"انتي اتجنّنتي! عايزة تسيبينا وتسافري عشان تاخدي واحد ما فيهوش ميزة واحدة وكمان إسمه كاسر طب ما الموضوع باين من عنوانه اهو!!!"
تنهّدت لميس بضيق، فكلمات حسين لا زال صداها يطرق أسماعها بقوّة مجرِّدة لحقيقة الوضع بشكل فجّ
تستعجب هي بنفسها من تلك الحيرة التي وبدلا من أن تنتهي بل وتقمع قمعا من داخلها تزداد تشبّثا في تلابيب عقلها بل وروحها المُضناة أيضا
العريس غير مناسب وهذه حقيقة هي تدركها فحتّى امرأة بظروفها كأرملة سبق لها الزواج ستُتاح لها خيارات أفضل وقد حدث هذا فعلا بل وعدّة مرّات ولكن السؤال هو هل هي تستحق الأفضل؟!
ارتكزت لميس بجسدها على ظهر سريرها وفركت صدغيها بقوّة والأفكار تكاد تفتك برأسها، ما تستعجبه من نفسها حاليا هو أنّها لطالما رفضت كلّ من تقدّم إليها خلال السنة والنّصف الماضية وذلك بعد أن استكملت علاجها بالكامل بل إنّ كلّ طلب زواج لم يكن يأخذ من حيّز تفكيرها أكثر من دقائق هي الوقت المناسب لصياغة رفض مهذّب وغير جارح، فلماذا الآن بالذّات هي تفكّر بالـ... تفكير؟ ألم تكن قد قرّرت أن تنأى بنفسها عن كلّ الحاجات الدنيوية التي لا تؤدّي إلّا إلى الهلاك؟ ألم تكن قد قرّرت أن تعيش لتكفّر فقط عن عظيم ذنوبها حتّى يأخذ الله روحها؟ هل هو إلحاح منال أم هو ذلك الإحساس المؤلم المُرضي بداخلها أنّها ستلاقي أخيرا... ما استحقّته
صوت طرقات خفيفة على الباب جعلها تعتدل وتنادي سامحة بالدخول
ابتسمت تلقائيا برقّة ما إن أطلّ عليها محمّد بجسده الذي وإن كان يميل قليلا إلى الامتلاء إلّا أنّه امتلاء عضليّ يضفي عليه بعضا من ضخامة لا سمنة، جلس بجانبها على السرير وابتسم لها متفهّما قبل أن يسألها: إنتِ كويّسة؟
هزّت رأسها بخفّة وأجابت بابتسامة مرتعشة وصوت خفيض يقرب للهمس: الحمد لله، وهوّ عامل إيه دلوقت؟
تنهّد محمّد بهمّ على حال شقيقه قبل أن يقول لها: هيكون كويس ما تقلقيش الموضوع بس فاجأه انتِ عارفة إنّ حسين انفعالي وما بيعرفش يسيطر على أعصابه بس قلبه طيّب، شويّة وهيروق من نفسه
تغضّن جبينها بألم وصمتت تفكّر بأخيها الذي ما إن أخبرتهم عن أخ منال حتّى بدأت إمارات الضيق تظهر عليه ليتجلّى في أكبر صوره بينما تسرد عليهم البيانات العامّة للعريس فيأتي الانفجار حين أخبرتهم أنّها تحتاج أن تتحدّث معه لترى إن كان هناك بعض التفاهم بينهم أو القبول قبل أن يأتي هنا لمقابلتهم بشكل رسميّ!
معارضة إخوتها وحتّى شقيقتها زاكية التي لم تعرف شيئا عن الموضوع بعد كان أمرا تتوقّعه دون ممانعة أو اعتراض منها فهي قد استخارت ربّها وتوكّلت عليه، ولكنّها لم تتوقّعه أن يكون عنيفا بهذا الشكل!
صوت محمّد الهادئ يناديها انتزعها من أفكارها لتجده ينظر في عمق عينيها وكأنّه يحاول التغلغل لرأسها لقراءة أفكارها قبل أن يقول: إنتِ من جوّاكِ عارفة طبعا إنّ حسين معاه حق، أخو منال فعلا ما فيهوش أيّ ميزة مشجّعة على القبول وانا مستغرب بصراحة من صاحبتك دي، منين بتحبّك ومنين تجيبلك عريس بالمواصفات دي ولّا كمنّه أخوها شايفاه لقطة يعني، أنا اسمع إنّ القرد بعين امّه غزل إنمّا اخته كمان!
