شبكة روايتي الثقافية

شبكة روايتي الثقافية (https://www.rewity.com/forum/index.php)
-   روايات عبير المكتوبة (https://www.rewity.com/forum/f202/)
-   -   16- لقاء الغرباء- آن هامبسون- روايات عبير القديمة(كتابه/ كامله) (https://www.rewity.com/forum/t74913.html)

أمل بيضون 26-07-09 01:21 PM

16- لقاء الغرباء- آن هامبسون- روايات عبير القديمة(كتابه/ كامله)
 
16- لقاء الغرباء- آن هامبسون- روايات عبير القديمة


الملخص


كلنا غرباء في هذا العالم... الحب وحده يختصر المسافات, يغيّر الثوابت ... يبدّل الأحوال ... يجعل المحال ممكنا ... والممكن مستحيلا ... هيلين وليون وروبرت هذا المثلث الشديد التناقض والتنافر من الأشخاص, يجتمعون تحت سماء قبرص الحارّة وبينهم يتيمان صغيران لا يعرفان ما يجري... ألا أنه الحب... يلفهما أيضا بخيوطه الساحرة وينقذهما الى الأبد من الضياه ... لكن هيلين الأنكليزية الغريبة هل تستسلم لزواج فرضته الظروف أم تستجيب لأبن بلدها روبرت الرقيق , المهذّب , الذي يفهم طبعها ويشابهها في كلّ شيء؟




يجب ان ترد لمشاهدة المحتوى المخفييجب ان ترد لمشاهدة المحتوى المخفييجب ان ترد لمشاهدة المحتوى المخفييجب ان ترد لمشاهدة المحتوى المخفي

جورجينا 26-07-09 03:27 PM

[rainbow]
كتيرحلوة................
من زمان حابة اقرأها ..................
بالتوفيق...............................
[/rainbow]

هبهوبة 26-07-09 05:21 PM

تسلم اديكي يا امولة على الرواية الراااااائعة

بنوته عراقيه 27-07-09 07:27 PM

سلمت الايادي على الاختيار ...وبانتظاركِ

أمل بيضون 30-07-09 01:32 PM

1- العرض والطلب
أضطرت هيلين الى الأعتراف بأن العرض جذاب , وهي ترمق صديقتها بأهتمام ... نفقات سفرها الى جزيرة قبرص الجميلة وعودتها , بالأضافة الى مصاريفها وثمن وقتها , كل ذلك مقابل أصطحابها طفلين في الرحلة , وتسليمهما بسلام الى عمهما ليون بترو وهو قبرصي يوناني يقيم في قرية لابيتوس الجبلية الجميلة , على مسافة ثمانية أميال من كيرينيا , في الساحل الشمالي للجزيرة.
قالت, وومضة حماس واهنة تمحو الأسى عن وجهها وتكسبه جمالا ناعما ورقيقا:
" كان لطيفا منك أن تفكري بي, فأنا – كما تعلمين- لم أحصل على أجازة منذ ثلاث سنوات تقريبا".
" لهذا السبب بالذات فكرت فيك حين أطلعني أصدقائي على الوضع , ستكون فترة أستجمام رائعة بعد مرضك , ونوفمبر (تشرين الثاني) شهر بديع للترويح عن النفس – الحر فيه ليس شديدا وهكذا تستطيعين السباحة في البحر- والأستلقاء في الشمس على الرمال – وأنت عندك هناك صديقة لا بد أن تستضيفك أسبوعا أو أثنين".
تناولت هيلين فنجان بريندا وصحنها , وسكبت لها مزيدا من الشاي قائلة:
" ترودي ستفرح للزيارة, أعتقد أخبرتك بأنها متزوجة من قبرصي".
وأستأنفت عندما أومأت بريندا برأسها :
" لهما مسكن على مشارف نيقوسيا , يبدو جميلا حسب الصور التي أرسلتها أليّ".
كانت ترودي صديقة قديمة لها في المدرسة ولم ترها هيلين منذ زواجها – منذ ست سنوات- من الشاب المليح تاسوس, الذي ألتقت به في أجازة في قبرص , ولكنهما أعتادتا المراسلة بأنتظام , ودعتها ترودي عدة مرات للذهاب الى الجزيرة لتقضي عطلة معهما , وكانت هذه فرصة رائعة , وزادت هيلين لهفة وهي تسأل صديقتها عن مزيد من التفصيلات.
" قيل في البداية , أن أباهما كما ذكرت سيغادر المستشفى سريعا , فوافق صديقاي – وهما جاران له- على أيواء الطفلين , ولكن أتضح أنه سيمكث في المستشفى عدة أشهر, ولا يستطيع , بيل وجين رعاية الطفلين لأجل غير مسمى , فبيتهما صغير, ولهما ثلاثة أطفال يافعين , لهذا تقرر أن يذهبا – في الوقت الحالي – الى عمهما في قبرص.
وأخذت بريندا ترتشف الشاي , وأستغرقت الفتاتان في التفكير هنيهة وعادت بريندا تقول وهي تطلق ضحكة قصيرة:
" عمهما , فيما علمت , وافق على مضض أن يكفلهما , فيبدو أنه لا يميل كثيرا الى الأطفال , ومن الواضح أنه عدو النساء أيضا , ويبدو أنه لا يسر أحدا بصحبته".
قالت هيلين موافقة , وهي تعبس قليلا لفكرة أضطرار طفلين صغيرين للحياة مع رجل كهذا.
" من المؤسف ألا يستطيع صديقاك الأستمرار في رعاية الطفلين".
تناولت بريندا رشفة أخرى , قائلة:
" أن هذا مستحيل".
وبعد هنيهة تمتمت هيلين وكأنها تحدث نفسها:
" وهو أيضا لا يحب النساء".
وتذكرت سلوكها الشخصي نحو الرجال , مستغربة لحظة سبب ذلك , ثم تساءلت:
" ترى هل أساءت اليه أمرأة ما ؟".
" واضح أنه يكره النساء لما فعلته زوجة أخيه التي رحلت مع شخص آخر , تاركة زوجها والطفلين , كان تشيبي في الثامنة وفيونا تصغره بسنة , كان تصرفا أنانيا بشعا, ولكن بعض النساء قاسيات تماما".
ودار في خلد هيلين أن بعض الرجال هكذا , وأستغرقت في الصمت وهي تفكر في سنواتها الثلاث مع غريغوري , كان زواجا طبيعيا هانئا , أو هكذا أعتقدت , ولكن, عندما وجد زوجها ميتا وسيارته محطمة , كانت معه فتاة من مكتبه , وقال أحد الأصدقاء : أن الزوجة آخر من يعلم دائما: وغشيت هيلين مرارة بالغة , ثم أضطرت الى قبول الحقيقة وهي أن علاقة زوجها بالفتاة ترجع الى أكثر من عام , وكانت هذه النهاية بالنسبة أليها , وفقدت ثقتها بالرجال نهائيا- وأقسمت ألا تطمئن لواحد منهم مرة أخرى , أو تيح لأحدهم فرصة أبتلائها بمثل هذه التعاسة ثانية , وجلبت عليها الصدمة مرضا طويلا , وخطيرا , لم يمتص قواها البدنية فحسب , بل أفقرها ماليا, ثم تحسنت صحتها بعد عامين , وأصبحت تأمل أن تشغل منصبا في المكتب حيث كانت تعمل قبل الزواج , ولكن المنصب لن يخلو ألا بعد عيد الميلاد , ولهذا السبب كانت حرة في أنتهاز هذه الفرصة لزيارة قبرص.
وسألت عندما خطرت لها الفكرة بغتة:
" ما عمر الطفلين الآن؟".
" تشيبي في الثامنة وفيونا في السابعة...وهما مفعمان بالحيوية , ومن ثم فستكسبين المبلغ لقاء جهد".
وأجابت هيلين في حزن , وقد غامت عيناها الزرقاوان أذ تذكرت طفلها :
" لا ينبغي أن أتوقع أجرا بدون جهد".
لو أن طفلها عاش لكان الآن في الرابعة ... ولكنها وغريغوري لم ينعما به لأكثر من ستة أشهر ...
وأردفت:
" أنني- في أية حال- أحب الحيوية في الأطفال".
قالت بريندا محذرة :
" أخشى أن هذين الطفلين يفيضان بحيوية كبيرة , والأرجح أنهما سيضجران قبل نهاية الرحلة بكثير , تعرض أبوهما يوما لحادث سقوط طائرة , وهو يرفض – لهذا السبب- أرسالهما بالطائرة, على أنك تستطيعين العودة جوا , هذا أذا راق لك هذا العرض ".
فأسرعت تجيب:
" أنه يروق لي , ولكنني سأحتاج الى أن ارى والد الصغيرين ".
" أجل , في المستشفى , سأخبر بيل ليعد لقاء".

أمل بيضون 30-07-09 02:44 PM

وأذ أحدثت هيلين أثرا طيبا في نفس الأب , أصطحبتهما بريندا لرؤية الطفلين , وقبل أن ينقضي أسبوع كانت هي والطفلان على الباخرة كنوسس متجهين الى قبرص, بعدما سافروا بالقطار الى أثينا.
كان الطقس جميلا , والسماء صافية زرقاء , والبحر الأبيض المتوسط أقرب الى بحيرة منه الى البحر , وصاحت فيونا وهي تشير الى رودس:
" أهذه هي؟".
كانت الشمس تغرب خلفها , وشاب البحر خط من الضوء المتوهج أمتد من الجزيرة حتى السفينة تقريبا , فرمق تشيبي أخته بأستخفاف وقال:
" كيف تكون هذه؟ نرسو على البر قبل صباح الغد".
كان الطفلان يقفان عند الدرابزين مبهورين بغروب شمس الشرق العجيب , وأخذت هيلين تراقبهما ساهمة ,من مقعد يبعد قليلا, فحوالي الساعة العاشرة من الصباح التالي ستودعهما الى الأبد , كان هذا الخاطر يلقي عليها شعورا غريبا من الشجن- وأدهشها أن الطفلين أحتلا مكانة في قلبها بهذه السرعة , ومع هذا الأدراك , أنتابها قلق شديد بصدد مستقبلهما , وعلاقتهما بعمهما الذي يكره النساء والصغار معا, كيف سيكون حالهما؟ وما لبثت أن أزاحت عنها هواجسها , وهي تلوم نفسها قائلة بعزم أن واجبها يقتصر فقط على تسليم الطفلين الى عمهما , فأذا أنجزت هذه المهمة, وأصبحت حرة في الأستمتاع بأجازتها فوق الجزيرة , وما يحدث لتشيبي وفيونا في نهاية الأمر لا يعنيها في شيء , قالت فيونا وهي تلتفت باسمة باسطة يدها:
" تعالي وأنظري يا سيدة ستوارت , تأملي الضوء المتألق على الماء".
ألقت هيلين كتابها على المقعد , ونهضت متجهة نحو الدرابزين وأمسكت باليد الممتدة , كانت صغيرة ودافئة وألتفت الأصابع حول راحتها وشعرت هيلين بوخزة في قلبها , أذ تذكرت أن الطفلة لم تعرف حب الأم.
قال تشيبي وهو يمد يده الى هيلين الثانية أقتداء بأخته:
" أليس جميلا؟ .... يبدو كأن البحر يحترق".
قالت هيلين وهي تلاحظ بسرعة هبوط الشمس:
" أنه جميل جدا حقا".
كان القرص يزداد هبوطا وهم يتأملونه , حتى أن الخط الناري أخذ يتباعد سريعا عن السفينة ويزداد قربا من الجزيرة , وتطلعت فيونا الى هيلين وسألت في حيرة :
" الظلام يحل ... لماذا يهبط بهذه السرعة؟".
ولما كان من العسير أن تفهم , أكتفت هيلين بالقول أن الشمس في هذا الجزء من العالم تغيب بسرعة , ولذلك يهبط الظلام على نحو مفاجىء".
وبدا الأستياء على وجه فيونا وهي تقول:
" لن نستطيع اللعب في الخرج مساء , وما أظنني أحب هذا ".
فقال تشيبي :
" بل ستحبين ... أنظري مدى الدفء , كان البرد في الوطن يحرمك اللعب خارج الجدران , في أية حال".
وأقرته هيلين وهي تعجب للتعبير , الذي بدا على وجه فيونا .
" ستعودين الى الثياب الصيفية وتستطيعين أن ترتديها على مدار العام".
وأتسعت حدقتا فيونا العسليتان وقالت:
" على مدار العام؟ أليس لهم شتاء هنا؟".
وهزت هيلين رأسها ولكنها قالت:
" فترة الشتاء قصيرة جدا , والطقس لا يزال دافئا ".
ظلوا يتأملون في صمت والسماء تزداد ظلمة , ثم أطلقت فيونا زفرة أسى:
" ليتك تمكثين معنا يا سيدة ستيوارت , فلا تتركينا مع العم ليون".
وقال تشيبي:
" العم ليون مروع... لن يدعك تفعلين شيئا...".
وأضافت فيونا :
" أنه يجعلك تلتزمين الهدوء...".
وأضافت فيونا:
فأذا لم تلزمي الهدوء , نظر أليك هكذا".
وقطب تشيبي أساريره حتى لم تتمالك هيلين نفسها من الضحك ,. وأن عاودها القلق على سعادة الطفلين , وقالت:
" أنا واثقة أنه ليس بهذا الشكل...".
ثم أردفت في فضول:
" أذن فقد رأيتما عمكما ؟".
أجابها الصبي:
" لقد جاء لزيارتنا غير مرة".
فقطعت فيونا كلامه قائلة :
" مرتين فقط يا تشيبي...".
ولكن الغلام هز رأسه وقال:
" ثلاثة مرات , أنك لا تذكرين المرة الأولى لأنك كنت صغيرة".
" أنني لا أصغرك بأكثر من سنة".
" ما كنت ألا وليدة حين جاء أول مرة ... ولكني أتذكره لأنه قال لأبي أنني أستحق صفعة !".
"العم ليون بيترو , كان أسمر وقصيرا , ولكن ولكن أبتسامته كانت تلقائية وودية , وقال لماذا؟ ماذا فعلت؟".
" لا أتذكر , ولكن أبي قال أن عمي ليون لم يكن يفهم الأطفال".
قالت فيونا وهي تشد قبضتها على يد هيلين:
" ولكنك تفهمين الأطفال يا سيدتي , ألا تستطيعين البقاء معنا؟".
" أخشى ألا يكون هذا ممكنا يا عزيزتي فيونا".
" هل لنك لا ترغبين؟".
" هل تمكثين أذا طلبنا منه أن تبقي؟".
أبتسمت هيلين لطريقة تشيبي في السؤال , وقالت أنها متأكدة من أن عمه كلف شخصا برعايتهما.
قالت فيونا بألحاح في لهجة ملاطفة:
" ولكننا نريدك أنت, لماذا يجب أن تعودي؟ هل لك أولاد؟ ".
فأجابت هيلين:
" كلا , ليس لي أولاد".
وكأن فيونا أحست- بطريقة الأطفال – بالأسى في لهجة هيلين, لأن قبضتها أشتدت على راحة هيلين , وردت هيلين بضغطة صغيرة تنم عن الحب , وقالت مشيرة نحو الجزيرة , لتحول أنتباههما:
"أنظرا , هل تريان القلعة؟".
ولكن أيا منهما لم يبد أهتماما , وغشيهما أكتئاب عندما أدركا مدى أقترابهما من نهاية الرحلة , ولازمهما الحزن أثناء العشاء وعندما راقبتهما هيلين تساءلت : كيف يمكن أن يوصفا بالحيوية , وعندما آوا الى قمرتهما حاولت أن تخرجهما من وجومهما قائلة , أن أقامتهما مع عمهما موقوتة وأنهما سيعودان الى أبيهما بعد أشهر قلائل.
سألها تشيي وهو يأبى أن يتعزى:
"هل ستعودين الى الوطن رأسا , بعد أن تفارقينا في الصباح؟".
فقالت وهي تميل لتسوي غطاء الفراش فوقه:
" سأقضي أجازة أولا مع صديقة في قبرص , ثم أعود الى أنكلترا".
" كم من الوقت ستمكثين هنا؟".
قالت في لهجة غير واثقة:
" قد أمكث أسبوعين".
رغم أنها أبرقت لتبلغ بنبأ قدومها , فأنها لم تتلق ردا , ولكنها فكرت أنه من المحتمل أن يكون الرد وصل بعد سفرها , وهي تأمل في ألا تكون زيارتها مصدر مضايقة لترودي وتاسوس.

بنوته عراقيه 30-07-09 07:47 PM

يسلمووووو ...وبانتظارك يالغاليه

أمل بيضون 30-07-09 08:21 PM

لاحت الجزيرة للأنظار .صعدت هيلين الى سطح السفينة , في السابعة صباح اليوم التالي , تاركة الطفلين نائمين , كان خيط من النار يشق الأفق منبعثا من الشمس البازغة من وراء حافة العالم , وكانت السفينة تتجه شرقا على طول الساحل الجنوبي , ولكن على مسافة منه , وقال شخص ما:
" هذه بافوس".
وألتفتت هيلين... أنه روبرت ستوري المرح المسافر وحيدا عائدا من زيارة لأبويه في أنكلترا , قضى وقتا مع هيلين والطفلين , وشاركهما المائدة في الوجبات , وجالسهم على السطح الذي كان لهم وحدهم تقريبا , فكان المسافرون نفرا قليلا , لأن شهر نوفمبر ( تشرين الثاني ) أقل شهور السنة حركة , وعاد روبرت يقول:
" ستنقضي ثلاث ساعات تقريبا قبل أن نرسو".
ومرة أخرى ألقت هيلين نظرة الى الجزيرة , وقالت في دهشة:
" كل هذا الوقت؟ أنها تبدو قريبة جدا ".
قال:
" بافوس تبعد مسافة كبيرة عن ليماسول وبافوس – كما ترين – على الجانب الغربي للجزيرة ".
وأقترب من هيلين ولم يبتعد , فرغم عدم أكتراثها بالرجال لم تتمالك أن ترتاح الى روبرت , بعينيه الصافيتين الزرقاوين وقسماته الصريحة أخبرها أنه أعزب وأنه أحب الجزيرة بعدما قضى عليها أجازة طويلة , فأشترى كوخا صغيرا على سفح تل, وحوله بمهارة الى بيت للأقامة , وكان رساما , ومن الغريب أنه كان يعيش في لابيتوس , وقد عرف بيترو معرفة عابرة.
قال عندما ذكرت سبب قدومها:
" أنه شخصية صلبة , متشبث بالعزوبية , ولكن له وسائل لهوه طبعا".
وتضرّج وجه هيلين , فضحك روبرت , وزادها حرجا عندما أضاف أن أي قبرصي لا يستطيع أن يعيش بدون أمرأة , وأردف قائلا:
" سيقولون لك بصراحة أن الطقس هو عذرهم , أو بالأصح تفسيرهم لأن القبرصي لا يحلم قط بألتماس الأعذار لمسلكه".
سألته هيلين بفضول حتى تتصور البيت الذي سيذهب أليه الطفلان:
"ما شكل بيته؟".
فأجاب بلهجة تنم عن أعجاب :
" يا له من بيت! مشيّد على سفح الجبل شبيه ببيت خلوي بنغالي أبيض كبير , لكل حجرة شرفة , تطل من الخلف على سلسلة جبال كيرينيا , ومن الأمام على السهل الساحلي , وأشجار البرتقال والليمون وأنواع أخرى , ثم البحر الأزرق المترامي , ومن الشرفات الجانبية ترين منظرا شاملا للجبال والبحر, أنه جميل جدا في الواقع , شاعري وخرافي بدرجة لا تناسب شيخا أعزب مثل ليون بيترو".
" تقول شيخا ؟ كنت أظنه شابا".
هز روبرت كتفيه وقال:
" لعله في أواخر العقد الثالث , ويجوز أن أضيف أنه وسيم جدا , ولكنه محاط بجو من العجرفة يكسبه – كما قلت- مظهرا صارما صلبا".
فغمغمت هيلين, غير مطمئنة الى أحتمال أن يكونا بخير معه:
" آمل ان يكون الطفلان بخير معه".
فكان رده مثقلا بالشك:
"لا أدري , يدهشني أن يأخذهما – أذ يقال في القرية أن الصبر والفهم ليسا من خصاله , وأظن كل رجال الأعمال الشديدي المراس على هذا النحو , فالمال – فيما يبدو0 هو همه الوحيد في الحياة ".
سألته:
" وماذا يعمل؟".
فأجاب:
" من أعماله أنه يمتلك عدة مصانع للتعبئة في فاما غوستا , حيث تعبأ الفاكهة وتعد للتصدير , ثم يتجر في الأرض , ويمتلك مساحات كبيرة في أرجاء عديدة من الجزيرة , وأي شخص يمتلك أرضا هنا- في هذه الأيام- يمكن أن يصبح مليونيرا بين عشية وضحاها".
وجدت هيلين نفسها تزداد قلقا – عندما أمدها روبرت ببعض تفصيلات عن مسلك هذا العم القاسي , الذي بدا وكأنه لا يحب أيواءهما في بيته , ولكن لم يكن في وسعها أن تفعل شيئا , فعادت هيلين تؤنب نفسها وقررت بحزم ألا تفكر في الأمر... وأخرجها من تأملاتها صوت روبرت يقول:
" هيا تأملي تلك الشمس والسماء ... أنها جزيرة رائعة , ومن المؤسف أنك لن تعيشي هنا ".
وسكت لحظة ثم تابع الحديث قائلا:
" ولكنك ستمكثين أسبوعين ... هل أستطيع أن أصطحبك في جولة في أي وقت؟".
أبتسمت هيلين وقالت:
" سأكون مع أصدقائي ... ولكنني أشكرك في كل حال".
لم تكن راغبة في صحبته , ولا صحبة أي رجل , ولكنها لن تخبره بذلك, وعادت تقول:
" سيكون مركز أقامتي في نيقوسيا , وأتوقع أن ننطلق في جولاتنا من هناك ... أذا كان لصديقتي هي وزوجها من الوقت ما يسمح بأصطحابي ".
هز روبرت كتفيه ثانية , وقال أنه سيعطيها رقم هاتفه , لتتصل به في أي وقت تجده فراغا , فشكرته بدون أقل نية في أن تفيد من عرضه , وكان الأثر الذهبي اللامع أخذ يتلاشى – في تلك الأثناء – أذ أرتفعت الشمس , مرسلة سهامها خلال نتف السحب الصغيرة الطافية كنقاب فضي عبر سماء زاهية الزرقة , وألقى أنعكاسها صفاء على النور , وبدت الجزيرة وكأنها على مرمى حجر , لم تكن هناك تموجات في البحر , فلم تكن السفينة تهتز أقل أهتزاز , وهي تواصل تقدمها على طول الساحل الجنوبي للجزيرة , فقالت هيلين أخيرا:
" يجب أن أذهب لأعنى بالطفلين , من المؤكد أنهما أستيقظا الآن".
رست كنوسوس في ليماسول الساعة العاشرة , وكانت هناك سيارة تنتظر , ولكن هيلين أدركت حتى قبل أن يتكلم تشيبي – أن الرجل الذي أقترب منهم لم يكن ليون بيترو , كان أـسمر وقصيرا , ولكن أبتسامته كانت تلقائية وودية , وقال الرجل :
" هل أنت السيدة ستيوارت؟".
وأبتسم للطفلين , وداعب شعر فيونا بيده وهو يقول عندما أومأت برأسها :
"أوفدني السيد بيترو , أنه لا يستطيع الحضور بنفسه , لأنه مضطر للبقاء بسبب عمله , لهذا , سأصحبكم أليه".
" هل قال يجب أن أصحب الطفلين ؟ فهمت أنني سأفارقهما هنا, في ليماسول".
وعندما زحفت يد صغيرة الى يدها , أطلت لترى نظرة توسل , على وجه فيونا الجميل , وبدا الرجل مترددا لحظة ثم قال:
" هذا ما قاله , أتظنينني أرتكب خطأ ؟ كلا...".
ولكنه هز رأسه بسرعة وقال:
" لست مخطئا قال للموظفة في مكتبه أن تتصل بالفندق وتحجز مائدة لأربعة للغداء , عندئذ شعرت هيلين بتوتر قبضة فيونا يسترخي فأبتسمت لها بحنان , وبدا تشيبي هو الآخر سعيدا , وأشرق وجهه المليء بالنمش , فقالت ببشاشة والرجل يفتح باب السيارة :
" هيا أذن.... الى أين نذهب ؟ ليس الى لابيتوس؟".
" كلا, الى نيقوسيا , فهناك مكتب السيد بيترو".
كانت فرصة سانحة أذن , فكانت هيلين تتوقع أن تستقل سيارة أجرة الى مسكن ترودي.
مكتب ليون بيترو خارج مركز المدينة , أنه مبنى جديد ذو شرفة واسعة , وبدا أشبه بفيلا حديثة منه بمكتب , وأبدت هيلين دهشتها عندما غادر السائق مقعده , وفتح الباب , وسألها , رغم أهتمام الطفلين اللذين وقفا بجوار السيارة حزينين , مع أن هيلين كانت لا تزال معهما:
" هل أنقل حقائبك؟".
فقالت:
" قد يحسن تركها في السيارة بضع دقائق , فسأضطر لأن أستقل سيارة أجرة".
وبعد لحظة كانت هيلين في مكتب أنيق , تقف أمام مكتب , تتطلع الى ليون بيترو الذي نهض عن مقعده عند دخولهم , وبسط يدا الى هيلين , فمدت يدها , وشعرت بقوة قبضته وهو يقول في لهجة هادئة مهذبة :
"صباح الخير يا سيدة ستيوارت , لعل رحلتك لم تكن مضنية؟".
كانت له لكنة خفيفة لا تكاد تلاحظ , قالت:
ط أستمتعت بها كل الأستمتاع , شكرا لك يا سيد بيترو".
ولم تبتسم وهي تسحب يدها , بينما وقف لحظة يرمقها في صمت , ثم تحولت عيناه الى الطفلين , وتذكرت هيلين أنها لامتهما قائلة أن عمهما لا يمكن أن يكون بالقسوة التي صوراها لها , ولكنها الآن أيقنت أنهما وروبرت كانوا على صواب, في وصفهم له, ولاحظت جمود وصلابة قسماته السمراء , وخطوط خديه وفكه , وأنطباق فمه , والوميض البارد لعينيه اللتين لاحتا – وهو يقف في الظلال- سوداوين أكثر منهما أصطباغا باللون البني الداكن المميز للقبارصة من يونانيين وأتراك , أما شعره فكان منسقا لامعا , أسود يمسه الشيب خفيفا عند الصدغين , قال روبرت أنه وسيم , ولكنه بخسه حقه , أذ كان بالغ الوسامة , غير أن تعبير الخشونة والشراسة كان يشوب وسامته , ولم يكن من العسير التصديق أنه يكره النساء والأطفال.
قال وهو يوليها أنتباهه ثانية:
"يسعدني أن أسمع هذا , كنت واثقا – لمعرفتي بأبني أخي- من أنهما سيسببان لك بعض المتاعب ".
ورمقها بحدة – وهو يتكلم- ثم أردف:
" يجب أن أشكرك أذ أحضرتهما أليّ بسلام".
وشعرت هيلين بالغضب من كلماته الأولى , فقالت بحدة تفوق ما كانت تعتزم:
" لم يسببا لي أية متاعب يا سيد بيترو , أستمتعت بالرحلة تماما كما قلت".
وأومضت عجرفته من نبراتها المقتضبة , وأغتاظت هيلين عندما شعرت بتضرج وجنتيها , كان هذا الرجل مثيرا للأرتباك , شعرت أنها تستطيع أن تكرهه دون أي جهد.

بنوته عراقيه 31-07-09 08:00 PM

يسلموووو ياقمر

MooNy87 01-08-09 02:14 PM

تسلمى يا أمولة

الرواية دى من أحلى روايات آن هامبسون

أمل بيضون 02-08-09 03:08 PM

كان سؤاله عن الرحلة , وشكره أمرا سطحيا نابعا من الحاجة لأبداء المجاملة وحسن الأدب , ومرة أخرى , شعرت هيلين بقلق عميق أزاء حياة الطفلين معه, وعجبت من نفسها فهما غريبان عنها تماما , ولن تنقضي دقائقحتى تودعهما نهائيا , وليس في نيتها قبول دعوة ليون بيترو للغداء ... أسبوع واحد؟ مستحيل...ولكن هكذا الأطفال يسيطرون على قلب الكبير المتفهم بأعجب الطرق , لا سيما أذا كانوا مثل فيونا وتشيبي .
وبتصميم على دفع الأضطراب الذي بدأ يتملكها , سألت عمهما كيف تستأجر سيارة , فقال:
" ما أحسبك سترحلين في الحال ! كنت أعتزم أصطحابكم جميعا للغداء".
وقالت:
" شكرا, ولكن...".
لولا أن تسللت يد فيونا الى يدها, ثم أحست بيد تشيبي باردة, فشعرت بغصة في حلقها , لم يكن عمهما قد وجه كلمة واحدة أليهما , ولدهشتها, وجدت نفسها تقول:
" يسرني تناول الغداء معكم".
ولم يزد بل أومأ برأسه أعترافا بقبولها , بينما قال:
" هناك أيضا مسألة دفع ما يستحق لك , أعتقد أن أخي دفع مقدما أتعابك ولكن نفقاتك ما أمرها؟".
قالت:
" أن السيد بيترو أعطاني مبلغا أضافيا ".
فتساءل:
" هل هو كاف؟".
قالت:
" نعم, نعم , أشكرك ".
ما كانت تود التردد , ولكنه لاحظه , فعاد يكرر سؤاله , وبصره ثابت عليها, فأحست بأن الكذب مستحيل , وأكتفت بأن قالت:
" الرحلة تتيح لي قضاء عطلة هنا في نيقوسيا , مع صديقة لي".
ورأته يخرج من حافظته بعض أوراق مالية , فقالت:
" أنني قانعة تماما".
فقال:
" هذه عملتنا طبعا, ولكنك ستجدين أن جنيهنا معادل للجنيه الأنكليزي , كما ستجدين أن الأسعار في المتاجر كثيرا ما تحدد بالعملة الأنكليزية بجانب عملتنا المحلية".
وناولها النقود , ففتحت فمها تهم بالرفض , ولكن شيئا في أساريره جمد الكلمات على شفتيها , وهو يضيف:
" أظن هذه تكفي لتغطية أية نفقات تكبدتها أثناء السفر".
وجدت هيلين نفسها تقبل النقود , وأن كان ذلك رغم أرادتها , أذ أيقنت أنها تأخذ أكثر مما أنفقت , تمتمت وهي تضع النقود في حقيبتها:
" شكرا لك".
وكان الطفلان يرمقانها منتظرين للأمساك بيديها , وعندما لاحظ عمهما ذلك , وجه أليهما كل أهتمامه , وأنفرجت شفتاه – بمعجزة ما- عن أبتسامة وقال:
" كيف أستمتعتما برحلتكما , هل شعرتما بتعب في القطار؟".
لم يخص بالسؤال أحدهما , ولكن تشيبي تولى الأجابة:
" نمنا ليلا فوق الأسرة المعلقة , وكان سريري أعلى الأثنين وأرادت فيونا أن يكون لها , لكنها خافت من السلم".
" لم أخف, أنما أردت النوم قريبة من السيدة ستيوارت ".
" وفي النهار ... ألم تشعرا بملل لطول الرحلة؟".
" أحيانا كنا نضجر , ولكن السيدة ستيوارت قصت علينا حكايات , ثم لعبنا بعض ألعاب الورق...".
وأبتسمت فيونا لعمها في تردد , وهي تقول:
" أحضرت بعض الكتب والقصص أيضا , حتى نقرأ...".
ولكنه لم يبد أنه لاحظ أبتسامتها , وتجاهلت في عينيه السوداوين دهشة وهما تتجهان الى وجه هيلين , وتساءل:
" كيف فكرت في أشياء مثل هذه؟".
فقالت:
" توقعت أن يشعرا بالملل".
ودار بخلدها أنه ما كان ليفكر في مثل هذا الأستعداد وكان من الطبيعي أن يلقى عناء معهما.
قال:
" يبدو أنك بالغة الكفاءة يا سيدة ستيوارت".
وتوقف لحظة ثم قال:
" هل أنت متزوجة؟".
كان الفضول في نبراته وعينيه , ولعله أستنتج أن لها زوجا , فعجب كيف تقوم برحلة كهذه وحدها , فقالت بهدوء:
" أرملة".
وغمغم معتذرا, ثم أردف:
" أنك أصغر من أن تكوني أرملة".
وقالت هيلين:
" أنا في السادسة والعشرين , ومات زوجي منذ سنتين , في حادث.... ".
وأعتذر ليون مواسيا مرة أخرى, ثم سألها أذا كانت أنجبت أطفالا , فردت وقد بدت في صوتها بحة مفاجئة:
" مات وليدنا وعمره ستة أشهر".
كانت تتساءل في نفسها دائما: هل كان غريغوري يظل بجانبها لو أن أبنهما حي؟"
كان أعتذار بيترو مفاجأة لها , أذ بدا صوته فقد بعض حدته:
" أسألك المعذرة يا سيدة ستيوارت , صادفت حياة محزنة لشابة في سنك".
وأصغى الطفلان بأهتمام , كان واضحا , أنهما يفهمان , أذ سألتها فيونا:
" هل مات أبوك يا سيدة ستيوارت؟".
فلما ردت بالأيجاب , شد تشيبي على أصابعها , وسألها:
" وأبنك الصغير؟".
فقالت:
" نعم, وأبني كذلك".
ورمق ليون الطفلين بنظرة عابسة , وقال:
" لا توجها مثل هذه الأسئلة .. ينبغي ألا تجيبيهما يا سيدة ستيوارت".
فأبتسمت قائلة:
" لا عليك... أنا لا أمانع البتة".
وكأنما كان ليون يهم بالتعليق على ذلك , ولكنه عدل, وأرسل يطلب مرطبات لهم , وبعد ساعة, كانوا في الهيلتونيتناولون الغداء , وعندما خرجوا الى السيارة سأل ليون هيلين عن عنوان صديقتها , وعندما تأمل الورقة التي قدمتها , قال:
" سأقلك الى هناك , نعم- أنه ليس بعيدا عن هنا ,".
وشكرته هيلين برقة وهي تستقر بجواره , قائلة:
" أن مثل هذه المساعدة تهون على المرء وهو في بلد غريب ".
وأخذ الطفلان يحدثانها , ولكن الأكتئاب كان يبدو في لهجتها وشعرت نفسها بتعاسة أودت ببريق الأجازة التي كانت تتطلع اليها بشوق.
قال ليون وهو ينحرف نحو طريق آخر:
" ها هو ذا الطريق".
وخفضت سرعة السيارة , وهو يتفرس في المباني البيضاء الناصعة , ثم قال:
" أنه في هذا الجانب.... آه ها هو".
وشهقت هيلين عندما خرجت من السيارة , كان المسكن ضمن مجموعة من ست عمارات ولكل نافذة شرفة تتدلى منها الأزهار , وعلى الأرض – حيث فناء مليء بأشجار مثقلة بالبرتقال, صف كبير من السرو يفصل العمارة عن العمارات المجاورة لها , قالت:
" سآخذ حقائبي".
وأنتظرت أن يفتح السيارة , ولكنه نصحها بأن تتأكد من وجود صديقتها أولا.
وتساءل تشيبي , وهو مصر على أن يلازمها لآخر لحظة:
" هل نستطيع أن نأتي معك؟".
وألتفتت هيلين الى عمهما , فأذا به – لدهشتها- لا يمانع ,وتبعها الطفلان صاعدين الدرجات الى الطابق الأول , حيث كان مسكن ترودي وتاسوس.
وأطلت أمرأة من المسكن المجاور , عندما همت هيلين بقرع الجرس للمرة الثالثة:
" أتريدين مدام باولو؟".
" نعم... أتعرفين أين هي؟".
تأملتها المرأة لحظة , ثم رمقت الطفلين واحدا بعد الاخر , مما ذكّر هيلين بما كتبته ترودي حال مجيئها الى قبرص لتقيم فيها:
" أنهم أليفون , ولكنهم يحبون التدخل في شؤون الغير".
ذهبت مع زوجها الى مصر , أضطره العمل للذهاب , فرحلا الأثنين الماضي".
وغاص قلب هيلين , وتساءلت:
" هل تعرفين متى سيعودان؟".
هزت المرأة رأسها أسفا , وقالت:
ط سيبقيان شهرين , هل جئت لزيارتهما؟".
فقالت هيلين:
" نعم, نعم , جئت من أنكلترا".
وطغى عليها أستياء مرير , جاءت كل هذه المسافة , ولا ترى ترودي".
قال تشيبي لعمه بعدما عادوا الى السيارة:
ط صديقة السيدة ستيوارت رحلت الى الخارج".
وأضافت فيونا:
"لن تعود قبل شهرين".
وأشاحت هيلين بصرها, كان الطفلان مغتبطين , وتساءل تشيبي بلهفة:
ط هل تستطيع أن تمكث معنا حتى تعود صديقتها؟".
سارعت تقول:
ط كلا يا تشيبي , لا أستطيع أن أمكث هنا شهرين".
وألتفتت كاسفة البال الى ليون قائلة:
" أكون ممتنة أذا أوصلتني الى فندق".
ورفض في حزم قائلا:
" كلا , سوف تقيمين في منزلي".
" ولكن ... كلا! لا يمكن أن أضايقك هكذا!".
ومس خط فمه أبتسامة واهنة , وقال في هدوء:
" ألم تسمعي بكرم الضيافة القبرصي , يا سيدة ستيوارت؟ أنت أسديت الى أخي خدمة كبيرة , ولن يرضيني أن أتركك وحدك في فندق".
وظل فاتحا باب السيارة قائلا:
ط أخشى أننا سنضطر للعودة الى المكتب , ولكن بوسعي أن أتم عملي خلال ساعة , ثم أصحبكم الى بيتي في لابيتوس".

