آخر 10 مشاركات
الــــسَــــلام (الكاتـب : دانتِلا - )           »          أشلاء امرأة " قصة قصيرة " بقلم " نور الهدى "...كاملة** (الكاتـب : نور لينة - )           »          خريف الحب / للكاتبة خياله،،والخيل عشقي (مميزة) (الكاتـب : لامارا - )           »          اسرار في الجامعة...قصة حب عراقية " مميزة ومكتملة " (الكاتـب : شوق2012 - )           »          الرغبة المظلمة (63) للكاتبة: جاكلين بيرد×كامله× (الكاتـب : cutebabi - )           »          تحت إيوان النخاس (3) * مميزة ومكتملة * ...سلسلة بتائل مدنسة (الكاتـب : مروة العزاوي - )           »          عروسه البديلة (32) للكاتبة: Michelle Styles .. كاملة .. (الكاتـب : * فوفو * - )           »          نوح القلوب *مميزة ومكتملة* (الكاتـب : hadeer mansour - )           »          كاثرين(137)للكاتبة:Lynne Graham (الجزء1من سلسلة الأخوات مارشال)كاملة+روابط (الكاتـب : Gege86 - )           »          زوجة لأسباب خاطئة (170) للكاتبة Chantelle Shaw .. كاملة مع الرابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى الروايات والقصص المنقولة > منتدى الروايات العربية المنقولة المكتملة

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 04-11-14, 03:57 AM   #11

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



االفصل العاشر

كانت حلبة الرقص تغلي بالاجساد الموزعة فيها بفوضى ... اختلطت روائح العطور الغالية مع الرخيصة .. وامتزجت برائحة العرق والرمل المبلل بالماء ... في الجو تشكلت سحابة رقيقة من ضباب الانفاس اللاهثة تخترقها من وقت لآخر شرارات ناتجة عن التصادم العفوي او المتعمد بين الراقصين ..
كانت منال تحس بحريق هذه الشرارات وهو يصلي جسدها وينشر فيه رعشة متوثبة كلما اقتربت من جمال وابتعدت عنه في محيط الدائرة المتمركزة حول رحمة وزوجها ... كانت حركاتهما المتناغمة تبدو تلقائية لكل من حولهما .. وحدهما يدركان ان نية التقارب كانت مبيتة وتم التخطيط لها قبل الحفل بوقت طويل عندما انتزع جمال من منال وعداً بان تكون معه طيلة الوقت ...

- منال ... اوعك يوم العرس ترقصي مع أي زول تاني غيري ... انتي عارفة انا بغير عليك قدر شنو .. وما بتحمل اشوف حد تاني يقرب منك ...

- ما تخاف يا جمال .. يا انت يا بلاش ... مش في الرقيص وبس .. في حياتي كلها ..

في احدى لحظات التقارب امال جمال راسه على اذن منال وهمس لها ...

- منال .. انا حنسحب هسة وانتي تعالي بعد شوية ... الدنيا جايطة وما حد حيلاحظ غيابنا ... عاوزك ضروري ... حستناك في حوش بيتنا .. ما تتاخري ...

كانت انفاسه التي تعبث بشعيرات اذنها تعدها باحتمالات مبهمة ... احست بحرارة جسدها ترتفع حتى خيل اليها ان بخارا يخرج من عينيها ويضفي على محيطها مشهداً سيريالياً ... اومأت براسها ايجابا واشرقت ملامحها بابتسامة حالمة عندما ضغطت اطراف انامله على باطن كفها قبل ان يغادر مكانه بجانبها ... تبعته نظراتها بوله .. وتراقصت غمازتيها بشكل مغر ... دارت عيناها بحذر فيمن حولها وهي تبحث عن لمحة ادارك لما يدور بينهما .. تنفست بارتياح عندما لاحظت ان الكل لاهي بالتنفيس عن مشاعره في رقص هستيري لاهث ...
وقع نظرها على والدتها وهي تحيط شقيقتها وزوجها بكلتا ذراعيها .. وبين الفينة والاخرى ترفع كفها الذي تصالح مع لون الحناء بعد خصام طويل وهي تمسح به دمعة عصية انحدرت في غفلة منها ... احست منال بموجات من الحنان تعبر حواسها وهي تتامل والدتها ... ما لبث ان تبعها احساس قوي بالكآبة عندما غزت افكارها الهواجس بما يمكن ان يحدث عندما تعلم عن علاقتها بجمال .. وانتقل عقلها من جو الفرح الذي يحيط بها الى عالم الخوف الذي يناوشها منذ ان اعترفت لنفسها بحبها المستحيل .. لقد ادركت باستحالته منذ الوهلة الاولى ... انكرت احاسيسها ودفعتها خارج قلبها .. حاولت بكل ما تملك من ارادة ان تقاوم مشاعرها التي سكنتها منذ صغرها .. وعندما دخلت الجامعة جاهدت كي توجهها الى اتجاه آخر باقامة علاقة مع احد زملائها الذي استمات في التقرب اليها منذ اول يوم لها في الكلية ... لكنها فشلت ... كان جمال الوحيد الذي استطاع فك شفرة الدخول الى قلبها واحتلاله بلا منافس .. بمرور الايام اصبحت تحبه بعمق وصدق مخلوط بالخوف والحيرة ... تماوجت ظلال الهموم التي تعتريها على ملامحها وصبغتها بالتوتر كانت تتامل امها الباكية فرحاً وهي تتساءل .. هل ستبكي فرحا اذا ما قدر لها ان تتزوج بجمال ؟؟...
انسحبت من وسط الدائرة بهدوء وشقت الجموع بخطوات مرتبكة ... دخلت الى المنزل وقطعت الساحة حتى وصلت الى السور الشجري ... دفعت الباب الخشبي القصير فاصدر صوتا اجفلها .. عبرت الحوش على اطراف حذائها حتى لا توقظ العجوز النائمة بسلام ... فتحت الباب المؤدي الى الشارع وبخطوات قليلة وصلت الى الباب الملاصق له فوجدته موارباً بانتظار حضورها ...نزلت الدرجات الصغيرة الى داخل الحوش شبه المظلم ..كان جمال قد اكتفى باضواء الصيوان المشعة وجلس بانتظارها في احد الكراسي الحديدية ... هب واقفاً ما ان رآها ..كانت اللهفة تملا ملامحه الوسيمة التي تزينت بابتسامة عريضة .. فتح ذراعيه على اتساعهما فتقدمت واندست بينهما .. احتضنها بقوة وحنان .. استكان راسها على صدره العريض .. وتقاطعت يداها خلفه ... زرع شفتيه على مفرق راسها وتجولت يداه على طول ظهرها برقة ... اختنقت منال من قوة المشاعر التي تعتمل في صدرها فتنفست دموعها بصمت ... احس جمال باختلاجات البكاء التي تهز الجسد الملتحم معه ... تهاوى قلبه خوفاً على الفتاة التي يعشقها بجنون .. حاول ان يحررها من اسر ذراعيه حتى يرى وجهها .. لكنها احكمت عقد كفيها خلف ظهره ودفنت وجهها في صدره وهي ترفض ان تدعه يرى دموعها .. همس في اذنها

- منال !! انتي بتبكي ؟؟...في شنو ؟؟ كلميني .. انتي عارفة اني ما بتحمل اشوفك حتى مكشرة ... عايني لي يا منال ..

امسكها من كتفيها وابعدها عنه قسراً ليفاجا باخدودين عميقين حفرا طريقهما من عينيها ليكونا بركة رطبة مخلوطة بالكحل على قميصه الازرق ... اصابه الجزع وهو يرى دموعها تنزل بهذا الشجن لاول مرة منذ بدء علاقتهما .. فخرجت كلماته متوترة وحائرة ..

- منال !! كلميني .. في شنو ؟؟ الحاصل شنو ؟؟!! ... حد مزعلك ؟؟؟ حد قال ليك حاجة عننا ؟؟ حالتك دي قلقتني شديد ... قولي لي مالك ؟؟...
كانت تهز راسها سلباً على كل سؤال يوجهه لها ... تلفحت بصمتها وهي تتامل علامات الانزعاج على ملامحه ... رفعت يدها الصغيرة ووضعتها بتعب على صدره .. فرفع كفيه واحاط بهما وجهها المبلل بالدموع .. وبدا يجفهها بالطريقة الوحيدة التي تريحه .. وتريحها .. هبطت قبلته بنعومة الريشة على جفنيها ... ثم تجولت شفتاه برقة بين خد وآخر وهي ترتشف القطرات المالحة بهيام حتى وصلت الى ركن شفتيها .. توقف طويلاً قبل ان يطبع فيه قبلة اثارت رعشتهما معاً ... اراد ان يتوقف .. لكنه لم يستطع ... ارادته ان يتوقف .. لكنها لم تنبس بحرف ... انها قبلتهما الاولى ... كان لها مذاق لاذع كالبهار الحار.. وناعم كملمس المخمل ... خلقت بداخلهما مشاعر غامضة ... ومخيفة ... تلاشى كل شئ حولهما الصوت والضوء والمكان والزمان ... لم يبق الا التحام شفتين تركزت فيهما حواس كائنين عاشقين ... شهقت منال وهي تبحث عن انفاسها .. فانفصل عنها جمال بصعوبة ... وامسكها بحرص عندما ترنحت خطواتها لحظة انفصالهما .. امسكها من ذراعها واجلسها في الكرسي خلفها ثم جلس بجانبها وهو ما زال ممسكاً بيدها ...تلاقت نظراتهما بدهشة .. وفرح ... عندما وجد صوته بعد عناء .. اتت كلماته عميقة ومتحشرجة ...

- منال وحياة البيني وبينك تكوني صريحة معاي وتحكي لي الحاصل ... بتبكي ليه ؟؟ دي اول اشوفك بتبكي بالصورة دي من يوم ما عرفتك !! .. قولي لي الحقيقة وما تخليني قاعد على اعصابي ..

وفجاة اتسعت عيناه برعب وظهرت فيهما لمحة ادراك مرتابة .. فسالها بهمس ..

- منال ؟؟ انتي في حد اتقدم ليك ؟؟ جاك عريس ؟؟ عاوزة تخليني يا منال ؟؟...

انتفضت عند سماعها عباراته المتالمة وسارعت بالرد ...

- لا .. لا يا جمال ... ما تخلي خيالك يسرح بيك بعيد ... ما في زول اتقدم لي .. حتى لو دة حصل انت عارف اني حارفض .. لانو انا عاوزاك انت .. ومستحيل ارتبط بانسان غيرك مهما حصل ..

- طيب بتبكي ليه ؟؟

- ما عارفة يا جمال ... خايفة ... خايفة شديد لدرجة انو مخي مشلول وما قادرة افكر في أي شئ ... خايفة من المستقبل .. مجرد احتمال اننا ما نقدر نواجه الناس بحبنا وما نقدر ندافع عنو ونضطر نخلي بعض في النهاية ... احتمال انو اعيش حياتي من غيرك بيقتلني يا جمال ...

- نخلي بعض ؟؟!! ... منو القال اننا حنخلي بعض ؟؟ منال انتي مفروض تكوني لغاية هسة عرفتي اني مستعد اتخلى عن روحي ولا اخليك .. واني مستعد اعمل أي حاجة في الدنيا دي عشان اكون معاك ... في اكتر من ديني ؟؟ منال انا حخلي ديني عشانك..

- جمال انت عارف انا بحبك قدر شنو .. وبرضو مستعدة اعمل أي شئ عشان اكون معاك لكن بعد كدة خايفة ... الموضوع دة ما ساهل ... لا علي ولا عليك ... انا لمن اتخيل الممكن يحصل ليك لما اهلك يعرفوا انك بقيت مسلم !! وحتى لو انت اسلمت وعن قناعة اهلي حيرفضوا اني اتزوج انسان كان مسيحي واهلو كلهم لسة مسيحيين .. وحيحاولوا يفرقونا باي طريقة ... ابسط شئ انهم ممكن يحبسوني ويعرسوني لي اول واحد يدق الباب ... اما انت .. تاكد انو وقتها جدي حامد حينسى انو رباك على ايدينو حينسى العشرة والجيرة والعلاقة الطيبة .. دة جدي وانا باعرفو كويس .. هو انسان طيب وكريم وحنين .. لكن عندو حدود لكل شئ .. وما بيقبل اي زول يتخطى الحدود دي مهما كان ... ولو بالغلط او عن عمد ... ولو أي واحد مننا اتخطاها بينقلب ويبقى انسان تاني ... قاسي وما بيرحم ... يعني يا جمال لو عرف .. ممكن ياذيك وياذي اهلك .. ولا العجب كان ابوي واعمامي سمعوا !! ... دي بيحصل فيها موت ... بيقتلونا احنا الاتنين ..
اطرق جمال فترة طويلة وهو يستمع الى صوتها المهتز ... وعندما رفع راسه كانت في عينيه نظرة مصممة

- شوفي يا منال ... انا مستعد احارب الدنيا كلها عشان خاطرك ... بس اكون ضامن انك حتقيفي معاي وتتمسكي بي زي ما انا متمسك بيك ... احنا من البداية كنا عارفين انو ارتباطنا دة ممكن يواجه صعوبات كتيرة .. وبرغم كدة مشينا فيهو ... هسة دة الوقت الحنثبت فيهو لبعض جدية مشاعرنا .. انا باقي لي شهور واخلص الامتياز .. كنت ناوي ما اعمل أي خطوة الا بعد ما اخلص .. لكن الحالة الانتي فيها دي خوفتني وخلتني اقرر اني ما انتظر ... من بكرة انا حابدا احضر اوراقي عشان اقدم للهجرة ... وحقدم ليك معاي بصفتك زوجتي ..

لم يتوقف برغم الشهقة العالية التي صدرت عنها ...

- منال .. طالما انو احنا عارفين ما عندنا فرصة حياة مع بعض هنا ... يبقى نطلع برة احسن ... نمشي ابعد مكان في الدنيا ... مكان ما يقدروا يوصلوا لينا فيهو ... انا عندي اصحابي في استراليا وكندا كل مرة يحنسوني عشان اقدم .. انا كنت رافض اطلع من السودان عشانك ... لكن هسة دة بقى حلنا الوحيد ... ولما نقدم مع بعض فرصتنا بتكون احسن وقضيتنا مضمونة .. تعرفي الخواجات ديل بيهتموا شديد باسباب طلب الهجرة وبالذات الجانب الانساني ... يعني لمن ندخل انا وانتي مع بعض ونحكي ليهم قصتنا ونشيل معانا الاوراق البتثبت اختلاف ديننا .. ونوضح ليهم انه في تهديد مباشر على حياتنا لو قعدنا هنا .. تاكدي انهم حيقتنعوا ... ناس كتار اتحججوا بموضوع الاضطهاد الديني دة وادوهم ... بعد ما تخلص جوطة عرس رحمة دي .. نطلع يوم من الجامعة مع بعض ونمشي الجوازات نطلع ليك جواز سفر .. انتي جهزي جنسيتك وباقي الاوراق .. وجيبي لي شهادتك بتاعت الثانوي واطلبي شهادة من الجامعة تثبت انك في سنة اولى طب وانا حاشيلهم وامشي اوثقهم في الخارجية وفي السفارة عشان أي مكان نمشي تواصلي دراستك ... عاوزك تتحركي بهدوء وما تخلي أي زول مهما كان يعرف انتي بتخططي لشنو ... ولا حتى جاكلين اختي ما تعرف حاجة ... وعلى بال ما اخلص الامتياز تكون الاوراق الرسمية كلها جهزت ونمشي نقدم طوالي ... وما تشيلي هم لقروش التذاكر ومصاريف السفر انا حدبر كل شئ ..وقبل السفر بيومين نمشي المحكمة اشهر اسلامي ونعمل العقد ونخلص .. اها قلتي شنو في الكلام دة يا منال ؟؟!!

عندما رفعت منال راسها وواجهت نظراته كان وجهها قد اختفى لونه وارتسمت فيه علامات الفزع والحيرة ...

- قصدك شنو يا جمال بالكلام دة ؟؟ انت عاوزنا نهرب ؟؟ نخلي البلد واهلنا وكل شئ ؟؟

- عندك حل تاني ؟؟!! .. لو عندك حل قوليهو لي وانا مستعد اعملو ...

قوبل تساؤله المتحدي بصمتها اليائس ... بينما استعاد مجرى الاخاديد نشاطه المحموم ...






لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-11-14, 04:08 AM   #12

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


االفصل الحادي عشر

جلس ابراهيم خلف المائدة المربعة وعلامات التجهم تعتلي وجهــه الوسيم ... كــان يتامــل اوراق ( الكوتشينة ) التي يحملها بعدم رضى وهو يحمل كأسه شبه الفارغ .. تناول آخر رشفة منه ثم رمى اوراقه .. ندت عن شريك اللعب صيحة فرح وضرب بيده سطح الطاولة بقوة جعلت الاكواب والزجاجات ترتفع عن مكانها قليلا لتهبط بفوضى في الاوراق المبعثرة محدثة ضجيجاً عالياً لفت انتباه المجموعة الجالسة ارضاً في احد اركان الحجرة المتواضعة متحلقين في دائرة وقد انهمك كل منهم في عمله ... كانت اوراق لفافات التبغ الفارغة واعقابها منتشرة في كل مكان بعد ان انتزعت احشائها في طبق واسع عميق احتشـدت فيه عدة ايادي لتخلط التبغ مع اوراق الحشيش المتساقطة من (قنــدول) يحمله ( جادين ) ويفركه بين يديه بقوة ... بينما تولى آخر مهمة تجهيز اوراق (البرنسيسة) الناعمة ووضع الخليط ولفه بحرص في لفافات صغيرة متساوية ...
رفع جادين راسه مخاطبا رفيق ابراهيم في اللعب وعلى وجهه ابتسامة شامتة ...

- يا زول انت الليلة حظك ضارب بالجد ما دام قدرت تغلب ابراهيم الحريف ... اها طلعت منو بكم ؟؟ من حضر القسمة فليقتسم ... وما دايرين قروش ... امشوا جيبوا لينا كوارع ولا سمك من الموردة .. اتهرينا من اكل الفول والطعمية .. الا انت يا ابراهيم مالك ما جبت لينا معاك عشا من بيت العرس ؟؟ ما عزمتنا قلنا معليش تكون خايف من ابوك وما دايرو يشوف اصحابك الصعاليك .. طيب على الاقل كنت تملا لينا كيس اكل وتجيبو معاك !! ...

هب ابراهيم غاضباً فارتد كرسي الخيزران القديم الى الخلف وسقط ارضاً بدوي عال اشاع التوتر في جو الغرفة المعباة بالدخان الازرق ورائحة الخمر ... وتكلم بانفعال وحدة ..

- اسمع هنا يا جادين ... انا ما بخاف الا من ربي الخلقني ... وقلت ليك قبل كدة الف مرة ود العمدة ما ابوي ... انا ابوي مات زمان .. وبعدين فول وطعمية شنو الاتهريت بيهم ؟؟ انا ما كل يوم بجيب ليكم احسن اكل ... لكن اصلك زي الكدايس تاكل وتنكر ..
تحامل جادين على نفسه محاولا الوقوف ومواجهة ابراهيم الذي كان يطل عليه من عل بطوله الفارع تدخّل ( منان ) صاحب المنزل عندما احس بنذر الحرب المعتادة بين صديقيه تطل براسها ..

- يا جماعة مالكم قولوا بسم الله ... اقعد يا ابراهيم وروق المنجة ... خليني الف ليك سيجارة مخصوصة .. والله جابوا لي نوع ما يستاهلو زول غيرك ...

تجاهله ابراهيم وعاد الى الطاولة حمل مفاتيح سيارته واتجه الى الباب يتبعه منان باستعطاف ذليل ...

- يا ابراهيم ياخي الليلة مالو خلقك ضيق كدة ؟؟ جادين ما قاصد حاجة وبيهزر معاك من العشم بس ...

- شوف يا منان .. انا لو تاني جيت ولقيت الزول دة قاعد هنا بطلع طوالي .. ويمكن ما ارجع تاني ... دة انسان سخيف وجنو مطاعنة زي النسوان .. وانا متاكد انو ما بيهزر وبتعمد يفور دمي كل مرة ...

سد منان الدرب بجسده حتى لا يخرج ابراهيم الغاضب ..

- ياخي هو زول اشتر وما بيعرف يتكلم .. احنا ذنبنا شنو تخلينا عشانو ؟؟ وبعدين انت عارف من زمان انو بيغير منك شديد .. سيبك منو .. كدة روق واقعد عشان تشوف انا مجهز ليك شنو ... حاجة كدة حتخلي مزاجك في العالي ... انا عارف انك ما بتحب الاعراس وانو جوها بيعكرك .. وكنت عارفك حتجي هنا .. عشان كدة عملت حسابي من بدري وجهزت ليك طلبك قبال ما تطلبو .. واها الليلة عشان زعلتك دي حرّم ما اشيل منك مليم ولا تعريفة بس انت كيف ترضى ؟؟!! ... الهدية في السكة وقربت توصل .. اديني صبرك حبة بس .. يا زول حاجة كدة من القلبك بيحبها ...
قاطعت طرقات خفيفة كلمات منان المندفعة فهرول باسما تجاه الباب وعاد مصطحباً معه فتى ناعم الملامح يصعب تحديد عمره بسبب ضآلة حجمه ومشيته المتمايلة بخطواتها الضيقة وتسبقه رائحة عطر نسائي رخيص ... كان ابراهيم يراقب تقدمه باحاسيس متضاربة ما بين الاثارة والحذر ... انه نوعه المفضل ويبدو قريبا من سن عبد الستار عندما بدا معه لعبة الاصدقاء اول مرة ... اللعبة التي اقنعه بانها ميثاق سري بين الصبية وجعله يقسم بكتمانها ... علمه اصولها واسرارها في حصص منتظمة كانت تتم في الاماكن المنعزلة من المنزل الكبير حتى لا يسمع احدهم صرخات ابراهيم المتالمة التي خفت بمرور الايام وخلفت وراءها احاسيس اخرى لم يستطع عمره الصغير وقتها ان يستوعبها ... واصبحت لعبته المفضلة مع صديقه كلما اجتمعا بدعوى استذكار دروسه ... تعلقه بعبد الستار جعله ينفذ كل ما يطلبه منه بلا تذمر .. كان يحاول ارضاؤه بشتى السبل .. وفي كل الاوقات ... كانت النتيجة ان الوقت المخصص للاستذكار قد تقلص وبدات علامته المدرسية تتدنى باضطراد ... لكن من يهتم ؟؟ فالسرة لاهية عنه ببناتها وسعدت برمي حمله على بخيت والعينة ليقوما بتربيته ... اما والده .. فقد كان يزداد تجاهلا له وبعدا عنه يوماً بعد يوم ... وبرغم محاولاته اليائسة لاكتساب حبه ورضاه الا ان قلب ود العمدة ظل موصدا امامه باصرار شديد .. كان يعوضه عن نقص مشاعره بزيادة كمية النقود التي يمنحها له حتى بدون ان يطلبها او يرغب فيها ...بمرور الايام كف عن المحاولة وتعلم كيف ياخذ نقود ابيه ليشتري بها حب الآخرين ... واشتهر في المدرسة بكرمه فسعى الجميع لصداقته واظهار حبهم له ... كان في اعماقه يدرك ان غالبيتهم يسبونه خلف ظهره ويطلقون عليه النكات ... لكنه لم يهتم .. يكفيه تملقهم ومشاعرهم المبذولة عند الطلب لقاء ما يدفعه لهم ...
الوحيد الذي كان يرفض ماله هو عبد الستار ... اعتاد ان يعطيه حبه بلا مقابل .. كان يتقبله بكل عيوبه ونزوات طفولته المرهقة .. كما كان الوحيد الذي استطاع تبديد حيرته بشان كره والده له ... اخبره السبب في جلسة الوداع التي سبقت التحاقه بالجيش .. يومها جلس ابراهيم دامعاً وعيونه تحدق في الفراغ .. وهو يفكر في الايام القادمة بدون صديقه الذي جلس مهموما بقربه وهو يحاول ان يسري عنه ...

- ابراهيم ... ما تخليني امشي وانا قلقان عليك وشايل همك .. انا عارفك زعلان .. لكن انا ما عندي طريقة غير ادخل الجيش ... وما تخاف ححاول اجي كل فترة والتانية بس عشان خاطرك ..

انحدرت دموع ابراهيم المطرق دون ان يحاول ايقافها .. وهمس بصوت مخنوق ..

- انت ليه عاوز تمشي الجيش ؟؟!! .. اقعد هنا يا عبد الستار وانا حكلم ابوي يشغلك معاهو في السوق ... انت صاحبي الوحيد .. وانت بس البتفهمني وتحبني .. انا مافي زول غيرك بيحبني ... حتى ابوي زاتو ما بيحبني ...

- لانه ما ابوك ...

كان الرد صاعقاً .. لذلك لم يستوعبه عقله الحزين التائه في امور اخرى ... ساد صمت ثقيل تغلغلت خلاله الجملة المخيفة الى خلايا عقله .. وعندما رفع راسه كانت نظراته فزعة ومليئة بالدهشة ...

- قلت شنو يا عبد الستار ؟؟!! ... ابوي ما ابوي ؟؟ كيف يعني الكلام دة ؟؟!!...

ظهرت علامات الندم على ملامح عبد الستار بسبب زلة لسانه التي افشت لصديقه سرا حرص الجميع على اخفاؤه عنه منذ ولادته و لمدة احد عشر عاماً ... وفي النهاية قرر ان يخبره ...

- ود العمدة ما ابوك ... ابوك مات لمن كنت في بطن امك .. ودالعمدة عمك اخو ابوك الصغير وعرس امك بعد وفاة ابوك ... انت اصلك ما انتبهت لاختلاف الاسم بينكم ؟؟!! يمكن ما تكون انتبهت لانو الناس كلها بتقول ليهو ود العمدة بدون اسمو ... او لانو امك زرعت في راسك انو ابوك من ما انت صغير ... وفي النهاية هو عمك واساميكم متشابهة ...
اعاد اليه التفسير الصادم ذكرى محاولاته المستميتة للحصول على حب من كان يظنه ابوه ... وفشله المزمن في كل مرة ... انفتحت طاقة عقله واطلت منها الذكريات المؤلمة والاسئلة الحائرة التي رافقته منذ ان وعى بالحاجز العالى الذي يفصل قلب ود العمدة عنه ... وبدات المواقف تمر كشريط سينمائي تؤكد كل لقطة فيه صدق كلمات عبد الستار ... تذكر احساسه الطفولي الفطري الذي جعله يدرك منذ البداية ان هناك خطبا ما في علاقته بابيه .... شيئا مجهولا يجعله يبعده منه كلما حاول الاقتراب ... وضع كل الاسباب التي يستطيع تخيلها لهذا الجفاء الغريب ... وعندما عجز عن ادراك السبب الحقيقي .. لام نفسه .. واحس انه ربما خذل والده بطريقة او باخرى ... وانه لم يصل الى المرتبة التي تؤهله للحصول على ما يستحقه من حب ... لكنه لم يتصور للحظة ان والده ليس والده ... تذكر نظرات الحزن في عيون السرة كلما باغتها بالسؤال المحير ...

- انتي يالسرة .. ابوي ليه ما بيحبني ؟؟!! ...

في السنوات الاولى كانت تنفي الامر بحماس فتر مع مرور السنين وتكرار السؤال حتى اصبح ردها صمتاً عاجزاً ... ثم توقف عن سؤالها بعد اقتنع باستحالة تغيير الوضع .. واكتفى بالتعويض المادي السخي وبحب عبد الستار ... عبد الستار الذي قرر التخلي عنه الآن ليعود وحيدا منبوذا لا يجد من يهتم به .. ادراكه لهذا الواقع جعله يجهش ببكاء مرير ارتجف له جسده الممتلئ ... احتضنه صديقه مواسياً .. لكن اخراجه من مستنقع الحزن الذ ابتلعه احتاج الى اكثر من ذلك ... في ذلك اليوم اتسمت لعبتهما بالخشونة وافرغ ابراهيم حزنه ومرارته في جوف عبد الستار الذي تقبل تقوف تلميذه عليه بلذة واكتفاء .. يومها تلاشت الفوارق بينهما ... وتبادلا دور الصقر والحمامة بكل رضا ... بعدها قرر ابراهيم ان يصبح صقرا ويفترس كل الحمام الذي يعترض طريقه ...
صبيحة رحيل عبد الستار حدثت المواجهة العنيفة بينه وبين السرة .. دخل متحفزاً الى غرفتها .. كانت مواعيدها المقدسة لاحتساء الشاي ... بدت في قمة الراحة وهي ترفع الكوب الى فمها بتلذذ ... نظر اليها بحقد وبدأ هجومه بقسوة ...

- السرة ؟؟ ... مش كنتي من البداية تريحي روحك وتريحيني وتقولي لي انو ود العمدة ما ابوي ... على الاقل كنت فهمت سبب كراهيتو لي وما كنت عذبتك بالاسئلة السنين الفاتت دي كلها ..

رفعت السرة راسها بفزع من لهجة ولدها التي تقطر كراهية .. ومن اسلوبه الوقح في مخاطبتها .. ومن ادراكها بانكشاف السر الذي حرصت على اخفاؤه عن ابراهيم منذ طفولته ... انتفض جسدها وتوقف كوب الشاي في منتصف المسافة الى فمها ... التقت عيناها بعينيه الثابتتين واخافتها نظراته ساد الصمت لفترة بدت دهراً .. وافاقت السرة من جمودها على لسعة حرارة الكوب على اصابعها...

- دة شنو الكلام الفاضي البتقوله دة يا ولد ؟؟؟ جبتو من وين ؟؟ القال ليك منو ؟؟ !! ...

كانت نبرتها المتخاذلة وانكسار نظراتها امام نيران الغضب المشتعلة في عينيه اكبر دليل على صحة ما قيل له ... خرج صوته باكياً ... لائماً ...

- اتاري انا اقول ليه بيفرق في المعاملة بيني وبين اخواتي البنات ؟؟ كنت مستغرب وبقول لنفسي انا الولد الوحيد ... يعني مفروض يهتم بي اكتر منهم ويفضلني عليهم زي ما عمي بله بيعمل مع اولاده وعم بخيت بيعمل مع اولاده ... وكنت كل ما تدخلوا اوضتكم ومعاكم البنات وتقفلوا الباب وتخلوني برة براي اسال نفسي ليه ما بتدخلوني معاكم ؟؟ وكل ما اشوفو شايل واحدة من اخواتي اتذكر انو عمرو ما شالني زيهم وانو كل ما اجري عليهو كان بيدفرني بعيد ... وكنت بجيك واسالك ليه ابوي بيكرهني وانتي كل مرة تكذبي علي كذبة مختلفة ... وانا العوير كنت بصدق كذبك ... لاني كنت عاوز اصدقك انتي وما اصدق نفسي البتاكد لي كل يوم وكل لحظة انو بيكرهني ...

انفجرت السرة بالبكاء وهي تهتز بعنف جعل الطاولة الصغيرة امامها تنكفئ وتوقع صينية الشاي بمحتوياتها لتفرش شظايا الزجاج المخلوط بحبات السكر مساحة واسعة من ارضية الغرفة ... حاولت ان تنتهره لتوقف سيل الحمم المندفع من فمه .. لكن كلماتها خرجت متقطعة ... ضعيفة .. متلعثمة ...

- اسكت يا ابراهيم ... اسكت كفاية حرام عليك .. وريني منو القال ليك الكلام دة ؟؟ !! حامد طول عمرو بيعتبرك زي ولده وما بيخت في محلك زول .. صحي هو ما جابك من صلبو .. لكن هو الرباك وبعدين هو ما غريب عليك .. دة عمك اخو ابوك لزم .. يعني حتى لو ما كنت عرستو كان حيتسال منك ...

اتى رد ابراهيم ساخرا وسريعاً ...

- طيب اذا كان في كل الاحوال حيكون مسئول عني عرستيهو ليه ؟؟ مش كان ممكن يتحمل مسئوليتي بدون ما يعرسك ؟؟ ولا انا كنت حجّة ساكت .. وانتي زاتك لو ما كنت عاوزة تعرسي كنتي رفضتي وقعدتي عشان تربيني ... نسوان كتار بيعملوا كدة...

بدا الغضب يتملك السرة فهبت واقفة لتجد نفسها في مواجهة ابراهيم الذي لم يتزحزح من مكانه ...
كان واقفاً كالطود وقد اصبح يقاربها طولاً ... بدا بذراعيه المعقودين حول صدره اكثر شبها بابيه مما جعل السرة تحجم عن قرار الوقوف فعاودت الجلوس بينما واصل الصبي الثائر هجومه بسخرية..

- بعدين يالسرة انتي مقتنعة انو راجلك رباني ؟؟ هي الرباية دي شنو ؟؟ انو يديني قروش وبس ؟؟ ياريتو لو كان حرمني من القروش بس اهتم بي زي ما اهتم ببناته ... طول السنين الفاتت دي كان نفسي يوم يجي يسالني عن مدرستي ولا عن اصحابي ...عن القروش الكتيرة البديني ليها بصرفها كيف ووين .. كان نفسي يوم ينهرني زي ما كل ابو بيعمل مع اولاده ... أو حتى يضربني بس عشان احس انو عندي زول بيوجهني وبيخاف علي ... راجلك ما رباني يالسرة .. وانتي زاتك ما ربيتني لانك كنتي مشغولة بيهو و ببناتك ... انا ربوني بخيت والعينة الانتي بتكرهيهم بدون سبب ... عم بخيت هو الكان بيشاكلني لمن اغلط ... وخالتي العينة هي البتسالني اكلت ولا لا ... ولمن امرض بتقعد في راسي لغاية ما ابقى كويس ... عبد الستار هو البيذاكر لي دروسي وعبد الرزاق وحبيبة هم البيلعبوا معاي .. الناس الانتي بتكرهيهم ديل حسسوني بانهم اهلي اكتر منكم ... وهي دي التربية يالسرة ...

عندما صمت اخيرا كان صدره يرتفع وينخفض بسرعة تواكب دخول وخروج انفاسه المضطربة ... كان ينظر الى امه بتحد ويستمع الى نحيبها المتشنج دون ان يحس بالشفقة تجاهها ... ادار ظهره وخرج وقد تبدلت ملامحه ... بدا وكان العمر قد تقدم به عشر سنوات دفعة واحدة ...منذ ذلك اليوم نزع ابراهيم لقب الابوة عن حامد .. وبرغم الضغوط التي مورست عليه ... الا انه اصر على موقفه بعناد غريب ...
افرغ ابراهيم كل شحنات غضبه التي ولدتها ذكرياته المظلمة في جسد الغلام الغض .. وعندما خرج من غرفة منان كان يبدو كخرقة بالية ...ممزقة .... لا تصلح لشئ ...قاد سيارته ببطء وقطع الشوارع المظلمة بشرود وآلية فاصابته الدهشة عندما وجد نفسه امام المنزل الغارق في النور والضجيج .. كان الحفل قد شارف على نهايته وبدات مجموعات صغيرة من الضيوف تغادر المكان .. لم يكن في حال تسمح له بلقاء أي انسان .. لذلك ادخل سيارته في الممر الضيق خلف المنزل ... اطفأ المحرك وجلس ساكناً يتامل طرف لفافة التبغ المشتعل ودخانها المعلق كالاوهام فوق راسه ... طالت جلسته حتى احس بالخدر في عضلاته المتعبة ... اغلق ابواب سيارته وتسلل بهدوء عبر باب منزل زوجه عمه الثالثة ... اعترته قشعريرة باردة وهو يقطع المسافة التي تفصله عن البيت الكبير عندما حانت منه التفاتة الى النوافد الزجاجية راي نورا ضعيفا يتراقص خلف الستائر .. وخيل اليه انه يرى شبح امراة تقف بصمت وهي تنظر اليه ... عاوده خوف مبهم وتذكر كلمات السرة التي زرعتها داخل عقله في طفولته عن الموتي الذين يعودون كاشباح ويفضلون سكنى البيوت المهجورة لم يجرؤ على الالتفات مرة اخرى ليتاكد من وجود الشبح خلف الستارة .. بل اطلق لساقيه الريح .. عندما خرج الى الجانب الآخر اسند ظهره الى الباب وهو يجاهد لالتقاط انفاسه وتهدئة ضربات قلبه المتقافزة ... مسح الساحة امامه بنظراته ثم جرّ قدميه واتجه الى منزله في الركن البعيد وهو يشعر بوهن غريب بدا يزحف من اطرافه ويتصاعد الى راسه ... احس بجحافل من النمل تتمشى على جلده وهي تنشر دبيب اقدامها في اعصابه ... عندما فتح باب منزله فوجئ بوجود حبيبة جالسة في احد كراسي الصالة شبه المظلمة وقد خلعت حليها وثوبها الغالي .. وارتدت قميصا متحفظا يخفي معالم جسدها الممشوق ... تبادلا نظرة طويلة سربت اسرار كل منهما للآخر ... كانت نظراتها لائمة ومتألمة فلم يستطع مواجهتها بنظراته المذنبة الضائعة دخل غرفته واغلق الباب دونها تاركا اياها تعاني الوحدة والصمت واحساس مرير بالهجران ...





لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-11-14, 04:14 AM   #13

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الثاني عشر

طال وقوف نادية امام النافذة وهي تتامل الظلام والفراغ الممتد امامها من خلال فرجة الستارة المسدلة .. كانت جامدة كالتمثال .. لم تتحرك منذ خروج شقيقتها الا عندما لمحت شبح رجل يدخل متسللاً عبر الباب الخارجي .. جفلت وهي تتعرف على مشية ابراهيم فتراجعت خلفا ً بذعر .. كانت قد ارتدت ثيابها بينما ظل شعرها مبعثراً تتضارب خصلاته كالشلال خلف ظهرها .. خلفها جلس زاهر صامتاً يراقب دموعها المنهمرة بغزارة .. والرعدة التي تهز جسدها من وقت لآخر ... استغرقه تفكير عميق في الاحداث التي جرت منذ قليل .. احس بفرح خفي سعى جاهدا كي لا يظهر على تعابيره ... اعتبر ان انكشاف امر علاقته بنادية هدية من القدر سوف تضع الجميع امام الامر الواقع وتمهد لارتباطه الرسمي بالفتاة التي احبها منذ اول جدال دار بينهما ... غمرته امواج من الحنان وهو يستعيد ذكرى ذلك اللقاء الذي تم في الاسبوع الاول من سنته الجامعية الثانية ... كان يسير مسرعاً لملاقاة اصدقائه بعد ان تاخر عليهم وهو الذي اعتاد احترام المواعيد ... لم ينتبه للفتاة القادمة في الاتجاه المعاكس براس مطرق ومشغولة بالبحث داخل حقيبة يدها ... تسببت قوة التصادم في سقوط حقيبتها ودفاترها وأخلت بتوازنها مما جعله يسارع بامساكها قبل ان تصل الارض ... عندما فتح فمه ليعتذر وجد نفسه في مواجهة اجمل عينان رآهما في حياته وقد زادتهما لمعة الغضب اتساعا وروعة .. وأحس بانه يتوه داخلهما وغاصت كفه في ذراع بدت نعومتها واضحة حتى من خلف قماش البلوزة السميكة التي ترتديها ... بينما اصبحت يده الاخرى اسيرة بين كتفها وملمس شعرها الحريري الطويل المرفوع في شكل ذيل حصان اندفع من قوة الارتطام ليستقر على كتفها الايمن مغطياً جزء من عنقها الطويل وصدرها النافر ...
اخترقت خياشيمه رائحة انفاس حلوة بينما اغرقه عطرها الناعم في دوامة من الاحاسيس ...افاق منها اثر حركاتها العنيفة لتخليص نفسها من بين يديه واتاه الصوت المؤنب صارخاً ...

- انت عميـان ما بتشـوف ؟؟ ما تعاين قدامـك لمن تمشي !! ولا قايل روحك ماشي في زريبة ؟؟
اطلق سراحها وهو يتمتم بعبارات الاعتذار .. وانخفض ارضاً ليجمع دفاترها المبعثرة تحاصرهما نظرات المارة الفضولية .... ركعت بجانبه تلتقط الاغراض التي تناثرت من حقيبتها بحرج وهي تحاول اخفاء صباع احمر الشفاه الصغير وقارورة العطر عن اعين الناظرين ... كان اسرع منها في حركاته وخلال ثوان استطاع جمع اغراضها وعادت شنطتها الى ما كانت عليه ... اما هو فقد انقلب كيانه بطريقة لا يمكن ان يعود معها الى ما كان عليه ... وضع دفاترها بين يديها وقدم اعتذاره المسموع الاول بصوت عميق واثق ...
- انا آسف .. دي غلطتي ... معليش كنت مستعجل وما انتبهت لخطواتي ...

