عرض مشاركة واحدة
قديم 23-10-14, 10:07 AM   #25

❀| ℓįgнт sPįяįт ~
 
الصورة الرمزية ❀| ℓįgнт sPįяįт ~

? العضوٌ??? » 196100
?  التسِجيلٌ » Aug 2011
? مشَارَ?اتْي » 291
? الًجنِس »
My Facebook My Twitter My Flickr My Fromspring My Tumblr My Deviantart
?  نُقآطِيْ » ❀| ℓįgнт sPįяįт ~ has a reputation beyond repute❀| ℓįgнт sPįяįт ~ has a reputation beyond repute❀| ℓįgнт sPįяįт ~ has a reputation beyond repute❀| ℓįgнт sPįяįт ~ has a reputation beyond repute❀| ℓįgнт sPįяįт ~ has a reputation beyond repute❀| ℓįgнт sPįяįт ~ has a reputation beyond repute❀| ℓįgнт sPįяįт ~ has a reputation beyond repute❀| ℓįgнт sPįяįт ~ has a reputation beyond repute❀| ℓįgнт sPįяįт ~ has a reputation beyond repute❀| ℓįgнт sPįяįт ~ has a reputation beyond repute❀| ℓįgнт sPįяįт ~ has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   ice-lemon
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم . .

07

-” هل مررت اليوم على ذلك المقهى كما تفعل بالعادة ؟ “
سأل بفضول وهو يحدق بتركيز واهتمام في يمان الجالس على الطاولة نفسها التي اتكئ عليها بيده مميلًا جسده إليها،ولم يطل انتظاره،أجابه يمان وهو يعبث بيديه المرخيتان إلى حجره :-“أجل،لكنني كنت مستعجلا فغادرت سريعا بعد أن التهمت وجبتي دون أن تتسنى لي رؤيته “
انبرى رفيقه نحيل البنية يقول وعيناه تلتمعان : -“تقصد ذلك الشاب المريب الذي آلت له رئاسة المقهى قريبًا صحيح ؟”
تأفف يمان بانزعاج بارد ولم يلتفت إلى وارِف :-” حتى أنت أصبحت تتحدث عنه بهذه الطريقة الملغزة !
حقًا يتراءى لي أن تلك المحاولات السخيفة من أولئك الناس الجهلاء لتشويه صورته قد نجحت تقريبًا !
يالكم من أناس مملين !”
رفع وارِف حاجبه الأيسر وتأمل في يمان كما ينظر الشخص إلى امرؤٍ قد سحرت عقله ضلالة ما،ثم قرر فجأة أن يتكلم :-” اسمه ذاك . . ماذا كان ؟ . . آه صحيح،غارِب،هل أنت متأكد أنه اسمه الحقيقي ؟ أيّ والدين أغبياء يطلقون على ولدهم هذا الاسم !” تجاهله يمان،رغم أن هذه النظرة المستفزة المستحقرة التي يوجهها نحوه تجعله يودّ لو يدخل يده في بطنه ويلعب بأحشائه،فانتفشت سخريته أكثر،واسترسل قائلا :-” أتعرف أيضًا ؟ يقال أنه سكّير سابق !” رفع يمان إحدى ساقيه ووضعها على الطاولة،ثم عاد إلى الوراء مسترخيًا ببرود،وبتجاهل كامل أخذ يجيل ناظريه في الغرفة الشبه ضيقة،محاولًا ألّا يفكر في فعل أيّ شيءٍ غبي.
-
صوت المياه المندفعة في المواصير يصل إلى سمعه خفيضًا وناعمًا،ارتعشت يده قليلا من برودة المياه التي انسكبت من الصنبور بضعف،إنه شاردٌ تمامًا،بينما يحرك يده ببطء ليغسلها تعصف الأفكار بذهنه
” إنكم تتمشون برفقته في أرجاء الحي ولا تشعرون أو تعلمون بتلك الأقاويل والظنون السيئة التي تحاك في الخفاء عنكم”

كان هذا آخر ما قاله له وارِف الأحمق الذي يدمن التذاكي،ويموت لو لم يظهر نفسه كإنسان فهيمٍ وحَذِق،ياللسخف،ألا يمكن أن يكف هؤلاء الناس عن ادّعائهم بمعرفة وملاحظة الحقائق ولو من مسافة بعيدة ؟ من منهم يعرف غارِب أكثر منه !