أمل بيضون 02-08-09 06:36 PM

2- البيت مهر الفتاة!
ما أن حانت الساعة الثالثة حتى كانوا في طريقهم الى المنزل , ولم يكف الطفلان عن الثرثرة , سعيدين بهذا التحول غير المرتقب حتى أمرهما عمهما بحزم أن يركنا للهدوء , فكفا عن الفور , ولكن هيلين لمحت- وهي تلتفت لترى رد الفعل- فيونا تخرج لسانها وراء ظهر عمها , فحدجتها بنظرة حادة لكن فيونا أكتفت بالأبتسام.
قال ليون وهم يجتازون المشارف الشمالية لنيقوسيا :
" أخشى أن القافلة فاتننا , ولهذا ستستغرق الرحلة ما يتجاوز الساعة ".
كان الأتراك يسيطرون على الطريق القصيرة عبر الجبال, ولم يكن مسموحا بسلوكها بدون حراسة ألا للأجانب , وكان على اليونانيين أن ينضموا لقافلة الأمم المتحدة , أو يسلكوا الطريق الطولية, ومن الواضح أن هذا يسبب عناء لليونانيين , لكن ليون كان يتكلم بلا حقد.
وعلمت هيلين فيما بعد ولدهشتها – أن ليون بيترو لم يكن سوى واحد من كثيرين من يونانيي الجزيرة , الموالين للأتراك في الواقع.
ساد صمت في السيارة فترة , فأضطجعت هيلين في مقعدها تشعر براحة مستغربة, وتتأمل المنظر الطبيعي... كانت المنطقة جذابة , تتلألأ فيها فيلات ومساكن ناصعة البياض , وما أقل الحدائق التي تخلو من أشجار الفاكهة المثقلة بالبرتقال والليمون على أنواعه , وكان النخيل المشرئب نحو السماء زاهي الأخضرار وفيض من الألوان ونباتات الخبازي والجكرندة والورود تزدهر بوفرة.
كان رد الفعل الأول لهيلين عندما علمت برحيل ترودي وتاسوس الى الخارج , العودة الى أنكلترا في أول طائرة لكن ليون قال أن بوسعها البقاء في بيته ما شاءت.
فقررت على الفور أن تقبل العرض فتبقى في الجزيرة أسبوعين , حسبما خططت فتزور الأماكن المشوقة , وأذا سمح لها ليون بأصطحاب الطفلين فأن أقامتها سوف تكون أكثر متعة.
وما لبثوا أن خلفوا المدينة وراءهم , فبدأ فيض خضرة السرو والكافور والنخيل ينحسر عن أرض جرداء , على الجانبين مساحاتت شاسعة أنتشرت فيها الصخور , أرض سمراء, شققتها الشمس الحامية المنصبة من سماء صافية , لم تكن هناك سحب الا فوق الجبال , ومن آن لآخر , كانوا يصادفون حمارا يرزح بحمله , وصاحبه يسير ببطء الى جواره , ولم يبد أي أثر للسكان , لكن بعض المحلات السكنية ظهرت أحيانا فوق السفح , تختلط فيها الأكواخ الطينية بالفيلات الحديثة البيضاء , التي أقيمت حديثا , وكانت الأرض السمراء محروثة غالبا, بذرت فيها المزروعات التي تبرز فجأة أذا ما هطل المطر على الجزيرة.
قال ليون والطريق يلتوي:
" نبدأ الآن في المرور خلال الجبال , والطبيعة هنا رائعة".
كان باهرا أن تسفر كل أنحناءة عن منظر جديد , المرتفعات غير المنتظمة , بعضها مكسوة وبعضها عارية , وفجأة بدا البحر أمامهم مباشرة , وبدأت السيارة تسير محاذية له, لم يكن هناك ما يعترض الساحل, لا بيت ولا أي مبنى آخر قرب البحر , وكانت قمم جبال كيرينيا الضخمة تبدو في شكل نصف دائرة , وهنا وهناك كانت قرية صغيرة تقبع في أحضان الأشجار , وقال ليون:
" هذه هي كيرينيا , وبيتي على ثمانية أميال من هنا".
كان بيت ليون كما وصفه روبرت تماما , لكن هيلين شهقت , حين وقفت بجوار السيارة – بعدما وصلوا أخيرا- تتأمل ما يحيط بها , كانت الجبال خلف البيت, والبحر الأزرق المترامي أمامه.... وراح الطفلان يصيحان أعجابا , وقال فيونا وهي غير مصدقة:
" هل يمكن قطف البرتقال؟".
فقال ليون:
" بالتأكيد".
ومد يده فأقتطع غصنا صغيرا وأعطاه لفيونا , تتدلى منه ثلاث برتقالات بكامل أوراقها.
أدهش تصرفه هيلين كما بدا مفاجأة للطفلين أيضا , وخطر لهيلين أنه قد لا يكون صارما كما قيل لها, وبينما كانت تبدل ثيابها للعشاء – بعد ذلك بوقت- أخذت تفكر فيمن قابلتهم . وفيمن يؤلفون أهل بيت ليون.
كانت هناك أخته كوالا وقد تلقت تعليما عاليا , وهي مخطوبة وسوف تتزوج في نهاية يناير( كانون الثان), في الثانية والعشرين , وتعمل في أحد مكاتب نيقوسيا , أما خطيبها تيودور – الذي يناديه الجميع تيدي – فيكبرها بأربع سنوات, ويعمل أيضا في نيقوسيا , ولم تكن قابلته هيلين بعد, لكن كولا أرتها صورته , فأذا به أسمر , وسيم وكان واضحا أن كولا متيمة به.
ولم تتمالك هيلين أن تقول , وهي تلمح وميضا في عيني كولا البنيتين الجميلتين:
" قيل لي أن معظم القبارصة يتزوجون زواج أتفاق , ولكن الواضح أن زواجك عن حب".
أمتقع وجه كولا , ثم تمالكت نفسها وقالت:
" نعم , ثمانون في المائة من الزيجات القبرصية أتفاقات , فالذين يتزوجون عن حب ليسوا كثيرين , ولو تزوج أخي فسيكون لأتفاق ما , لأنه ليس من النوع الذي يقع في الحب ".
وكانت في صوتها المنخفض , المبحوح , نبرة أسف , كان من السهل الأدراك أنها لا تكن حبا عميقا لأخيها , وأن لم تكن مشاعره نحوها واضحة , فكان فاترا وكاد أن يكون جافا عندما قدمها الى هيلين.
وتلاها من أفراد البيت أسمينا عمة ليون , وزوجها فاسيليوس , كانت أسمينا بالغة الأهتمام بهيلين فأمطرتها أسئلة عن حياتها , وموطنها في أنكلترا – أما فاسيليوس فأكتفى بأن يحدجها وهو يعبث بمسبحته , والواقع أن الأنطباع الوحيد الذي تركه في نفس هيلين تمثل في صوت حبات مسبحته المتواصل , وفكرت لو أنها زوجته لفقدت صوابها , وتساءلت أذا كان ليون مولعا بمسبحته أيضا ثم تمنت – لسبب غير مفهوم- ألا يكون.
أما أم ليون – وكانت بدينة , مغضنة الوجه , تلوح أكبر من سنوات عمرها الستين- فكانت هناك للزيارة , أذ كانت تقيم في بافوس مع أبنة متزوجة , وأعتادت المجيء مرتين في العام لترى أبنها وكولا , وقالت هذه:
"أضطررت أن أترك أمي وأجيء الى ليون, بسبب عملي في نيقوسيا , فلم أكن قادرة على السفر يوميا من بافوس الى العاصمة .
وقد علمت هيلين – فيما بعد- أن أسمينا وفاسيليوس يقيمان مع ليون حتى شهر يناير (كانون الثاني) أذ كانت لهما دار تبنى وباعا بيتهما القديم عندما عرض عليهما مبلغ جيد.
ودار في خلد هيلين أنه لن ينتهي شهر يناير (كانون الثاني) حتى يكون ليون وحيدا مع الطفلين , ألا من الخدم.

أمل بيضون 02-08-09 11:23 PM

رنين جرس في الطابق الأسفل أعادها الى أكمال زينته , ليون ذكر أنها ستسمع الجرس قبل تقديم الطعام بعشر دقائق , وأحتارت هيلين ماذا ترتدي ؟ لا لأن للأمر أهمية فما كان لديها شيء جذاب , فهي منذ عقدت العزم على ألا تتزين لرجل ثانية , تعمدت أن لا ترتدي ما يبرز جمالها , لهذا أختارت ثوبا خلوا من الزينة , يضفي لونه الرمادي شحوبا على بشرتها , ويعتم زرقة عينيها , ورفعت شعرها الأسود الطويل في غير تأنق – وربطته بشريط أسود, ولم تلون خديها بلمسة من المساحيق , ولم تصبغ شفتيها بما يبدي رقة فمها المقوس.
كم بدت مختلفة عن كولا , التي أرتدت ثوبا قطنيا موشي بالزهور , وأحاطت أحد رسغيها بسوار مرصع , والرسغ الآخر بساعة جميلة , وهما هدية خطيبها عند الخطبة , فبدت ضافية الفتنة , قالت هيلين في نفسها ( هذا ما فعله الحب بك) وهي تتذكر فترة خطبتها الشاعرية.
كان مكانها الى يمين ليون, بينما جلس الطفلان في الجانب المقابل , يغشاهما التهيب , لكنهما أستطاعا الأبتسام حين جلست هيلين , وجذب ليون لها المقعد بحفاوة قبرصية , وقدم اليها الحساء من وعاء كبير . لم تكن واثقة أنها ستستسيغه , فأخذت قدرا صغيرا , لكنه سحب الغرفة من يدها , وقال وهو يقرأ أفكارها:
" سيروق لك".
وأضاف قدرا أكبر, وهي تساءل نفسها بحرج متزايد, كيف تتناول كل ذلك , ولكنها أفرغته , وأعجبها كما قال ليون , ألا أن الطفلين رفضا نصيبهما , أذ كان الحساء مصنوعا من لبن الماعز . وله مذاق حامض قليلا , وفهمت هيلين سر عزوفهما عنه , لكن عمهما أصر على أن يسكب وجبة ثانية , ولم يسمح لتشيبي بترك ملعقته ألا حين بدأ يلهث كأنه يوشك على التقيؤ, شقيق ليون أخبرهما أن ليون لا يفهم الأطفال , وما كان أصدقه , فأول ما ينبغي معرفته عن الأطفال أنه لا يجب غصبهم على الطعام.
هذه المائدة حافلة بالطعام , وأضطرت هيلين نفسها الى الحزم حتى لا ينتابها ما شعر به تشيبي , لم يحدث أبدا أن رأت هذه الكميات من الطعام في وجبة واحدة , رغم أنها لاحظت أن ليون نفسه كان مقلا في الأكل , وأخيرا , وضعت الفاكهة : برتقال , يوسفي , بلح , تين , موز , كلها من حديقة ليون, وعندما دعا ليون أبنة أخيه لتتناول ثمرة من التين, قالت:
" ليس هذا تينا , التين أسمر".
فقال وهو يضع واحدة في طبقها:
" تيني أخضر , ماذا تأخذ يا تشيبي؟".
فقال:
" لا شيء".
" خذ برتقالة!".
فبدا تشيبي مكفهرا , وقال:
" أرجوك , يا عمي ليون ".
لكن عمه قال:
" خذ واحدة!".
فلم تتمالك هيلين أذ تدخلت قائلة :
" لا أحبذ الضغط عليه , فأنه ... أنه..".
وقال ليون:
" حسن جدا".
ولكن كلمتيه أنطلقتا بحدة , فأدركت هيلين بغريزتها أنه لم يرض عن تدخلها , فرمقته بأعتذار وتذكرت أنها ضيفة في بيته, وقالت:
" أنني آسفة يا سيد بيترو , لكنه في الواقع تناول كفايته , الأطفال لا يتعودون بسهولة أي تغيير في نظامهم الغذائي ".
قالت كولا في شيء من الدهشة:
" ألا يأكلون البرتقال؟".
وأجابت هيلين :
" يأكلونه , ولكن الطعام الآخر , نحن لا نطهو بالزيت مثلا".
وأضافت فيونا:
" ونحن لا نتناول نتفا من اللحم على أعواد , مذاقها كالدخان".
أجاب ليون وبدأ اللون الطبيعي يعود رويدا الى وجهه:
" أنك لم تتذوقي الدخان أبدا".
" لا يهم , لا أزال أجد مذاقها كالدخان".
قالت أسمينا لفيونا:
ط يجب أن يكون مذاق اللحم كالدخان لأنه مشوي على الفحم".
ونظرت فيونا صوب عمها , قائلة:
" لا أحب هذا الطعام , هل أستطيع الحصول على بيض وشرائح بطاطس غدا؟".
وكان جواب عمها مقتضبا:
" ستتناولين ما نتناول , وسرعان ما تتعودينه".
وأخذ سكينا وبدأ يقشر تفاحة , وأتقدت عينا فيونا , وخيّل لهيلين – للحظة رهيبة – أنها ستخرج له لسانها مرة أخرى, ولكم أراحها أن الطفلة فطنت فجأة ألى أن الآخرون سيرونها.
عندما أنتهى العشاء , غادروا الحجرة , وتناولوا القهوة على الشرفة في أقداح صغيرة , كانت قهوة تركية , وكانت أول رشفة كافية لفيونا , ووضعت قدحها بسرعة , وأذا بالسائل الأسود السميك يتناثر على غطاء الطاولة المطرز , ورمق ليون أبنة أخيه بنظرة غاضبة , وقال بحدة:
" حان الوقت لتأويا الى الفراش".
وألتفت الى هيلين قائلا:
" أتسمحين بأن تعني بهما يا سيدة ستيوارت ؟ ستتولى آراتيه رعايتهما آخر الأمر , ولكن لعلك تقومين برعايتهما أثناء وجودك هنا؟".
كانت آراتيه هي الخادمة التي قدمت أليهم القهوة , وبدت جافة , فغاص قلب هيلين لفكرة أن تتولى الطفلين , وأطلقت زفرة عميقة عندما تبينت أنها لا تملك أن تفعل شيئا, وبادرت قائلة:
" نعم, بالتأكيد...".
وأزدردت ما في قدحها.
كانت لحجرة فيونا شرفة تطل على البحر , أما حجرة تشيبي فكانت تواجه الجبل , وكانت الحجرتان مكسوتان بأبسطة سميكة ومؤثثتين على النمط الحديث , وقد ألحق بكل منهما حمام, وأعجبت هذه الفكرة الطفلين أيما أعجاب , لكن وجهيهما كانا واجمين وهما يجلسان على سرير فيونا , ينظران الى هيلين وهي تغلق المصاريع , وتساءل تشيبي وهو ينظر الى قدميه بينما كان يهز ساقيه:
" هل تعتقدين , بعد أن رأيته , أنه بغيض؟".
وكان كل جوابها:
" ستتعودانه".
ثم أردفت:
" هيا يا تشيبي الى غرفتك , فأن فيونا ستبدا ثيابها".
قال مبارحا الفراش , ومغادرا الحجرة:
" آه , وهو كذلك".
سألتها فيونا – بعد لحظات- وهي تتطلع اليها:
" ألى متى ستمكثين؟".
فأجابت وهي تحكم الغطاء حول كتفي فيونا :
" سأبقى أسبوعين , أذا لم يمانع عمك في أستضافتي".
ثم أردفت:
" هل ستحتاجين الى بطانية؟".
فأجابت :
" أريد بطانيات".
وأحضرت هيلين بطانية من خزانة الحمام , وفرشتها عليها قائلة:
" كلا , واحدة تكفي , فالحر شديد هنا".
" يسعدني أن تبقي معنا فترة طويلة".
قالت هيلين:
" هذا غير ممكن".
وبدافع غريزي , أنحنت وقبّلت خدها قائلة:
" طابت ليلتك يا عزيزتي فيونا ... نوما هادئا".
كانوا يجلسون تحت مظلة زاهية الألوان , في مرفأ كيرينيا , وقد رست أمامهم عدة قوارب صغيرة , وعندما أفرغ الطفلين قدحيهما نهضا وأقتربا منها ليتأملاها , فهتفت هيلين عندما رأتهما يقتربان من الحافة:
" أحترسا , أرجع الى الوراء , قليلا يا تشيبي".
قالت كولا , عندما أطاع تشيبي فورا:
" أنهما طفلان طيبان جدا".
كانت تحدث بدهشة , والواقع أنهيلين لاحظت – في عدة مناسبات- عندما كان الطفلان يطيعان أمرا صغيرا بلا جدا , فتناولت هيلين كوبها وشربت , وهي تتأمل مرافقتها في فضول – وتلاحظ في الوقت ذاته ترددها – ثم قالت:
" كأنك تتوقعين أن يكونا أرعنين !".
فقالت كولا بعد تردد :
" رآهما ليون في أنكلترا مرة أو أثنتين – ولم يبد أنه وجدهما حسني السلوك بدرجة ملحوظة".
قالت هيلين, وهي تتذكر مناسبة أو أثنين أثناء الرحلة أضطرت ألى كبح جماح أحدهما:
" لهما لحظات أزعاج , ولكن المعروف أن الطفل الهادىء يكون بليدا أيضا".
وتناولت كولا رشفة من شرابها وقالت:
" أراك تحبين الأطفال".
ولما لم تعقب هيلين , أستأنفت قائلة:
" أنا أيضا أحب الأطفال , وأريد أربعة على الأقل".
أرتدت نظرة هيلين الى تشيبي ؟ الذي كان يسرح البصر في المرفأ , كان هناك يخت يتحرك منسابا تحت ظلال الحصن, وأنتابها شعور بالحزن , لو أن طفلها عاش , وبقي غريغوري بجانبها لأمكن أن تكون أنجبت طفلا آخر أو أثنين في هذه الأثناء.
وتأملت كولا, لم تكن تحسدها , ومع ذلك... قطبت جبينها وحولت بصرها , كلا , ما كانت تحسدها , وهي مقبلة على الزواج من رجل لا تعرف شيئا عنه , حقا , كانت تظن أنها تعرف هذا التيدي ولكن المرأة لا تعرف الرجل ألى أن تتزوج منه , عندئذ تكتشف كل عيوبه , كل أنانيته وقسوته , وتكون الفرصة فاتت لتفعل أي شيء , كلا , ما كانت تحسد كولا , بل – على العكس- كانت تشفق عليها , ولكن لأن كولا حاليا في أوج السعادة , قالت هيلين متلطفة:
" أين ستذهبان في شهر العسل؟ هل سترحلان للخارج؟".
فأومضت عينا كولا , وسرت هيلين لأنها أستطاعت أن تحمل نفسها على أبداء الأهتمام.
" كنت أريد الذهاب الى بارس, ولكن تيدي زارها , فهويريد الذهاب الى لندن".
" لندن, يا له من مكان لشهر العسل!".
وعادت هيلين تسألها:
" وألى أين ستذهبان؟".
فأجابت كولا:
" لندن ".
ثم أردفت بسرعة , وكأنها تقرأ أفكار هيلين:
" ولكنني وضعت رسم البيت بنفسي , ففي مطبخي كل الأجهزة الحديثة , سأرتاح لوجودي هناك".
" أذن سمح لك تيدي بأرضاء نفسك في هذا الصدد".
فرفعت كولا ذقنها قائلة:
" طبعا, أنني أرضي نفسي , أنه بيتي".
حدقت فيها هيلين قائلة:
" بيتك؟ أتعنين أنك تقومين ببنائه؟".
لم تكن كولا تتجاوز الثانية والعشرين , وبناء بيت يتطلب نفقات كبيرة, أكبر من أن يتحملها ترودي زوجها, لذلك أردفت:
" لا بد أنك غنية".
فقالت الفتاة:
" ترك لي أبي مبلغا للدوطة ودفع ليون الباقي".
" الدوطة؟ ألا تزالون تعملون بعادة دفع الدوطة؟".
قالت كولا , محتارة:
" طبعا , أن الفتاة اليونانية لا بد أن تتكفل بالبيت , هذه تقاليدنا , أنكن في أنكلترا لا تلتزمن ببيت, لأنكن تتزوجن دائما عن حب, أليس كذلك؟".
وتجاهلت هيلين السؤال لتقول :
" ولكنك أخبرتني يا كولا أنك تتزوجين عن حب".
" هذا حقيقي , ومع ذلك يجب أن أتكفل بالبيت, لأن أبي ترك لي النقود وأضاف اليها ليون لأن الأسعار أرتفعت كثيرا, في الفترة الأخيرة , أبي وفّر لي المال اللازم خشية أن أتزوج رجلا يصر على الدوطة".

بنوته عراقيه 03-08-09 12:04 AM

سلمت الايادي ياقمر..بانتظار التكمله

أمل بيضون 03-08-09 07:07 PM

ماذا يحدث أذا ... أنني أعرف أن الزيجات لا تنفصم هنا كثيرا, ولكن لنفترض أن هذا حدث هل يؤول البيت للزوج؟".
عجبت كولا , وهتفت:
" كلا.... أذا أنهار زواجي , لا يؤول البيت اليه , طبعا يظل لي, وعلى تيدي أن يرحل عنه".
وأدركت هيلين أن هذا هو السبب في قلة أنفصام الزيجات في الجزيرة , فالواضح أن الرجل كان في وضع شائك , ولو أساء التصرف , يجد نفسه بلا مأوى , كان لهذا التقليد العتيق – أن توفر الفتاة البيت كدوطة – حسناته , برغم كل شيء.
" قلت أن ثمانين في المائة من الزيجات هنا , زيجات مدبرة , زيجات أتفاق , لكنها تبدو نسبة عالية جدا".
ولم تكن كولا مصغية , أذ أنفرجت شفتاها عن أبتسامة , فألتفتت هيلين لترى ليون واقفا خلف مقعدها , وعقّب على كلامها بفتور قائلا:
" هذا صحيح يا سيدة ستيوارت , ولكن الزمن بطيء في تغيير تقاليد الشرق".
وجلس في أحد المقاعد الخالية , وهو ينظر الى حيث وقف الصغيران , ثم أردف:
" ولكن معظم زيجات الأتفاق هذه , ناجحة للغاية".
ورمقها بنظرة غريبة وفي نبراته شيء جعل هيلين تشعر بأن لكلامه معنى أعمق مما كان ظاهرا , ثم قال:
"هل أطلب لك شرابا ؟ لم تهتمي بالسيدة ستيوارت يا كولا ".
قالت هيلين:
" شربنا, أفرغت كوبي منذ قليل".
قال:
" تأخذين شرابا آخر؟".
وأشار الى الخادم بدون أنتظار جوابها , ثم سألها:
" ماذا تريدين؟".
وطلب الشراب الذي ذكرته , وجلسوا في صمت برهة , يتأملون المارة , كان معظنهم قبارصة, أذ لم يكن في المدينة أي زائرين تقريبا , في ذلك الوقت من العام , كان بعض القبارصة يفدون في سياراتهم من نيقوسيا.
وقالت كولا:
" أنها رحلة معتادة في أصيل يوم الأحد, كانت أسر بأكملها تأتي ومعها طعامها , وتبتاع المشروبات من المقهى المقابل للمرفأ".
تنهدت هيلين عندما تذكرت أن أقامتها أوشكت على نهايتها , بقيت أسبوعا أطول مما كانت تعتزم , ولكن كولا وليون ألحا عليها في البقاء فترة أخرى حين أشارت الى الرحيل , هي وكولا أصبحتا صديقتين حميمتين , وأعتادتا- كلما سنح لكولا الوقت- أن تأتيا الى المرفأ فتجلسان وتتكلمان وتنعمان بالشمس , كذلك أصطحبت كولا هيلين في جولات وكان الطفلان يرافقانها أحيانا , لكن ليون أصر في عدة مناسبات أن ينطلقا وحدهما قائلا:
" لا يمكن أن تأخذاهما بأستمرار ".
ورغم أن هذا كان يثير ضيق الطفلين , ما لبثت هيلين أن أكتشفت عبثية مجادلة ليون في أي أمر.
بدأ الظلام في الهبوط , وتحول الوهج الناري على البحر الى أرجواني , جاءت هيلين وكولا والطفلان من لابيتوس في القطار , لكن ليون جاء بسيارته , فأنطلقوا فيها عائدين , وشرعت هيلين وهي تجلس بجواره في المقدمة – تفكر فيما أتى به, أذ كانوا قد تركوه في حجرة المكتب منهمكا حين غادروا البيت , ثم فهمت أنه جاء خصيصا ليقلهم, عندما أخبرته أمه عن مكانهم, يا للمراعاة! ومع ذلك كان رجلا غريبا, وأكتشفت هيلين هذا بعد وصولها بقليل.
كان مسلكه نحو الطفلين غريبا, مما أثار حنق هيلين , ومع ذلك, فعندما تعثّر الصغير مرة وجرح ذراعه ضمّدها ليون بنفسه, ولن تنسى دهشتها- في تلك المناسبة- ولا الشعور الذي غشيها وهي تراقبه مع الطفل , لاحت أصابعه لطيفة , وهي تعنى بالذراعين , وقد قام هو بنفسه بمسح دموع تشيبي , أما مسلك ليون نحوها هي , فكان مجاملا دائما , ولكن في فتور وعدم مبالاة , مما أثبت دون شك ما قالته بريندا أنه لم يؤت وقتا للنساء , أما دعوته لها لأطالة أقامتها فقد كان جزءا من التقاليد القبرصية ومع ذلك كانت صادقة ... الواقع أنه كان بالغ التلهف على أن تبقى في ضيافته مدة أطول وفي محاولتها للعثور على مبرر لذلك, تصورت هيلين أنه كان مقدرا لمساعدتها في رعاية الطفلين , لأن آراتيه لم تكن قد تولت بعد العناية بهما.
كان الطريق من كيرينيا الى لابيتوس يمتد مسافة موازيا للبحر, يم ينحرف الى التلال , متعرجا , يزداد ضيقا ووعورة وهم يرقون نحو الفيللا البيضاء الجميلة المنتصبة في ضوء بلون اللؤلؤ ولن الغسق المنسحب , وغشيت هلين السكسنة والوحشة وهي تغادر السيارة وتقف محدقة عبر السهل الساحلي الضيق الى البحر , وهرعت كولا بخفة الى داخل البيت قائلة :
" أرجو أن تأذنوا لي , فأنا أشعر ببرد".
كان الهواء حولهم معطرا , وقالت فيونا وهي تتقدم بجوار هيلين:
" أنني أحب عبير الحديقة , ألا تحبينه يا سيدة ستيوارت؟".
" بلى يا فيونا, أعتقد أنه رائع".
فسألتها فيونا :
" هل أنت حزينة لرحيلك؟".
وأختنق صوتها وهي تضيف:
"ألا تستطيعين البقاء مدة أطول؟".
" مكثت أسبوعا آخر يا عزيزتي , ولي بيتي كما تعرفين".
قال تشيبي وهو يقبل عليهما:
" ولكنك وحيدة , وليس مستحبا أن تعيشي وحدك , لو أنني مكانك ما أحببت هذا".
قالت مبتسمة:
" طبعا, ولكنني تعودت ذلك".
فسألها:
" ولكن, ماذا تفعلين؟".
فأجابت:
" أشياء كثيرة , أقرأ وأرسم قليلا".
وهتف :
" ترسمين صورا؟".
قالت:
"نعم , أحب أن أكون وحدي يا تشيبي فلا تحزن هكذا".
وأقبل ليون من الجانب الآخر للسيارة , فسألها:
" أتحبين أن تعيشي وحيدة , يا سيدة ستيوارت؟".
كان يقف مطلا عليها , منتظرا – كما بدا- ردّها في فضول .
قالت:
" تعودت ذلك".
ولكنه كرر سؤاله , فقالت:
" نعم, أحب أن أعيش وحيدة".
وكان تعقيبه الداعي للدهشة:
" لا يبدو أنك متأكدة جدا من ذلك".
وبعد صمت بدا أنه كهرب الجو المحيط بهم , قال:
" أود أن أتحدث اليك على حدة يا سيدة ستيوارت , بعد العشاء وأرسال الطفلين الى الفراش".
فتساءلت , وهي لا تدري سر الشعور المرتعش الذي سرى في أعماقها:
" على حدة ؟ هل أجيء الى مكتبك؟".
قال:
"أذا سمحت , فلن يزعجنا أحد هناك".
كانت نبرته مقتضبة , وفي عينيه ذلك اللمعان المعدني البارد المعهود وقد أطبق فمه بقوة , وأنتظر لحظة أرتقابا لأي سؤال آخر منها , فلما ظلت صامتة أستدار ودخل البيت , وتبعته هيلين وهي شبه مسلوبة الوعي , لا تكاد تفطن الى أن الطفلين كانا متشببستين بيديها وهما يقفزان بجوارها.
ومع أن هيلين كانت مفعمة بالفضول , تشعر بدبيب غريب يجعل ضربات قلبها تتسارع فلم تكن مستعدة أبدا لما قاله ليون عندما دخلت حجرة مكتبه في وقت لاحق من ذلك المساء , فبعدما قدم مقعدا ودعاها للجلوس , شرع يقول بدون تمهيد , ونبرات هادئة ولهجة الأمر الواقع:
" كنت جادا يا سيدة ستيوارت ,حيث قلت – في فترة سابقة اليوم- أن زيجات الأتفاق والت**** عندنا , موفقة جدا في الغالب".
وجلس في هدوء في مواجهتها وأستأنف حديثه :
" أستخلصت – أثناء حديث معك منذ فترة – أنك لا تأملين زواج ثان يقوم على الحب , أترينني أصبت في فهمي؟".
قالت متلعثمة:
" ن... نعم".
وهي غير قادرة على تذكر الحديث الذي قصده , لو أنها قالت شيئا كهذا , فلا بد أنه كان أشارة عابرة , لأن هذا ليس بالأمر الذي تقبل مناقشته مع أي شخص , اللهم ألا أمرأة , وصديقة, هذا بالأضافة ألى أنها لم تأمل في زواج ثان أطلاقا.
" هكذا ظننت – ولما لم يكن ثمة أحتمال لأن أشعر يوما بعاطفة عميقة لأمرأة , فأنني أعرض عليك مشروعا , لا تقاطعينني يا سيدة ستيوارت أنتظري حتى أنتهي من كلامي ".
تزحزح في مقعده , ومع أن عينيه لم تكونا تحيدان عن وجهها بدا أنه لا يتأملها – أذ كانت ملامحه مكفهرة مريرة ومضى مستأنفا كلامه :
" تلقيت نبأ – في الأسبوع الفائت- بأن أخي لن يبرأ من مرضه- الواقع أنه قد لا يعيش أكثر من شهر , على الأكثر".
فهتفت هيلين:
" سيصبح الطفلان يتيمين ... ما أفظع هذا".
قال يذكرها بخشونة:
" أن للطفلين أما".
الواضح أنه كان يظنها على علم بتفصيلات تاريخ والديّ الطفلين , ثم أردف:
" على الرغم من أن هذا غير هام , لأنها غير ذات نفع لهما الآن , سيكون عليهما أن يفيما معي نهائيا , لا خيار في ذلك , ولقد راقبتك معهما في حذر بالغ , ومن الجلي أنهما مرتبطان بك قدر أرتباطك بهما , أزاء هذا آمل أن أستطيع أقناعك بالبقاء هنا والعناية بهما".
أطلقت زفرة طويلة:
" أهذا كل شيء ؟ سأتدبر الأمر بلا شك".
وسكتت عندما نظر اليها , ثم قال بصوت ناعم:
" رجوتك ألا تقطعي حديثي".
وتصاعد الدم الى وجنتيها , فأنتظر لحظة , ثم أستأنف:
" أختي كما تعلمين, ستتزوج في الشهر المقبل , وعمتي وعمي سيرحلان في الوقت نفسه تقريبا , وفي أنكلترا , يباح لك دخول بيت رجل- ورعاية أولاده , ولو كان يعيش أعزب, أما هنا , فهذا مستهجن – لسوء الحظ- ونحن أكثر أهتماما بمسائل اللياقة , مما في بلادك , وأذ يبدو أنه لا غنى عنك لسعادة الطفلين , فأنني أسألك الزواج مني".
أفحمتها الدهشة , هل يجري عرض أقتراح الزواج بمثل هذه الرؤية الفاترة؟ وبعد ثلاثة أسابيع من التعارف فحسب! لم يزد ليون على ما قال , وأمهلها لتستجمع شتات ذهنها , فأخذت تتقبل رويدا- وهي لا تزال مشدوهة – أن الزواج كان المخرج الوحيد له من موقفه , فما كان لأمرأة في هذه البلاد أن تقيم معه دون أن تكون زوجة , وكان للخادمين – آراتيه وزوجها – بيتهما أسفل التل , حتى أذا كانا ينامان في دار ليون, تغير الوقف , فأقامة أمرأة غير متزوجة في بيت رجل- مهما يكن المبرر- تعتبر في هذه البلاد مثيرة للشبهات والأستهجان .
تمالكت نفسها أخيرا , وقالت:
" أنا لا أستطيع الزواج منك , قد أبحث المجيء للعناية بتشيبي وفيونا , أما للزواج...".
والواقع أنها كانت تهتم بالطفلين كثيرا ,. ولا شك أنهما سيشعران بشقاء كبير أذا فارقتهما , كان الموقف سيئا من قبل... أما الآن فيجب أن يعلما بما أصاب أباهما... وغمغمت وهي تحدجه بعينين أصبحتا الآن أكثر بريقا :
" لا أدري ماذا أقول يا سيد بيترو , أنني عاجزة حتى عن التفكير".
وأيقنت هيلين أنه رجل حكيم وماكر , عندما قال في لهجة أكثر نعومة وألطف , أنه يفهم الصراع الذي يدور في داخلها , ولا يتوقع قرارا فوريا بل يجب عليها أن تفكر في الأمر كثيرا , وتحسب حساب الأيجابيات نسبة الى الطفلين واليها, أما من ناحيته في الزواج فلا ينبغي أن تخاف منهفلن يطلب منه ألا أن تبقى عفيفة وألا تعرضه قط للهوان بسلوك ربما يوصف – ولو عن بعيد – بأنه غير لائق.
" لن يحدث ما تخشاه من هذه الناحية...".
وسكتت أذ أذهلها أن تفكيرها تحول الى صوت مسموع , وأبتسم ليون لأرتباكها , فأذا التغيير الذي طرأ عليه مذهل , أجل , كان وسيما... وكان غريغوري وسيما أيضا , ولذلك طاردته النساء , أما أذا طاردن ليون , فلن تجرح مشاعرها , بل أنها لن تحفل , ولكن, ما هذا التفكير ؟ لم يكن ثمة مجال لأن تتزوج منه , كلا ما كانت لتتصور الزواج مرة أخرى من أجل الأمن والطمأنينة , ولو من أجل الطفلين , ثم أن ليون كان يحتقر النساء , بينما كرهت هي الرجال وفقدت ثقتها بهم.
فكرة زواج شخصين على هذه الشاكلة تثير السخرية.

