب من ابنة أخيه التي أراحت رَأَسهاَ في ارتِخاءً تَامْ على كتفه، ويبْدو عَليها النُعَاسْ من حَركة جُفونْها المُضطَرِبَة.

بينْمَا إليجاهْ كان بِجِوار زَوجَته وكَلبَتانِ من نَوع التشيواوا ذَوات الوَبر الأبْيض تَلْهوانٍ على مقربة. تَبادلوا الحَديثَ إلى نَحوِ سَاعة كامِلة حَتى قَرارَ إليجاه الانْصرَاف عَنهم وسطَ وجُومه المُعتَاد.

ثُمَ وبَعد ذَلكْ قَررتْ هَارلين أيضًا مغَادَرة مَنزل عَائِلتِها بدَاعي الانشغال ورعاية أولَادها اللَذانِ كَانتْ قدْ تَركَتهُما للمُربيةَ وزوجْها جوشوا، ولَكن قَبْلَ كُل ذَلكْ كَانَ لَا بُدَ لها أَن تتَقصى أمرَ باربرا عن كثب إذ لمْ تعد بحالٍ جيدة البَته بَعد ذلك الموقف الذي دارَ بينَ المتنازعين.

- لا داعي لكل هَذا القلق يا أماه. كل شيءٍ سيكون على ما يرام. لكن يجب أن تنتبهي لصحتك.

هذا ما جاءَ عَلى لِسَانها بعد أن نَجَحتْ من اسِتدرَجها إلى الرَدهة حين كَانت عَلى وَشك المُغادرةَ، ولم تَستَنكر الأُخرى الأمر فَقد قَرأت نيتها هذه في جملة اعتذارها عن البقاء.

ردت عَليها قائلة:
- لا تقلقِ أنني بخير. ولكنني حزينة ولا استطيع أن أخفي حزني يا هارلين. هل رأيتِ أباك وتصرفاته؟! كيف يمكنه أن يتفوه بتلك الكلمات لابنه؟!

فتنهدت هارلين بعبوسٍ وردت:
- هذا صحيح، لا أعلم لماذا يستمر أبي في فعل ذلك. فحتى وإن كان أليك قد تسبب له بمشاكلٍ عديدة بالماضي يبقى فردٌ من عائلته. لم يعد ذلك الفتى الطائش والغير مكترث بل استطاع أن يكسب رهانه في الحياة.

في غضونِ لحظَة تَذكرت باربرا ذاك الوجه الطُفولي المشاغب والمحب للمغامرة والاستكشاف، ألوانهِ وأدواتهِ الهندَسية التي يلهو بها في ساعات الفراغْ فلا تفارقهُ إِلا في نومه، أو ربما لا تفعل، قد ترافقه في الأحلام، فتىً يتطل دائمًا نحو الأبنية الشاهقة ويطمحُ بِأن يصيرَ يومًا ما معماري ذو سيطٍ وشأن. بالفعل لقد كسب رهان النجاح في الوقت الذي فقد إليجاه الأمل فيه.

- لكن أليك أيضًا غير محقٍ في معاملة والدنا. ببساطة الأمر يتطلب منه الاعتذار بإلحاح، الجثو على ركبتيه ربما ولكن بإمكانه أن ينهي الأمر. إلا أنه يرفض الاعتراف بأخطائه البتة... بنظري أرى بأن كلاهما مخطئان.

أخذتْ باربرا نفسًا عميقًا على وقع تلك الكلمات المؤثرة لكنها لم تدع مجالًا للحزن أن يتغلغل في نفسها عميقًا وودعت ابنتها بعد ذلك بابتسامة مشرقة.

وفي ذات الوقت كان رودي يتحدث مع أليك في أمور مختلفة منتهزًا غياب إليجاه والبقية، حتى في آخر الأمر أراد الشقيق الأكبر أن يحظى بدقائقٍ من الانفراد وحيدًا في إحدى غُرف الطابق العلوي، صعد السلم بينما يفكر كيف مرَ زمنٌ طويل منذُ آخر مرة شعر بها بانتمائه إلى هذا المنزل كفردٍ من أفراده.