ما كان ليصدّقهم أبدًا،وهو قد سبق له أن اشتمّ رائحة قلبه،رائحة قلبه الصافية الحقيقية،لقد كان قلبه يفور كمدًا وقتها،لقد عرف هذا من نظرة عينيه،كانت راجفة وحزينة كشرارة توشك أن تنطفئ.

كان ذلك في اليوم التاسع عشر من أيلول الماضي . .
مضى وقت على خروج الناس من المساجد وعودتهم إلى بيوتهم.كانت السماء سوداء ولا يوجد أثر ظاهر لأي نجمة،سماء صمّاء ومنبسطة كنوم بلا أحلام.الشارع خالٍ تمامًا وليس من أحدٍ حوله ولا القطط الشاردة.هناك فقط الصمت،والسكون والجمادات،مامن هفة رياح واحدة.بجانب عمود إحدى المصابيح المضاءة كان واقفًا،يداه معقودتان إلى صدره،ونظرته صامتة تحدق في الفراغ بينما رأسه يحوم في اللاشيء.لا يعرف لمَ لا يريد الذهاب إلى المنزل،يبدو له الآن عندما يعود إلى تلك اللحظة من الزمن عبر ذاكرته،أنّه القدر،شاء الله ألّا يتحرك من مكانه قيد أنملة.وفجأة،سمع صوت خطوات،تلّفت وهو يشعر بلهفة عصية على التفسير،وهاهو،يراه،يمشي كسيرًا،يجر قدميه،وعيناه شاخصتان.هبّ يمان واستقام في وقفته،مصدومًا أخذ يتأمل في هيئة الذي يحث إليه الخطى دون أن يدري،حقًا،حقًا إنه غارِب ! عجبًا،مالذي حصل له،جزء ليس بقليل من قميصه قد اختفى،ولكن لا يبدو أنه قد تمزق،إنما تدل أطرافه المسودّة على أنه احترق،وهذه الآثار الحمراء المتجعدة على جلد ساعده وجزء من صدره ! تقدّم يمان وابتلعت قدماه المسافة التي كانت تفصلهما بسرعة،توقّف أمام غارِبْ وهو يلهث،لا يزال لا يشعر به ! قطّب حاجبيه ومدّ ذارعيه ليحرك كتفيه وهو يناديه باسمه،أخيرًا انتبه إليه غارِبْ،وأخذ يطرف بعينيه عدة مرات كشخص للتو استيقظ من غيبوبة !
-” يمان . . .”
همس بضعف،كان صوته مبحوحا،وعيناه محمرتان تماما،رفع يمان حاجبيه مندهشًا،وحركت الرياح التي قدمت فجأة من الشمال سترته وشعره الأسود :
-” غَاربْ ، يا إلهي مالذّي أصابك ؟ “
-” يَمان . .”
أعاد غارب همسه الخفيض ، وقبل أن يباغته يمان بالسؤال ثانية،أرخى ناظريه والتقت عيناه الذابلتان بعيني يمان :
-” لقد التقيتُ فتاة . . “
-” مرّة أخرى ؟ أهي تلك ؟”
تنّهد غارِب،تراجع وجلس على الرصيف بخمول وبطء،جلس يمان فورًا بجانبه،تكلّم الأول بصوت بائس :
-” فتاة أخرى . . لكن هذا ليس مهمًا . . إنني . .
أطرق برأسه وخللّ شعره الأشقر الكثيف بأنامله :
-” إنني . . فعلتُ شيئًا رهيبًا . .”
-” لقد . . قمتُ بحرق منزل “
شهق يمان بصدمة ، ثم تمالك نفسه وأسند مرفقيه على ركبتيه :
-” هل آذيتَ أحدًا ؟ أي منزل . . . أشعلت فيه النار ؟ “
-” أجل . . “
سَألَ مذعورًا :
-” من ؟! “
-” نفسي . . لقد آذيتُ نفسي “
قالها ببرود ، لكنها وياللغرابة كانت من الداخل تسحقه . . ولم يبدُ من يمان أي ردّ فعل غير الصّدمة والذهول
،استمر بالاستماع فقط لهذه الكلمات المؤلمة :
-” لقد حرقتُ منزلي،وآذيتُ نفسي . . لكن،لم يحدث شيء ! “
زحف يمان إلى الجانب الآخر قليلا ، إن رغبته بالنفور من غارِب في هذه اللحظة بالتحديد ، تكاد تمحو كل ما في قلبه له من مشاعر صداقة ، لكنه رغم ذلك عاود الكلام هازئًا بنفسه وقلّة وفائه ، وسأله بوجل وهو يتفحّصُ بحزن آثار الحروق الظاهرة على جلد غارِبْ :
- ” لماذا . . حرقتَ . . منزلك ؟ “
أجاب ، مُطرقًا ، وقد أرعشه الهواء البارد قليلًا :
- ” لأنّـه الماضي . .”
- ” وماذا عنِ الماضي ؟ “
رفَع غارِب وجهه قليلًا ، فلمح بطرفه الشارع الخالي ، صمتَ قليلًا ، وقبل أن يتكلم ثانيةً ، غرقت نظرته في الدمع ، وعضّ الأسى قلبه :
- ” الجوع . . والحيرة ، والقدرة العمياء . . والندم الطويل “
واستحضر في مخيلته صورة شخصٍ ما ، وأوشك يمان على الشعور بالرعب حقًا الآن ، وماذا بعد هذه الكآبة الشاعرية ؟