بنوته عراقيه 03-08-09 07:54 PM

سلمت الايادي يالغاليه

lugain 03-08-09 10:53 PM

شكرا كثير الرواية شكلها كثير حلوة يسلموووووووووووووو

أمل بيضون 07-08-09 06:12 PM

3- آمال برسم الأنهيار
أنقضى شهران على زواجهما , حين حلت معجزة الربيع على الجزيرة , وأذا بأمطار الشتاء , وماء ثلوج الجبال تبدل معالم الأرض الجرداء السمراء وفي مكان برزت نباتات خضراء زاهية تكسو السهول , وأخذت الألوان تعربد على سفوح الجبال, أذ راحت الزهور البرية تتفتح سريعا , ووقفت هيلين في شرفة مخدعها تسرح النظر الحالم عبر الشريط الساحلي الضيق الى البحر الشاسع , البحر الأبيض المتوسط أزرق لازوردي متلألىء , يتدرج ويخف لونه وهو يترامى الى الأفق , ولكنه ظل- مع ذلك- قائما لدرجة تفرقه عن زرقة السماء الصافيى.
ولامس شفتي هيلين أبتسامة , أذ سمعت نداء:
" يا عمتي هيلين!".
فسارت الى سياج الشرفة ,. وأطلت على الحديقة, كانت فيونا تقف هناك , متطلعة بوجهها المتألق الى أعلى , تعلق على كتفيها حقيبة الكتب , وقالت:
" رجعت!".
فضحكت هيلين قائلة:
" يمكنني أن أرى ذلك ... هل أنت جائعة؟".
" حتى الموت".
" تعنين الى درجة التضور جوعا".
" أجل , أصبت , هل لدينا شيء من تلك الكعكات التي صنعتها بالأمس؟".
" عدد قليل , سأوافيك حالا بها , سأرى ماذا لدينا في العلبة"
تحولت الى غرفة النوم , فأذا بها تلمح نفسها في المرآة , وتذكرت ما قالته ترودي بدون مجاملة , حي زارتها هيلين في الأسبوع الماضي : أنت طراز قديم!".
" لماذا التحفظ وقد تزوجت؟ أنك لن تستبقيه , وأني لأنذرك , فهؤلاء القبارصة سرعان ما يجمحون شاردين , يكفي أن.يروا وجها جميلا واحدا كي ينحرفوا , ما لم يكن لديهم في البيت ما هو أفضل".
" هل تتحدثين عن سابق أختبار؟".
" كلا , طبعا , فحبيبي تاسوس مختلف , أجل , لا داعي لأن تضحكي! ولكن هذا هو السائد , أنني أحذرك , كما أقول , لأنك صديقتي , أنك حسناء يا هيلين , فلماذا الجمود؟ ثم , ما تبريرك لطول ثيابك؟ يا للسماوات , أنني لا أكاد أرى ركبتيك!".
ونبهها صوت فيونا تقول:
" أين أنت يا عمتي هيلين؟".
فبادرت مجيبة :
" ها أنذا قادمة يا حبيبتي!".
كانت فيونا في المطبخ , تطوف بأرجائه , وهي تجر حقيبتها على الأرضو , وبادرت:
" أين الكعك ؟".
" أرفعي حقيبتك , كلا , أرجو أن تعلقيها في مكانها ".
وخرجت فيونا- وهي تبتسم بخبث- لتعلق حقيبتها في خزانة البهو , ثم عادت وجلست الى مائدة المطبخ , وهي تؤرجح ساقيها , وترتقب متطلعة أن تقدم أليها هيلين ما تأكله , ووقفت هيلين تطل عليها لحظة , وهي تتذكر رد فعل الطفلة عندما حدّثها ليون عن أبيها بعد وفاته , ظل وجهها الصغير الوديع جامدا في البداية , ثم أنخرطت في بكاء مثير للأشفاق على صدر هيلين , أما تشيبي فزم شفتيه , محاولا ببسالة أن يكون شجاعا , ولكنه ما لبث أن أنهار هو الآخر , كان هذا المشهد المفتت للقلب , والوجوم المكفهر القلق في عيني ليون فوق ما تحتمل هيلين , فكان قرارها من وحي الساعة- كما قالت لنفسها – ناجما عن أنفعال عاطفي قوي مؤقت , وشعرت أنها قد تندم على الزواج, فالحياة مع هذا الأجنبي الأسمر الصارم الذي كان أسلوب حياته مختلفا عن أسلوبها وعاداتها – لا يمكن أن تكون ممتازة , أكد لها روبرت جارها أنه ما من قبرصي يستطيع أن يعيش بدون أمرأة , ومع أن هذا الجانب من حياته الشخصية ما كان ليمسها قط في شيء , كانت تدرك دائما أحتمال وجود هؤلاء النسوة , وما كان هذا ليساعد على الرضا وراحة البال , وبرغم التحذيرات الكثيرة- في دخيلتها- فأن هيلين سمحت لشفقتها بأن تسيطر على هواجسها , ولم تندم بعد على ذلك- وكان هذا النمط من الزواج يلائمها ... أذ هناك مجال لمشاعر أعمق, بدون أيقاظ العواطف , ومن ثم لا خطر لأن تنهار آمالها مرة أخرى.
وهتفت الصغيرة:
" يا عمتي هيلين ... أسرعي".
تقدمت هيلين الى الخزانة ضاحكة , وأخرجت الكعك , ثم سكبت لها فنجانا من الحليب , وسألتها , وفم فيونا مليء بالكعك:
" أين تشيبي , لماذا يتأخر دائما؟".
" أنه مع بعض الأولاد , يستطيع أن يتكلم معهم , أما أنا فلا أستطيع , من الصعب تعلم اللغة اليونانية , لكن معلمتي طيبة , تخبرني بكل الكلمات".
" وأنت تنسينها على الفور".
" أتذكر بعضا منها , لكن الحروف غريبة جدا , لماذا يقلبوها رأسا على عقب؟".
" ليست مقلوبة , لكنها تختلف عن حروفنا , هذا كل ما في الأمر , سوف تتعلمين اللغة قريبا".
" لكنك قلت لعمي ليون أنك لن تتعلميها أبدا".
" أنا أكبر منك . والتعلم في الكبر شاق دائما , أتوقع أن أتعلم ما يكفي لأحتياجاتي , لا يهم , فمعظم الناس هنا يتكلمون الأنكليزية".
نظرت هيلين نحو النافذة ,أذ ظهر تشيبي عند الشرفة , ثم أقبل خلال الباب الزجاجي , وأن هي ألا لحظة حتى أنسابت حقيبته تتدحرج عبر الأرض المصقولة .
" ماذا تأكل فيونا؟".
" عندما ترفع حقيبتك وتخرجها من هنا".
" علقيها نيابة عني يا فيونا".
أتسعت عينا هيلين, وهتفت:
" ماذا قلت؟".
فأجاب تشيبي وهو يجلس على أحد المقاعد العالية , منتظرا أن يقدم له كعك وحليب:
" قلت لفيونا أن تعلق حقيبتي ".
فقالت هيلين بحزم :
" خذ حقيبتك خارج المطبخ , فورا".
فأشار بسبابته الى الحقيبة وقال:
" فيونا؟".
شربت فيونا جرعة كبيرة من الحليب –وملأت فمها بالكعك ثانية , قالت:
" لن أعلق حقيبتك الزرية ! علقها بنفسك ! لست أدري ماذا دهاك يا تشيبي , أنك تحاول دائما التعالي وأصدار الأوامر!".
وتطلعت ألى هيلين في أستنكار , وأبتلعت ما في فمها , وأردفت تقول بفظاظة:
" طلب مني أن أنظف حذاءه , هذا الصباح".
حدقت فيه هيلين غير مصدقة , وهتفت:
" تنظفين حذاءه ؟ هل طلبت من أختك أن تنظف حذاءك؟".
فأجاب بهدوء:
" هذا صحيح , الأخوات دائما يخدمن أخوتهم هنا , الصبيان هم ذوو القيمة , وليس على البنات سوى الشغل , ... وكل شيء".
" هل لي أن أسألك , من أخبرك بكل هذا؟".
قال بأستخفاف:
" الأولاد, كل أخواتهم يخدمنهن , وأنا شعرت بالتفاهة حين قلت أن أختي لم تكن تخدمني , لأنهم ضحكوا وقالوا أنني مخنث".
" لا أصدق أنهم أستعملوا هذه الكلمة".
" كانت كلمة أخرى باليونانية , ولكنها تعني الشيء ذاته ".
" مهما تكن الكلمة , فعليك أن تنظف حذاءك بنفسك , والآن؟ أذهب وأنقل حقيبتك...".
قال محتجا:
" ولكنك لا تفهمين يا عمتي هيلين...".
" ما الذي لا تفهمه عمتك هيلين؟".
كان ليون يقف بالباب , منذ مدة , رشيقا يرتدي بدلة من النيل الأصفي الشاحب لا تشوبها شائبة , ومع أنه كان يخاطب تشيبي , فأن عينيه كانت على هيلين , تطوفان بها من قمة رأسها الى قدميها , ولأول مرة شعرت بمظهرها الكئيب.
كانت ترتدي كنزة وتنورة , كلاهما باللون البني الداكن وشدت شعرها الميل الى الخلف بأحكام , وثبتته الى مؤخرة رأسها بمشبك قبيح من لحاء السلحفاة , كانت جواربها سميكة وحذاؤها ثقيلا , وتحول أنتباهه الى تشيبي , وتساءل بصوت حازم:
" وبعد؟".
كان صوته حازما , وسألت هيلين نفسها : ترى هل كان يصغي الى الحديث قبل دخوله الحجرة ؟ وعاد ليون يقول للغلام:
" هل فقدت لسانك فجأة ؟".
تبخّر أعتداد تشيبي وتعاليه فقال مستكينا :
" لا شيء يا عمي ليون".
فألتفت ليون الى هيلين , وأضطرت أن تجيب عن الطفل, قالت في لهجة مخففة ونبرة مستضحكة :
" تشيبي يتحول الى قبرصي حقيقي بسرعة , فهو يعتبر أن الأنثى أدنى منزلة".
تساءل ليون:
" أصحيح هذا؟".
فقالت فيونا:
" أنه يسخّرني , ويأمرني بتنظيف حذائه".
فقالت هيلين مؤنبة:
"هذا أفتراء , طلب منك فقط أن تنظفي حذاءه".
أدركت هيلين أن ليون سمع ما دار , فلم يبد دهشة ما , وقال لأبن أخيه بهدوء:
" أنزل عن هذا المقعد وأنقل حقيبتك!".
ولمسها بطرف حذائه , وأطاع تشيبي على الفور ,ولكنه رمق أخته بنظرة محنقة , وهي ترميه بنظرة منتصرة , وقال حين عاد , وهو لا يوجه خطابه لأحد معين:
" كل الأولاد في المدرسة يكلفون أخواتهم بآداء أشياء لهم ".
ثم أردف في شبه تحد لعمه:
" كانت عمتي كولا تؤدي لك أعمالا... كنت تكلفها دائما بأن تؤدي لك أعمالا , وتأتيك بأشياء ".
أعقب هذا الأنفجار الصغير صمت رهيب , ثم أمر ليون أبن أخيه بالذهاب الى حجرته , وبادرت هيلين , وهي تقدم الحليب لتشيبي:
"لا ... أنه لم يقصد أن يكون فظا".
" تشيبي ... أفعل ما أقول".
كان الصوت منخفضا متوعدا , حتى أن هيلين نفسها أرتجفت قليلا لسماعه , وأنحسر الزهو عن محيا فيونا , ودست خلسة قطعتين من الكعك في جيبها , وأنزلقت من المقعد فأتجهت الى الباب , تابعة أخيها.
ولاحظت هيلين تصرفها , وعندما نظرت الى ليون , أدركت أنه هو الآخر عرف ما أعتزمته فيونا , بيد أنه تركها- لدهشة هيلين- تغادر الغرفة , وقال وهو يخطو نحو باب الشرفة:
" ما الذي أوحى أليك بأن المرأة أدنى مكانة في قبرص؟".
قالت:
" أنها الحقيقة, أليس كذلك؟".
قال وهو يتأملها – مرة أخرى – بفضول – وقد تسلطت نظراته على وجهها:
" الأمر يتوقف على تأويلك سلوك الرجل نحو المرأة".
وبدا لهيلين أنه يتفحص كل زاوية , وكل خط من قسماتها , فسارت نحو المائدة ورفعت الطبق والكوب عنها وحملتهما الى المجلى , بينما أستأنف ليون حديثه قائلا:
" المرأة في بلادكم مساوية للرجل , ولكن يبدو أنها في أكتساب هذه المساواة , فقدت شيئا أثمن منها بكثير".
ألتفتت هيلين ونظرت اليه متسائلة:
" ما الذي فقدته؟".
تعد تلقى دلالا". فقال:
" أنها كثيرا ما لا تلقى أحتراما ولا مجاملة , بل الأكثر من هذا , أنها لم تعد تعتبر أمرأة , وأني بذلك لم تعد تحظى بأهتمام الرجل , لم
فاضت عيناها الزرقاوان بالعجب , ما كانت هذه بكلمات رجل يكره النساء , قالت:
" لم أعلم أبدا أن الرجال الشرقيين يدللون زوجاتهم".
" أذن , لم يصدقك من أخبرك , أننا ندلل نسائنا ونعتز بهن , وأنا أتكلم الآن بصفة عامة طبعا , بعض الرجال هنا لا يعاملون نساءهم برقة , ولكن هؤلاء أقلية ... أؤكد لك".
" لست أدري كيف تقول هذا , فمما رأيت أستخلص أن النساء هنا مجرد خادمات , مستعبدات تقريبا ".
تملكه غضب حقيقي , أذ أنبعث صوته بحدة وقال:
" هراء! أنما تشتغل النساء في البيت لأن هذا طبيعي لهن , بينما يأتي الرجال بالمال".
قالت وهي تضع الكوب تحت ماء الصنبور:
" النساء يشتغلن في الحقول , كثيرا ما شاهدتهن".
وقف في المدخل , وأحدى يديه على فخده, وقد بدا أنه يهتم بالمنظر , ثم قال:
" هذا صحيح , ولكن الرجال يعملون الى جوارهن".
كان وضع الشمس وصفاء زرقة البحر والسماء والسماء يجعلان للضوء طابعا يهفو بالمشاعر , لا سيما وهو يترامى على شعر ليون الأشيب, فيكسبه بريق الفضة , وأشاحت هيلين أخذ منشفة لتجفف الكوب, بينما أسترسل ليون:
" النساء يستمتعن بالعمل في الحقول ... ويستمرئن الهواء الطلق".
وألتفت يتأملها وهي تقف عبر أصابع قدميها لتضع الكوب على رف مرتفع فأنحسر فستانها , وعندما أستدارت رأته يحدق ... وغيّر الموضوع , متسائلا فجأة:
" ألست بحاجة الى نقود يا هيلين؟".
سرى الدم سريعا الى وجنتيها , ولكن عينيها عكستا دهشة واهنة وقالت:
"كلا , لديّ الكثير".
كان سخيا , ولا بد أنه عرف بعدم حاجتها , فهز كتفيه , وقد قرأ ما عكسته ملامحها , وقال:
" أنما رأيت أن أسأل فحسب , ما عليك ألا أن تطلبي , ولن تجدينني ضنينا".
أتسعت حدقتاها , أتراه يومىء الى أن عليها شراء بعض الملابس , فما كانت تعتزم ذلك , مرت مناسبات عدة – في الفترة الأخيرة- وكانت عيناه السوداوان تحدجانها بنظرة تسلبها الهدوء من نفسها , وتذكرها –لسبب من الأسباب – بما قاله روبرت من أنه ليس بوسع أي قبرصي أن يعيش بدون أمرأة , كان ليون يخرج كل مساء.
وكانت لهيلين آراؤها فيما كان يفعل , بيد أنه كان- في أوقات أخرى – يمكث في البيت أسبوعا بأكمله , أنها لم تجذبه حتى الآن , ولكنها كانت تتساءل ": كيف كان يفكر عقله هو , وأنتهت أل أنه لا فرق لدى هؤلاء الشرقيين الشهوانيين بين أمرأة وأخرى ... وقد يأتي يوم... وأقصت هيلين الفكرة من ذهنها , كانت الحياة مرضية , وهناك الطفلان وبيت جميل , فلم يكن من الحكمة تعقيد حياتها بالتعرض لأيقاظ الرغبات في زوجها , كلا , كانت خلوا من الجاذبية له , وعقدت العزم على أن تظل كذلك.
سألته في نبرة أستعطاف واهنة:
" لن تبقي تشيبي في غرفته طويلا , أنه جديد على كل هذا , وهو يصغي للصبية الآخرين , أنه في السن التي تجعله يريد الشعور بقيمته".
وسارت نحوه وأبتعد ليون , بدون أن يحاول دعوتها الى الشرفة , فأبتسمت وتقدمت نحوه وعندما وقف الى جوارها , أدركت أن رأسها لا يكاد يبلغ كتفه.

أمل بيضون 11-08-09 07:15 PM

قال:
" أنك بالغة اللين معهما".
ورغم حدة لهجته شعرت أنه لم يكن ينتقد طريقتها مع الطفلين وقالت:
" لا يزالان صغيرين ... وتعرضا لصدمة قاسية".
" لكنهما تكيفا مع ظروفهما في شكل جيد , وبسرعة".
وتقوست شفتاه المزمومتان في أبتسامة , وغاب عن عينيه الوميض البارد , وأردف يقول:
"أنك طيبة معهما يا هيلين, كلا , لن أترك الصبي طويلا, ولكنه يجب أن يتعلم أنه لا يستطيع أن يعامل أخته كأنها أدنى منه , يجب أن يدرك أننا نتوقع منه أن يرعاها".
ورمقته بسرعة , ما أغرب هذا الرجل! هل يمكن أن يكون عدوا للمرأة حقا؟ من المؤكد أن تجربة أخيه أثرت عليه , لولا ذلك ما قال وهو يعرض عليها الزواج أنه لن يهتم بأمرأة أهتماما عميقا.
تذكرت هيلين مسلكه نحوها منذ زواجهما , كان مجاملا ودودا ولو أنه مرات كان فاترا على نحو ملحزظ ولكن لم يحدث أن تحدث اليها بخشونة مرة أو وجه اليها أمرا , أو أبدى نحوها ترفعاوتعاليا , في الواقع , لم يكن هناك ما يدعوه لذلك , سألها أن تتزوجه وقبلت, كان من حقها أن تتوقع أن يعاملها على قدم المساواة , مع ذلك فأن تلك الشراسة كانت موجودة دائما , لأنها تؤلف جزءا دائما من مظهره , فتحس بوجودها تماما في بعض الأوقات , ولا تكاد تحس بها أحيانا أخرى, وتطلعت اليه ثانية , ملاحظه فكه الصارم التكوين وأختلاجة عضلة خفيفة في جانب منه , الأبتسامة خبت , الفم أطبق مزموما في ذلك الخط الذي كان يوحي بالخشونة, الخشونة التي كانت تشوب وسامة ملامحه , ترى كيف يبدو حين يكون غاضبا ؟ كيف يبدو عندما يمتحن صبره أو يواجه تحديا؟ وتركت هيلين عينيها تتحولان الى فمه ثانية , فشعرت بقشعريرة غريبة تسري في بدنها , ووجدت نفسها تتمنى في حرارة ألا تتعرض لمناسبة تواجهه فيها , أذ أقتنعت لتوها أنه يستطيع أن يكون قاسيا حقا , وأنتبه الى أهتمامها , فأستدار وأطل عليها من فوق , بنظرة متسائلة فبادرت تقول بأرتباك عجبت منه:
" متى يستطيع تشيبي مغادرة غرفته؟".
" قبيل موعد الشاي- سأرى ".
" قبيل موعد الشاي , أن الساعة الثانية والنصف الآن".
كان اليوم المدرسي هنا يبدأ في الثامنة صباحا وينتهي في الثانية بعد الظهر , وأردفت:
" ما أحسب أنك ستبقيه هناك ساعتين أخريين؟".
فقال:
" كلا , ليس لساعتين , ولكنه سيبقى هناك فترة , لن يصاب بأذى".
كانت نبراته هادئة , ولكن هيلين أدركت أنه لن يقبل مزيدا من الجدل في هذا الأمر , فلاذت بالصمت , وهي تطل على فيونا في الحديقة , كانت تلاعب كلبا ضالا , أستقر لديهم أخيرا , ففي قبرص كثيرة هي الكلاب الضالة , تعيش في المدينة والريف على السواء , وكانت هيلين تشعر بالحيرة ... فكيف تحصل على قوتها... عندما أستقر هذا الكلب الذهبي اللون في حديقتهم . توقعت هيلين أن يطرده ليون أو يأمر بأعدامه , ولكنه- على النقيض – أمر له بالطعام ومكان للنوم.
تحرك ليون , وأنحنى قليلا على السياج , يشاهد أيضا أبنة أخيه مع الكلب , وطاف بخاطر هيلين مرة أخرى : أجل , أنه رجل غريب في عدة نواح , أنه لغز بسمات متناقضة في شخصيته , فهو أحيانا صلب لا يلين – لا سيما مع الطفلين- ومع ذلك قد يشمل بعطفه هذا الحيوان الشريد , كذلك كان مسلكه نحو النساء عجيبا , فمع أهتمامه بهن – لسبب واحد فقط- لم يكن يسمح بمجرد أشارة أزدراء أن تشوب صوته أذا تحدث عنهن , كان لطيفا مع أمه وسخيا مع أخته , ولكن نبراته –في المناسبة الوحيدة التي ذكر فيها أم الطفلين- كان خشنة جدا , حتى خيل لهيلين أنه قادر على القتل , وعادت تنظر اليه جانبيا , وتتمنى مرة أخرى ألا تحدث مناسبة تضطر فيها الى أغضابه.
غيلر أن أحتكاكا بين أرادتهما حدث في ذلك المساء بالذات فشعرت هيلين- للمرة الأولى – بوطأة شخصيته المتسلطة , كانت قد دبرت أن تزور ترودي مرة في الأسبوع , ومعنى هذا أن تكون خارج البيت حين يعود الطفلان من المدرسة , وشعرت بأن واجبها أن تذكر ذلك لليون , فقالت:
" سيكونان بخير مع آراتيه لحوالي ساعة فقط , فسوف أعود قبل الثالثة".
وكان ليون يقضي المساء في البيت , وقد جلسا في الشرفة يحتسيان الشاي , ويتجاذبان أطراف الحديث , فقال:
" طبعا , في أي وقت وقت تذهبين؟".
أغادر البيت حوالي الساعة التاسعة".
كانت صادفت روبرت في القرية , في اليوم السابق , فذكر أنه ذاهب الى نيقوسيا كذلك , وعرض عليها ... بطبيعة الظروف – أن يقلها فقبلت.
لمست جبين ليون لمسة خفيفة من العبوس , وقال:
" التاسعة؟ أذا بكرت قليلا أستطيع أن أصحبك".
فأبتسمت قائلة:
" لا عليك يا ليون... ذلك الشاب الذي صادفته على السفينة , روبرت , أخبرتك عنه, أنه ذاهب الى المدينة وسيقلني".
أزداد عبوس ليون وقال:
" أفضل ألا تقبلي , سأنضم الى القافلة , أـذ يجب أن أكون في المكتب مبكرا جدا , في الغد, ولكن لا أدري ما يدعوك لعدم الذهاب معي ".
" ولكن القافلة ترحل في السابعة والنصف , وسأكون هناك مبكرة عما ينبغي ".
" تستطيعين أن تمكثي في المكتب ساعة أو نحو هذا".
كانت في صوته نبرة متصلبة واضحة , وكانت هيلين لا تزال موغرة الصدر من تعقيبه الهادىء بأنه كان يفضل ألا تقبل أن يقلها روبرت , أنها تأبى أن يملي عليها ما يب وما لا يجب أن تفعله , فقالت:
" سأقبل دعوة روبرت , أذا لم تمانع , فهذا أيسر بكثير ".
" بل أمانع يا هيلين".
كان صوته لا يزال هادئا , ولكنةلهجته أصبحت أكثر حدة , قليلا وأستأنف قائلا:
" آراتيه ستكون هنا , وبوسعها أن تعنى بذهاب الطفلين الى المدرسة".
فقالت :
" ولكنني لا أريد الخروج مبكرة".
فكان رده :
" أذن أخشى أن تضطري لأن تستقلي الحافلة , أو أطلب لك سيارة أجرة أذا كنت تفضلينها ".
قالت بصوت هادىء , رغم أن لونها بات شاحبا:
" سأذهب مع روبرت , وهذا- كما قلت- أيسر, من السخف أن أفكر في سيارة أجرة بينما أستطيع قبول الدعوة".
وضع ليون قدح القهوة على المنضدة , وأستلقى في مقعده , وحدق فيها , ثم قال بصوت ناعم:
" هيلين... أما أن تذهبي الى المدينة في أحدى الطرق التي ذكرتها , أو لا تذهبين أطلاقا".
ومرت لحظة وهي تحدق بنظرات جامدة , لكن أنفعالها كان في تصاعد , وما لبث أن قالت في حدة زادت على ما كانت تعتزم:
" سوف أقبل دعوة روبرت... ويؤسفني أن أخالف رغباتك يا ليون, لكنني لا أقبل الجبر , تذكر أنني أنكليزية ".
فقال :
" أنت زوجتي , وستفعلن ما أقول".
أخبرت روبرت , وسوف يأتي ليصطحبني".
بدا مندهشا وهتف:
"هل هو قادم الى هنا؟ هل أخبرته حقا بأن يأتي الى منزلي ليصطحبك؟".
ولم تكن هيلين ترى أي عيب في قدوم روبرت الى البيت ليصطحبها , ولكنها عندما رأت وجه ليون , شعرت أن هذا ما كان ينبغي أن يحصل , كان من العجيب أن روبرت لم ينصحها , ويبدو أنه يعرف الكثير عن نمط الحياة هنا , لهذا أردفت:
" بوسعي أن أتصل به هاتفيا – أذا كان هذا ما تفضله – فأخبره أن ينتظرني في القرية".
" ستتصلين به فعلا , لألغاء التدبير , أوضحت لك- في البداية – أنني أتوقع منك أن تتصرفي بأتذان , وألا تعرضيني للسخرية".
" هذا غباء! لماذا يعرضك قبولي دعوة روبرت للسخرية ".
" هذه قرية صغيرة... وفي أي حال , فكل أمرىء في قبرص يشغل نفسه بشؤون جاره , ولست راغبا أن يقرن أسم زوجتي بأسم ذلك الأنكليزي".
لم يكن من الممكن أغفال التصلب في صوته , ورغم خفوت ضوء المصباح المثبت في الحائط , أكتسى وجهه بتعبير فظ وعدواني , كانت هيلين تكره فكرة الخضوع لقراره لكنها أقتنعت- في الوقت ذاته – بأن أي مزيد من الجدل لن يكون عقيما , فحسب , بل سيؤدي الى أذلالها , كان ليون يفرض أرادته دائما ... وليس في موقف كهذا فحسب بل نظرت اليه مدركة مرة أخرى ذلك الشعور الغريب من المضض الذي خبرته في مناسبات سابقة عديدة , وقادها هذا الشعور الى الحذر ,فلم تعد تلح في معارضة رغبته وقالت:
" أذا كان هذا شعورك أزاء الأمر , فسأفعل ما تقول , وألغي التدبير".
أنحسر الدم عن وجهها وكانت تدرك أنها شاحبة تحت الضوء الخافت , وتجاهلت نظرات ليون بدون أهتمام , ثم سألها :
" هل ستأتين معي؟".
فأومأت برأسها , وأذ ذاك أردف:
" سيكون علينا أن ننهض مبكرين , أنني آسف لهذا , ولكن لا حيلة في الأمر, لديّ يوم حافل في الغد , والأنطلاق باكرا سيعينني على أنجاز عملي".
كان هواء الصباح خفيفا صحوا, والشمس تطل بأشعة زاهية في سماء خالية من السحب , وكانت السيارة المرسيدس كبيرة سوداء .
أسترخت هيلين في مقعدها , وقد أدهشها أنها ستستمتع بالرحلة حقا , وما أن غادرا كيرينيا حتى أنضما الى القاقلة , كانت هناك مركبات عديدة من سيارات النقل, والحافلات, والسيارات الخاصة, وبعد تسجيل رقم سيارتهما, أنطلقا في حراسة سيارات جيب يقودها جنود الأمم المتحدة بزيهم الأزرق , وكانت هناك لافتة ضخمة تنبىء المسافرين بأن الأتراك يريدون حريتهم , وأمنهم وحقوقهم , السلام يسود كل شيء , وفيما عدا اللافتات التي تظهر من آن لآخر , والتحذيرات التي تحرم ألتقاط الصور , لم يكن ما يشير الى أن الطريق تحت أي رقابة , ونظرت هيلين الى وجه زوجها , فأذا به هادىء , مطمئن , لا ينم عن أي كراهية لأضطراره ملازمة الطابور الطويل , ممنوعا من أن يسبق ما أمامه.
وتمتمت مأخوذة بالجمال الذي حولها " من المؤسف أن تكون هناك مشكلات , كانت قبرص حقا , جزيرة فينوس الأثيرة بالسحر , ولا مكان للفرقة فيها , وعقب ليون بهدوء :
" أنها ستحل نفسها , فكلنا قبارصة , وليس هناك ما يمنعنا من العيش في سلام".
وتذكرت هيلين أن مشاعره تتجه الى الأتراك , فعجبت لغرابة شخصية هذا الرجل – مرة أخرى ... هذا الذي تزوجته ولا يزال شبه غريب عنها , وما لبثت السيارة أن مضت خلال سلسلة الجبال الشمالية التي كونتها هزات أرضية شديدة , هدمت وشوهت أحواض الطبقات الجيرية الأصلية , وكومتها في كتل رمادية ضخمة , تعلوها حصون سانت هيلاريون , وبوفانيفتو , وكانتارا, وكانت سفوح الجبال مكسوة بأشجار السرو والزيتون , بينما القرية منها تزدان بحشد من الألوان , ألهبها بها , وتفتح ربيع قبرص.
وفي سهل ميسوريا العظيم , كانت الأرض الجرداء العارية التي مرت بها هيلين في طريقها الى كيرينيا – في شهر نوفمبر ( تشرين الثاني) قد تحولت الى طوفان من الخضرة والقمح والشعير , بينما كانت مجموعة كبيرة من الأقحوان ترفع رؤوسها الحمراء الزاهية فوق القمح- من أن لآخر , لتكسر تواتر لونه.
عند لافتة على جانب الطريق تقول : مرحبا بكم الى القطاع الحر , تفرقت القاقلة – وأتخذت كل مركبة وجهتهت – وزاد ليون من سرعته , متجاوزا حميرا عابرة مثقلة بالأحمال , ونسوة فلاحات شدت الى أكتافهن سلالا كبيرة , وبعض درجات بخارية متباعدة , وخلفت السيارة وراءها الماعز على جانب الجبل , والرعاة يعنون بقطعان الأغنام البنية ذات الوبر الطويل.