احرجها اعتذاره الصريح فهي ايضا كانت على عجلة من امرها ولاهية عن النظر امامها بالبحث داخل حقيبتها عن شئ لم تعد تذكره الآن ... اثر فيها سلوكه المهذب فرفعت راسها تتامله .. اصطدمت عيناها بجسد رياضي مشدود فارع الطول تكسوه بشرة داكنة السمرة ... طرفت عيناه الواسعتان في مواجهتها وبدت فيهما لمعة ذكاء حاد ... تحت انفه الافطس انفرجت شفتاه عن اسنان ناصعة البياض مرصوصة باتقان ... كانت تفوح منه رائحة كولونيا مالوفة ... تركزت نظراتها على عنقه في موقع الفجوة التي كانت تنبض بسرعة تماثل نبضات قلبها ... بدت اناقته ملفتة بقميصه الابيض المسطر بخطوط رمادية رفيعة والبنطلون الرمادي بقماشه الخشن ... عندما انحدرت نظراتها الى اسفل ابتسمت لا شعورياً لمراى حذاؤه الاسود اللامع وقد بدا كأنه خرج تواً من بين يدي صبي الورنيش الصغير الذي يجوب ممرات الجامعة .... عندما رفعت راسها مرة اخرى كانت ابتسامتها ما زالت معلقة بشفتيها .. فابتسم لها بدوره وقد وقع اسيراً لسحر اللحظة .. اومات له دون ان تنبث بحرف وانسحبت من امامه بعد ان اخذت قلبه معها ...
بمرور الايام تزايدت صدف لقاءتهما ...كانت تحييه بايماءتها الصامتة ويجاوبها بابتسامة عريضة ثم اصبح يخطط لرؤيتها .. استقصى عن مواعيد محاضراتها .. فترات الراحة .. والاماكن التي تفضل الجلوس فيها ... تعمد التواجد قبلها في مكانها المعتاد ... في البدء كانت تظهر عليها علامات الدهشة للمصادفات المتكررة ثم تاتي الايماءة الخجولة لتبشره بقبولها لوجوده ... كان قد اعتاد الجلوس في ركن معين في الكافتيريا يتيح له رؤيتها بمجرد دخولها لتلتقي عيناهما في عناق قصير يصبح زاده وانيسه حتى لحظة اللقاء التالي ... في احد الايام اتى ليجد آخرين قد احتلوا زاويته المفضلة فاحس بالحزن وبحث عن مكان آخر يمنحه راحة رؤيتها حتى وان غاب عناق النظرات ... باغتته فرحة طاغية وهو يراقبها عندما فوجئت بغيابه عن مكانه المعتاد ... راي التقطيبة التي علت ملامحها الجميلة ... لاحظ وجوم خطواتها وحيرة عينيها الباحثتين بلهفة حتى التقتا بعينيه ... لم تفته ابتسامة الراحة التي ارتسمت على ثغرها المغري ونزلت برداً وسلاماً على مشاعره الملتهبة ... فقد اكدت له انها تدرك وجوده وان غيابه يكدرها ... يومها ارتفعت آماله التي ولدت بسرية لحظة اصطدامه بها لقد احتلت افكاره وحواسه منذ ذلك اليوم باسلوب لم يختبره قبلاً ... ولم يحاول مقاومته برغم علمه استحالة أي علاقة بينهما .. لم تكن تنقصه الثقة بنفسه ...فهو يمتلك ذكاء حاد يكاد يصل الى درجة العبقرية مما جعله على راس المتفوقين طيلة مراحله الدراسية وكان مثار فخر لاسرته التي كانت فيما مضى تتمتع بالثراء الفاحش والسلطة والنفوذ ... ومع دوران عجلــة الحياة تلاشى الثراء واحتفظت الاسرة بمكانتها وهيبتها وسط القبيلة الكبيرة الممتدة في ارجاء واسعة من غرب البلاد ... شب ( زاهر ) وسط هذه الاسرة المتماسكة وتعلم منذ نعومة اظافره ان يفخر بارثه مما اكسبه اعتزازا بنفسه واصله صبغ كل تصرفاته لدرجة ان الكثيرين من اصدقاؤه كانوا ينعتونه بالعنصري المثقف .. كان يتلقى وصفهم بمزيج من الغضب والتعالي .. لذلك لم يحس بالدونية امام نادية التي اكتشف انها تنتمي لاسرة عريقة وثرية ... لكنه احس بالخوف من مشاعره الجارفة وامكانية عدم تجاوبها معه .. لذلك عندما راي اولى علامات القبول اندفع نحوها بعنف ولم يكن هناك شئ يستطيع صده ... تدريجيا انتقلت العلاقة من مرحلة الايماءة الصامتة والابتسامة المترددة الى مرحلة تبادل كلمات بسيطة ... ومن لقاء الصدفة الى اللقاء المخطط بدون اعتراف ...
مرت ستة اشهر على تاريخ معرفتهما المتباعدة عندما تجاسر على الجلوس بجانبها وتبادل الحديث الاول بينهما ... فبعد غيابها عن الجامعة لمدة ثلاثة ايام متواصلة .. كان قد شارف على الجنون .. واصبح شوقه اليها اكبر من قدرته على الاحتمال ... كلت قدماه وهو يدور في طرقات وممرات الجامعة بحثا عنها في كل الامكنة حتى تلك التي لم تعتد الجلوس فيها ... وصل به الامر الى دخول قاعة محاضراتها الممتلئة ومواجهة العيون الفضولية التي شهدت خيبة نظراته عندما لم يجدها .. تمسك بعزة نفسه وعصمه كبرياؤه من مطاردة صديقاتها ليسال عنها .. برغم انتباهه للغمزات المتطايرة بينهن كلما مررن به اثناء جلوسه في مكانه المعتاد حزيناً محدقاً تجاه المدخل مؤملاً دخولها في كل لحظة ..
في رابع ايام بؤسه دخل عبر ممر الكافتريا بخطوات متعبة وراس محني يتامل حبات الحصى الصغيرة وهي تتدحرج امام ضربات طرف حذائه ... ثم غزت انفه رائحة عطر ناعم اصبح دليله على وجودها خلال الفترة الماضية ... رفع راسه فوقعت عيناه عليها وهي تجلس بهدوء على طاولة قريبة منه وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة وفي نظراتها لهفة ... توقفت قدماه عن دحرجة الحصى واحس برعدة قوية تجتاح حواسه العطشى اليها ... وبدون ان يرفع نظراته عنها اتجه الى طاولتها .. سحب الكرسي المواجه لها وجلس ... سالها مباشرة ودون تحية ..

- كنتي وين الايام الفاتت ؟؟ .. ليه ما بتجي الجامعة ؟؟!! ...

اتاه الرد بصوت ملائكي ناعم وبحة مغرية جعلت خياله يتوه وراءها ...

- كنت عيانة ... عندي ملاريا ..

راودته رغبة قوية باحتضانها فاغمض عينيه للحظة حتى يستعيد السيطرة على عواطفه التي تهدد بالانفلات ... وعندما استطاع كبح الاحساس المجنون .. فلت زمام لسانه ..

- ما كنت قايل الملاريا بتخلي الناس حلوين كدة ..

احس بتفاهة كلماته وتمنى لو يستطيع استعادتها داخل حلقه ... لعن نفسه وتسرعه .. لكن لسانه واصل الثرثرة رافضا اوامر عقله بالصمت ..

- اشتقت ليك شديد .. الجامعة ما كان عندها طعم من غيرك ... خليتيني زي اليتيم .. حتى محاضراتي ما قدرت احضرها .. كنت اليوم كلو بافتش عليك واخاف لو دخلت محاضرة انتي تجي وما اشوفك ..

عندما استعاد قدرته على الصمت كان موقناً بانه قد صرح باكثر مما يود ... وربما جعلتها كلماته تهرب منه الى الابد ... ارعبه الاحتمال فرفع راسه ليرى ردة فعلها ... كانت ابتسامة مشرقة خجولة تزين ملامحها الرقيقة .. ولمحت نظراته الحادة المركزة رعشة اصابعها وهي تشبكها امامها .. كاد يقفز فرحاً عندما اجابت سيل كلماته المتدفق باربع كلمات فقط فتحت له بها باب الجنة ..

- انا كمان اشتقت ليك ...
بعد هذا اللقاء اطلقا العنان لمشاعرهما .. وحرصا على اخفائها امام مجتمع الجامعة ... لم يعلم بها الا المقربون من اصدقائه وصديقاتها ... كان يسبقها بسنة في نفس كليتها فاصبح لقاؤهما وسط المجموعة امرا طبيعيا .. ولم يعدما الوسيلة للحصول على بعض الخصوصية بمواعيد مرتبة خارج اسوار الجامعة او في المناطق المنعزلة داخلها ...
مرت سنة على علاقتهما وهما يحرصان على تفادي أي تواصل جسدي باستثناء تشابك الايدي كلما وجدا فرصة لذلك ...كان زاهر يخاف عليها ويحميها حتى من نفسه .. يحترمها لانها تجاوزت القشور التي تفصل بينهما ورات جوهره واحبته بدون قيود أو عقد ... قبل الاجازة السنوية التي تنتقل بعدها نادية الى سنتها الجامعية الثانية .. قررت مجموعة الاصدقاء اقامة حفل وداع وتم الاتفاق على رحلة الى احد الشواطئ .. مضى اليوم مسرعا في ما بين اللعب والضحك والتقاط الصور ... وقبل الموعد المحدد لعودتهم بساعة انسحب زاهر ونادية للقيام بجولة منفردة ... كانا يدركان صعوبة اللقاء خلال فترة الاجازة الطويلة ... ورمى شبح الفراق الوشيك ظلاله على خطواتهما المترافقة ... فتعانقت الانامل بقوة ولدت شرارات كهربائية وارسلت اشارات مجنونة الى حواسهما الجائعة لتواصل حسي اعمق .. كانت قبلتهما الاولى كانفجار العاب نارية في فضاء مظلم ... مبهرة ... مضيئة ... ساحرة ... عندما افترقا منها بانفاس لاهثة ... قرر زاهر بحسم ان نادية لن تكون الا له سوف يحارب من اجلها ... وفي الحب والحرب كل الاسلحة مشروعة ... كانت القبلة الثانية اعمق واطول .. واقوى استكانت بعدها بين ذراعيه وهو يهمس في اذنها ...

- نادية .. انا بحبك ... وعاوزك تكوني زوجتي ... ما حاسمح لاي شئ في الدنيا يبعدني عنك ... لا اهلك ولا اهلي .. لاجنس ولا لون ولا فقر ولا غنى .... انتي حقتي .. ملكي وانا حقك وملكك .. لكن ملكيتنا لبعض دي لازم تبقى رسمية باي شكل وفي اقرب وقت .. عندك الاجازة .. فكري في كلامي دة كويس ولمن نرجع الجامعة حيكون بينا كلام كتير ..

وظلا متماسكين حتى لحظة الوصول الى الجامعة .. خلال الاجازة كانت تاتيها رسائله عن طريق صديقاتها ... اصبحت زادها الذي يعينها على غيابه ... كان يصف ليها ايامه بالتفصيل حتى احست كانها تعيش معه في مدينته البعيدة ... وكانت ترد على رسائله باخرى اطول منها ... وهكذا مرت ايام فراقهما وكانهما لم يفترقا .
عندما التقيا بعد انتهاء الاجازة واصل زاهر حديثه الذي بداه في لقائهما الاخير وكانه لم ينقطع ... وكانت المرة الاولى التي يلمح فيها علامات الخوف والتردد على وجه نادية منذ بدء علاقتهما ..

- زاهر .. اهلي ما حيوافقوا اني اتزوج هسة وقبل ما اخلص الجامعة ... وبعدين انت زاتك لسة طالب .. والشئ دة ما حيكون مقبول عند ابوي ولا امي ...

كان يتاملها ويستوعب كلماتها المرتبكة ...ويفسرها بطريقته الخاصة ... بالطريقة التي لم تجروء هي على قولها حتى لا تجرح كبرياؤه وعزة نفسه ... احبها اكثر لمراعاتها له ... وفاجأها بما يدور في بالها ولم تفصح عنه ...

- نادية .. خلينا نكون واضحين مع بعض ... اهلك ما حيرفضوني عشان انا وانتي لسة طلبة ... اهلك حتى لو مشيت ليهم بعد ما اتخرج واشتغل ووضعي يبقى كويس برضو حيرفضوني .. وبدون ما يسالوا عن أهلي ولا اخلاقي ولا سلوكي ولا مدى التزامي ... حيرفضوني بالشكل بس ومن اول لحظة يشوفوني فيها ..

حاولت ان تنفي كلماته وتدافع عن اهلها ... لكنها لم تستطع وتولت دموعها الرد نيابة عنها ...

- نادية انتي قايلاني ما عارف او متوقع الشئ الممكن يحصل لمن اتقدم ليك ؟؟!! ... ابسط شئ انهم يطردوني من خشم باب البيت لانهم ممكن يشوفوني ما قدر مقامكم ولا من مستواكم .. على الاقل اعتقد انو دي طريقة تفكيرهم الانا فهمتها من البتحكيهو لي عنهم ...

تحولت دموعها الى نحيب خافت متشنج وهي تستوعب الصورة القاتمة التي رسمها زاهر بكلماته .. صورة كانت تعلم بوجودها لكنها تناستها وتعمدت تجاهلها طيلة الفترة الماضية وهي تامل بحدوث معجزة تمكنها من تجاوز كل الصعاب والارتباط بالرجل الذي احبته بكل ما تملك من مشاعر ...
- انا ما بقول ليك الكلام دة عشان الومك على شئ انا عارف انو ما بايدك ولا عشان انتقد اهلك لانو الاهل دة طبعهم ... وبالذات في مسالة الزواج دي ليهم وجهة نظر ثابتة وما مستعدين يتنازلوا عنها لاي سبب من الاسباب .. انتي عارفة انا هسة لو كلمت اهلي برغبتي في الارتباط بيك برضو ممكن يرفضوا ؟؟ ...

ابتسم بسماحة متفهماً نظرة الاستنكار والدهشة التي ارتسمت جراء كلماته الاخيرة ..

- زي ما بقول ليك يا نادية .. ممكن اهلي ببساطة يرفضوا ارتباطي بيك .. مش عشان انتي فيك شئ ولا كعبة لا سمح الله ... لكن لانهم هم وحسب فهمهم بيكونوا شايفنك ما مناسبة لي .. بيكونوا عاوزيني اتزوج واحدة من القبيلة ... واحدة تفهم عاداتهم وتقاليدهم .. تعرف تعمل اكلهم وترقص زيهم وتلبس زيهم وتقدر تعيش ظروفهم وتتعايش مع وضعهم .. انتي بالنسبة ليهم ممكن تكوني دخيلة جاية تشيل ولدهم وتسلخو من عالمهم...

تنفس بعمق وهو يرى الالم مرتسما على ملامحها ... مد يده تحت ذقنها ورفع راسها المطرق .. امرها برقة ..

- نادية ... عايني لي ...

انتأبه الندم على طلبه عندما رفعت اليه عينان كسيرتان وممتلئتان بالدموع ... آخر ما يرغب به ان يكون سببا لحزنها ... دموعها تعذبه وتشعره بالذنب ... لكن لا مناص من مناقشة مستقبل علاقتهما وبرغم ثقته في حبها .. لكنه لا يثق بالظروف التي قد تبعدها عنه في أي لحظة ... لذلك سوف يجازف بطرح افتراحه الصادم معتمداً على حبها في تفهم دوافعه .. والموافقة على طلبه ..
نادية .. انتي تصورك شنو للعلاقة البيني وبينك ؟؟ يعني عاوزاها تستمر وتمشي لقدام ولا عاوزاها حاجة مؤقتة وبعد ما نخلص الجامعة كل واحد يمشي في طريقه ؟؟ ...

اتاه ردها سريعا وغاضباً ...

- زاهر !! .. انت لغاية هسة ما عرفت انا ياتو نوع من البنات ؟؟ .. ولا بتفتكر انا من النوع البيملا فراغو بعلاقة مؤقتة ؟؟ .. طيب اذا فرضنا اني فعلا عاوزة اقضي وقت لغاية ما اخلص الجامعة .. ليه اخترتك انت بالذات ؟؟ ما كانت قدامي الخيارات واسعة خيارات مضمونة وما بتعمل لي أي مشكلة في المستقبل .. لازم تعرف انو الاحساس الربطني بيك كان اقوى مني ومن كل محاولاتي لصده ... وبعترف ليك اني فعلا قاومت مشاعري شديد .. حاربتها شهور وشهور لاني كنت عارفة كمية المشاكل الحتواجهني لو دخلت في علاقة معاك .. زاهر انت اول انسان يدخل حياتي واديهو كل الاحساس الجواي .. بحلم واتمنى انو علاقتنا دي تمشي لقدام .. ونتزوج اشيل عيالك واحبهم لانهم حتة منك .. باتمنى اعيش معاك كل العمر الجاي ... باتمنى اكبر معاك .. واعجز معاك ... و ..

اسكتتها غصة مفاجئة .. وجلس هو عاجزا عن تحمل حزنها او مواساتها .. امسك يدها المرتعشة احتواها داخل كفه العريض وضغطها بقوة حتى راى سحابة الم تعبر ملامحها فافلتها .. هجره تردده فقرر طرح اقتراحه .. وتحمل العواقب ..

- نادية .. ايه رايك نتزوج هسة ؟؟ نعمل عقد من غير ما أي زول يعرف ... انا بقيت ما قادر ابعد عنك .. ولا بتحمل فكرة انك تضيعي مني .. وواثق انك بتحسي بنفس احساسي .. انا كل ما يمر يوم خوفي بيكبر .. عاوز اضمن وجودك في حياتي للابد .. ودي الطريقة الوحيدة عشان مافي أي زول يقدر يفرقنا من بعض ... حتى لمن اهلك يعرفوا حنكون بقينا راجل ومرتو .. وما حيقدروا يفرقونا من بعض ..
اصبحت صورة مجسدة للفزع .. صمت كل ما فيها حتى تنفسها ... نسى زاهر مكان وجودهما وكل ما يحيط به ... امسك يديها بكلتا يديه ... غرز نظراته في عمق عينيها وبدا اصعب رحلة في حياته رحلة اقناعها بضرورة زواجهما ...استخدم كل اسلحته للضغط عليها ... كان يدرك سطوة حبه على قلبها .. ولم يحس بالندم وهو يستخدم هذه السطوة للتاثير على قرارها .. وظل يقنع نفسه بان كل شئ مباح في الحب والحرب وهو الان في حالة حرب ضد تقاليد بالية وافكار عنصرية متوارثة .. ويجب ان يربح حربه ليربح حبه ...
بعد اسبوع من النقاش المستمر استطاع ان يذيب خوفها من الفكرة .. وكان قرار الزواج العرفي للمحافظة على اكبر قدر من السرية .. فتم العقد بحضور اصدقائهما المقربين الذين يثقون بقدرتهم على كتمان الامر حملت نادية ورقتها كتهمة واخفتها في اقصى ركن من خزانة ملابسها ... بينما حمل هو ورقته كجائزة يانصيب اتته من غير توقع واخفاها من العيون خوف الحسد ... اعطتهما الاوراق المخباة رخصة لتجاوز الخطوط الحمراء التي كانت تحدد تواصلهما الحسي .. واصبح تشابك الايدي والقبلات المختلسة وقودا يلهب نار الرغبة التي تستعر تحت صدورهما حتى وصلا الى نقطة لم تعد تجدي معها محاولات التعقل .. تم اول لقاء بينهما كزوجين في منزل صديقتها التي غاب اهلها في رحلة قصيرة لاداء واجب اجتماعي في بلدتهم ... بدا اللقاء عاديا كاحدى الجلسات التي اعتادوا عليها هي وزاهر .. وصديقتها التي ارتبطت بصديق زاهر بنفس طريقتهما ... اعطتهم العزلة وامان الجدران المغلقة الشجاعة لمزيد من الحميمية ... وعندما انسحبت الصديقة مع زوجها الى احدى الغرف .. وجدت نادية نفسها غارقة في احضان زاهر وانفاسه الحارة تحرق جلدها ... كان يوما عصيبا على نادية التي اختلطت دموعها بمتعة غامضة تعدها بالكثير بعد انحسار الالم ... بينما احس زاهر بمشاعر لم يحلم يوما ان يصل اليها ... ففي اللحظة التي امتلكها فيها واحتضنته احشائها البكر .. راوده احساس بانه قد امتلك الكون كله بسماؤه وارضه وبحاره ونجومه وكل مخلوقاته ... في تلك اللحظة تضاعف حبه لها الاف المرات .. احس بالفرق بينها وبين أي امراة اخرى عاش معها نفس التجربة .. احس بانه لم يخلق الا لها .. وانها له وحده ...
في صبيحة اليوم التالي اجتاحته لوعة قاتلة عندما بحث عنها في كل الامكنة ولم يجدها .. دفعه قلقه لتجاوز كل تحذيراتها بعدم اتصاله بمنزلها مهما كانت الاسباب بعد ان اقتلع منها رقم الهاتف تحسبا للحظة مثل هذه .. لكن خانته شجاعته عندما اتاه صوت لا يعرفه فاغلق الخط وطلب من صديقة سرها ان تسال عنها ... لم يقتنع بكلمة مريضة التي ساقتها احدى اخواتها لتبرير غيابها وطافت براسه كل الاحتمالات المخيفة ... وتآكلته الافكار السوداء .. ليلتها لم يغمض له جفن واندهش حارس بوابة الجامعة من حضوره المبكر وعلامات الاجهاد تملا ملامحه ... قفز من جلسته عندما رآها تدخل في مواعيدها المعتادة .. كانت تبدو نضرة .. وسعيدة ... اشرقت ابتسامتها وبرقت نظراتها بضياء غامض عندما راته .. وبصمت متفق عليه اتجها الى ركنهما المنعزل في اطراف الجامعة ...

امسك يديها بلهفة .. وقبل باطنهما بحرارة اعادت لها ذكريات مرهقة .. سحبتهما برقة وهي تهمس..

- زاهر .. اقعد ساكت .. في ناس جايين ..

- نادية ؟؟ انتي عاوزة تجننيني ولا شنو ؟؟ ليه غبتي امبارح بدون ما تكلميني ؟؟ ليه ما اتصلتي ووريتني الحاصل عليك شنو ؟؟ ..

- والله ما كنت ناوية اغيب يا زاهر .. لكن صحيت الصباح جسمي كلو واجعني وما قدرت انزل من السرير .. قلت يمكن تكون الملاريا رجعت لي تاني وقررت ارتاح شوية واجي الجامعة بعد الضهر لاني عارفاك حتقلق .. لكن والله ما قدرت .. كنت تعبانة شديد ..

ابتسم لها باسلوب العارف وهو يخاطب الجاهل ...

- معليش يا نادية .. اول مرة دايما بتكون صعبة .. وانا اول امبارح تعبتك شديد .. ما تخافي المرات الجاية حتبقى اسهل ... خصوصا انك ما مطهرة .. تصدقي لمن لقيتك كدة فرحت شديد .. كنت عاوز اسالك من زمان لكن خجلت وقلت عيب اسالك سؤال زي دة ..

- امي كانت عاوزة تطهرنا لكن ابوي رفض ... زاهر .. انا ... انا ..

احتبست الكلمات في حلقها فخفضت نظراتها بخجل .. عندما رفعتها كانت مليئة بالقلق ... وتلعثمت كلماتها بينما كان هو ينظر الى تبدل ملامحها بحيرة .. اخيرا طرحت له مخاوفها همسا .. واجابها بصوت مطمئن ...

- ما تخافي يا نادية .. انا عامل حسابي كويس .. عارف انو مسالة الحبوب او أي مانع تاني صعبة عليك .. عشان كدة انا حكون حريص شديد .. وبرغم اني متلهف لليوم التشيل فيهو بطنك طفلي .. لكن حاصبر لغاية ما نتخرج وامورنا تستقر ويبقى زواجنا رسمي .

برغم مرور سنة كاملة على هذا الوعد ... برغم الاجهاد البدني والعاطفي الذي يصيبه في كل لقاء بينهما .. الا انه لم يخن ثقتها به قط .. وظل حريصاً على الوفاء بوعده لها ... حتى اليوم ... دخول اميرة المفاجئ اتى في لحظة حرجة .. انسته صرختها حرصه فاخلف وعده لنادية بلا وعي أو ارادة كان يود اخبارها بزلته ... لكن وضعها النفسي اربكه وجعله يلتزم الصمت وهو يدعو في سره ان يكون ما دخل جوفها غير كاف لتحقيق اكبر مخاوفها ... نهض من جلسته اليائسة وتقدم اليها .. وقف خلفها ولف ذراعيه حول جسدها المتخشب .. طبع قبلة طويلة في مقدمة راسها وحاول زرع الطمانينة في اعصابها المتوترة ..

- نادية .. انا عارف الوضع الانتي فيهو هسة ... حاسي بكل حاجة جواك .. حاسي بخوفك وقلقك وحزنك .. عارف الهم الركبك .. لكن انا عاوزك تكوني قوية وما تنهاري من هسة .. انا معاك .. انتي مرتي واحنا متزوجين شرعاً وقانوناً ... انا مستعد هسة اطلع لابوك في الخيمة واكلمه وننتهي من الموضوع دة .. خلاص الحصل حصل !! حيعملوا شنو يعني ؟؟ حيقولوا لي اطلقك ؟؟ لو يقتلوني ما باطلقك .. حتى لو انتي قلتي لي طلقني ما باطلقك لانو لحظتها حاكون عارف انو دي ما رغبتك الحقيقية وانك بتعملي كدة عشان ترضيهم ... لازم تعرفي اني متمسك بيك لغاية آخر نفس في عمري المهم انو انتي تتمسكي بي وما تضعفي قدامهم ...

استدارت داخل ذراعيه .. واجهته بنظرة طويلة ثم دفنت راسها في صدره واجهشت بالبكاء .. تركها تفرغ كل شحنات خوفها وقلقها وهو يربت على راسها ويهدهدها كطفلة صغيرة حتى سكنت انفعالاتها عندما توقفت اختلاجات جسدها سالها مرة اخرى بتصميم ..

- نادية .. اطلع لابوك هسة واكلمو ؟؟ ..

هزت راسها بعنف ..

- لا يا زاهر .. اوعك تفكر تعمل كدة ... ابوي ممكن يقتلك ويقتلني معاك ... انا ما عارفة اعمل شنو ... ياربي وريني بس اعمل شنو ..

داهمتها نوبة بكاء اخرى وقف امامها محبطاً وقد اغضبته قلة حيلته وعجزه في التخفيف عنها ..

- طيب لمتين يا نادية ؟؟ لمتين حنفضل نتدسى ونتضارى ؟؟ مش احتمال اختك هسة مشت طوالي لابوك وكلمتو ؟؟ مش احسن امشي واتكلم معاهو يمكن اقدر اقنعه ؟؟ ولا نقعد ننتظر البلا ؟؟ والله انا شايف قتلوك ولا جوك جوك ؟؟ ..

هزت نادية راسها بعناد ..

- يا زاهر لو مشيت لابوي هسة تاكد انك ما حتطلع من الخيمة على رجلينك .. اميرة انا عارفاها ما حتمشي تقول لابوي .. حاليا على الاقل لانها مصدومة .. لكن بالتاكيد لمن تفوق وتستوعب الحصل حتكلم امي .. وامي حتكلم ابوي .. عشان كدة انا لازم الحق اميرة قبل ما تتكلم .. لازم نكسب وقت عشان نعرف حنعمل شنو ...

بددت خوفه وقلقه من ضعفها عندما ارتمت بين ذراعيه وعانقته بقوة كانها تستمد منه الشجاعة لمواجهة ما ينتظرها .. تراجعت الى الخلف ونظرت اليه بطريقة اذابت قلبه ..

- زاهر ... مهما كان الشئ الحيحصل ... انا عاوزاك تتاكد من حاجة واحدة ... انا ابدا ما ندمانة على أي شئ حصل بيني وبينك .. بالعكس انا سعيدة لاني اتزوجتك حتى لو زواج عرفي ... ولو خيروني اني اعيش التجربة دي معاك او لا .. حاختار اني اعيشها معاك تاني وبكل تفاصيلها ...
اشعرته كلماتها بحزن غريب .. احس بها كانها تودعه .. ولمعت الدموع في عينيه..

- نادية ؟؟ طريقة كلامك خوفتني .. اوعي تكوني ناوية تنهي علاقتنا ... لو فكرتي كدة حتكوني حكمتي علي بالاعدام .. انا جاد جدا لمن اقول ليك انا ما باقدر اعيش من غيرك انا روحي معلقة بوجودك في حياتي .. ولو خليتيني بموت ...

قاطعت سيل كلماته بقبلة طويلة واطراف اناملها تمسح دموعه التي تراها للمرة الاولى .. عندما انفصلا بعد وقت طويل راى في ملامحها تعبير مصمم .. اكتسب صوتها قوة غير متوقعة وهي تدفعه نحو الباب ...

- امشي البيت يا زاهر .. ما تخاف .. انت اختياري وانا مصرة اتمسك بيك مهما يحصل امشي انت هسة وبكرة حتصل بيك اوريك الوضع شنو ...

اندهش من القوة المفاجئة التي تتكلم بها بعد لحظات الضعف التي اعترتها .. تاملها بفخر واعزاز .. استسلم ليدها وهي تقوده الى الخارج .. اطفات الانوار في طريقها .. خرجا الى الساحة شبه المظلمة ولفحتهما نسمة هواء باردة تنبئ بقرب حلول الشتاء .. تطاير شعرها حول وجهها فبدت بفستانها الزهري وتاج الورود بين يديها كانها ملاك هبط الى الارض ... طبع قبلة ناعمة في باطن كل كف واخرى على جبينها ثم استدار منصرفا بخطوات بطيئة مترددة ... تابعته بنظراتها حتى اختفى خلف الباب الخارجي كي تبدا هي رحلتها المتثاقلة صوب البيت الكبير ... كان الحفل في نهايته .. ارتفعت اصوات موسيقى راقصة بلا غناء .. تعالت الزغاريد واهتز الفضاء من دوي طلقات الرصاص .. عندما اصبحت في الجزء الآخر من المنزل واغلقت الباب الصغير خلفها .. راودها احساس طاغ بان الساعات التي انقضت لم تكن حقيقية .. كانت حلماً عاشته باستغراق ... بدت كل الاشياء ضبابية وبعيدة ... احست براسها يدور فتحاملت على نفسها حتى وصلت الى منزلهم .. اتجهت الى غرفتها وفتحت خزانة ملابسها .. اخرجت قطعة الورق الصغيرة البيضاء المطوية بحرص .. فتحتها على مهل وقراءتها للمرة المائة منذ ان وضعت توقيعها عليها .. حملتها واتجهت الى غرفة اميرة .. فتحت الباب لتجد شقيقتها متربعة في منتصف السرير وقد وضعت راسها في اعلى ركبتيها المضمومتين بين ذراعيها .. كان وجهها الجميل قد تلطخ بالوان المكياج المختلط بدموعها .. ذعرت نادية من تعبيرها الجامد وعيناها المتسعتان بلا حياة ... لم تتحرك اميرة من جلستها وهي تنظر الى نادية التي تقدمت نحوها بحذر .. فتحت الورقة ووضعتها امام العيون التي تحدق في الفراغ ... وانتظرت ...



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-11-14, 04:21 AM   #14

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


الفصل الثالث عشر

وقف حامد بهيبته الطاغية وهو يودع الحضور بعد نهاية الحفل الصاخب ... كانت نظراته تدور بحثاً عن ابراهيم الذي اختفى منذ فترة طويلة .. احس بالضيق والغضب لتصرفات ابن اخيه اللامبالية .. وتذكر بغيظ الغمزات التي تبادلها اصدقاءه عند مروره بهم اثناء خروجه ... كان يدرك بان سلوك ابراهيم المشين لم يعد سرا مخفيا كما اراد له ان يكون ... لقد استمات طيلة السنوات الماضية في تغطيته حتى لا ينفضح ويصبح نقطة سوداء تلطخ سمعة العائلة ... لكن من الواضح ان ابراهيم لم يكن مهتما باخفاء افعاله .. بل وبدا له في بعض الاحيان كانه يتعمد المجاهرة بفواحشه نكاية فيه مثلما فعل حين تم القبض عليه في احد البيوت المشبوهة عندما كان في الثامنة عشرة من عمره .. يومها ايقظه رنين الهاتف بعد منتصف الليل ليخبره بوجود ابن اخيه في قسم الشرطة ويطلب حضوره .. قبل خروجه اجرى عدة مكالمات طلبا لدعم يحتاجه في هذا الموقف العصيب ... عندما وصل الى قسم الشرطة وجد ان ابراهيم قد اخرج من زنزانته ووضع في مكتب الضابط المناوب بعد مكالمة اتته من ضابط اعلى رتبة منه .. كما وجد المحامي بانتظاره امام البوابة فدفع الكفالة بسرعة وسحب ابراهيم المخمور من ذراعه ورماه داخل السيارة بعنف وترك للمحامي مهمة تسوية الاجراءات القانونية ... قاد بصمت وقد قرر ان المنزل هو المكان المناسب لمحاسبة هذا الولد الماجن الذي جلس ساكنا بعيون ناعسة وابتسامة شامتة معلقة بشفتيه ..كانت تفوح منه رائحة عرق كريه ..وعبأت انفاسه المخمورة فضاء السيارة الضيق حتى احس حامد بالاختناق ...
في ذلك اليوم كانت المرة الاولى التي يرفع فيها حامد يده ويضرب ابراهيم .. عندما اصبحا داخل المنزل التفت الى ابن اخيه الذي بدا يتجه بخطوات مترنحة نحو غرفته وهو يدندن لحناً شائعاً .. كان غضبه قد وصل الى مداه فصرخ فيه ..

- انت يا حيوان انت .. اقيف قبلك .. ماشي وين ؟؟!! ...

التفت اليه ابراهيم وما زالت ابتسامته البغيضة معلقة على شفتيه ...

- ماشي انوم يا عم حامد .. عاوز شئ ؟؟ تأمر باي خدمة ؟؟ قول .. احنا تحت الطلب..
كانت حامد قد وصل الى اقصى حدود صبره ... هدر صوته وتغلغل في كل اركان البيت النائم .. اتت السرة تركض فزعاً ومن خلفها بلقيس وبدور والصغيرة بسمة التي اخافها الصوت وبدات تبكي بصوت عال زاد غضب حامد وجعله يلتفت الى السرة ..

- السرة .. سوقي بناتك وادخلي جوة .. ما عاوز اسمع صوت زول فيكم فاهمة ولا لا ؟؟

حاولت السرة الاحتجاج ومنع المواجهة الوشيكة بين زوجها وابنها .. لكن خطوات حامد المهددة بقبضتيه المضمومتين ونظراته النارية التي تراها لاول مرة منذ زواجهما اجبرتها على ابتلاع كلماتها وتراجعت بذعر وهي تسحب بناتها امامها حتى دخلت غرفتها ووقفت تختلس النظرات من خلف الباب الموارب .. تلقى ابراهيم صفعة قوية ادت الى سقوطه ارضاً بصوت طغت عليه شهقة السرة الجزعة .. وظل مستلقياً ارضاً وهو ينظر الى حامد بحقد وقد اتسعت ابتسامته ...

- بتضربني يا عم حامد ؟؟ بتضربني هسة بعد ما بقيت راجل ؟؟ تكون عاوز تادبني بعد العمر دة ؟؟ ولا يادوبك اتذكرت تربيني ؟؟ ههة .. انت ما شايف انك اتاخرت شوية في موضوع التربية والادب دة ؟؟ ولا يمكن تكون حتى ما عارف انا عمري بقى كم ؟؟ حتى لو بقيت ما عارف عادي ما في مشكلة .. ما انت طول عمرك ما بتعرف حاجة عني .. لكن بس عاوز اسالك بمناسبة انك يادوبك قررت تادبني وتربيني .. كنت وين لمن انا كنت صغير ومحتاج فعلا لزول يوجهني ويوريني الصح من الغلط ؟؟ كنت وين لمن شربت اول سيجارة واول كاس ؟؟ كنت وين لمن بديت اسقط في المدرسة واجيب الشهادات كلها كعك تعاين ليها بدون اهتمام وتديها لامي ؟؟ جاي هسة تعمل لي فيها المربي الفاضل ؟؟ سوري ليك يا عمو .. جيت متاخر خالص وبعد ما فات الاوان زي ما بتقول الاغنية ..

وبدا يدندن مرة اخرى بصوت مهزوز باغنية عن فوات الاوان ..احس حامد بالمرارة تملا جوفه وهو يقر بصحة كلمات ابراهيم التي جعلته متهما بعد ان كان جلاداً .. حاول ان يدافع عن نفسه بالعذر الوحيد الذي يعرفه ..

- كنت وين يا ولد يا قليل الادب ؟؟ كنت باشتغل واجيب قروش عشان انت تعيش في العز العايش فيهو دة ...
ضحك ابراهيم بهستريا وهو يضرب الارض بكفيه ..

- قروش ؟؟ قروش شنو يا عمي وعز شنو ؟؟ ومنو القال ليك انا كنت عاوز قروشك ولا محتاج ليها ؟؟ انا كنت محتاج ليك انت .. لرعايتك .. لاهتمامك .. لتوجيهك .. لابوتك الابيت تديني ليها .. وكنت كل ما اطالبك بحاجة من الحاجات دي تديني بدلها قروش وفي النهاية لمن فهمت اللعبة صاح بقيت اشيل قروشك واشتري بيها الحاجات دي من برة ... بقيت شاطر في التجارة بسببك وبراس المال حقك ... بقيت اشتري حب الناس واهتمامهم بقروشك .. بشتريهم زي ما باشتري (البنقو) و ( العرقي ) واي حاجة تانية انا عاوزها ... لكن معليش الحاجة الوحيدة القصرت فيها اني كان مفروض كل فترة كدة اعمل ليك كشف حساب عشان تعرف قروشك البتديني ليها بدل ابوتك وحبك بتمشي وين ...

ولدهشة حامد الشديدة بدات الدموع تجري من عيني ابراهيم ... فهو لم يره يبكي منذ ان كان في الحادية عشرة من عمره عندما التقاه مندفعا من غرفة السرة وهو يجهش ببكاء مرير .. وعندما حاول ايقافه ليساله عما به .. اجابه بكل برود ..

- عاوز تعرف مالي يا عم حامد ؟؟ ... اسال السرة وهي بتوريك ...

يومها فوجئ بكلمة ( عم حامد ) التي خرجت من بين شفتي ابراهيم وكانه يبصقها .. عندما دخل الى الغرفة وجد السرة تنوح ببكاء ذكره بحالتها عندما مات شقيقه وتركها تحمل طفله ... كانت ارضية الغرفة مغطاة بشظايا الزجاج المخلوط بحبيبات السكر .. ادرك ما حدث دون ان تخبره .. تاملها طويلا ثم تركها وخرج وهو يحس براحة تغمره بعد ان تحرر من عبء التظاهر بابوة فرضت عليه ولم يرغب فيها قط ... عزى ضميره بان ابراهيم كان لابد يعلم الحقيقة عاجلاً ام آجلاً ...
عندما تمكن ابراهيم من الوقوف على قدميه رفع يد حانقة ومسح بها دموع متجددة من وجه غابت عنه التعابير ... توجه نحو باب غرفته .. وقبل ان يطأها التفت ببطء الى حامد الذي جرفته ذكريات بعيدة ومتشابهة وخيل اليه انه فقد القدرة على تمييز الماضي من الحاضر ... وان اللحظة التي يعيشها ما هي الا تكرار للحظة اخرى عاشها سابقاً وبنفس تفاصيلها ... باستثناء كلمات ابراهيم الغاضبة ..

- شوف يا عم حامد .. من هسة باقول ليك .. عشان ما تخجل من العملتو واللسة حاعملوا لو أي زول لومك على تصرفاتي قول ليهم دة ما ولدي .. دة ولد اخوي وطلع كدة لانه ابوه مات من زمان وما لقى زول يربيهو ..
دخل غرفته وصفع الباب خلفه بعنف اهتزت له الجدران ... من يومها تفادى حامد اثارة أي نقاش مع ابراهيم .. اقتصر دوره في حياته على تزويده بالمال واخراجه من المآزق التي يورط نفسه فيها حتى عندما اتاه يخبره بقراره الزواج من حبيبة ابنة بخيت لم يستطع ردعه برغم غضب السرة العارم الذي زاده عنادا خصوصا عندما علم بزيارتها المحذرة لاهل البيت الصغير والتي اتت نتيجتها لصالحه بعد ان وافقت حبيبة على الزواج منه نكاية في السرة وتحديا لاهاناتها السافرة ...
كانت المرة الاولى التي يرى فيها حامد السرة بهذا الغضب ... كانت تزار كلبوة جريحة وتعلن رفضها القاطع لهذه الزيجة الملعونة .. استعانت بكبار رجال الاسرة وامتلا منزل ود العمدة بوفود تعود وتذهب في رحلات مكوكية لاقناع الابن العنيد بالتخلي عن الفكرة المجنونة ... كان كل ما زاد ضغطهم عليه .. ازداد هو تمسكا برايه واصرارا على اتمام الزيجة ... وعندما وصل الجميع الى طريق مغلق وعدمت السرة كل الحيل لاثنائه عن عزمه .. هددته بقطع ثديها ان هو فعلها ... وفوجئ الجميع برده البارد اللامبالي ...

- السرة ما تقولي كلام انتي ما قدرو ولا بتقدري تسويهو ... شوفي .. لو قعدتي من هنا لبكرة تقولي لي بقطع شطري ولا بقطع ايدي ما بيهمني .. حعرس حبيبة يعني حعرسها هو انتي لمن عرستي عم حامد بعد ابوي كنتي انتظرتيني عشان تشاوريني موافق ولا لا ؟؟؟

وقبل ان يخرج منهيا النقاش في الموضوع .. اضاف جملة غريبة ظلت معلقة في الجو فترة طويلة بعد رحيله ..

- وبعدين اقول ليكم كلام .. انتو مفروض تحمدوا ربكم وتبوسوا يدكم وش وضهر انها وافقت تعرسني .. لاني لو خليتها ومشيت عرست ليكم أي واحدة من الانتوا عاوزينهم ديل فضيحتكم حتبقى بجلاجل .. يعني عرسي لحبيبة سترة لاسم عيلتكم الخايفين عليها اكتر من خوفكم علي انا زاتي ...

