تتمشّى في أرجاء الشقّة شبه جاهزة البناء -والتي تقع مباشرة فوق شقّة كرم وغزل- بخطوات مرتبكة بينما يمشي هو خلفها تماما حتّى وكأنّها لو وقفت فجأة قد تجده يرتطم بها... أمّا هو فكان يتأمّل انحناءاتها الظاهرة من فستانها الحريري زيتيّ اللون مكتمل الطول بقمّة الاستمتاع وسعادة لا سيطرة له عليها تغمر قلبه
تنحنح يوسف من خلفها وقال لها: البيت زي ما إنتي شايفة مو جاهز بس ان شاء الله شهر زمان وبكون خلص الشغل فيه يعني قبل العرس بتكون كلّ أموره منتهية بإذن الله ومو ناقص غير تنقّي الأثاث اللي بدّك إيّاه
نظرت له زوزو من طرف عينها وقالت: خد راحتك بالشغل فيه قدّامك سبع شهور بالراحة لحتّى أخلص هالسنة
ضحكته المتلاعبة رنّت في أذنها فقالت مغتاظة: أنا ما بمزح على فكرة... إذا أخوك تذكّر يحدّد موعد عرسه بعد سبع سنوات زواج إحنا ليش نتزوج معه وما إلنا كم يوم مخطوبين؟!
ضجّت ضحكة يوسف تملأ المكان فيرتدّ صداها بداخل صدرها مفسدا عليه سكونه فتناقشه من جديد بغيظ: يوسف افهم عليّ... أنا سنة سادسة طب يعني أخيرة بتعرف شو يعني؟ يعني أنا فعليا ما بفضى حاليا أمشّط شعري كيف بدّك إيّاني أتزوّج؟!
بنظرة جادّة سألها: طيب ما بتنامي؟
ألقت عليه نظرة زاجرة وقالت باستهزاء: طبعا أكيد بنام
غمزها يوسف وقال بمكر: خلص محلولة حبيبتي... ولووو أنا بمشطلك إيّاه
يائسة من حوار جديّ معه متجاوزة عن تلميحاته زفرت زوزو هواءا ساخنا قبل أن تقودها خطواتها لآخر غرفة لم يُرها إيّاها بعد وقد كانت غرفة واسعة بحمّام ملحق بها فعرفت ما هي دونما حاجة لشرح منه ولكنّه بالطبع لم يكن أبدا ليوفّر تلك الفرصة على نفسه إذ سرعان ما سمعت التعريف ينسكب مباشرة في أذنها بسيطا واضحا في ظاهره ولكنّه من بين شفتيه وبينما يداعب أدق الأعصاب الحسّية في أذنها بدى مخلّا... جدا: غرفة نومنا!
لا اراديا فتحت زوزو عينيها وقطعت أنفاسها وبقيت جامدة مكانها دون أدنى حركة وهكذا وفي لحظة واحدة وجدته أمامها يسألها مبتسما بعبث: عجبتك؟
بالطبع من وجهة نظرها لم يكن هناك في الغرفة شيء لتجيبه فيه فهي لا علاقة لها لا بمساحات ولا زوايا والغرفة حاليا وكما يقولون "على العظم" أي لا شيء فيها واضح المعالم بعد فهي لازالت كما كلّ الشقة تحت الإنشاء وإن كانت قد دخلت مرحلة التشطيبات ولكن... عينيه كان فيهما الكثير كان فيهما دفئا عجيبا أشعرها بمدى تناقض شخصاهما فذلك الدفء قد أبرز ما في روحها هي من برودة وهكذا ولا اراديا اقشعرّ جسدها ووجدت نفسها تهمس مبرّرة: باردة
ابتسم لها وقال بينما يمسك بكفّيها الباردين بين يديه فيصدمه صدق قولها: وأنا مهمتي أدفّيكي بالغرفة هون... وبرّة الغرفة.. بالصالة... بالمطبخ... بالحمااا...
