- - - - - - - - - - -
أهلى و عالمى الصغير
أبِى، و وَلَدِى الأثير.. فكُلُّ النَّاسِ أنْت!
تمَهَّل؛ ليست تلك ككُلِّ السوابِقِ مِن رسائلنا
فمدينتى جمعاء، ستكتُب رسالةَ اليَومِ إلَيك
مازالت مدينتى تَذكُرُك كلَّ صباح، تُغنِّى مِن حَولك، و تَهبك دونما شَرط كُلَّ عَشيَّاتِها و أغانيها
تتنفَّس ذكرياتٍ مُتفرِّقة، تشهقُ فى لُجَّةِ الحنين؛ فتتعثَّر الأنفاس، و تنتفض المدينةُ كاملةً، ضائعةً فى حالة شتات
أتدرى!.. لقد حاوَلَت نسيانَك ذاتَ مَرَّةٍ كما وَعدَت.. ألا تراها قد أفلحَت؟
صحيح.. حاولَت؛ فلا أفلَحَت، ولا صَدقَت
ما زالت المدينةُ تشتاقُك.. مِن خَلْفِ جُدرانِها، أسوارِها و أسرارِها و حُصونِها؛ تَحمِلك فى داخلِها أبدًا، و ترفُض التخلِّى و النسيانَ أبدًا.. و تتمَخَّض كُلَّ يَومٍ عن رسالةٍ جديدة.. لأهلِها الغائبين، المفقودين، الضائعين فيها
و الآن.. أخبرنى؛ فكيف هى مَدينتُك؟؟
أسألُك عنْك.. و عَنِّى
أما زال شَعبُك الطَّيبُ المُتناقِض جَميلاً و حَبيبًا كما هو؟
أمازال طَيِّبًا.. أما زال على تَناقُضِه؟
قُل، فاصدُقنى.. أنَسى شَعبُك مَدينَتَه؟ أيُفَكِّر أنْ يَهجُر مَكانَه؟.. أسيَنسَى؟!
أتعلم!.. ما نخشاه حقًا، و يؤلمنا حقًا.. ليس هو بالبُعد، ولا الافتراق.. الاغتراب.. المَوت
إنَّما ما يؤلم، يُنهك الروح، و نَخشاه.. هو ما بَعد كُلِّ شَىء؛ ما بعد عَلياءِ الشُّعورِ مِن هبوطٍ اضْطِرارِىّ
ما بعد بَردِ الغُربَة مِن صَقيع، ما بعد الافتراقِ مِن حرارةِ جُرحٍ يلتَهِب ألَمًا، ما بعد الألَمِ مِن نسيانٍ قَسْرِىّ... ما بعد المَوت..
أن أفتَح ذات يوم صُندوقَ البَريدِ المُقفَل بداخلى على احتوائه رسائلنا.. يختزن ذاكرتى، ليُصبح بيتَها، و سَجنَها
أن نَفتَح صُندوقَ البريد، مُحاولين خِداعَ أحاسيسَنا و أنفاسَنا الثَّقيلةَ الحائرة، بأمَلٍ يَقول كَذِبًا: (سنَجِدهم كَمَا هُمْ).. فلا نَجِد شَيئًا سِوَى بِضْعَ وُريقاتٍ اهتَرَأت.. و بِضْعَ ذِكرياتٍ، احترَقَت
أمْرٌ مُثِيرٌ للشفَقَة.. صَحيح!
انْتَظِر؛ فالأكثَر سُخريةً يكون حينما تُغلِق الصناديق سَريعًا، هَرَبًا مِن رائحةِ ذِكرى فاجأتْك.. فتَرَى -مِن بَعدِ حين- أنَّك كُنتَ تَهرب مِن نَفسك، روحك و روائحك.. و أنّك أغلَقْت الصُّندوقَ مِن بابِه الوَحِيد مِن حَولِك، يَلُفُّك عَبقُه؛ فيَخنقك، يُغشِى روحَك و مَلامِحَك، أرضَك و عالمَك.. مَدينتَك، و شَعبَك، و أُناسَك المُتخَبِّطين الحَيْرَى
المدينة، و شَواطِئها الغارقة، و مَوانئها التى فقَدَت أنفاسَ الحَياةِ.. فاستَوطَنها البَرد
أنفَقَت عَليهم المدينةُ كُلَّ مَخابِئها و بُيوتِها، ألقَت بالجُدرانِ و الأعمِدَة، بأحيائها و مَناطِقِها، تاريخِها.. بكُلِّ ما فِيها و ما لدَيها؛ رهانًا عن غيرِ رؤية و غيرِ عَمْد.. فى سلَّةٍ واحدة
إنَّها غَلطتُنا الأزَلِيَّة، التى نُصِحنا عَنْها، لكنَّنا بعَينٍ أغشاها الأمَل، نُخطِئُها، كثيرًا، لنَعلمها أخيرًا؛ فعبثًا نُصلِح أو نَنْصح..
يُخطئونها مِن بَعدِنا، كثيرًا، فيَعلَموا.. ليَنصحوا، مُتأخِّرين...أرأيْت!
تَخيَّل!.. ما زِلتُ أنسَى أنْ أضَع للرسائلِ عُنوانًا.. فتُرى؟ ما هو عُنوانُنا؟
تَخيَّل!.. ففِى لَحظةِ جُنونٍ –كتِلك- قَد نُلقِى بكُلِّ الرَّسائل، و نَزفُر آخِرَ الأنفاس، و نَكسر كُلَّ ما تَبَقَّى؛ فلا نُبقِى إلاّ عَلى بَيتٍ صَغِيرٍ نَختِبئ كُلُّنا فِيه.. عَلَّه يَنسِج مِن حَولِنا خُيوطًا مِن الدِفْء
تَخيَّل!.. فى لَحظةِ جُنونٍ –كتِلك- قَد نُذَيِّل رسائلَك.. باسْمِ شَعبِنا؛ شَعبِ المُتعَبين
أهلى، و عالمى الصَّغير
أبِى، و وَلَدِى الأثير..
أعتَذِرُ عَمَّا قُلت؛ لَمْ تَكُن رسالتى إلا كسَوابِقِ رَسائلِنا..
وَيلِى إذا تَشَرَّبْتُ برسائلى دونَما إدراك، كبَقِيَّةِ البَصمَة، و لَنْ يُصبِح لها مِن مَهرَبٍ ولا انتِزاع
للمُلتَقَى؛ إلى أنْ نَنسَى.. أو نُنسَى
نَنْسَى!!
و مَن قال أنّا نُريد النِّسيان؟!
لَحظة؛ كِدتُ أنسَى كعادَتِى...
التَّوقِيع: مَدينَتُك.. (نَحنُ، سَابِقًا)