عندما جلس معه حامد لاحقاً لمناقشة تفاصيل الزواج ساله ..

- ابراهيم .. ممكن اعرف انت ليه مصر على حبيبة ؟؟!! ليه عاوز تغضب امك عليك ؟؟ السرة كايسة مصلحتك وعاوزاك تناسب احسن بيت في البلد .. انت نسيت انت ولد منو واهلك منو ؟؟!! ولا يمكن ما قادر تتخيل عرسك دة حيجيب لينا كلام قدر شنو ؟؟

رد ابراهيم ببروده المعتاد ...

- اسمع يا عم حامد ... انا الناس ما بتهمني كتير واتعودت على كلامهم عني .. لكن لو انتوا عاوزين تتفادوا الكلام بالجد .. وتحافظوا على سمعتكم نضيفة .. يبقى توافقوا على حبيبة لانو أي واحدة تانية غيرها ما حتنفع ..

حاول حامد ان يكذب ظنونه التي صارت شبه يقين فساله ملحاً ومتظاهرا بعد فهم تلميحاته ..

- ليه ما حتنفع يا ابراهيم ؟؟ انت راجل ما ناقصك شئ .. وشايل اسم يخلي أي بت تتمنى ترتبط بيك سواء هنا ولا في البلد ..

قاطعه ابراهيم بحسم ...

- لكن انا عاوز حبيبة .. وقصة الحسب والنسب العاملة ليكم هوس دي انا ما بتهمني كتير انا عاوز انسانة اكون مرتاح معاها .. تكون عارفاني جوة وبرة وما اضطر قدامها البس قناع ولا اتظاهر بشئ ما فيني ... وحبيبة فيها الميزات دي كلها ... وزيادة عليها انها بتحبني من زمان ... مش بيقولوا الحب بيغفر العيوب وما بيشوف الا الجانب الكويس ؟؟
اصبح وجه حامد شاحبا من تلميحات ابن اخيه التي وصلت الى مرحلة التصريح ..

- حبيبة عارفة يا ابراهيم ؟؟ وموافقة ؟؟!! .. طيب ليه رفضتك من البداية ؟؟

- ايوة حبيبة عارفة يا عم حامد .. عارفة كل حاجة .. حتى الانتوا ما بتعرفوهو عني هي عارفاهو .. ورفضتني في البداية لانها ما بتحترمني ... ولانها انسانة معتزة بنفسها شديد .. واقول ليك حاجة ... لو كانت وافقت من اول مرة اتقدمت ليها فيها ما كنت اصريت عليها الاصرار دة كلو .. لانو وقتها كنت حاعرف انها وافقت علي واتغاضت عن حاجات كتيرة ما عاجباها فيني بس عشان انا عندي قروش وانتو اهلي ... لكن لمن رفضتني وبشدة ... انا احترمتها شديد .. وبقيت مصَر اني اتزوجها اكتر من الاول .. وحاسي انو زواجنا ممكن ينجح .. عارف ليه ؟؟ لانو كل واحد فينا بيكمل نقص التاني هي بتحبني لكن ما بتحترمني .. وانا باحترمها لكن ما بحبها .. وكدة كفوف الميزان حتتساوى بيننا ...

عندما تم تحديد مواعيد عقد القرآن .. حزمت السرة حقائبها واصطحبت بناتها الى القرية ... عادت مجبرة في مواعيد فتح المدارس وبضغط من حامد ... رفضت وجود حبيبة معها في نفس المنزل .. لكن حامد المهموم باخفاء تصرفات ابراهيم اصر على بقائهم داخل المنزل ... وخلال مدة قصيرة تم بناء منزل في ابعد اركان الحوش الفسيح ... انتقلت حبيبة الى بيتها وقد اعلنت السرة الحرب عليها فبادلتها حبيبة عداء بعداء .. وكرها بكره اشد منه .. حتى انجاب البنات لم يهدئ من حدة العلاقة بينهما .. وبرغم احتضان السرة لحفيداتها من ولدها الوحيد .. الا انها لم تغفر يوما لحبيبة زواجها من ابراهيم وما زالت تطلق زفرة غيظ وترفع صوتها بعبارتها الماثورة كلما احست بها على مرمى سمعها ...

- والله اللقتو " الفرخة " عمرها ما كانت تحلم بيهو ..

وبرغم تجاهل حبيبة وابراهيم لها .. وتحذيرات حامد من استخدام هذه العبارات المسيئة بحق زوجة ابنها .. الا انها لم ترعوي بل وكانت تستمتع برؤية اثر كلماتها الجارحة على ملامح المراة التي تحدتها وانتصرت عليها ...
كان تفكير حامد يتجول في الماضي ويعود الى الحاضر مع كل هزة تحية لضيوفه المغادرين .. احس بالارهاق وبرغبة جارفة في الانعزال عن كل ما يحيط به .. هذه الرغبة التي تعتريه كلما حضر عرساً .. الاعراس تثير فيه مشاعر متضاربة وتقلق ذكرياته التي حاول عبثاً ان ينساها عن زواج اتعسه .. وآخر وهبه فرحاً لا يوصف ... دارت نظراته بلهفة ليتاكد من مغادرة جميع ضيوفه ... خلا الصيوان الكبير الا من مجموعات من الشباب جلسوا في حلقات وهم يتبادلون التعليقات المرحة وتعلو ضحكاتهم بانسجام ... وحول الطاولات الخالية تجمع عدد من الصبية الصغار بوجوه كالحة معفرة وملابس ممزقة يحملون اكياس يفرغون فيها كل ما تقع عليه ايديهم من بقايا الاطباق ... القى نظرة اخيرة ثم اتجه بخطواته الرزينة الى داخل المنزل وهو يتوق للبقاء وحيداً واجترار ذكرياته النابضة بالحياة برغم مرور السنين وتعاقب الاحداث ... كان توقه للوحدة يقود خطواته نحو غرفته الملاصقة للديوان الذي عج بالاقرباء القادمين من القرية .. تناثرت الحقائب في جنباته الفسيحة وضاقت ارضيته بالمراتب التي وضعت بعشوائية استعدادا للنوم .. احس حامد بضيق مفاجئ لرؤية هذا الجمع الكبير لكنه وقف قليلاً مجاملاً ومحيياً ... سائلاً ومجيباً ... ثم استاذن بكياسة واتجه الى غرفته .. دخل واغلق الباب خلفه بالمفتاح واسند ظهره عليه ... احس بالهدؤ يتسلل الى اعصابه المشدودة .. لقد بنى هذه الغرفة بعد رحيل امونة المفاجئ الذي اغرقه في بئر عميق من الحزن والقنوط وجعله يزهد في كل ما حوله ومن حوله حتى زوجتيه وبناته واحفاده ... تم بناءها والحمام الملحق بها في زمن قياسي .. نقل اليها كل متعلقاته واصبحت عالمه الخاص المحرم دخوله على الجميع ... كانت غرفة فسيحة توزعت فيها قطع اثاث قليلة بذوق زاهد .. سرير عريض انعكس لونه البني الداكن على الجدران المطلية بلون بيج فاتح .. تقابله خزانة ملابس بواجهة مصمتة وخالية من الزخارف ... على جهة اليمين اختفى الحمام خلف الباب المغلق .. بينما احتلت نافذة زجاجية عريضة معظم مساحة الحائط الايسر .. ومن خلالها تسللت انوار الساحة الخارجية لتصنع ظلاً ممتداً من طقم الجلوس الصغير بلونه الشاحب وحتى منتصف ارضية الغرفة ...تهدلت اكتاف حامد بتعب وفقدت مشيته هيبتها المعتادة .. عندما يصبح وحيدا لا يحتاج الى التظاهر بالقوة او ادعاء الصلابة .. ففي غرفته المتقشفة يتحرر من كل اقنعته ... يتداعى ويترك لمشاعره حرية اختيار الاسلوب الذي تعبر به عن وجودها وتعلن عن ضعفه الانساني بلا قيود ...
رمى العصا على طـرف السريـر باهمـال .. وتبعتها العباءة ثم تخلص من بقية ملابسه واكتفى ( بالعراقي) و( السروال ) .. اتجه الى الطاولة الصغيرة الملاصقة لسريره واضاء الاباجورة المغطاة بالزجاج الملون فشع ضؤ خافت حالم جعل الغرفة الجامدة تمتلئ بالظلال الرومانسية .. ابتسم برضا كانت هذه الاضاءة المفضلة لامونة ... تنهد بحرقة وهو يتذكر المرأة الوحيدة التي احبها منذ طفولته وحتى الان ... برغم الثلاث عشرة سنة التي انقضت على وفاتها الا ان حبه لها ظل متقداً .. لم يستطع أي شئ ان يطغي على احساسه بها ... استلقى حامد على السرير وهو يتابع بنظره حركة الظلال المعكوسة على الحائط .. كان مدركاً سبب عداؤه المستعر مع احتفالات الزواج ... فهي تنكأ جراحه بكل قسوة وتغرقه في دوامة الذكريات المريرة ... تعيده الى تلك الايام عندما غيّر القدر حياته بصورة جذرية بموافقته الزواج من السرة تحت رجاء والحاح امونة .. لقد اعتاد ان يجتر هذه التفاصيل ويلوكها داخل عقله مرارا وتكرارا على مر السنوات الفائتة ...ففي تلك الليلة التي زارته فيها امونة في المستشفى وعقب خروجها .. ايقن بان دنياه التي يعرفها قد تغيرت الى الابد ... تلاشت كل احاسيسه وملأه خواء غريب زحف كنبتة شيطانية سامة تسلقت روحه واعتصرت قلبه وامتصت سعادته ... تقرر عقد قرآنه على السرة في الخميس الذي اعقب خروجه من المستشفى .. لم يهتم باي تفاصيل .. كان يقضي وقته اما مستلقيا في سريره بعيون مفتوحة خاصمها النوم .. او هائماً على وجهه في شاطئ منعزل يراقب جريان المياه وتصادمها .. اصبح يتجنب التواجد في أي مكان قد يلتقي فيه بامونة .. كانت عدم رؤيتها هي الضمان الوحيد لقدرته على مواصلة الحياة بدونها
قبل عقد القرآن بيوم كان قد اتخذ قراره بضرورة مغادرة القرية الى ابعد مكان يستطيع الوصول اليه اتجه الى الديوان فوجد ابيه برفقة عمه وهما يناقشان تفاصيل الزواج بينما جلس بله صامتاً يراقب الجميع بهدوؤه المعتاد .. عند دخوله ساد صمت ملئ بالهواجس .. بدده حامد بصوته المهتز المتحشرج ...

- ابوي .. بعد العقد انا ماشي العاصمة .. حاقعد هناك واقدم للجامعة ..

تبادل الجميع نظرات حائرة مرتبكة ... تنحنح العمدة ثم سال ولده دون ان ينظر اليه مباشرة في عينيه...

- ماشي العاصمة ؟؟!! وتقدم للجامعة ؟؟!! متين قررت الكلام دة ؟؟ طيب ومرتك ؟؟ حتسوقها معاك ولا الراي شنو ؟؟

رد حامد بصوت بارد لا حياة فيه ..

- انا من زمان كنت اتفقت مع امونة اننا بعد العرس حنمشي سوا نكمل قرايتنا هناك ...

امتقعت الوجوه وتصلبت الملامح عندما نطق حامد اسم امونة .. لكنه لم يهتم وواصل كلماته بنفس الصوت الميت ..

- انا غايتو حسافر بعد العقد طوالي .. السرة على كيفها .. لو عاوزة تقعد هنا أو تمشي معاي مع انو انا شايف لو قعدت هنا احسن ليها ... انا هناك ما حكون فاضي ليها وعاوز اسكن في الداخلية اريح لي ...

هب العم غاضباً وضرب بعصاه الارض ...

- دة كلام شنو دة يا حامد ؟؟ كيفن يعني تقول السرة على كيفها وبعدين تقول احسن ليها تقعد هنا ؟؟ المرة مكانها مع راجلها وين ما مشى .. السرة حتبقى مسئوليتك وانت راجلها .. ولا هي القصة عقد وخلاص وبعد داك تتملص منها ترميها هنا وتمشي هناك تسوى الدايرو ؟؟ اذا الموضوع كدة يبقى ما تعقد عليها وننتهي هنا .. بتي هسة ترجع معاي بيتي معززة مكرمة ..

رفع العمدة راسه بحدة عندما سمع العبارة الاخيرة ...

- تاني يا محمد احمد ؟؟ تاني بتقول كلامك الما عندو طعم دة ؟؟ ..
- يعني ياللمين يا اخوي انت ما شايف كلام ولدك الاعوج ؟؟ كيفن يقول عاوز يعقد ويمشي يخلي مرتو وراهو ؟؟ ..

كان حامد يقف متصلباً بملامح جامدة وعيون انطفا بريقها .. اصبح كالعود اليابس بعد ان فقد الكثير من وزنه خلال الفترة الماضية .. غارت عيناه في محجريهما وارتسمت حولهما دوائر سوداء .. نبت شعر لحيته بلا ترتيب واستطال شعر راسه بفوضى ... تراوحت كلمات العمدة بين الاشفاق والحزم وهو يحسم النقاس بصرامة ..

- حامد .. انا ما بمنعك تمشي تكمل تعليمك .. لكن ما في حاجة اسمها تخلي السرة وراك دي مرتك .. وانت ملزوم تسوقها معاك محل ما تمش .. ولو على مكان قعادكم هناك مافي مشكلة .. بديك حوش أبروف اصلو قاعد فاضي .. حاكتبو ليك باسمك عشان تكون قاعد في ملكك ... وكمان بديك العينة وعيالها عشان يخدموكم هناك لكن بخيت بخليهو معاي لاني محتاج ليهو في شغلي ...

رد حامد بسخرية ...

- انت يا ابوي ما بتتعب من تفريق الناس من بعض ؟؟ كيفن يعني تديني العينة وعيالها وتمسك بخيت عندك ؟؟ مش انت هسة الكنت بتقول المرة مكانها مع راجلها وين ما مشى ؟؟ انت بتناقض نفسك ؟؟ وبعدين انت عارف انا من زمان عندي راي في قصة امتلاك البشر دي .. يا عالم ديل ناس زيهم زينا .. ما شوالات بصل ولا صفايح فحم تبيعوها وتشتروها وتتهادوا بيها وتوزعوها كيمان زي ما عاوزين ..
اندهش الجميع من ثورته العارمة وقاطعه ابوه غاضباً ...

- اسمع يا ولد .. ما تتفلسف وتعمل لي فيها مصلح اجتماعي .. دة نظام اتربينا عليهو من جدود جدودنا .. لقيناهو من ما قمنا وتبينا .. ديل ( هولنا ) لا مشينا سوق اشتريناهم ولا بنوديهم سوق نبيعهم .. بنعاملهم احسن معاملة .. لا بنهينهم ولا بنضربهم .. بياكلوا من اكلنا .. وبيشربوا من شرابنا ... عايشين معانا وراضيين بعيشتهم .. وهسة دي لو قلنا ليهم امشوا بيقولوا لا ما بنمش لانو ما عندهم غيرنا ... احنا عزوتهم وسندهم في الدنيا دي وهم مقتنعين بكدة ... وبخيت دة ( الليلنا ) من يوم ما اتولد لكن لو قال داير يمش ما كنت بمنعو .. الا هو قاعد معانا عشان هو داير ما عشان احنا ماسكينو .. وبعدين دة ما موضوعنا .. ما تتزاوغ من الكلام الاصلي وتدخل لي في حاجات فارغة احنا بنتكلم عنك وعن مرتك .. انا من بكرة برسل ناس تمشي الحوش وتفتح البيت وتنضفو .. بديك عربية جديدة وافتح ليك حساب في البنك وكل شهر حتلقى فيهو البيكفيك انت ومرتك وولدك وبالزيادة كمان..
انتفض جسد حامد عند سماعه كلمة " ولدك " .. احس بموجات من الحقد تعبر قلبه تجاه هذا الطفل الذي تسبب في تدمير حياته وتغيير قدره .. هز راسه محاولاً نفض الاحساس القبيح الذي تملكه تجاه الصغير البرئ فاعطت حركته انطباع الرفض لدى الجمع المتوتر .. فزمجر العمدة بغضب ...

- يا ولد اوعك تهز راسك ... من بكرة ابراهيم حيبقى ولدك .. لازم تقبل الوضع دة وتفهمو كويس .. وكمان عشان تبطل فلسفتك الفارغة دي بديك بخيت مع العينة .. مرتك بتكون تعبانة وما بتقدر تخدم البيت الكبير داك براها .. اصلاً في جزء في البيت انا بنيتو للغفير .. بوديهو مكان تاني وناس بخيت يقعدوا فيهو ...

رفع حامد كتفيه بحركة لا مبالية ...

- اعملوا الدايرين تعملو .. المهم انا الاسبوع الجاي ما عاوز اكون هنا ...

ادار لهم ظهره وغادر الغرفة تاركاً الجميع في حالة توجس مما قد يتمخض عنه موقفه الرافض ...

تم عقد القرآن بغياب حامد بعد ان اوكل لابيه مهمة تمثيله .. اقتصر المدعوين على اقرب الاقربين واعلن اتمام الزواج بخمس طلقات من مسدس العمدة تبعها صمت حزين .. لم تجروء أي امراة على اطلاق زغرودة .. انزوت السرة في غرفتها وهي تبكي بمرارة ويجاوبها طفلها بصرخات ملتاعة .. واصيبت بحالة هستريا عندما اصرت عليها والدتها ان تغير ملابس الحداد .. طغى على جو المنزل ظل كئيب وتبارى الحضور في المغادرة بعد انتهاء مراسم العقد مباشرة هربا من هذا الجو الخانق..
بعد يومين من زواجه حزم حامد امتعته وطلب من ابيه اخطار السرة بتجهيز نفسها وصغيرها لمغادرة القرية .. كان يتوق للفرار من المكان الذي شهد احلى لحظات عمره .. واتعسها ... لم يكن قد اعتاد الدرب بين القرية والعاصمة لذلك جلس ساهماً بجانب السائق الذي استأجره والده لايصاله .. في الخلف جلست السرة متلفحة بصمتها وحزنها وهي تحتضن صغيرها الباكي .. كان يتبعهم البوكس الذي يحمل بخيت والعينة وولديهما اضافة للامتعة ...
كان المنزل الذي منح له كرشوة من ضمن اشياء اخرى حتى يقبل الزيجة التي يرفضها يطل على النيل مباشرة ويفصله عنه شارع اسفلتي ضيق يحتل مساحة شاسعة تكفي لبناء عدة منازل اخرى بدا مهيباً بابوابه الحديدية الضخمة وسوره الحجري العالي .. كان حامد يفكر بانه في ظروف اخرى ومع شخص آخر كان ليطير فرحاً بعطايا والده .. لكنه الآن مسكون بالفراغ واللامبالاة .. سرعان ما استقر الجميع في المنزل الجديد الذي تم تجهيزه بكرم .. ترك حامد للسرة وطفلها غرفة النوم الكبيرة بسريرها العريض واختار غرفة صغيرة بالكاد تسع السريرين والخزانة .. لم يفكر ولو للحظة واحدة مشاركتها نفس المكان .. امر بخيت بفرز الامتعة .. وبدت الدهشة على ملامح العينة من اختيار الزوجين الحديثين غرف منفصلة وبعيدة عن بعضهما ...
بعد ان تم ترتيب كل شئ في مكانه .. حمل بخيت ابنه عبد الستار ذو التسعة أعوام بينما استقر عبد الرزاق الذي يصغر شقيقه باربعة اعوام بين ذراعي العينة .. اتجه الجميع الى البيت الصغير المبني بالطين في آخر الساحة .. وبعدها ساد المنزل سكون مميت ...
في الايام التي تلت وصولهم شغل حامد نفسه بالتقديم للجامعة وقيادة سيارته بلا هدى في الشوراع متفاديا التواجد في المنزل لاطول فترة ممكنة حتى لا يرى السرة بعيونها الدامعة وطفلها الباكي دوماً كانت هي ايضا تتجنبه وتحرص على عدم البقاء معه في مكان واحد .. لم يكن يجمعهما الا وجبة الغداء التي تنتهي بسرعة بعد ان يزدرد كل منهما بضع لقيمات على عجل حتى يتخلص من وجود الآخر باسرع ما يمكن .. واصبحت الجامعة رخصة حامد للبقاء خارج المنزل طيلة النهار وجزء من الليل .. وتقلصت اللحظات التي تجمعه بالسرة حتى كادت تنعدم .. تعمد الخروج مبكراً قبل استيقاظها والعودة متاخراً بعد نومها .. سخّر كل الطاقة المتبقية في عقله وروحه لتحصيل دروسه اهله ذكاؤه واجتهاده وحصوله على المراكز الاولى لاكتساب شهرة واسعة في محيطه .. كما اصبحت وسامته وغموضه وعزوفه عن مخالطة البنات عامل جذب قوي لزميلاته اللائي استهوتهن نظرة الحزن العميقة في عينيه الساحرتين .. وكلما تباعد زاد تنافسهن للفوز به دون ان يدرين بزواجه .. كان كتوماً ووضع خطاً واضحاً بين علاقة الصداقة التي تربطه بعدد قليل من زملائه وبين حياته الخاصة ... ولم يسمح لاي كان بعبور هذا الخط .. لم يدع احدهم يوماً لزيارته في بيته ولم يرتد ابداً خاتم زواج ...
كانت قد مرت خمسة اشهر منذ حضورهما عندما استقبلا اول زائر من القرية .. اتت والدة السرة لزيارة ابنتها وانفردت بها طويلاً ... عندما خرجت رمقته بنظرات نارية غاضبة لم يفهم سببها... كما لم يهتم بمعرفة اسباب معاملتها الجافة المتحفزة خلال الايام التي مكثتها في بيته .. بعد عودتها الى القرية بيومين اتت والدته يصحبها " بله " فاصابته الدهشة من هذا التواصل المكثف بعد فترة التباعد المتعمد التي عاشها وانقطع فيها عن عالمه القديم .. كان قد عاد متاخرا كعادته وهو يتوقع ان يجد البيت غارقا في الظلام .. فوجئ بالانوار المضاءة والاصوات الصادرة من غرفة الضيوف ... ساد صمت غريب عند ظهوره في عتبة الباب .. بحركة لا شعورية رفعت السرة ثوبها وغطت به شعرها الطويل الغزير .. كانت نظرات امه عاتبة .. مسامحة .. متفهمة .. بينما ابتسم له بله الذي حمل ابراهيم بين ذراعيه وهو يدغدغه حتى ارتفعت ضحكاته ..تامل حامد هذا المشهد الحميم بين شقيقه ومن يفترض انه ابنه وصفعه الادراك بانه لم يحمل هذا الطفل يوما بين ذراعيه ولم يلاعبه قط كما يفعل بله الان ... احس بالفزع الذي انعكس في نظراته وهي تلتقي بعيني السرة المليئتين بالحزن فأشاح عنها وعانق امه وشقيقه ثم جلس بينهم ليسود ارتباك محير جو الغرفة التي كانت تضج بالحياة قبل دخوله .. بعد لحظات انسحبت السرة بحجة وضع ابراهيم في سريره .. بعدها تعلل بله برغبته في استكشاف المكان لينسحب تاركا حامد وحيدا مع والدتهما التي ربتت على السرير بجانبها وطلبت منه الجلوس .. جلس ملتصقاً بها وهو يحس تجاهها بشوق جارف لم يكن يدرك مداه حتى رآها .. كانت تقص عليه اخبار القرية بالتفصيل وكان هو متلهفاً لاخبار شخص بعينه لكنه لم يجرؤ على سؤالها عن احوال امونة .. وهي لم تتبرع باعطائه أي معلومة عنها ... وبعد ساعة كاملة من الاخبار والقصص صمتت امه فهب واقفا وهو يخاطبها بحنو ...

- امي .. انتي شكلك تعبانة من السفر .. انا حخليك ترتاحي هسة وبكرة نواصل الونسة انا ما حامشي الجامعة عشان اقعد اتونس معاكم ...

كان يهم بالنهوض من مكانه بجانبها عندما امسكت بيده وطلبت منه البقاء .. كان صوتها المتعب خافتاً وخاطبته دون ان ترفع نظراتها اليه ...

- حامد ؟؟ متين حنشوف اخو ولا اخت لابراهيم ؟؟
وقع السؤال على راسه كالصاعقة .. تجمدت حركته حتى اصبح كالتمثال .. تعمق الصمت حتى بدا كيانا آخرا يجاورهما في الغرفة .. اختنقت انفاسه ونظر الى امه بصدمة .. عندما امتد سكونه .. رفعت امه راسها وترقرقت الدموع في عينيها ...
- يعني ما رديت علي يا حامد ؟؟ ما تسكت كدة .. سكوتك دة بيخوفني .. اتكلم .. قول أي حاجة ...
اتى رده في شكل سؤال حائر ...
- اخو ولا اخت لابراهيم ؟؟ كيف يعني ؟؟ ...

- زي باقي خلق الله يا ولدي .. انت السرة دي مش مرتك ؟؟ يعني لو كنت دخلت عليها من يوم ما عرستو .. مش كانت هسة بقت حامل ..

لحظتها فقط ادرك حامد سر النظرة النارية التي رمقته بها زوجة عمه لحظة خروجها من غرفة السرة واسلوبها الجاف في التعامل .. كما ادرك سر زيارة امه وشقيقه ... اصيب بالذعر من المعنى المبطن لكل ما يحدث فاتى رده خشنا ..

- ادخل عليها ؟؟ ادخل عليها كيف يا امي ؟؟ السرة دي مرت ابراهيم .. وانا عرستها بس عشان انتوا قلتوا عاوزين الولد يتربى معانا وما يجي راجل غريب يربي ولد اخوي ...

- حامد يا ولدي .. ابراهيم مات الله يرحمو ويغفر ليه .. والسرة ما بقت مرتو .. السرة هسة مرتك انت .. والعرس عرس يا ولدي .. ومادام عرستها يبقى لازم تاخد حقك وتديها حقها ...

- حق شنو يا امي ؟؟ انا ما عندي حق عندها ولاعاوز منها حاجة .. ولا يمكن هي اشتكت ليكم وقالت عاوزة حقها ؟؟ امي انا السرة دي بالنسبة لي زيها زي أي واحدة من اخواتي .. ما بحس نحوها باي شئ غير احساس الاخو باخته ... انتي بالذات يا امي اكتر واحدة عارفة انا رفضت العرس دة قدر شنو .. وعارفة كمان انا في النهاية وافقت ليه ... انا وافقت عشانك .. وعشان ما اكون سبب طلاقك بعد العمر دة كلو ...

تلبست حامد حالة من الانفعال العنيف واصبح صوته قاسياً .. لم يعبأ بالالم الذي انطبع على وجه امه وهو يذكرها بتضحيته من اجلها ...

- امي .. لازم كلكم تعرفوا انو دة اقصى شئ ممكن اسويه .. مافي زول فيكم يطالبني بازيد منو .. دخول على السرة ما داخل .. ولو هي اشتكت وطالبت بحاجة زي دي يبقى تشوف ليها راجل تاني غيري ...
قاطعته امه بغضب ..

- إتأدب يا ولد وما تنسى انت بتتكلم مع منو .. السرة ما اشتكت ولا عمرها حتشتكي حاشاها المربية بت الاصول العيبة ما بتطلع منها .. احنا عرفنا لانو امها لمن جات تزورها سالتها ليه ما حملت لغاية هسة وانتو معرسين ليكم خمسة شهور .. واضطرت السرة تقول لامها انك لغاية هسة ما لمستها .. امها جاتني جارية وكانت عاوزاني اكلم العمدة .. اقنعتها بعد تعب انو تخلي الموضوع علي وانا بتكلم معاك من غير ما ابوك يتدخل ... حامد يا ولدي مافي حاجة اسمها زي اختك ... لا هي بت امك وابوك ولا رضعت معاك .. دي مرتك والبتسوي فيهو دة حرام وبيدخلك في حساب رب العالمين .. انت انسان صلاي وقراي .. يعني ما عارف انو الوضع دة حرام ؟؟ السرة مرتك وليها عليك حقوق حتى لو ما طالبت بيها .. وانت راجلها .. لازم تصونها وتحفظها .. السرة سمحة ونضيفة وعفيفة .. وانت ما حتلقى احسن منها .. لازم تتعود على حياتك وما تفكر تهرب منها .. يا حامد حرام عليك البنية المسكينة دي الدنيا ظلمتها وشالت منها راجلها وهي في عز فرحتها .. ما تظلمها انت كمان لانك بتعرف طعم الظلم ... هي ما ليها ذنب في الحصل دة وما تنسى انها اتجبرت عليك زي ما انت اتجبرت عليها .. الفرق بينكم انها قبلت بالامر الواقع وانت لا ... لازم تقبل الشئ دة وتبدا توعى لمرتك وولدك .. ابراهيم دة بقى ولدك .. ما عرف وما حيعرف ابو غيرك يا ولدي خاف الله فيهو وفي امو .. خاف الله في روحك ...
انهارت الام باكية وهي تغطي وجهها بطرف ثوبها .. احس حامد بالالم والذنب وهو يرى دموعها التى ملأت خدودها .. عاد وجلس بجانبها .. قبل راسها المختفي خلف الثوب .. لف ذراعه حول كتفيها وضع راسه على راسها وبكى ... بكى طويلاً .. واحس بغضبه يتسلل من داخله مع قطرات دموعه .. احس بحزنه يخرج حاراً مع زفراته ... لقد كشفت كلمات امه الصادقة الغطاء عن كل مشاعر الحقد والحزن والاحباط التي كانت مدفونة باعماقه منذ ان اجبره والده على الزواج بارملة اخيه .. بكى كما لم يبك من قبل في حياته ... بكى ضياع المراة التي احبها بجنون منذ طفولته .. بكى موت حلمه ومشاعره التي اصابها الجمود .. بكى حتى على السرة وصغيرها وعجزه عن منحهم الحب والاهتمام والرعاية ...
عندما دخل بلة الغرفة وجد امه وشقيقه متعانقين وتلفهما موجة من البكاء .. اقترب منهما واحتضنهما معا .. كان كثيرا ما يشعر بالغضب من نفسه لسلبيته وانصاعيه التام لارادة ابيه وجبروته .. موقعه الاوسط بين ابراهيم الكبير صاحب الحظوة والكلمة المسموعة .. وحامد الصغير المدلل جعله منذ الصغر في حالة صراع للحصول على مكان بينهما في قلب ابيه .. فكانت الطاعة العمياء المطلقة هي وسيلته للتقرب من الوالد القاسي والحصول على رضاه .. شب على هذا حتى تحولت الطاعة الى سلبية مفرطة تصبغ كل ردود افعاله تجاه ما يحدث حوله ...
في تلك الليلة اصيب حامد بارق سرق نومه وجعله يدور في الساحة الخارجية والافكار تتلاطم في راسه كانت كلمات امه عن ظلمه للسرة وصغيرها وحرمانية ما يفعل هي اكثرها ايلاماً .. لكن عقله يصر على ان السرة هي زوجة اخيه .. وانها ما زالت مقيمة على حب زوجها الراحل ولن ترضى عنه بديلا كما هو حاله مع امونة .. سخر من نفسه وسذاجة تفكيره لانه ظن ان باستطاعته العيش في هذا الوضع الى الابد .. السرة بالنسبة اليه زوجة اخيه وام طفله .. كيف يتوقعون منه ان يعاشر زوجة اخيه ؟؟ كما وانها لا تثير فيه أي رغبة جسدية .. لقد ماتت كل احساسيه منذ ان اجبر على ترك امونة .. حبيبته الصغيرة التي كانت نظراتها البريئة تشعل النار في حواسه ولمساتها تحيله الى بركان ... لقد حفظ نفسه لاجلها واخذ على نفسه عهداً ان تكون اول امراة في حياته كما سيكون هو الاول في حياتها ... كيف يطالبونه الان ان يخون العهد ويعطي لغيرها ما هو لها ؟؟!! ...
غادرت امه مع شقيقه بعد يومين من وصولهما .. لم يتناقشا في الموضوع مرة اخرى .. لكن نظراتها كانت تستعدي عليه ضميره في كل مرة تلتقي عيناهما .. عندما احتضنها مودعاً حاول ان يطمئنها .. فاحكمت قبضتها حوله وهي تدعو له بالرضا .. والهداية ...
ظل لمدة شهر كامل يناقش نفسه محاولاً اقناعها بفعل الصواب .. تدفعه كلمات امه ودموعها .. ونظرات الانكسار في عيني السرة .. بدا يغير عادته في الغياب .. تعمد ان ياتي قبل مواعيد نوم السرة التي كانت تختبئ خلف ثوبها ما ان تراه وتحرص على تغطية اجزاء جسدها كانه غريب عنها ... حاول ان يتجاذب معها اطراف الحديث الذي سرعان ما يتحول الى جمل متباعدة ومبتورة .. لم يكن هناك شئ مشترك يجمعهما .. على عكس امونة التي لم يمل يوما حديثها .. وكانت نقاشاتهما تنتهي لتبدا مرة اخرى .. وكانت لحظات الصمت نادرة بينهما ولا تحدث الا عندما تغلبه مشاعره اثر لمسة عفوية او متعمدة بينهما ....
في نهاية الشهر كان قد حزم امره على ضرورة تقبل حياته كما هي بعد ان اصبحت امونة حلماً بعيد المنال .. قرر ان ينقل علاقته بالسرة من الورق الى الواقع ... لم يكن يستطيع ان يفعلها وهو واع لذلك عمد الى تخدير حواسه حتى ينسى من هي ويتذكر فقط انها امراة ... وانها زوجته ..
كانت المرة الاولى التي يتذوق فيها طعم الخمر منذ انهياره الشهير على عتبة باب بائعة الخمور في القرية .. احتسى الخمر بشراهة كبيرة حتى احس بان عقله قد غادر جسده مصطحباً معه كل الاحاسيس المتصارعة .. بخطوات مترنحة غادر غرفته واتجه الى غرفتها .. فتح الباب الموارب بهدؤ مصطنع ليقع نظره مباشرة على صدر السرة العاري الملتصق بفم ابراهيم .. لقد اتى وهو مصمما على نسيان كل شئ عدا انها امراة وانها زوجته .. لكن رؤيتها وهي ترضع صغيرها اعادت اليه جزء من احساسه الاول .. تجاهله بعناد وتقدم ببطء يشي بنواياه .. واكدت السرة فهمها بنظرات حزينة .. ودللت على قبولها بحمل صغيرها النائم ووضعه في سريره الملاصق لها ثم جلست تنتظره باستسلام ..
كانت قد اكتسبت مزيدا من الوزن منذ حضورهما من القرية وبدا تكدس الشحم في ردفيها وخلفيتها واضحا خلف قميصها بقماشه الناعم الملتصق بثنيات جسدها محددا معالمه بوضوح .. اصبح وجهها اكثر استدارة وشلوخها اكثر عمقاً .. كانت قد خاصمت الطيب منذ وفاة شقيقه .. الا انها ما زالت جميلة ... لم تعتري حامد اية رغبة في الحصول عليها برغم كمية الخمر التي احتساها ومظهرها المستسلم المغري .. وظل واقفا يتاملها وهو يحفز تفكيره وخياله بانها امراة .. وانها زوجته .. ويحاول ان يقنع حواسه بانه رجل يتوق للقاء امراة تفض بكارته .. دفعه تفكيره خطوة الى الامام .. اقترب منها حتى اصبح امامها مباشرة واحس بالحرارة التي تنبعث من جسدها وصوت انفاسها المرتبكة التي فقدت انتظامها ... كان يهم بوضع يده على صدرها المتحرر من كل القيود عندما احس بحركة خفيفة على السرير خلفها ... رفع راسه بغيظ لان هناك شيئا يحاول مقاطعته بعد ان استجمع شجاعته وخطا الخطوة الاولى .. اصابه المنظر الذي يواجهه بذعر هائل جعله يتراجع خلفا بسرعة اسقطته على الارض تلاحقه نظرات السرة المندهشة بعد ان التفتت لترى سبب تصرفه فلم تجد غير الفراغ ... حاول حامد النهوض فاحس بساقيه كالهلام وهي تلتوي تحته .. كانت علامات الفزع تتزايد في ملامحه وهو ينظر الى نقطة محددة خلف السرة التي نهضت وتقدمت نحوه تحاول مساعدته على النهوض .. حجب جسدها ما وراءه فاستعاد قدرته على الحركة ..رفض يدها الممدودة لمساعدته ونهض بضعف .. هرول خارجاً لا يلوى على شئ تاركاً زوجته غارقة في بحر من الذل والحيرة ..
استيقظ صباحاً بصداع فتاك ورغبة في التقيؤ .. كانت ذكرياته عن ليلة امس مهزوزة .. تحامل على نفسه ودخل الحمام .. افرغ كل ما في جوفه ثم ترك الماء البارد يندفع الى راسه ليزيل بقايا الخمر .. فجاة عاودته ذكرى الرؤية التي افزعته الليلة الماضية فاعتراه حزن قاس جعله يجهش بالبكاء .. ظل واقفاً تحت سيل الماء فترة طويلة حتى انحسرت موجة البكاء ...خرج من غرفته متلهفاً لمغادرة المنزل فتعثرت قدماه بجسد ابراهيم الصغير الذي اصبح يتجول حبواً في مكان .. رفعه من الارض وحمله بتمنّع وهو يتامل ملامحه الجذلة وخيط اللعاب الذي يسيل من فمه بلا انقطاع و يبلل الصدرية الصغيرة الملتفة حول عنقه .. بادله الصغير نظرة تشع براءة ودهشة .. وضعه في حجر السرة متفاديا النظر الى عينيها الحائرتين تمتم بكلمات مبهمة ثم ولى الادبار خارجاً .. لم يعد باستطاعته مواجهتها بعد ما حدث الليلة الماضية..
مرت ثلاثة اشهر اخرى قبل ان ياتيه صوت والده عبر الهاتف حادا وصارما وهو يطلب منه الحضور الى القرية على وجه السرعة مصطحبا السرة وابراهيم .. لم يواجه صعوبة في تخمين سبب الاستدعاء العاجل .. لابد ان خبر هجرانه لزوجته قد وصل الى مسامع ابيه بعد ان فشلت محاولات امه المستميتة في ابقاء الامر طي الكتمان ..
قاد سيارته بذهن شارد .. لم يكن متخوفا من لقاء ابيه بقدر ما اصابه الوهن العاطفي من احتمال لقاء امونة .. كان يظن بانه قد تجاوز حزنه على فقدانها واصبح اكثر قوة وصلابة واكثر قدرة على رؤيتها لكن عودته القسرية كشفت الغطاء الوهمي الذي غلف به مشاعره .. وتدفقت ذكراها بداخله كالشلال واكتشف حامد ان التسعة اشهر الماضية لم تمكنه من النسيان .. بل عمقت اصغر التفاصيل وجعلتها اكبر حجما واكثر وضوحاً .. كان يستفيق من شروده على صوت السرة الخائف عندما تنبهه بانحراف السيارة او اقترابه من حافة الطريق ... عندما وصلا الى القرية كانت تسبح في بحر من الضؤ وشمس منتصف النهار تصلي كل الزوايا بوهج حار .. احس بغربة تغمره وهو يتامل الشوارع والبيوت .. كانه لم يعش فيها يوماً ... بالنسبة اليه .. القرية كانت امونة .. وعندما ضاعت امونة اصبحت مجرد مكان غريب موحش ...
كان الاستقبال حافلاً .. نحرت الذبائح وظل المنزل غاصاً بالضيوف حتى وقت متاخر من الليل .. بعد تفرق الحشود وجد حامد نفسه وحيدا في مواجهة ابيه ..جلسا بصمت متحفز وكل يطالع الآخر بنظرات متحدية .. اخيراً رفع العمدة صوته وساله ما كان يتوقعه ...

- حامد .. الكلام السمعتو دة صحي ؟؟

رد حامد بلامبالاة متعمدة ..

- ياتو كلام يا حاج ؟؟ ...

- يا ولد ما تعمل لي فيها رايح وما فاهم انا بسالك من شنو ...

تخلى حامد عن لامبالاته ورد باقتضاب وتحدي ..

- ايوة صح ...

ضرب العمدة الارض بعصاته واشتعلت ملامحه غضباً ...

- يا ولد انت ماك راجل ؟؟ كيف يعني مرتك تقعد معاك تسعة شهور بدون ما تلمسها ؟؟!! انت عاوز تفضحنا ؟؟ الناس تقول علينا شنو لو عرفت ....

قاطعه حامد بانفعال ...

- الناس .. الناس .. الناس .. كل حاجة تقول لي الناس .. جبرتني اخلي الانسانة الطول عمري بحبها عشان كلام الناس .. جبرتني اعرس السرة عشان كلام الناس .. هسة عاوز تتدخل في ادق خصوصياتي وبرضو بحجة كلام الناس ؟؟ اقول ليك كلام يا ابوي ؟؟ لو الناس سالوك ليه ولدك ما رقد مع مرتو لغاية هسة .. قول ليهم عشان هو ما راجل .. ما قدر .. حاول وما قدر ...

هب العمدة واقفاً وسدد صفعة قوية تجاه حامد الذي تراجع خلفاً وتفاداها ليتلقاها الفراغ .. تصاعد غضب حامد من محاولة ابيه ضربه وارتفع صوته بلهجة حاقدة مريرة ...