تلك البرودة التي كانت تشعر بها زوزو تلاشت فجأة ليحلّ محلّها سخونة عجيبة اجتاحت كلّ كيانها بفعل توهج وجهها من وقاحة ما توحي به كلماته فقالت من جديد وبعنف تقاطعة: اففففف شوووب "حرّ"
أفلتها يوسف رغما عنه مقهقها وقال: حيّرتيني بردانة ولّا شوبانة بس كمان ولا يهمّك أنا مهمتي أبردك كمان.. هون بالـ....
حدجته زوزو بنظراتها وقالت مقاطعة: افففف يا الله منّك شو قليييل أدااااب
فتح يوسف عينيه وقال مدّعيا البراءة: ليش بس شو حكيت أنا يعني الحق عليّ بدّي أركب عشانك تكييف بكلّ الشقّة... مش فاهم بس إنتي شو بيخطر على بالك أشياء!!
فتحت زوزو عينيها وقالت بانشداه: يا حرام شو مظلوم... بالضبط زي ما إنت مظلوم بموضوع النوم التقيل مزبوط؟!
ابتسم يوسف ووقف بجانبها واضعا ذراعه بكلّ أريحية على كتفها بينما يخطو بها ببطء نحو وسط الغرفة الواسعة ويقول: حبيبتي هدول بس ما بيعرفوا كيف يصحّوني إنتي خدي منّي الطريقة السحرية وراح تدعيلي
ضيّقت زوزو عينيها وقالت له متهكّمة: وشو هي الطريقة السحرية سيّد يوسف؟
نظر إليها يوسف وقال بكلّ جديّة: عمرك شفتي فيلم الجمال النائم؟
هزّت زوزو رأسها وقالت: أكيد حضرته وأنا صغيرة
ابتسم يوسف وقال: اعتبريني الأميرة الجميلة النائمة وإنتي الأمير الوسيم وبوسيني وشوفي بصحى ولّا ما بصحى بتحبّي نجرّب؟!
مدّت زوزو له قبضتها وضربته على كتفه وقالت غاضبة: ما أخفّ دمّك
قهقه يوسف من جديد آخذا أنفاسها مرة أخرى فقالت تدّعي الغضب تداري ذلك النبض المريض في قلبها: إنت كلله عندك مزح مزح ما في جد أبدا؟
صمت يوسف على حين غرّة ونظر لعينيها وقال: أكيد لأ وإلّا ما كنتي بتتفرجي على شقة بنيتها من تعبي وكدّي.. أنا انسان بحبّ أعيش كلّ لحظة من لحظات حياتي كما مفروض الشغل شغل والمتعة متعة وهكذا!
صمتت زوزو تتأمّل في معاني كلماته وصدى كلمات أخرى مشابهة لها تطرق مسامع ذاكرتها... أيعقل أن ليس كلّ ما قيل بوقتها قد كان كذبا؟!
نظرت زوزو من حولها تتهرّب من تخبّط أفكارها وخطواتها وركّزت على موضوع الشقّة التي كان يتحدّث عنها مدركة لما يقصده فقلّة من الشباب اليوم من يتزوجون ببيوت خاصة بهم ودون عناء وقروض مهلكة إلّا بالطبع من يوفّر لهم أهلهم جميع متطلبات الزواج دون حاجة للتعب فقالت متسائلة بدهشة: منّك الشقّة؟
نظر يوسف هو الآخر حوله وقال بفخر: أكيد منّي ليش هيك مستغربة حوالي سبع سنين بالغربة أقل منها أطلع منها بشقّة؟
صمتت زوزو ورغما عنها أخذت تتأمّله وكأنّها تراه للمرّة الأولى وقالت بفضول لم تسمح له بالسيطرة عليها منذ سنوات: بتعرف... أنا ولا مرّة سألتك إنت سافرت ليش يعني شو كنت تعمل هناك
أمسكها يوسف من يدها ليقفا معا أمام شبّاك الغرفة فيتأملا الساحة بالأسفل حيث أولاد أحمد وابنة كرم يلعبون معا وبعد صمت بدى لها طويلا ومريبا قال: ليش سافرت... صعب أحكيلك لأنّه خطيبتي مشترطة عليّ ما أجيب سيرة الماضي ما بعرف ليش مع إنّه كان في أشياء كتير حلوة حرام الواحد ينساها...