لا ، إنه متأكد من أن غارِبْ لن يعاود التفكير في الانتحار ، لقد أصبحت هذه الفكرة قديمة وغير مفيدة بالنسبة له ، يتمنى لو يستطيع أن ينظر في عينيه قليلا ولو لثانيتين ، ربما بإمكانه أن يحزر ، لو كان هناك شيءٌ ، غير الرجفة والحزن ، ربما ذوبانُ يجرف معه كل ما تبقى لديه من ضمير ، ربما رغبة جامحة باستدرار الكراهية والمعاناة ، لكن كل ظنونه قد خيّبت ، فهاهو غاربِ يميل رأسه على إحدى يديه المسندتين على ركبتيه ، ولا يفعل شيئًا بعدها غير البكاء بصمتْ .
يتساءل بحنق بينما تندلق عبراته ، مالّذي وضع يمان في طريقه ، في هذا الوقت بالتحديد ؟ حقًا ،
لو تسنّى له أن يفكر قليلًا ، لما اتّجه لشخص غير فؤاد ، ولكن مع ذلك
، إنّ هذا الأمر كله يُغيظه ويؤلمه ، لمَ عليه في كلِّ مرة يتهاوى فيها أن يسقط على أحدٍ ما !
لكم هو مؤلم هذا الحتفُ الذي ينتظر كلّ من قد نظر في هاتين العينين المكدّرتين كغابة يُغرقها المطر البارد الموحل . .
وما استطاع التّوقف عن البكاء ، كما لو أنّ ينبوع روحه قد انفجر أخيرًا ، وانبجس محطّمًا قلبه القاسي كصخرة .
” يا إلهي ، هذه الليلة لا تريد أن تنتهي ، تبدو كما
لو أنها ستمتد إلى الأبد وتمتصًّ العُمر كله ! ”
فكّر يمان وهو يحسُّ بالقلق يقتحمه ، إنّه يحاول صدّ ارتباكه ، يبتلع ريقه بين لحظة ولحظة ، ويختلس نظرات
قلقة إلى الشارع ، ويكادُ أن يمدّ يده ليضعها على كتف غاربْ مواسيًا له
، ولكنه فجأة ، بدأ يخشى رؤية عينيه ، وكأنه إن رآها ، سوف تحطمه .
على أيّة حال ، سوف يصمت قريبًا ، ولسوف يعود قلبه قاسيًا صارمًا أصمًّا ، ولسوف تكفًّ روحه عن فيضانها. ليس عليه أن يقلق ، إنّ الزمن مازال يمضي ، ولن يتوقّف ،
إنّما ما عليه أن يخاف منه ، هو إذا ما كان غارِبْ قادرًا على مجاراته بعد ْ، أسوف يظلُّ يركض حتّى تنكسر ساقيه
، أم سيلقي بنفسه لتدوسه الأقدام والكآبة ؟
صَمتَ غارِبْ على حين غرّة ، ووقف ثمّ التفت نحو يَمان الذي تبعه بسرعة مأخوذًا بهذا السكوت الفارغ المفاجئ ، بدا وجهه وكأنّه يعاني إيذاءً ما ، تكلّم غاربْ بصوت أجش
وهو يحدّق في الأشجار التي تحفّ الطريق الواسع :
-” هلّا أعطيتني سترتك ؟! “
رَمش يمان بارتباك ، وأسرع يخلعها عنه بخجل مفكرا كيف أنه لم يعطه إياها قبلًا ، فإنها واسعة ولن تضيق عليه !
وما إن أخذها غارِبْ ، مَضى مغادرًا دون أن يتفوّه بكلمة واحدة ، وذهبت نظرة يمان في إثره حتى اختفت
وأثرها الخفيّ يرفرف فوق قلب الرّاحل .
لقد عاد يمان إلى المنزل بعدها ، وما زالت آثار تلك الضربات والشتائم التي تلقّاها منه موجودة .