- شنو يا عمدة ؟؟ انت قايلني لسة ولد صغير تضربه عشان يسمع كلامك ؟؟!! ... خلاص انا كبرت على سمعان الكلام بالضرب .. ويكون في علمك .. لا انت ولا غيرك حتجبروني ارقد مع السرة .. لو عاجبكم كدة يمشي الحال .. ولو ما عاجبكم اهي عندكم امسكوها وبكرة تجيكم ورقتها ..
تهاوى العمدة على كرسيه مذهولاً من اسلوب ولده وبراكين الغضب المتفجرة من صوته وعينيه .. فهو لم يكن يتوقع ان ياتي يوم ويخاطبه احد اولاده بهذا التحدي السافر ... خرج حامد من الديوان ليجد بله واقفا خلف الباب وقد تجمد من الخوف والدهشة .. تخطاه وخرج مسرعاً ... قاد سيارته الى بقعته المفضلة امام النيل .. جلس ارضا واتكا بظهره على هيكل السيارة الحار .. تامل المياه الجارية بصوت ناعم وقد انعكس عليها ضوء القمر المكتمل فبدت وكان حبيبات من الفضة نثرت فوقها .. كان صوت انسياب المياه يتغلغل داخله ويهدئ روعه .. لطالما كان للنيل تاثير قوي عليه .. لطالما كان صديقه الحميم الذي يبثه شكواه ويرمي في جوفه همومه وحزنه ولوعته ... لم يخذله يوماً .. ولم يضق به يوماً...
عندما عاد اخيرا قرابة منتصف الليل وجد المنزل غارقا في السكون .. توجه الى غرفة الضيوف متفادياً المرور بغرفة ابيه او الغرفة التي خصصت له مع السرة ... دخلها وهو يحس بتعب يستوطنه روحا وجسدا ً .. فوجئ بوجود شبح يجلس ساكناً في الظلمة .. فاضاء النور ليجد والدته النائمة في جلوسها واضعة يدها على خدها .. احس نحوها بالشفقة وبرغبة قوية للارتماء في احضانها .. دخل بهدوء ففتحت عيناها على الفور .. هاله كم الحزن المرتسم على ملامحها الطيبة ... جلس بجانبها مطرقا .. وخاطبها همساً ....

- امي .. انتي الوحيدة البيهمني تعرف اني حاولت ... والله العظيم يا امي حاولت زي ما وعدتك ... لكن ما قدرت ... برغم اني اليوم داك شربت لمن عروقي بقت ملانة خمرة بدل الدم .. ضغطت على روحي واقنعتها انو السرة دي مرتي وانو الليلة لازم ادخل عليها ... وفعلا مشيت اوضتها وكنت خلاص حانهي الموضوع .. عارفة المنعني شنو ؟؟ منعني ابراهيم اخوي ..

تابع حامد كلامه دون ان يهتم لشهقة الهلع التي صدرت عن امه ...

- تعرفي يا امي لمن قربت شديد من السرة .. حسيت بحركة في طرف السرير التاني .. رفعت راسي اشوف شنو البيحرك السرير لقيت ابراهيم قاعد يعاين لي ووشه ملان زعل .. بحلف ليك يا امي اني شفت ابراهيم وعرفت من تعابير وشو انو ما راضي عن الشئ دة .. ومن اليوم داك ما فكرت تاني اقرب من السرة .. ما عارف يمكن يكون الشئ الشفتو مجرد خيال زول سكران .. او انعكاس لرفضي انا للموضوع دة .. لكن خلاص الدخل جواي دخل وما اظن يطلع تاني ... يا امي انا عارف اني ظالم السرة معاي .. لكن ما بيدي ... ما قادر .. ما عندي أي احساس ناحيتها .. اعمل شنو .. انتي قولي لي اعمل شنو ؟؟ ..
اتي الرد من العمدة الذي انتصب بجسده المهيب وسد باب الغرفة ...
- اعمل أي حاجة يا حامد بس ما تفضحنا ... احنا ما عندنا حاجة اسمها طلاق .. دي بت عمك .. لحمك ودمك وعرضك .. ودة ولد اخوك المات .. يعني ولدك ..

رقت لهجة العمدة وبدت اقرب للضراعة منها للامر ...

- حامد يا ولدي انت راجل وسيد الرجال ... والسرة مرا تمام وست النسوان ... انت بس خت الرحمن في قلبك واطرد منو الاوهام ... ابراهيم الله يرحمو مستحيل يكون زعلان منك لانك صنت مرتو وبتربي ولدو ... منو حيكون امين عليهم اكتر منك ؟؟ منو حيحافظ عليهم اكتر منك ؟؟ ... حامد يا ولدي لازم تدخل على مرتك ... الكلام دة اعوج منك .. وحرام عليك .. حسابك عند رب العالمين حيكون كبير على الانت بتسويهو دة .. انت بس خت الفكرة في راسك ومع مرور الايام حتلقاها بقت مقبولة .. المرة الاولى حتكون صعبة .. اعمل أي شئ عشان تمش وتفوتها .. المهم المرة الاولى تعدي وبعد داك ببقى الموضوع طبيعي ..

قضى عدة ايام في القرية هائماً في الطرقات ممنياً نفسه بلقاء صدقة يرى فيه امونة .. لم يجرؤ على الذهاب الى بيت خالته لالقاء التحية .. لم يكن يثق بنفسه ورد فعله لو رآها .. في النهاية قرر ان يجنب نفسه ويجنبها عذاب اللقاء ..لكنه كان يدعو في سره ان يرى طيفها او لمحة منها في احد الدروب .. عندما اصابه الياس وشعر بغربته تتعمق .. قرر ان اوان الرحيل قد حان ...
كان يجلس متململاً خلف المقود في انتظار خروج السرة وصغيرها .. وعندما فتح الباب بجانبه اخترقت خياشيمه روائح الدخان والصندلية .. التفت بدهشة ليكتشف ان السرة قد تحولت الى امراة اخرى غير تلك المخلوقة الباهتة التي اعتاد عليها طيلة الاشهر الماضية .. اختفى البياض الذي استوطن شعرها وبات لونه كجناح الغراب لامعاً وتفوح منه رائحة دهن ( الكركار ) .. اصبح وجهها لامعاً واذدادت عيناها اتساعا بفضل الكحل الاسود الذي سال تحت جفونها مضفيا على ملامحها غموضا آسراً .. بدت شلوخها اكثر عمقاً بينما توردت شفتاها واصبح لون الوشم ملفتاً ومغرياً ... عندما ادخلت ساقها بحرص ارتفع طرف ثوبها ليكشف عن جسد صبغ باللون البرتقالي الذي تضارب مع نقوش سوداء ارتفعت حتى منتصف الساق ... استقرت بجانبه وهي تحاول ايجاد وضع مريح لها ولصغيرها النائم في حضنها وارتفع رنين الحلى الذهبية في يديها الممتلئتين ... تفادت النظر اليه وهي تعي نظراته المندهشة من التبدل الذي حصل لهيئتها ... لقد ذكرته بايام زواجها الاولى لشقيقه كان مدركا لسر التحول واسبابه ... انهم يدفعونه لتقبل واقع زواجه .. يدفعونه ليغير موقفه ومشاعره تجاه السرة .. تنهد بتعب ورفع يده ملوحاً لمودعيهم وقد تعمق احساسه بالغربة ... والرفض ...
مر شهر منذ رجوعهما من القرية ظلت فيه السرة مواظبة على حرق جسدها بحطب الشاف والطلح يوميا .. تغيرت رائحة المنزل واصبح مغمورا بعبق بخور الصندل والدلكة والمحلبية والحنة ... وتغيرت معها ايضا نوعية ملابس السرة .. اختفت القمصان القطنية الواسعة والثياب الخشنة .. واصبح جسدها يتمايل مع همس الحرير والشيفون ... باتت تنتظره بالوجبات مهما طال غيابه مما جعله يشعر بالذنب ويعجل مواعيد عودته حتى لا يحمل نفسه وزر تركها جائعة ...
حاول كثيرا ان يجبر نفسه على دخول غرفتها ليلا مدركا بانها ستكون بانتظاره .. الباب الموارب والاضاءة الخافتة كانت اشارات واضحة ... كان يقطع نصف المسافة بين غرفتيهما ... ثم تداهمه ذكرى ابراهيم الجالس خلفها بوجه عابس .. فيتراجع .. ومع تكرار تراجعه تراجع ايضا اهتمام السرة بنفسها .. انحسرت الروائح المغرية واختفت القمصان الحريرية وعادت تكسو جسدها بثيابها الخشنة .. واظبت على انتظاره في مواعيد الوجبات .. لكن بنظرات كسيرة وملامح جامدة ...
لم يندهش هذه المرة عندما عاد ليلاً ليجد امه وزوجة عمه وشقيقه في المنزل .. كان يتوقع هذه الزيارة عاجلاً ام آجلاً ... اعتصمت السرة مع والدتها في غرفتها بينما جلس هو مع امه وشقيقه في غرفة الضيوف .. كانت المرة الاولى التي يبادر فيها بله بالحديث .. لحظتها فقط ادرك حامد بانه قد تجاوز كل الحدود .. وبان صبر الجميع قد فرغ بما فيهم شقيقه الصامت دوماً ...

- حامد يا اخوي .. هلاّ هلاّ على الجد .. والجد هلاّ هلاّ عليهو ... الوضع الانت عايش فيهو دة وضع ما طبيعي وغلط وحرام ... وتصرفاتك مخليانا داخليين في اضافرينا .. والبتسوي في بت عمك دة ما مرضي أي زول ... كلنا مدينا ليك حبل الصبر تقديرا لحالتك والظروف التم فيها العرس لكن يا حامد عشرة شهور ؟؟!! ...قريب السنة وانت هاجر المرة ؟؟ دة لا يرضي الله ولا رسوله .. ياخي السرة زاتها ما كانت عاوزة العرس دة لكن لمن لقت روحها قدام الامر الواقع بدت تتاقلم وعاوزة تعيش حياة طبيعية معاك ... حرام عليك يا حامد .. كسرت خاطرها وحسستها انها عبء تقيل على قلبك لمن جبرتها ترسل لامها وتقول عاوزة تتطلق ..

اهتز حامد عند سماع الكلمة الاخيرة ورددها بدهشة ..

- عاوزة تتطلق ؟؟!! .. السرة قالت عاوزة تتطلق ؟؟!! ...

- ايوة يا حامد السرة قالت عاوزة تتطلق لانها عاوزة تحفظ كرامتها الانت بتدوسها ليها كل يوم .. انت قايلها شنو ؟؟ حجر ؟؟ ما عندها احساس ؟؟ تعرف لو أي واحدة تانية غيرها كانت طلبت الطلاق من اول شهر .. لكن لانها بت ناس ومتربية سترت عليك وابت تشتكي الا بعد ما خلاص فاض بيها .. انا بس عاوز اعرف يا حامد انت عاوز شنو ؟؟!! حتعيش كدة لمتين ؟؟ انت خلاص ما بقيت صغير .. عمرك وصل تستعتاشر سنة .. كدة ورينا محتاج كم سنة تاني عشان تنسى الفات وتبدا تقبل حياتك ؟؟ ولا خلاص نبدا نناقش تفاصيل طلاقك من بت عمك ونشوف راجل تاني يربي ولد اخوك والله والله والله والحلف بالله ما خلى شئ .. انا لولا معرس اختها .. كنت عرست السرة وانا شاكر ربي على النعمة الاداني ليها ..

كانت الكلمات تنهال على حامد كطعنات السكين التي لا يملك دفعها .. احس بدموع العجز تملا عينيه وتسيل على خديه .. سكت بله مبهوتاً من دموع شقيقه الاصغر .. وهمسه الموجوع ..

- بله انا حاولت ... حاولت وما قدرت .. كل يوم في الشهر الفات دة بقعد في اوضتي واقول الليلة بمشي ليها .. اتحفز واعبي نفسي .. لكن اول ما اوصل نص المسافة بين الاوضتين بلقى كل حاجة جواي ماتت .. طوالي برجع لانو احسن مليون مرة اني ما ادخل خالص مما ادخل وانا بالحالة البكون عليها ..
ارتفع نحيب الام على ولدها وخرجت كلمتها متقطعة ..

- يبقى كلام مرت عمك صح .. انت معمول ليك عمل ... امونة وامها ربطوك عشان ما تدخل على السرة .. انا بالاول ابيت اصدق الكلام دة لمن جاتني وقالتوا لي وقلت مستحيل اختي تعمل كدة .. مستحيل تاذيك لانها بتحبك زي ولدها .. وهي عارفة انك ما خليت امونة الا غصبا عنك .. لكن هسة بعد الكلام القلتو دة انا بقيت متاكدة انهم ربطوك ..

هز حامد راسه بعنف رافضاً الفكرة ..

- امي ربط شنو ؟؟ دة كلام فاضي وخزعبلات ساكت ..

- لا ما كلام فاضي .. السحر مذكور في القرآن .. انا بكرة بدري راجعة البلد ومن دربي عديل لشيخ العبيد احكي ليهو الحصل واخلي يشوف ليك علاج .. وياريت لو انت زاتك تجي معاي عشان يشوفك ..

- امي انا امتحاناتي على الابواب وما عندي وقت للكلام الفارغ دة ...

غابت الام اسبوع وعادت بعده محملة باشياء شتى .. كانت تشرف بنفسها على خطوات العلاج كما اسمتها .. تطلق البخور في كل وقت تراه .. وتجبره على شرب سوائل كريهة المذاق .. لم يكن مقتنعاً بما يفعل وكان بداخله رفض قوي لكل ما يحدث لكنه خضع لضغوط امه ارضاء لها ولنظرة الترقب في عيني السرة الملئتين بالامل .. كان موقناً بان المشكلة تكمن بداخله هو وليس لاي مخلوق آخر يد فيها .. عدم رغبته بزوجته سببها حبه لامونة التي كان عقله الباطن يرفض وجود أي امراة اخرى في حياته غيرها .. العهد الذي قطعه لها بان تكون اول امراة تمتلك جسده كما امتلكت روحه وقلبه وعقله .. لم يكن يرغب بخيانتها مع اخرى حتى لو كانت زوجته ..
بانتهاء العلاج المزعوم وقبيل مغادرتها الى القرية انفردت به امه وسكبت في اذنه جملة من النصائح ختمتها بواحدة افزعته ..

- حامد يا ولدي انا حاسة بيك وعارفة الجواك .. لكن الشئ دة ما منو مفر ولازم تعملو السرة دي لحمك ودمك .. واجبك تحافظ عليها زي ما حافظت عليك الفترة الفاتت دي كلها ولو بقى صعب عليك تمشي ليها عشان هي السرة وكانت مرة ابراهيم اخوك (الله يرحمه) .. امشي ليها واتخيل انها امونة ...
هب واقفا ونظر اليها بعدم تصديق .. حاول ان يغادر الغرفة لكنها سدت الدرب بجسدها وامسكت بذراعه ...

- اتخلعت من كلامي ؟؟ مالو ما فيها حاجة لمن تتخيل انها المرة البتحبها وبتتمنى تكون معاها .. انت ما حتكون اول ولا آخر زول يعمل كدة ... دة ممكن يسهل عليك وعلى السرة حاجات كتيرة .. اقلها ما حيكون خيال المرحوم بينكم .. وصدقني يا حامد بس المرة الاولى الحتكون صعبة عليك .. لكن بعد كدة كل شئ حيبقى طبيعي وعادي ..

بعد مغادرة امه بيومين فكر ان يطبق نصيحتها .. اطلق لخياله العنان مع طيف حبيبته الغائبة حتى اصبح مشحوناً بطاقة لم يظن انه يملكها .. وفي تلك الليلة اصبحت السرة زوجة فعلية لحامد الذي امتلكها بعنفوان رجل محروم يمتزج للمرة الاولى مع امراة يعشقها ... في غمرة الانفعال الاول لم ينتبه للكمات المتقطعة التي كانت تخرج منهما بصعوبة ...في لحظة انفجاره وعندما كان يهتف باسم امونة سمع السرة تردد اسم ابراهيم ... مع مرور الايام اصبح الامر أكثر سهولة .. خصوصا عندما يرافقه خيال حبيبته ويحتل مكان زوجته في السرير ...
كان حامد مستلقياً بين النوم واليقظة .. اخرجته من غفوته صوت طرقات ملحة على الباب فافاق من عالم الاحلام والذكريات ورفع راسه المثقل بخدر النعاس ليسمع الطرقات تتوالى وتتقاطع مع صوت الاذان وصوت رجل ينادي من وراء الباب ..

- حاج حامد ... قوم الاذان اذن .. هوي يا ود العمدة قوم الصلاة ما تفوتك ...

نظر الى المنبه الصعير بجوار سريره ثم نهض وسارع بفتح الباب ليوقف سيل الطرقات .. واجه ميقظه بابتسامة عريضة ..

- خلاص يا ود سعد صحيت .. افرشوا البروش انا بدخل الحمام سريع والحقكم ..

أمّ حامد صفين من المصلين الذين تشابهت ملامحهم واختلفت اعمارهم .. ما ان انتهت الصلاة حتى امتلا المكان برائحة الشاي واللبن المقنن .. جلس عمار ارضا يعبئ الاكواب وتولى فتى صغير السن توزيعها مع الاطباق المليئة بالبسكويت والكعك ومربعات الفطير المرشوش بالسكر الناعم .. تعالت اصوات الرشفات وطقطقات الالسن استحسانا بطعم الشاي ...

رفع ود سعد عقيرته منشدا مقاطع دوبيت بصوته الرخيم .. ارتسمت ابتسامات الرضا على الوجوه وبدا كل يجود بما لديه من شعر وغناء .. غمر حامد احساس بالسعادة والرضا كان قد غادره منذ وقت طويل ...عبر النوافذ العريضة تسللت هبات نسيم باردة تبشر بشتاء قاس ... كانت محملة برائحة رطوبة البحر والسمك والبن المحمص ... بدا ضوء الفجر الباهت يشق الظلمة الحالكة وظهر في الافق لون حائر بين البنفسجي والفيروزي .. ارتفعت زقزقة عشرات العصافير التي تسكن السور الشجري في آخر الساحة لتطغي على كل ما عداها وبدا ان حركتها قد استفزت الازهار المنتشرة .. ففاحت رائحة زهور الفل والياسمين وامتزجت مع عبق زهور شجر النيم والبرتقال ...
شعت ابتسامة حامد وأضاءت وجهه الوسيم وارتفعت معها اصوات الدوبيت بين ود سعد وبقية الحضور كان صباحاً مثالياً لم يعشه منذ ما يقارب الثلاثة عشر عاماً ...






لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-11-14, 12:36 PM   #15

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Elk

االفصل الرابع عشر


استيقظت نعمات على صوت الزغاريد فامسكت راسها بالم واحست كأن طبولاً تدق بداخله .. رفعت يدها تتحسسه بحرص فاصطدمت بالعرق الناتئ في اعلى جبينها وهو ينبض بشدة .. لقد باتت تعرف دلالة هذه الاشارة .. لابد وانها في غمرة انشغالها بالاستعداد لعرس رحمة سهت عن ابتلاع الحبوب التي توازن ضغط دمها .. فتحت درج الكمودينو الصغير بجانب سريرها تلمست بيدها حتى عثرت على صندوق الحبوب .. فضت احداها بيد مرتعشة ووضعتها تحت لسانها واستلقت وهي تتمنى ان يزول المها بسرعة .. ادارت راسها ببطء ونظرت بحسرة الى المساحة التي سكنها الفراغ منذ امد بعيد الا في حالات نادرة .. لقد هجر حامد فراشها منذ وفاة امونة ... وابنه ..
في الشهور التي تلت الوفاة احترمت حزنه على محبوبته ولوعته لموت الولد الذي كان ينتظره طيلة حياته .. لكن الشهور استطالت وتمددت حتى اصبحت عاماً كاملاً اعتزل فيه زوجها العالم وبنى غرفة بعيدة اصبحت كمحراب يمارس فيه شعائر حزنه ووحدته بعد ان حرّم دخولها على الجميع .. لم تكن تدرك سطوة حبه لهذه المرأة حتى رات كيف تغيرت احواله بعد زواجه بها .. هذا الزواج الذي زلزل كيانها واصابها بطعنة قاتلة في صميم كرامتها وانوثتها ..
كانت هادية قد اكملت شهرها الثالث وظنت نعمات ان عزوف حامد عنها يرجع لخيبة امله في الحصول على وريثه الذكر .. تفهمت حسرته خصوصا بعد ان وصل عدد بناته الى ثمانية بمولد ابنتها وبدرية ابنة السرة التي وضعتها بعدها بشهر .. بدات رحلاته الى القرية تتزايد حتى وصلت الى اربعة في شهر واحد .. دهشت لهذه الرغبة المفاجئة في التواصل مع المكان الذي ادركت بعد زواجهما بوقت قصير مدى بغضه له بعد ان اقتصر ذهابه هناك على الامور الملحة التي لا يستطيع تفاديها .. لقد اصطحبها في احدى الزيارات بعد انجابها لنادية .. وجدت استقبالاً باردا مغلفاً بتهذيب مجبر انباها برفض اسرته لوجودها .. هي الغريبة التي شاركت ابنتهم في زوجها .. وكانت المرة الاخيرة التي تزور فيها اهل زوجها .. لم يطلب منها مرافقته .. ولم تتطوع هي بالذهاب معه..
عندما اخبرها بنيته زيارة القرية للمرة الخامسة خلال مدة قصيرة .. سالته بحيرة ..
- في شنو يا حامد ؟؟ .. انشاء الله مافي مشكلة هناك ؟؟ .. بقيت تمشي كتير في الفترة الاخيرة !!
كانت اول مرة ترى فيها علامات التردد في صوت زوجها وملامحه .. جلس على حافة السرير يتاملها وهي ترضع هادية المستكينة بين ذراعيها .. ثم نطق بآخر جملة توقعت ان تسمعها ..
- نعمات .. انا حعرس ..
تجمدت حركتها .. وخيل اليها ان الحليب تجمد ايضا في ثديها ولم يعد ينساب الى فم الصغيرة التي بدات تتململ وتحرك يديها باحتجاج ... ظنت بانها اخطات السمع او التبس عليها فهم الجملة التي نطقها .. فسالته بتضرع ..
- قلت شنو يا حامد ؟؟
يبدو ان اعادة الجملة اصبحت اكثر صعوبة لحامد الذي اطرق مسافة بدت لها كالابد .. ثم رفع راسه وجاوبها بالجملة التي تمنت لو اصابها الصمم قبل ان تسمعها ..
- انا حعرس امونة بت خالتي ..
كانت غارقة في ذهولها وهي تحاول ان تستجمع ذاكرتها المشتتة لتستحضر ما تعرفه عن هذا الاسم امونة ؟؟ ابنة خالته ؟؟ .. كانت علاقتها ضعيفة مع اهل زوجها منذ تلك الزيارة اليتيمة لذلك تاهت عنها الاسماء وصلة القرابة .. فجاة لمع في عقلها ذكرى حوار دار بينها وبين حامد منذ عام تقريبا عندما طلب منها ان ترافقه لتقديم واجب العزاء في زوج ابنة خالته الذي توفى في حادث نجت منه هي بمعجزة .. يومها رفضت ان ترافقه واخبرته باسبابها ..
- يا حامد اهلك ديل ما بدوروني .. انا ولدت مرتين وحصلت لي حاجات كتيرة .. مافي زول فيهم شال رجلو وجاني .. السرة لو قالت راسها واجعها ولا واحدة من بناتها طعنتها شوكة يجوا جاريين .. وما بيكلفوا نفسهم حتى يقطعوا الحوش ويزوروني ولا يشوفوا بناتك .. كيف عاوزني امشي ليهم .. انت ما مفروض ترضى لي المهانة وقلة القيمة والطريقة البيعاملوني بيها .. انا مرتك زيي زي السرة .. ولا يعني عشان انا الغريبة وهي بت عمك ؟؟ انا عمري في حياتي ما شفت عنصرية زي البتعاملوا بيها اهلك دي يا حامد ..
نظر اليها بغيظ وقد اغضبه ان تنتقد اسرته بهذه الصورة ..
- نعمات .. طلعي الاوهام دي من راسك .. اهلي انتي البعدتي عنهم وما كان عندك رغبة تتعاملي معاهم .. ما بتزوريهم ولا حتى علمتي بناتك يكونوا حنان معاهم ... واهو اناباقول ليك نمشي واجب عزا ابيتي تمشي ...
- حامد خليك حقاني .. انا لمن زرتهم الحصل شنو ؟؟ ما قدامك عاملوني زي الزفت وحسسوني كاني ضيف تقيل وما مرغوب فيهو ... وبعدين تعال .. اشمعنى بت خالتك دي العاوزني امشى اعزيها في راجلها ؟؟ ما ناس كتار ماتوا ليكم وعمرك ما قلت لي امشي معاي .. شنو البخليني امشي لدي بالذات ؟؟ ...
اذن هي بنت الخالة التي توفى زوجها !! .. احست نعمات بوهن غريب يخدر حواسها وبدات قبضتها التي تمسك بصغيرتها تتراخى حتى كادت تسقط من بين يديها .. قفز حامد وانتزعها منها ووضعها في منتصف السرير العريض وهي تصرخ خوفا من الحركة المفاجئة .. اصبح وجه نعمات شاحباً كالموتى وسالت دموعها وهي تنظر الى زوجها الجالس امامها محرجاً .. بحثت عن صوتها حتى وجدته .. وسالته ..
- يعني انت خلاص قررت وجاي تبلغني تحصيل حاصل ؟؟ عاوز تعرس فيني يا حامد ؟؟ ليه ؟؟ .. انا ناقصني شنو مشيت تكوس ليهو عند واحدة تانية ؟؟ قصرت معاك في شنو ؟؟ انت الناقصك شنو ؟؟ عشان ما جبت ليك الولد الانت بتحلم بيهو ؟؟ دة شئ ما بايدي .. دي ارادة ربنا .. هانت عليك عشرتي يا حامد ؟؟ خلاص استغنيت ؟؟
غلبتها موجة بكاء حادة اخرستها عن الكلام بينما ظل حامد يراقبها صامتاً حتى هدأت ..
- نعمات ... انتي على راسي من فوق .. مكانتك محفوظة ومافي أي شئ حيتغير في حياتك وزي ما كنت عادل بينك وبين السرة حكون عادل بينك وبين امونة .. وبعدين ما تختي في راسك اني عاوز اعرس عشان كايس الولد .. دي قسمة ربنا وانا راضي بيها ...
ظهرت علامات التردد مرة اخرى وصمت طويلاً كانه يبحث عن الكلمات المناسبة .. ثم واصل كلماته مطرقاً وهو يتفادى النظر الى عينيها الفزعتين الكسيرتين ...
- امونة دي بت خالتي .. يعني لحمي ودمي .. اتظلمت كتير في حياتها .. واتحملت كتير انا وهي اتربينا مع بعض .. يبقى انا اولى من أي زول تاني بتحمل مسئوليتها ..
- يعني شنو مسئوليتها ؟؟ اذا قصدك مسئولية مادية يبقى خلاص رسل ليها كل شهر البكفيها وكدة تكون اتحملت مسئوليتها وما في داعي تتزوجها .. انت بتغش على منو يا حامد عليّ انا ولا على روحك ؟؟ الموضوع ما مسئولية .. دة مجرد كلام انت بتقولو عشان تبرر بيهو الشئ الانت ناوي تعملو .. واضح انك عاوز تعرسها عشانها هي .. ولا شنو البيجبرك تعرس ليك واحدة عجوز وعاقر ما بتولد ؟؟
- انتي منو القال ليك انها عاقر ؟؟ ... بقيتي تعلمي بالغيب كمان ؟؟
- ما بعلم بالغيب ولا حاجة .. انا هسة اتذكرت كلامك قبال سنة لمن قلت لي راجلها مات بحادث في المانيا وانها عاشت معاهو عشرين سنة بدون عيال ؟؟ اتاريك من البداية كنت مهتم بيها شديد واول ما سمعت بموت الراجل جريت ليها ... شوف يا حامد انا ما راضية بقرارك .. ومن هسة باقول ليك يا انا ياهي .. ولو عرستها تطلقني ..
رمقها حامد بنظرة ساخرة اكدتها نبرة صوته ..
- غريبة يكون دة موقفك يا نعمات !! ما انتي عرستيني وانا معرس قبلك !! عموماً انا ما جيت اشاورك ولا اخد رايك .. انا جيت ابلغك احتراما للعشرة البينا .. وبقول ليك تاني انا باقي عليك يا بت الناس ومافي شئ حيتغير في حياتك ولا حياة بناتك .. ما تعاندي وتركبي راسك وتخربي بيتك بايدك .. لانك لو اصريتي على الطلاق ما بمسكك غصباً عنك .. ما انا البمسك مرا ما عاوزاني .. ولو على بناتي حيفضلوا بناتي وحالتزم بيهم لآخر يوم في عمري ...
يومها اصابتها اولى نوبات صداعها العنيف .. ولم تفلح كل المسكنات العادية في تهدئتها .. عندما فقدت السيطرة على احتمال الالم وارتفعت اناتها لتصبح صرخات احضر حامد الطبيب الذي اكتشف ان ضغط دمها قد ارتفع الى درجة تنذر بالخطر ... منذ ذلك اليوم لم تفارقها حبوبها .. ولم تفارقها الحسرة على زوجها الذي احبته بكل مشاعرها وتزوج عليها اخرى تكبرها سناً وتقل عنها جمالاً ..
تواصل بكاءها لمدة ثلاثة ايام متتالية ... وجف الحليب من ثدييها .. وبدات هادية التي رفضت الحليب الصناعي تتلوى جوعاً فحملتها نادية المرعوبة من حال امها وشقيقتها الى زوجة ابيها التي ارضعتها مع بدرية ثم اتت تحملها في اول زيارة الى بيت ضرتها منذ زواجها ...
اصيبت نعمات بدهشة حقيقية لهذه الزيارة الغير متوقعة .. واخافها التعبير الغريب المرتسم على وجه السرة .. لم تكون غاضبة او حزينة مثلها .. بدت عليها سيماء الهدوء .. وفي عينيها نظرة تشفي لم تحاول اخفائها .. جلست في مؤخرة السرير وهي تحمل هادية النائمة بين ذراعيها بوداعة .. سالتها بصوت مبحوح ...
- حسيتي بيها يا نعمات ؟؟!! ...
كانت تحاول استيعاب كلمات السرة ومعناها فردت عليها بآلية ...
- هي شنو الحسيت بيها يالسرة ؟؟!! ...
شعت نظرة التشفي وارتسمت ابتسامة رضى غامضة على شفتي السرة فنهضت ببطء من جلستها ووضعت هادية بين ذراعي امها الباكية ..
- حسيتي بحرقة الراجل لمن يعرس فيك ؟؟ .. حسيتي بوجع الغدر لمن يجيك فجأة ؟؟ .. حسيتي بطعنة الغيرة بتقطع حشاك عشان راجلك مشى لواحدة تانية وخلاك ؟؟ ..
انتفضت نعمات وهي تستمع الى احاسيسها التي ظنتها مخفية تتبعثر في فضاء الغرفة بلسان شامت ..
- انتي جاية تشمتي فيني يالسرة ؟؟ ما هو حيعرس فيك انتي برضو !! يعني عاملة ما هاميك ؟؟
ردت السرة ببرود ..
- الطعنة الاولى بتوجع .. بعد داك ما بتحسي بالباقي لانو بتكون كل حاجة جواك خدرت .. انا حامد حرق حشاي لمن جابك فوقي .. لكن هسة عادي .. ما هاميني ..
احست نعمات بمطرقة ضخمة تضرب راسها بلا رحمة .. حاولت التماسك حتى لا تنهار امام عيني ضرتها المترصدتين وردت بقوة لا تملكها ..
- انا زاتي ما هاميني يالسرة .. واذا حامد ما بقى عليّ انا ما باقية عليهو .. واذا هو مستغني قيراط انا مستغنية اربعة وعشرين قيراط .. حشيل بناتي وارجع بيت ابوي .. انا ما زيك يالسرة .. انتي رضيتي وقعدتي .. انا ما ناوية اقعد .. وحاطلب الطلاق .. ولو عاوزة بكرة باعرس سيد سيدو ..
اطلقت السرة ضحكة مجلجلة جعلت هادية تتململ في نومها .. ثم اردفتها بكلمات نزلت عليها كماء النار ..
- ما تكابري ساكت وتغالطي روحك يا نعمات .. وما تقولي ما هاميك .. انتي عرس حامد واجعك ومحشحش كلاك ... صحي ممكن تتطلقي وتعرسي تاني .. لكن اعرفي حاجة واحدة .. عمرك ما حتلقي راجل زي ود العمدة .. لانو ما ليهو سيد غير ربو الخلقو ..
زاد صداع نعمات من كلمات السرة المؤلمة فصرخت فيها ..
- انتي لسة بتدافعي عنو بعد ما عرس فيك مرتين ؟؟!! انتي شنو ؟؟ ما عندك احساس ولا ما مستوعبة البيحصل دة ؟؟ ولا يمكن عشان العروس قريبتك ؟؟ انتو جد ناس غريبين وممكن تتعنصروا لبعض حتى في الحاجات الزي دي !! ..
- ايوة بدافع عنو يا نعمات .. حامد مهما عمل حيفضل ولد عمي .. وعم ولدي .. لحمي ودمي .. ابو بناتي .. ولو قايلة نفسك بتقدري تخليهو تبقي غلطانة ..لانو البتعرس حامد بتدمن وجوده في حياتها .. وما بتقدر تخليهو مهما حاولت .. ود العمدة ما بتخلى يا نعمات .. ولو قايلة نفسك ممكن تخيريهو بينك وبين امونة تبقي غلطانة ..
فجاة انخفض صوت السرة الجهوري حتى بات اقرب للهمس .. وتضاربت ملامحها بين الحزن والغضب ..
- لازم تعرفي انو حامد لو ختوا ليهو امونة في كفة والدنيا كلها في كفة تانية حيختارا هي لانو امونة دي حلمو المنتظروا عمرو كلو عشان يبقى حقيقة ... امونة دي روحو الضايعة منو .. امونة دي المرا الوحيدة الحباها حامد في حياتو كلها .. لا انا ولا انتي ولا بناتو ولا احفادو ولا أي مخلوق في الدنيا دي ممكن ياخد مكانها ..
احست نعمات بانفاسها تضيق في صدرها من جراء كلمات السرة الاخيرة .. جلست صامتة تتامل دموع ضرتها التي نافست دموعها .. كانت لحظة سلام نادرة بينهما توحدت فيها مشاعرهما للمرة الاولى والاخيرة .. وعندما خرجت السرة دون ان تضيف كلمة اخرى .. ادركت نعمات انها ستخوض معركة خاسرة ان هي اصرت على رفض زواج حامد بهذه المراة التي لم تكن تدري بتاثيرها على مشاعر الرجل الذي ظنت انها حبه الوحيد .. تاثير له سطوة وقوة لدرجة انه فرض وجوده على السرة فقبلته بلا نقاش واقرت به بلا مواربة ...
ارتفعت موجة الزغاريد مرة اخرى فاجفلت نعمات من الالم .. تحاملت على نفسها لتنهض من سريرها وهي تتساءل عن سر هدوء بناتها وعدم ظهورهن على عتبة غرفتها كما اعتدن كل صباح وقفت في منتصف الصالة الساكنة ودهشت عندما نظرت الى الساعة الكبيرة التي تواجه غرفتها لتجدها قد شارفت على منتصف النهار .. رفعت صوتها بقدر ما سمح به الم راسها ...
- نادية ... اميرة .. هادية .. يا بنات انتو وين ؟؟ قوموا الدنيا بقت ضهر ..
يبدو ان الجميع كان مستيقظاً وفي انتظار اشارة للخروج .. فتحت الابواب المغلقة تباعاً وظهرت من خلفها وجوه متعبة بعيون منتفخة وحزينة .. هلعت نعمات من منظرهن وسالت بقلق ..
- بسم الله !! في شنو يا بنات ؟؟ مالكم زي الجايين من بيت بكا ؟؟
تبادلت اميرة ونادية نظرات طويلة بينما وقفت هادية تراقب الجميع بصبر نافذ ..
- يا بنات اتكلموا .. في شنو ؟؟ ...
همت اميرة بالكلام فسبقتها نادية بسرعة ...
- مافي حاجة يا امي احنا بس تعبانين من سهر امبارح .. انتي مالك ؟؟ ليه شكلك تعبان كدة ؟؟
- انا لي يومين ناسية ابلع حبوبي وهسة حاسة راسي حينفجر من الصداع .. اميرة اجري اعملي لي كباية شاي سريع بس ما يكون تقيل .. اما انتو يا نادية وهادية فحسابكم معاي بعدين .. خلوني بس اروق عشان اعرف كنتوا وين امبارح ...
وجهت نادية نظرة محذرة الى اميرة التي اطرقت واتجهت الى المطبخ مسرعة .. جلست نعمات في اقرب كرسي اليها وهي تتامل ملامح نادية الخائفة وهادية المتحدية .. سحبت نفساً طويلاً حتى احست بحرقة في حلقها وهي تحاول جاهدة التخلص من احساس الشوق المفاجئ الذي اعتراها تجاه زوجها الغارق في حب امراة ميتة وناسيا زوجة حية تعاني هجره بصمت .. لطالما كانت الاعراس تثير فيها هذه الاحاسيس التي تحاول جاهدة نسيانها وسط زحمة الحياة فتاتي لحظات كهذه لتوقظ بداخلها جوع الانثى المتعطشة لحب رجلها .. احست بغبن يتلبسها .. انها حية .. ومليئة باشياء لا تقال .. اشياء تتآكلها من الداخل وتملا روحها بثقوب تسقط من خلالها مشاعرها ورغباتها واحلامها ...
توالت على الباب طرقات مرحة ثم فتح ليظهر وجه منال الفاتن تزينه ابتسامة عريضة تتراقص معها غمازتيها باغراء .. كانت اكثر شبهاً باميرة من بقية بناتها .. ومن يراهما معا يعتقد بانهما شقيقتان ..
- يا جماعة ازيكم .. انتو لسة نايمين ولا شنو ؟؟ بالغتوا لكن !! ... الضهر قرب ياذن وناس الصبحية بدوا يجوا .. يلا البسوا سريع وتعالوا ساعدوني .. حبوبة السرة تعبانة وما قادرة تقوم من السرير .. امي راسها ضارب وما عارفة تعمل شنو و قالت ليك تعالي ساعديها تلبس رحمة يا ماما نعمات ..
ابتسمت نعمات لتعبيرات منال الطريفة ..
- تعالي يا منال .. ادخلي اشربي معاي الشاي وانتظري خالاتك يلبسوا ويمشوا معاك ...
هزت منال راسها بمرح ...
- ادخل ؟؟ ادخل وين ؟؟ انا لو اتاخرت شوية امي حيجيها انهيار عصبي .. انا بس جيت استعجلكم .. عليكم الله ما تتاخروا الشغل كتير وانا ما قادرة اعمل حاجة براي ...
وسرعان ما اختفت كما ظهرت بعد ان تركت خلفها ابتسامة معلقة في شفتي نعمات ونادية وشبه انفراج في ملامح هادية المقطبة ..نظرت نعمات الى ابنتيها بغيظ ..
- انتوا واقفات زي التماثيل كدة مالكم ؟؟ .. يلا اتحركوا سريع .. البسوا وامشوا ساعدوا اختكم .. والليلة العاوزة كسر رقبتها ما القاها قاعدة قدامي في الصبحية .. سامعاني يا هادية ؟؟ وانتي يا نادية ؟؟ ..
انكسرت نظرة هادية المتحدية امام غضب والدتها فهزت كتفيها بلامبالاة واستدارت وهي تحشر جسدها الضخم في فتحة باب غرفتها وصفعته بعنف وراءها .. تنهدت نعمات بضيق وهي تفكر بصوت عال ...
- البت دي تعبتني شديد وما عارفة اعمل معاها شنو ؟؟ لا الكلام نفع .. ولا الضرب نفع
اتاها رد اميرة من خلف ظهرها قبل ان تستدير وتضع امامها صينية الشاي وصحن ملئ بالسندويتشات
- خليها يا امي .. هادية بتمر بسن حرج واي كلام معاها بيزيد عنادها .. بكرة تكبر وتعقل
ابتسمت نعمات لابنتها المفضلة وهي تخاطبها بحنو ..
- الله يكملك بعقلك يا اميرة .. انا ما عارفة اخواتك ديل ما طلعوا زيك ليه ؟؟ يلا سوقيهم وامشوا ساعدوا بلقيس على بال ما انا اجهز واجي لاحقاكم .. وختي لي بالك على اخواتك واوعى اجي ما القاهم .. بحاسبك انتي فاهمة ؟؟ ...




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-11-14, 01:03 PM   #16

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Elk

االفصل الخامس عشر


المهيرة وعقد الجلاد النار يا عروسنا .عريسك غلبو الثبات ...المهيرة مهيرة السرور وانتي ملكة وحواليكي نور يا عروسنا ..عريسك غلبو الثبات ..