أمل بيضون 14-08-09 12:17 PM

سألها ليون عندما بلغا مكتبه :
" ماذا ستفعلين؟".
وأوقف السيارة , وأتفت نحوها , مضيفا:
" هل الوقت مبكر لتذهبي الى صديقتك؟"".
فقالت:
" نعم , أرى أن أمكث هنا فترة ... أذا لم يضايقك وجودي ".
وأبتسم لدهشتها , وقال يذكرها :
" أنا أقترحت عليك أن تمكثي".
ودار حول السيارة الى ناحيتها , وزادها دهشة بأن فتح الباب لها قائلا:
"سنتناول القهوة".
فقالت :
" لا داعي للقهوة , فأنا أعرف أنك تود الشروع في العمل".
ولكنه ألح, وكان الرجل الذي أقل هيلين والطفلين من ليماسول موجودا- وأسمه نيوفيلوس- فأبتسم حين قدمه ليون لهيلين , وطلب منها أن تناديه ثيو , وخرج الرجل بأمر من ليونن ثم عاد بعد قليل بالقهوة على صينية , قدحان صغيران , ومع كل منهما كوب ماء مثلج لا بد منه, وجلست هيلين الى جانب الطاولة وليون في الجانب الآخر , أخذ يتأملها بنظرات غريبة , وهي تحتسي قهوتها , وكانت ترتدي ثوبا قطنيا , داكنا , وخاليا من أي زينة, مما أبرز شحوب وجنتيها , قال ليون بما بدا لهيلين أنه لمسة حذر:
"هل ستتسوقين وأنت هنا؟".
وساءلت نفسها ثانية , أتراها كانت أيماءة ألى أن تشتري لنفسها بعض الملابس , قالت:
" لاأحتاج الى شيء".
ثم أسرعت تضيف:
" الطفلان بحاجة الى جوارب , وربما أشتريها لهما أذا تجولت مع ترودي في المدينة".
لم يعقب على ذلك, وبعد لحظات أزاح الصينية الشراب عن مكتبه, وتناول ملفا من أحد الأدراج , لكنه نظر الى هيلين- قبل أن يبدأ في فحص محتوياته – ومد يده فتناول صحيفة, وهم ّ بأن يناولها اياها , وأذ به ينتبه الى أنها باليونانية , فوضعها جانبا على الفور , ثم ناولها صحيفتها المفضلة بالأنكليزية سايبرس ميل.
بعد ساعة ونصف أقلها ثيو بالسيارة الى مسكن ترودي , على أن يعود اليها في الرابعة والنصف , كما أخبرها ليون وهي تغادر المكتب حيث أعترضت قائلة:
" والطفلان؟ أستطيع العودة قبل ذلك في القطار".
فقال:
" لن يصيبهما سوء , أرجو لك يوما لطيفا , ومتعي نفسك".
كان الشارع حيث تسكن ترودي محفوفا بالفيلات البيضاء والبيوت ذات الطابق الواحد , والمباني السكنية , وأشجار السرو والنخيل تنمو في كثير من الحدائق , تعلو وتطل فوق أشجار البرتقال واليوسفي ذات الأوراق اللامعة.
كل الحدائق متألقة بالزهور , في كل مكان , والنباتات المتسلقة تعانق من الشرفات , تلتف حول أعمدة الحديد المطروق , وتنساب الى الأرض .
قالت ترودي معتذرة , أذ خفت الى الباب تستقبل هيلين:
" أضطررت لأغلاق مصاريع النوافذ الخشبية , فالشمس تنال من ألوان كل شيء".
قالت هيلين:
" لم أتعود بعد أن أغلق المصاريع لأصد الشمس , فهذا يبدو غلطا لي".
" أعرف هذا , كنت مثلم في البداية , فالشمس قليلة في أنكلترا , حتى لا نفكر في أغلاق المصاريع بوجهها.
وتقدمتها الى الحجرة المطلة على الواجهة , وكانت آنئذ في الناحية الظليلة , ومصاريع النوافذ مفتوحة , وقالت:
" سنجلس هنا ... أنها ليست في أناقة غرفة الجلوس , ولكنها أطيب هواء في هذا الوقت من النهار".
قالت هيلين وهي تجلس بجوار النافذة:
" أنني أراها أنيقة , وأحب مسكنك هذا".
فقالت ترودي:
" مع أنني لا أتوقع أن يكون شيئا يذكر بالقياس لبيتك".
ودفع شيء في صوتها بحمرة خفيفة الى وجه هيلين , كانت تلك زيارتها الرابعة لبيت ترودي , ولم تدعها بعد الى لابيتوس".
قالت ترودي:
" ماذا تودين أن تشربي؟".
فأجابت هيلين:
" سأتناول شراب البرتقال أذا سمحت".
ودار في خلدها وهي تراقب ترودي أذ أقبلت بالشراب بعد لحظات أنها رشيقة وجميلة , وقالت لنفسها وهي تطلق لذهنها العنان ليعود الى تلك الأيام حين كانت هي وترودي دون العشرين .: أنا أيضا كنت كذلك , كان الفتيان ينجذبون اليهما , فكان بوسعهما أن يختارا , بالنسبة الى هيلين , كان لقاؤها بغريغوري حبا من أول نظرة , وأقبلا يدخران بلهفة ,وتزوجا بعد عامين , وبدا لهيلن- وهي تستعيد الماضي- أن حماس زوجها سرعان ما فتر , ولكنهما أنساقا الى علاقة مريحة , فكانت هيلين سعيدة , أن لم نقل منتشية , وكثيرا ما قيل لها أن هذه الفترة لن تدوم , ورغم أنها شعرت بالتعاسة بعد ضياعها , فقد راضت نفسها , عندما أنجبت طفلها , أتسعت خبرتها وأستمتعت بذلك الأنجاز الرائع الذي لا تشعر به المرأة ألا مع الأمومة , وعندما فقدت هيلين الطفل , تطلعت الى زوجها ليواسيها أملا في أن يقترب منها ثانية – كما كان في البداية- لكن علاقتهما ظلت على حالها , مريحة لكنها غير مثيرة.
أما ترودي فكانت أكثر توفيقا , أذ ظلت وتاسوس متحابين بقدر ما كانا في بداية الزواج , ولم يكن تاسوس يذهب الى أي مكان بدونها بدافع الوفاء , وما كان يشاهد قط في صحبة زملائه الذين يجلسون في مقهى – يلعبون الورق أو النرد , كان كل ما يريده أن يعود الى بيته وزوجته , ويمكث معها.
قالت ترودي وهي تستقر في مواجهتها بجوار النافذة:
" حدثيني عن ليون".
وأضطربت عيناها البنيتان قليلا وهي تضيف في شيء من التردد:
" لم تقولي لي عن زواجكما الا القليل جدا , بل لم تقولي شيئا في الواقع".
وكان هذا حقيقيا , وأرسلت هيلين نظراتها ساهمة الى الطريق ومرت بضع لحظات قبل أن تتكلم , ثم قالت مرتبكة:
" لا بد لي أن أخبرك في وقت ما , فلا بأس أن يكون الآن , فزواجنا أنا وليون من أجل الطفلين".
أختلجت عينا ترودي وهي تتأملها , وقالت:
" الطفلان , تشيبي وفيونا؟".
" أخبرتك أن أباهما مات , وأضطر ليون أن يكفلهما , وسألني أن أبقى في قبرص وأرعاهما , من الواضح أنه ما كان لي أن أعيش في بيته بدون... بدون زواج.... ولذلك....".
وهزت كتفيها , وسرحت نظرتها الى الشارع ثانية.
وأنتظرت ترودي , فأضطرت هيلين الى مواصلة حديثها:
" هذا هو السبب أنني لم أقل لك الكثير عنه , أنه ليس ... ذلك النوع من الزواج".
فهتفت ترودي:
" هذا النوع؟".
قالت هليلن:
" أعني... ليس طبيعيا ".
وأتسعت حدقتا ترودي دهشة , وقالت:
" ماذا تقولين؟".
أستطاعت هيلين أخيرا- وهي ما تزال تجد عناء – أن توضح لها فلما واصلت صديقتها الحملقة فيها غير مصدقة , شابت صوتها رنة تحد وهي تقول:
" كنت تعرفين دائما أنني لن أتزوج ثانية عن حب... كثيرا ما أخبرتك بذلك".
فقالت ترودي مصححة:
" كنت تقولين دائما أنك لن تتزوجي أطلاقا , لذلك أرى أنني معذورة أذا أستنتجت – بعدما تزوجت – أن زواجك عن حب... ويجب القول أنني تصورت في الأمر كله شيئا مستغربا , لأنك كنت مغلقة تماما".
وتناولت كوبها بين أصابعها , وهي تحدق في هيلين مفكرة , ثم أردفت:
" ولذلك لا تعنين بمظهرك ؟ أنا صريحة , بل وقحة أذا شئت , لكنك كنت دائما جذابة جدا , ألا تريدين أن يهواك ليون؟".
قالت هيلين:
" كلا , في الواقع لا أزال على رأي حين مات غريغوري : لن أدع قلبي يتورط ثانية, هذا الزواج يناسبني على ما هو عليه , وأني جادة أذ أقول لا أريد أن أسترعي أنتباه ليون أبدا".
ضحكت ترودي فجأة بشيء من الحرج وقالت:
" كلا , هذا غير ممكن ! أنك تقرأين عن مثل هذه الزيجات, ولكنها لا يمكن أن تحدث في الحياة الواقعية".
وقالت هيلين:
"هذا الزواج حدث. أنا وليون أكثر قليلا من غريبين".
فصاحت ترودي:
" ألم... أبدا؟ لا أصدق, ليس مع قبرصي, أنه ... لا يستطيع أن يعيش هكذا , ما من أحد منهم يستطيع ".
فهزت هيلين كتفها قائلة:
" أعرف كل شيء , عن حياتهم ... لهم علاقات غرامية".
تساءلت ترودي :
" ألا تهتمين؟".
هزت هيلين كتفيها ثانية وقالت:
" لماذا أهتم؟ الزواج- كما قلت- عملية تجارية بحتة , لم يحدث الا لتفادي الأقاويل فحسب, كلا , لا أبالي بما يفعله ليون , ليس لي شأن بحياته الخاصة".
وظلت أسارير ترودي توحي بأنها غير مصدقة , وقالت:
" ولكن... أتعتقدين حقا يا هيلين , أنك تستطيعين الأستمرار هكذا طيلة عمرك؟".
فأجابتها :
" ولم لا؟".
قالت ترودي بأقتناع ثابت:
" مستحيل... ليس مع قبرصي , أنه لا يستطيع!".
" ماذا تعنين بأنه لا يستطيع؟".
" أنه لا يستطيع أن يعيش معك في البيت ولا يكون ... لا يكون طبيعيا".
" قلت لك أن له علاقات غرامية".
فسألتها:
" ما أدراك بهذا؟".
قالت:
" أنه يخرج كل ليلة".
فقالت صديقتها:
" معظم الرجال هنا يخرجون كل ليلة , يقضون وقتهم في المشارب والمنتديات والمطاعم , ليس هناك ما يجزم بأنه مع نساء..".
قالت هيلين:
" أعتقد أنه يقضيها مع نساء".
زت ترودي رأسها في حيرة لعدم الأكتراث البادي في لهجة هيلين وسألتها:
" ألست تبالين حقا؟".
وندت من هيلين زفرة دلت عن نفاذ صبر وقالت:
" أخبرتك أنني لا أجيد سببا للمبالاة , فلا أشعر نحوه بأي عاطفة , أنك تعلمين شعوري نحو الرجال يا ترودي , لن أسمح لنفسي بالتورط عائليا".
" سأقول لك هذا... سواء كانت لديك نية التورط عاطفيا أو لم تكن, فلن تستمري بقية حياتك تعيشين في هذا الوضع غير الطبيعي".
قالت هيلين:
" لا أرى ما يدعو لغير ذلك ".
ولكن صديقتها هزت رأسها قائلة:
" لن يلبث ليون أن ... أن...".
" وعدني , وهو – بجانب هذا- لا يجدني جذابة".
تأملتها ترودي لحظة , ملاحظة ثيابها , وشحوب خديها وتصفيف شعرها المتقشف , ثم سألتها:
" كيف تعلمين أنه لا يراك جذابة؟".
" أنه لا يكاد ينظر اليّ".
وقطبت وهي تقول هذا , متذكرة تلك المناسبات التي كان يتأملها فيها , ثم عادت تقول:
" لقد وعد!".

الراااااااااايقة 14-08-09 11:22 PM

https://up.up-images.com//uploads5/im...89aa2b5de0.gif

أمل بيضون 15-08-09 07:09 PM

وساءلت نفسها , أتراها كانت تحاول أقناع نفسها؟ أضطرت ترودي الى الضحك قائلة:
" وعد؟ أتصدقين حقا أنه سيحافظ على وعده؟".
قالت هيلين:
" أظن أنه موضع ثقة".
وطاف بوجه صديقتها ظل من الرثاء ... ثم قالت:
" ما أقل ما تعرفين , ولو كنت مكانك ما أتكلت كثيرا على وعد كهذا , هؤلاء الرجال الشرقيون على حالهم... أو كما يجعلهم المناخ... أنا متزوجة من أحدهم, وأعرف ... يؤسفني أن أبدد أوهامك , لكنك ترتكبين أكبر أخطاء عمرك أذا ظننت أنك ستبقين زوجك بعيدا ألى ما لا نهاية , ما هكذا خلق الرجال , كما أن هذا ليس طبيعيا لك أو له , كلا يا هيلين , صدقيني – عندما يقرر ليون أن ينتهك هذا الوعد فسينتكهه بدون أي وخز من ضمير".
" ولكن مشاعري ... يجب أن يراعيها".
" كلا يا هيلين , وحق السماء! أنك لست ساذجة , وعندما يؤاتيه المزاج ل..... ل...".
وسكتت وهي تهز كتفيها في ضيق , ولكنها أسترسلت بعد لحظة:
" عندما يحين الوقت , لم يتذكر أنه أعطى وعدا , فيجب أن تعدي نفسك".
ودهشت هيلين أذ وجدت نفسها ترتعد , وقالت في يأس:
" ليون له ملاهيه , ولن يرغبني أبدا".
قالت ترودي ضاحكة :
" ليس لديك دليل حقيقي على أن له ملاهيه ... كما تسمينها , في أية حال , من الأنسب أن يجد ما يريده في متناول يديه وقد لا يشعر دائما برغبة في الخروج".
أشتد تدافع الدم الى وجه هيلين, وقالت:
"أرجوك يا ترودي! أرى أن نغير الموضوع".
وهذا ما فعلتاه , وأنقضت بقية اليوم عل نحو هاديء , وبعد تناول الغداء في الشرفة , ذهبتا الى المدينة.
قالت ترودي وهي توقف سيارتها في شارع جانبي:
" كثير من المتاجر تغلق أبوابها من الساعة الواحدة والنصف الى الثالثة ولكن بعضها تسمر مفتوحة , وسوف نشتري ما نريد...".
أشترت هيلين جوارب الطفلين فقط , بينما أهتمت ترودي بشراء الأغذية , وعندما فرغتا من التسوق , ذهبتا الى مقهى طلبا للمرطبات , وأرتفعت عشرات العيون عن ورق اللعب والنرد لتتأمل الفتاتين بأهتمام , فقالت هيلين:
" أكره هذه المقاهي , لماذا يحملقون هكذا , حتى ليظن أي شخص أنهم لم يروا نساء في حياتهم؟".
فتلفتت ترودي حولها قائلة:
" هل لأن نساءهم لا يرتدن هذه الأماكن , توقعت أن يكونوا ألفوا مجيئنا نحن الأجنبيات , فما أكثرنا هنا , تعالي لنخرج!".
جلستا في الشرفة تتسليان بأحتساء الأوزو وتناول مازة من الزيتون والخيار ومكعبات صغيرة من الكبد والجبن , تذكرت هيلين عناءها الأول في تعود الأطعمة المحلية , وسألتها ترودي في سياق الحديث:
" هل ذهبت الى ماري مونتي ؟".
ألتمعت عينا هيلين وقالت:
" كلا , ولكن روبرت دعاني للذهاب الى هناك معه".
فتساءلت ترودي في فضول :
" روبرت؟ آه ... الشاب الأنكليزي الذي قابلته على السفينة , هل يذهب الى هناك ؟ أنهم يعدون مآكل مدهشة ... من أحسن ما تناولت , هل ستذهبين مع روبرت؟".
" ربما .. في أحدى الأمسيات , فالوحدة تقسو أحيانا , بعد أن أسلم الطفلين للفراش".
فسألتها ترودي :
" هل تستطيعين أن تتركيهما ؟".
أجابت هيلين:
" ستمكث آراتيه معهما".
" أتقولين أن ليون يكون خارج البيت دائما؟".
" ليس دائما , ولكنه يخرج في معظم الأمسيات ".
قالت ترودي :
" سيكون عليك أن تتأنقي قليلا , أذا خرجت مع هذا الروبرت ".
أومأت عيناها بلا أهتمام , فهزت هيلين كتفيها وقالت غير مكترثة :
" ليس لدي ما أتأنق به , لذلك ربما لا أذهب معه".
كان قد بقي – حين عادتا الى المسكن – نصف ساعة قبل مجيء ثيو ليقل هيلين , فأخذتها ترودي الى مخدعا لتريها بعض ثياب جديدة أبتاعتها في زيارتها الأخيرة لمصر , وقالت وهي تخرج بعض الفساتين والتايورات:
" ما زلت أظن أن الملابس الأنكليزية أفضل ما رأيت , ولكن ما رأيك في هذه؟".
وتأملت هيلين الثياب في تقدير , مشيدة بحسن ذوق ترودي.
قالت ترودي معترفة:
" لكنني أخطأت في هذا".
وقدمت ثوبا من التيل الأزرق , كان قصير جدا , فتحة العنق واسعة , وأسترسلت قائلة:
" أنه لا يناسبني أطلاقا , رأيته في نافذة المتجر , وأدركت أنه مقاسي فأشتريته بدون أن أجربه , تاسوس يكرهه".
فقالت هيلين محتجة وهي تتناوله:
" لكنه جميل , أنا متأكدة أنه يناسبك".
ونشرته على جسم ترودي , ثم أضطرت لأن تعترف بأن صديقتها على حق وقالت:
" أنه اللون ... درجة الزرقة تناسبك".
قالت ترودي:
" أنه أقرب الى اللون الملائم لك جربيه؟".
وفهلت هيلين , وسارت بحركة تلقائية الى المرآة , لا شك في ذلك , فقد تغير مظهرها بأكمله , وقالت وهي تضع الثوب على السرير:
" نعم , أنه لوني".
فقالت ترودي :
" بوسعك أن تأخذيه , فهو لا يصلح لي".
" هذا كرم منك يا ترودي , ولكني لا أحلم بأخذه وهو جديد تماما".
تناولته ترودي وعادت تقيسه على هيلين قائلة:
" ما كنت لأقدمه لك لو لم يكن كذلك , أنه يناسبك- يجب أن تأخذيه".
فهزت هيلين رأسها ولكن بضعف , كان الثوب بسيطا , ولكنه حسن الصنع , وأضفى عليها جمالا بالتأكيد , وشرعت تقول:
" لا توجد مناسبة لأرتديه ".
وأسرعت ترودي معترضة:
" تستطيعين أرتداءه في أي وقت ... ما رأيك في أرتدائه حين تخرجين مع صديقك روبرت الى ماريه مونت؟".
قالت:
" الواقع .... أنني لم أقرر نهائيا الذهاب".
كانت تقف على درجات السلم , متأبطة صندوق الثوب , حين جاء ثيو بالسيارة ... وقالت ترودي:
" سأراك الأسبوع القادم , أرجو أن تأتي!".
فقالت هيلين:
"نعم , سآتي , وأشكرك على الثوب , ليتك تدعيني أدفع ثمنه".
" أرجوك , لا تعودي لهذا الجدل ثانية".
فضحكتهيلين ... وما هي الا لحظة , حتى كانت تلوح بيدها لصديقتها من السيارة , وصاحت ترودي:
" مع السلامة".
ثم أردفت بلهجة غامضة غريبة:
" وأتمنى لك أحسن الحظ!".

أمل بيضون 15-08-09 07:33 PM

4- المرأة الأخرى
الهواء مفعم بعبير زهر البرتقال, وأمتدت أشعة الغروب الذهبية الى مرتفعات جبال كيرينيا الوعرة فتوهجت بجمرات النار المحتضرة , والسحب البنفسجية تمخر عباب السماء فوق البحر الشاسع , سرعان ما سقطت الشمس وأقبل الظلام وبدأ ضياء القمر يلمس المويجات الصغيرة , فيحيطها , بتألق فضي.
وقف ليون مستندا الى مدخل الشرفة يسرح البصر في البحر , وألقى برأسه الأسمر الى الوراء , لحقت به هيلين , بعدما أسلمت الطفلين للفراش , فتزحزح جانبا , وبرغم الظلال التي تكسو وجهه , أحست هيلين أنه يبتسم حين مرت خارجة الى الشرفة , وجلسا برهة , ثم مد ليون يده فأنار المكان وسألها:
" ماذا تشربين ؟".
فقالت:
" لا شيء , شكرا".
لكنه دخل البيت , وعاد بأبريق بلوري وكوبين , ولم تجادل هيلين حين ناولها كوبا , ولكنها سألته وهو يجلس:
" ألن تخرج؟".
قل وهو يحدق في عينيها فتتسارع خفقات قلبها:
" لن أخرج الليلة , لماذا؟".
لم يخرج في المساء لمدة أسبوع تقريبا , وأدركت سر أضطراب قلبها , ولماذا كان بداخلها خوف ما , فمنذ أكدت لها ترودي أن ليون سوف ينكث بوعده , أخذت تراقبه وهي تحاول أن تسبر غور كل نظرة , وتأمل في نهاية كل نهار أن يخرج.
تمتمت ملاطفة بدون أن تقصد:
" أنها أمسية جميلة , من الحرام تمضيتها في البيت".
فقال:
" نحن لسنا في البيت".
" ولكنك كنت في المكتب طيلة النهار".
" أجل , وكان الجو حارا رطبا , أذ أختل جهاز التكييف ... أفرغي من شرابك وسنخرج لنتمشى".
كانت الكوب تمس شفتيها , وأذا جسمها يرتعد فجأة – لم يكن هذا ما أرادت ... فعادت تقول:
" أكيد أنك تفضل أن تكون خارج البيت مع ... مع أصدقائك".
فقال:
"لو صح هذا ما كنت هنا".
فزادت كلماته من أضطرابها , وتعجلت أفراغ كوبها , وشعرت برأسها يدور , وبحركة تلقائية , رفعت يدها اليه قائلة:
"أن بي صداعا".
فقال :
" أنا آسف".
كانت لهجته هادئة في مجاملتها , ولكن نبرة قلق داخلتها , ونهض من مقعده قائلا:
" الهواء المنعش سيشفيك , سأخبرك ماذا نفعل, سننطلق في السيارة حتى الشاطىء , ثم نتمشى هناك , وسرعان ما سيزيل النسيم صداعك".
قالت :
" الطفلان ... لا أستطيع تركهما".
فقال:
"سأطلب الى آراتيه أن تمكث حتى نعود".
قالت في ألحاح قانط:
" يحسن أن ألجأ للفراش".
كلا لم تكن تريد أن تذهب للفراش , فأستدركت :
" لعلك على صواب , وأن هواء البحر سيفيدني".
فسألها وهو يتفرس في وجهها الشاحب:
" هل أنت بخير؟ هل تشعرين بشيء غير الصداع؟".
أصطنعت هيلين أبتسامة ونهضت , فأقتربت منه ثم أبتعدت بسرعة قائلة:
"كلا , لا سوء بي يا ليون , أما رأسي .... فأظنني شربت بسرعة ".
قال:
"فعلا , ولست متعودة , كان عليك أن تحترسي".
وما أن أستقرا في السيارة , حتى شعرت هيلين بمزيد من الطمأنينة لحظة على الأقل!.
أوقف ليون السيارة على جانب الطريق , وتركها غير موصدة لأبواب, فقالت وهما يسيران الى الشاطىء:
" أتراها ستكون في أمان؟".
فأجاب بهدوء:
" الناس هنا لا يسرقون ... ولا أعرف أن أحدا يمر من هنا , في أية حال".
وكان على حق , لم يكن على الشاطىء سواهما...
القمر بزغ من وراء السحب , فأرسل خيوطه الفضية عبر البحر , لم يكن هناك صوت , ولا وسوسة الأمواج وهي تترامى الى الشاطىء , لم تر هيلين بحرا بهدوء البحر الأبيض المتوسط , ونسيت مخاوفها وهما يتمشيان وليون يتكلم من آن لآخر بصوت خافت , وكثيرا ما يخلد للصمت , فوجدت هيلين نفسها تهمس:
"يا للسكينة!".
كانت أنكلترا بعيدة جدا , فبدت مأساة حياتها غير واقعية , لو أستطاعت أن تبقي زوجها على مسافة منها , لظلت حياتها سهلة يسيرة ناعمة , من المؤكد أنه ما كلن يجدها جذابة , ولكن عينيه عادتا تحدجانها في اللحظة نفسها , فتطلعت على مضض تقابل نظراته , وسألها:
"هل تحسن رأسك الآن؟".
قالت:
" نعم يا ليون , شكرا".
كانت كلماتها متكلفة , وبدأت تشعر بحرج في حضوره , وأسفت لأنسياقها لذلك الحديث مع ترودي , فكانت مخاوفها- حتى ذلك الحين- مجرد همسات يسهل عليها أستبعادها , أما الآن, فقد أصبحت تلح عليها , وتساءلت : كم سينقضي قبل أن تعود ثقتها في وعد ليون؟ على أنها- في هذه اللحظة – عرفت الطمأنينة وتحرر ذهنها من الخوف , كان السير على الشاطىء الساكن متعة , حتى مع ليون ... طالما يلزم الصمت , ما كانت شواغلها تعاودها الا حين يتكلم , فلم تكن تدري ما سيقوله بصوته الخافت ونبرة القلق التي تشوبه.
قال:
"هناك مقعد على مسافة , نستطيع أن نجلس أذا شئت".
وما لبثا أن بلغاه, وفوجئت بأحدى التصرفات البسيطة التي تدهشها عندما أخرج منديله ونفض الغبار عن المكان حيث ستجلس , وما من شك أن الحفاوة والمجاملة فن لدى القبارصة , ووجدت هيلين في هذا ما يشرح الصدر . فلم تتعرف الى مثل هذه الرعاية من غريغوري أبدا , لذلك أبتسمت لتصرف ليون وشكرته في أكبار , وأنساب من وراء الشريط الساحلي الضيق شذى زهور البرتقال, فأخذت هيلين تنهل الهواء.
قال ليون:
" ليتك تشمين العبير حيث البساتين الكبيرة".
ثم جلس على المقعد المجاور لها , وفجأة قال , بما بدا لهيلين أنه دافع وقتي:
" سأذهب الى فاماغوستا الأسبوع القادم , وأمكث يومين تقريبا , فستجري تعديلات رئيسية أريد أن أشرف عليها , هل تحبين المجىء معي؟".
هتفت:
" أنا؟".
كان روبرت وكثيرون غيره حدثوها عن وقت اليناع في فاماغوستا , حتى القبارصة كانوا يغمضون أعينهم وهم يصفونه , وتمنت هيلين أن تذهب يوما ... لكن فكرة الذهاب مع ليون لم تخطر لها مطلقا لذلك أردفت:
" لست أدري".
وتوقعت أنهما سيزلان في فندق, فأسترسلت:
" لا يمكن ترك الطفلين .. آراتيه تحب أن تنام في بيتها , هكذا أخبرتني مرارا".
فقال مبتسما:
" هذا من أجل زوجها , يستطيع أن يمكث في بيتنا أثناء غيابنا , سيرضي هذا آراتيه , كلا , لا ينبغي أن تقلقي على الطفلين .... لن يتأثرا بغيابنا يومين كما أنني أشعر أنك بحاجة للترويح , كنت قلقا عليك في الفترة الأخيرة".
أتجهت عيناها اليه.. أذن فقد لاحظ , ولكنه لم يدرك الحقيقة , كان مهتما بها , فرأى أن الترويح يفيدها لكنها تذكرت الجانب الآخر من طبيعته , تذكرت أقتناعها السابق أنه يستطيع أن يكون قاسيا.
أنبعث صوته خفيفا ولكنه ملح:
" مما تخافين يا هيلين؟".
وعجبت أيكون أحس بأرتباكها وهو ينتظر أجابتها ؟ وأرتجفت , ثم أغتصبت ضحكة مرتعشة , وقالت:
" خائفة ؟ ما الذي أخافني؟".
فرد برفق:
" هذا ما أسألك عنه , ولا تجيبين".
هزت رأسها , وسرحت ببصرها في البحر تفكر في جواب مقنع ... فلو أنه أدرك الحقيقة...
قالت كاذبة متحاشية عينيه:
" لست خائفة من شيء ".
فقال بهدوئه:
" أذن , لا يوجد ما يبرر عدم صحبتي الى فاماغوستا , سأعطيك بعض النقود لتشتري لنفسك ثيابا".
فهتفت قبل أن تفكر:
"آه , كلا".
ثم أردفت بمزيد من الهدوء:
" لديّ الكثير يا ليون".
فتساءل:
" ما لديك أذن فلا بد أنها متروكة في خزانتك".
أذهلها رده , ثم تذكرت أنه زوجها رغم كل شيء ... من الغريب أنها لم تفكر في نفسها أبدا كزوجة ولذلك لم تكن مستعدة لأن يكلمها على هذا النحو الطبيعي في الظروف العادية , وقالت:
" الثياب الداكنة أكثر ملائمة لمن لديها أطفال تعنى بهم".
قالت ذلك وهي تحاول أن تجد ردا مقنعا.
أرتفع حاجباه قليلا وهو يقول:
" هذه فكرة عفا عليها الزمن!".
أجابته:
" أنني أفضل الثياب الداكنة".
توارى القمر وراء السحب العابرة , لكنها أحست بوجهه يتخذ المظهر الخشن , كما تغير صوته وهو يقول :
"أنا أفضل الثياب الزاهية , سأرى ما عندك , فأذا لم يرق تشترين ثياب جميلة يا هيلين, ألوانها تتماشى مع عينيك وتلقي ظلا عل خديك الشاحبين".
وأخذ قلبها يخفق بشدة , لكن نبرة مبحوحة سرت الى صوته , وأرتجفت وهي تقول لنفسها : لا يمكن أن أكون جذابة له, لكن هذا اليقين خالطه العلم بأن النساء سواء لدى أولئك الشرقيين المشبوبي الرغبة , فقالت محتجة:
" طبعا , يحق لي أرتداء ما أحب!".
قال :
" بل ترتدين ما يسر زوجك".
وسكت عندما أحس بضيقها , وسرت في صوته رنة تلطف وهو يضيف:
" سآخذك الى فندق الملك جورج- وهو خير ما في فاغاموستا – وأود أن أفخر بك – سنلتقي ببعض زملاء عمل لي".
أذن كان هذا هو السبب! وأسترخى جسمها , وندت زفرة أرتياح ولامت نفسها على مخاوفها , فما كان في نبرات صوته الرقيقة ما ينم عن رغبة- ما أغباها! وكل هذا لأنها أخذت كلمات ترودي بجدية بالغة وبدأ ذهنها يميل لفكرة قضاء أيام قلائل في فاماغوستا , على سبيل التغيير – كما قال ليون .
بالرغم من تعلقها بالطفلين كانا مسؤولية ثقيلة وكانا يفيضان في بعض الأوقات , وجهد العناية بهما تغيير كامل عن الحياة التي تعودتها , وغالبا ما شعرت بأرهاق ولعل هذا زاد أهمالها بمظهرها – قالت:
" متى سيكون سفرنا؟".
وأدهشها أنها تنتظر أجابة بلهفة – فقال:
"" حوالي نها ية الأسبوع المقبل ... ربما يوم الجمعة , لنعود يوم الأحد أو الأثنين , حسب تقدم العمل".
فتمتمت في قلق:
" أتظن أن تشيبي وفيونا سيكونان بخير ؟ لن يرتاحا لفكرة غيابنا عن البيت".
" بالتأكيد سيكونان بخير , لن يحدث شيء مع آراتيه ونيكوس, أما من حيث عدم أرتياحهما لغيابنا , فيجب أن يتعوداه , أذ قد أصطحبك مرة أخرى الى بافوس , فأنني أتدبر شراء أرض هناك".
قالت مقترحة :
" يمكننا أن نصطحبهما معنا".
كانت تدرك أن الطفلين سيحبان ذلك , ولدهشتها قال موافقا:
" سنفعل يوما... سوف نحظى – في وقت لاحق- بعطلة للترويح كأسرة".
أكفهر وجه هيلين للحظة عابرة .. كانت كلما رأت أسرة تتنزه , أو تقضي عطلتها , أو حتى تتسوق , شعرت بالفراغ الفظيع الذي عانت منه بعدما فقدت زوجها , وأبنها, لذلك , تحمست لفكرة ليون , وقالت وهي غير واعيى للضراعة في صوتها:
" ألا نستطيع أخذهما هذه المرة؟".
ولكن ليون قال بحزم قاطع:
" ليس في هذه المرة يا عزيزتي , فهذه الرحلة تغيير لرتابة حياتك كما قلت , ولن يكون ثمة تغيير ولا راحة أذا أصطحبنا هذين الوغدين".
ولم تجادل أذ كانت تعرف هذه اللهجة , وأرتاحت في مقعدها تسرح بصرها في البحر , شذى الزهور البرية ينساب على أنسام الجبل, ليمتزج بعبير زهور البرتقال القوي – وتمتمت:
" لا وقت كالربيع!".
فقال ليون:
" له بهجة خاصة , لكنه لسوء الحظ قصير جدا , بينما الصيف طويل أما شتاؤنا – أذا جاز تسميته كذلك , فهو محدود كما تعرفين".