ومن بين كل الغرف أختار دخول غرفته السابقة. أدار المقبض بمهلٍ وداخل متأملًا أركانها البيضاء ليجدها كما هي بجميع محتوياتها لا تخلو من شيء. وتجاهل نداءات قلبه الملحة نحو تفحص الأغراض عن كثب. وسارع بخطواته إلى الشرفة الواسعة المليئة بأصص الزرع الفخارية الملونة في أشكالٍ متباينة، وذات الإطلالة الباهرة حيث تظهر منها الباحة الخلفية بأركانها المسورة، بعض الشوارع وشريط الساحل المليء بالسفن والمراكب، كان مكانًا خلاب يتسم بالهدوء يزيح هالة الهموم عن العقول المنهكة.

استند على قضبان الشرفة بتثقلٍ وأخذت أنفاسه تعلو كما لو أنه دهش وما هو بذلك، لكن إجهاد الأشهر الأخيرة التي مرت عليك كالدهر كان يبثُ فيه ذاك الوهم والتشويش، ويريد أن ينفس عن روحه بالبوح بما يختلجه قليلاً إلا أنه لا يقدر وأن مات فليمت السر معه ولا شفقة الناس. الجميع يرى به الرجل الدقيق والصائب في اختياراته وقرارته لذلك عليه أن يحفظ تلك الرؤى إلى الأبد.

لم يمر على فسحته الكثير حتى أحس يدًا ناعمة ترتفع من ظهره لتستَقر على كتِفه اليسرى في هدوء، فإذ من تلقاء نفسه يلتفتَ متحريًا أمر الفاعل أو ما عساه يريد بفعلتهِ.

- ماثيا!
تفاجأ بزوجة أخيه ترسم ابتسامة دافئة فوق شِفاهها الوردية ترامقه بلهفة وشوقٍ مريبان، استنكر الأمر فقد ظن لوهلةٍ أنها والدته أتت لتلقنه درسًا جديدًا في البر والطاعة.

استدار عائدًا ببصره نحو الأمام ثم استطرد بجفاءٍ بالغ: «ماذا تريدين؟!»

- لقد اشتقت إليك، وإلى أيامنا سويًا.
كانت قد استندت بكامل جسمها على جانب الباب وأضافت بتلك النبرة التي تعُج بالعاطِفة بينما تتطلع به.

- ما الذي تقولينه؟ هل جننتِ؟!
تراجع عن السياج وناولها كامل جسده المنيع مستديرًا حتى يقابل نظراتها الجريئة بلا خوفٍ أو رهبة من امتعاضه في تلك الأثناء. شعرها البني المتلألئ ملامحها الجذابة وفستانها الصيفي السمائي لم يأتي من عبث.

- ماذا! ألم نكن سويًا قبل حتى أن أقابل رودي.
تحدثت مستذكرة إياه بماضيه، بتلك الأيام التي كان فيها زير نساءٍ وجماش، ومتعدد العلاقات حتى أنه لم يكن يستقر على امرأة واحدة طيلة الوقت. لقاءهما الأول كان في إحدى المستشفيات حيث كانت تعمل كممرضة. أصيب في رأسه بفعل حادثٍ تعرض إليه في ورشته فقامت هي بخياطة جرحه بحرفية.

وكانت بضعة نظراتٍ كفيلة بجعلهما يتواعدان فقط لأسابيعٍ معدودة قبل أن ينفصلا أثر خلافٍ حاد نشب بينهما حينما قامت ماثيا بطرد سكرتيرة مكتبه بلا سبب، وتدخلت في شؤونه الخاصة التي لا يسمح لأي أحدٍ بحشر أنفه فيها.

ثم ليتفاجأ بعد مرور أشهرٍ على الانفصال بارتباطها السري بأخيه رودي حيث كانا مخطوبين بالفعل حينما وجدها برفقته، فكانت صدمته غير قابلة للتفسير بتاتًا، وفي ذلك الوقت أراد أن يحذر شقيقه ويدفعه للتراجع لكن رودي أخبره بأنهما على وشك إنجاب طفلة. وعند ذلك كان على أليك التزام الصمت والابتعاد عنهما أملًا بأنها قد تغيرت وتخلت عن مكرها وغطرستها.