كان صوت الفنانة رخيماً ومتماشياً مع نقرات ( الدلوكة ) المشدودة .. رافقه تصفيق متحمس من مئات الايدي ومراقبة دقيقة من العيون التي تتابع حركات رحمة المحترفة وجسدها الممشوق اللدن وهي تتمايل مع الايقاعات بمهارة وخفة و تتفادى يدي عريسها المتحفز الذي يدور حولها بحرص خوفاً من وقوعها للمرة الثالثة بعد ان غافلته في مرتين سابقتين وانسلت من بين يديه لتسقط ارضاً وسط صيحات التشجيع من اهلها وصديقاتها وصيحات الاستهجان من اهله خصوصا عندما ترتفع اصوات الجانب المتشفي وهي تغيظ الجانب الاخر بصوت عال ....
- الغلبو منو يا ناس؟؟ ... الغلبو منو ؟؟
ويتعالى اسمه وسط الضحكات والغمزات ... لم يكن مهتما بهزيمته في هذه اللعبة المثيرة بقدر ما اهمه سقوط عروسه في الارض فهمس في اذنها عندما رفعها بعد سقطتها الثانية ..رحمة .. الله يخليك اعملي حسابك .. براحة ما تأذي روحك بالوقيع الكتير ...
اجابته بابتسامة سلبت عقله .. كان متلهفاً لانتهاء هذه الطقوس الطويلة كي ينفرد بعروسه التي اختارها بعقله وما لبث ان غرق في حبها حتى النخاع .. اعتبر نفسه محظوظاً بلقاء الصدفة الذي جمعه بها في احدى المناسبات العائلية .. كانت صلة القرابة بينهما بعيدة ومعقدة .. لكنها كافية لتقديم نفسه الى والدها وجدها المعروفين بتشددهما في اختيار ازواج فتيات العائلة الزائعة الصيت .. لم تكن اسرته تضاهي اسرة ود العمدة في الثراء والجاه .. لكنها تتمتع بسمعة طيبة ويتميز افرادها باهتمامهم بالتعليم .. تخرج محمود من كلية الهندسة بينما درس اثنان من اشقاؤه الطب واتجهت الابنة الوحيدة وسط الاولاد لدراسة القانون .. جعله خوفه من احتمال رفض ود العمدة يلجا الى وساطة جدوده واعمامه واخواله .. احس بفرحة تغمره عندما وافق حامد على الزيارة التي خرجوا منها تتبعهم زغرودة طويلة من السرة تعلن بها موافقة حامد على طلب محمود ... كانت كلماته قوية وتنضح بالفخر ..
- احنا بنشتري الرجال يا محمود .. انت ولد ما فيك كلام .. واهلك اعز الناس .. وبتنا انت اولى بيها من أي زول تاني ..سارع محمود بطلب عقد القرآن مستثمرا كلمات ود العمدة المشجعة .. وعندما بدا رحلة التجهيز للزواج كان يغرق بسرعة في حب رحمة بجمالها وخلقها وطيبتها .. حتى وصل مرحلة لم يعد يطيق فيها البقاء بعيداً عنها ... كان يراقب حركاتها بدقة فارتفعت درجة الاثارة بداخله الى حد لم يعد يستطيع احتماله .. وعندما همت بالسقوط سارع بامساكها واحتضن جسدها البض بين ذراعيه وهو يجاهد لالتقاط انفاسه المتهدجة التي غطت عليها صرخات الفرح من فريقه المنتشي باول فوز له .. كان على حافة الانفجار عندما اتاه الفرج باعلان انتهاء فاصل الرقص .. تنفس الصعداء وفر هاربا وهو يغطي نفسه بثوبه حتى حتى لا يلحظ احدهم الحالة المخجلة التي اصبح عليها ... دون ان تفوته غمزات بعض العيون الخبيثة التي انتبهت له ...كانت الاستراحة التي تبدل فيها رحمة ملابسها استعدادا لجولة اخرى فرصته كي يستعيد السيطرة على حواسه المضطربة .. فتنصل من الجميع وفر هاربا الى الغرفة التي خصصت له لتغيير ملابسه... في احدى الغرف جلست منال في مواجهة جاكلين بوجهها المتورد انفعالاً وهي تستمع الى كلماتها اللاهثة..
- ناصر جا برة يا منال ... عليك الله شوفي قلبي بيدق كيف حملت جاكلين يد صديقتها ووضعتها على صدرها ... كانت ضربات قلبها شبيهة بقفزات عصفور صغير نزق - تعرفي .. ربك رب الخير لمن اتصل ماحد غيري رفع التلفون ولا كانت تبقى مصيبة هسة انا ما عارفة اعمل شنو .. عاوزة اطلع اسلم عليهو لكن خايفة حد يشوفني .. دبريني يا منال اطلع ولا مافي داعي ؟؟ ..كانت موجات التعاطف تغزو عقل منال .. لقد مرت بهذا الموقف عشرات المرات اثناء علاقتها بجمال كانت تفهم احساس الرغبة في رؤية من تحب .. والخوف من عواقب اكتشاف الامر ..- انا ما قادرة افهم يا جاكلين انتي ليه داسة علاقتك بناصر ؟؟ .. ما تكلمي اهلك !! الولد جاد وعاوز يتقدم ليك .. انسان متعلم ووضعو المادي ممتاز اخلاقو حلوة واي بت بتتمناهو شنو المشكلة المخلياك ما عاوزة اهلك يعرفوا ؟؟!!
- ما انتي عارفة كل حاجة يا منال - عارفة شنو يا جاكو ؟؟!! ... عشان موضوع امو يعني ؟؟ انا ما شايفة فيها أي حاجة انو امو تكون حبشية .. مالها الحبشية ؟؟ انسانة محترمة ومافي زول يقدر يقول عليها كلمة ... كفاية الطريقة الربت بيها اولادها وخلتهم احسن ناس ... وحتى انتي بتقولي اخوانه واخواته كلهم شاطرين ومؤدبين ... وبعدين انتي براك شايفة بعيونك لمن يجي الجامعة عشان يشوفك بنات الاقباط بيعملوا شنو ... كلهم دايرين يموتوا عليهو ... ولو قال عاوز أي واحدة حتوافق طوالي ... خلي العٌقد بتاعتك دي وأقبضي الولد قبل ما يروح منك - منال .. انتي عارفة انا قصة امو دي ما هاماني كتير .... وما اظن ماما ولا حتى جمال وخالو حيرفضوا .. المشكلة كلها في اعمامي .. ديل لو عرفوا حيقلبوا الدنيا على راس ماما ويبدوا يعزفوا ليها اغنيتهم المفضلة .. انتي ما عرفتي تربي ... انتي خربتي اولاد اخونا .. هم اصلهم ما راضيين على حد فينا الا جانيت وقالوا هي الوحيدة الطلعت ليهم تنحنحت منال لتتخلص من الغصة التي سدت مجرى الهواء في حلقها عندما فكرت في جمال واقتراحه الذي طرحه بالامس .. احست بالاسى وهي تتذكر انها في تلك اللحظة لم تفكر في تاثير اقتراحه عليه وعلى اهله .. واهمها فقط ما يمكن ان يحدثه هروبها على عائلتها ... امتقع وجهها وتقطعت انفاسها بينما جاكلين تراقبها بحذر واشفاق .. لقد احست منذ فترة بان هناك شيئا غامضاً يدور بين صديقة عمرها وشقيقها .. تلك الشرارات المتطايرة بينهما كلما جمعهما مكان واحد ... النظرات الولهى التي يتبادلانها عندما يظنان انشغالها عن رؤيتهما ... اهتمام جمال الزائد بكل تفاصيل منال وحرصه عليها .. في البداية استبعدت الاحتمال لاستحالته ..وبمرور الايام زادت شكوكها لكنها لم تجرؤ على سؤال أي منهما لخوفها من سماع ما لا ترغبه ... أي علاقة بين منال وجمال تعني ان تخسر احدهما او كلاهما معاً .. اذا كانت هناك صعوبة في علاقتها بناصر .. فالاستحالة هي مصير أي علاقة بين منال وجمال واي ارتباط بينهما مهما كان نوعه سوف يؤدي الى عواقب وخيمة على الاسرتين ... ترددت في في اغتنام الفرصة وسؤال صديقتها ... ثم حسمت أمرها بالصمت وهي تدعو في سرها ان تكون مخطئة ...- اها يا منال ما قلتي لي اعمل شنو ؟؟ اطلع اسلم عليهو ولا مافي داعي ؟؟...اخرج السؤال الملِّح منال من افكارها القاتمة ..
- امشي سلمّي عليهو سريع وتعالي ... انا لو ما كنت مشغولة مع امي كنت جيت معاك اطلعي بباب بيت الاشباح العلى الزقاق مافي زول بمشي بهناك .. بس ارجعي سريع قبل ما خالتي رجاء تسال عنك هبت جاكلين بفرح وغادرت الغرفة بخطوات عجولة تاركة منال غارقة في شرودها وتوهانها في الخارج كانت الضحكات والزغاريد تملا ارجاء المنزل الواسع مصحوبة بحركة دائبة ... في احد الاركان المنعزلة جلست نادية في مواجهة اميرة وقد اخفى الضجيج حولهما صوت النقاش الحاد الدائر بينهما
- عاوزاني اضاري عليك يا نادية ؟؟!! .... عاوزاني اسكت عن غلطك واجاريك فيهو كمان ؟! ما بتخجلي ؟؟ دي عملة تعمليها في بيت ابوك ؟؟ في اوضتو وفي سريرو ؟؟ لا حولا يا نادية !! من وين جاك قلب تعملي كدة ؟؟ كيف قدرتي تطعننينا كلنا بالشكل دة ؟؟ وعشان شنو ولا عشان منو ؟؟!! وبكل برود تقولي لي راجلي ومعرسة ليك سنة كمان !! واريتك عملتي عملتك دي عشان زول بيتساهل .. انتي عميانة ؟؟ .. ما شايفة شكلو ؟؟!! .. كيف قدرتي تدخلي في علاقة معاهو خليك تعرسيهو ؟؟!! .. اكيد غشاك اكيد عمل ليك حاجة لغت تفكيرك وعقلك ... اصلهم النوعية معروفين بتاعين سحر ..قاطعتها نادية بغضب ...
- لو سمحتي يا اميرة ما تتكلمي عن زاهر بالصورة دي .. انتي ما بتعرفيهو عشان تحكمي عليهو .. زاهر انسان كويس شديد ... محترم وحنون وشهم ..وبيحبني .. وانا عرستو عشان اقتنعت بيهو وحبيتو .. والخلاني اعرسو بالطريقة دي نوع كلامك الهسة دة .. اذا انتي يا فاهمة يا متعلمة بتفكري كدة !! امال امي وابوي وجدي وحبوبتي حيفكروا كيف ؟؟!! .. انتي هسة مشكلتك كلها شكلو شنو وهو من وين ؟؟!! ... يعني لو كان مننا ولونه فاتح وشعره ناعم ما كنتي حتحتجي على طريقة العرس ؟؟ كدة حددي لي انتي رافضة شنو بالضبط ... زاهر شخصياً ولا الطريقة الاتزوجنا بيها ؟؟!!
- رافضة الاتنين يا نادية .. والحاجة الوحيدة البقيت عارفاها انك انسانة ما مسئولة وما بتستحقي الثقة الادوها ليك .. ويكون في علمك انا حديك فرصة لغاية نهاية الاسبوع دة اذا انتي ما كلمتي امي براك انا حكلمها ... انتي ارتكبتي جريمة في حقنا كلنا .. وانا ما عندي استعداد اشاركك فيها ..
نهضت اميرة من جلستها وهي ترمق نادية بنظرة مليئة بالغضب والاحتقار .. اولتها ظهرها وغادرت..
كانت تناور بين الجموع وهي تبحث عن منال .. وصلت الى الساحة الخارجية الضاجة كمشاعرها في تلك اللحظة ... كانت تهم بالعودة الى الداخل عندما احست بيد قوية توضع على كتفها رافقها صوت عمار العميق ليزرع القشعريرة في جسدها ...
- اميرة .. اخيراً لقيتك .. انا من الصباح بافتش عليك .. انتي نسيتي وعدك لي امبارح ولا شنو ؟؟ ....
التفتت اليه وهي تحس بالارتباك الذي يعتريها كلما التقته ... كانت تفكر بطريقة تمكنها من التملص منه بلباقة .. فهي لم تكن في حالة نفسية او مزاجية تسمح لها بمناقشة أي موضوع ...
- اهلاً عمار .. معليش كنت مشغولة مع بلقيس ورحمة .. ممكن نأجّل كلامنا لوقت تاني لانو عندي حاجات كتيرة مفروض اعملها ...
انبأته رنة التوتر في صوتها بمحاولتها التهرب من لقائه .. لكنه لم يكن ليدعها تفلت منه هذه المرة .. فألح عليها ..
- ما حأخرك يا اميرة ... انا محتاج منك بس عشرة دقايق .. شايف الحتة الجنب بيت ابراهيم هادية شوية انا حاسبقك اخت كراسي وانتي تعالي وراي
اختار عمار زاوية بعيدة وشبه منزوية خلف شجرة النيم العجوز المنتصبة بكبرياء امام منزل ابراهيم كانت اميرة تتلفت بتوتر وهي تستمع لكلماته التي اتت صريحة ...
اميرة .. انا عاوز تقدم ليك .. رايك شنو ؟؟ ...
تجلت صدمتها من طلبه المباشر في التعابير المتصارعة على ملامحها ما بين الفرح والخوف ... وابتسامة تتسع وتضيق ... ولمعة في العيون تبرق وتخبو .. وهمس يندفع ويحجم .. كان يراقب انفعالاتها بفرح ...
- ما عارفة اقول ليك شنو يا عمار ... انت عارف الحزازات والمشاكل البين امي وخالتي السرة حتخلي الموضوع دة صعب شديد ... الاتنين ما حيقبلوا وحتحصل مشاكل كتيرة بينهم
اميرة ... مع احترامي ليك .. انا ما حعرس امك .. ولا انتي حتعرسي أمي او خالتي السرة .. الموضوع دة انا وانتي وعمي حامد بس .. ولو انتي وافقتي انا متاكد عمي حامد ما حيشتغل بكلام النسوان الفارغ دة .. انا عاوز رايك انتي ما رأي أي زول تاني يا بت الناس انا خاتي بالي ليك من زمان وكنت منتظر نادية تتزوج عشان ما يقعدوا يقولوا لي لازم الكبيرة قبل الصغيرة .. لكن خلاص ما قادر اصبر اكتر من كدة .. بقيتي ما بتطلعي من تفكيري .. شايلك معاي في كل حركاتي وسكناتي .. في البيت .. في الشغل .. في الشارع .. يا زولة انا بقيت بهضرب بيك عديل ... ولو على نادية انشاء الله حيجيها صاحب رزقها ..
احست اميرة بغصة عندما سمعت جملته الاخيرة .. وغامت ملامحها الجميلة بضباب اسود وهي تتذكر احداث الليلة الماضية التي تشعرها بالغثيان ... واكتشافها المفجع بزواج شقيقتها السري .. لاحظ عمار جمودها .. وانتفض قلبه من الاحتمال الذي خطر بباله ..
- اميرة ؟؟ .. انتي في انسان تاني في حياتك ؟؟ .. مرتبطة بزول ؟؟ معليش والله انا ما اتشجعت وفاتحتك في الموضوع دة الا بعد ما حسيت انك بتبادليني جزء صغير من الاحساس الجواي .. وقلت مع الايام لمن تعرفي انا بريدك قدر شنو حتديني مشاعرك كلها .. لكن اذا ما بتحسي باي شئ تجاهي وانا كنت متوهم ساكت ومباري امنياتي كلميني وانا انسحب طوالي ..
لا.. لا يا عمار .. مافي زول غيرك ..
خرجت كلماتها باندفاع دون ان تملك السيطرة لايقافها .. واحست بعدها بخجل قاتل جعل الدماء تصعد الى وجهها وتزيده فتنة وجمالاً .. بينما احس عمار بفرحة طاغية جعلته يقفز من كرسيه كطفل صغير حصل على هدية غير متوقعة ... لفتت حركته بعض الانظار الفضولية فرمقتهما بدهشة جعلت اميرة تنكمش حرجاً وخوفاً خصوصاً عندما تقابلت عيناها مع عيني بدرية الغاضبتين فهبت على الفور من جلستها وهي تهمس لعمار ..
الليلة !! ... بدرية شافتنا قاعدين مع بعض .. هسة تجري تكلم امي السرة وتعمل لينا مشكلة ..
امسكها عمار من يدها واجلسها دون ان يعير بدرية التفاتاً .. سحبت اميرة يدها بسرعة .. لكن حركة اختها المتوترة انبأتها بانها قد رات ما يمكنها به ان تشعل نار الحرب .. امتقع وجهها وهربت منها الكلمات .. احس عمار بما يعتمل داخلها فحاول طمأنتها ..
- ما تخافي يا اميرة .. احنا ما بنعمل حاجة غلط .. انا في اقرب فرصة القاها حافتح الموضوع مع عمي حامد .. وانشاء الله ربنا يسهلها .. انتي كل المطلوب منك لمن يسالك تقولي موافقة ..
ثم اضاف غامزاً وبلهجة حنونة تحمل الآف المعاني
- يعني احتمال الشهر الجاي زي المواعيد دي تكوني مرتي ...
دخلت بدرية كالعاصفة الى غرفة السرة المكتظة بالضيوف ... كانت ترتعش من الغضب .. ومن عينيها تنطلق شرارات الغيظ والغيرة ... لم تابه برهط النساء المستغرق في حوارات صاخبة تتخللها الضحكات وقفت امام سرير والدتها المندهشة من هيئتها الغريبة .
امي ... شفتي عمار قاعد مع اميرة بت نعمات وطاقيين الونسة والضحك ...خيم على الغرفة صمت فضولي مترقب .. استدارت العيون وتركزت على السرة التي تحفزت من اتكاءتها الخاملة بعد ان استفزتها كلمات ابنتهاالهستيرية ...
- قاعد معاها وين ؟؟ وبيقول ليها شنو ؟؟!! ...
- ما سمعتهم يا امي .. لكن شكلها كان مبسوط وهو زاتو ما حاسي بالدنيا حواليهو ..
انتبهت السرة للعيون الفضولية التي تترقب ردة فعلها ... استعادت سيطرتها على نفسها وامرت بدرية بحزم
- خلاص اسكتي هسة وخلي الموضوع دة لبعدين .. امشي شوفي بلقيس محتاجة لشنو وساعديها ... يلا امشي ..
- لكن يا امي ...اسمعي الكلام يا بت وامشي هسة ...
خرجت بدرية بزمجرة عنيدة تتبعها التعليقات الهامسة .. واحست السرة بنذر الخطر تقترب من حلمها .. وبيد القدر تمتد لتلهو بابنتها كما لهت بها منذ زمن طويل ... لكنها لن تستسلم هذه المرة ... سوف تحارب من اجل ابنتها ... تلك الحرب المؤجلة التي لم تخضها لاجل نفسها في الماضي ..
في الزقاق الضيق الهادئ اتكأت جاكلين بدلال على سيارة ابراهيم وهي مستغرقة تماماً في الاستماع الى كلمات ناصر بصوته الهادئ وتأمل ملامحه المتناسقة ... كان مربوع القامة بلون قمحي نضر وعينان واسعتان شديدتا السواد تنبعث منهما لمعات ودودة .. تغطى جبينه العريض بلفائف من الشعر الاسود الناعم تدلت حتى اذنيه المرفوعتين الى الامام .. احست جاكلين بالافتنان وهي تتابع حركات اصابعه الطويلة الرشيقة باظافرها القصيرة المرتبة التي تشاركه التعبير بلغة تنافس الكلمات .. انساها استغراقها فيه حذرها فلم تنتبه للبص الصغير وهو يقف بمحاذاة الزقاق ونسختها الاخرى تنزل منه وهي تحتضن كتبها وتتوجه نحوها بخطوات متحفزة ..
جاكلين ؟؟!! ... انتي واقفة هنا بتسوي شنو ؟؟ وشنو الموقفك مع البني آدم دة ؟؟!! المفاجأة والخوف الجما جاكلين واصبحت كالتمثال وهي تواجه توامتها الغاضبة .. ساكتة مالك ؟؟ القطة اكلت لسانك ؟؟ ما تردي ...
عندما اجابها الصمت مرة اخرى قبضت على ذراع شقيقتها بيد قوية وجرتها ورائها ..
- قدامي على البيت .. خلي ماما وجمال وخالو الفاكين ليك الحبل على القارب يشوفوا انتي بتعملي شنو من وراهم ..
حاول ناصر صد هجوم جانيت على فتاته فسد الدرب بجسده
- لحظة يا جانيت .. خليني اشرح ليك ..
عندما التفتت اليه بعينان تقدحان شرراً .... بدت شديدة الاختلاف عن توأمها الى حد بعث فيه القشعريرة ..
انت تخرس خالص .. انا ما عندي معاك كلام .. وابعد عن سكتي احسن ليك ...ازاحته عن طريقها بضربة من كتفها وكانت خطواتها اقرب للهرولة وهي تشد وراءها شقيقتها العاجزة عن التصدي لها .. احست جاكلين بالاذلال من نظرات ناصر المندهشة فانتزعت ذراعها من يد جانيت بعنف وهي تصرخ فيها ..- جانيت .. اوقفي وبطلي البتسوي فيهو دة .. انا ما عيلة صغيرة تجريني وراكي .. ما ليكي دعوة بي ... عاوزة تكلمي ماما وخالو وجمال ؟؟ امشي كلميهم .. انا ما خايفة ولا عملت حاجة غلط .. مجرد اني واقفة باحترام بتكلم مع زميلي ما بيديك الحق في انك تعامليني وتعامليهو بالطريقة الوقحة دي ...- انا الطريقتي وقحة يا جاكلين ؟؟ يشهد ربنا ما حد وقح غيرك .. اصبري بس لغاية ما نصل البيت كان المشهد صاخباً في المنزل الصغير خصوصاً بعد ان استدعت جانيت كل افراد العائلة ..شفتي يا ماما ؟؟ شفتي بتك بتعمل في شنو ؟؟ امبارح لمن قلت ليك سبهليية وما مسئولة زعلتي ..- في شنو يا جانيت ؟؟ جايبانا على ملا وشنا وبتصرخي كدة ليه ؟؟ اختك عملت شنو ؟؟- ابدا يا ستي ... كل الموضوع اني نزلت من بص الكنيسة ولقيتا واقفة تتقصع مع الولد الحبشي الاسمو ناصر ..انتهرها جمال بعنف ..
اتادبي يا بت واتكلمي كويس ... شنو تتقصع دي ؟؟!! وبعدين لو قاصدة بالحبشي جمال ولد عمي إميل لازم تعرفي انو ابوه انسان محترم ومن نفس منطقة بابا .. وما معنى انو امو حبشية تقولي عليهو حبشي .. من متين الاولاد بينسبوهم لامهاتهم ؟؟ حبشي ولا قبطي !! .. دة ما مهم .. المهم شوفوا بتكم واقفة معاهو بتسوي شنو ..ساد الصمت بعد جملتها الموحية وتركزت الانظار على جاكلين التي اصبح وجهها بحمرة ثمرة الطماطم
ماما صدقيني انا ما عملت حاجة غلط .. وقفت معاهو في عز الضهر .. وفي مكان أي زول ممكن يشوفني فيهو .. وبعدين ناصر انسان محترم .. وبصراحة .. هو عاوز يتقدم لي ويخطبني ..اعتلى الوجوم جميع الوجوه .. ولم يكسره الا ضحكة جانيت الهازئة ..
يخطبك ؟؟!! شفتي يا ماما ؟؟ جالك كلامي ؟؟ .. بتك الشاطرة المؤدبة بتاعت كلية الطب عاوزة تفضحنا وتخلي سيرتنا لبانة وسط الاقباط .. والمسيح .. لو اعمامي سمعوا الكلام دة الا يضبحوك .. اصلاً هم من زمان قالوا انك اتدلعتي زيادة عن اللزوم وخلوك تعمل الانتي عاوزاهو من غير رقيب .. وآدي النتيجة .. عاوزة توسخي عيلتنا الطول عمرها نضيفة بواحد حبشي ..رفعت رجاء يدها وصفعت ابنتها بقوة دفعتها عدة خطوات الى الخلف ..
حسك عينك يا جانيت تجيبي سيرة اعمامك في البيت دة تاني .. واياك تلمحي انو انا ما ربيتكم كويس .. انا ضقت المر عشان اكبركّم واعلمكّم وابقيكم احسن ناس ... عشانكم نسيت نفسي ونسيت الدنيا كلها ... ابوكم مات وانا في عزّ شبابي .. وياما جوني عرسان كان ممكن اتجوز واعيش حياتي .. بس قلت لا .. اولادي اولى بي من أي حد تاني .. حتى خالكم خلى الوراه والقدامو وجا قعد معاي عشان اربيكم .. انا الطول عمري معززة في بيت اهلي بقيت ابيع البسطرمة والسجك واخيط الهدوم عشانكم .. عشان ما تحتاجو لحد .. ولا تحسوا انو في أي شئ ناقصكم .. اعمامك عندهم القروش زي التراب ... ما فكروا يوم يساعدوني بشئ .. حتى حق ابوكم في الميراث اكلوهو وما رضوا يدونا ليهو وبرضو سكت وما عملت معاهم مشاكل عشان خاطركم .. وانتي كل يوم والتاني جاية تهدديني بيهم !! اعمامك ما ليهم حكم على بيتي واولادي فاهمة ولا لا ؟؟!! ...
كانت جانيت تبكي بحرقة وهي تضع يدها مكان الصفعة واصبحت كتلة من الغضب المتحرك...
انتي بتضربيني انا يا ماما ؟؟!! ... بتضربيني بدل ما تضربي بتك الماشة على حل شعرها ؟؟!! وانا الكنت قايلاك خايفة على سمعة العيلة دي ... اتاري انتي ولا هاميك
هدر صوت الخال الذي ظل صامتاً طيلة فترة النقاش
اخرسي يا بت يا قليلة الادب ... تعرفي لو في واحدة ما اتربت كويس في العيلة دي تبقي انتي ... ولو سمعتك تاني بتعلي صوتك على امك ولا بتكلميها بالصورة دي انا مش حاضربك وبس .. انا حامسح بيك الارض ..
اصبح صوت جانيت هستيرياً وهي تصرخ
انتو كلكم واقفين ضدي ؟؟!! .. بس لازم تعرفوا انكم كلم غلط وانا صح ... وبكرة تندموا على البتعملوهو فيني ... اتهنّوا ببعض .. انا مخلية ليكم الجمل بما حمل وماشة عند اعمامي ..
وقبل ان يتمكن احد من ايقافها كانت قد التقطت حقيبة يدها وركضت خارجاً ... انهارت رجاء باكية فالتف حولها شقيقها وابنها .. بينما وقفت جاكلين وقد احست بعبء الذنب يثبت قدميها على الارض فلم تستطع حراكاً .. ادراكها بانها قد تسببت بهذه المشكلة في بيتهم الهادئ اشعرها بتعاسة عميقة عبرت عنها دموعهاالغزيرة .. عندما هدأت رجاء نهضت بتثاقل واتجهت الى غرفتها دون ان تنبس بكلمة .. تبعها شقيقها المشفق عليها .. بينما انسحب جمال الى غرفته وهو يرمق جاكلين بنظرات لائمة .. تركها وحيدة يملأها احساس بالعزلة والخوف ...



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-11-14, 01:09 PM   #17

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


الفصل السادس عشر

وقفت بلقيس شاردة وهي تتابع بنظرات حزينة مؤخرة السيارة التي تبتعد بعد ان اقلت رحمة وزوجها احست بخواء يستوطنها وكآبة تملا روحها ... كانت المرة الاولى التي تبتعد عنها احدى ابنتيها ... بدأ التراب الناعم يتسرب من قبضة يدها المضمومة فاحكمت تماسك اصابعها حتى لا تسقط منه ذرة وتضيع خطوات ابنتها التي انحنت لا شعورياً تجمعها من الارض وهي تتذكر كم مرة تصرفت امها وجدتها بنفس الطريقة وهن يتحججن بان قبض تراب خطوات المسافر يعيده سريعا الى اهله .. وضعت حفنة التراب بحرص في طرف ثوبها وربطته باحكام .. مسحت دموعها وهي تحتضن منال التي كانت تنافسها في البكاء .. أتت نحنحة ود العمدة لتنبيه جمع النساء بانتهاء طقوس الوداع .. وقبل ن يطلق التنبيه الثاني كان الجميع قد سارع بالدخول الى المنزل ..
تجمع من تبقى من الرجال في المصطبة العالية امام الديوان وتصاعدت في الجو رائحة الشاي بالنعناع .. جلس حامد بهدوء وهو يراقب تقدم عمار نحوه .. ابتسم مرحباً به وافسح له مكاناً بجانبه كم تمنى لو رزق بولد يشبه وسرح خياله في طيف وليده الذي فضل اللحاق بامه عوضا عن البقاء معه ... برغم حزنه على موته المبكر لكنه حسده على تمسكه بالرحيل خلف امونة ... كان يود لو استطاع ا للحاق بهما .. فالحياة من بعدهما لا تستحق ان تعاش ... ربما لو عاش ابنه لكان شبيها بعمار ...
- عم حامد .. كنت عاوزك في موضوع كدة بس خايف الوقت يكون ما مناسب ...
- قول يا عمار ..كل الاوقات مناسبة ليك ..
- عم حامد .. انا بحس بيك زي ابوي بالضبط .. عشان كدة ما عاوز الف وادور وحقول العاوزو مباشرة .. انا يشرفني جداً وابقى اسعد انسان في الدنيا لو وافقت اكون راجل بتك ...
عبرت الدهشة ملامح حامد بسرعة واستقرت في العينين الواسعتين .. .. رفع يده وربت بها على كتف عمار .. اتسعت ابتسامته وهو يرى القلق والترقب يعتصره ويتجلى في حركات جسده المتوترة
- عاوز تعرس يا عمار ؟؟!! ... والله خيراً تفعل .. العرس بدري عصمة للراجل من حاجات كتيرة ... لكن انت ما شايف بدرية لسة صغيرة ؟؟!! ... ما بتقدر تصبر شوية لغاية ما تكمل الثانوي العالي على الاقل ؟؟!! ...
اكتسى وجه عمار بشحوب شديد .. ... تقطعت كلماته واتسعت عيناه المعلقتان بشفتي ود العمدة الذي استغرب رد فعله المذعور ...
- مالك يا عمار ؟؟ انت شايف انها بعيدة ولا شنو ؟؟!! .. ما تخاف الزمن بقى يجري سريع .. وكلها سنتين ولا تلاتة وبت خالتك تخلص قرايتها ونديك ليها ... اصلا هي ما بالحيل على الدراسة وما اظنها تقول عاوزة تقرا الجامعة .. حتى لو طلع في راسها دخول الجامعة تدرسها من بيتك ..
- عم حامد انا ما باتكلم عن بدرية .. انا عاوز اميرة ..
ساد صمت ثقيل بين الرجلين وتبادلا نظرات حافلة بالاسئلة .. اخيرا نطق حامد بصوت هامس ..
- اميرة بت نعمات ؟؟!! .. يعني ما بدرية بت خالتك ؟؟ !! ...
- اميرة بتك يا عم حامد ... انا عارف الموضوع دة حساس وممكن يخلق مشاكل كتيرة ومن ما فكرت فيهو انا متوقع الممكن يحصل لمن خالتي السرة وامي يعرفوا .. لكن انا اتكلت على الله وعليك .. لاني عارف لو انت وافقت ووقفت معاي مافي زول تاني بيقدر يقول كلمة ... بدرية صحي بت خالتي وما فيها كلام ... لكن يا عمي القلب وما يريد .. وانا عاوز اميرة من زمان بس كنت منتظر اقيف على رجليني في الشغل وابقي في وضع يخليني جدير بيك وبيها ..
غمرت حامد موجات من التعاطف بعد كلمات عمار الصريحة المخلصة .. اطرق تحت وطأة ذكريات زمن كان فيه مثله مليئا بالحب والاحلام ... يتوق للزواج بمن احبها ... اعترته مرارة عندما استعاد احساس اللحظة التي اضطر فيها للتخلي عن حلمه لاجل واجب فرض عليه ... احس كأن تاريخه يعيد نفسه مع عمار ... كان الفارق بينهما ان القدر وضعه في موقع المتحكم وصاحب القرار ... ابهجته فكرة مقدرته على رد الصفعة القديمة ... فرفع راسه بتصميم ..
- ابشر يا عمار .. اديتك اميرة .. ومافي قول بعد قولي ...
في تلك الليلة وبعد ان ودع حامد آخر ضيوفه .. تهيأ لخوض المعركة ومواجهة العواصف التي ستهب عليه من جهتين ... اتجه اولاً الى بيت نعمات .. احس بالغرابة وهو يطأ العتبة الامامية للمنزل .. محاولاً ان يتذكر آخر مرة زاره فيها ... هل مر شهر ؟؟ او ربما شهران !! كان في اعماقه موقناً بفداحة الظلم الذي يوقعه على نعمات ... زوجته المكابرة التي تخفي احاسيسها خلف قناع شفاف لم يعجز يوماً عن رؤية ما تحته .. كان يحس برغباتها بمجرد النظر الى عينيها .. ويشعر باحتياجها اليه من حركات جسدها ورائحته .. لكنه كان عاجزاً عن تلبية دعواتها السرية .. لقد فقد الرغبة في أي تواصل حميم مع نسائه منذ وفاة امونة .. حاول ان يجبر نفسه على ارضاء زوجتيه .. فاعفته السرة من واجبه تجاهها واعلنته صراحة عن عدم رغبتها في أي علاقة زوجية...
- حامد .. انا عافياك لله والرسول من الشئ دة .. انا خلاص كبرت وما بقى فيني حيل ولا مزاج للحاجات دي .. العيال زاتهم كبروا .. وعيب بعد دة نرقد مع بعض في اوضة واحدة .. وفر طاقتك لنعمات .. هي لسة صغيرة ومحتاجة ... والله يقدرك تكفيها..
اربكته صراحتها الفجة .. وفي نفس الوقت رفعت عنه عبئاً ثقيلاً ... لكن نعمات ما زالت في قمة انوثتها واحتياجها الجسدي والمعنوي برغم اعتصامها بكبرياء عنيد يرفض ان يقر باحاسيسها ... لقد حاول منذ فترة ان يكافئ صبرها الطويل واحترامها لحزنه بعد وفاة امونة وطفله... ارتمى في احضانها كخرقة بالية جاهدت هي في رتق ثقوبها بكل ما تملكه من خبرة ومهارة .. تفننت في محاولتها لتحفيز مشاعره وجعله الرجل الذي عرفته منذ زمن طويل ... فوصلت الى نتيجة متواضعة لم ترض طموحها ... ولم تشبع جوعها الذي طال امده ... .. بعدها احس بالخجل وانسحب الى معتزله بعد ان تاكد بانه لم يعد يصلح لرفقة أي امراة ... اعتاد تفادي نظرات نعمات اللائمة .. واعتادت هي هجره لها ...
- خير يا حامد ؟؟ ... في شنو ؟؟!! ..
- انشاء الله خير يا نعمات ... اميرة جاها عريس ..
- عريس ؟؟ لاميرة ؟؟ طيب ونادية ؟؟!! ما كنت تقول ليهم الكبيرة اول وبعدين الاصغر منها .. ودة منو دة العريس دة ؟؟ ولد منو واهلو منو ؟؟!! ...
كان سيل الاسئلة يندفع من فم نعمات بلا توقف وقد تضاربت مشاعرها بين الفرح والغيظ .. اسعدتها فكرة زواج احدى بناتها .. لكنها تمنت لو كانت نادية .. تبسم حامد بتفهم بينما احال الخجل اميرة الى تمثال ينبض قلبه في عنقه ..
- ما تخافي يا نعمات ... كل بت بجيها نصيبها .. ومافي معنى اني اوقف نصيب واحدة عشان التانية .. وبعدين نادية زاتها صغيرة وبكرة يجيها صاحب رزقها ...
صمت حامد مسافة وظهرت على وجهه علامات تردد اخافت نعمات .. لقد ذكرتها باليوم الذي اخبرها فيه بقرار زواجه من امونة ...وفي اللحظة التي همت فيها بالسؤال حسم حامد تردده ونطق بالكلمات التي كانت تتوجس منها ...
- العريس ولد ممتاز ... اصل وفصل واخلاق وادب ..يا ستي العريس عمار ..
احست نعمات بانفاسها تضيق .. وطال صمتها حتى شك حامد بانها قد سمعت كلماته ... وكان السكون الذي يسبق العاصفة .. انفجرت نعمات بعنف لم يتوقعه ..
- قلت شنو ؟؟ .. العريس منو ؟؟ عمار ؟؟ اوعى تقول لي عمار ولد محاسن !! .. عاوزني ادي بتي لولد اخت السرة ؟؟ والله الا اكون مجنونة عشان اوافق على حاجة زي دي .. بتي انا تعرس ولد اخت ضرتي ؟؟ ليه ؟؟ من قلة الرجال في الدنيا دي ؟؟ والله لو بقى آخر راجل .. واميرة تقعد طول عمرها ما تعرس ما اديها للناس ديل ؟؟ ياهو الفضل !! بتي انا تعرس ...
قاطعها حامد مزمجراً ...
- نعمات ؟؟ شنو ماسكاني بتي بتي ؟؟ انتي اميرة دي اشتريتيها من السوق ولا لقيتيها واقعة في الشارع ولا جبتيها براك من الهوا ؟؟ .. اميرة بتي قبل ما تكون بتك .. ولا انتي خلاص لغيتي ابوتي لبناتي ؟؟ ما تتكلمي فارغ وشوفي إنتي بتقولي في شنو .. وبعدين مالو عمار ؟؟ عيبيهو لي !! ولد ممتاز ومافي زول يقدر يقول كلمة عليه .. متدين ومحترم عصامي واخلاقو مافي زيها .. ولا عشان ولد اخت السرة يعني انتي مقومة الدنيا ومقعداها ؟؟!!
- ايوة يا حامد عشان ولد اخت السرة .. انا ما بارمي بتي في النار بيدي .. كفاية الانا شفتو من السرة واهل السرة من يوم ما عرستك .. كفاية الكراهية والحقد والعنصرية الاتعاملوا بيهم معاي ... أديهم بتي عشان يعملوا فيها نفس العملوا فيني ؟؟
خبط حامد الارض بعصاه بعنف دل على انفعاله الشديد ... وقفزت اميرة خوفاً من اولى بوادر غضب ابيها ..
- انا ما عاوز اسمع كلام فارغ يا نعمات.. انا كلمتك من زمان ..طلعي الاوهام دي من راسك اهلي لا بيكرهوك ولا عمرهم اتعاملوا معاك بعنصرية .. اهلي انتي البعدتي وعزلتي نفسك عنهم .. عشان كدة اعقلي وما تخلي الافكار الفي راسك دي تاثر على مصلحة بتك .. عمار انسان كويس وما حالقى احسن منو لاميرة ...
- منو القال ليك ما حتلقى احسن منو ؟؟ اولاد اهلي راقدين بالكوم ... وكلهم زي عمار واحسن منو كمان ... وقبل فترة فاتحوني بانهم عاوزين نادية واميرة .. لكن انا قلت ليهم عاوزين البنات يكملوا تعليمهم وبعداك نفكر في العرس .. والاسبوع الفات ولد بت خالتي اتصل مخصوص من كندا وقال لامو عاوز اميرة .. لمن كلمتني قلت ليها حفاتحك في الموضوع بعد ما تخلص من عرس رحمة .. اها داك برضو انسان متعلم وفيهو كل الصفات الكويسة .. وكمان اتكلم قبل عمار .. يعني هو ...
قطعها حامد بحدة ...
- نعمات .. قصَري كلامك وخليني اتفاهم مع بتي .. اميرة .. رأيك شنو في عمار ؟؟ موافقة عليهو ؟؟!! ...
رفعت اميرة وجهاً شاحباً وهي تنقل نظراتها الحيرى بين ابيها المشبع بالتحدي .. وامها التي تنتفض غضباً .. لم تستطع مواجهة اعينهم المركزة على شفتيها فخفضت بصرها وسالت دموعها بغزارة .. كانت تحاول حسم الصراع داخلها بين قلبها الذي يميل الى عمار وعقلها الخائف من النتائج ... لقد توقعت رفض امها ... لكنها لم تتوقعه بهذا العنف ..
- اميرة .. انا منتظر ردك .. اتكلمي .. عاوزة عمار ولا لا ؟؟...
انتفضت من لهجته الغاضبة .. وقبل ن تنطق بكلمة ردت نعمات ...
- طبعاً ما عاوزاهو .. انت ما شايفها بتبكي ؟؟!! في واحدة عاوزة ليها زول بتبكي لمن يسالوها ؟؟
- اسكتي يا نعمات انا ما باسالك انتي .. ردي يا بت .. عاوزة عمار ولا لا ؟؟!! ...
- ما عارفة يا ابوي .. ما عارفة ...
هبت نعمات من كرسيها بعصبية تجلت بوضوح في العرق الذي قفز من جبينها وهو ينبض بجنون ..
- ما عارفة ؟؟!! .. يعني شنو ما عارفة يا اميرة ؟؟ انتي مفروض تقولي لا بدون تردد .. ولا نسيتي محاسن ام عمار دي بتكرهني قدر شنو ؟؟ نسيتي بتعاملني كيف ؟؟ حتعرسي ولدها كيف يعني ؟؟ انتي عاوزة تكرري غلطتي تاني ؟؟!! ..
التفت حامد الى نعمات بعينان تقدحان شرراً ... واصبح صوته هادرا كالرعد ..
- غلطتك ؟؟ انتي بتعتبري زواجك مني غلطة يا نعمات ؟؟ .. واكتشفتي الغلطة دي متين ؟؟ وما كلمتيني ليه عشان اصلحها ليك ؟؟
انكمشت نعمات من زلة لسانها التي فضحت ما يدور باعماقها منذ زمن طويل ... احست بالدوار يكتنفها وغامت عيناها بالدموع .. ارتمت على الكرسي بعد ان ضاعت منها الكلمات .. تجاهلها حامد والتفت الى اميرة الباكية ..
- انا بسألك للمرة الاخيرة يا بت .. عاوزة ولا ما عاوزة ؟؟ ...
تنقلت عينا اميرة بحيرة بين والديها وخرجت كلماتها خافتة ..
- ابوي انا ما عاوزة تحصل مشكلة بينك وبين امي بسبب الموضوع دة ... اذا وجود عمار حيخلق مشكلة انا ما عاوزاهو ..
داهمتها موجة من البكاء العنيف فادرات ظهرها وركضت تجاه غرفتها واغلقت الباب خلفها بقوة ارتجت لها الجدران ... احس حامد كأن الزمن قد عاد به الى الوراء بصورة رتيبة ... تحولت اميرة الى امونة عندما زارته في المستشفى وهي ترجوه ان يتزوج السرة حتى يتفادى المشاكل مع ابيه وتضار امه بسبب الخلاف .... تذكر انه اذعن وقتها وخالف قلبه واستسلم لسطوة والده ... لكن ليس هذه المرة لن يستسلم .. سوف ينتصر لامونة ... سوف ينتصر لاميرة التي كانت حيرتها دليلا واضحا على تعلقها بعمار ورغبتها في الارتباط به ... لن يدعها تضحي كما فعلت امونة بحبهما .. سوف يؤازرها سوف يهزم القدر هذه المرة ... خرج صوته بارداً مفعما بالتحدي والعناد ..
- شوفي يا نعمات .. انا اديت كلمة لعمار وما برجع منها .. والعاوز يكسر كلمتي بمسحو من حياتي لا يعرفني ولا اعرفو ليوم القيامة ...
اتجه الى الخارج بخطوات واسعة تاركاً اهل بيته كل يصارع احاسيسه الخاصة ... واتجه مباشرة الى البيت الكبير وقد تحفزت مشاعره بعد المواجهة مع نعمات وقرر ان يحسم كل الامور في تلك الليلة ...
قوبل دخوله بنفس الدهشة التي اثارها في البيت الآخر ... هبت بلقيس من جلستها ما ان راته ...
- ابوي !! ... اهلاً اهلاً ... ادخل ما معانا زول غريب ...
كانت بدرية تجلس عند قدمي امها بعد ان رفعتهما على حجرها ويداها تمسدهما بحنان ... حاولت السرة ان تجلس لكنه امرها بهدؤ ..
- خليك مرتاحة يالسرة .. ما تقومي من رقدتك .. مالك شكلك تعبان كدة ؟؟ ..
اصرت السرة على تغيير وضعها فانزلت قدميها المنتفختين ارضاً وجلست بصعوبة بأنفاس متحشرجة يقطعها سعال عميق ...
- مافي حاجة يا ود العمدة .. دة بس تعب العرس .. يومين راحة وببقى كويسة ...
- حاولي خففي السجاير شوية .. صدرك ما بقى يتحمل ...
كان ممتعضاً من فكرة تدخينها ... لكنه لم يتدخل لايقافها ... كانت في البداية تدخن على استحياء في جلسات القهوة التي تجمعها بجاراتها يومي الاحد والاربعاء وتتخللها طقوس رمي الودع واللعب بأوهام ( الظار ) التي ادعّت السرة تلبسه لها ... كان يحس بالذنب تجاهها بسبب تقصيره واهماله لها فلم يحاول منعها من ممارسة الاشياء التي تسري عنها وتنسيها غيابه طالما ظلت في طي الكتمان ... بعد عودتها من غضبتها الشهيرة في القرية والتي اعقبت زواجه بنعمات .. اصبحت تدخن بشراهة ولم تعد تحرص على كتمان تدخينها .. احس انها تعلن رفضها لزواجه بهذه الطريقة ... فسكت على مضض حتى لا يثير حفيظتها مجدداً .. بمرور الايام اصبح هو من ياتي لها بالسجائر حتى لا تضطر الى ارسال احد لابتياعها .. واصبحت لفافة التبغ بيد السرة شئ عادي لا يثير دهشة واستغراب أي من معارفها ..
- اقعد يا حامد مالك واقف ؟؟ ..
كان في صوتها تساؤل اغضبه وذكره بتقصيره .. قرر ان ينهي ما اتى لاجله بسرعة ويرحل .. لم يعد يتحمل احساس الذنب الذي يتآكله كلما التقى باحدى زوجتيه ..
- انا جيت اكلمك يالسرة .. عمار ولد محاسن جاني قال عاوز اميرة وانا اديتو ...
ندت شهقة مشتركة من السرة وبدرية بينما الجمت المفاجاة بلقيس وشحب وجهها لعلمها برغبات شقيقتها وامنيات امها ... كانت بدرية اول من كسر حاجز الصمت بصوت باك ...
- شفتي يا امي ؟؟ مش قلت ليك ؟؟
خرج صوت السرة قويا غاضبا ومتناقضاً مع شكلها المتعب ...
- عمار قال عاوز اميرة بت نعمات ؟؟!! ... ولد اختي يخلي بتي ويمشي لبت ضرتي ؟؟ والله لو انطبق السما على الارض ما يحصل ..
قاطعها حامد بصوت بارد حازم ...
- عمار عاوز اميرة بتي يالسرة .. ولا انتي نسيتي انها بتي واخت بدرية ؟؟!! ..
- الخوخة التشق حلقها وحلق نعمات معاها .. صحي البت شبه امها .. مش كفاية امها خطافة الرجال دي شالتك مني ومن بناتك ؟؟ كمان تجي هي تخطف ولد اختي من بتي ؟؟ والله الا في احلامهم .. والا كان ياخدو بلا اهلو زي ما امها قلعتك قلعة الضرس من أهلك .. وكان محاسن اختي وافقت ومشت معاهو الا اقاطعها قطاعة الموت والحياة ...
كان رزاز البصاق يتطاير من فم السرة في جميع الاتجاهات ... وارتفع نحيب بدرية ليطغي على كل ما عداه ...
- اسكتي انتي وهي .. ما عاوز اسمع صوت واحدة فيكم .. شنو يالسرة !! انا بقيت طرطور في البيت دة ولا شنو ؟؟!! ما شايفاني راجل قدامك وعاوزة تكسري كلمتي ؟؟!! حرّم .. وعلى الطلاق بالتلاتة .. منك انتي ونعمات .. لو واحدة فيكم فتحت خشمها بكلمة زيادة في الموضوع دة .. الا اكسر العكاز دة في راسها .. انتو قايلني جاي اشاوركم ولا شنو ؟؟!! انا جاي اديكم خبر بس ... انا خلاص اديت كلمة لعمار .. وما كنت ناوي استعجل ... لكن عشان قلة الادب السويتنها دي .. العقد حيكون الخميس الجاي والمرا فيكن تفتح خشمها .. وتنتظر الراجيها ... بلا مسخرة فارغة بتاعت نسوان ...
ادار ظهره وخرج تاركاً الغرفة تسبح في بحر من الحزن والغضب .. اتجه خارجاً يملأه احساس غامض بالرضا .. عندما لامس الهواء ملامحه المتصلبة انفرجت اساريره وظهرت شبه ابتسامة على شفتيه .. كانت اللهفة تسوق خطواته نحو المنزل الصغير في آخر الساحة والذي شهد اسعد أوقات حياته مع امونة ... لقد اعتاد ان يزوره من فترة لاخرى .. يستنشق رائحة ذاكراها العابقة في الفضاء والجدران .. ويبثها لوعته لفراقها .. اليوم سوف يزف اليها خبر انتصاره على القدر الذي يحاول ان يفرق بين قلبين غضين ... سوف يخبرها بانه قد ثأر لها ... وله ....





لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-11-14, 01:16 PM   #18

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


الفصل السابع عشر


كان الصباح غائماً بفعل ذرات التراب العالقة في الجو والتي تدعمها الرياح بحفنات اخرى تكتسحها من الارض وترتفع بها الى اعلى في دوامات صغيرة متتابعة .. احست رجاء بلسعة برد تخترق ملابسها فاحكمت جاكيت الصوف الاسود حول جسدها وهي تسرع الخطى نحو مدخل الكنيسة العريض .. كان الهدؤ يسود المبنى في هذا الوقت المبكر .. احست بالانقباض وهي تسمع طرقعات كعب حذائها على الارضية الاسمنتية الجافة ... ما ان فتحت الباب الداخلي حتى داهمتها رائحة البخور ودفئه .. وملاتها سكينة المكان براحة كانت تحتاج اليها ...اغلقت الباب خلفها ووقفت تنظر بخشوع الى تمثال المسيح المعلق بالحجم الطبيعي في نهاية القاعة الكبيرة ... رسمت علامة الصليب بيدها على صدرها .. اعادت وشاح الدانتيل الاسود الذي انحسر عن راسها الى مكانه وبدات تخطو في الممر الضيق الذي يفصل بين صفوف الكنبات الخشبية المتراصة طولياً بلونها البني الداكن .. كانت تحس بالتعب واعترتها رغبة بالجلوس .. فاختارت طرف كنبة في مقدمة الصفوف وجلست .. رفعت وجهها الشاحب في مواجهة حزم الضوء المتسللة عبر النوافذ الكبيرة التي تغطي جنبات المبنى القديم وهي تتأمل باعجاب لا يفتر دقة الرسوم الملونة على زجاج النوافذ والتي طغت عليها الوان السماء والبحر وحمرة الشفق عند المغيب .. ذكرتها دقات ساعة بعيدة ما اتت من اجله فنهضت بتثاقل واتجهت الى نهاية القاعة .. انحرفت الى اليمين ووقفت امام طاولة عالية وضعت فيها كمية من الشموع تحت صورة مضيئة لمريم العذراء .. شبكت كفيها بقوة امام صدرها ورفعت نظراتها المتضرعة الى التمثال في صلاة صامتة ثم حملت احدى الشمعات واشعلتها ووضعتها على الحامل وهي تجفف بالمنديل الابيض الصغير دمعة حارة انحدرت على
تحاملت على نفسها واتجهت خلف المذبح الى باب مقوس صغير يؤدي الى باحة واسعة تمركزت في وسطها نافورة جافة واحاطت بها اشجار الجوافة والمانجو والنيم ... قادتها خطواتها الى مكاتب الادارة ودقات قلبها تنافس تصارع انفاسها وهي تتوقع رؤية ابنتها التي غادرت المنزل منذ اسبوع ولجات الى بيت عمها الكبير الذي اخبرهم في مكالمة هاتفية مقتضبة ان ابنة اخيه ستظل عنده وامرهم بتجهيز ملابسها واغراضها وتسليمها للرسول الذي سيرسله .. عندما طالبته رجاء الباكية بان يدعها تكلم ابنتها رفض واغلق الهاتف في وجهها بفظاظة جعلتها طريحة الفراش منذ ذلك الوقت .. اخيراً توقفت امام باب خشبي ثقيل طرقته بنعومة ودلفت الى الداخل وهي تبتسم للمراة الاكبر سناً التي احتل مكتبها الضخم ربع مساحة الحيز الصغير .. كانت تبدو ضئيلة بنحافتها الملحوظة وشعرها الفضي المشدود الى الخلف مظهراً ملامح الوجه المتغضن .. ارتسمت على وجهها ابتسامة عريضة حانية وخرج صوتها عالياً بنبرة حادة وهي تحيي زائرتها ...
- رجاء ؟؟!! اهلاً وسهلاً .. ازيك يا وحشة ... وينك ؟؟ من زمان ما شفناك ؟؟!! ..
اندفعت رجاء نحوها وقبلت خديها بحرارة ...
- اهلاً يا ايزيس .. كيفك وكيف اولادك ؟؟ ...عارفة اني متلومة معاك .. لكن يشهد ربنا كل ما انوي اجيك تحصل حاجة واتلخم فيها .. براك عارفة مشاغل الدنيا المخليانا حتى روحنا ما لاقينها .. قسيس نجيب موجود ؟؟ فاضي ولا مشغول ؟؟!! ...
رمقتها ايزيس بنظرة فضولية مستفسرة ..
- موجود بس معاهو واحد من الشمامسة الصغار .. اقعدي اشربي معاي القهوة على بال ما يخلص على الاقل تحكي لي اخبارك واخبار اولادك .. انتي اخوك دة ما ناوي يتجوز ولا شنو ؟؟ هو فاكر روحو لسة صغير .. الفي عمرو اولادهم بقوا طولهم .. انا عندي ليهو عروس ممتازة وكنت ناوية اجيك مخصوص عشان اكلمك في الموضوع دة بت ما بتتفوت يا رجاء .. ادب وتعليم واخلاق ومن عيلة ملتزمة ومرتاحة ..
- والله ياريت .. ايدي على كتفك يا ايزيس .. انا بتمنى انو يعرس ويستقر ويجيب عيال تصدقي انا حاسة بالذنب لانو نسى روحو بسبب مسئوليتي انا وعيالي .. والمسيح يا ايزيس ما بيمر يوم الا واتكلم معاهو في موضوع العرس .. رشحت ليهو بنات اشكال والوان وهو عامل لي ودن من طين والتانية من عجين ..
- خلاص يا رجاء خلي الموضوع دة عليّ .. انا ياما عرست لاولاد وبنات من جماعتنا شوفي الاحد الجاي لازم تجيبيهو معاك الكنيسة يحضر القداس .. وما تجيبي ليهو أي سيرة .. خليني انا اتصرف بطريقتي واعرفهم على بعض .. متاكدة انها حتعجبو .. البت حلوة وبتعجب أي حد .. الا صحي عاوزة اسالك ... ليه جانيت خلت كنيستنا ؟؟ انا بالاول ما صدقت وقلت مستحيل بت رجاء ترتد بالصورة دي .. لكن لمن خلت الشغل هنا وعرفت انها اشتغلت هناك اتاكدت انو الكلام صح ... ليه كدة يا رجاء ؟؟ الحصل شنو ؟؟!! ...
كانت رجاء تستمع الى الكلمات المندفعة من فم ايزيس بقلب واجف ...لقد تحققت اسوأ مخاوفها .. انسلاخ ابنتها من الكنيسة التي تعمدّت فيها وانضمامها الى كنيسة اشقاء زوجها جعلها توقن بانها قد فقدتها الى الابد .. اندفعت دموعها بغزارة وارتمت على الكرسي بعد ان احست بقدميها تلتويان تحت حمل جسدها ... خرجت ايزيس من وراء مكتبها بانزعاج وجلست في الكرسي الملاصق لرجاء .. امسكت يدها بتعاطف وخاطبتها بلهجة امومية حنونة ...
- بسم الصليب ... مالك يا رجاء ؟؟ .. والله لو عارفة سؤالي بيعمل فيك كدة ما كنت سالتك ..لكن انتي عارفة انا طول عمري باعتبرك زي اختي الصغيرة واولادك زي اولادي اهدي وكلميني الحاصل شنو ؟؟ !! ...
قبل ان ترد رجاء فتح الباب خلف مكتب ايزيس وعلى عتبته ظهر فتى يافع بملابس الشمامسة الفضفاضة .. ومن خلفه قسيس نجيب بثوبه الاسود والصليب الفضي الكبير المتدلي من عنقه .. ملات الابتسامة وجهه الصبوح وهو يرحب برجاء ثم تبعتها تقطيبة حيرة لمراى الدموع على خديها ربت على كتف الفتى وامره بالانصراف ثم تقدم نحو رجاء التي انحنت وقبلت يده باحترام .. قادها بصمت تجاه باب مكتبه .. وقبل ان يتواريا خلفه التفت الى ايزيس وامرها بحزم ..
- ما تخلي أي حد يدخل علينا ...
استقر خلف مكتبه القديم وجلست رجاء في مواجهته .. تاملها بصمت العارف وبنظرات مشفقة .. انه يحترم هذه المرأة التي صارعت الحياة من اجل ابنائها .. ورفضت اكتر من زوج رشحه لها برغم شبابها وجمالها .. وكان جوابها ثابتاً لا يتغير ..
- انا بعد ابو اولادي ما عاوزة حد تاني .. بتكفيني ريحتو فيهم .. ربنا يقدرني اربيهم واعلمهم وهم بعدين يشيلوني ..
بذل المستحيل لاقناعها .. لكنها اصرت على موقفها بعناد وتصميم لم تلينه الايام ولا الظروف ..
- كنت متوقع جيتك يا رجاء ولمن اتاخرتي نويت أمر عليك في البيت الليلة ولا بكرة .. الحصل شنو ؟؟ جانيت مالها ؟؟
- كنت جاياك قبل كم يوم يا ابونا .. بس العملتو جانيت هدّ حيلي ورقدت رقدة ما قمت منها الا الليلة وعلى طول جيتك ..هي صحي خلت الكنيسة هنا ومشت كنيسة اعمامها ؟؟ ليه خليتها تعمل كدة ؟؟ انت مش عارف الناس ديل وطريقة تفكيرهم واسلوبهم الغلط ؟؟ ديل متعصبين وعنيفين وبتاعين مشاكل وحياخدوا بتي في سكتهم .. ليه كدة يا ربي ؟؟ يعني انا اربي واكبر واعلم وهم يجوا ياخدوها على الجاهز ويحرقوا قلبي عليها ؟؟ ليه ما منعتها ؟؟ ليه خليتها تمشي معاهم ؟؟ انا كنت مطمنة على وجودها هنا معاك ومع ايزيس وعارفاكم بتاخدوا بالكم منها .. وقلت كلها كم يوم وتهدا وترجع البيت .. وانا الليلة جيت مخصوص عشان ارضيها واسوقها معاي البيت .. لكن هسة خلاص .. بتي ضاعت يا ابونا ... انا عاوزة بتي ترجع لي .. جيبوا لي بتي ..
انفجرت رجاء في نحيب ينضح بالالم .. فهب قسيس نجيب من مكانه وجلس قبالتها ... امسك يديها المرتعشتين وبدا يكلمها بصوت مطمئن وبلهجة ابوية حانية ..
- شوفي يا رجاء .. انا ما حقلل ليك من خطورة مشي جانيت عند اعمامها ... كلنا عارفين طريقتهم الغلط في التعامل وبنرفض اسلوبهم ومعالجتهم للامور .. لكن كمان الانتي بتعملي فيهو دة ما بيجيب نتيجة .. لازم نفكر بهدوء كيف نرجعها .. هي في الاصل سابت البيت ليه .. زعلتوها في شنو ؟؟ احكي لي عشان اعرف احل المسألة ...
شعرت رجاء بتردد طفيف في ترديد اتهامات ابنتها .. ثم قررت ان تخبره كل شئ فهو الوحيد القادر على مساعدتها .. اخبرته عن تشدد ابنتها والمواجهات الدائمة بينها وبين شقيقيها .. حتى الحدث الاخير الذي فجر المشكلة التي التي هجرت على اثرها المنزل .. كان يستمع اليها بانتباه شديد دون ان يقاطع حديثها المتهدج حتى افرغت كل مخاوفها بين يديه .. اعتدل في جلسته وبدت علامات الجدية على محياه ..
- يا ريت لو كنتي جيتيني من بدري يا رجاء .. على الاقل كنت اتكلمت معاها ولحقتها قبل ما الافكار الغريبة ددي تسيطر عليها .. يمكن انا متفق معاها في حاجات زي عدم التزام جمال بالكنيسة برغم انو ولد شاطر واخلاقو ممتازة .. لكن فعلا ما بيجي هنا الا نادراً .. ما بيحضر قداس الاحد بانتظام وما بيشارك في أي نشاط ... لكن انا عذرتو عشان ظروف دراسته ومتاكد انو بعد ما يخلص الجامعة حيجي ويبقى عضو فعال في نشاط الكنيسة ... لكن جاكلين ملتزمة وبتشارك في كل شئ .. هي صحي شوية مهرجلة ومرات بتغيب .. لكن عموما من بناتنا الكويسات الانا باعتمد عليهم في أي نشاط .. جانيت بالتاكيد متاثرة باعمامها شديد .. عشان كدة بقت متطرفة في افكارها وتصرفاتها وشايفة الناس كلها غلط .. لكن ما تخافي ... انا حوصي عليها هناك وحخلي حد ياخد بالو منها ..وكمان ححاول الاقيها واتكلم معاها يمكن اقدر اقنعها ترجع هنا وترجع البيت كمان ...
- ياريت يا ابونا .. ياريت تكلمها وتقنعها .. انا ما قادرة اقعد في البيت من غيرها وحاسة انو حتة من قلبي اتقطعت ...
- ما تشيلي هم يا رجاء ... ارجعي بيتك وخلي بالك من صحتك .. انا حاهتم بالموضوع
رافقها حتى الباب وظل يراقبها وهي تودع ايزيس بحرارة وتغادر بخطوات متعبة .. التفت الى المراة النحيلة وخاطبها بصوت شارد مهموم ..
- تعرفي يا ايزيس .. رجاء عندها حق في خوفها على بتها ... انا سمعت كلام كدة انو اعمامها بدوا يشجعوها تطلع حملات تبشير في الحتت لبعيدة .. وانتي عارفة حملات التبشير ممكن تتعرض لشنو ودي بت صغيرة وما عندها خبرة .. ومرات الحماس مع عدم الخبرة بيبقى خطر ...
تتمت ايزيس بصوت خافت ..
- يا يسوع .. دي كانت بتقى مصيبة لو الكلام دة طلع صح .. ولو رجاء عرفت حتقع من طولها ..
- انا ما كلمتها .. وانتي كمان ما تجيبي ليها سيرة الموضوع دة خالص لغاية ما انا اتاكد واحاول اتكلم مع البت واقنعها ترجع .... برغم اني عارف كمية المشاكل الممكن ادخل فيها مع الجماعة ديل لو فكرت اقلعها منهم ... هم خاتين قانون انو البيدخل معاهم ما يطلع منهم تاني الا على ظهره ...
دخل مكتبه واغلق بابه تاركاً ايزيس في حالة خوف وقلق ...





لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-11-14, 02:09 PM   #19

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


االفصل الثامن عشر


جلست محاسن في الكرسي الملاصق لسرير السرة بتوتر تنبئ عنه حركة قدميها المتقاطعتين اللتين تهتزان بعنف .. كانت ملامحها المتجهمة ونبرة صوتها الحادة تدلان على غضبها ..
- اعمل شنو يالسرة ؟؟ .. ابو عمار حلف عليّ طلاق لو ما جيت معاهو نخطب بت نعمات .. لكن انا اصريت اجيك الاول واوريك الحاصل عشان ما تزعلي مني ...
نفخت السرة دخان سيجارتها بعصبية تبعتها سعلة قوية .. وعلت وجهها ابتسامة متشنجة ساخرة ..
- شنو قصة حلفان الطلاق الواقعين فيها الرجال ديل اليومين دي ؟؟!! هم قايلين روحهم بمسكونا من يدنا البتوجعنا ؟؟ ومالو الطلاق ؟؟ لا حرام ولا عيب .. الطلاق حق بنات الرجال ...
- سجمي يالسرة !! طلاق شنو البتتكلمي عنو بعد العمر دة ؟؟ دي فضيحة تقعد لينا لجنى الجنى .. والناس تقول طلقونا بعد ما بقينا حبوبات .. انا برّيت قسم ابو اولادي وجيت معاهو .. لكن رجلي ما بشيلها اوديها لبيت نعمات .. باقعد معاك هنا عشان اوريها اني ما دايرة بتها .. انا بس لو عرفت قشيرة دي سوت للولد شنو ؟؟!! .. بقى ما شايف غيرها وقال يا هي يا بلاش .. ولا كمان يالسرة ياختي ما شفتي الولد التاني المفعوص المسجم جاني بعد عرس رحمة وقال لي يا امي ما شفتي فاطنة بت ابراهيم بقت سمحة كيف !! عليك الله ما تخطبيها لي .. قلت ليهو والله ياهو الفضل كمان .. دة يكون آخر يوم في عمري كان خليتك تعرس بت حبيبة ..
كانت محاسن تتكلم باندفاع .. لكن نظرة خاطفة الى ملامح السرة انذرتها بالخطر .. فقد تحولت تعابيرها من الغيظ الى الغضب .. ضاقت عيناها وارتفع راسها الى اعلى بتحد ... وخرجت كلماتها هادرة لتؤكد انفعالها ..
- محاسن ؟؟ انتي قلتي لولدك ما يفكر يعرس بت ابراهيم ؟؟ ليه ياختي مالها فاطنة ؟؟!! هو انتي اديتي الكبير لبت المرة الخطفت راجلي ومستخسرة التاني في بت ولدي ؟؟!!
- اجي يا يالسرة !! انتي نسيتي امها منو ؟؟ جدها وحبوبتها منو ؟؟ خيلانها منو ؟؟ عاوزاني ادي ولدي لبت الخادم ؟؟ على الاقل بت نعمات حرة ومرة واصلها ما فيهو كلام .. لكن بت حبيبة ..
قاطعتها السرة بحدة جعلتها تبتلع بقية كلماتها ...
- هوي يا محاسن هوي ... اوعي لروحك وشوفي انتي بتقولي شنو .. فاطنة ما بت حبيبة ... فاطنة بت ابراهيم ولد ابراهيم ود حسن الامين العمدة ... حبيبة دي قربة وفرغّت ... والبيابا بت ولدي الواحد معناها اباني انا زاتي .. يا اختي يا بت امي وابوي يا العاملة فيها متضامنة معاي .. جاية تقولي لي بت نعمات حرة ومرة ؟؟!! .. سمح وقت كدي المقعدك هنا شنو ؟؟ ما تقومي تمشي ليهم ...
- انتي بتطرديني من بيتك يالسرة ؟؟ دة جزاي الابيت امشي مع ولدي واول فرحتي عشان خاطرك ؟؟ ... سمح ياختي ..كتر خيرك .. لكن انتي ما غلطانة .. انا الغلطانة العملت ليك خاطر اكتر من راجلي وولدي ..
هبت من مكانها بغضب واندفعت خارج الغرفة كالعاصفة وكادت تكتسح في طريقها بلقيس التي انحرفت وهي تجاهد للحفاظ على استقامة كوب العصير بعد ان مال وتدفق محدثاً فوضى في المكان..
- مالك يا خالتي محاسن !! .. ماشة وين ؟؟ ...
- ماشة بيت نسيبتي ... يمكن تحترمني اكتر من اختي ..
في منزل نعمات امتلات الصالة الفسيحة بالرجال بينما ضاقت غرفة الضيوف بقريبات صاحبة المنزل وصديقاتها .. حول طاولة الطعام في المطبخ جلست نعمات وقد بدت علامات الغيظ والغضب على ملامحها وهي تستمع الى كلمات امها الهامسة ..
- دة كلام دة يا نعمات ؟؟!! .. يجونا اخوات الولد بدون امو وخالاتو ؟؟ انتي كيف توافقي على حاجة زي دي ؟؟ اميرة دي ست البنات على حدهن وتشرف أي راجل واهله .. عشان شنو امو ما تجي ؟؟ قولي الباقيين اصلهم قاعدين تحت جناح السرة وبيخافوا يزعلوها .. لكن الام ما تجي تحضر عقد ولدها ؟؟ غايتو ديل ناس غريبين بالجد ... هم قايلين روحهم شنو ؟؟ احسن من باقي الله بشنو ؟؟
ردت شقيقة نعمات بنفس طبقة الهمس ..
- هو انتي زاتك يا نعمات بعد المغصة المسويها ليك حامد.. كيفن تدي بتك لواحد من اهلو ؟؟ مالك ما سمعتي بالمثل البقول كفاية من الدستة مغرفة ؟؟ وديل كمان مغرفتهم سقتك الحنضل .. مش كفاية انو حامد عرس فيك وانتي لسة نفسا ؟؟ مش كفاية الطريقة الاتعاملوا بيها معاكي ومعانا من يوم ما عرستي حامد ؟؟
انطمس الهمس الدائر بينهم بفعل زغرودة منغمة عالية اصابت الجميع بالوجوم ...
- دي منو دي البتزغرد بالحماس دة ؟؟
أتت الاجابة من نادية التي دخلت بوجه متهلل ...
- أمي ... حبوبة .. تعالوا بسرعة دي ام العريس جات ...
تبادل الجميع نظرات مشحونة بالدهشة .. نهضت نعمات بتثاقل وخرجت من المطبخ تتبعها امها وشقيقتها .. وما ان وطأت قدماها ارض الغرفة المزدحمة حتى تعالت الزغاريد وبادرتها محاسن بسلام حار ردته نعمات بحرارة مماثلة لا تخلو من التعجب ...
- وينها عروس ولدي ؟؟ نادوها لي اسلم عليها ..
تطايرت النظرات بين نعمات ووالدتها التي تنحنحت باحراج قبل ان ترد ..
- معليش يا محاسن .. ما جهزنا اميرة لقعدة برة عشان الموضوع جا سريع ...
- أجي !! يعني ما حشوف عروس ولدي ؟؟ دة كلام شنو دة يا نعمات ؟؟ وروني مكانها وانا بمشي ليها بنفسي ..
في لحظات اندفع فوج من النساء تتقدمه نعمات قاطعاً الصالة وسط دهشة الرجال الموجودين .. فوجئت اميرة بباب غرفتها يفتح وغابة من الاذرع تمتد اليها وتنقلها من شخص لآخر بينما صمّ صدى الزغاريد اذنيها ... في الخارج تعالت طلقات الرصاص لتعلن انتماء اميرة لعمار رسمياً ...
بعد ان انفض الجمع وخلا المنزل من زوراه .. جلست اميرة في غرفتها هائمة تعبث بخصلات شعرها الناعمة .. ويعبث بها خيالها وقد اكتسحتها سعادة عميقة وتفجرت احساسيها المكبوتة تجاه عمار لتغمرها بفرح لم تظن انها سوف تشعر به يوماً .. ارتسمت ابتسامة عريضة على شفتيها تراقصت على اثرها غمازتيها وتعمقتا في خديها لتضفي على وجهها الفاتن سحراً مشرقاً ... عندما دخلت نادية ونظرت الى شقيقتها ... احست بحسرة تغمرها لعلامات الرضى والسعادة المرتسمة على ملامحها ... وتذكرت يوم زواجها من زاهر .. كان مليئاً بالخوف والتوجس ... حفه الصمت وغاب عنه ضجيج الفرح فلم تسمع صدى زغرودة تطرق اذنيها .. وتوارت فرحتها خلف القلق العميق الذي انتابها بسلامة تصرفها .. لكنها لم ولن تشعر بالندم على قرارها .. زاهر هو رجلها وحب حياتها .. معه تحس بانوثتها كما لم تشعر بها مع احد آخر .. وهو يعاملها كأنها اميرة متوجة على عرش النساء ... لن تخذله ابداً .. وستحارب من اجله ان استدعى الامر ...
- مبروك يا اميرة ... ربنا يتمم ليك على خير ...
احتضنتها بشدة .. وترقرقت عيناها بالدموع عندما اتاها الرد التلقائي ..
- الله يبارك فيك يا نادية ... عقبالك ...
ابتعدت عنها نادية وهي تنظر اليها بحزن ..
- انا معرسة يا اميرة ... ولا انتي نسيتي ؟؟!! ..
اختفت كل علامات الرضى والسعادة من وجه اميرة وحلت محلها تقطيبة ضيق عميقة .. انحبست انفاسها عندما عاودتها ذكرى ذلك المشهد المخزي الذي بذلت المستحيل كي تنساه .. لكنه ظل يطفو على سطح ذاكرتها بقسوة وعناد متحديا ارادتها ...
- نادية !! انا مش قلت ليك كلمي امي ؟؟ ما كلمتيها لغاية هسة ليه ؟؟ انا اديتك فرصتك كاملة عشان الكلام يجي منك ما يجي مني انا .. لكن بعد دة ما حتستر عليك .. وحكلمها... انتي يا بت ما قادرة تستوعبي حجم الشئ الانتي عملتيهو ولا ما مقدرة نتائج تصرفك دة ممكن تكون شنو ؟؟!! ...
همست نادية بخجل بعد ان لطمتها هي الاخرى ذكرى المشهد الذي وجدتها فيه شقيقتها ...
- ما تخافي ما حتكون في نتايج .. حالياً على الاقل .. انا وزاهر متفقين .. وهو عامل حسابو كويس ..
اعتراها قلق قوي بعد ان نطقت كلماتها .. دخول اميرة المفاجئ اتى في لحظة حرجة ... لحظة كان زاهر يجد صعوبة في التحكم فيها حتى في الاوقات العادية .. لكنها في تلك الليلة حدث شئ لم تعتده في لقاءاتها السابقة مع زوجها ... شئ لم تفكر فيه وقتها لاحساسها بالخوف والحرج وانشغالها بتبرير موقفها .. لكن بمرور الايام تزايد قلقها ولم تجرؤ على سؤال زاهر عما حدث في المكالمات التلفونية المختلسة التي كانت تجريها عندما تضمن خلو المنزل من الجميع .. اصبح مرور الايام كابوس يجثم على صدرها ويخنق انفاسها ... وبات العد هوايتها المرعبة ... عندما تم ذلك اللقاء المشئوم كان قد مر اسبوع على انقضاء دورتها الشهرية .. والآن شارفت الاربعة اسابيع على الانتهاء .. الايام القليلة القادمة ستحدد صحة مخاوفها من عدمها ... لم تعد تملك غير الدعاء لله بان لا يكشف سترها ... اخرجها صوت اميرة الممتعض من افكارها المتلاطمة ..
- نادية !! انا ما بتكلم عن حمل مع انو بعد الشفتو اليوم داك حيكون احتمال وارد .. انا هسة بتكلم عن فضيحتنا قدام الناس لمن يعرفوا انتي عملتي شنو ... عٌرفي يا نادية ؟؟!! انتي يا بت ود العمدة تعرسي عُرفي ؟؟!! .. بالدس وكانك بتسرقي ؟؟!! ومنو ؟؟ واحد نكرة .. لا اصل ولا فصل ولا اسم يشرف ... واحد اكتر شئ كان ممكن يوصل ليهو في الظروف العادية انو يشتغل عند ابوي في الدكان ...
- أميرة !! .. انا قلت ليك قبل كدة ما تتكلمي عن زاهر بالطريقة دي .. دة راجلي وانا باحبه ... هسة انا لو اتكلمت ليك عن عمار بالطريقة دي بترضي ؟؟!!
- تتكلمي عن عمار ؟؟!! هو عمار فيهو حاجة تتكلمي عنها ... وهو اصلاً في مقارنة بين عمار وزاهر بتاعك دة ؟؟!!
- ليه مافي مقارنة يا اميرة ؟؟ راجلي ناقصو شنو من راجلك ؟؟!! .. زاهر شاطر واول دفعتو كل سنوات دراستو في الجامعة ... وظيفتو مضمونة اول ما يتخرج .. انسان خلوق وشهم وحنين وبيحبني عشاني انا .. لشخصي ... مش عشان انا نادية بت حامد الامين ود العمدة .. ولعلمك .. زاهر من اسرة كبيرة ومحترمة في منطقتهم .. يعني ما زول أي كلام زي ما انتي متخيلة ....
- كلام جميل يا نادية .. لكن هل انتي مقتنعة بيهو ؟؟ واذا كنتي مقتنعة بيهو.. ليه عرستي بالدس .. ما كان تخلي يجيب اهلو ويجي البيت .. يقابل ابوي ويطلبك منو رسمي !!
تدافعت الدموع من عيني نادية وهي تستمتع الى لهجة اميرة المهينة بحقها وحق الرجل الذي تحبه ..
- تعرفي يا اميرة قدر ما اقول ليك انا مخذولة فيك قدر شنو ما حتتخيلي .. طول عمري كنت قايلة عقلك كبير وفهمك واسع وبيتخطى عمرك ... كنت قايلاك انسانة واعية ومثقفة ومنفتحة .. كنت قايلة قلبك كبير وبتعرفي يعني شنو انك تحبي انسان ويبقى دنيتك كلها ... كنت معتمدة عليك تقيفي معاي وتسنديني لمن احتاج ليك .. لكن للاسف طلعتي قاسية وقلبك بتحكمو افكار عنصرية تافهة عن لون وجنس وقبيلة .. زيك زي أي واحدة جاهلة مخها ضيق ومتبنية تفكير امها وحبوبتها ...
انخرطت نادية في نحيب متالم جعل اميرة تحس بالذنب لبرهة .. ثم عاودتها ذكرى المشهد المخجل ونظرات زاهر المتحدية .. فغاب تعاطفها الهش في التو واللحظة ...
- اسمعي يا نادية ... ما تفلسفي الامور وتحاولي تطلعي نفسك صح والعالم كلو غلط ... انا بعرف حاجة واحدة بس .. الصح ما بتعمل في الضلمة وبالدس .. الصح ما بيخجَل ولا بيحرج .. الصح بيكون في النور .. قدام العالم كلو ... الصح زي العملوا عمار لمن جا لابوي وطلب يتزوجني والناس كلها عرفت ... اسالي نفسك اذا انتي فعلاً صح ليه حاجاتك كلها مدسوسة ؟؟ !! ...شوفي يا نادية انا باحذرك للمرة الاخيرة ... لو ما كلمتي امي انا حكلمها ...
- تكلميني بشنو يا اميرة ؟؟ ...
صدرت شهقة مشتركة من الفتاتين الغافلتين عن وجود نعمات ... تجمدت حركتهما واصبحا تمثالين بعيون متسعة خائفة ...
- اميرة ... انطقي سريع ... تكلميني بشنو ؟؟ .. اختك عملت شنو وداسيين مني ؟؟
جاوبها صمت اميرة ودموع نادية الغزيرة ...ارتفع صوت نعمات بشكل هستيري وهي ترى حال ابنتيها الغريب ...
- قسماً عظماً لو ما اتكلمتوا سريع الا ارسل اجيب ابوكم واخلي هو يتصرف معاكم .. اتكلمي يا نادية في شنو ؟؟ ... عملتي شنو ؟؟
لم تستطع نادية مواجهة الموقف فركضت خارجة بعد ان تملصت من محاولة نعمات للامساك بها بقوة غريبة امدها بها خوفها ..ووجدت اميرة نفسها وحيدة في مواجهة عيني امها اللتين تطلقان شررا ينذر بالخطر ...
- امي .. عليك الله اهدي .. انتي زولة ست عيا والانفعال ما كويس عشانك ... انا بحكي ليك بس لازم تروقي وتسمعيني براحة .. الموضوع عاوز هدوء لانو أي جوطة فيهو حتعمل لينا فضيحة ...
انتفضت نعمات وشهقت بقوة ...
- سجمي فضيحة ؟؟ فضيحة شنو يا اميرة ؟؟ اختك عملت شنو ؟؟
تكلمت اميرة بصوت منخفض وهي تنتقي عباراتها .. حكت لامها عن الخطوط العريضة دون ان تخوض في التفاصيل .. عندما صمتت اخيرا وهي تهنئ نفسها على لباقتها ورفعت عيناها لتنظر الى رد فعل امها ... فوجئت بها تتهاوى ارضا كقطعة طوب ... تعالت صرخاتها مدوية فشقت سكون الليل وفي لحظات امتلا المنزل بسكان الحوش الكبير فيما عدا السرة التي كانت تشعر باعياء شديد لم يمنعها من اطلاق تعليقها الساخر ..
- تلقاها ما اتحملت فرحة بتها العرسها زينة شبابنا ... الله يشيلها هي وبتها في يوم واحد عيلة خطافين رجال ...
عج المستشفى الخاص باسرة ود العمدة التي رافقت نعمات الغائبة عن الوعي ... وقف حامد يستمع الى الطبيب بانزعاج ...
- للاسف يا حاج حامد .. الارتفاع المفاجئ في الضغط عمل جلطة .. الكويس انكم جبتوها سريع ... احنا حالياً سيطرنا على الضغط ....ونأمل انو الجلطة تكون خفيفة وآثارها بسيطة ...لكن ما حنقدر نعرف حجم الضرر الحصل الا لمن تفوق .. واحنا هسة اديناها مهدئ عشان تنوم اطول فترة ممكنة لغاية ما الضغط ينزل لمستواه الطبيعي يعني لبكرة انشاء الله بتتضح الرؤية .. عشان كدة انا باقترح عليكم كلكم ترجعوا البيت وتخلوها لينا وما تخاف حتكون في ايدي امينة وانا بنفسي حأشرف عليها .. وبعدين هي اصلاً ما واعية بوجودكم .. يعني قعدتكم ما عندها معنى غير التعب ليكم .. وبصراحة اللمة والازعاج ما كويس عشانها وكلما قل عدد الناس الحواليها يكون احسن
- خلاص انا بقعد معاها والباقيين يمشو ... ابراهيم .. سوق اخواتك وارجع البيت ..
تصاعدت جمل محتجة هنا وهناك .. واصوات باكية تطالب بالبقاء تكفلت ضربة غاضبة من عصا حامد على الارض باسكاتها .. وتبع الجميع خطوات ابراهيم العجولة خروجاً ..وقبل ان تختفي اميرة خلف الباب التفتت الى والدها برجاء ...
- ابوي انا حجي بكرة الصباح بدري ..
اجابها بشرود ..
- اتصلي براجلك وخلي يجيبك ... وانت يا ابراهيم امشي السوق واقعد في المحلات لغاية ما انا ارجع...
ادار ظهره واتجه الى غرفة زوجته .. دخل واغلق الباب بحرص .. وقف طويلاً يتامل الاجهزة التي تحيط بها وترسل اشارات منتظمة الى الشاشة المثبتة اعلى راسها .. حمل كرسي صغير من احدى الزوايا ووضعه بالقرب من سريرها وجلس بتعب ينظر الى ملامحها الشاحبة .. احس بالعطف المخلوط بالذنب تجاهها .. لقد ادرك منذ اول ليلة لزواجهما مدى حبها له عندما منحته جسدها واحاسيسها بلا قيود .... لقد حاول ان يبادلها مشاعرها برغم اعترافه لنفسه بانه لم يتزوجها لانه احبها .. لقد اعجبته انوثتها المتدفقة ودلالها ... ارضى غروره انبهارها الواضح به ...شجعه على الارتباط بها رغباته التي نضجت بمرور الايام ولم تعد السرة قادرة على اشباعها ... ودفعته اليها امنيته بالحصول على الولد الذي عزّ حضوره .. كما كان يامل ان يغرق فيها وينسى حبه لامونة ...
لكن بعد مرور عدة اشهر ايقن ان محاولاته للنسيان قد عمقت حبه اكثر للمراة الوحيدة التي عرف معها معنى الحب الحقيقي ... كان قد اعتاد تنسم اخبارها بسرية تامة .. وكما اعتاد ان يحتفل مع نفسه بكل نجاحاتها منذ الشهادة الثانوية وحتى تخرجها من الجامعة .. ظل يشعر بالفخر لتفوقها .. وبفرحة انانية كلما سمع عن رفضها لمن يتقدم طالبا يدها ... وعندما وافقت على الارتباط باحد زملائها في العمل بعد سنتين من تخرجها .. ركب سيارته وسابق بها الريح تجاه القرية ... وفي منتصف الطريق بدات التساؤلات تغزو عقله عن حكمة تصرفه .. كان مدركاً بان امونة سترفض الزواج ان هو طلب منها ذلك ولكن ماذا بعد ؟؟!!.. هل يرغب حقاً في ان يراها وحيدة وتعيسة حتى نهاية حياتها ؟؟!! ... لقد ضحت به وبحبها الكبير له من اجل استقرار اسرته .. هل يكافئها بطلب اناني يحكم عليها بالعنوسة الى الابد ؟؟ .. عندما توالت الاجات الرافضة لانانيته ادار مقود سيارته وعاد ادراجه ... في تلك الليلة دهشت السرة من عنف زوجها ورغبته المتوهجة وقد اعتادته عجولاً ..هادئا وروتينياً ... كان يفرغ شحنات انفعاله في جسدها المستسلم .. وكعادته في لحظة اكتفاؤه .. نطق باسم امونة بصوت حزين مبحوح ...
في ليلة زفافها هرب الى ملجاه المفضل .. جلس في منطقة منعزلة امام النيل وبكى بحرقة .. ومثّل خبر سفرها مع زوجها المبعوث الى الخارج عزاؤه الوحيد .. فهو لم يكن يثق في نفسه وردة فعله إن رآها وقد اصبحت ملكاً لرجل آخر ... .. خلال السنوات التالية انعدمت أي فرص لقاء بينهما خصوصا بعد ان اختار زوجها البقاء في غربته عندما حصل على عرض مغر من احدى الجامعات هناك ... كانت تحضر الى الوطن في اجازات متباعدة ... ولم يلتقيا الا بعد عشر سنوات من زواجها عندما حضرت لوفاة والدتها ... كان قوامها النحيل قد اذداد بضعة كيلوجرامات تشكلت في استدارات ناعمة زادتها جمالاً وانوثة ... بينما احتفظ وجهها بملامحه الطفولية الآسرة التي تحتل ذاكرته باصرار عنيد ... ارتعشت يداه المرفوعتان لقراءة الفاتحة امام وجهها .. وعندما احتضن كفها الرقيق بكلتا يديه وغاص واستكان بدعّة بين كفيه العريضين احس بدوار يكتنفه .. واحتبست انفاسه في حلقه .. هربت منه الكلمات وظل يحدق في تفاصيلها الدقيقة بشوق جائع وهو يتنسم رائحتها العطرة .. كانت هي تتامله بارتباك ونظرة غامضة تراود عينيها الحزينتين ... عندما تحرر الكلام السجين من بين شفتيه .. ادهشته العبارة التي خرجت منه دون ان يملك السيطرة عليها ..
- نسيتيني يا امونة ؟؟!! ...
شحبت من وقع سؤاله .. لكنها اجابته بهمس ناعم ...
- انساك يا حامد ؟؟!! الظاهر انت النسيت !! ... نسيت الكلام القلتو ليك آخر مرة لمن اتلاقينا في المستشفى ؟؟ قلت ليك انت زي دمي الجاري في عروقي .. زي دقات قلبي زي نفسي الطالع من صدري .. عمرك سمعت بدم نسى يجري ؟؟ ولا قلب نسى يدق ؟؟ ولا نفس نسى يدخل ويطلع ؟؟ وقلت ليك كمان مافي راجل ولا مرة بيقيفوا بيني وبينك .. لانو البيني وبينك دة لا بتغير ولا بتاثر ولا بنتهي ...
خنقتها دموعها فصمتت .. لم يدر هل تبكي امها .. ام تبكي روحها .. ام تبكيه هو .. لكنه احس بفرحة كانت قد غادرته منذ سنين ...
- عارفة يا امونة .. كلامك دة حيبقى لي زاد لغاية نهاية عمري ...
خرجا من حالة السحر التي غلفتهما بصراخ نسوة اتين ليقدمن واجب العزاء للابنة المكلومة .. وانعدمت فرصة لقاء آخر حتى عادت الى زوجها وحياتها البعيدة عنه ... مرت السنوات وهو يحمل كلماتها تميمة فرح يتحسسها كلما عصفت به الالام .. وعندما سمع بنبأ وفاة زوجها في حادث سيارة نجت منه هي بجروح استدعت شهور من العلاج في مهجرها قبل عودتها الى الوطن كان احساسه مزيج من الحزن والفرح ... اخيراً اصبحت حبيبته حرة .. ويستطيع الارتباط بها بعد ان تحرر هو ايضاً من وصاية الكل عليه ... تكررت زياراته للقرية واصبحت رعايته لابنة خالته الارملة امراً طبيعياً ولا يثير التساؤل .. وعندما طلبها للزواج قوبل بترحاب من اشقائها الغارقين في حياتهم والراغبين في التخلص من عبء رعاية شقيقتهم الارملة ... ملاته سعادة لا توصف .. وعاد ذلك الفتى العاشق الذي يجهز نفسه للزواج بحبيبته .. رسمت امونة خارطة بيتها بنفسها .. وانتقت كل قطعة اثاث على ذوقها .. فاصبح البيت الصغير جنته .. حاول ان يكون عادلاً بينها وبين زوجتيه ... قسم ايام الاسبوع بينهم بالتساوي .. واضاف اليوم المتبقي لايامها .. كان يرى علامات التانيب والغيظ والغيرة في وجهي نعمات والسرة كلما ذهب لاحداهما .. لكنه لم يهتم .. لقد ارضى الجميع لفترة طويلة .. وحان الوقت ليرضي نفسه .. اصبحت غرف نوم نسائه الاخريات مكان لاداء الواجب .. بينما صارت غرفة امونة هي العش الذي يحتضن حبه ويجعله متلهفاً للعودة اليه كلما غاب عنه ... احياناً كانت تدفعه غيرته من ماضيها لسؤالها عن زوجها المتوفي .. خصوصاً عندما تجمعهما اللحظات الحميمة وتناوشه ذكرى آخر منحته نفسها قبله .. وكانت دوماً تجيبه بابتسامة حانية متفهمة يتبعها صمت يحرق روحه ويقض مضجعه ..
في احدى المرات التي تكور فيها في صدرها كقط كسول بعد وجبة دسمة سالها بغيرة ملحة ..
- امونة ؟؟ كنتي بتحسي معاهو بنفس الاحساس المعاي دة ولا اكتر ولا اقل ؟؟ ... وما تتهربي من الاجابة زي كل مرة .. قولي وانا ما بزعل مهما كان ردك ...
كانت لحظتها تعبث بخصلات شعره الناعمة بحنان وشغف .. فتوقفت يدها عن الحركة .. وعندما رفع اليها نظرات متسائلة وجد عيناها تتأملانه بحزن افزعه ...واتى صوتها الخفيض ليعمق ندمه على الحاحه ...
- يا حامد المرحوم كان طيب شديد .. كفاية انو عرف من اول يوم انو في انسان تاني جوة قلبي .. واتقبل الوضع دة بكل هدوء وتفهم .. عمرو ما طالبني بشئ اكتر من الاديتو ليهو لانو كان متاكد اني مخلصة ليهو ولحياتي معاهو .. واني حافظاهو في بيتو وشرفو .. كان عارف انو الجواي دة شئ اكبر مني ومنو ومن زواجنا زاتو .. انا عملت كل البقدر عليهو عشان اسعدو واريحو .. وهو مقدر الشئ دة .. ولو بتسالني عن احساسي كان شنو في لحظة زي دي ما حقول ليك غير انو الشئ البحسو معاك ما حصل حسيتو في حياتي كلها ...
انقبض قلبه عندما راى دموعها .. احتضنها معتذرا وجففها لها بشفتيه المتعطشتين دوما لعصير عينيها المالح ... بثها حبه واعتذاره فعلاً لا قولاً .. وانتشى بالاصوات الصغيرة التي كانت تصدرها وتعبر بها عن رضاها ... وكانت تلك آخر مرة يحس فيها بالغيرة من شبح زوجها الراحل .. مضت ايامه معها بمذاق الشهد حتى ظن ان لاسعادة اكبر من تلك التي يعيشها الآن ... حتى تلك الليلة .. كان متوسدا صدرها في رقدته المعتادة الوادعة بين ذراعيها عندما همست في اذنه ...
- حامد ... بكرة عاوزة امشي الدكتور ..
انتفض ونظر اليها بذعر ..
- دكتور ؟؟!! ليه يا امونة ؟؟ مالك حاسة بشنو ؟؟
كان محتارا من لمعة السعادة في عينيها والابتسامة المتراقصة على شفتيها ...
- لا ابدا ً ..محتاجة اتاكد من حاجة .. ما تخاف ...
- ما اخاف ؟؟!! كيف يعني ما اخاف ؟؟ امونة انتي عارفة انا ما باحمل فيك شئ ؟؟ قولي لي حاسة بشنو ؟؟ لو في حاجة واجعاك نقوم هسة نمشي الدكتور ..
- نمشي وين نص الليل يا راجل ؟؟ وبعدين انا مافي حاجة واجعاني .. انا بس (غابّة) لي اسبوعين ..
لم يستوعب في البدء المعنى الخفي لكلماتها .. وظل ينظر اليها ببلاهة في انتظار بقية تفسيرها وقد ازدادت دهشته من ضحكاتها المكتومة التي جعلت جسدها يرتج باغراء بين ذراعيه .. ثم بدات المعاني تتسلل ببطء الى عقله ... وفي لحظة انفجر بداخله نور غمر مكامن ادراكه واضاء وجهه فخرجت منه شهقة لا ارادية وسال بصوت تجاور فيه الرجاء مع عدم التصديق ...
- امونة ... انتي حامل ؟؟!! ...
لم يكن قد فكر منذ زواجهما في امكانية حملها باعتبار السنوات الطويلة التي قضتها مع زوجها بدون انجاب .. في واقع الامر لم يكن يهتم .. فزواجه بامونة لم يكن من اجل انجاب مزيد من الابناء .. لقد تزوج بها لاجلها هي .. لا يحتاج لغير وجودها ... فهي الحبيبة والابنة والام وكل ما يرغب فيه في حياته .. لكن فكرة حملها لطفله جعلته يحلّق من السعادة .. انهال عليها تقبيلاً حتى كاد يخنقها بعناقه وهي تضحك بحبور لتصرفاته .. اخيرا عندما استطاعت الكلام اتى صوتها جاداً ..
- حامد .. كدة خلينا نمشي الدكتور اول ونتاكد .. ممكن ما يكون حمل .. احتمال اكون خلاص قطعت عشان كدة دورتي ما جات ....
في عيادة الطبيبة جلس حامد وهو يشعر باضطراب في معدته وقلق شديد عبرت عنه دقات عصاته المتواترة على الارض ...
- مبروك يا حاج .. المدام حامل ...
نزلت كلمات الطبيبة بردا وسلاما على قلبه الملهوف ... احس وكانه يبشر باول طفل في حياته ... وغرقت امونة في بحر من الدلال طيلة شهور حملها التي مرت كالحلم .. وكانت خلالها تزداد جمالاً كلما انتفخ بطنها .. واختل ميزان العدل لدى حامد الذي اصبح يقضي معظم وقته في بيت حبيبته متجاهلاً غضب السرة وثورة نعمات ... كان يقيس تقدم حملها بيديه ومشاعره التي تأججت حتى لم يعد يحتمل فيضانها ... احس كأن الدنيا قد ضحكت له أخيراً بعد طول عبوس ... طارت الايام وتبعتها الشهور وحمل امونة يتقدم بسلاسة ... عندما حان موعد ولادتها اصبح حامد كطفل صغير يترقب حلول العيد ... وٌلد الامين في ظهر يوم صيفي حار .. ونحرت لمقدمه ست عجول وعشرات الخرفان ووزعت بسخاء على المساجد وبيوت الفقراء ... كان حامد يعيش حالة من عدم التصديق لمقدم الولد الذي تمناه طيلة عمره من المراة التي يعشقها ...
عندما اكمل الامين اسبوعه الاول .. توفيت امونة بعد ان باغتتها حمى نفاس غادرة ظلت تصارعها لمدة ثلاثة ايام قبل ان يستسلم جسدها النحيل لترحل مخلفة وراءها زوجاً على حافة الجنون ورضيع رفض تقبّل غياب امه فقرر اللحاق بها بعد عدة ايام .. بكى حامد كالنساء وتحول الى شبح حزين غاضب .. عافت نفسه الاكل والشرب والكلام ... قضى ايام العزاء شارداً في عالم آخر لم يستطع أي كان اختراق اسواره .. بعد انفضاض الجمع انزوى في احدى الغرف البعيدة معتزلاً الجميع ... خرج بعد شهر وقد تغير كل شئ فيه الى الابد ... بدأ وكأن عمره قد زاد عشرون سنة دفعة واحدة فقدت عيناه بريقهما المعتاد .. واكتست تعابيره بجمود مخيف .. لم يعد يحتمل البقاء مع الناس .. قام ببناء غرفة ملحقة بالديوان خارج المنزل ومنع الكل من دخولها ... اصبح عالمه محصوراً بينها وبين بيت حبيبته الراحلة الذي خصص له خادمة تقوم بتنظيفه يومياً .. اضاءة الانوار واطلاق البخور .. اصبح المكان مزاراً يهرب اليه كلما احرقه الشوق .. يجلس طويلاً مع امونة ..يقص عليها احداث يومه ويبثها لوعته على فراقها الذي احرق روحه وجعلها رماد .. ويبكي بوجع غدر القدر به للمرة الثانية..
استيقظت نعمات ونظرت حولها بدهشة .. في البداية لم تستطع تحديد مكان وجودها .. ادارت راسها بتعب لتفاجأ بوجود حامد جالساً في كرسي بالقرب من سريرها .. كانت عيناه المغمضتان وراسه المستند على ظهر الكرسي تدلان على نومه .. على ضؤ الغرفة الشاحب رات نعمات اللمعة على خديه النحيلين .. اغمضت عينيها وفتحتهما مرة اخرى .. فوجدت ان دموع زوجها لم تكن وهماً ولا خيالاً .. اجتاحتها فرحة عارمة انستها سبب وجودها في هذا المكان .. يكفيها ان حامد بقى بقربها طيلة الليل .. وانه قلق لاجلها حد البكاء .. فهي لم تره يبكي الا لاجل امونة .. وبكاؤه من اجلها يعني لها الكثير .. نادته بصوت متحشرج ..
- حامد ... حامد ..
عندما لم يتجاوب مع صوتها الضعيف حاولت ان ترفع يدها لتهزه قليلاً .. لكن يدها رفضت ان تطاوعها .. احست بها ثقيلة كالحجر وملتصقة بالفراش .. انتأبها الفزع وحاولت مرة اخرى .. ومع كل فشل كان فزعها يزداد .. بدات تنتحب بصوت عال ايقظ حامد من حلمه التعيس عن وفاة امونة ركض خارجاً وطلب الطبيب الذي اتى مسرعاً ...
- دي نتيجة متوقعة بعد الارتفاع المفاجئ في الضغط وبالصورة دي .. لكن ما تقلقوا دي مرحلة مؤقتة وانشاء الله كل شئ يرجع مع العلاج الطبيعي ..
رفضت نعمات البقاء في المستشفى واصرت على العودة الى بيتها فامتثل حامد لرغبتها ورتب لحضور اختصاصي العلاج الطبيعي الى البيت يومياً .. في اسبوعها الاول كان التقدم بطيئاً لكنها استطاعت تحريك يديها بعناء .. ساد البيت جو من الحزن الممزوج بالخوف .. واصبحت نادية كالشبح الهائم وهي تحوم خارج غرفة امها التي رفضت رؤيتها ومنعتها من الدخول اليها .. كان الاحساس بالذنب يفتك بها ..ففرضت على نفسها سجناً اختياريا وامتنعت عن الخروج من المنزل بتاتاً اتصلت بزاهر واخبرته في مكالمة هاتفية قصيرة عن الاحداث التي تلت معرفة امها بزواجهما وقرارها بالامتناع عن الحضور الى الجامعة حتى شفاء والدتها ... لم تفلح كل محاولاته لثنيها عن نيتها فطالبها بان تتصل به كلما واتتها الفرصة ... لكن وجود والدها المستمر بالبيت اضافة الى سيل الضيوف الذي لم ينقطع جعل معاودة الاتصال مستحيلة خصوصا بعد ان امرت نعمات بوضع الهاتف في غرفتها ... كان مرض امها ورفضها رؤيتها يذبحها ويشعرها بفداحة ما ارتكبته ... اعتادت على تحين فرص نومها لتتسلل على اطراف اصابعها وتتاملها بحزن ... تنسحب بسرعة عندما يهدد بكائها المكتوم بفضح وجودها .. فتهرب الى غرفتها لتجلس وحيدة وهي تعاني خوفها من مستقبلها المظلم ..
في الاسبوع الثالث بدات حركة نعمات تزيد .. وبشرها الاختصاصي بان استجابتها للعلاج جيدة وقد تنقضي فترة قصيرة حتى تعود الى طبيعتها ... كانت تحس بالملل من البقاء وحيدة في وضع ثابت لا يتغير .. فرفعت صوتها منادية ...
- اميرة ... يا اميرة ..
ظهرت هادية في فتحة الباب وسالت امها بحنان اصبح سمتها منذ مرض امها ...
- عاوزة حاجة يا امي ؟؟ اميرة دي مشت تشوف حبوبة العينة قالوا عيانة شديد ومودينها المستشفى ..
ابتسمت لها بفرح وهي تفكر بان مرضها ثمن بخس تدفعه لاستعادة حب ابنتها المتمردة ..
- تعالي يا هادية اسنديني .. عاوزة اقعد شوية ضهري وجعني من الرقدة الكتيرة .. نادية وين ؟؟ ..
- نادية ساكنة جوة الحمام من صباح الرحمن !! ..
رفعت نعمات راسها بحدة للجملة التي نطقتها هادية بلامبالاتها المعتادة
- ساكنة جوة الحمام ؟؟!! .... بتعمل شنو ؟؟ بتستحمى يعني ولا شنو ؟؟!! ...
- والله ما عارفاها يا امي .. لكن زي سمعت صوتها بتستفرغ .. ولمن سالتها قالت مافي حاجة ...
احست نعمات بتنميل في راسها وبرودة في اطرافها وموجة دوار تهاجمها ..
- اديني حبة الضغط سريع يا هادية .. اهي العلبة الفي راس الكمودينو دي وامشي نادي لي نادية ..
وضعت الحبة تحت لسانها ... اغمضت عينيها واسندت راسها على الوسادة وهي تدعو في سرها ان يكون ما خطر ببالها مجرد وهم صوره لها عقلها القلق .. لكن هيئة نادية التي دخلت الغرفة بخطوات مترددة اكدت ظنونها ... كانت تبدو مخيفة بوجهها الشاحب ودوائر سوداء عميقة تحيط بعينيها .. فقد شعرها الطويل حيويته ولمعانه وتدلى باهمال وراء ظهرها .. برزت عظام كتفيها اعلى جسدها الهزيل .. تاملتها نعمات بدقة من راسها وحتى اخمص قدميها .. لمعت في عينيها نظرة ادراك خبيرة رفعت صوتها المحبط وامرت ابنتها الصغرى ..
- هادية .. اطلعي واقفلي الباب وراك .. اقعدي في الصالة وما تخلي أي زول يدخل علينا الا اميرة .. فهمتي ؟؟ ..
- طيب ولو ابوي جا يشوفك اقول ليهو شنو ؟؟!! ..
- قولي ليهو راسي وجعني شديد وبلعت حبوب وما عاوزة زول يزعجني ..
رمقتهم هادية بنظرة مليئة بالتساؤل ثم استدارت خارجة واغلقت الباب خلفها بهدؤ ..
بدات نادية ترتجف بعنف وسالت دموعها غزيرة امام النظرات الغاضبة المتهمة ..
- تعالي اقعدي في الكرسي الجنبي دة ..
اطاعتها بخوف وبدات تتكلم بصوت مهتز تقطعه تشنجات البكاء ...
- امي عليك الله ما تنفعلي .. كل الانتي عاوزاهو بسويهو ليك .. انا حتى الجامعة ما مشيت من يوم ما انتي رقدتي ولو عاوزاني اخليها خالص بخليها .. حاعمل أي شئ بس انتي ترضي علي .. انا ما بتحمل غضبك ...
قاطعتها نعمات بسؤال مباشر ...
- انتي حامل مش كدة ؟؟..
بهتت نادية ونظرت الى وجه امها الجامد بعينين متسعتين .. ثم عجزت عن مواجهتها فاطرقت بحرج وهي تتمنى لو تنشق الارض وتبتلعها ...
- اتكلمي يا بت .. آخر مرة دورتك جات متين ؟؟ وهسة متاخرة كم عن مواعيدها ؟؟ ..
- مر شهر وشوية من آخر مرة جاتني ...
انقطع الحوار المؤلم بفعل طرقات ناعمة على الباب فتح على اثرها وظهر راس اميرة التي وقفت تتامل المنظر بحيرة .. فوالدتها رفضت كل محاولات نادية للاعتذار ومنعتها من دخول غرفتها .. جلستهما الآن سوياً لا تبشر بخير ..
- ادخلي يا اميرة واقفلي الباب .. تعالي جيبي التلفون واتصلي لي بامي ...
كانت يد نعمات بالكاد تقوى على رفع سماعة الهاتف .. خرج صوتها خشنا ومبحوحاً وهي تخاطب والدتها ...
- امي .. عاوزة اجي اقعد عندكم كم يوم .. لا ما براي .. انا ونادية لكن ما عاوزة أي زول يعرف اننا عندكم ..
كان الصوت من الطرف الآخر ينبعث عالياً ومنزعجاً ليبدد صمت الحجرة اثناء سكون نعمات ...
- لا يا امي ما اتشاكلت مع حامد ولا السرة ولا مع أي زول تاني .. بكلمك بالموضوع لمن اجي .. وزي ما اتفقنا .. مافي جنس مخلوق يعرف اننا عندكم ..
عندما انهت المكالمة كانت في عينيها نظرة غريبة .. ومصممة ..
- وينها ورقة الزواج العرفي بتاعك ؟؟ ولا كمان مافي ورقة وعرستي شفهياً ؟؟ ..
قفزت نادية من جلستها بلهفة ..
- في ورقة يا امي .. انا وريتها لاميرة وكمان كان في شهود حاضرين لمن عملناها ومضوا فيها .. دقيقة اجيبها ليك تشوفيها ...
- خليك قاعدة قبلك ... امشي يا اميرة جيبيها ...
كانت اميرة تراقب تصرفات والدتها باستغراب حقيقي ... فهي لم تكن تتوقع منها هذا البرود في التعامل مع مشكلة نادية العويصة ... عندما احضرت الورقة الصغيرة المطوية بعناية .. فتحتها نعمات وظلت ممسكة بها امام عينيها فترة طويلة حتى خيل للفتاتين انها قد نسيت وجودهما .. اخيرا اطلقت تنهيدة عميقة .. رفعت راسها نظرت اليهما وانهمر سيل الاوامر ..
- نادية .. قومي جهزي شنطة صغيرة ختي فيها هدوم تكفيك اسبوع او عشرة يوم بالكتير حتمشي تقعدي معاي عند ناس امي لغاية ما نشوف حل للورطة الدخلتينا فيها دي .. وانتي يا اميرة جهزي شنطتي وما تنسي الادوية وبعد ما تخلصي نادي لي ابوكي ... والكلام الدار جوة الاوضة دي يندفن قبلو ... مافي واحدة فيكم تجيب سيرتو ..
لم تتحرك أي منهما وظلتا تنظران اليها بحيرة ..
- اتحركي يا بت انتي وهي سريع .. مالكم ؟؟ عاوزني اترجم ليكم الكلام دة بلغة تانية عشان تفهموه ؟؟ ...
في لحظات تحولت الغرفة من حالة الجمود التي سيطرت عليها الى حركة دائبة .
- عاوزة تمشي تقعدي عند اهلك ليه يا نعمات ؟؟ الناقصك هنا شنو ؟؟ لو محتاجة أي حاجة كلميني وانا اوفرها ليك ..كيف يعني تمشي بيت اهلك وانتي بالحالة دي ؟؟ والعلاج بتاعك حتوقفيهو ولا كيف ؟؟ وسايقة معاك نادية لشنو .. البت دي ليها قريب شهر ما مشت جامعتها .. مش مفروض بعد دة تمشي تشوف الفاتها شنو ؟؟
كانت اسئلة حامد تندفع من فمه بانزعاج بعد ان عاوده مرة اخرى احساس الذنب والتقصير تجاه زوجته التي ما ان اظهرت عليها بوادر التحسن حتى عاد هو الى معتزله واكتفى بزيارتها يوميا لفترات قصيرة خصوصا بعد ان احس بعدم رغبتها في الحديث معه وتظاهرها احيانا بالنوم كي تتخلص من وجوده ..
- ما ناقصني شئ يا حامد .. لكن انا زهجانة من الحبسة هنا براي ومحتاجة اغير جو .. قلت امشي ناس امي كم يوم .. ما بقطع العلاج .. انت اتفق معاهو يجيني عند ناس امي في نفس المواعيد .. ونادية سايقاها عشان تخدمني .. انت عارف امي في البيت براها وبقت مرة كبيرة وما بتقدر على الخدمة .. وكان على الجامعة ما مشكلة .. هي غابت دة كلو .. يعني ما جات ليها على اسبوع تقعدو معاي .. وبعدين اميرة بقت في عصمة راجل .. يعني ما بقدر اسوقها كدة ساكت .. وانا بكون مطمنة لمن اخليها وراي عشان تراعي هادية والبيت ...
احس حامد بجو غريب يحيط بزوجته لكنه لم يستطع تحديده .. ربما لانها تتفادي النظر اليه مباشرة لقد اعتاد ان يقراها من عينيها الصافيتين اللتين تعكسان كل ما يدور داخلها بشفافية .. تعمدها تجنب نظراته اشعره بانها تخفي شيئا ما لكنه لم يشأ الضغط عليها لمعرفته مراعاة لحالتها الصحية ..
- خلاص يا نعمات .. اذا مشيك هناك حيريحك انا ما عندي مانع ... وفي أي لحظة تحتاجي أي شئ او عاوزة ترجعي اتصلي بي ..
حال وصولهم الى بيت جديها .. انعزلت نادية في الغرفة التي خصصت لها مع والدتها .. جلست منكمشة تستمع الى الاصوات المنفعلة الغاضبة تاتيها من الغرفة الاخرى التي اجتمعت فيها امها مع خالها وجدتها حال وصولهم .. وقد ادركت بانها هي موضوع الحديث .. احست بالخوف والوحدة .. فبرغم رد فعل امها الهادئ الى حد ما .. الا ان كل الدلائل تشير الى نوايا اخرى مبيتة .. مرت عليها اللحظات كالدهر وهي متكورة في طرف السرير تتحسس بطنها الذي يحمل ثمرة اللقاء الاخير بينها وبين زوجها .. انتابتها مشاعر متناقضة ما بين الحب لهذا الكائن الصغير الذي اتى على غفلة والخوف من وجوده .. لقد تاكدت من حملها بعد ان غابت دورتها عن مواعيدها المعتادة واصبح الاستيقاظ صباحاً اكثر صعوبة .. عافت نفسها الاكل وحتى اللقيمات الصغيرة التي تزدرها على مضض لا تستقر في معدتها الا لدقائق قليلة تركض بعدها الى الحمام لتلفظها .. كما بات انفها حساسا تجاه الروائح لدرجة مزعجة .. فلم تعد تتحمل حتى عطورها التي كانت تفضلها .. وبرغم ذعرها مما يحدث لها .. الا انها احست بفخر خفي كونها تحمل طفل الرجل الذي تعشقه بجنون ...
قفزت من جلستها عندما فتح باب الغرفة فجاة .. ولم تنتبه لدموعها التي اغرقت وجهها حتى سمعت صوت جدتها المؤنب ...
- بتبكي ؟؟!! .. بتبكي على شنو يا نادية ؟؟ على الفضيحة العاوزة تفضحينا ليها .. دي عملة تعمليها يا بت ؟؟!! ...
قاطعتها نعمات التي دخلت مستندة علي ذراع شقيقها بلهجة محذرة ..
- امي .. احنا مش اتفقنا خلاص ؟؟ مافي داعي للكلام دة .. الحصل حصل .. خلونا في المفيد .. خشوا واقفلوا الباب دة مافي زول يجي يسمعنا ..
- ما تخافي .. انا قفلت باب الشارع بالترباس وحذرت الشغالة ما تفتحوا لاي زول ..
التفتت نعمات الى ابنتها الوجلة وخاطبتها ببرود ...
- نادية .. احنا مبدئياً ما عندنا مانع انك تتزوجي الزول دة بصورة رسمية .. لكن في الوقت الحالي قررنا انك لازم تنزلي الفي بطنك ..
خرجت من نادية آهة مكتومة وتراجعت خلفاً وهي تضع يديها على بطنها بصورة حمائية ...
- اسمعيني كويس يا بت احنا عاوزين نلم الفضيحة ونستر روحنا ..
- حرام يا امي .. حرام عليكم .. انتو مش خلاص قلتو موافقين على زاهر ؟؟ يعني ما حتكون في فضيحة ... لو عملنا العرس هسة وانا لسة في بداية الحمل مافي زول حيعرف حاجة ..
تخلت نعمات عن برودها وانفجر غضبها لدى سماعها اسم زاهر ..
- تحرم عيشتك يا فاجر يا قاهر .. هو انتي بتعرفي الحرام ؟؟ لو كنتي بتعرفي جد كنتي عرفتي انو الفي بطنك دة جنى حرام .. ايوة يا فاهمة يا متعلمة يا بتاعت الجامعة .. ما علموك انو ما بٌني على باطل فهو باطل ؟؟ الشيخ السالتيهو ... دة لو صحي سالتي شيخ ما وراك انو البت البكر ما بيصح زواجها الا بوجود ولي امرها وعلمه وموافقته ؟؟ انتي ابوك عايش على وش الدنيا ومشيتي عرستي زي بنات الشوارع ... يبقى عرسك باطل .. وعلاقتك بالعواليق بتاعك دة زنا في زنا .. والفي بطنك دة جنى حرام .. فهمتي ولا افهمك زيادة ؟؟ ..
ارتج جسد نادية النحيل بعاصفة من النحيب الهستيري .. وانكمشت في زاوية الغرفة كأنها تحاول ان تنحت جسدها داخل الجدار لتحمي طفلها .. تبادل خالها نظرة متواطئة مع شقيقته ثم تقدم نحوها ببطء .. احتبس صوتها واتسعت عيناها ...انحنت لتغطي بطنها بيديها وهي تنتظر الضربات الموجعة التي ستسقط طفلها... لكن لدهشتها الشديدة وضع يده على كتفيها وامسكها برفق وهو يوجه خطواتها نحو السرير .. اجلسها بقربه وخاطبها بصوت هادئ ..
- اسمعي يا نادية .. انتي دخلتينا كلنا في مشكلة كبيرة ولازم نلقى ليها حل .. ابوك لو عرف ابسط حاجة حيعملا انو يطلع مسدسو ويفرغو فيك وفي الزول دة ويدخل السجن .. وممكن اميرة اختك تتطلق بسبب الموضوع دة لانو اهل ابوك ديل ناس صعبين وما بيغفروا الحاجات الزي دي .. عشان كدة احنا حنقعد مع بعض ونتشاور ونشوف نعمل شنو اول حاجة لازم نفكر كيف نقنع ابوك انو يوافق على الزول دة .. وانتي عارفة دي مهمة صعبة شديد وممكن تاخد زمن طويل .. انا مستعد اقيف معاك واساعدك .. لكن على شرط انك تنزلي الطفل لاننا ما عارفين متين حنقنع ابوك والمسالة ممكن تاخد شهور على بال ما نمهد ونتكلم براحة براحة وبالتاكيد في الفترة دي حملك حيظهر ... يا نادية احنا طول عمرنا ناس مستورين .. وما حنقدر نوضح لكل الناس انك حملتي من زواج شرعي لانو الناس عليها بالظاهر .. وانتي قدامك العالم كلو لسة بت ما متزوجة ... يعني الرشاش حيطالنا كلنا وتاني مافي زول فينا حيقدر يرفع راسو في أي حتة ... انتي لسة صغيرة وقدامك العمر كلو عشان تجيبي العيال العاوزاهم .. ويا ستي بكرة لمن تتزوجي زاهر بصورة رسمية اولدي جيش ومافي زول حيكون عندو عندك حاجة .. لكن حاليا الطفل دة لازم ينزل .. اها قلتي شنو ؟؟ موافقة على كلامي دة ؟؟ ...
احست نادية بالاطمئنان للهجة خالها الهادئة وكلماته الموزونة المقنعة .. دارت نظراتها وهي ترى اللهفة في العيون التي تنتظر ردها .. فاومات ايجاباً .. وخرجت تنهيدة راحة من جميع الافواه ..
- خلاص دة انتهينا منو .. الشئ التاني زاهر لازم يجي يقابلني ويجيب معاهو الورقة البتثبت زواجكم عشان نتناقش ونشوف حنقدر نعمل شنو وكيف نقنع ابوك ... يعني بعد ما نخلص من موضوع العملية وتشدي حيلك .. تتصلي بيهو وتخليهو يجينا هنا .. الكلام دة كويس معاك ؟؟
انفرجت اسارير نادية واحست براحة تغمره جسدها المتوتر فارتمت في احضان خالها الذي احتضنها بيدين متخشبتين وما لبث ان هب واقفا وهو يخاطب امه ...
- امي .. انتي شوفي موضوع الداية وخليها تجي بكرة ولا بعدو بالكتير .. واكدي عليها انو الموضوع دة لو طلع برة انا بدفنها حية ..
- ما تخاف .. الداية دي زي اختي .. انا بثق فيها وانتو كلكم اتولدتوا على ايديها .. بطنها غريقة .. وياما حفظت اسرار اسر وحافظت على بيوت من الخراب ... انا بمشي ليها بنفسي وبخليها تجي بكرة بعد المغرب .. وزي المواعيد دي حيكون كل شئ انتهى ...
احتاجت نادية اسبوع كامل حتى تتعافى من آثار العملية المزدوجة .. كان اكثر ما يؤلمها الجلسات الطويلة في الماء الحار المملح حتى تلتئم جروح عملية الختان التي اجريت لها عنوة وبدون استشارتها .. لقد انتبهت للهمس الدائر بين امها وجدتها والقابلة العجوز .. لكنها لم تعرف فحواه الا عندما استلقت شبه عارية وهي تنظر بدهشة للادوات الت تخرجها القابلة من حقيبتها .. شفرات .. خيوط .. ابر معقوفة .. ومقص .. دفعها خوفها لمحاولة الجلوس .. لكن وجدت نفسها مثبتة بيدي امها وجدتها التي همست في اذنها ..
- اركزي يا بت .. لازم نطهرك عشان القص والخياطة يدسوا اثر العملية ..
تمتمت بذهول ..
- تطهروني ليه ؟؟ .. وندس اثار العملية من منو .. زاهر عارف.. تاني شنو ؟؟
رمقتها نعمات بنظرة غاضبة تشع حقداً وهي تضغط بيدها الضعيفة على كتفها ..
- انتي يا بت عاوزة تجلطيني تاني ؟؟ ولا المرة دي عاوزة تقتليني عديل ؟؟ اقفلي خشمك دة واسكتي ساكت .. احنا عارفين مصلحتك اكتر منك ...
الجم الاحساس بالذنب وخوفها من غضب امها لسانها وحركتها وهي تحس بطعنات الابرة تغوص عميقا في لحمها ... تفصد العرق غزيراً من جسدها حتى احست بانها تغرق فيه .. وانقذها فقدانها للوعي من أي احساس آخر ...
عندما اصبحت قادرة على الوقوف والمشي بدون مساعدة .. حضر اليها خالها مرة اخرى بنظراته المتواطئة ويديه المتخشبتين ..
- اتصلي بالزول دة وخلي يجي يقابلني بكرة بعد صلاة العشا .. واهم شئ يجيب الورقة البتثبت زواجكم معاهو ...
احست نادية بفرحة طاغية تجتاحها وتملا الفراغ الذي سكن اعماقها منذ ان وافقت على قتل جنينها سارعت الى الهاتف تحت مراقبة ثلاثة ازواج من العيون الجامدة .. كانت اصابعها ترتجف وهي تطلب الرقم الذي تحفظه عن ظهر قلب ..
- الو .. ممكن اكلم زاهر ؟؟ قول ليهو نادية ...
اتاها صوته مليئا باللهفة والقلق ..
- نادية ؟؟!! .. انتي وين ؟؟ انا كنت خلاص قربت اجن .. ليه عملتي فيني كدة ؟؟ مش احنا متفقين انو مهما ساءت الظروف برضو توريني الحاصل شنو ؟؟ يا نادية ...
قاطعت سيل كلماته بصوت ناعم ..
- زاهر .. معليش انا لي كم يوم جيت مع امي عند حبوبتي وما لقيت طريقة اتصل بيك امي وخالي وافقوا على زواجنا .. تعال بكرة بعد صلاة العشا عشان تقابل خالي ..
قفز قلبها عندما سمعت شهقته تاتيها حارة وتذكرها بشهقات اخرى حفرها في اذنها واذابها بها .. عندما طال صمته نطقت اسمه بهيام ...
- زاهر .. سمعتني ؟؟ قلت ليك ...
قاطعها صوته الباكي ..
- سمعتك يا نادية .. سمعتك .. بس ما قادر اصدق البسمعو منك ..
- صدق يا زاهر .. اخيرا ربنا استجاب لدعواتنا وحنبقى مع بعض لغاية آخر يوم في عمرنا بكرة جيب معاك ورقتك ..خالي عاوز يشوفها عشان يتاكد اننا فعلا اتزوجنا .. ما تتاخر .. تعال بعد الصلاة طوالي ...
ليلتها لم يغمض لها جفن .. استغرقتها احلام اليقظة التي غذاها شوقها الجارف الى زوجها بنار احرقت جلدها .. كانت تحس بانها تسبح في غمامة ناعمة وصورة مستقبلها مع زاهر تتراقص امام عينيها ... تمدد الزمن وتمطت ساعات النهار بكسل يتحدى لهفتها ... قضت الوقت وهي تحاول تحسين منظرها المزري .. وعندما نظرت الى المرآة لترى نتيجة جهودها .. صدمتها صورة عظامها الناتئة وملامح وجهها الشاحب الهزيل .. انتابها القلق من ان يراها حبيبها بهذا الشكل .. وذابت مخاوفها عندما التقت عيناهما لحظة دخولها الغرفة ورات الحب والشوق يشعان منهما بوضوح ....بدا انيقاً وسيماً برغم فقدانه الكثير من وزنه .. كان يتقدم نحوها ماداً يده عندما اوقفه صوت خالها الصارم
- اقعد يا زاهر وخلينا نتفاهم ..وينها ورقتك كدة خليني اشوفها ...
جلس زاهر بارتباك بينما ظلت عيناه معلقتان بنادية التي خافت من خذلان ساقيها فجلست في اول كرسي صادفها وهي تراقب كل حركة من حركات زاهر الذي اخرج من جيب قميصه مظروف ابيض مطوي بعناية .. فتحه بحرص واخرج منه ورقة صغيرة شبيهة بورقتها التي يمسكها خالها بين يديه فتحها ببطء وناولها لليد الممدودة ... كان جميع من في الغرفة يتابعون حركة الرجل الطويل الممتلئ الذي نهض من جلسته المتململة ممسكاً كل ورقة بيد واتجه بخطوات واسعة الى نهاية الصالون الفسيح وقف بالقرب من النافذة التي تحتل مساحة كبيرة من الجدار .. اخرج علبة سجائره وضع اللفافة بين شفتيه واخرج قداحته .. وبهدؤ اشعل النار في الاوراق التي استقرت في يده اليمين ورمى بها داخل مزهرية فارغة بالقرب منه .. صرخت نادية وقفز زاهر على قدميه بينما ارتسمت ابتسامة راحة على شفتي نعمات وامها .. عندما وصل زاهر الى حيث يقف الخال كانت الاوراق قد اصبحت بقايا متفحمة قبض عليها فتفتت في يده وتحولت الى قطع صغيرة تطايرت في كل الاتجاهات وقف زاهر مذهولاً بفم مفتوح وعينان امتلاتا بالدموع .. وخرجت كلماته مختنقة ..
- ليه كدة يا خال ؟؟ ليه حرقت الاوراق ؟؟!! ...
اتاه الرد من الجدة الحانقة ...
- خال ؟؟ خلال الشوك اليشق حلقك .. خالك بوين ؟؟ والله انت لو ما الزمن صحي بقى كعب ما كان واحد زيك قدر يغش على بتنا الماصلة المفصلة ويعرسها ..
تجمد زاهر في مكانه وبدا عرق غاضب ينتفض في اعلى جبينه .. حاولت نادية التحرك من جلستها لكنها احست بكل عصب في جسدها قد تحول الى هلام لا تملك السيطرة عليه .. خرجت كلمة الاحتجاج الوحيدة من شفتيها بالم ..
- حبوبة ..
التفتت اليها نعمات بغضب متفجر وقد اختفى كل برودها الذي تعاملت به منذ بداية الموضوع ..
- الحب اليخنقك يا فاجر يا ام عينا بيضا .. انتي صدقتي اننا كنا حنخليك تعرسي الجربوع دة ؟؟ والله لو اقطعك وارميك لكلاب الشارع ما اخليك تفضيحنا وتكسري ضهرنا وتبقينا لبانة في لسان اليسوى وما يسوى .. عاوزة تشمتي فيني السرة وتخليها تقول اني فعلا ما عرفت اربي ؟؟ عاوزة تجبري ابوك حامد ود العمدة يخت يده في يد الغرابي ؟؟ !! ...
كانت الكلمات تنزل على زاهر كسياط من نار تخترق جلده ويصل المها حتى عظامه .. حاول ان يتماسك من اجل حبيبته التي كانت تنتحب بهستريا .. خرج صوته قوياً رغم الالم .. حاداً رغم الهوان ... ثائراً برغم الامتهان ...
- اسمعوني كلكم ... انتو قايلين روحكم شنو ؟؟!! احسن ناس في الدنيا دي ؟؟ ربنا ما خلق غيركم ؟؟ مافي زول زيكم ؟؟ رافضني ليه ؟؟ بتهينوني بالصورة دي ليه ؟؟ عشان ما لونكم ؟؟ بتعاقبوني عشان شكلي ما بشبهكم ؟؟ عشان قبيلتي ما قبيلتكم ؟؟ بلاهي انتو مسلمين انتو ؟؟ انا الله خلقني كدة وخلقكم كدة ... لكن انا ما اقل منكم .. ولا انتو احسن مني .. وما تفتكروا عشان حرقتوا الورق معناها خلاص الموضوع انتهى .. نادية مرتي وبشهادة شهود ..
قاطعه الخال الذي بدت ثورته في حركاته المتوترة ..
- زواجك من نادية كان غلطة وحنصلحها حالاً .. ارمي يمين الطلاق واتفضل برة .. تاني وشك دة ما عاوزين نشوفوا .. وتاكد اني لو عرفت انك حاولت مجرد محاولة انك تتصل بيها حيكون آخر يوم في عمرك ..
- اطلق ؟؟ انا اطلق نادية ؟؟ ما حيحصل ولا حتى في ابعد احلامكم .. نادية مرتي .. وحتفضل مرتي لمن اخش التراب .. ومستعد اعمل أي شئ عشان تبقى معاي .. انا حامشي البوليس وافتح فيكم بلاغ واطالب بيها عن طريق المحكمة ... والفضيحة الانتو خايفين منها دي حجيبها ليكم لغاية خشم بابكم .. وعندي الشهود ومستعد اصل لغاية الطبيب الشرعي وانشر قصتنا في الجرايد عشان اثبت انها مرتي ..
نطق كلماته الاخيرة بتحدي جعل نعمات تمتقع .. بينما ادخل الخال يده في جيبه واخرجها بحركة مفاجئة وهي تحمل مسدس صغير لامع .. تراجع زاهر خلفاً وتعالت صرخات نادية الفزعة ...
- انت بتهددنا يا كلب ؟؟ بتهدد اسيادك ؟؟!! .. حتطلقها .. حتطلقها ورجلك فوق رقبتك .. لو عاوز تطلع من البيت دة حي حتطلقها .. ارمي اليمين وغور في ستين داهية ...
ثبت زاهر في وقفته كالطود وعقد ذراعيه حول صدره وهو ينظر الى نادية المنكمشة في كرسيها بالم وخرج صوته كالفحيح ..
- انت قايل روحك بتخوفني بمسدسك دة ؟؟ انا ما بخاف .. اقتلني لكن ما بطلقها .. اضرب .. لكن طلاق ما بطلق ونادية حتفضل مرتي غصباً عنكم .. وحاعلن زواجي بيها في كل مكان .. حاخلي السودان كلو يعرف انها مرتي ... واعلى ما في خيلكم اركبوا ...
قفزت نادية من كرسيها برعب وهي تسمع صوت قفل الامان في المسدس يحرر استعدادا لاطلاقه ..
- لا يا زاهر ما تفضحني وتفضح اهلي .. طلقني .. انا عاوزة الطلاق ... لو سمحت طلقني وخليني اخلص ..
التفت اليها الجميع بدهشة .. كانت نظرات حبيبها المفجوعة تذبحها .. لكنها لم تهتم .. سوف يكون هناك متسع من الوقت للالم فيما بعد .. ربما العمر كله .. لكنها الان سوف تنقذه مهما كان الثمن الذي يتوجب عليها دفعه ..لن تسمح لهم بقتله .. يكفي انهم قتلوا طفله وقتلوها معه .. احست بدوار قاس يحتكر احساسها ويكاد يفقدها وعيها .. لكنها تماسكت امام سؤال زاهر المذهول ..وقررت ان تلعب على وتره الحساس الذي تدرك بانه لن يسمح لاي كان .. ولا حتى هي بمسه .. وتر كرامته التي يعتز بها كثيراً ... سوف تحميه من اهلها بالطريقة الاكثر ايلاما لها .. وله ...
- نادية ؟؟ انتي بتقولي طلقني وبتسمي اعلان زواجنا فضيحة ؟؟ مش دة الشئ الكنا عاوزينو انا وانتي من يوم ما عرفنا بعض ؟؟ حصل ليك شنو .. خوفوك ؟؟ ضغطوا عليك عشان تقولي الكلام دة مش كدة ؟؟ لكن انا قلت ليك من زمان ما بطلقك حتى لو انتي طلبتي .. لاني متاكد وواثق من حبك لي زي ما انا واثق من حبي ليك .. عارف انك بتقولي الكلام دة من ورا قلبك ..
انحدرت دموعها حارة على خديها الشاحبين .. اغمضت عينيها بقوة حتى تستجمع شجاعتها ... خرجت كلماتها مهتزة .. لكنها واضحة ...
- اسمع يا زاهر .. بصراحة انا القلت لاهلي عاوزة الطلاق واتفقت معاهم على كل حاجة
لم تبال بالصوت المجروح الذي خرج منه عنوة .. ولا بنظرات الدهشة التي تبادلها الجميع وواصلت بتصميم ..
- انا في البداية كان عاجبني الموضوع .. الطريقة الحبيتني بيها اشبعت غروري .. ما حانكر اني حبيتك ... بس ما لدرجة اني اضحي باهلي عشانك .. ولا بالعريس المتقدم لي لانو ما بتعوض ...
كانت دموع زاهر تنزل كماء النار على جروح روحها المعذبة .. توترت انفاسها وهي تجبر الكلمات على الخروج من شفتيها الجافتين ...
- تعرف انا اتاكدت اني فعلا ما عاوزة اواصل معاك متين ؟؟ لمن عرفت اني حامل ؟؟
خيم صمت ثقيل على الغرفة .. كانت النظرات الموجهة الى نادية تحمل معاني متباينة ... اكثرها تعبيرا تلك التي ارتسمت على وجه زاهر فتقدم نحوها وهو يتمتم ..
- نادية انتي حامل ؟؟ ليه ما كلمتيني ؟؟ دة السبب المخليك تطلبي الطلاق مش كدة ؟؟ مفتكرة اني ما اوفيت بوعدي ليك ؟؟ والله يا نادية ما اتعمدت اعمل كدة .. الشئ دة حصل غصبا عني لمن اميرة ...
قاطعت تقدمه برفع يد مرتعشة في وجهه .. وكلمات لا تقل عنها ارتعاشاً ...
- كنت حامل يا زاهر .. كنت .. انا عملت عملية ونزلت الجنين .. ما عاوزة حاجة تربطني بيك .. الحمل فوقني من الوهم الكنت عايشة فيهو .. وهم انو الحب ممكن يخليني اتغاضى عن الفروقات البيني وبينك .. انا ما بقدر اعيش حياتك يا زاهر .. وانت ما حتقدر تعيشني في المستوى الانا اتعودت عليهو .. عشان كدة لو سمحت طلقني .. اذا انت فعلا بتحبني زي ما بتقول وعاوز سعادتي ... يبقى طلقني .... طلقني يا زاهر ما عاوزاك .. طلقني ..
وقفت جامدة وهي تدعو بحرارة في سرها ان تكون قد اجادت التمثيل واقنعت حبيبها برفضها له .. باستطاعتها ان تتحمل بعده وفراقه .. لكنها لا تستطيع ابدا ان تتحمل موته ... بسببها .. وبيد خالها..
تعمق الصمت اكثر بعد كلماتها الباكية ولم يقطعه سوى انفاس زاهر العالية المضطربة .. ظل ينظر اليها لفترة طويلة وهو يامل بان تخبره بانها لا تعني ما تقول .. وانهم يجبرونها على قول هذه الكلمات السامة .. كان على استعداد للموت من اجلها .. لكنها تحاشت النظر اليه بالتحديق في كفيها المتقاطعتين بقوة ابيضت لها مفاصلها ... واقنعه صمتها المصمم بجدية طلبها ... رفع راسه بكبرياء تصلبت ملامحه وخرج الهواء حاراً من انفه ... نظر الى الجميع باحتقار وكراهية .. ثم نطق كلماته
- نادية ... انتي طلقانة ... طلقانة .. طلقانة ...
اعتصم بما تبقى له من قوة وانسحب خارجاً دون ان يلقي نظرة الى الوراء ... تراخت اليد التي تحمل المسدس ... ارتسمت ابتسامات راحة على وجه نعمات وامها ... وانهارت نادية ارضا ما ان تاكدت من نجاة حبيبها وهي تبكي بحرقة تتخللها صرخات حادة ..
- انا بكرهك يا امي ... بكرهكم كلكم .. وما حسامحكم على العملتو فيني لمن اموت ...





لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-11-14, 07:09 PM   #20

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


الفصل التاسع عشر


انطلقت صرخات حبيبة الملتاعة لتبدد سكون الجو وتملا ممرات المستشفى الهادئ بضجيج حزين ... لم يكن مرض امها الطويل كافياً لتهيئتها على تحمل الم فقدانها .. كانت بالنسبة اليها الام والاخ والاخت والصديقة .. الصدر الحنون الذي يستقبل كل احباطاتها وحزنها وغضبها .. كانت كل ما تبقى لها من عائلتها بعد وفاة ابيها واختفاء عبد الرزاق وتعمد عبد الستار الابتعاد عنها وعن عائلتها في السنوات الاخيرة .. هذا الابتعاد الذي اراحها كثيراً .. فمع كل زيارة كانت النظرات المتبادلة بين زوجها وشقيقها تشعرها بالغثيان .. نظرات غامضة تحمل مزيجاً غريباً من الحب والكراهية وتشحن الجو بشرارات من التوتر المرهق .. كانت تحرص على عدم انفرادهما ولو لدقائق .. فهي قد تتحمل ممارسات زوجها على مضض طالما تتم بعيداً عنها ومع غرباء ... لكن فكرة وجود زوجها مع شقيقها كانت اكبر من قدرتها على الاحتمال .. اصبح عدم ارتياحها وتحفزها واضحاً في كل زيارة .. وبات تواجدها الكثيف حولهما مقلقاً ... فتباعدت الزيارات حتى انقطعت عن بيتها تحديداً ... لكن من حين لآخر كانت تلتقيه عند حضوره لزيارة امهما .. ما ان يراها حتى يبدا بالتململ وسرعان ما ينتحل عذراً للمغادرة دون ان تلتقي عيناهما ...
- حبيبة !! ... دة شنو البتسوي فيهو دة ؟؟!! ... البسي توبك واستري روحك ..
كانت عبارات ابراهيم الزاجرة سبباً في انتباهها لحالتها المزرية ... فقد انفرط ثوبها عن جسدها واصبح يزحف خلفها على الارض كاشفا تضاريسها المغرية للعيون الفضولية ... لملمته حولتها وهي تنظر الى زوجها الذي بدا حزينا على رحيل امها بقدر حزنها هي ... في بداية زواجهما كانت تظنه يتظاهر بحب اسرتها ارضاء لها .. لكن مع مرور الايام تاكدت بانه يحمل مشاعر حقيقية لامها وابيها واخويها ... مشاعر ربما كانت تفوق تلك التي يحملها لها هي زوجته وام بناته .. كان يتعامل معها باحترام ويغدق عليها من المال بما يفوق طلبها واحتياجها .. لكنه ابدا لم يمنحها ما تحتاجه منه حقاً .. حبه ..
- سوقي البنات وارجعي البيت .. انا حخلص الاجراءات واستلم الجثمان واحصلكم .. واول ما توصلي كلمي الجماعة واتصلي بعم حامد عشان يجهز للفراش ..
عندما وصلت سيارة التاكسي التي تقل حبيبة وبناتها الى ناصية الشارع فوجئت بالجموع المتمركزة امام الحوش واصوات البكاء والعويل التي تصم الآذان ... اندهشت من السرعة التي وصل بها الخبر وهمست لنفسها بمرارة ...
- يا حليلك يا العينة .. ما كنت متخيلة الناس حتجي لجنازتك قدر دة .. لكن هم اكيد ما جايين عشانك .. ولا عشاني .. اكيد كلهم جايين يجاملوا ود العمدة وابراهيم ...
شقت السيارة الجموع بصعوبة وتوقفت امام الباب الكبير .. عندما ترجلت حبيبة وجدت نفسها في مواجهة بلقيس التي احتضنتها ما ان راتها وهي تبكي بحرارة وتخرج كلماتها متقطعة من بين شهقاتها العالية ..
- احي يا حبيبة من نار امي ... ووووب عليّ من حرقة السرة المشت خلتني ..
تملصت حبيبة من قبضة بلقيس وسالتها بحيرة ..
- السرة ؟؟!! السرة ماتت يا بلقيس ؟؟!! .. السرة ماتت مع العينة في يوم واحد ؟؟!! ..
توقفت بلقيس عن البكاء لبرهة وهي تنظر الى حبيبة بجزع ..
- العينة ماتت ؟؟ اماتنا ماتن في يوم واحد يا حبيبة ؟؟ ..
وبدات عاصفة هوجاء من البكاء غزتها توصيفات بلقيس وحبيبة واستمرت حتى خروج الجنازتين متجاورتين .. انهمك بعدها الجميع في التجهيز لايام طويلة من استقبال المعزين... اصرت بلقيس على جلوس حبيبة بجانبها .. ومع كل قادمة من اهلها كانت تكرر نفس الجملة ...
- عزوا حبيبة مرت ابراهيم .. امها برضو ماتت الليلة ..
كانت بعض الايدي تمتد بتردد وتوضع في راس حبيبة المحني بلمسة خاطفة لا تكاد تستقر حتى تبتعد مع انقضاء الصوت الرفيع الذي تصدره النساء مجاملة لطلب بلقيس ودون مراعاة لمشاعر حبيبة التي احست بالغضب من برود وتعالي اهل زوجها .. في نهاية اليوم قررت ان تقاطع مجلس العزاء في البيت الكبير حتى تجنب نفسها هوان المجاملة الرافضة وتمارس حزنها بالطريقة التي تستحقها العينة
كانت تشق ممرات البيت الكبير في طريقها الى منزلها عندما استرعى انتباهها صدى اصوات تعرفها جيداً .. ابطأت سيرها ولم تبذل جهداً لاستراق السمع .. فقد كانت الاصوات عالية بما يكفي لتصل اليها واضحة ..
- عليكم الله بلقيس ما بالغت ؟؟!! .. مقعدة الخادم جنبها في المرتبة وعاوزانا كمان نخت يدنا فيها ونعزيها ؟؟!! غايتو احرجتنا جنس احراج ...
- ولا احراج ولا حاجة .. انا ابيت اخت يدي في راسها ولا اباكيها .. ياهو الفضل كمان اعزي الخادم !! .. دة الا يكون آخر يوم في عمري ... والله مش كان عرست ابراهيم ود العمدة لو عرست العمدة زاتو حتفضل خادمنا .. ومن متين احنا بنعزي الخدم كمان ؟؟!! تعرفوا ... السرة الله يرحمها لو عرفت العينة دي بتموت معاها في نفس اليوم كان اجلت موتها شوية .. وكان عرفت انو ود العمدة بيدفنها جنبها ..كان خلت الموت زاتو .. يا حليلها المسكينة تلقاها هسة بتتقلب في رقدتها وما قادرة ترتاح ..
احست حبيبة بالدم يغلي في عروقها .. فتقدمت وسدت الباب المفتوح بجسدها المتوتر ونظرت الى النساء الغافلات بغضب وتحد ..
- تعرفوا انكم نسوان قليلات ادب وما مربيات وما لاقيات زول يلمكم .. عاملات فيها ربيبات الحسب والنسب وبنات الاصول .. وانتو ما عندكم شئ غير الحقد والكراهية .. وما بتعرفوا غير النميمة واكل لحم خلق الله ... انا لولا احترامي لنفسي وللظروف الحاصلة .. كنت وريتكم شغل الخدم على اصولوا .. و البتسووا فيهو انتو دة انا البتقولوا علي خادم ما بسوي زيو...
بهت جميع من في الغرفة لظهورها المفاجئ وكلماتها الحادة .. ولم تجرؤ أي من الموجودات على التفوه بكلمة .. نظرت اليهن باحتقار وقبل ان تختفي التفتت وخاطبتهن بمرارة ..
- يالحراير يا بنات الاصول .. لو ياها دي اخلاقكم انا مبسوطة اني طلعت خادم .. على الاقل الخادم عرفت تراعي حرمة الموت وما اتجاوزت حدها حتى مع ربها الخلقها .. اخي تفو عليكم ناس موهومين وتافهين وقلوبكم زي السكن ...
بصقت على الارض ثم غادرت دون ان تنتظر رداً .. ولم تعاود الظهور في البيت الكبير طيلة ايام العزاء التي امتدت لشهر كامل .. وبرغم ضغوط ابراهيم عليها لم تمتثل لطلبه وانهت النقاش بحسم..
- اسمع يا ابراهيم .. انا اهلك ديل خلاص اكتفيت منهم ومن حقارتهم لي ولاهلي .. استحملتهم سنين وسنين لكن خلاص فاض بي .. ومافي شئ تاني بيجبرني استحمل سخافتهم وعنصريتهم .. سبحان الله ديل حتى في الموت عاوزين يعملوا خيار وفقوس اها الله وراهم .. الموت ما فيهو تمييز ... والعينة الخادم ماتت مع السرة بت الاصول في نفس اليوم واتدفنت في قبر جنبها .. يكون في علمك انا البيت الكبير تاني ما ماشة والعاوزني يجيني هنا ...
لم يؤازرها في حزنها غير نعمات التي تجنبت البيت الكبير بعد فشلها في تحمل نظرات وغمزات الشماتة التي راتها سافرة في اعين اقارب السرة وهم يراقبون حركتها البطيئة التي استعادتها بعد مجهود جبار في العلاج الطبيعي .. ومن وقت لآخر تحضر رجاء التي اصبحت صورة باهتة وحزينة للمراة المرحة المحبة للحياة التي كانتها يوماً .. لقد اصابها هجران ابنتها للمنزل في مقتل ...
- يا رجاء ما تعملي في نفسك كدة .. حتموتي لو استمريتي بالطريقة دي .. انتي ما قاعدة تعايني في المراية ؟؟ ما شايفة روحك بقيتي كيف ؟؟!! وبعدين هي البت مشت وين ؟؟ مش عند اعمامها ؟؟ يعني اكيد ما بتجيها عوجة ..
كانت الكلمات تخرج من نعمات حارة ... مواسية ... متفهمة .. لم تعد الامور الى طبيعتها ابدا في اسرتها الصغيرة بعد مشكلة نادية التي جاهرتها بالعداء والكراهية باسلوب مخيف فأصبحت هماً يؤرقها ويقض مضجعها ... حتى استعادتها لصحتها لم تفرحها .. وبدا الخوف والقلق يتسللان الى قلبها عندما رفضت ابنتها باصرار وعناد كل من تقدم طالباً يدها .. وتوقفت محاولاتها للضغط عليها عندما انهت احد النقاشات العديدة معها بوقاحة وتحد ..
- شوفي يا امي .. ما تكتري كلامك معاي .. عرس ما حعرس .. حاقعد ليك كدة عشان كل ما تشوفيني تتذكري انتي عملتي شنو فيني ...
- هو انا عملت شنو فيك يا بت يا قليلة الادب ؟؟!! .. انا عملت فيك خير لمن خلصتك من العواليق الكان غاشيك وماكل عقلك ... عملت شنو غير سترتك من الفضيحة والجرسة وسط الناس وحافظت على سمعتك .. والله ومليت خشمي بالله لو ما وافقتي على العريس دة الا اخلي ابوك يغصبك ويعرس ليك ورجلك فوق رقبتك ...
- بالله ؟؟!! عليك الله يا امي انتي صدقتي كذبتك الانتي صنعتيها عشان تبرري بيها جريمتك في حقي وحق راجلي وطفلي ؟؟!! اوعي تصدقي انك عملتي دة كلو عشاني .. لانو انا وانتي عارفين انو كل العملتي كان عشانك انتي .. عشان امي السرة ما تشمت فيك وتقول بتك عرست العبد .. وعشان ما تطلعي قدام ابوي ما عرفتي تربي .. وعشان تحافظي على صورة اهلك قدام الناس ..اتآمرتي علي انتي واهلك .. ودمرتيني بقلب بارد كاني ما بتك .. لكن انا بحذرك يا امي ... لو اصريتي على موضوع العرس دة ولا كلمتي ابوي .. قسماً بالله الا افضحك الفضيحة الجد ..واول حاجة امسك العريس واهلو واحكي ليهم قصتي من طق طق للسلام عليكم ... وبعدها امشي احكي لامي السرة وبلقيس عن العملتوا فيني .. حيحصل شنو يعني ؟؟ حيقتلني ابوي مثلاً ؟؟ يا ريت .. دة حتى الموت اهون علي من الحياة الانا عايشاها هسة دي ..
كانت لهجة نادية وملامحها كافية لاقناعها بجدية تهديداتها .. فاعتذرت لاهل العريس وهي تتخوف من سنوات قادمات سوف تضطر فيها لمواجهة مشاعر الحقد والغضب التي احتلت ابنتها وحولتها الى مخلوقة اخري لا تعرف الرحمة ... ولا الغفران ..
- تعرفي يا رجاء تربية البنات صعبة شديد .. زي اكل الجمر .. لكن انتي ما قصرتي في أي حاجة .. يعني ما تلومي نفسك لانو بتك خلت البيت ومشت لاعمامها .. خليها شوية بكرة تروق وتهدا .. حتعرف غلطتها وترجع ليك براها ..
- متين يا نعمات ؟؟ متين ترجع .. وحياة المسيح انا حاسة كانو حتة من قلبي قطعوها وشالوها ... ما قادرة اتحمل فراقها يا نعمات .. يشهد ربنا انا ما بانوم الليل لمن اتذكر انها ما نايمة في سريرها ..
- اصبري يا رجاء ... اصبري .. الزمن بيحل كل شئ ..
في غرفته جلس ابراهيم متململاً ضجراً وهو يشعر بدبيب النمل يجتاح جسده ويفصح عن احتياجه لاشياء انزوت في اعماقه منذ وفاة السرة والعينة ... لقد جعله رحيلهما معا في يوم واحد يشعر بحزن حقيقي لم يشعر به منذ زمن طويل .. تحديداً منذ اكتشافه ان حامد ليس ابوه .. يومها راوده احساس اليتم لاول مرة في حياته .. واوجعته الصدمة كما لم يوجعه شئ آخر ... لكن فقدان من انجبته ومن ربته ورعته كان له طعم مختلف ... طعم الفراغ .. لقد اصيب بالرعب من ذلك الاحساس الذي احتل روحه وجعله يفقد القدرة على التواصل مع كل ما حوله ومن حوله .. فانفصل عن واقعه وسجن نفسه داخل فقاعة صلبة شفافة ينظر من خلالها الى العالم الخارجي وهو يتحرك حوله دون ان يستطيع مشاركته في حركته .. فقدت كل الاشياء طعمها .. الاكل .. الضحك .. البكاء حتى سجائره المخلوطة القابعة في احد اركان خزانته لم تثر فيه رغبة تدخينها .. ولم يعد جسده يتجاوب مع الاغراءات المعتادة التي كانت تحركه فيما مضى ... حاول اخراج نفسه من هذه الحالة بشتى الطرق ...فقاد سيارته لساعات وساعات ... تجول في الشوارع المزدحمة .. وتاه في الخلاء المقفر .. وقف امام المباني الفخمة في الاحياء الراقية .. وخاض داخل الحفر الناتجة عن صب مياه البالوعات في الاحياء الفقيرة .. زار اضرحة الشيوخ وتاه وسط المزارع والزرائب .. نام على مقود سيارته امام البحر الصاخب وابتل جسده بالعرق عندما التصق به تراب الارض الحار .. كان فشل محاولاته اليائسة لاستعادة الاحساس بالحياة والتخلص من الفراغ الذي ابتلعه يدخله في دائرة جديدة من الحزن والاحباط .. زادتها سؤاً نظرات حبيبة التي تحولت من اللوم والاتهام الى الاستنجاد وطلب الدعم ...
لذلك غمرته فرحة طفولية عندما احس بالوخزات التي تعبر جسده ... فهي دليل تعافيه من التبلد المؤلم الذي ناء بحمله طيلة الفترة الماضية .. نهض من جلسته بنشاط محموم .. بدل ملابسه .. وفي لحظات كان يقطع الصالة العريضة تسبقه رائحة عطره الخانق .. رفعت حبيبة راسها ورمقته بنظرة كليلة بعد ان رات في ملامحه شرارات ظنتها قد خبت ... تمتم بتحية باهتة دون ان ينظر الى النساء الجالسات اللائي تابعن خطواته حتى اختفى خلف البوابة .. تبادلت نعمات وحبيبة نظرة عميقة حملت معان خفية ونمت عن ادراك مشترك .. ففي احدى لحظات ضعفها النادرة احتاجت حبيبة لشخص آخر تشركه معها في السر الاسود الذي يخنقها .. فلم تجد غير نعمات التي كانت تبادلها الود والاحترام ... يومها اندهشت لجمود وجه نعمات .. ثم ادركت بانها كانت تعلم منذ زمن بعيد بعد ان اخبرها ود العمدة بهواجسه التي كادت تصبح يقين عن سلوك ابن اخيه المشين ... ولم يكن هناك ما يمكن فعله غير التزام الصمت والتظاهر بان ما يحدث غير حقيقي ...
وقف ابراهيم امام باب سيارته وقد تجمدت يداه من لفح الهواء البارد .. دلف الى الدفء الداخلي واغلق الباب خلفه .. اشعل المحرك ثم لفافة التبغ وجلس ساكناً وهو يستمع الى صوت الماكينة يعلو وينخفض ويتامل دخان سيجارته التي تحترق بين اصابعه بشغف .. قاد بهدوء حتى وصل الى بيت (منّان ) الطيني بجدرانه القصيرة ولونه الكالح الحائر بين البني والرمادي ..عندما ترجل امام الباب الحديدي الصدئ بدا التناقض واضحاً بينه وبين المحيط المتواضع حوله ... دفع الباب بلهفة لترتد يده بالم .. فاعاد النظر اليه ليفاجأ بوجود جنزير حديدي سميك يطوق عنقه وفي نهايته قفل ضخم ... تبسم باستهزاء .. فالجدران القصيرة لا تحتاج الى جهد كبير لقفزها لكنه وقف بصبر نافذ وطرق بعنف حتى سمع انين باب الخشب الداخلي يعلن وجود مجيب لطرقاته .. راقب ابراهيم من خلف الحائط راس منان الاشيب وهويظهر ويختفي وسمع صوته المتوتر يسأل بحذر ..
- منو ؟؟!! منو في الباب ؟؟!! ...
- افتح يا منان انا ابراهيم ..
تهللت اسارير الرجل البدين لمراى ضيفه واهتزت طبقات الدهن في جسده وهو يهرول تجاه الباب ..
- معقولة ؟؟!! ... ابراهيم ود العمدة ؟؟!! ياخي بيتنا نور ... الليلة عيد ...
وفي لحظات فُتح القفل وسُحب الجنزير الخانق وهو يصدر طقطقات عالية عند اصطدامه بالجسد الحديدي .. خطا ابراهيم داخلاً وعانق منان بحرارة ادهشتهما معاً ..
- والله ليك وحشة يا منان .. مالك الليلة مقفل بالجنزير ؟؟ عندك شنو ؟؟ معاك منو ؟؟!!
- معاي جادين بس ...
توقفت خطوات ابراهيم عن الحركة وبدا يسحب يده من قبضة منان الذي تمسك بها بشدة ..
- روق يا ود العمدة .. انا عارفك الزول دة ما بتدورو .. لكن ما عندك معاهو أي شغلة وهو زاتو ما حيقعد .. جا جاب لي بضاعة ومتخارج طوالي ..حرّم تدخل وتجربها ...
حسم الحاح منان تردد ابراهيم الذي شعر بحاجة عقله الماسة الى طعم ورائحة الدخان الازرق .. فدخل الغرفة ليجد نفسه في مواجهة عيني جادين المستديرتين ونظراته الباردة التي تنضح كراهية .. لقد ظل لفترة طويلة يسال نفسه بحيرة عن سر هذه الكراهية ... بل حاول ان يزيل اسبابها بالطريقة الوحيدة التي يتقنها فاغدق عليه الاموال والهدايا .. لكن ماله المبذول لشراء الحب تحول الى حطب يغذي نار حقده عليه .. وعندما اصابه الياس منه بادله مشاعره بمثلها لكنها تفوقها سفوراً وقوة .. واصبح الكره بينهما كالظل الاسود الذي يخيم على كل جلسة تجمعهما .. القى ابراهيم التحية على جادين المطرق بتجهم ويتظاهر بالانشغال في اعادة رص قناديل البنقو على طاولة قصيرة امامه .. فرد عليه ببرود ودون ان يرفع راسه ... دلت نظرات منّان على حرجه من تصرف جادين العدائي فبالغ في الاحتفاء بابراهيم ...
- يا ود العمدة ياخي اشتقنا ليك عديل كدة .. يا زول كيف تقطع مننا قدر ده وانت عارفنا غيابك ما بنحملوا ؟؟!! .. والله انا لولا ظروف بيتكم كنت جيتك .. اها الاهل كيف انشاء الله متصبرين ؟؟ ...
اختار ابراهيم كرسيه المفضل وجلس بترفع واضعاً قدم فوق الاخرى لتنتصب مباشرة في وجه جادين الذي امتقع غضباً وتوترت حركات جسده حتى سقطت بضاعته الثمينة من يده وتبعثرت على الارض بفوضى .. كان ابراهيم يراقبه بعيون ضيقة اخفى نظرة الرضا والتشفي الواضحة فيها باسدال رموشه الغزيرة عليها .. لقد كان يستمتع بزرع الغضب داخل جادين محاولاً تعزيز احساسه بالدونية امامه .. الم يرفض ان يبيعه حبه ؟؟!! .. اذن سوف يمنحه كراهيته بلا مقابل .. لم يخف اسلوب ابراهيم المستفز على منّان فسعى لتلطيف الجو بعبارات مجاملة ..
- والله يا ود العمدة المرة دي جادين جاب ( دوكو ) .. منجة بس !! يا زول انا جربتو قبيل وحسيت روحي طاير فوق السحاب .. ايه رايك ؟؟ الف ليك واحدة ؟؟ ...
- لا ما تلف لي .. عندي مزاج الف براي .. بس ناولني العدة ...
هرول منّان واحضر احدى الطاولات الموزعة في الغرفة ووضعها امام ابراهيم .. وسرعان ما اصطفت على سطحها مختلف انواع علب التبغ وحزمة صغيرة من الاوراق الناعمة وقندول متخم بالحبوب .. كان ابراهيم يتابع حركة صديقه الدؤوبة بلهفة حتى انتهى ..
- شيل البرنسيسة يا منان وجيب لي ورقة بيضا عادية ...
- اوووووه .. يا عمنا الظاهر عليك الليلة عندك مزاج ( نقرفة ) عالي ..
وضع ابراهيم الورقة البيضاء في منتصف الطاولة .. اخرج علبه سجائره من جيب قميصه وتناول منها لفافة رفعها امام عينيه ودار بينهما حديث صامت ثم بدأ يضغط عليها برفق من اسفل الى اعلى حتى بدأت حبات التبغ الخشنة تطل براسها من مخبئها الضيق لينزلها بحرص على سطح الورقة .. كرر العملية بصبر حتى افرغ اللفافة من احشائها وحنى راسه على الطاولة متابعاً حركة اصابعه التي تعزل بعض قطع التبغ وتتخلص منها .. عندما انتهى من من عملية الفرز البطيئة حمل القندول ورفعه الى انفه ... استنشق منه نفساً عميقاً قبل ان يبدا بفركه بقوة فتساقطت حباته واستقرت مشكلة هرماً صغيراً تخللته انامل ابراهيم الطويلة ومزجته باحتراف حتى تكون الخليط الذي يرغبه .. حمل ورقة اخرى وطواها في شكل قرطاس بفتحة صغيرة اسفله ووضع بداخله مزيجه الغالي ثم بدا يعيده بحرص شديد داخل اللفافة المفرغة .. بعد ان استقرت آخر قطعة في مكانها حمل للفافة بعناية وضربها على طرف الطاولة ضربات سريعة متتالية ثم برم طرفها برقة قبل ان يشعلها ويعيد تموضع جسده داخل الكرسي العريض .. اغمض عينيه واسند راسه الى الخلف وبدأ يعب انفاس عميقة لا يكاد يخرج من دخانها الا اقله ... احس بهمومه تتلاشى .. وباحزانه تخرج من جسده وتتراقص حوله كالظلال قبل ان تتبدد في فضاء الغرفة الخانق ... لم يعد هناك احساس بالفراغ .. لقد امتلا جوفه بفيضان من الالوان الزاهية .. وبدا يشعر بسعادة كان قد افتقدها منذ زمن طويل .. تراقصت ابتسامة رضا على شفتيه وما لبثت ان تحولت الى ضحكات عابثة .. قاطعها جادين بصوت كالفحيح..
- صحي دنيا دبنقا !! .. ناس تجري وتتعب وتجازف بروحها عشان تجيب البضاعة وناس تلقاها باردة وعلى الجاهز ...
رفع ابراهيم راسه من اتكاءته ونظر الى جادين بجفون خاملة .. واتسعت الابتسامة الناعسة وهو يخاطب غريمه باستعلاء متعمد زاده وضوحاً تلاعب الدخان الازرق بخلايا عقله الواهن ...
- تعرف يا جادين انك زول حاسد وحاقد ؟؟!! .. انا بس المحيرني انت بتكرهني قدر دة ليه ؟؟ انا عملت ليك شنو ؟؟ .. عرست امك ولا قتلت ليك زول ؟؟ .. ياخي حكمة ربنا اني طلعت غنيان وعندي قروش كتيرة وانت طلعت فقران وعدمان وصرمان .. يعني عاوز تعتطرد على حكمة رب العالمين كمان ؟؟!! ولا عاوز تحاسبه عشان بقاني كدة وبقاك انت كدة ؟؟!! دي حاجة غريبة والله .. ياخي بيّض نيتك شوية يمكن ربنا يفتح عليك ...
اصبح جادين صورة مجسدة للغضب فهب واقفاً بعنف .. وخرج صوته زاعقاً حاداً ..
- انا حاقد ؟؟!! .. انت بحسدك ؟؟!! على شنو ؟؟!! عشان غنيان ؟؟ طظ فيك وفي قروشك .. وبعدين مش لمن تبقى قروشك بالجد ؟؟!! هو انت جبتها بضراعك ولا بنفاعك ؟؟ اشتغلتها ولا تعبت فيها ؟؟ انت حيا الله قمت من نومك ولقيت كومك ... يعني لو ما قروش عمك انت ما كنت حتسوى بصلة معفنة ...
- براحة يا جادين ... روّق شوية احسن يطق ليك عرق .. وبعدين ياخي القروش حقتي حقت عمي .. حقت ابوي .. ولا حتى حقت امي .. ما مهم .. المهم انو عندي قروش وقروش كتيرة شديد بقدر اشتري بيها أي حاجة انا عاوزها ...
- لو بتقدر تشتري بيها أي حاجة كنت اشتريت بيها رجالة تتم بيها نقصك .. اوعى تكون مفتكر عشان قدرت تغش الناس كلها بعرسك وولادتك حتقدر تعمل فيها راجل عليّ انا كمان ؟؟!! ... احنا دافنينو سوا .. وانا عارف قيرك وقعيعيرك .. اها انا ما عندي زي قروشك .. لكن احمد الله انا راجل كامل وما فيني نقص بيحوجني اتدسى ورا العندي ..
احس ابراهيم ببروده يفارقه وبدات الدماء تغلي في عروقه ... لقد نكأ جادين جرحه ومكمن وجعه فوقف بعنف في مواجهة خصمه الضئيل ..
- انا راجل غصباً عنك يا كلب .. عاوز تعرف رجالتي ؟؟ تعال هسة اوريك ليها ..
تراجع جادين خطوة الى الوراء وارتفعت ضحكته ساخرة ..
- رجالتك دي وريها للبتشتريهم بقروشك .. انا ما لازماني ... وكان انت مقتنع انك راجل زيك زيي واحد .. اريتها الرجالة تطير ..
لم يشعر ابراهيم بيده وهي تصطدم بوجه جادين .. لكنه سمع صوت الآهة التي اطلقها قبل ان تطيح به الضربة ارضاً .. عندما دخل منَان الغرفة فوجئ بمنظر ابراهيم المتحفز وجادين المرمي ارضاً وقد امتلا وجهه بالدماء التي تسيل من انفه وشفتيه ...
- بسم الله في شنو يا جماعة ؟؟!! مالكم ؟؟ استهدوا بالله .. الحصل شنو ؟؟!!
قفز جادين من سقطته صارخاً ...
- التافه دة ضربني عشان وريتو حقيقتو ... لكن والله ما افوتها ليك يا واطي .. وان ما اخدت منك حقي بايدي ابقى صحي انا المرا وانت الراجل ..
بحركة مفاجئة رفع كم جلبابه العريض واستل من حزام جلدي مربوط بذراعه خنجر صغير لامع ... وقبل ان يدرك أي منهم خطوته التالية كان السلاح المميت قد استقر في بطن ابراهيم الذي تمايل بذعر وهو يحاول سد الفجوة التي تنزف منها الدماء بغزارة ... تسمر منّان في مكانه وحل بالغرفة سكون تام الا من صوت تنفس ابراهيم المتسارع .. عندما استوعب جادين ما فعلته يداه .. رمى سلاحه واطلق ساقيه للريح ...
شق حامد طريقه الى داخل الغرفة التي وضع فيها ابراهيم وقد امتلات برجال الشرطة بينما تحلق بعض الفضوليين خارجها .. اخافه شحوب وجه ابن اخيه الذي حاكى لون غطاء السرير القذر .. والتفت الى الطبيب بتساؤل صامت ...
- ما تخاف يا حاج حامد حيبقى كويس .. هو فعلا فقد كمية كبيرة من الدم .. لكن قدرنا نلحقو .. ما شاء الله بنيته قوية وحيتحمل .. كلها كم يوم ويرجع لحالتو الطبيعية ...
التقط ضابط الشرطة الموجود في الغرفة طرف الحديث وخاطب حامد باحترام ينم عن معرفة سابقة
- معليش يا حاج حامد .. اول ما يفوق حنكون مضطرين نسوقو عندنا .. الموضوع الدور دة ما ساهل ومافي طريقة نلمو زي كل مرة .. دي بقت فيها محاولة قتل .. اضافة لكدة البيت الاتضرب فيهو سيدو تاجر مخدرات معروف وسمعتو زي الزفت .. وعامل بيتو وكر للمنوعات وحاجات تانية كتيرة ...ولمن مشينا بعد البلاغ لقينا مخدرات بالكوم ... والزول الطعن ابراهيم زاتو تاجر معروف .. الدورية قبضت عليهو في موقف الباصات كان بيحاول يسافر .. واول حاجة قالها انو ابراهيم هو سيد التجارة كلها وهو الممول لنشاطهم ... ولو التحقيق اثبت صحة الكلام دة وانو ابراهيم فعلاً متورط معاهم في تجارة البنقو .. حتواجهوا مشكلة كبيرة وصعب يطلع منها .. المرة دي .. حتى انت ما حتقدر تعمل ليهو حاجة ..




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:41 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.