غداف 17-08-09 09:15 AM

مشكوره وياليت تكمليها

أمل بيضون 17-08-09 12:11 PM

في أقل من أربعة أشهر رأت تعاقب الخريف والشتاء , وها هو ذا الربيع , وستكون بقية العام صيفا بشمس متألقة وسماء صاحية.
بدأت نسمة باردة تهب من البحر , فألتفت ليون متسائلا :
" أنعود للسيارة؟".
كان الوقت مبكرا بعد , وبرغم زهد هيلين السابق في الخروج , لم تعد ترغب في تعجيل العودة ... وألتفت اليه مبتسمة وقالت:
" هل نستطيع البقاء فترة أخرى؟".
فقال:
" ما لم تكوني تشعرين ببرد".
ثم أردف بحزم فجائي:
"كلا ... أنك تتعرضين للبرد , هيا , لنتخذ طريقنا عائدين للسيارة".
لكن في طريق العودة , جنح بالسيارة الى مقهى أبيض غير مرتفع تألقت فيه أضواء ملونة , وشرفته الطويلة الواسعة تقابل البحر , وكان بعض الأنكليز يجلسون الى المائدة التي قادها اليها , وسرعان ما أبتسموا مرحبين وتحرك شاب بخفة ليحضر مقعدين .
" ما أطيب أن نرك يا ليون , أستنتجنا جميعا أنك في سبات منذ زواجك".
كان المتكلم شديد السمرة , ملتحيا , وأدركت هيلين- حتى قبل أن يخبرها ليون – أنه فنان ... فقد قال ليون وهو يضحك :
" لم يلق تكريما بعد , ولكنه سيحظى به... فهو موفق , وسوف يضع أسم لابيتوس على الخريطة يوما".
فصاح شاب آخر في أستياء :
" أن أسم لابيتوس على الخريطة ".
وتحول الى هيلين قائلا:
" لدينا هنا مجموعة صغيرة لطيفة من الفنانين , من المحتمل أنك تعرفين؟".
فأبتسمت هيلين وقالت:
" سمعت بهم ... قابلت أحدهم على السفينة عند قدومي".
" أجل , روبرت ! أنه كثيرا ما يتكلم عنك , أنه موفق الآن , وصوره في كل المتاجر الهدايا بالجزيرة , نعم , أنه والله ذكرك .. ويكن لك أعجابا كبيرا".
شاعت في وجه هيلين أبتسامة سعيدة , وتحولت تلقائيا نحو زوجها فأذا الأبتسامة على شفتيها , ترى ما الذي فعلته , كان وجهه مكفهرا ومتجهما , وأسرعت تشيح بصرها , بينما أحضر الساقي المبتسم الشراب ورفعت رأسها بتعاسة , وقد حيرها مسلك زوجها , ورد فعلها أزاءه , غضب وتجهم كثيرا في الماضي , فلماذا تأخذ ما طرأ عليه جديا هذه المرة؟ وسرعان ما أقبل آخرون , وحصل التعارف , وسيطر المرح على الجميع . وكانت النسوة يرشقن هيلين بنظرات جانبية , فأدركت أنهن يعجبن بما أعجب ليون بيترو – ومما زاد حيرتها أنه مشهور بكراهية النساء , لكنه أذا أحب أن يقع في غرام أمرأة فاتنة لا يقوى على مقاومتها ... كانت هيلين تقرأ أفكارهن بدون عناء , ثم فاجأت عيني زوجها ترمقانها بأنتقاد , فخيل أليها أنه يخجل من عدم أهتمامها بأناقتها , لماذا أحضرها لتلتقي بأصدقائه؟ ولمحته يبتسم فجأة , فأذا قلبها- بلا مبرر تعرفه- يقفز منتعشا , وعادت طيلة الساعة التالية مغتبطة كأي شخص ممن حولها , وقد نسيت مظهرها وأخذت تحادث فيل عن أعماله الفنية.
قال بعدما أخبرها عن أعمال روبرت:
" يقول روبرت أنك ترسمين؟".
قالت وهي تتورد عندما سكت كل الحاضرين متشوقين:
" رسومي ليست جيدة , فلم ألتحق بمدرسة للفن , ولا تلقيت أية أرشادات".
قال جيري مؤكدا :
" الفنان الصادق يرسم بوحي من قلبه".
هو الآخر يقيم في لابيتوس ويعمل في نيقوسيا , وأقامته في الجزيرة مهددة , أذ كان على مخدومه أن يطلب ترخيصا له بالعمل كل ستة أشهر , وكان موقنا بأن طلبه سيرفض ذات يوم , وعاد يقول:
" لا بد أن ترينا أنتاجك يا هيلين , فكل منا يهتم بالآخر هنا".
قال ليون رافعا كوبه الى شفتيه :
" أنا لم أر شيئا منه بعد , أظن زوجتي فنانة خجول ".
فقالت بضحكة صغيرة:
" لم أرسم شيئا منذ مجيئي , لم تسنح لي الظروف".
فهز فيل أصبعه لها محذرا , وهو يقول:
" هل يشغلك طيلة الوقت؟ هؤلاء القبارصة ممتازون في أستبقاء زوجاتهم تحت...".
وأدار أصبعه نحو الأرض , ففتح ليون فمه ليحتج , ثم رأى أن يضحك وأسترسل فيل :
"لا تخدعي يا هيلين , فزوجك يختلف تماما عنا معشر المعوزين , يستطيع أن يحيطك بدستة من الخدم أذا شاء".
وعقبت هيلين:
" ولكنني لن أجد ما أفعله عندئذ ولن ألبث أن أضجر ".
ولمحت أسارير أحدى النساء , فقرأت أفكارها مرة أخرى :
" أتضجرين ؟ ومعك زوج مثل ليون؟".
وتناولت كوبها تتأمله وهي تتبين بصر المرأة مثبتا على وجه ليون الأسمر , كانت المرأة تغبطها , فمن تكون؟ أحست هيلين- وهي تتعرف عليها – ببغضاء خفية تتوارى تحت أبتسامتها , ولكنها أستبعدت الفكرة حتى عندما فوجئت بنذير سوء ينبعث من عينيها , أما الآن , فمن تكون؟ وأخلدت للصمت تصغي محاولة أن تعرف شيئا عنها , وكان كل ما أستخلصت أن المرأة سمسارة **** في نيقوسيا , على أنها – في وقت لاحق- علمت مزيدا , فأكتشفت سر عداوة بولا الظاهرة لها.
أنفض القوم , وبدأت السيارة تنطلق , وذهب ليون الى سيارته , متوقعا أن تتبعه هيلين , لكن بولا هي التي تبعته , بينما تلكأت هيلين على الدرجات , تراقبهما لعلهما كانا يتكلمان في الأعمال , لكن فيل جذب كمه قائلا:
" ربما لا يكون من اللياقة أن أقول , لا تطمئني الى هذه.... كانت وليون ... لنقل صديقين على الأقل , وبرغم كل الشائعات أنه لا يفكر في الزواج , كانت تأمل في أن تصبح يوما السيدة بيترو , ولا داعي لوصف شعورها حين سمعت أنه تزوج سواها ".
وترك كمها – أذ ألتفت ليون متوقعا أن يراها قريبة منه- ثم أردف :
"أعرف أن هذا لا يعنيني , وأنك ربما تظنينني أتكلم فيما لا يخصني , لكنك لطيفة , وهي أمرأة معدومة الضمير , وأن كانت ذات جاذبية للرجال ....أعني بعض الرجال ".
ودفعها لتواصل الهبوط , وهو يقول:
" يحسن أن تنطلقي , فليون ينتظر , ولكن .... أحذري بولا ماكسويل !".

أمل بيضون 17-08-09 12:12 PM

أجل أضفى عليها الثوب جمالا , وأبتعدت هيلين عن المرآة , لتتملى شكلها , كانت ذراعاها عاريتين , وكشف صدر الثوب عن نحرها الجميل ولمع شعرها الأشقر متهدلا فوق كتفيها في موجات غير مكتملة , لكن الثوب كان قصيرا , فظهر حسن قوامها , وكان حذاؤها من الجلد الأزرق اللين مثبتا بحزام مزخرف داكن اللون , ووضعت هيلين شالها على كتفيها , ثم تناولت حقيبتها المسائية , وخرجت وأخذت تهبط التل نحو القرية , ولم تبتعد كثيرا قبل أن تقف الى جوارها سيارة روبرت.
قال روبرت:
" في الموعد تماما ... ألست بنتا شاطرة؟".
فسألته وهي تستريح في جلستها :
" كم يبعد هذا المكان ؟".
قال وهو يتجاوز أنحناء الطريق , ويزيد السرعة :
" ليس بعيدا جدا , ألم تذهبي اليه بعد ؟ كنت أظن أن ليون أصطحبك الى ماريه مونت , فكل شخص يذهب الى هناك . كل الأنكليز يجتمعون هناك , وفي أماكن أخرى طبعا , لكن هذا المكان بالذات مفضل للأنكليز , وفي يوم السبت سهرة عظيمة , لكم يسرني أنك أستطعت المجيء".
قالت ورنة قلق تسري بدون قصد الى صوتها:
" يجب أن نعود في الساعة الحادية عشرة على الأكثر , سيعود ليون حوالي الحادية عشرة والنصف".
فقال:
"سنعود , فلا تخافي ".
وصممت لحظة في فضول:
" ما الذي جعلك تتصلين بي هاتفيا ؟ تصورت أنك لا تريدين أية علاقة بي, بعدما رفضت دعوتي لأقلك الى المدينة ذلك الأسبوع".
أمتقع وجهها وقالت:
" أوضحت لك أن ليون لم يرتح للفكرة".
فعاد يسأل:
" والآن ؟... لماذا أتصلت بي؟".
كانا منطلقين على طريق الشاطىء , والبحر يلتمع تحت ضوء القمر , وتذكرت هيلين تلك الأمسية حين جلست مع ليون على مقعد هناك, ثم أصطحبها الى المقهى ... وألتقت ببولا مكسويل , وفي اليوم التالي زارت هيلين ترودي وخرجتا معا لتشتري هيلين ثيابا لرحلة فاماغوستا , وأستقلتا الحافلة , ثم سارتا قليلا وأثناء مرورهما بالهيلتون , أبصرت هيلين بولا في سيارة ليون وهي تتجه الى الفناء الخارجي , ثم دخلت بولا وليون الفندق , لعلهما جاءا للغداء , وكان رد الفعل المباشر لوخزة الألم أن تساءلت هيلين: " لماذا تهتم؟ ألم تكن تعرف أن لزوجها علاقات بنساء؟ أليس هذا هو ما أرادته؟ أن يرضي نفسه لئلا يطالبها بشيء؟".
ولكن الأمر كان مختلفا والنسوة مجهولات لها , أما أن تلتقي بأحداهن , ثم تراها مع ليون , ولم تستطع أن تشهق خشية أن تسألها ترودي , ظلت طيلة الأصيل تشعر بتعاسة لم يكن لها مبرر, حتى أذا وافاها زوجها في النهاية ليصحبها , أضطرت لأغتصاب الأبتسام وتجاهل أن بولا كانت – قبل ساعات قليلة – في السيارة , تجلس في المقعد نفسه.
وتساءلت :" بأي حق أعترض؟ لكنها لم تكن تعترض , فما كانت تعبأ .
قالت أخيرا , تجيب عن تساؤل روبرت:
" أنما شعرت برغبة في أمسية خارج الدار , فالجلوس فيها وحيدة يثير الملل ".
قال:
" ألا يمكث ليون في البيت أبدا؟".
وبدون أن يمهلها لتجيب , أردف:
" هذا عيب الرجال هنا, كلهم يخرجون – كل مساء – ليجلسوا في المقاهي يتحدثون مع أصدقائهم الرجال , جو الأسرة المعهود في أنكلترا شيء لن تعرفيه هنا , ولكن , هكذا أنتن يا نساء , تقعن في هوى الرجل الأسمر المغازل – لماذا يا ألهي , لماذا ولدت بشعر كهذا؟".
وأضطرت هيلين للضحك , وظلت تضحك طيلة الأمسية , متظاهرة بالمرح , كان في دخيلتها فراغ غريب , عرفته فيما مضى , ولكنها شعرت به لأول مرة منذ مجيئها الى قبرص.
سرها أن حان الوقت للأنصراف , وتمنت- وهما يمضيان في الطريق- لو أنها لم تأت , وفي منتصف الطريق تقريبا , شعرت برجة , وهتف روبرت:
" يا للعنة! شيء خرق أطار عجلة".
أضطرب قلبها وقالت:
" هل يستغرق أصلاحها طويلا؟".
فقال :
" لا أصلحها , بل أبدل الأطار".
خرجا وفحصا الأطار , روبرت بصبر نافذ وهيلين بجزع – لو وصل ليون الى البيت قبلها .... لماذا تخاف؟ ... وآراتيه مع الطفلين , كان العمل في الظلام مربكا , وروبرت يلقى عناء كبيرا , فراح يسب من آن لآخر وهيلين تقف بأعصاب متوترة وخفقات قلبها تزداد كلما مرت لحظة , ونظرت في ساعى السيارة , فأذا بها تشير للحادية عشر وخمس وعشرين دقيقة .
قالت والسيارة تتسلق الدرب الصخري المؤدي الى البيت أخيرا:
" سأهبط هنا , قف يا روبرت".
فقال:
" لن أتركك هنا في الظلام , في هذا الوقت من الليل ... الآن حدث الضرر , وأذا قدر أن ينشب شجار , فسيحدث سواء نقلتك حتى البيت أو لم أنقلك , وأن كنت لا أعتقد أن من حقه أن يشكو, ما دام يسهر خارج البيت دائما".
ومضى بها- برغم رجائها الملح- حتى باب البيت , فأذا ليون يقف على قمة الدرجات , ووجهه – برغم العتمة- يحمل تعبيرا قاتلا.
قال روبرت وقد بدأت تصعد الدرجات:
" طابت ليلتك يا هيلين".
وألتفتت لترد التحية , فأذا صوتها مختنق حتى شعرت أنه لا يمكن أن يكون سمعها , وأفسح لها ليون لتمر , بدون كلمة, حتى أذا صارا في البهو , ألتفتت وفتحت فمها لتوضح ما جرى لعجلة السيارة , ولكن الكلمات أنحشرت في حلقها لفرط الخوف , لماذا تخاف هكذا؟ وبأي حق وقف يرمقها وقد بدا متأهبا لأن يقتلها , تكلم بصوت خافت , فسألها أين كانت....
قالت:
" لقد ذهبنا الى ... الى ماريه مونت ... وعطبت أحدى العجلات...".
وأفلت الدثار من أصابعها المرتجفة فسقط , ووقفت وهي ترتدي الثوب الذي أعطتها أياه ترودي , وهم ليون أن يعلق على أيضاحها لكنه سكت وعيناه الحادتان تلمان بها , وتتأملان بدقة ذراعيها العاريتين , نحرها المكشوف , شعرها الذهبي الفاتن الذي أفلت بفعل الريح أثناء أنتظارها في الطريق , كانت وجنتاها عابقتين وشفتاها منفرجتين في قوس ناعم رقيق , وهبطت نظراته الى ذيل ثوبها وتوقفتا , فلما رفعهما أخيرا الى وجهها ثانية , كان في أغوارهما القاتمة شيء أفزعها أكثر مما أفزعتها أساريره القاتلة حين غادرت السيارة , وحاولت أن تتخلص من الخوف الذي سد حلقها , وأن تتكلم, لكنها- بدلا من ذلك – أنحنت فألتقطت دثارها , لكنه أخذه وطوح به الى مقعد , وشهقت متلفتة حولها وكأنها تبحث عن مهرب , هامسة:
" يا ألهي , أنه ليس في طور أنساني".
وهتفت بصوت مختنق , وهي تساءل نفسها أكان الذعر في عينيها ظاهرا كما كان في صوتها :
" ليون , أن .... أن لي الحق في الخروج".
قطع عليها الحديث بصوت ناعم :
" هل تتركين الطفلين وحدهما في البيت؟".
ونسيت ذعرها في لهفتها على الطفلين , وقالت:
" ليسا وحيدين ... قلت لآراتيه .... لا بد أنها مكثت ..".
قال :
" أنصرفت آراتيه في موعدها المعتاد ... وهي تحسبك في البيت".
وبدت نظراتها حائرة وهي تقول:
"سألتها أن تمكث ... ما كنت لأغادرهما وحيدين أبدا وأنك لتعلم".
" الواضح أن آراتيه أساءت فهم ما أبلغتها ... أنك تعرفين جدا صعوبة فهمها للأنكليزية ".
قالت هيلين حائرة :
" بدا أنها فهمت .. كيف علمت بأنصرافها في موعدها المعتاد؟".
قال :
" عدت الى البيت في الساعة التاسعة وكان كوخها مضاء حين مررت به , ورأيتها فيه".
وسكت لحظة ,وأشتبكت نظراتها بنظراته , ثم أستأنف :
" عندما لم أجدك هنا , كان طبيعيا أن أتساءل عما جرى , كان الطفلان مستيقظين ., لكنهما لم يستطيعا أن يخبراني أين كنت ., فذهبت الى آراتيه , ولم تكن لديها هي الأخرى فكرة عن مكانك".
شيء واحد علق في ذهنها: عاد ليون في التاسعة , لماذا عاد مبكرا بعدما أخبرها أنه سيتأخر؟ أعتقدت أنه كان في نيقوسيا يقضي السهرة مع بولا , ولكن هل يحتمل أنه فضّل البيت؟ وبدافع غريزي تقدمت منه , وحدّقت في وجهه بتساؤل وقالت:
" لو عرفت أنك ستعود مبكرا ليون , لما خرجت".
بادر قائلا:
" هذا واضح".
وعادت عيناه تطوفان بقوامها الجميل , ثم عاد الوميض المتأجج الى أعماقهما , وسألها بخشونة:
" كم مرة تفعلين هذا؟".
أسرعت تقول:
" هذه أول مرة".
" لا تكذبي , لا تقفي هكذا وتكذبي عليّ ! كم مرة خرجت مع هذا الرجل؟".
عادت ترتجف , ولكنها جاهدت ليظل صوتها ثابتا , وقالت:
" أنها المرة الأولى , في أية حال من حقي أن أخرج".
قال:
" هل من حقك أن تخرجي مع رجال؟".
وبرغم خوفها , أرتفعت ذقنها بشمم وقالت:
" رجال؟ أنما ذهبت مع روبرت لأن ... لأن ...".
لم تجد كلمات لتخبره بأنها ظنته مع بولا ؟ ولكنها قالت:
" لأن بقائي وحيدة هنا لا يسر ... فأنت تخرج كل مساء تقريبا يا ليون ".
لماذا التذلل؟ لم تخبره بأن من حقها أن تسري عن نفسها ؟ أنها ليست طفلة حتى يسألها عن غدواتها ورواحها , لذلك أردفت:
" سأخرج كلما راق لي , ولا تستطيع أن تمنعني".
رباه ما هذا الذي قالته ؟ لماذا لم تلزم الحذر؟ أنحسر الدم عن وجهها تقريبا , وحاولت أن تهرب أذ تقدم نحوها بخطوة سريعة , ولكن ساقيها خذلتاها , ووجدت نفسها في عناق يهشم القلوع بلا رحمة , وقال:
" هل ستخرجين حين يروق لك , مع الرجال؟ ستتأنقين لأجلهم ؟ وتبدين جذابة , أما لي , فستبدين دائما كعجوز قريوية شمطاء".
"أرجوك يا ليون , أنك لا تفهم , لم أحاول أن أبدو جذابة لأي سبب ألا ...".
" ألا أن توقظي الرغبة في صديقك؟".
كان وجهه قريبا من وجهها , رهيبا كجذوتي النار اللتين تجلتا في عينيه , فلم يداخلها شك في نواياه , وأردف:
" نجحت في أيقاظ الرغبة في زوجك , وستتحملين العواقب".
فناضلت قسوته ولكنها بعد برهة أستلقت مستسلمة تبكي بصوت خافت , وأمسك بها على مسافة منه أخيرا , فلاحظ الدموع على خديها , مفاجأة هجومه والخوف الذي تملكها جعلا كل عصب في جسمها يرتعش , وتذكرت ما قاله من أن القبارصة يهتمون بنسائهم ويعتزون بهن , فتبادرت الدموع الى عينيها ثانية , وحملق فيها والدموع تلمع على أهدابها ثم تنحدر على وجهها , كان لمرآها باكية تأثير عجيب عليه فأذا كل غضب وضراوة يتلاشيان فجأة , ومر بأصبعه على وجنتيها يمحو دموعها بحركة حنون , وهتف:
" لا تبكي يا هيلين!".
كأنه يمحو قسوته منذ لحظة , وأذهلها تصرفه , ولكنه بعث فيها أملا , فلما أفلتها أخيرا , تطلعت اليه وقالت:
" ما أحسبك ... ستخرج عن وعدك يا ليون؟".
سيطر صمت طويل , وأشتد سواد عينيه وقد أستقرتا على وجهها ورأسها على الأرض , فأجاب برفق:
" أنك زوجتي يا هيلين!".
وغشيتها مرارة طاغية , صحيح أن القبرصي لا يستطيع أن يعيش بدون أمرأة ... وأية أمرأة ترضيه.

غداف 18-08-09 05:49 PM

مشكوره علي الروايه وياريت تكمليها

أمل بيضون 19-08-09 05:48 PM

5- دعني وشأني
نظر الطفلان بوجوم وهيلين تغلق حقيبة ثيابها فيستعصي عليها أحد القفلين:
" كم ستغيبان؟".
وبدت لمحة من السرور في عيني , وقالت:
" ثلاثة أيام على الأكثر , أبتسم أيها السخيف ... أن من يراك يتصور أننا سنغيب شهرا".
قالت فيونا متذمرة:
" ثلاثة أيام مدة طويلة , ليس هذا عدلا , لم لا نصحبكما؟".
" لأن العمة هيلين تريد أن ترتاح , أخرجا الآن وأتركاها تحزم متاعها".
كان ليون يقف باباب ... فقالت فيونا في أغراء:
"هل من الممكن أن نصحبكما يا عمي ليون ؟ سنكون مؤدبين تماما".
فقال متعجبا يقطع ألحاحهما:
" سنأخذكما في وقت آخر ".
وعندها رأيا أسارير ليون تتبدل , أطاعا على الفور , وأنحنى ليون يتبين ما بالقفل , فلمست أصابعه القوية السمراء أصابعها , وأذا بها تنتزع يدها , وزم فمه وأعتدل , ثم تناول يديها متعمدا وأمسكها بقبضة قوية , قال مهتكما وعيناه تتأملان أصابعها الرشيقة:
" لا شك أنك تفضلين الرجال الأنكليز , ولكنك- لسوء الحظ- تزوجت مني".
فردت هيلين:
" لسوء الحظ ".
وجاهدت لتخلص يديها ولكن الضغط الفولاذي أشتد وجذبها اليه , فقالت:
" هل يجب أن أذهب معك الى فاماغوستا ؟ الطفلان مستاءان ".
أحنى رأسه الأسمر قائلا:
"قلت أنهما لا يصيبهما أذى , نعم يا هيلين, يجب أن تأتي معي".
" ألا تستطيع الأستغناء عن أمرأة لثلاثة أيام؟ أي صنف من الرجال أنت؟".
قال:
" أظن من حقي أن أتوقع مرافقة زوجتي حين أسافر".
كان صوته خافتا , لكن وميضا خطرا لمع في عينيه , وأمتدت خطوط الغضب البيضاء من أنفه الى فمه , وقال :
" تبدين مقتنعة بمعرفتك سبب رغبتي أن تكوني معي".
وحاولت أن تسحب يدها , فأفلحت هذه المرة, لكن أصابع ليون أنزلقت على ذراعيها وأمسكت كتفيها , قال محذرا وعيناه تتقدان:
" أحترسي يا هيلين... من أجل صالحك".
كان وجهه قريبا من وجهها , نحيلا وفظا , ومات الرد على شفتيها فلا معنى لأن تجازف بالتعرض لهياجه , كما حدث منذ ليل, ثم أفلتها , وسألها:
" هل فرغت من حزم أمتعتك؟".
قالت ببرود:
" كل ما أحتاج اليه في الحقيبة".
وخطت الى الشرفة , فأذا مشهد البحر والسماء يبعثان السكينة , كان من الممكن أن تنسجم – قبل أسبوع وما يزيد قليلا- مع الهدوء , أما الآن , فالأضطاب الداخلي يجعلها تتساءل:
" الى متى تستطيع الأحتمال ؟ وثقت به تماما حين قال- عندما خطبها- أنه لن يضايقها , ولم تتصور لحظة أن ينتهك وعده , ولكنه أنتهكه , وبدون أي تعليع أو أعتذار , لم يظهر من المشاعر سوى الرغبة.
قال ليون وهو يقف بجوارها :
" هل حزمت كل الثياب التي أشتريتها؟".
فتطلعت اليه , ولاحظت نثار الشيب في سوالفه أكثر ظهورا وقالت:
" هل حزمت ما أمرت بحزمه ... لن أكسفك يا ليون".
وساد الصمت برهة , ثم تحول ليون لينصرف , ولكنه عاد وقال بصوت خافت لكنه كزمجرة حيوان يتأهب للأنقضاض:
" أنذرتك بأن تحذري , ولو أغفلت هذا التحذير , فستتحملين الثمن".
وتركها وأصابعها المرتجفة على السياج , وعيناها تحدقان غائمتين في الخط الفاصل بين البحر الفيروزي الداكن , والسماء الأنقى زرقة.
أنطلقا بمجرد ذهاب الطفلين الى المدرسة , كان الصباح بهي الأشراق , ومنظر الجبال تبدل مع كل أنحناءة في الطريق , وما أن بلغا العاصمة وأجتازاها , حتى مضيا عبر السهل في الطريق المستقيمة الطويلة , عابرين بمناطق سكنية صغيرة, لا تتجاوز أحيانا مجموعة من الأكواخ الطينية تتناثر هنا وهناك بلا تنسيق , وقال ليون وعيناه لا تبرحان الطريق:
" سنذهب رأسا الى الفندق , ثم أصحبك الى المدينة القديمة".
ألقت هيلين نظرة على جانب وجهه , ثم ألتفتت تواصل تأمل الطبيعة , وأستأنف كلامه:
" تقولين أنك لم تزوري المدينة القديمة أبدا؟ أنها غاية في الجمال , لها جو أعتبره فريدا".
قالت بصوت جامد:
" سمعت عن جمالها".
وألتفت لحظة ينظر اليها , فواصلت أرسال بصرها خارج النافذة وسألها على غير توقع , وهو يحول عينيه الى الطريق :
" هل تكرهينني يا هيلين ؟ كنا سعيدين في شكل معقول قبل .... قبل...".
فقالت:
" قبل أن تتخذ مني متعة ؟ نعم يا ليون , كنا موفقين , وكان من الممكن أن يستمر هذا".
فمسّت حافة فمه المتصلب أبتسامة مريرة باهتة , وقال:
" أتظنين ذلك؟ وأنت يا هيلين , هل كنت تقنعين بهذا النوع من الحياة؟".
" عرفت أنني ما نويت السماح لأحاسيسي بالتورط ... أفهمتك هذا يوم حدثتك عن غريغوري وكيف خذلني".
" لم تجيبي عن سؤالي , الرجال بشر , والنساء أيضا".
قالت:
" النساء مختلفات , لا سيما الأنكليزيات".
فرد بمرارة:
" لا حاجة بك لأن تخبريني بهذا".
ثم أردف:
"ولكنني لا أزال أقول أنهن بشر , سواء كنّ باردات أو غير باردات , ألن تجيبي عن سؤالي؟".
قالت:
" لا يمكن أن أحلم بالأنغماس في المعاشرة لمجرد الت**** ".
فقال:
" ما زلت تراوغينني".
وأنحرف ليتفادى عجوزا مسربلة بالسواد, أنحنى جسمها تحت سلة كبيرة ربطت الى ظهرها , ثم أستأنف حديثه :
" أنني أعترض على مصطلح الت**** يا هيلين , فأرجو ألا تستعمليه ثانية".
" أنك تشير قطعا الى أنني مخطئة في أستنتاجي , وهو أنك تستغلني لمتعة مزاجك".
وأنذرها تهدج أنفاسه الى فورة طارئة من الغضب وقال:
" قلت لا تستعملي هذا المصطلح".
فقالت متهكمة:
"أنك مليء بالمفاجآت يا ليون ... ما كان ينبغي أن أتوقع منك الأعتراض على فظاظة المصطلح".
فقال:
"يريحني أن أسمعك تقرين بفظاظته , كنت قد بدأت أعجب من سذاجتك الفجة , فهي لا تناسبك يا هيلين ".
وأقبلا على أكثر أجزاء فاروشا شعبية , عابرين خلال شوارع محفوفة بالمنازل والفيلات البيضاء , لكل منها حديقتها الساحرة المتألقة بألوان زهورها , وكان عبير زهور البرتقال يهب خلال نافذة السيارة المفتوحة , قالت:
" أطراؤك يحيرني".
أجابها أن التهكم لا يناسبك , أرجو أن تتفاديه".
وألتفتت بسرعة وحمرة الغضب على وجنتيها وقالت:
" ألا يسمح لي حتى بحرية الكلام؟".
أجاب:
" لك الحرية طالما أنك لا تقصدين أهانتي".
ولم يتبادلا كلمة حتى بلغا الفندق , ونقلت أمتعتها الى حجرتها فأذا مصاريع النوافذ مغلقة أتقاء للشمس , ففتحتهما هيلين على الفور قائلة وهي تخرج الى الشرفة:
" لماذا يغلقونها؟".
كان الأمتداد الأزرق الشاسع للبحر الأبيض المتوسط يترامى أمامها وتحت الشرفة مباشرة تمتد الرمال الذهبية , وأدركت أن زوجها يقف بجوارها قائلا:
" أنها العادة .... لم تألفي عاداتنا بعد".
عادة! كانت عادة أيضا أن يعامل الرجال زوجاتهم كأنهن ممتلكات , وتلفتت فأذا بالحجرة فراش لأثنين أهو الذي طلب ذلك؟ قيل أنها القاعدة في أحسن الفنادق أن تجهز الغرفة بسريرن منفصلين , فقالت وفي صوتها رنة أغتمام مفاجئة:
" يحسن أن أخرج ثيابي".
ولكن ليون لم يتزحزح ليفسح لها مخرجا , فأستدارت وأستندت الى السياج تحدق في البحر ساهمة , وأحست بذراعيه يطوقانها فتيبست ولا بد أنه أدرك ما يخالجها , ولكنه قال:
" من الممكن أن يكون هذا شهر عسلنا يا هيلين".
فردت:
" شهر العسل للعشاق".
قال :
" وهذا ما أعنيه".
وأزاحته وفرّت داخل الغرفة , صائحة:
" ألا تستطيع أن تدعني وشأني؟ هل يجب عليّ أن أعاني منك ليلا نهارا؟".
وأنفرجت شفتاه الشاحبتان , ووقف كالمصعوق لكنه تمالك نفسه في الحال , وتقدم بتؤدة وقبضتاه مشدودتان وعيناه السوداوان تطلقان شررا , وقال:
" أذا كنت تعتبرين عناقي مصدر عناء , فالجواب عن سؤالك هو نعم , سآخذ ما أبتغي , عندما يروق لي".
قالت والغضب باق في صوتها , ولكن الخوف أفعم قلبها:
" لكنك وعدت".
ليتها تستطيع الفرار من هذا الرجل ولكن الطفلين كانا يعترضان أية فكرة لتركه , وكان يدرك أنها في حوزته ما دام الطفلان بحاجة اليها , وعادت تقول:
" ألا يؤلمك ضميرك أنك نكثت بوعدك؟".
فقال:
" لا ضمير عندي فيما يتعلق بصلتي بك , أنت زوجتي , وأنا لا أخرق القواعد أذا أخذت ما هو ملكي".
وقالت بسخط:
" لا داعي لأن تذكرني بأن الزوجة هنا ملك تقتنيه".
أضطربت عيناها أذ واجهتا الشمس , فأسرعت تجذب الستائر على النافذة , وقد كرهت- للمرة الأولى- الشمس والسماء الصافية , بل كل شيء يمت الى الجزيرة التي لا مهرب منها , وأردفت:
" لكنك لن تستبقيني الى الأبد , فبمجرد أن يبلغ الطفلان سنا كافية سأتركك".
أنبعثت طقطقة خافتة من أتجاه منضدة صغيرة , فشغلتهما عن الحديث , وأصغيا , هيلين بحيرة وليون بعدم مبالاة –قال بهدوء وهو يسير الى المنضدة:
" قد تكونين أنجبت أطفالا قبل ذلك بوقت طويل".
فصاحت:
" تود أن تقيدني بهذه الطريقة!".
وتطلعت مأخوذة , أذ كانت في صوته أختلاجة غريبة , كأنما يجد أشد الصعوبة في الكلام , وألتقت نظراتهما ., وبغير مبرر قفزت الى ذهنها ذكرى اللوعة البسيطة التي أحست بها حين رأته مع بولا قرب الهيلتون , ولذهولها محت الذكرى كل ما جرى , وتقدمت منه وكأن قوة في ذاتها تجذبها نحوه , ومدت يدا – بدون أن تفطن – في توسل , وهتفت:
" ليون".
تناول يدها فأمسكها بقوة , وعاد الدم رويدا الى شفتيه , وأكتسحت أبتسامته كل خشونة , وقال:
" نعم يا هيلين؟".
ولكنها لم تستطع الكلام , عجزت عن صياغة كلمات تعبر عن أفكارها وتصف أضطراب قلبها , ذلك الأضطراب الذي لم يعد وليد خوف , وخيّل اليها أن شيئا في كيانها يستجيب برغم أرادتها , فقالت:
" هذه الرحلة القصيرة ... هل .... نستطيع أن نكون سعيدين فيها؟".
وحدّق فيها غير مصدق , ثم جذبها برفق, وأحاط خصرها بذراعيه , وتمتم:
" أجل يا عزيزتي ... نستطيع ... أن نكون سعيدين".
سرى في أعماقها شعور بالذنب لا تدري معناه , وتكلمت مسرعة تحاول دفع الشعور عنها:
" ما هذا الصوت يا ليون؟ .... أهو الخشب؟".
فهز رأسه مبتسما وهو يقول:
" أنها حشرة , تدب في الأثاث , سنطلب من خادمة الغرف أن ترش مادة مبيدة".
قالت:
" حشرة؟ كيف تدخل في الخشب؟".
قال:
" صفحات المناضد مثقوبة , وتغلغل هذه الحشرات".
قالت :
" أحسب أنه أذا أوتيتم طقسا كهذا فلا بد من قبول المساوىء التي تصحبه , فلا يوجد شيء كامل!".
وأبتسمت أبتسامة واهنة , فعاد يمسك بيديها ويتأملها , ثم رفعها بأسى وقال:
" كلا يا هيلين , لا يوجد شيء كامل".