ك.خديجة القطوس غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 24-09-23, 09:37 PM   #9

ك.خديجة القطوس

? العضوٌ??? » 483982
?  التسِجيلٌ » Jan 2021
? مشَارَ?اتْي » 51
?  نُقآطِيْ » ك.خديجة القطوس is on a distinguished road
افتراضي

ولكنه كان محقًا في شكوكه، هذا النوع من النساء هو يعرفه تمام المعرفة ويستطيع قراءة نواياهن بوضوح على عكس شقيقه الذي لم تكن له علاقاتٍ بحجم ما كنت لديه. حيث يمكنه الآن القول بأنها قد اختلقت الصدفة مع أخيه لأجل مصالحها الانتقامية القذرة. فجعل يلعن ماضيه وحظه العاثر ثم خاطبها محذرًا بصوتٍ أشبه بالصراخ:

- لا! ليس هنالك أيامٍ بيننا، أنت الآن زوجة أخي وأمٍ لطفلته أتفهمين. عليك بنسيان الأمر برمته.

فَجأةً تقدمت وغمرت قبضته اليمنى بكلتا يديها لتردف باستياء: «كيف تريدني أن أنسى بعد أن تركتني لأسبابٍ تافهة، لقد أحببتك يا أليك، لقد ظننت بأنك تبادلني الشعور لكنك لم تكن تفعل.»

أبعد يداها عنه ليسأل باشمئزازٍ شديد:
- ولأجل هذا قمت بخداع أخي بألاعيبك الماكرة؟

وسكت قليلًا ثم تابع قائلًا:
- أتعلمين لست نادمًا على تركك، ما يشعرني بالندم أنني لم أخبره عنك منذ اليوم الأول. فامرأةٍ مثلكِ لا تستحق أن تكون زوجة له.

- تتحدث وكأنك أفضل مني شأنًا. تستمر بخداع من حولك بصورة مترفة بينما أنت تشكو من كل عيب.

أحكم إغلاق جفونه وهو يشعر بحرارة تغزو كل جزءٍ منه، لا يريد أن يحدث جلبه توقظ الأرواح الناقمة في المنزل، حينها سينتهي أمرهما لا محالة. سيخسر كل ما تبقى له من مكانة واحترام في هذا البيت.

- ماثيا! إذ كنت ترغبين في الاحتفاظ بما تبقى من حياتك البائسة فأفضل ما تفعلينه الآن هو الرحيل من أمامي، وسأعتبر نفسي لم أسمع هذا الكلام منكِ.

غمرت الدموع عيناها وكادت أن تنسكب منهما بينما تستطرد بحزنٍ وانزعاج:
- أنتَ لن تتخلص مني، ليس بهذه البساطة.

فضرب بعنف على سياج الشرفة وعيناه تطلقان شرارًا حارقًا. إذ كانت بكلماتها تخرج أسوأ ما فيه، كأنما تود أن تفقده عقله بالكامل.

- ما الذي تريدينه؟ حتى لا أسمعك تتفوهين بالهراء مرةً أخرى... المال؟ مقدار ما ترغبين به. ولكن إياك وجعل أخي وابنته يتألمان أتفهمين. لا أريد أن أعيد ما قلته.

فكرت هل عليها أن تفرح وتطلق العنان للسعادة، ها هو الألكسندر بعظمة لسانه يكاد يتوسلها لأول مرة في حياته دون أن يشعر بالإذلال، حتى عيناه كانت تخشى منها رفض اقتراحه، ولا بد أن ما قاله لم يأتي عبثًا أنه بالفعل يخاف أن تلحق الضرر بأخيه وابنته إلا لما قال ذلك.

وارتمت في أحضانه بسرعة البرق مطمرة رأسها عميقًا فيه حتى شعرت بملمس أضلُعه المحتمية بصفوفٍ من العضلات البارزة، وحينها راودتها رغبة جامحة في البقاء هناك إلى الإبد، وقد تدفق لها أريجه العابق برائحة رجولية مميزة جدًا، بالطبع هو عطره، عطره الخاص كما يحب في كل شيءٍ «المغايرة».