.
بالكاد صَحى يمانُ من ذكرياته ، إنما لم يقوَ شيء على انتشاله منها سوى ضربة أعطاها إياه شخصٌ ما يركبُ دراجة نارية صوتُ هديرها يُخالط أصواتَ ضجيج الشارع ، لقد خرج يمانُ من المخزن بعد أن أتمّ غسل يديه وهو في غفلة من أمره ، وللتو استوعب وهو يحدّق في الشاب متوسّط القامة الذي لم يكن واضحًا من وجهه سوى عيناه إذ كان يرتدي الخوذة .
-” السلام عليكم . .”
ردّ يمان مبتسمًا بهدوء:
-” وعليكم السلام والرحمة . . أهلًا جوهر”
-“ما بالك تبدو شاحبًا ؟ “
أدخل يمان يديه في جيبي بنطاله الباهت :
-” لا شيء فقط كنت أتذكر بعض الأشياء . . “
-” هل كنتَ مع وارِف ؟ أليس هذا منزله ؟ “
رفع يمان يده ولمس بكفه جبينه الواسع وأغمض عينيه للحظة :
-” آه نعم ، لكنه خرج منذ فترة . . إلى أين أنتَ ذاهب ؟ هل تستطيع أخذي معك ؟ “
رمقه بنظرة جامدة :
-” إلى أين ؟ إلى هناك ؟ “
أومأ له يمان ، وببساطة قال وكأنه يقرر أمرًا لا مفرّ منه :
-” لا بدّ بأن أذهب اليوم ، وإلا ستفوتُ عليّ الفرصة . . وبصراحة اشتقتُ للعمل ، لا أحب أن أقعد هكذا ، لا بدّ بأن تعمل يداي ! ” أشاح جوهر برأسه وبحركة سريعة أقفل زجاج خوذته :
-” إذًا انتبه “
أعطى يمان خوذة أخرى كانت بحوزته ، وأشار له بأن يركب :
-” صحيح نسيتُ أن أخبرك ، غاربْ لم يأتِ اليوم ، فقررنا أن نوقف العمل جميعًا ونرتاح ! “
تقّدم يمان وركب وراءه بعد أن ارتدى الخوذة ، وما إن استقرّ قاعدًا حتى انطلق جوهر بدراجته الفضية مخترقًا السيارات السائرة.
-
لا ، لا ، حقًّا لقد طفح الكيل ، لو كان هذا الميّال – الذي بدأ الجميع بالسؤال عنه فور رؤيتهم له – أمامه ، للكمه حتى يحطّم فكه ، لقد نفد صبره ، الآن أيضًا وللمرة المليون ربّما يسأله أحد أفراد العائلة عن أخيه الجائر هذا . . تبًا ، تبًا له ولانعدام المسؤولية واللا مبالاة التي لديه ، ماذا ، كيف كاد أن يحسده أمس على مقدرته هذه !
ياللحماقة ، وما يزيد الطّين بلِّة ، هو هذا التعبير الحزين الذي يراه جاثمًا على وجه أبيه العزيز ، آه ، إنه مغتاظ إلى درجة عظيمة ، بالكاد أجبر نفسه على أن يتغاضى ، وابتسم ابتسامة صفراء وهو يجيب على إليانْ الذي سأله للتو :
-” لقد ذهب ليتمّ عملًا ما . .”
وعاد ليطرق برأسه ويغوص في تنهداته ودواماته الداخلية .
إنه لا يستطيع تحمّل هذا الحزن الذي يسببه غياب ميّال المتكرر لأبيه ، والشيء الذي يحيره حقًا ، ولكنه يحاول قدر استطاعته التغاضي عنه لأنه ليس من السخافة أن يفكر فيه ، هو كيف لأبيه أن يحزن كل هذا الحزن ، على ذهاب ميّال ، ولا يبالي به هو !