أمل بيضون 19-08-09 06:47 PM

أنطلقا بعد الغداء الى فاغاموستا القديمة , في زيارة لأسباب تتعلق بالعمل – بالدرجة الأولى – كما قال ليون , ولكنه لم يبق في مصانع التعبئة سوى دقائق , وقال وهو ينزلق الى مقعد القيادة بجوارها :
" سنمضي في بساتين البرتقال, أنها متعة في هذا الوقت من السنة".
وكان على صواب أذ كانت البساتين تمتد أميالا في كل أتجاه , وكانت هناك فضلا عن أشجار البرتقال-أشجار اليوسفي والحامض , كانت المنطقة بأسرها كتلة زهور , والهواء مشبعا بعبيرها, وقالت هيلين وهي تستنشقه :
" هذا رائع , لم أر مثل هذا في حياتي".
أوقف ليون السيارة , وأختفى الوميض القاسي من عينيه وهما تتأملان هيلين برهة, وهي تقف على حافة بستان البرتقال, كانت ترتدي أحد الأثواب التي جعلها ليون تشتريها : ثوبا من القطن المطبوع بالزهور , أبرز قسمات جسمها الشاب , وقال بصوت خافت:
" أنت جميلة جدا يا هيلين".
وأشتدت حمرة وجهها , ومد ذراعه فوق رأسها , فقطع فرعا صغيرا , وقال:
" زهور البرتقال هدية للعروس".
وناولها الفوع , وفجأة بدا شابا صغيرا غير واثق من نفسه , كان التغيير سريعا حتى أنها تصورت أنها كانت واهمة , وأبتسمت له وهي تتناول الفرع المعطر وتقربه الى وجهها , وقال بصوت خافت ورقيق:
" أنت بارعة الجمال!".
قالت له وقد عادا الى السيارة , وهي ممسكة بفرع البرتقال قرب وجهها وتتنشق عبيره:
" حدثني عن البرتقال يا ليون , أعني ما عملك ... في مصانع التعبئة ؟".
فقال:
"كل الثمار تنتقل اليها بعد الجمع , فتغسل وتفرز ... تغسل قبل تصديرها , وتقوم نسوة بهذا العمل عادة , ثم تفرز وتعبأ للتصدير".
قالت:
" وأنت تملك المصانع فقط... دون البساتين؟".
قال:
" أمتلك المصانع...".
وساد الصمت والسيارة تمضي تحت سماء صافية , كانت الطريق ملاصقة للبحر , وعلى طول أحد جانبيها , كانت هيلين تلاحظ النباتات العالية .
قالت وقد ثار أهتمامها :
" ما هذه ؟ أنها تبدو نوعا من القصب".
فأجاب :
" أنها غابة قصب تزرع لحماية بساتين البرتقال من هواء البحر".
كانت البسلتين تمتد حتى البحر تقريبا , وأستطرد ليون:
" أننا نصدر كميات كبيرة الى أنكلترا , من الكريبفروت كما تعلمين".
كانت في صوته رنة زهو ,... زهو بجزيرته ومنتجاتها ... وكان كل القبارصة الذين ألتقت به مثله ... أي شيء ينتج في قبرص يتفوق على كل ما ينتج في أي مكان آخر.
عندما بلغا المدينة القديمة , أوقف ليون السيارة في الساح , ودخلا أحد المقاهي لتناول بعض المرطبات.
ولم يكن هناك سوى رجال, أتجهت عيونهم كالعادة صوب هيلين , وليون, ثم أرتدت الى الصحف ولعب الورق والطاولة .
قالت هيلين تستعلم , وهي تراقب رجلين يلعبان على مقربة:
" هل يلعبان على نقود؟".
قال:
" على المشروب فحسب".
فرمقته بنظرة , متساءلة:
"أليس لديهم عمل؟".
فضحك قائلا:
" ما زال رأسك الجميل مشغولا بأن النساء يعملن , بينما يقضي الرجال الوقت في التكاسل؟".
أمتقع وجهها لأن هؤلاء الرجال بدون نشاط سوى اللعب , وزاده أمتقاعا أستعمال ليون كلمة الجميل , يا له من شخص متقلب! تعمدت في بداية الأمر أرتداء ثياب قديمة لئلا تبدو جذابة للرجال , ولكنها تشعر بالسعادة الآن لأن ليون يعتبرها جميلة , وما الذي يساوره؟ من الواضح أنه عرف من البداية أنها مصممة على أن تستبقيه على مسافة منها , وقالت أخيرا:
" أكره أن أكون زوجة رجل فقير هنا".
رمقها متسائلا وقال:
" أصحيح هذا يا هيلين؟".
فعضّت شفتيها وقالت:
" ما عنيت هذا ... أنما قصدت أنني ما كنت أتمنى أن أولد هنا, وأكون فقيرة ... أنك تعلم ما أعني".
قال:
" نعم, أعرف ما تعنين".
ونظر الى صاحب المقهى أذ أحضر صينية تحمل فنجاني قهوة صغيرين وكوبي ماء , ثم أستأنف:
" لكن النساء هنا لا يأبهن , تعودن هذا , طالما أنهن يهتدين أخيرا الى زوج فهن مقتنعات".
تناولت رشفة من قهوتها وقالت:
" تلك الزيجات ... الزيجات التي لا تقوم على حب... كيف يتسنى ؟".
قال:
" الأمر بسيط , فمثلا تزوج بافلوس , أحد أبناء عمي أخيرا فتاة من قرية صغيرة في الجبال , سعى اليه أخوها وأخبره يميزاتها , قائلا بوسعها أن تقدم بيتا , فوافق بافلوس على اللقاء بها , والواضح أنها راقت له فقبل الزواج منها على الفور".
وتناول جرعة ماء , وومضت عيناه بأبتسامة حيال الصدمة التي بدت على هيلين , التي سألته:
" أهذا كل شيء ... الأخ يدبر الأمر والشاب يتأملها لكن هذا بشع!".
فقال:
" أنه الأجراء الطبيعي".
فصاحت:
"ولكن الفتاة... أليس لها رأي في الأمر؟".
قال معترفا:
" رأيها لا يذكر ... بل أذا رفضت فأن أباها وأخواتها لا يصغيان الى رأيها لكن يندر أن يحدث هذا , الرجل يحسن صنيعا للفتاة بأن يتزوجها , ولذلك تعترف بفضله ولا تفكر في رفضه , فقالت:
" أنه يبدو نوعا بغيض التدبير , لا بد أنه محرج للفتاة الى حد مؤذ".
فقال وعلى وجهه وميض أبتسامة:
" أبدا , أنها العادة يا عزيزتي".
خرجا الى الساحة فأذا ضوء الشمس ينعكس على جدران القصر البندقي الفخم , وكان يواجهه مبنى آخر شامخا , فقال ليون:
" هذا هو الجامع ... هذه المدينة القديمة هي – كما تعلمين- الحي التركي في فاماغوستا , أتودين دخول الجامع؟".
فأومأت برأسها , وخلعا أحذيتهما ودخلا المبنى الجميل- الذي كان يوما كاتدرائية القديس نيقولا , وأقامها ملوك قبرص قبل قرون كثيرة , حتى أذا خرجا , قال ليون:
" سنقوم الآن بجولة في السارة!".

أمل بيضون 19-08-09 08:21 PM

وأخذها لترى الجدران البندقية , والقلعة ذات االبرج المشهور حيث أخرجت قصة عطيل , وخيل الى هيلين في جولتها أنها رأت مئات الكنائس , تحولت الى أطلال.


قال ليون:


" كانت ثلثمائة وخمس وستون كنيسة ".


فهتفت:


" غير ممكن .... في مثل هذا المكان الصغير؟".


قال :


" هذا حقيقي , أختفى معظمها طبعا, ولكن قسما كبيرا بقي ".


وتوقف مرات عديدة ليريها بقايا النقوش الملونة والفسيفساء , فقالت:


" لا تزال باقية بعد كل تلك السنين , هذا يبدو مستحيلا!".


فقال:


" المناخ يساعد على حفظها ... فالمطر هنا قليل".


أتجها في السيارة الى بوابة البحر , التي دخل ريتشارد قلب الأسد خلالها الى المدينة , ثم تركا السيارة , وسارا على الأقدام , لم تشعر هيلين بمثل هذه السعادة منذ أمد طويل , وأمسك ليون يدها أذ أنزلقت على حجر متفكك , وأحتفظ بها طيلة مسيرتهما.


عندما عادا الى غرفتهما في الفندق, وضعت هيلين غصن زهر البرتقال في كوب ماء , وراقبها ليون وهي تخرج من الحمام, فأبتسمت ووضعت الكوب على منضدة الزينة , وكان ليون قد دعا بعض أصدقاء العمل للعشاء فسألته , وهي تطرح ثلاثة أثواب كوكتيل على السرير:


" أيهما أرتدي؟".


أدهشها سؤالها بقدر ما أدهشه, فقبل سويعات قلائل ما كانت تحلم بأستشارته , ورفع ثوبا , ثم هز رأسه وتناول آخر , كان الثوب القصير الواسع , من القطن المائل الى الصفرة يلائمها كل الملائمة, فقال:


" هذا!".


كان أثنان من أصدقاء ليون أنكليزيين – والثالث قبرصيا يونانيا , وكان يانيس يني أول من وصل , فنظر بأعجاب الى هيلين حين تعرف اليها , وأمسك بيدها أطول مما ينبغي , فسأله ليون:


" ماذا تود أن تشرب؟".


والتفت يني اليه , فلمح عبوس محياه , وهتف:


" أتغار يا ليون؟ كلا , ليس مني!".


وجلس على مقعد مرتفع بجوار هيلين وقال:


" سأشرب رستينا أذا سمحت".


يغار؟ وحدقت هيلين في زوجها , وكان يرتدي حلة أنيقة من التيل , ذات لون رمادي جذاب مشوب بالزرقة , قميصه الأبيض يبرز سمرته , ولدهشتها وعجبها شعرت بلمسة فخر , فتصاعدت الحمرة الى وجنتيها عندما التفت ليون ورمقها بنظرة باردة , يغار؟ كيف تنشأ غيرة بدون حب؟ وما لبث ليون ويانيس أن أندمجا في الحديث عن ا لعمل وسرعان ما وافاهم صديقا ليون الأنكليزيان .. برغم كثرة المقيمين منهم في الجزيرة – كانوا يتلهفون للقاء معارف جدد من أنكلترا , وعندما علقت على هذا , قال أريك:


" هذا صحيح... ومع هذا فنحن في في كل مكان من الجزيرة".


وقال ليون دون ضغينة :


" سرعان ما سيفوق الأنكليز عدد القبارصة , الناس يغادرون بلادهم فرارا من الضرائب".


وألتفت ستيفن الى هيلين مبتسما وقال:


" هكذا يقتني زوجك وأمثاله الثروات".


وأضاف بأيجاز :


" الآرض!".


الأرض , ومصانع التعبئة , هل كان ليون واسع الثراء؟ ما أغرب أن تكون زوجة جاهلة تماما بشؤون زوجها المالية , لم تكن لديها أقل فكرة عن دخله.


وبعد العشاء أنتقل الجميع الى ملهى ليلي- وأخذ النعاس يغالب هيلين شيئا فشيئا , حتى باتت مستعدة لأن يحملها زوجها الى الغرفة حين دخلا الفندق في الثالثة صباحا.


بعد أفطار متأخر خرجا الى الشاطىء مباشرة , وكانت الشمس حارة , فأقترح ليون أن يسبحا , ولدهشة هيلين لم تشعر بآثار سيئة نسبة الى الليلة الفائتة , بل كان وجهها يتألق صحة وهي تسير الى جواره نحو الماء , وسبحا قليلا , ثم أستلقيا تحت الشمس , وبعدما تناولا غداءهما قال ليون:


" سأضطر لأن أتركك زهاء ساعتين فلدي عمل, ستكونين على الشاطىء أكثر راحة منك في السيارة الحارة".


وسألت هيلين نفسها , وهي تتأمله بفضول: هل كان يجد هذا العمل مضجرا حقا؟ على أنه لم يغب أكثر من ساعة ونصف الساعة , ثم فتحت عينيها فأذا به يقف في ثوب السباحة , طويلا , أسمر , وسيما بدرجة تفوق التصور , منذ متى كان واقفا يتأملها متفرسا؟


أستوت جالسة , يغشاها الحياء , وقالت:


" عدت مبكرا".


قال وهو يجلس باسطا ساقيه الطويلتين:


" لو صدقت ما تراه عيناي لقلت أنك سعيدة؟".


ومال على أحد مرفقيه يحدق فيها قائلا:


" هل أنت سعيدة يا هيلين؟ أم ترى لا يجوز لي أن أوجه ذلك السؤال؟".


وأستمرت ترسم بأصابعها صورة على الرمال , هل كان يريد أن تحفل به , أم أنه يريدها مجرد جارته المطيعة ؟ من المؤكد أنه كان يريد شيئا يفوق العلاقة من جانب واحد ويتحطى أن يأخذ بنفسه ما كان يعتبره حقا له, لكنها لم تمنحه شيئا وما كان يحتمل أن يرضيه فتورها وهو المتأجج الهوى , وربما عجزه عن ترويضها كان يجرح كبرياءه , أذ علمت هيلين من ترودي أن الحب لدى اليونانيين عامة فن وهم يدركون أنهم متفوقون فيه عن سواهم , قالت ترودي في خجل:


" الأنكليزي ناشىء في هذا الفن, أذا قورن بهم , ولو قدر لليون أن ينكث بوعده , ستشعرين أنك في نعيم !".


دفعت ذكرى هذه الكلمات الدماء الى وجه هيلين, وأختار ليون هذه اللحظة بالذات ليرفع رأسها بلمسة رقيقة تحت ذقنها , ومن الغريب أنها لم تقاوم حركته , وقال:


"لماذا يا هيلين الجميلة؟".


وأضطرب شيء ما في كيانها , ولكنها أبت أن تفسر هذه الهدنة التي ألتزماها , وكل منهما يوقن أنها تتوقف في نهاية الرحلة ... وتمتمت وهي تحاول أن تتبين ما في عينيه:


" كنت أفكر في أمر ما".


فقال وفي صوته أصرار:


" ما الذي كنت تفكرين فيه فجعل وجهك يحمر هكذا؟".


هزت هيلين رأسها وهبطت يده الى يدها , فأمسكها بأصرار حال دون تخطيطها العصبي على الرمال , وقال:


" الجو حار , أنزلي الى الماء".


ونهضت على الفور , بعدما أرتاحت لأقتراحه , وسارا الى حافة الماء يدا بيد كعاشقين , وأنطلق ليون في الماء بعيدا , لكن هيلين بقيت قريبة من الشاطىء , وما لبثت أن طلعت فجلست على الرمال الدافئة , وعيناها تتابعان رأس ليون عن بعد, لوح لها بيده فلوحت له , كانت مثل هذه الزمالة جديدة عليها , لم تعرفها مع غريغوري – وعجبت- وهي تسترجع علاقتها بغريغوري- أنهما لم يكونا متقاربين في الواقع , وما كانت تعتبره زواجا سعيدا , كان في الواقع مجرد تعايش كثيرا ما وصفه الناس بأنه مريح , أما السعادة؟ وتمثلت لها صورة ترودي وأشراقتها كلما ذكرت زوجها.


تمتمت هيلين لنفسها : وأنقضى على زواجهما ست سنوات! أجل, كانت حقيقة لا يمكن أنكارها , كان ترودي وتاسوس متحابين اليوم بقدر ما كانا يوم زواجهما .


كانت ترسم على الرمال حين وصل ليون , فقال وهو يمسك بيدها:


" ألا ترسمين لي؟".


قالت وهي تستجيب أذ جذبها فأوقفها:


" لست بارعة يا ليون".


كانت قطرات الماء تتلألأ على جسمه الأسمر , والتمعت عيناه وهو يتأمل كل صغيرة في قوامها الممشوق,وألصق ذراعه بذراعها فجففت ساعدها وهي تضحك ,وقال:


" بالنسبة الى رسمك هذا – أنا الذي سيحكم , هل هو جيد أم لا , عندما نعود الى بيتنا سترسمين لوحة".


فقالت:


" كلا , أين ستضعها؟".


فجاء رده ناعما:


ط سأعلقها في مكتبي".


وشعرت بهزة سعادة , لم يكن لغريغوري رأي في أنتاجها , بل كان يقول صراحة أن صورها ينقصها الشعور ... ورفض أن تعرض شيئا منها.


قالت منذرة:


" ربما يتغير رأيك حين تراها".


فقال:


" لن أغير رأيي".


لماذا كان يريد لوحة لها معلقة حيث يستطيع رؤيتها بأستمرار؟ هل لتذكره بأنه يمتلكها؟ وأبعدت هذه الفكرة, فمهما كانت عينا ليون , كان يبتسم بأخلاص صادق أعجبت به , فالناحية العاطفية من طبيعته التي كانت لديه حين عول على الزواج منها , وكان لنكثه بوعده, وعدم أكتراثه لمشاعرها , أسوأ الأثر على رأيها فيه , ومع ذلك كانت موقنة بأنه في جوهره رجل صالح , تستطيع أن تعتمد عليه وتركن اليه.


سارا ببطء الى حيث تركت هيلين منشفة الشاطىء , فألتقطها ليون وساعدها على أرتدائها , ثم أرتدى أزاره , ولم يكن على الشاطىء سوى أفراد قلائل من الفندق , يستمتعون بالشمس , وتساءلت هيلين:


" أترى زوجها كان يعرف أن زوجين يشغلان مائدة قريبة من مائدتهما في الفندق , راحا يراقبان رعايته لها بأهتمام؟


قال:


" أرفعي رأسك!".


فأطاعت... وأضطربت عيناها أزاء تألق الشمس , ومست أصابعه عنقها , ثم هز رأسه وأبتسم لها في حنان وقال:


" لو لم يكن هناك من يراقبنا لقبّلتك!".


ذهبا في اليوم التالي ألى لارنكا , وراحا يتمشيان على الشاطىء وتناولا بعض المرطبات في مقعى صغير تحت النخيل ثم أستقلا السيارة الى البحيرة المالحة الكبيرة , التي ترتادها الطيور الموسمية, وأعجبت هيلين بهذه الطيور فقال ليون:


" من حظنا أن نراها , فسترحل قبل نهاية الشهر".


وابتسم لها مضيفا:


" كنت أدرك أن هذا المكان سيروق لك , والآن , أتودين أن نوغل في الجبال؟".


وشاب صوتها شيء من الشغف وهي تقول:


"نعم يا ليون , هل نحن بعيدان عن ليفاكارا , أتمنى رؤية النساء تقمن بأعمالهن الحرفية وأود شراء بعض متجاتهن أذا أمكن..".


قال:


" هذا ممكن طبعا , ولست مضطرة لأن تسأليني يا هيلين".


وصلا الى قرية جبلية صغيرة , تصنع فيها منتجات , لاسيه ليفكارينكا ذات الشهرة العالمية , فأشترى ليون أغطية للموائد , ومناشف ومناديل وثوبا مطرزا بشكل فخم , مزين الصدر , والأكمام بأرق الدانتيل .


وشهقت هيلين أزاء ثمنه , وقالت:


" أنه باهظ.... والأبيض يناسبني".


فتلفت ليون حوله قائلا:


" حقا , الأبيض يلائمك".


ودعتها صاحبة المتجر الى التجربة .. وهزت ليون رأسها, لكن ليون ألح , كان الثوب مناسبا لها تماما , وجميلا , وحبست أنفاسها أذ رأت صورتها في المرآة , وهتفت:


" أنه جميل جدا .. ولكن الثمن غال جدا".


فقال ليون:


" لا شيء يعتبر غاليا لك يا عزيزتي".


ثم أردف بصوت خافت:


" ألم نقل أننا سنسعد؟".


وعاد يقول:


" هل أنت سعيدة يا هيلين؟".


كانت في صوته رجفة , وراح يتأمل محياها متلهفا في أنتظار الجواب , وأرتعشت أبتسامة على شفتيها الجميلتين , وقالت بصوت خافت وبحة:


" نعم يا ليون ... أنني سعيدة.....".

أمل بيضون 20-08-09 12:48 AM

6-الطاحون لوحة جميلة
أمتزج الربيع المسرع الخطى , مع الصيف على نحو غير ملحوظ , وتدفّق الزائون بالآلاف على المصايف الساحلية والجبلية , لكن البيت الأبيض الجميل المتربع عاليا على السفح فوق لابيثوس , لم يتأثر , ولم تتمالك هيلين – وهي مضطجة في مقعد من القماش في الحديقة – أن تقر بأنها محظوظة من نواح كثيرة , فكانت حياتها – حتى شهور قليلة مضت تتسم بوحشة الوحدة والكآبة وليس فيها ما يرتجى من سوى العمل لأعالة نفسها , ودار بذهنها أن القدر قام بحيل عجيبة , فلو لم تفكر بريندا فيها – حين علمت بمشروع أرسال تشيبي وفيونا الى عمهما ما كانت وضعت قدما فوق هذه الجزيرة البديعة , ولما سنحت لها فرصة أتخاذها موطنا , مع أن الحياة تحتفظ بمشكلات لا بد منها كزواجها من ليون بدافع رعاية الطفلين.
خففت الرحلة من توتر علاقتها الجديدة بليون ولم تستطع أن تنسى أنها – بالنسبة اليه- مجرد أمرأة أخرى , وأنه عاشرها بدون حب , فلم تكن قادرة على أن تغفر له أنتهاكه وعده المبدأي وتنهدت متذكرة أنه وافقها على أنه لا يوجد شيء كامل , ولقد أنسابت وليون لنمط حياة محتمل , وعليها أن ترضى بهذا , فهذا أفضل من السخط الذي كانت تعانيه – في البداية كلما أقترب ليون منها.
رفعت رأسها عندما أقبل ليون , وأغتصبت أبتسامة , وقالت في أدب:
" كان يومك حافلا بالعمل؟".
فأجاب:
" الى حد كبير ... وأنت؟".
فقالت:
" أظنني أجنح الى الكسل , آراتيه تقوم بكل شيء ".
فوقف يتأملها وفي عينيه الداكنتين أبتسامة , ثم قال:
" أكتسبت سمرة فاتنة يا عزيزتي".
كانت أطراءاته تصدر عفوا .... ومتباعدة ... ليتها تصدر من القلب , وعن صدق , لكنه كان يقدمها لنساء غيرها في الماضي وربما لسواها في المستقبل.
أحضر مقعدا وجلس أمامها , وقال:
"سنزور عمة لي هذا المساء , شكت لي هاتفيا أنها لم تقابلك".
فسألته:
" عمة أخرى؟ لم تذكرها لي مطلقا".
فقال بأبتسامة واهنة:
" ما أكثر الأشياء التي لا يزال كل منها يجهلها عن الآخر".
وأكتفت بالأيماء , فسألها:
" كيف يحدث أن الحديث الطبيعي صعب جدا بيننا يا هيلين؟".
أدهشها السؤال , أذ بدا في أحدى حالاته اللينة اللطيفة , التي تبعث فيها شعورا بالذنب لا تدري له سببا , فقالت:
" لا أظن أن الحديث متعذر".
فقال:
" قلت: الحديث الطبيعي , كان ينبغي أن أقول أن تبادل المعلومات الحميمة صعب بيننا ".
فقالت:
" أحسب أن هذا أمر مفهوم ..... نظرا للظروف".
تحول ليون عنها, فضاقت عيناه أذ كانت الشمس تواجهه , وسرح بصره نحو السفوح المكسوة بالغابات والزرقة الشاسعة خلفها , ثم قال:
"لماذا تواصلين الشعور بهذا النفور مني؟".
كانت كلماته تنطلق بصعوبة , وفي مرارة , وأردف:
" لقد حدث ما حدث".
فقالت:
" ربما لا ينبغي أن نعود الى هذا يا ليون , تكلمنا من قبل, فكانت النتيجة دائما التوتر بيننا , يجب أن نمضي في الحياة معا, فلنحاول أن نجعلها تسير بسلام بقدر ما نستطيع".
تحرك رأسه فتحول الشيب في سوالفه الى فضة , وسألها:
" أتستطيعين ترويض نفسك على هذا.... الى الأبد؟".
وأستدار نحوها قائلا بصوت خافت:
" أننا لم نحاول , ألا ترين أن نحاول ... أن ... أن؟".
فبادرت:
"هل تتوقع مني حبا؟".
تسربت رنة المرارة الى صوتها , وغامت عيناها في تفكير مهموم فقال:
" كلا يا هيلين , لا أتوقع , ولكن , ما أرق أن أشعر بذراعيك حولي أحيانا".
وسكت عندما رآها تتجمد متصلبة , فأسترسل مسرعا وكأنه يريد أن ينسيها لحظة الضعف الى حد الهوان:
" كلا , لا أتوقع منك حبا , أنك لا تريدين أن تمنحيه , أخبرتني من البداية أنك لن تسمحي لأنفعالاتك العاطفية بأن تورطك مرة أخرى... بسبب ما فعله رجل غيري".
وسمعت أصواتا تتردد على سفح التل ... كان تشيبي وفيونا يلعبان مع أطفال القرية , لكن صراخ فيونا يزداد أرتفاعا, قالت:
" قلت أنني لن أعرض نفسي لذلك النوع من ألام القلب ثانية".
فقال:
" هل تعتقدين أن هذا المسلك معقول؟".
قالت:
" لن أتيح لرجل آخر أن يؤذيني ثانية , لن أقع في الحب ثانية".
فسألها :
" ومع ذلك تتوقعين الحب مني؟".
فنظرت اليه بحدة , وقد حيّرتها كلماته , وقالت:
"لم أتوقع منك حبا يا ليون".
أحتدت نظراته وأكفهر وجهه كبرياء , وقال:
" أذن لماذا الأمتعاض؟".
وبدأت تفهم ما به , فقالت:
" أنك تعرف السبب – ليس لأنك تعاشرني بدون حب, وأنما لأنك تفعل فحسب!".
فهز كتفيه بصبر نافذ وقال:
" أنك غير واقعية ولا منطقية".
وقالت:
" غير منطقية لأنني توقعت أن تلتزم بوعدك ؟ أنت عرضت عليّ الزواج من أجل الطفلين , ووافقت ايمانا بأنك ستفي بوعدك , فلماذا عدلت؟".
وتردد مترويا , قبل أن يقول:
" سأكون صريحا جدا يا هيلين , ولن يروق لك هذا- أول ما رأيتك كنت خلوا من الزينة والتأنق , وليس فيك ما يثير أنتباه أي رجل, فلم تطرأ ببالي الرغبة فيك".
وسكت يتأمل الدماء تتصاعد الى وجنتيها , ثم أسترسل :
" وبرغم أنك قبلت أن تموني زوجتي , لم تكوني- فيما يتعلق بمشاعري أكثر من خادم ... مربية للطفلين , ولكن سرعان ما بدأت أتبين أن خلوك من الزينة والأناقة كان متعمدا , وأخذت أرى أنك قد تكونين...".
فصاحت:
" مثيرة!".
وألتمعت عيناه بنذير خطر وقال:
" نعم, أذا كانت هذه هي الكلمة التي تودين أستعمالها , كنت أتوق الى معرفتك على حقيقتك , فأبديت رغبتي في أن تحصلي على ملابس ".
فقالت:
" كي أتأنق أرضاء لفضولك ؟ لأصبح دمية جميلة؟".
وسكتت أذ رأت محياه .... كانت تعرف أهتياج غضبه , ولكنه قال متهكما:
" لكن تأنقت لشخص غيري – لذلك الأنكليزي اللعين!".
قالت:
" كلا...".
فقال:
" بل فعلت!".
فردت:
" ليكن.... رأيتني ووجدتني مثيرة , أهذا عذر لتنكث بوعدك؟".
قال:
" هذا الوعد أصبح فكرة متسلطة عليك... قلت لك أنك غير واقعية , هل تظنين أننا نستطيع أن نمضي هكذا أربعين سنة أو أكثر؟".
وفي تلك اللحظة أندفعت فيونا الى الحديقة , لاهثة توشك أن تبكي وهي تصيح :
" عمي ليون!... عمتي هيلين... لا تدعاهم يمسكون بي".
كان التغيير الذي ألمّ بليون أشبه بمعجزة , وحمل الطفلة وأجلسها على ركبتيه , وضم رأسها الى صدره , وأخذ يربت مواسيا , فبكت فيونا , وأخرج منديله , وهو يقول:
" يا لله, ما بك؟".
وأخذ يجفف دموعها , وأزداد تشنجها عندما أقبل تشيبي لاهثا , يتبعه ولدان , وهم يلوحون بعصي ويصرخون , ولكنهم وقفوا جامدين عندما شاهدوا فيونا على ركبة ليون , شحب وجه تشيبي , بينما راح ليون ينقل بصره بينه وبين زميليه , ثم أستقر بصره على العصا التي في يد تشيبي وصاح :
" ما هذا الذي تفعله؟".
وأرتجفت هيلين نفسها للهجته , وتسارعت دقات قلبها , بينما قال تشيبي واجفا:
" أننا نلعب لعبة السجن".
قالت فيونا بين نهنهاتها:
" حبسوني في البيت التركي العتيق في الغابة... وقالوا أنهم سيتركونني هناك الى الأبد".
فأسرع تشيبي يقول :
" لم نكن جادين , أنك تعلمين هذا..".
فقال أندرياس وهو يرمق فيونا بأزدراء :
" بل كنا جادين , أنها مجرد بنت".
وقال أليكس وهو أكثر من صاحبه حصافة:
" لم نكن جادين , وما كنا سنتركها هناك , صدقني يا سيد بيترو".
تفرس ليون في الغلامين , وقال بهدوء:
" أنصرفا .... سأقول لأبويكما في الصباح".
وأطاع أندرياس متجهما , أما أليكس فتلكأ مضطربا , وقال:
" سيضربني أبي".
قال ليون:
" كان ينبغي أن تفكر في هذا , البنات الصغيرات جديرات بالرعاية وليس بالمطاردة بالعصي".
وأبتعد الغلام بضع خطوات , ثم ألتفت قائلا:
" آسف يا فيونا... لن أطاردك ثانية".