ولم يستفق أليك من غيبوبته بعد فعلتها الجريئة تلك إلا حينما اصطدمت عيناه بذاك الجسد الرشيق قصير القامة وهو يقف عند باب الشرفة فغرة الفاه، تشاهدهما وسط حيرة وهما على ذاك القرب البين.

حينها فقط استدرك الأمر ودفع بماثيا بعيدًا عن أحضانه ليقول مبتسمًا للصغيرة وسط ارتباكه الشديد: «آه عزيزتي ساندي»

سار إليهَا راغبًا احتواء المَوقف إلا أنها تَراجعت للخلف ما أن كادت يداه تلمسانها، وأخذت بعيناها الناعستان تُحدق فيه بتوه وكأنها تشاهده لأول مرة رجلًا غريب الأطوار، ثم وبعد أن أعاد الكَرة سَمحت له بحملها عن الأرض كما يفعل دائمًا، ولم تظهر أية ردة فعلٍ بعد سوى صمتها المُطبق.

تَسأل عقلها الصَغير عنْ سبب اضطراب عمها وكل هذا الخوف الذي افتعلهُ قدومِها في هَذه اللحظات، قبل أن تحط أنظارها على صورة والدتها مجددًا وهي مُتسمرة مَكانها دون حراك وكأنها تمثالٌ من الشمع لا حَياة فيه.

- ألم تنم حَبيبة عمها؟!
أطلق بعشوائية قاصدًا لا شيء سوى صرف النَظر عن تلك البلهاء، فَهزت رأسها بالنفي وشفتاها الصَغيرتان مطبقتان بينما لا زالت تحدق فيه بذات النظرة المتسائلة، وتنهد بدوره حين تأكدت له الشُكوك لا بد وأنها ظلت تفتش عنهما بعد أن أفاقت من نومها الخفيف كنوم القطط.

سألت بعد طول تفكير:
- لما أنتما هنا معًا؟!

وكان هذا ما يخشاه، أن تقوم بسؤاله وتواصل البحث عن أدلة ترسخ الفكرة القذرة داخل عقلها الصغير إلى الأبد، لقد كان يعرف تمام المعرفة أنها ذكية وليس من السهل خداعها بهذه البساطة.

- هذا لأننا، آه صحيح! كنا نتحدث عنكِ، فكرت أن بعد غدًا ربما سأتي لاصطحابك معي في نزهة فما رأيكِ؟

فرأى عيناها تتوسعان من فرط الغبطة والسرور قبل أن يعبس كل ما فيها حين تذكرت موعدها مع طبيب الأسنان لترد برجاء:
- ليس بوسعي، أنجعلها في يومٍ آخر عماه؟
- بالطبع.

- حقًا! أتعدني؟
كررت سؤالها لكنه لم يجبها في شيء، بل سار حاملًا إياها خارج الشرفة، وقد ترك خلفه شتات امرأة مشوشة لا تعلم ما يتوجب عليها فعله. هل تستلم وتبيع رغباتها لأجل بعض المال ما لم تسطيع الحصول عليه بالكامل؟! أم تستمر في نصب المكائد في كل لقاء.

لا زالت نظرته الأخيرة لا تفارقها، تعني أنه سيدفنها إذ فكرت بهجر أخاه وساندي أو البوح عن علاقتهما القديمة، تعني أنه سَيبدلها حياة البؤس جحيمًا لا يطَاق إذ تجرأت حتى. لذلك لا بد لها من نفض تلك الفكرة من رأسها تمام النفض.

على الجانب الأخر، هبط أليك درجات السلم وتلك المُدللة لا زالت تعيّد ذات السؤال في صيّغ مُختلفة، بينما كان يستشعر ملمسًا خاصًا تحدثه أناملها الرطبة المزمهرة كثمار العناب، ظلت تمررها فوق رأسه بسلاسة جاعلة من خصلات شعره المتنافرة ترقد بسلام، وتبدو أكثر ترتيبًا مما كانت عليه، ثم اتجهت إلى عنقه في حين تخبره كونها تسطيع السير على قدميها فلم تعد صغيرة إلا أنه تجاهل كل ذلك.