لماذا يحبه كل هذا الحبّ ؟ مالذي فعله ميّال له ؟ منذ وعَى على الدنيا وهو باردٌ وجافٌّ في التعامل معه ، يبدو وكأنه لا يعرف العواطف ، يخيّل إليه أنه لو كان مكان والده السيد جلال ، لَما بالَى بميّال ، إنه يتمالك نفسه لئلّا يقول له ” أيّها العاقّ ” في كل مرة يعود فيها من هربه الأحمق هذا .
تنّهد مجددًا ، الجميع حوله صامتون ولا يتحدثون إلا قليلا ، كلُّ منهم يبدو منشغلًا بهمه ، يظنّ أن هذا الوضع الهادئ بسبب عدم وجود الثلاثة ” آماليا وراهب وأسود ” ، الأخوات الكِبار غائباتٌ أيضًا .
لكم يختلفُ مجلسُ اليوم عن مجلس الأمس !
على أيّة حال ، لا بدّ أن يبقى أمام والده ليعينه إنِ احتاج إلى أي شيء ، لقد اعتاد أن يكون السابق إلى خدمته.
سوف يهدئ الآن ، وليذهب ميّال إلى جحيمه الذي يصنعه بنفسه ، جحيمه الذي لن يجرؤ سروب على اقتحامه مرة ثانية أبدًا . إنّ أخاه هذا مجنون ، فليدعه مع جنونه ما دام بعيدًا عنه .
-
-” توقّف هنا يا جوهر . . سأقطع المسافة المتبقية مشيًا !”
نفّذ جوهر أمره دون أن ينبس ببنت شفة ، ضغط المكابح وتوقف قرب الرصيف ، كانت المنطقة التي يتواجدا فيها هادئة ولا وجود لُأناس خارج السّيارات ، هناك فقط أربعة أشخاص أو خمسة يجلسون على كراسٍ أمام حديقة صغيرة ، نزَل يَمانُ عنِ الدراجة ، اعتلى الرصيف ، لوّح بيده لجوهر ، وأسرع يغذّ الخطى داخلًا إلى الحديقة ، ما إن داس العشب بحذائيه حتى تمنى لو يخلعهما ويستمتع بمداعبة الأعشاب لقدميه ، لكن لا وقت لهذا ، إنّه ذاهبٌ إلى موعِد مهمّ سيحددّ إذا ما كان سيعملُ أم لا !
أخيرًا ظهرت أمامه البوابّة ، ما بينه وبينها الآن سوى شارع سكنيّ يقف على جهته المقابلة ، لم تكن هناك سيّارات ، مرّ سريعًا ، وهاهو واقفٌ أمام البوابة .
مدّ يده هامًا بأن يضغط زرّ الجرس ، كانت هناك لوحة إلكترونية إذا سمع أحدٌ ما الجرس وأتى ليجيب فإنه سيرى وجهه ، قبل أن يضغطه بثانية ، نهاه شخصٌ ما بهمهة سريعة ولطيفة . التفتَ متفاجئًا ، كان الشخص عجوزًا يرتدي مريلةً ويمسك بمقصّ ، قد خرج من بوابة صغيرة جانبية تبعد عن البوابة الرئيسية بمترين فقط .
-” تفضّل من هنا رجاءً . .”
وأفسح له الطريق مبتعدًا ، أقبل يمان وعلى وجهه تعبير هادئ ومُسالم لا ينبئ بأي انفعال قادم ، دخل بعده العجوز الذي لا يبدو معمّرًا جدًا وأقفل الباب وراءه .
حديقة كبيرة وغير مشذبة ، ذلك ما رآه فور دخوله ، يا إلهي هناك الكثير من الأشجار والأعشاب المتشابكة ، أهذه حديقة أم غابة !
- ” إن هذا القصر قديمٌ نوعًا ما . .”
تكلم العجوز موضحًا ، أومأ له يمان فأكمل مسترسلًا بصوتٍ أجشٍ بعض الشيء :
-” هذا الجزء من نصيبي أنا والعامل الآخر ، لكنه غائب الآن ، لذا سأستلم العمل لوحدي ، وأنت . .