أمل بيضون 20-08-09 03:40 PM

ألقى نحو هيلين نظرة أستعطاف, ثم أنصرف , فأعتزمت هيلين أن تشفع له , عندما يصفو مزاج زوجها , وكانت فيونا مستمرة في بكائها فقالت:
"دعني آخذها يا ليون".
وتركها لها وهي ترتجف , وعينا ليون قاسيتان , غاضبتان , ونهض فأشار الى تشيبي أن يقترب , ثم أمسك بذقنه , ورفع رأسه قائلا:
" لا بد من ايضاح كامل , ما معنى أن تسجن أختك في ذلك البيت؟".
قالت هيلين في حيرة:
" كيف تحبسونها؟".
كان البيت طلا خربا , وخاليا لثلاثين عامل , وليست له نوافذ.
قالت فيونا وهي تنتحب:
" أضطررت لتسلق الجدار , ومزقت ثوبي , ثم ركضت فتعقبوني".
ما كان ثمة شك في فزعها , وأمسك ليون بكتفي تشيبي يهزه قائلا:
" أجب عن سؤالي فورا".
كنا نلعب فحسب يا عمي ليون , أقترح أندرياس لعبة السجن, ولم يكن هناك من نحبسه سواها".
قالت هيلين:
" ما زلت لا أدري كيف سجنوها ... ليس للبيت باب".
فقالت فيونا:
" كنت في الجزء المخصص للبقر".
وصاح ليون مرعدا , غير مكترث لقولهما:
" أنني أنتظر يا تشيبي , أريد معرفة ما حدث تماما".
" وضعناها في الداخل, وأغلقنا بوابة المدخل".
وأمسكت هيلين بفيونا تهدئها وهي تقول:
" أجل.... هناك بوابة ثقيلة , ولكنها صدئة".
وشرع تشيبي في البكاء , فهمّت هيلين بالتدخل , ولكن ليون صاح وقد برز فكه وأسودّ حاجبه غضبا:
" دعي هذا الأمر لي".
وسأل تشيبي :
" كيف أستطعتم أغلاق البوابة؟".
فقال:
" دفعتها أنا وأليكس , وغلام آخر هرب حين شرعت فيونا في الصراخ".
فقاد يسأله:
"ماذا كان أندرياس يفعل؟".
قالت فيونا وهي ترمق أخاها :
" كان يحرسني , وناشدت تشيبي أن يساعدني فأبى, ترك أندرياس يقف بعصاه ليمنع هروبي".
فنظر تشيبي الى أخته قائلا:
" كنت السجينة ولم تمانعي في البداية , لم تكن العصا لضربك, وأنما كانت بمثابة البندقية , وقلت أنك لا تمانعين؟".
وألتفتت اليه ودموعها تنساب على وجهها , قائلة:
" ما كنت أظنكم ستغلقون البوابة , قال أندرياس أنها سحرية وأذا أغلقت لن يستطيع أحد فتحها ثانية , ولن أخرج من هناك".
كاد فزعها ينقلب ألى أنفعال هستيري , فأشار ليون على هيلين بأن تدخل معها , وتعطيها دواء منوما.
تطلعت هيلين الى زوجها في توسل , وأن قارت مضطرة للأقرار بأن تشيبي جدير بالعقاب , فقال ليون وهو يأخذ العصا من تشيبي:
" أعتقد أن أذاقته هذه العصا على ساقيه لن يؤذيه".
فصاحت بوجه شاحب , وهي تهز رأسها:
" كلا يا ليون! سيتذكّر هذا طيلة عمره , وسيظل دائما حاقدا".
كانت لكلماتها تأثير عجيب على ليون , فحدّق فيها والحيرة في عينيه , ثم قال وكأنما نسي وجود الطفل:
" كأنك قلقة عليّ وليس على الطفل".
قالت وعيناها لا تحيدان عن وجهه:
" نعم .... أرجوك يا ليون!".
وعاد يسألها:
" أتزعجك فكرة أن يبغضني؟".
أجابت:
" نعم.... أنه يكن لك أعجابا وأحتاما كبيرين , ولا أريد أن يتغير رأيه فيك".
هزّ رأسه – وأطلق زفرة وهو يقول:
" أنك عجيبة يا هيلين ... لا أستطيع أن أفهمك".
وألتقت نظراتهما , فسرى في عينيه تعبير غريب , هل قرأ أفكارها؟ هل أدرك أنها , لا تفهم نفسها ؟ أخيرا قال:
" ى داعي للخوف , لن أضربه".
أستعرضت هيلين ما حدث, وهي تجلس بجوار سرير فيونا , تنتظر أستسلامها للنوم , تذكّرت كيف أجلس ليون الصغيرة على ركبتيه يهدئها في رفق ويجفف دمعها , وقوله لأليكس أن البنات جديرات بالرعاية , وأنتهت الى أن ليون مزدوج الشخصية : فظ وحنون, متغطرس ومتواضع , متوسل ومسيطر, أي الحالات كان ليون الحقيقي؟ وهزت كتفيها , وقطبت حاجبيها , لماذا تحفل بمعرفة حقيقته ؟ لا جدوى من الأنكار أنها لا تستطيع أن تظل بلا شعور نحو زوجها.
تمتمت فيونا وهي تحاول مقاومة النعاس:
" هل سيغضب من تشيبي؟ لا بد أن يعاقبه".
فقالت هيلين:
" أغمضي عينيك يا عزيزتي , يؤسفني أنه لا بد من عقابه".
فعادت تسألها :
" ألا تستطيعين أن تقولي لعمي ألا يعاقبه؟".
فقالت هيلين:
" سيفعل عمك ما يراه صوابا".
وصمتت فيونا , وأستسلمت للنوم رويدا رويدا , فتسللت هيلين بهدوء وكان ليون وحيدا في الشرفة , فذهبت اليه وسألته:
"أين تشيبي؟".
" في غرفته, وعليه أن يلزمها كل يوم لدى عودته من المدرسة".
قالت:
" الى متى؟".
فأجاب:
" متى أقرر أنه أستوعب الدرس".
ونهض وأعطاها مقعده , وأخضر لنفسه غيره , وقال:
" لست أفهم هذا الولد , من أين له هذه الأفكار؟".
قالت:
" الواضح أن صبية القرية لا يقمن للأناث وزنا , أنهم يقتدون بآبائهم ولا شك".
قال في فتور:
"هل كان تعليقك هذا ضروريا؟".
فنكست رأسها , ثم نهضت لتساعد آراتيه في أعداد العشاء .... ولكنه ناداها متسائلا:
" اللوحة؟ هل بدأتها أم لا؟".
فقالت:
" مجرد بداية , لا تستطيع أن تراها حتى...".
ولكنه أصر على أن يراها , فأحضرتها بخجل وقالت محرجة , وقد أشاحت ببصرها:
" لست رسامة جيدة يا ليون.... قلت لك هذا".
وراحت تتأمل المرتفع المكسو بالأشجار , الذي ألف السياج الخارجي للحديقة... فقال بصوت خافت ولهجة مثقلة بالفضول:
" ما الذي أوحى اليك برسم الطاحونة القديمة؟".
وأستدارت مطلة عليه من وقفتها , وهو ينشر اللوحة بين يديه يتأملها بأمعان:
" أنها تجذبني على نحو غريب , فهي في بقعة فاتنة , والماء ينبثق من جانب التل!".
لم يعد يصغي اليها , وفي عينيه تعبير نصف حالم , ونصف حزين , بدا وحيدا بدرجة أليمة , وأمسكت هيلين أنفاسها لسبب لا تفسير له , كان زوجها في أحدى حالاته التي يبدو فيها كطفل, فشعرت برغبة لا تقاوم في أن تحيطه بذراعيها , وشعرت بدبيب غريب في قلبها , منذ فترة وجيزة , قال وفي صوته رنة أسى , بأنه يود أن يشعر بذراعيها حوله أحيانا , فتصلب جسمها , ولم تحاول أخفاء مشاعرها , لم يكن السبب نفورا أو عزوفا , أذن, فماذا؟ وأدركت فجأة أنه ما كان متصلبا , وأنما أجتلاجة ترفع وكبرياء , لمجرد ستر شعور الندم الذي كان يخالجها كلما دار هذا الجدل بينها وبين ليون , وأبرقت عيناها أستنكارا , لماذا تشعر بالذنب ؟ كأن ليون هو الملوم في كل شيء , وهو الذي يجب أن يزعج الندم راحته.
قال وهو لا يزال غارقا في أفكاره:
" كان هذا بيت جدي , كان زاخرا بالأحفاد , لكننا تفرقنا , عندما غادر كثيرون الجزيرة بحثا عن عمل في مكان آخر – كنا نجتمع قرب الطاحون في عيدي الميلاد والفصح , وفي كل عيد وعطلة.... والواقع..."
وسكت قليلا , ثم قال:
"أن الطاحون ملكي , خطر لي أنك أهتديت اليه".
أجابت قائلة:
" أكتشفتها مصادفة , وأنا أتنزه مع الطفلين , كنا نهيم في هذا الدرب الصخري , وفجأة وجدناها : صورة جميلة, والماء يتلألأ تحت الشمس في أنحداره على الصخور ".
قال والأعجاب في أبتسامته:
" أبدعت في رسمها".
وأشتد أحمرار وجه هيلين وغامت عينا ليون , وهبط جفناه فأخفيا ما فيهما من تعبير , أتراها أخطأت الحكم عليه ؟ كانت تتصور كلما تأملها أن في نظراته أشتهاء , وقالت أخيرا:
" من المحزن أنها خربة , تكسوها الحشائش , ألا يمكن عمل شيء لأصلاحها".
فقال:
" الواقع أنني أنوي بيعها , ومن الغريب أن تختاريها بالذات لترسميها فأن فثل كان يقول - - في الفترة الأخيرة- أن علينا الأحتفاظ بصورة لها على حالها, قبل أن يضيع طابعها في التجديد , والرجل الذي يشتريها ممول ثري من أبناء بلادك , أعتقد أنه يعتزم أبقاء الكثير منها , لكنه سيجري طبعا تعديلات كثيرة على المكان".
أفعمت عيناها بالأسف , وخطر لها أنها غريبة الأطوار , فالتجديدات من هذا القبيل- تحزنها دائما , وقال ليون:
"أنني واثق بأنه سيحولها ألى مكان جميل , من الأفضل كثيرا أتاحة الأنتفاع لشخص ما , لا بالمكان وحده , بل بالمنظ الطبيعي , فهو من أحسن مناظر لابيتوس".
قالت وهي تفكر وفي عينيها وميض رقيق:
" نعم... البحر والجبال.... ماذا يبتغي المرء أكثر من هذا؟".
وتنهدت بعمق, ونظرت نحوه , كانت عيناه تكنان أسى , ولكن صوته أكتسب رقة وهو يقول:
" سأعجب برسمك يا عزيزتي , كنت واثقا من هذا!".
وتلقت كلامه بأبتهاج لأنه لم يستأ من رسمها.
كانت عمة ليون كريسولا تقيم في بيت فسيح من الطراز اليوناني أقامه والدها قبل ستين عاما , حين بلغ عدد أطفاله ستة عشر , مات بعضهم وتزوج الباقون أو أقاموا في أماكن أخرى.
قالت مزمجرة , وهي تفتح الباب, وتفحص هيلين من الرأس الى القدم قبل أن تنحني لتدعها وليون يدخلان:
" بدأت أشعر بأنني مصابة بالطاعون , أو شيء من هذا".
وأكتفى ليون بالضحك – فلما دخلت زوجته , أستدار يقدمها , فهزت العمة كتفيها وقالت:
" أنكليزية ؟ لا بأس , أحسبك تعرف ما تفعل".
قال في أستهزاء لم تفطن اليه العجوز:
" تم الأمر يا عمتي كريسولا".
وتصاعد الدم خفيفا الى وجنتي هيلين , وأمسك بذراعيها فقادها برفق الى غرفة الجلوس في أثر عمته , وهو يقول:
" حان الوقت لنحاول التخلص من هذا البيت العتيق".
قالت:
" ربما يحسن أن أموت هنا ... أجلسا على الأريكة ... أزيحي القطط يا هيلين , فهي تظن أنها مالكة المكان".
فأبتسم ليون وقدم لزوجته المقعد الذي بدا نظيفا , وقال لعمته التي ذهبت الى المطبخ:
" لماذا كل هذه القطط ؟".
قالت:
" أنها ضالة مشردة في كل مكان , وكذلك الكلاب , ولكني لا أستطيع أيواءها , فهي تنبح وأنا عجوز لا أطيق الصخب".

غداف 21-08-09 11:45 PM

مشكوره وياليت تكلميها وكل عام وانتي بخير

zekoooo 24-08-09 02:44 AM

مشكوره يالغاليه
وياليت ما تطولي علينا :eh_s(7)::amwa7:

أمل بيضون 24-08-09 06:18 PM

كانت أنكليزيتها بعيدة عن الكمال , ولكنها مفهومة , وأخذت هيلين تجيل البصر فيما حولهامأخوذة , فقال ليون:
" أنتظري حتى تطوف بك خلال البيت".
كانت الغرف أشبه بمخزن كبير للغلال , رصفت أرضها بالحجارة ودعمت سقفها ألواح خشبية نخرها السوس, وكانت هناك طيور محنطة جاثمة على فروع أشجار أو أقفاص أو في أوعية زجاجية , وتبد كأن العثة دبت في ريشها منذ سنوات , تحت الزجاج أشياء للزينة والزخارف من كعكات الأعراس , وعلى الجدران المكسوة بالخشب عشرات الصور لأعضاء أسرة كريسولا , فيما بدا , بينما شغلت القطط كافة المقاعد , وأستلقى بعضها على السجادة قرب المدفأة الخالية.
بعد قليل عادت العمة كريسولا تحمل صينية عليها ثلاثة أكواب ماء , وثلاثة أطباق زجاجية أحتوى كل منها شيئا أسود غريب الشكل بحجم البيضة الصغيرة , في نهاية شوكة فضية طويلة , وأنساب منها سلئل سكري أسود سميك وتأملتها هيلسن في أرتياب , وأحست بغثيان ولكن بأيماءة حازمة من رأس ليون أنبأتها بأنها لا ينبغي أن ترفض .
لم يكن لدى هيلين فكرة عن كنهه , بينما ليون يتبادل وعمته حديثا باليونانية , ثم قطّبت العمة جبينها وقالت:
" كلا .... ليس جوزا".
وألتفتت الى هيلين قائلة:
" تفضلي يا أبنتي".
تناولت هيلين صحنا , لكن ليون أخذه منها وأعاده الى الصينية وقال:
" أمسكي كوب الماء , والآن أرفعي الشوكة وأغمسي ال...".
وقطّب جبينه , وعاد يسأل عمته باليونانية , ثم قال:
" آه , جوز برازيلي".
وحدقت هيلين غير مصدقة بينما قال:
" عمسي الجوزة .... كلما قضمت منها".
غصبت نفسها على تعود مأكولات الجزيرة , ولكنها لم تواجه أبدا شيئا يدعو للنفور كهذا وقالت:
" أنه اللون ... ألا بد لي من تناوله؟".
فقال:
"تذوقيه".
وفعلت كما قال , ثم هتفت:
" أوه ... أنه لذيذ".
وعجب لأعجابها الذي أرضاه , وتذوق بدوره , وأخذ يستمرىء مهنئا عمته لأبداعها في صنع الحلوى , وأرادت هيلين معرفة سبب غمسها في الماء , فقال:
" أنها الطريقة الصحيحة لتناول هذا الجوز , فالشراب السكري ينساب منها- وأنت تزيلينه في الماء".
وقالت:
" ولكن هذا الجوز البرازيلي كبير".
فقال:
" أنه يتضخم نتيجة طريقة الأعداد".
بعد الحلوى جاء المشروب المرطب , ثم قالت العمة كريسولا:
" سأريك البيت".
فرمق ليون زوجته مبتسما , وقال:
" لن تصدقي أنك في بيت , أنه واسع وبجانب أتساعه , كان في حال مذهل من البلي".
كان هناك المزيد من الطيور والحيوانات المحنطة , المثقلة بالغبار , وفي كل مكان أيقونات أمام كثير منها أضواء حمراء دقيقة , من مصابيح كهربائية صغيرة , تتدلى أسلاكها على الأرض , وتتشابك , فهمس ليون:
" هذه أصلية تساوي ثروة".
فنظرت اليه عمته وسألته باليونانية , فقال:
" أنني أخبر هيلين بأن أيقوناتك ثمينة للغاية".
قالت وقد توقفت لتحرك النور الى وسط احدى الصور:
" لا شيء زائفا هنا , أنها عتيقة جدا".
وتوقفت مرة أخرى لتعدل رسما مائلا , وأردفت:
" أنني أقبلها جميعا كل مساء".
وحدقت هيلين بدهشة , فأردفت وهي تتقدمها الى غرفة نوم أخرى:
" كل واحدة منها".
ولم تعد هيلين تتذكر عدد الغرف , وتعجبت أن تتحمل عجوز مثلها الأقامة في بيت كهذا , وهمست لليون:
" أنني أموت فزعا".
فقال:
" عاشت كل حياتها في هذا البيت فألفته".
" لكنها وحيدة .... وهذه الأيقونات ثمينة , وقد تتعرض لعدوان".
رمقها في عجب وقال:
" عدوان! هذا العنف لا يحدث عندنا , أنه نادر جدا جدا , هذا هو الفارق بين القناعة والجشع , الناس هنا قانعون , وأعتقد أن لهذا علاقة بالمناخ , فالشمس المشرقة تبعث السعادة".
كان هو نفسه يبدو قانعا , سعيدا ,ولكن في مسلكه شيئا من الرغبة أثار فيها الندم مرة أخرى ,وفي الوقت ذاته , أحست في دخيلتها بفراغ لا تدري مصدره , ولم تستطع كبح رجفة البرودة , فشعرت بأصابعه على كتفها تتحرك مطمئنة , ثم جذبها اليه , كانت لمساته رقيقة , أتراه يكن لها بعض الوجد؟ وأبتلعت ريقها , متخلصة من توتر الجيشان العاطفي ,هل تستطيع من ناحيتها أن تكن له حبا؟ وتذكرت غريغوري وكيف خذلها وهي مطمئنة اليه بثقة عمياء... كلا, لن تسمح لنفسها بحب رجل مرة أخرى , أقسمت ألا تثق برجل آخر ., حتى لا تتعرض لجرح مشاعرها وللخداع.
قالت العمة كريسولا:
" كان بيتا بديعا , ولكنه الآن مهمل , فلست أستطيع العناية به كما أعتدت , ربما من الواجب أن أبيعه , ولكنني لا أتصور أن أنتقل منه في هذه السن".
فقال ليون:
" دعيني أبيعه لحسابك".
فسألته:
" أتستطيع الحصول على ثمن جيد؟".
فقال:
" جدا, فموقعه مثالي".
وألتفت الى هيلين قائلا:
" يجب أن نأتي مرة أخرى في النهار , فللعمة كريسولا هنا حدائق بدية , فيها كل أنواع الأشجار والزهور".
قالت العجوز:
" الحدائق... أجل, ومناظر طبيعية بديعة كذلك".
وكانت تشير بأصابعها الى النوافذ , فأبتسمت هيلين أذ تصورت أن مصاريعها الخشبية لم تفتح يوما, وقال ليون وهم يعودون الى غرفة الجلوس:
" هل ستفكرين في بيع البيت؟ سأعثر لك على بيت صغير تسهل عليك العناية به".
فسألته:
" أيكون رخيصا؟".
فضحك قائلا:
" أنك كالجميع, تريدين ثمنا عاليا لبيتك , وتأملين الشراء بثمن رخيص!".
والتفت الى هيلين قائلا:
" هكذا الأمر تماما , كلما جئت , تفكر العمة كرسولا في بيع البيت ثم تغير رأيها دائما".
فقالت العجوز:
" القطط هي السبب ... ماذا أفعل بها؟".
قال ليون:
" كثيرا ما قلت لك ما تفعلين".
فصاحت عمته:
" أنك قاس, ألا تجدينه كذلك يا هيلين؟".
فأحمر وجهها ولاذت بالصمت, فقال:
" ألا تردين على العمة كريسولا؟".
قالت عمته:
" لا داعي, فأنا متأكدة أنك تضايق المسكينة بدرجة مخجلة".
ووضعت احدى القطط على ركبتها وقالت:
" ما رأيك في بيت ليون؟".
فهتفت متحمسة:
" أنني أحبه... لم أر في حياتي بيتا مثله".
تجاذبوا الحديث فترة , ثم قال ليون لعمته:
" آراتيه لا تحب العودة متأخرة , فيجب أن نذهب , ما رأيك أن تزورينا ؟".
" يسعدني هذا لأنني لم أر الطفلين , ولكن عليك أن تأتي لتصطحبني فما عدت قادرة على المشي".
أتفقوا على أن يوافيها يوم الأحد التالي , فتتناول الغداء , ثم يقلها ليون في الأصيل ليعيدها الى بيتها , وقال ليون وهو يقود السيارة:
"أعتقد أنني أعرف شخصا لديه بيت ملائم للعمة كريسولا , أنني مسرور لأنها فكرت أخيرا في بيع ذلك البيت العتيق".
قالت هيلين:
" أنه كبير للغاية بالنسبة اليها , أنها تشغل غرفتين أو ثلاثة , والغرف الأخرى عارية وباردة .... فتصور!".

أمل بيضون 25-08-09 12:37 AM

7-زيارة العمة كريسولا
كانت هيلين مستغرقة في عملها حتى أنها لم تفطن الى أن هناك من يراقبها , الى أن سمعت صوت زوجها خلفها, وقد أرتفع على خرير الماء النازل في البركة المجاورة للطاحون, وألتفتت محرجة , فأذا به يقول وعيناه مسلطتان بأعجاب على اللوحة:
" هل أوشكت على الفراغ؟ ما أسرعك!".
فأبتسمت متراجعة تتأمل عملها من مسافة وقالت:
" أنه التشجيع , كيف عرفت أنني هنا؟".
فأجاب:
" أخبرتني آراتيه".
قالت:
" عدت مبكرا".
قال:
" أخذ الحر يشتد في المكتب".
لم تكن فترة بعد الظهر شديدة الحرارة , كان هذا اليوم الثالث على التوالي يعود فيه مبكرا , هل كان يريد أن يكون معها , وأسرعت تستبعد الفكرة وتولي الرسم كل أهتمامها , وقال:
"التشجيع؟ كأنك لم تتلقي تشجيعا من قبل".
ولم تجب , فأدارها لتواجهه , وقال:
" هل هذا هو السبب في أنك لم ترسمي من قبل؟ لم يكن لديك ما ترينني عندما طلبت رؤية بعض أنتاجك؟".
وأومأت برأسها , ولكنها لم تجب, كان غريغوري يستخف بعملها, ففقدت الثقة بنفسها , ولم تشأن أن تخبر ليون بذلك, ولكنها قالت تحت ألحاحه:
" لم يكن غريغوري يعجب بأسلوبي , لم يكن يظن أن أحدا يشتري ما أرسم؟".
سألها:
" هل كنت تودين بيعه؟".
فتروت ثم قالت:
" ليس للنقود , ولكن من اللطيف أن تفكر في أن هناك من يشتريه, قال فيل أن الفنان لا ينظر الى المال بقدر نظره للأرضاء , والأرضاء لا يأتي الا بتقدير أعمالك".
وأخلد للتفكير برهة , وقال:
" هذا صحيح, سيقيم فنانون محليون معرضا لأعمالهم في نيقوسيا , وسأدخل لوحتك فيه".
وأبرقت عيناها الزرقاوان , لكن البريق خفت بعد لحظة , وقالت واليأس يزحف الى صوتها:
" لن تكون جيدة بدرجة كافية يا ليون".
قال والثقة في صوته , وبريق الزهو في عينيه:
" قلت لك من قبل أن الحكم في هذا لي".
فبادرت قائلة:
" أنه كرم منك أن تشجعني, وأنني أنا أشكرك لذلك".
كان بوسع الكلمات أن تنقل مدى عمق تقديرها ؟ كانت دائما تشعر برغبة قوية في الرسم , ولكن غريغوري أقنعها بأنها لا تجيده , مما جعلها تتراجع , وها هي تبدأ ثانية في ممارسة هوايتها , لتستمد متعة فيها ,ومن أي مديح؟ من زوجها , كان صوته خافتا, حنونا , فطغت عليها السعادة , ما الذي كان يجري ؟ تساءلت منذ أيام... هل من الممكن أن تهتم به؟ وهل هي تناضل لتمنع نفسها من أن تهتم به , لكن بدون جدوى , أن نكث ليون بوعده وقسوته ليلة خرجت مع روبرت , والتباعد بينهما , كل هذا بهت خلال تلك الأيام القلائل , وأصبح المهم أن ليون ينظر اليها هذه النظرة ويكلمها بهذه النعومة , ويلمسها بهذه الرقة.
قالت وهي تحس بحرارة يديه على ذراعيها :
" يجب أن نعود , فلا بد أن الطفلين عادا من المدرسة".
قال:
" آراتيه هناك".
وتناول منها اللوحة , ورفعها, وشعرت هيلين ثانية بالسعادة الفاترة , وما هي الا دقائق حتى كانا في البيت , كانت فيونا في الحديقة مع الكلب, أما تشيبي فكان لا يزال معاقبا , فقالت هيلين في رجاء:
" أليس لتشيبي أن يترك غرفته؟ مرت ثلاثة أيام , أنه يعرف الآن خطأه , ولا شك أنه سيعنى بفيونا في المستقبل".
وأدهشها أن ليون أستجاب لرجائها , رغم أنه ألقى على تشيبي محاضرة عندما جاء الى الحديقة , وقال ليون وهو يلاحظه أثناء لعبه مع فيونا في الأصيل:
" أظن أنك على صواب , لن يفعل شيئا كهذا مرة أخرى".
ما لبث الطفلان أن أنطلقا الى التلال , وساد صمت لا يتخلله سوى حفيف النخيل , وأستلقت هيلين على مقعدها , وأختلست نظرة الى زوجها , كانت عيناه مغمضتين , وبدا مستغرقا في سلام عميق, وأن كانت شفتاه تتحركان من آن لآخر , ترى ماذا كانت أفكاره وأحاسيسه ؟ خالت في البداية أن أنفعالاته العاطفية غير عميقة, ولكنها أخيرا أخذت ترتاب في ذلك , وراحت تتصور المستقبل وقد أدركت الآن أن قلبها خفق له , لو أنه أهتم بها حقا , لشعرت بسعادة تفوق كل ما عرفت , ولو أن ما سمعته عن طبيعة القبارصة كان صدقا , لكانت في موقف متأرجح , لأنه لن يلبث أن يسأمها .
سمعا ضحكات بعض أطفال في الغابة, فغام جبين ليون , وأرهف أذنيه , وقال:
" أنهما مع صبية القرية , ويبدو أنهم في البيت التركي القديم ".
ونهض عن مقعده قائلا:
" تعالي نذهب فنتبين ما يجري".
كان قلقه على فيونا صادقا جدا , فتذكرت هيلين ما أكدته بريندا من عدم حبه للأطفال أبعد ما يكون عن الحقيقة .
كانت فيونا وأليكس وأندرياس , كما توقع وكان تشيبي أول من رآهما فأقبل مسرعا وهو يقول:
" أننا لا نلعب لعبة السجن, وأنما لعبة الهنود الحمر".
وجرت فيونا الى عمها , وأحاطت ساقيه بذراعيها , وقالت متطلعة الى هيلين:
" أنني أحبه كثيرا".
وألتفتت هيلين ببطء , فأذا ليون يطل بحنان على الوحه الصغير الحافل بالمشاع , ثم رفع رأسه , ونظر الى هيلين وسمعته يتمتم :
" ما ألطف أن أشعر بذراعيك حولي أحيانا".
وتلاقت نظراتهما , فأختفت آخر شكوكها , كان يهتم بها , ولن يخذلها.
قال بعد فترة , وهو يفحص وهيلين الشقوق الغائرة في المبنى:
" أظنني سأضطر الى هدم هذا المكان , فهو غير مأمون وليس فيه أي جمال!".
فسألته بدهشة :
" أهو ملكك؟".
وأومأ قائلا:
" مما ورثته".
وعادا مع الطفلين سيرا على الأقدام الى البيت.
كان هيلين وليون يتناولان العشاء , بعد ما لاذ الطفلان بفراشيهما , حين عاد ليون الى موضوع الأجازة قائلا:
" أذا ذهبنا الى بافوس نستطيع زيارة أمي ... ولا نستطيع الأقامة لأن بيتها لا يتسع وربما أتفقد تلك الأرض التي أفكر في شرائها".
وتحمست هيلين للفكرة, فقررا أن يقوما بالرحلة بعد ثلاثة أسابيع حين يكون الطفلان في عطلة مرسية.
فقالت هيلين:
" يجب أن أشتري بعض الأشياء الجديدة للطفلين , في زيارتي التالية لترودي".
في تلك الأثناء زارتها العمة كريسولا , وأرتدت هيلين – أستعدادا للمناسبة- الثوب الذي أشتراه ليون , وأذ أقبلت من غرفة النوم الى غرفة الجلوس , شعرت بخجل لم تدر مصدره عندما لاحظت تغير قسماته... فقد حدّق فيها بأعجاب صامت قبل أن يقول:
" زوجتي الجميلة ! هل أجرؤ على ضم حسناء كهذه؟".
فتقدمت منه , وأحاطته , وبعد عشر دقائق قال:
" يجب أن أذهب وأحض العمة كريسولا , لن أغيب طويلا".
وما أن وصل مع السيدة العجوز , حتى وصلت سيارة أخرى هبطت منها أسمينا وفاسيليوس , ورمق ليون زوجته متسائلا , وهو يحييهما قائلا:
"هل تبقيان معنا للغداء؟".
قالت أسمينا وهي تبتسم لفيونا أذ أقبلت عليها :
" كلا يا ليون, أنما جئنا في نزهة قصيرة".
فقالت هيلين:
" يجب أن تبقيا, فالعمة كريسولا هنا".
فهتفت أسمينا:
" هنا؟ هل أستطعتما أن تخرجاها من يتها؟ أنها ترفض الدعوات دائما".
ونظرت الى زوجها وقد أستند يداعب مسبحته , وعبست هيلين على الرغم منها , فلاحظ زوجها ذلك , ولمعت عيناه بأبتسامة.
كان الطفلان يخجلان من العمة كريسولا – في البداية – والواق أنهما كانا يخشيانها , أذ كانت مجللة بالسواد من رأسها حتى قدمها وكان وجهها متغضنا , ويداها نحيلتين معروقتين , لم تتزوج أبدا , فتوقعت هيلين أن تضيق بالطفلين, ولكن ما حدث كان عكس ذلك, وبدأ تشيبي وفيونا يثرثران معها, وهي تستمتع بذلك.
بعد الغداء , قدمت القهوة في غرفة الجلوس , وكان ليون قد أغلق مصاريع النوافذ , فنظرت اليه هيلين بدهشة, وقالت:
" ألا نترك المصاريع مفتوحة ؟ من غير المعقول أن نجلس في نور صناعي بدون سبب".
فقال :
" لندعها مغلقة يا حبيبتي , حتى تشعر العمة كريسولا بأنها في بيتها".
وتدافع الدم الى محياها لنداء الأعزاز الذي لم تتعوده منه.
لاحظت ترودي التغيير الذي طرأ على هيلين حين زارها , فقالت:
" ماذا جرى لك؟".
وأردفت مداعبة وهي تضحك:
"أنني لا أكاد أعرفك , كيف حدث هذا؟ بعد كل أصرارك على ألا تقعي في الحب؟".
فضحكتا معا , وقالت هيلين , وهما في المطبخ تتناولان وجبة خفيفة:
" طلب ليون أن أدعوكما لزيارتنا , نريد أن تأتيا الى العشاء , ولكننا سنرحل بعد أيام, فلنحدد الموعد بعد عودتنا".
سألتها ترودي:
" أهو شهر عسل؟".
فسرحت هيلين بصرها على الطريق وهي تتذكر الأيام التي قضتها مع ليون في فاغاموستا , ثم قالت:
" كلا , سيصحبنا الطفلان".
فوجمت ترودي وقالت:
" هل أنتما مقيدان بالطفلين؟".
فبادرت هيلين قائلة:
" أنني أحبهما ... كلانا نحبهما , حرما الكثير , ولكننا نعوضهما الآن".
ذهبا بعد شراء ما أرادت هيلين الى مقهاهما المفضل , وبرغم النظرات المتطفلة المألوفة , تناولتا المرطبات , وكانت الساعة لم تتجاوز الرابعة عندما غادرتا المقهى , فقررت هيلين ألا تعود الى مسكن ترودي أنتظار لثيو , وأن تذهب الى مكتب زوجها , ومرتا في طريقهما الى موقف الحافلات بمتاجر الهدايا , وعندما تأملت هيلين أحدى نوافذها , هتفت في دهشة:
" أحدى لوحات روبرت, ألا ترينها جيدة؟".
فقالت ترودي:
" بلى... نسيت أن أسألك , كيف قوبلت لوحتك؟".
وأحمر وجه هيلين وهي تخبرها أنها قوبلت بأستحسان , وطلب منها أن ترسم منظرين على جدارين في أحدى الفيللات الجديدة التي أقامها أحد الأنكليز وأضافت :
" وهو معجب أيضا بأنتاج روبرت , ولذلك سوف يزين جدران غرفة الطعام".
قالت ترودي:
" في البيت ذاته؟".
فأومأت هيلين برأسها , وعقبت صديقتها:
" كيف تلقى ليون الفكرة؟".
قالت:
" أنه مسرور من أجلي , فهو يدرك أنني أستمتع بالرسم".
وعادت ترودي تسألها:
" أين لوحتك الآن؟".
قالت وفي صوتها وعينيها سرور , أجتذب الأبتسام الى شفتي صديقتها:
" أخذها ليون الى مكتبه وأتوقع أن يكون قد علّقها".
فعقبت ترودي :
" لا بد أنه يحبك, أذ يريد لوحتك أمامه طيلة النهار".