تنظر إليه سارحة ابتلعت زوزو ريقها تحاول الربط ما بين الموضوعين فشدّد من قبضته على يدها بينما يكمل: أمّا شو كنت أعمل هناك فعملت شغلتين... اشتغلت أنا ومعتز بشركة محاسبة بتوصية من معارف لكرم أخوي وبعد حوالي سنتين وبإلحاح وزنّ كتير من العبقرينو عمر لقينا حالنا بنقدّم ماجستير
ما إن أنهى يوسف جملته حتّى التفّ رأس زوزو سريعا نحوه تنظر له بصدمة وتقول بعدم تصديق: يعني إنت هلأ معك ماجستير؟!
ابتسم يوسف ووقف قبالتها مستندا بجذعه على حافّة النافذة وقال: تخيّلي... يعني لو بدّي ممكن بسنة ونص أو سنتين أصير دكتور زيي زيك بالضبط... عشان تبطلي تشوفي حالك عليي!
قطّبت زوزو جبينها وقالت باعتراض: بس أنا مو شايفة حالي عليك
رفع يوسف حاجبيه ونظر إليها مستفزّا فقالت بعد هنيهة بحنق: أنا هيك "هكذا"
بعيون ملتمعة اعتدل يوسف بوقفته وأمسكها من عضديها مبعدا إيّاها عن محيط النافذة تاركا إيّاها غارقة ببحر التوهان بما يفعل وقال هامسا قبل أن ينقضّ على شفتيها: وأنا بمووووت بهيييك
حاقدة على نفسها من استسلامها له منذ أسبوع اشتدّت عنفا في المقاومة هذه المرّة فأخذت تتلوّى بوجهها يمينا ويسارا مضطرّة إيّاه للإمساك برأسها ليثبّته بقوّة أمام وجهه وينظر لعينيها بحدّة أخافتها هامسا لعينيها: زاكية... لا تقاوميني لإنّه كلها شهرين وراح تكوني إلي ووقتها ولا أي قوّة بالدنيا راح تمنعني عنّك... أنا نفسي ما راح أعرف لو حاولت عشان هيك الأسلم إلك إنّك تتعوّدي تستسلمي لحبّي... جربي تستمتعي... جربي تتقبليني... جربي تعترفي بمشاعرك ولو حتّى لنفسك... اعترفي إنّك بتحسّي ناحيتي بأيّ إشي صدقيني راح ترتاحي
فاغرة عينيها وصلتها كلماته تصفع روحها تعرّي مخاوفها فينقضّ عليها هو من جديد وقد أدّى مهمّته وضعضع حصونها فيرتشف من ذلك الدفء الكائن بين شفتيها ينصهر بها ويصهرها رغما عن أنفها به ولا يتركها إلّا وقد خارت قواها فتنهار على صدره مشدوهة بأنفاس متقطّعة ترتعد خائفة من عنيف ما تشعر بعد أن باتت مكشوفة أمامه وضعيفة أمام نفسها... بعد أن بدأ يتحرّك بقلبها ما لا تريده أن يتحرّك... بعد أن بدأ الاحساس بها والشعور يتململان من طول الرقاد وهذا ممّا لا تريده أن يحصل أبدا فبصحوتها ستحيا أشياء كثيرة لن تجلب لها إلّا الألم وهكذا ومع عصف أفكارها المدمّرة والتي كان هو وحده السبب فيها وجدت نفسها تقول منتقمة منه ومن نفسها الخائنة بذات الانفاس اللاهثة: لا تشوف حالك يوسف أنا مو ساذجة... اللي بصير ممكن يصير بين أي تنين خاطبين
كلمات قالتها أرادت بها إصابة غروره ولكن في الواقع كلّ ما نجحت في إصابته كان قلبه وكلّ ما فكّر به لحظتها متوجعا... يا لوجع قلبك يا معتز!!
.................................................. ......................