أشار بيده إلى الناحية اليسرى :
-” أنتَ سوف تشذّب الجزء الذي هناك ، إنه أبسط من هذا بكثير ، فقط زهور كثيرة وخمسٌ شجراتٍ أو ستّ ، آه . . إنه أبعد جزء عن القصر أيضًا ، لكن لا تقلق ليس هنا أشباح ! “
يبدو أن هذا العجوز يحب الثرثرة . لم يرد عليه يمان بكلمة ، فقط أومأ كعادته ، وتبع العجوز الذي التفت وأمره باللحاق به بحركة من يده .
مَشيا مسافة قليلة ، غرفة متوسطة الحجم ببابٍ ونافذة وحيدين ، توجّه إليها العجوز بينما كفّ يمان عن التقدّم ووقف منتظرًا ، قال العجوز وهو يمسّد شعره الشائب والشّبه أشعث :
-” سوف أجلب لكَ أدواتك ، هذه الغرفة هي مسكني ومخزن الأدوات في نفس الوقت ، إني أعيش وحيدًا وليس لديّ عائلة . . “
شعر يمان بأن العجوز ابتسم ابتسامة غامضة وهو يقول آخر جملة ، وكأنه يودّ أن يشير إلى شيءٍ ما .
خرج العجوز بعد قليل حاملًا الأدوات ، وضعها على الأرض وأشار ليمان :
-” انظر إليها فقط ، أما الآن فتعال ادخل ودعنا نتكلم قليلًا . . إننّا رفيقا عمل ، ياللسخرية ، عجوز ومراهق ربما يمسيا الليلة صديقين !”
حافظ يمان على صمته ، فقط ابتسامة ودودة نوعًا ما اعتلت شفتيه وهو يتقدم ليدخل إلى الغرفة .
كانت غرفة ذات تصميم بسيط وشبه عارية من الأثاث ، عدّة أمتار من الأرض الخشبية بقيت ظاهرة للعيان ، هناك فقط سرير في الناحية الشمالية من الغرفة ، على مقربة منه دولاب حديدي بدرفتين فقط ، وفي الجهة اليمنى ، طاولة فوقها غلاّية كهربائية ، وغاز كهربائي صغير ، وبضعة صحون وأكواب مرصوصة بترتيب ، وبجانب الطاولة هناك ثلاجة . وأمام هذا المطبخ التحضيري، هناك أريكة متوسطة الحجم ، لونها أزرق كالح ، وثلاثة كراسٍ من الخشب الخفيف مرصوصة بجانب بعضها البعض .
جلس يمان على إحداها من تلقائ نفسه ، ظهره للسرير ، الأريكة التي أمامه تحجب عنه نصف جسد العجوز الذي تقدم باتجاه الثلاجة وفتحها بينما يقول :
-” ماذا تحبّ أن تشرب ؟ “
يمان منغلق وصامت كرغبة قديمة . التفتَ العجوز ونظر إليه من زاوية عينه زيتونية اللون وكأنه ينظر إلى جرح صغير ملتهب بيده :
-” أخرسٌ أنت ؟ “
رمقه يمان بعينين فاترتين :
-” أحيانًا . .”
كشّر العجوز في وجهه وأصدر صوتًا استنكاريًّا مضحكًا ، ثم تولّى عنه وأخذ يصبُّ المشروب الغازي الذي أخرجه من الثلاجة ، اهتزّ الكوب المعدني وكأنّ البرودة أرعشته ، أمسك به العجوز ومضى ليسلمه يمان ويجلس دون أن يعد لنفسه شيئا يشربه . استلم يمان الكوب بصمت ، إنه متعب ، تحديدا لا يدري لماذا ، لكنه متعب وشيءٌ ما ، شعورٌ غامضٌ يلفه ويأخذ بمجامع قلبه ، ويقتل رغبته بفعل أي شيء ، أهو تأثير تلك الذكريات ؟