وأخيرًا وضعها على الكنبة حيث كانوا يجلسون بعد الغداء. لم يكن تمت أحدًا هناك. حط أمامها واضعًا كلتا يداه على أرجلها النَحيلة في حين عيناه تحدقانها بحب وتقديرٍ فائق، قبل أن تراه يبعد إحدى يديه يفتش عن شيئًا ما تحت الأريكة. ليخرج بعد ثواني صندوق ألعاب متوسط الحجم. وهو يقوم بإحضار الهدية إليها مبتسمًا ببعض المكر علق قائلًا:
- لقد وضعتها هنا حين أتيت، لم يلاحظني أحد.

ابتسمت بافترارٍ وعانقته قبل قبلة سريعة ورقيقة بثت فيه الحياة من جديد، مدهش كيف تتكرر فرحتها في كل مرة يجلب لها هدية جديدة، كان هذا يصنع منه رجلًا في قمة السعادة والسرور.

- أشكرك عماه.
تقدم منها وقبل جبينها بذات الطريقة ثم أضاف في مزيجٍ شاذ بين الامتنان والكدر:
- أنا من عليه أن يشكر.

ظهرت علامات الاستفهام فوق تعبيرها إذ لم تستنتج من كلماته شيء سوى أنها تعني له الكثير. زرع بها بعض الطمأنينة بابتسامة أخرى أكثر دفئًا بعد أن كان للضيق النصيب الأكبر من تعابيره، أحس من واجبه فعل ذلك إذ أراد تفادي فضولها. وبعدها نهض من مكانه وجلس بجوارها على الأريكة في تنهيدة عميقة.

ساندي وهي تخرج اللعبة من الصندوق:
- أيمكنني أن أسألك سؤالاً بحجم جمجمتي؟

تفاجأ من قولها، هذه الصغيرة تبدو كالعجوز، وتلكَ الأذنان لا بد وأنهن تعملان كالرادار بدل الإشارات تلتقط الجمل، تخزنها جيدًا في الذاكرة.

أومأ لها ولم يتلفت وقد بدا شاردًا في محيط أفكاره الشاسع، مرت ثواني وهي منبهرة بالهدية الجديدة حتى في آخر الأمر وضعتها جانبًا وقالت: «ماذا إذ أصبح لديكَ ساندي جديدة تخصك؟»

على الفور استدار في اندهاشٍ تامٍ من سؤالها الغريب وقد وشك على إطلاق ضحكاته، بعد برهة كان قد ناولها كامل جسده وأخذ يجيبها بحن: «لن يتغير شيء، سأكون في قمة السعادة إذ أصبح لدي اثنتان»

- لن تفضلها علي؟ لن تبقى مشغولًا بها على الدوم؟!

هز رأسه بالنفي وقال مجيبًا:
- على الأطلاق، وأياك أن تفكري بهذا حسنًا.

فلم يكن منها إلا أن تبتسم مسرورة. وبعد مرور دقيقتان أتى كل من ماثيا ورودي لأجل اصطحاب طفلتهما فقد حان وقت الرحيل. اقتصر أليك على التحية لتوديعهم وهو يشعر بخيبة أملٍ وانزعاجٍ من نفسه حد الاشمئزاز كلما تذكر ما جرى بينه وبين زوجة أخية. وعاهد نفسه ألا يسمح لها بتكرار الأمر.

ثم لم يتبقى أحدًا غيره هو ووالدته، التي توقفت معه لمشاهدة ساندي تلوح نحوها للمرة الأخيرة قبل أن تغيب عن ناظريهما قبالة الباب. تبادل مع أمه أطراف الحديث لبعض الوقت. تطرقا إلى مسائل الماضي والخلاف الذي جمعه بأبيه فإذ به في النهاية يقر بأخطائه جميعها، ثم يطلب منها أن تغفر له أفعاله، فتقبل باربرا بالغ أسفه وتدعوه إلى مواجهة أبيه لكنه يقرر تأجيل الأمر لبعض الوقت.

وبعد ثواني يغادر من أمامها وهو يتمنى لها مساءً طيبًا كذلك هي تفعل، بينما أكتفى أليجاه بمراقبته من إحدى الشُرف بالأعلى.

* * *


ك.خديجة القطوس غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
حب،عشق،مافيا،غموض،عصابات، مشاعر،ثأر،انتقام،صراع،

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:59 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.