نور الدجى 25-08-09 12:39 AM

روعة شكرا امل

أمل بيضون 25-08-09 04:33 PM

كانت المسافة الى المكتب قصيرة , عندما دخلت هيلين , نظر زوجها الى الساعة , وقال:
" هل حدث شيء . كان ثيو يتهيأ للذهاب اليك بعد حوالي نصف ساعة".
فقالت وهي تضع الرزم على مقعد , وتستقر في آخر:
" رأيت أن آتي بعدما فرغنا من التسوق".
فأبتسم وهو يضغط الجرس على مكتبه :
" سأطلب لك شرابا , أ تلوحين متأثرة بالحب , لماذا حملت كل هذه الرزم؟".
قالت وهي تتلفت حولها:
" أنها ليست ثقيلة".
لم يعلق ليون لوحتها , ترى أين هي؟ وجاء ثيو بالقهوة لليون , وشراب البرتقال لهيلين, فقال ليون وهو يلقي نظرة على الأوراق التي أمامه:
"أكاد أنتهي من عملي الآن...".
هل تذكر له الرسم؟ كلا, شعرت أن هذا ليس من الصواب , وقالت بدلا من ذلك:
" لا داعي لأن تترك عملك, فلست أمانع في الأنتظار".
ولكنه قال, وهو يجمع الرزم:
" كلا يا عزيزتي , سننصرف".
أخذ الطفلان يثرثران بأنفعال فرح تأثرت له هيلين , لأنها لم تعرف هذا في حياتها , ورغم أن الأستعداد للرحلة أدى الى عمل أضافي , فذلك كان مصدرا للسرور, وقالت فيونا وهي لا تكاد تقاوم اللهفة:
" يا ليت السفر يوم الجمعة فلست أطيق صبرا".
فأجاب عمها بهدوء:
"لا بد من الأنتظار , فقد بقي للمدرسة يومان".
قالت:
" كم يوما سنتغيّب؟".
قال:
" حوالي أسبوع, أذ أحسنتما السلوك".
كانت هيلين تبتسم , وعيناها تفيضان حنانا وهما تتأملان وجه فيونا وقال ليون , في وقت لاحق:
" أنك تهتمين بهما كثيرا يا هيلين".
فقالت:
" أنني أحبهما , ولكم يسرني أنني بقيت يا ليون".
فتساءل وهو يرتقب الرد متوترا:
" ألهذا فقط؟".
أبتسمت بحنان ,وقالت:
" كلا يا ليون , لسبب آخر , أهم".
زارت هيلين مصففة الشعر يوم الخميس , فقالت ايليني وهي تكوي لها شعرها:
" سمعت أنك تجيدين الرسم, أحدى صديقات خالتي تقتني أحدى لوحاتك ... وتقول خالتي أنها جميلة".
ودهشت هيلين وقالت :
" أحدى لوحاتي؟ لا بد أن هناك خطأ ما".
كانت منذ قدومها الى الجزيرة رسمت رسمة واحدة , وهي عند زوجها , ولكن أيليني تطلعت في حيرة وقالت:
"كلا, أنها رسم للطاحونة القديمة التي في لابيثوس".
وخفق قلب هيلين أضطرابا , وأخذ الدم ينحسر من وجهها , ألم يكن ليون يشجعها للمضي في الرسم؟ وهل يمكن أن يكون قد فرط في اللوحة ؟ وسألت ايليني:
" ومن تلك التي لديها لوحة لي؟".
فقالت:
" أنها تقيم في نيقوسيا , بولا ماكسويل , كانت زميلة خالتي في المدرسة".
توقفت ايليني عن الكلام , وهتفت:
" هل أنت بخير يا سيدة بيترو؟ هل أحضر لك بعض الماء؟".
فهزت هيلين رأسها في صمت, وقد غاص الدم تماما من وجهها , وأحست كأن قلبها محاط بثلج , أذن أعطى ليون لوحتها لتلك المرأة , لا بد أنه مستمر في لقائه بها.ولكن, متى وقد أصبح لا يخرج في المساء منذ أسابيع ؟ لماذا صدقت أنه بدأ يحفل بها , لماذا سمحت لنفسها بأن تحفل به؟
لم تدر هيلين أطلاقا كيف تماسكت حتى تم تجفيف شعرها , همت بالنهوض عدة مرات, لولا قوة أرادتها , ومع ذلك لم تشعر برغبة في العودة لبيتها ورؤية زوجها , سمحت لنفسها بأن تضعف , وأن تلين لزوجها بعدما أقسمت ألا تجازف بأن تحب مرة أخرى, وأن تعتقد أنه يحف بها, وأنه أحبها منذ زواجهما , وأن لم يكن تزوجها عن حب.
وها هي ذي تعرف أنه لم يكن ثمة حب , وكل ما أراده أن تكون محظية له , لقد آذى برودها كبرياؤه , فصمم على أن يحظى منها , بمبادلة مهما يكن الأسلوب الذي يضطر لأستخدامه , أحست هيلين أنها تكرهه , لكنها كانت أكثر كرها لنفسها , لأنها استسلمت اليه بسهولة , وتذكرت كيف كاد يتوسل أستجداء لعناقها , وكيف جعلها تشعر بالذنب , هكذا كسبها اليه , وكسب حبها , ولكنها لم تعد تحبه , كلا , أنها تكرهه , وستكرهه بقية حياتها.
جرّت قدميها جرا الى البيت, لم تكن ترغب في العودة , ولكن ال أين تذهب؟ والطفلان؟ فقدا الأم والأب , وفي حاجة اليها , وتبادرت الدموع الى عينيها فكبحتها , يجب ألا يعلم ليون أن مشاعرها جرحت.
كان أمام المدخل ينظف السيارة أستعدادا لرحلة الغد , حين وصلت , فهتف:
" هل حدث شيء يا عزيزتي؟ هيلين, حبيبتي ماذا حدث؟".
يا للرياء! كان قلبها كحجر أحيط بالثلج , وأهابت بها غريزتها أن ترمي في وجهه بكل ما عرفت, لكن هذا كان كفيلا بألغاء الرحلة, وما ذنب الطفلين؟ فقالت:
" ليس بي شيء يا ليون".
ودخلت البيت دون أن تزيد , فتبعها قائلا:
" بل هناك شيء يا حبيبتي, هل أنت مريضة؟".
كان لا بد أن تتظاهر حتى نهاية الرحلة , فقالت:
" أن بي صداعا , سرعان ما سأتعافى".
قال بحزم حز في أعصابها :
" يجب أن تنامي , هيا يا عزيزتي , سأعاونك".
ورفعها الى السرير , وأنتزع حذاءها , وجذب الغطاء فوقها , ثم أغلق مصاريع النافذة , وقال:
"حاولي أن تنامي يا حبيبتي".
وما أن خلت بنفسها , حتى عجزت عن كبح دموعها , كيف فعل ليون بها هذا؟ لكم أطرى رسمها , وألح في عرضه , كيف بدا صادقا حين قال أنه يريده في مكتبه ! فليستمتع بفوزه فترة, ثم يفيق, وليذهب أذ ذاك الى بولا ماكسويل , لأن هيلين لن تجعله يقربها ثانية!
كان ليون يجلس بجوار الفراش حين أستيقظت , فسألته أن يفتح مصاريع النافذة , فقال:
" لقد هبط الظلام يا عزيزتي".
وأضاء النور الكهربائي وهو يضيف:
" أتشعرين بتحسن؟".
ما أبرعه في صبغ صوته بالأهتمام والقلق! فقالت:
" أنني بخير ... كان مجرد صداع".
فقال:
" هل أنت متأكدة؟".
أجابت:
" كل التأكيد , سأنهض الآن".
لا شك أن الصدمة جعلتها شاحبة , وصرفتها عن العشاء , وكان قلق ليون واضحا , فأمتلأت نفسها مرارة وغيظا , لو أن شعوره كان صادقا لزحفت الى ذراعيه , وألتمست عزاء على صدره.
أستيقظ الطفلان في السادسة صباحا وأقبلا يركضان , لكن ليون لم يكن ****ا , وسألها:
" هل تشعرين بأنك قادرة على الرحلة ؟ أذا لم تكوني قادرة فلن نقوم بها".
وضمّها اليه بالرقة المألوفة , كيف يكون بهذا الرياء؟ هل هناك تفسير محتمل ؟ حتى أذا كان يحب بولا, فما الذي يضطره لأعطئها لوحة زوجته ؟ وأحست هيلين بيده تربت وجنتها برفق وحنان, هل تسأله عن اللوحة؟ هل يمكن أجلاء هذا الغموض بأيضاح بسيط؟ لو كان مذنبا , فسيدب بينهماشقاق , هذا ما حرصت على تفاديه أكراما للطفلين.
قضوا اليوم الأول مع أم ليون, ثم أنتقلوا بعد العصر الى فندق في كتيما , عاصمة منطقة بافوس الحديثة, وكان المساء ميلا, صافي السماء , والهلال يمخر عبابها فوق البحر , وخلفهم سفوح جبال ترودوس , كان البحر هادئا , وسارا على الشاطىء في صمت- بعدما أوى الطفلان الى الفراش- أخذت هيلين تسائل نفسها : ترى هل أحس ليون بنفورها؟ فهي برغم محاولاتها لم تكن تقوى على النظر اليه , أو مخاطبته بتلك الرقة التي أصبحت أخيرا طبيعة لها , أذا فطن للتغيير فأنه لم يقل شيئا , ولعله حسبها لا تزال متأثرة بصداع الأمس.
قطع الصمت أخيرا , قائلا:
" ما أهدأ البحر , سنقضي الصباح على رمال الشاطىء , وفي السباحة , وفي الأصيل , ننطلق بالسيارة الى غابة بافوس".
فقالت:
"هل هي جولة ممتعة للطفلين؟".
فضغط يدها برفق قائلا:
" ستروق لك , ليست الجولة للطفلين فحسب كما تعرفين".
وتطلعت اليه تحاول كشف أساريره , ولكن اظلام لم يمكنها , كيف يستطيع تمثيل دور كهذا؟ وفجأة عادت اليها ذكرى غريغوري , ظل عاما كاملا يخدعها ببراعة , بدون أن تساورها لمحة شك , ظل سلوكه كما عهدته , لا كلمات حنان ولا قسوة , ولا مشاجرات , وها هو ذا ليون يحذق فن الخداع , حتى لتعذر أن تصدق أنه كان يخدعها.
كانت الرحلة للطفلين مغامرة عظيمة , رغم أنها كانت لهيلين محنة مرهقة , كان الطفلان في حاجة الى تغيير رتابة حياتهما , ولو أنها خيّبت رجاءهما لما صفحت عن نفسها أبدا , لكن شقاءها كان يفوق أحيانا ما تحتمل , فلم تستمتع بلحظة واحدة , وقضوا الصباح الأخير على الرمال , عند خليج صغير جميل, في غب بافوس , كان تشيبي يستطيع السباحة , وليون يعلم فيونا في كل فرصة , ولوحت الشمس بشرة الطفلين وتألقا بالصحة.
قالت فيونا وهي تتكىء على عمها في توسل:
" ليتنا لا نرحل , ألا نستطيع البقاء يوما آخر؟".
فقال:
" يؤسفني ألا نستطيع يا فيونا , ولكننا سنأتي ثانية , ربما بعد بضعة أسابيع".
ونظر الى هيلين يسألها:
" ما رأيك ؟ أتودين هذا؟".
قالت:
" نعم".
ونكست رأسها لتخفي عبوسها ... أبدا , لن تستطيع أحتما ل عذاب كهذا مرة أخرى , فضلا عن أنها أعتزمت أن تخبر ليون – عند العودة – بما علمت.
قال:
" لا يبدو أنك حازمة يا هيلين, ألم تستمتعي؟".
لاحظت أن عبارات الأطراء أختفت في اليومين الأخيرين , وأنذرها عودة الخشونة الى فمه وعينيه بأنه أحس بأمر ما ولكنها قالت كاذبة عندما لمحت القلق في عيني فيونا:
" بل أستمتعت ...أعتقد أننا جميعا نعمنا بوقت رائع".
ولم يفطن الطفلان الى شيء في لهجتها , لكن نظرات ليون أزدادت حدة , وقال تشيبي:
" نعمنا بوقت ممتع , هل تعدنا بالحضور مرة أخرى يا عم ليون؟".
وقال ليون:
" نعم أعد".
لم تفارق عيناه زوجته , كأنما كان يخبرها بأنهم سيعودون في أجازة أخرى , شاءت أم لم تشأ , وأشتد خفقان قلبها , كانت قد أطمأنت الى أن الأمور تسير على هواها , وأن بوسعها أن تملي شروطها بعدما أكتشفت تفاني زوجها , هل يقدر لهما أن يعودا الى الوضع الذي كان قائما قبل أن تتعود الأهتمام بليون ؟ كان فمه منطبقا في حزم وعيناه ترسلان ذلك الوميض البارد الذي كانت ترتجف له في أكثر من مناسبة.
هل خالجها الأمل حقا؟ ولو- للحظة واحدة – في أن تملي أرادتها على هذا الأجنبي الأسمر الصارم الذي كان زوجا لها؟ كلا , بل تقبلت الحقيقة بقلب مثقل , وأعتزمت أن تروض نفسها على تسلط ليون وتسير الحياة كما كانت من قبل تماما.

أمل بيضون 26-08-09 12:13 AM

8- نعم ... كنت مع روبرت!
رغم أن هيلين أعتزمت أبلاغ ليون بما أكتشفته بصدد الرسم, رأت أن ترجىء ذلك بأستمرار , وكان السبب- كما أعترفت- هو الجبن , فقد خشيت شجارا مع زوجها , أذ أعطاها مثالا لغضبه , وللقسوة الناشئة عنه , ولكن أحجامها خلق موقفا من نوع آخر , بطبيعة الأمر , أذ لم يجد ليون سببا للتغيير التام في مسلكها نحوه , وأحتملها لفترة بسيطة , وتولاها شعور بأن الكبرياء هي التي تمنعه أن يسألها عن سبب التغيير على أنه في آخر الأمر عالج الموضوع , ومع أنه – في بادىء الأمر- سيطر على طباعه , ألا أن الخشونة لم تكن خفية , وكانا قد فرغا من غدائهما , والطفلان يقضيان بضعة أيام لدى فاسليوس وأسمينا , في عطلتهما الصيفية الطويلة.
كانت تقرأ, فأخذ الكتاب منها بدون أنذار , وطوح به الى المنضدة , وقال:
"أريد أيضاحا يا هيلين, أظن هذا حقي؟".
قالت وهي لا تدري لماذا ترتجف , فما كان يملك أن يؤذيها :
" أيضاح؟ لست أدري ما تعني يا ليون".
قال وهو واقف وعيناه تغيمان بغضب متزايد , وأن ظل مسيطرا على طبعه:
" أتنكرين أن تغيرا طرأ عليك؟ هل تنكرين أنك لم تعودي راغبة فيّ".
فرفعت ذقنها قائلة :
" راغبة! ما رغبت فيك أبدا".
" لا تكذبي , كنا سعيدين لفترة قصيرة , فما الذي حدث؟ هذا ما أطلب أن أعرفه, التغيرات التي من هذا القبيل لا تحدث بدون سبب قوي , أخبريني بالسبب , نستطيع أن نناقش الأمر , ونبت في الخلافات التي بيننا".
لم تثر كلماته سوى مرارة بدت في قوس شفتيها , وأزدراء بدأت تشعر به نحوه, يا للهدوء الذي طلب به أيضاحات وهو على علاقة مشينة بحبيبته السابقة , تمنت أن تخبره , وتجازف بالتعرض للعواقب , ولكنها كبحت أفكارها فجأة , كانت قد مكّنته من أن يرى حبها , وفرح سرا بأنتصاره , فعندما أرغمها على حبه حقق رغبته في أن تبادله مشاعره , ولو صارحته الآن بالحقيقة , لأعتقد طبعا بأنها لا تزال تحبه , وأستنتج بأن التغيير الذي أصابها نجم عن جرح وخيبة , وما كان هذا ما تبتغيه ... وشرعت تقول:
" ما زلت لا أفهمك , عقد زواجنا بدون حب من الطرفين , ومضينا على نحو محتمل يا ليون, ولا أستطيع أن أرى لك ما تشكو منه".
أزدادت نظراته حدة كالفولاذ فقال:
" لم تجيبي عن سؤالي: ما الذي أحدث التغيير المفاجىء؟".
فسألته وفي صوتها هدوء وأن كان قلبها يدق بقوة:
" أي تغيير؟".
فصاح وراحتاه تنقبضان وتنبسطان:
" لا تراوغينني ! أجيبي وألا هززتك حتى تجيبي, أحببتني لفترة وجيزة".
وبرغم خوفها , قالت:
" أحببتك؟ كيف توصلت لهذا؟ لأنني أستجبت لك؟".
كانت تود أن تؤلمه , لا لما فعله بها فحسب , وأنما لما فعله غريغوري كذلك, وأستأنفت:
" من المؤكد , أنك لا تعلق على هذا أية أهمية".
أخذ الغضب المعتم يزحف على محياه , وكان أنطباق فمه وقسوة نظراته تنذرها ولكنها عميت عن الخطر لحظة لتجرح كبرياءه , وعادت تقول:
" أما التغيير , فالمرء لا يستطيع الأستمرار في التمثيل , كما أن المرء لا يلبث أن يسأم".
وسكتت , وساد صمت رهيب, ونهضت مترنحة وحاولت الوصول الى الباب , ولكن قبضة ليون أشتدت على رسغها , وبدفعة أعادها لمكانها والألم يسري الى كتفها.
" أذن فهكذا كان الأمر؟ كان تمثيلا , أهذا ما تقولين؟".
قالت:
" أنك تؤلمني يا ليون".
ولكنه بدا للحظة عاجزا عن السيطرة على نفسه , وراح يهزها بغير رحمة , وهو يقول:
"كان تمثيلا ؟ ستندمين على هذا ما حييت , ما من أمرأة تخدعني وتفلت من عقابي".
وغاص الدم من وجه هيلين, وراح جسمها يرتجف , ولكن اليقين بأنها حققت غايتها بغ خلال غمام الخوف , كان يعتقد بحق أنه مخدوع , وأنها كانت ضجرة خلال معاشرته , أية لطمة لكبريائه! ليصب عليها نقمته , فأنتقامها هذا يستحق ما تعاني- وتطلعت بنظرة خاطفة- كانت شفتاه منفرجتين كوحش يزمجر , وتوقعت أن تتعرض لقسوته البدائية ثانية , ولكنه- لذهولها وأرتياحها- دفعها عنه , وغادر الغرفة- وبعد لحظات , سمعت صوت باب السيارة يغلق وضجيج المحرك يتباعد.
جلست على مقعد , وأسندت وجهها الى يديها وهي ترتجف وقلبها يخفق بشدة حتى لتكاد تسمع خفقاته , كان البيت هادئا , وفجأة شعرت برغبة ملحة في أن تغادره , لكن, الى أين تذهب؟ ولأول مرة فطنت الى أنها بعيدة عن أصدقائها , ما كان لها أحد هنا سوى أقارب زوجها , وترودي , لكنها ما كانت تستطيع الذهاب الى ترودي لأنها ستشعر في الحال بأن في الأمر شيئا.
أستغرق روبرت فترة قبل أن يجيب نداءها الهاتفي – معتذرا بأنه في المرسم الذي أقامه لنفسه فوق سقف منزله , وقال:
"كنت أعتزم الأتصال بك , فأن السيد كرولي – ذلك الأنكليزي – أرسل لي مفتاحا لبيته – وسألني أن أتصل بك لنشرع فورا في الرسم , أذ يأمل في أن ينتقل الى البيت مع الخريف".
وأمسك لحظة ثم أردف:
" ما أحسبك خالية الآن , فأحضر اليك".
قالت:
" بل تعال يا روبرت , فأنني أود أن أراك وأناقش ما علينا عمله للسيد كرولي , أتقول أن بوسعك الحضور فورا؟".
" نعم , لكن زوجك؟ لديّ فكرة بأنه لا يحبني كثرا!".
وخيّل اليها أنها ترى الأبتسامة على وجه روبرت العريض الطيب – فقالت بهدوء:
" ليون في الخارج, ولا أتوقع عودته حتى أواخر الليل".
وسادت لحظة صمت , ثم قال:
" أذن سآتي بعد نصف ساعة , وسأحضر المفتاحمعي , ونستطيع الأنطلاق لنرى ما يمكن عمله في الفيلا".
وتردد قليلا, ثم أردف:
" لعلنا نستطيع الذهاب لمكان نتناول فيه الشاي".
وصل روبرت في الوقت الذي حدّده بعد نصف ساعة تماما , وبينما كانت هيلين في المطبخ لتحضر بعض المرطبات , سمعت رنين الهاتف , وخفت لتجيبه , فأدهشها أن ترى روبرت ممسكا بالسماعة , وزادها دهشة أنه أحتفظ بها بدلا من أن يسلمها اليها , وكان صوت المتكلمة مرتفعا , فسمعت هيلين كل شيء بوضوح "..... وسنذهب في سيارتك يا ليون ... أحضر بعض الفطائر أيضا , وقنينة شراب , فسنكون في العراءأحيانا , وأنت تعرف مدى صعوبة الحصول على شيء هناك ".... وأنقطع الصوت , فغطى روبرت السماعة براحة يده , وهمس وهو يرمق هيلين وعلى وجهه أغرب تعبير :
" غرام قديم لزوجك .... بولا ماكسويل... تظنني ليون , فماذا أفعل؟".
تناولت هيلين السماعة وهي متماسكة برغم شحوبها , وقالت بأدب:
" أنا السيدة بيترو , يؤسفني أن زوجي غير موجود".
وأنتظرت , وهي تعجب هل أنقطع الأتصال , ولكن بولا تكلمت أخيرا بصوت أهدأ:
" أتقولين أن ليون غير موجود؟ هل لديك فكرة عن موعد عودته؟".
فأجابت هيلين وقد خفق قلبها , عندما تذكرت أن ليون أستغرق وقتا كافيا لبلوغه نيقوسيا , أذا كانت مقصده:
" كلا , للأسف , هل أنقل اليه رسالة ما؟".
" كلا, شكرا , سأتصل به ... آه , أنه هنا الآن".
وبعد صمت وجيز قالت بولا:
" من الرجل الذي أجابني يا سيدة بيترو؟".
كان الصوت خافتا وناعما , فشعرت هيلين بخوف وأستنكار , وقالت:
" هذا أمر يعنيني يا آنسة ماكسويل".
وأتاها الرد متلكئا:
" فليكن ... لكن لا تخافي فلن أقول كلمة لزوجك!".
قال روبرت معتذرا:
" رفعت السماعة بحركة تلقائية , حاولت أن أقول أنني لست ليون , لكنها مضت في الكلام........".
وأضاف وقد تسللت لصوته نبرة غريبة:
" بمجرد أن ذكرت أسمها تذكرت بولا ماكسويل , التي كانت تصاحبه كثيرا قبل أن يتزوجك".
خرجت كلماتها بصعوبة , أذ جف حلقها:
" أيعرف كثيرون بأمرها؟".
قال مترددا:
" كانا صديقين حميمين لدرجة بالغة".
وتبعها عندما عادت الى المطبخ , وقال:
" ليس هذا من شأني , لكن ما الذي يجري بحق السماء ؟ أذا كان راغبا فيها , فلماذا تزوجك؟".
وتمالكت نفسها , وأخبرته عما دعاها وليون للزواج , فأطلق صفيرا يعرب عن دهشة , وهو يحدق فيها , لا يصدق ما يسمع .
قال وهو يتناول الكوب التي قدمتها اليه , وجذب لها مقعدا ليجلسا في الشرفة:
" أنك هادئة جدا .... لا حب من الطرفين".
قالت :
" هذا صحيح .... لا حب من الطرفين".

أمل بيضون 26-08-09 01:28 AM

وأرسلت نظرها الى البحر , فأذا به هادىء الأمواج , وحولت بصرها الى الجبال, فأذا دروب صخرية وعرة تتخللها, أذا سلكتها وجدت نفسك في العراء .... ترى أين هما الآن؟ أهما في الطريق الى مكان أعتادا التردد اليه؟ قد لا يكون في الجبال, فالجزيرة مليئة بالأماكن المنعزلة .... الشاعرية.
قال روبرت وهو يقف خارج غرفة النوم ريثما تتهيأ للخروج :
" ما رأيك في قضاء مساء طويل , وسهرة؟ نستطيع أن نتأمل البيت ونتبين ما ينبغي أن نفعله , ثم تذهب للسباحة , وننتهي الى تناول العشاء ف مكان ما؟".
أرتدت الثوب الذي أبتاعه لها ليون, فأنطلقت من فم روبرت تعابير الأعجاب وهو يتأملها , وكان تعليقه الوحيد:
" بعض الرجال حمقى!".
كان البيت , فيللا بيضاء جميلة , على جانب التل فوق كيرينيا , وبدا واضحا أنه لم يكن للمال قيمة في تصميمها , وهتفت هيلين وقد نسيت شقاءها , وراحت تتأمل ما حولها:
" ستكون جميلة أذا ما أكتملت رسومنا؟".
وكانت الأرشادات لدى روبرت , فقال وهما يسيران ليتبينا الأماكن:
" سوف نسعد بهذا العمل , نستطيع أن نؤديه معا , أوافيك بالسيارة صباحا لأقلك ذهابا وأيابا".
وتساءلت في نفسها عما يقوله ليون في تدبير كهذا ؟ من المؤكد أنه لن يقره , ولكن أقراره لم يعد يهمها .
" ستكون اللوحات الزيتية على الجدران متعة , أنني متلهف للبدء , متى تستطيعين البدء يا هيلين؟".
" في أي وقت , وأن كنت لا أدري كيف أذهب عندما يكون الطفلان في البيت , واذا عادا الى المدرسة , بوسعي الحضور كل صباح , ألا في العطلات الأسبوعية طبعا".
" أذن نستطيع البدء فورا".
وأتفقا , وقال روبرت:
" هناك مقهى صغير بديع على السفح , على مقربة من هنا , نستطيع تناول وجباتنا فيه , ستكون تسلية مرحة يا هيلين".
هل ستشعر بالمرح مرة أخرى؟ عملها الآن سيكون مجرد شاغل يساعدها على نسيان الشقاء الذي ف قلبها.
ذهبت مع روبرت الى جزء منعزل من الشاطىء , يبعد ستة أميال عن كيرينيا , فقضيا ساعتين في الماء وتحت الشمس على الرمال الذهبية , غير أن أفكارها طيلة الوقت كانت مع ليون وبولا , ماذا كانا يفعلان؟ وأعاد الماء والرمال الى ذهنها ذكرى مناسبة أخرى, حين كانت وليون على رمال فاغاموستا وأمسك بيدها بحنان , وراحا يمشيان على حافة الماء , لم تدرك عندئذ أنها أوشكت أن تحبه , ومع ذلك أستمتعت بصحبته , وأنبثقت في أعماقها بداية سعادة غامرة , ولكنها ولت!
قال روبرت بعد نصف ساعة:
" ما رأيك في بعض الشاي, وجولة في الريف , ثم العشاء؟".
وقال بعد أن بدلا ثيابهما في السيارة , كل بدوره – ونسّقت شعرها :
" هل نتناول الشاي في الميناء , أم تفضلين مكانا أكثر عزلة؟".
وفضّلت مكانا أكثر عزلة , فكانت الميناء تعج بالناس بعد ظهر أيام الأحد, ثم أنطلقا في السيارة – بعد الشاي- خلال التلال حتى أذا هبط الظلام , أقترح روبرت مطعما معروفا , وترددت هيلين فبادرها قائلا:
" من الممكن أن يشاهدنا أحد , أينما ذهبنا , ما رأيك في المجيء الى مسكني , ونعد وجبة لنا؟".
ترددت هيلين ثانية , لكن العودة الى منزلها معناه أن تقضي الأمسية وحيدة , لذلك ذهبا الى مسكنه , وقال روبرت:
" أنه صغير جدا , ولكنني أرتاح فيه , لم أكن أملك مالا كافيا , ولا أزال- في الواقع- أجري فيه التجديدات , على أنه مريح , كما أن لديّ ثلاجة".
صاحت هيلين أذ دخلا البيت:
" أراك أبدعت فيه!".
كانت في المطبخ ووراء قنطرة بيضاء مرتفعة , كانت غرفة الطعام الصغيرة – في جزء أشبه بفجوة في الجدار – وأردفت:
" أنني أعجب بهذه القنطرة والسقف , لم أشاهد من قبل أحد هذه السقوف التركية المصنوعة من الحصير".
فقال:
" ليس حصيرا , أنه غاب مجدول وليست الأعمدة سوى جذوع شجرة جردت من قشرتها , وهنا الحمام , وهذه دورة مياه صغيرة".
وتبعته هيلين وهي تتساءل:
" أين غرفة الجلوس , أذ لم تعد هناك أبواب أخرى".
وأخيرا قال:
" الآن الى الطابق الأعلى".
وصعدا درجات سلم حلزوني ضيق , فأذا هناك غرفة واحدة , أثثت كمخدع وغرفة جلوس , وضحك روبرت وهي تتأمل المكان وقال:
" أشعر كأنني حافظت على مبنى أثري عتيق , أن عمر هذا البيت مئات السنين".
قال يدعوها:
" تعالي أريك مرسمي , يجب أن تجتازي هذه النافذة , وتصعدي سلما متنقلا لكنه مأمون".
كان المنظر مثيرا للأعجاب , وهتفت وهي تطل خلال النوافذ الواسعة المنخفضة عل الجبال المحيطة والبحر:
" لا عجب في أنك تستطيع الرسم هنا , فالمكان هادى جدا ".
هبطا فقادها روبرت الى الثلاجة وقال:
" أختاري ما تريدين , ريثما أعد المائدة".
كانت هناك عدة أنواع من اللحم وكثير من الخضار الطازجة , وسألته:
" هل سنضطر لطهو شيء ما؟".
فقال:
" كلا , لا طهو وأنت في هذا الثوب البديع , لنكتف بلحوم باردة وسلطة".
أستمتعت هيلين بالطعام , لدهشتها , كان روبرت أنيسا طيبا , كما أعطاها أنطباعا بأنه عميق التفكير , وأعجبها أنه لم يذكر ليون مرة أخرى , ولا الظروف الغريبة لزواجها منه , فأستطاعت أن تحتفظ بحياتها الشخصية على حدة, ومع أن خروجها معه كان تصرفا يتسم بالتحدي , فلم تكن راغبة في تحمل مشاجرة أخرى مع ليون , بعد الذي جرى بعد الظهر , لذلك طلبت من روبرت في الساعة التاسعة أن يوصلها الى بيتها.
فارقها روبرت عند باب الحديقة , وكانت الفيللا غارقة في ظلام دامس , فأرتاحت لذلك , وآوت الى فراشها مباشرة , في الصباح التالي خرج ليون مبكرا , فتأهبت هيلين لأنتظار روبرت , بعدما ساعدت آراتيه في الأعمال لمنزلية .
أقبل روبرت في الساعة التاسة , وقاد السيارة خلال الطريق الطويلة , فوصلا الى العاصمة بعد العاشرة وأستغرقا أكثر مما توقعا في شراء لوازمهما للرسم , فأقترح روبرت أن يتناولا الغداء في نيقوسيا , وذهبا الى الهيلتون , وكانت أول من رأت هناك , بولا ماكسويل , جالسة الى مائدة لشخصين , في أحد الأركان , وشعرت هيلين أن قلبها يقفز من مكانه , وتذكرت المناسبة التي رأت فيها زوجها وبولا هناك لتناول الغداء.


الساعة الآن 04:01 PM

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.