كشّر العجوز في وجهه وأصدر صوتًا استنكاريًّا مضحكًا ، ثم تولّى عنه وأخذ يصبُّ المشروب الغازي الذي أخرجه من الثلاجة ، اهتزّ الكوب المعدني وكأنّ البرودة أرعشته ، أمسك به العجوز ومضى ليسلمه يمان ويجلس دون أن يعد لنفسه شيئا يشربه . استلم يمان الكوب بصمت ، إنه متعب ، تحديدا لا يدري لماذا ، لكنه متعب وشيءٌ ما غامض ، شعورٌ ما غامضٌ يلفه ويأخذ بمجامع قلبه ، ويقتل رغبته بفعل أي شيء ، أهو تأثير تلك الذكريات ؟
بدأ يشرب شارِدًا ، العجوز يجلس واضعا مرفقيه على ركبتيه ، ويتأمّل في كل بوصة من يمان وكأنّما يقيمه ، هذا الوجه النحيل بعظامه البارزة بعض الشيء ، الحاجبين الكثيفين الغامقين ، الوجنتين الممتلئتين امتلاءً قليلا ، الأنف المتوسّط الطول . أوشكت ذاكرة العجوز أن تفور وتطفح كل مكنوناتها إلى الداخل مثل نهر دفع الزبد العائد منه كل أوساخه ، عندما قطعت تأمله حركة يمان المفاجئة بوضع الكوب على الطاولة التي أمامه ، ورغم أنه فعلها بهدوء . نظر إليه العجوز بحدة ومالبث أن طقطق بلسانه بصوتٍ عالٍ قبل أن يقول :
-” هيّا يا متبلّد الإحساس ، اذهب وتفقّد مكان عملك الحالي قليلا ، اليوم لن تعمل لأن الوقت تأخّر، في الأيام اللّاحقة سيكون عليك الحضور إمّا من الساعة الثامنة صباحًا ، وتبقى حتى الظهر ، أو تأتي من بعد الظهر وتبقى إلى المغرب ، ولن يكون تشذيب الحديقة هو عملنا الوحيد ، سوف تساعدني في كل شيء أفعله . .”
استقام العجوز واقفًا ، ومسّ عينيه شبح حزين للحظة :
-” لقد بدأ العمل لوحدي يتعبني . .”
أومأ له يمان وهو يقبض بكفه على ركبته هامًّا بالوقوف ، وأخيرًا سمح له العجوز بأن يمشي ويخرج دون أن يقول له كلمة واحدة أو يعلّق عليه بصوت من تلك الأصوات التي يصدرها مستنكرًا .
قطع الطريق الفاصل بين هذا الجزء من الحديقة والجزء الآخر شاردًا ، إنّ الشمس قد بدأت تغرب ، وشعور بالوحشة يصحو ، يسمم خياله ، ويوصم نظرته بقتامته.
رغب فجأة بأن يخرج سكينه ، أطرق برأسه وأدخل يده في جيبه ، لقد اعتاد أن يحمل سكين الجيب هذه معه ، ولكنه لم يستخدمها مجددا ، بعد ذلك الوقت . .
أخرج النصل المطوي فاستقبلته أشعة الشمس ولثمته بلونها البرتقالي الهادئ فلمع سطحها بشكل ساحر . استمّر يمان بالسير مأخوذًا بهذا المنظر الصغير عن وحشته ، وولجت قدماه الجزء المتشابك من الحديقة دون أن يشعر تقريبًا . تعدّى شجراتٍ كثيرة ، ولو رفع عينيه الآن لرأى بناية القصر وقد بدأت تظهر .
الآن بدأ ضوء الشمس يخفت وسيطر وهجُ الشفق الخفيف على السماء ، همّ يمان بأن يرفع رأسه ، وما إن فعل ، حتى اصطدم جبينه فجأة بشيء ما ، تراجع إلى الوراء منزعجا وأخذ ينظر ، ماذا ؟ قدم ؟ توسّعت حدقتاه ، أهو يرى جسدًا بشريا مُدلًى من الشجرة حقًا ؟
-” أأنا أهلوس ؟ “
تمتم مذهولًا ، بحركة غريزية قبض على سلاحه الصغير ، وشيئا فشيئا اقترب ورفع رأسه ليتبين أكثر ، يا إلهي رُحماك ، إنها فتاة !
فتاة تبدو في ربيع العمر ، شعر بخنجر يخترق قلبه لمّا رأى الموت مهيمنًا على ملامحها ، هل ماتت للتو ، أم . . منذ زمن ؟
ارتعدت أوصاله للفكرة ، لكن ليس هناك من رائحة ، تدل على ذلك . . تلبّث ثوانٍ يصارع خوفه ، ثمّ قطّب حاجبيه وتقدّم ، إنّ الشجرة طويلة وكثيرة الأغصان وسهلة التسلق ، رفع قدمه وبحركات متتالية رشيقة اعتلى الشجرة ووجيب قلبه يكاد يصمُّ أذنيه ، إن جسده يكاد يلامس جسد جثة !

وصل إلى الغصن الذي عقدتْ أو عقد أحد ما – لا يعلم – حوله الحبل ، رفع يده الممسكة بالسكين ، إنه يقف بقدم واحدة على غصن وبالأخرى على غصن آخر ، بالكاد لمس الحبل الذي يبدو غير سميك أصلا ، حتى اختلّ توازنه ، هكذا سقط مرة واحدة على الأرض ، وسقطت من بعده الجثة ، ولكنها لم تسقط وهي بنفس حالها التي كانت عليه . . رفع يمانُ رأسه وهو يرمش بسرعة وتوتّر ، إن جزءًا من جسد الفتاة يعلوه ، ابتعد بسرعة وهو يلهث ، والعشب يدغدغ كفاه ، والظلمة تحيطه ، مكث ساكنًا لدقائق ، قلبه يحارب فزعه الذي يحاول أن يطحنه ، إنه فقط ، منذ رأى هذه الفتاة ، شعر بمسؤولية نحوها ، لا يمكنه أن يترك جثة مشنوقة ربما قُتل صاحبها هكذا ويذهب بلا ضمير وكأنه لمْ يرَ شيئًا ، هذا ما كان يفكّر به ، وحتّى الآن ، عندما وقع في هذه الورطة ، لم يتغير منحى تفكيره وياللدهشة لم يخطر بباله الهرب !
لحظة ، أهذه أصوات ؟
قطّب حاجبيه ، ثم مالبث الصوت أن اتّضح ، لقد كان هناك من يناديه صارخًا -” يمان . . يمان “
ولكن هناك صوتٌ آخر أيضًا ، أصاخ سمعه ، نداء آخر ، صوتُ امرأة تنادي :
-” ملاذ . . ملاذ ، أين أنتِ ؟ “
خفق قلبه خفقة قوية ، همّ بأن يقف ، مَلاذ . . قد تكون هذه الفتاة ، لا ، بل لا شكّ بأنها هي ، أوشك أن يقف ، إلا أنه ، شعر بسائل لزج ينساب تحت أصابعه ، شهق مفزوعًا ، أهذه دماء ؟
لقد كانت الحديقة مظلمة ، ولكن فجأة ، هاهي الأنوار تُضاء ، تضايقت عيناه بعض الشيء ، ركّز بصره بسرعة على الفتاة ، شعرها أسود وطويل ، ويغطي عنقها المائل ، عيناها شبه مسبلتان ، يا إلهي ، كم هو مخيف هذا الوجه . . تمالك نفسه واقترب ، أزاح شعرها عن عنقها ، ورأى الكارثة !
جُرحٌ ، جرحٌ كافٍ لقتلها لو أنّها لم تمتْ ، يمتدّ عَرضيًا ويشقّ عنقها شقًا فظيعًا ، بل إن . . أسدل جفناه رغمًا عنه ، لم يستطع أن يتحمّل لثانية ، إنّ نشارة الخشب التصقت بجزء من عنق الفتاة ولحمها ، بَرز إلى الخارج ، ومازالت الدماء تسيل ، يجب أن يخبرهم سريعًا ، يجب أن يخبرهم . .
كانت النداءات قد توقفت ، هل اهتدوا إلى مكانه ؟
آه ، أجل ، إنه يسمع صوت خطوات ، تكلمّت المرأة بينما تتقدم وبقي لها خطوات فقط وتراه :
-” ملاذ . . هل أنتِ هنا ثانيةً ؟ “
نزع يده الملطخة بالدماء ووقف بسرعة ووجهه يبدو كشخص مأخوذ تمامًا عن الواقع ، لقد رأته المرأة ، وما كاد يهمّ بأن يتكلم ، حتّى صرخت صرخة عظيمة وفظيعة ، وركضت نحوه لتسقط جاثية أمام ابنتها وهي تصرخ وتنظر إليها تارة وإليه تارة أخرى :
-” لقد قتلتَ ابنتي .. لقد قتلتها وضربت رأسها بالشجرة . . “
وكان العجوز أيضًا قد وصل ورأى الكارثة التي حصلتْ .


-


هل حدث له هذا حقًا ؟ هل هذه حقيقة ؟ هل هذا الواقع ؟
قبو ، أجل إنه في قبو ، لا شكّ بأن هذه المناظر التي يراها بعينيه الزائغتين ، يستحيل أن تحصل إلا في قبو ، ولكن حقًا ، هل هذا هو الواقع ؟ ألم تفتح فجوة زمنية فسقط فيها وعاد إلى القرن ما قبل الماضي ، حيثُ الساحرات وأعمالهنّ البشعة ؟
لا يعرف ، لا يعرف ولا يتذكر أبدًا ، مالّذي حصل له ، الشيء الوحيد الذي يدركه الآن في هذه اللحظات ، هو أنّه لم يعد هو نفسه ، لم يعد هو يمانْ .


❀| ℓįgнт sPįяįт ~ غير متواجد حالياً  
التوقيع