قالها محمّد ممازحا في حالة تعتبر نادرة محاولا ترطيب الأجواء فتبسّمت لميس دون مرح حقيقيّ فأكمل محمّد جادّا: إنتِ جميلة جدا يا لميس وصغيرة اللي قدّك ما تجوزوش لسّة وبيختاروا وبيتشرّطوا إيه اللي يجبرك تقبلي الجوازة التعيسة دي وأوعي تقوليلي عشان أرملة والكلام الفارغ دة لإن سبق وجالك عرسان كتير وكلّهم أحسن منّه سواء من ناحية السنّ أو الظروف الإجتماعية وفي منهم الملتزم الحافظ للقرآن والي كان ممكن يعينك في دينك ومع ذلك كنت بترفضيهم من غير لحظة تفكير شمعنا دة اللي وافقتي عليه؟
أجابته لميس بسرعة: بس أنا ما وافقت يا محمّد
فقال بسرعة: وما رفضتيش يا لميس ودة يعني إنّ القبول وارد وارجع وأسألك شمعنا هو ليه مش أيّ واحد قبله يكونش عشان أردنى والباقى كانوا مصريين ؟
نظرت له لميس وقالت نافية بسرعة وحميّة لأخويها: لأ طبعا شو هالحكي! أوّلا احنا كلنا مسلمين زيّ بعض وتانيا وهاد الأهم بكفّي إنّك انت وحسين مصريين عشان أعرف شو يعني رجل مصري وأحبّهم كلّهم
ضحك محمّد وقال مناكفا: لا لا يا لميس مش لدرجة تحبّيهم كلّهم إحنا كدة هنتعب واحنا بنعدّ كان كفاية علينا واحد بس من كلّ اللي تقدّمولك دة غير إنّ ستّات مصر كلّها ممكن ييجوا يخلّصوا عليكي واحنا ساعتها مش هنقدر عليهم
همست حينها لميس قائلة بخزيّ متخفّية به خلف لهجة مصريّة: ميستاهلوش
كلمتها وبلهجته صعقت عقله فشلّته لثانية عن التفكير فسألها بصدمة: ميستهلوش؟ تقصدي إيه؟ تقصدي إنهم ميستاهلوكيش عشان كدة كنتِ بترفضيهم؟
دمعت عينا لميس وقالت بصوت مرتعش: لأ يا محمّد... أنا قصدي... إنّهم ما بيستاهلوا وحدي زيّي عشان هيك كنت برفضهم
شحبت ملامحه وردّد قائلا: وحدة زيّك؟
دمعة سقطت من زوية عينها وأكملت بصوت مختنق مجروح: العرسان اللي إنت بتحكي عنهم حتّى لو ما كنت رافضة فكرة الزواج ككل كنت راح أرفضهم بكلّ الأحوال لإنهم كلهم... كلهم أحسن منّي، كلّ واحد فيهم بيستاهل زوجة متله طيبة، بيضا من جوّة نقيّة و... طاهرة مش مشوّهة الروح و... مدنّسة!
قالتها لميس وانهارت باكية رغما عنها فاحتضنها محمّد مغمضا عينيه يداري ما يعصف بهما من ألم جرّاء توالي الذكريات
لميس أختهم التي لا يزال لا يميّز إن كانت وجدتهم أم هم من وجدوها، ولكن ما يعلمه أنّهم حين فعلوا كانت بقايا انسان، أرملة مشوّهة بلا ملامح وروح كسيرة مثقلة بجبل من الذنوب
صمتت ولم يسألا ولم يكن من الصعب عليهم أن يعرفا بعضا من خفايا نفسها فأن يحرق رجل نفسه وزوجه ليس يحتاج إلى الكثير من الذكاء للفهم وخاصّة... بالنسبة لهما، فالحكاية بالنسبة لهما مجرّد اسطوانه قدرية... مكرّرة ومشروخة، لكنّهما مع ذلك تقبّلاها هكذا ودونما محاكمة، شفقة بالبداية ورضا لاحقا، فضميرها المثقل بالذنب مع إلحاحها بطلب التوبة كانا مسكّنا لوجعهما ومحفّزا لمسامحتها فهناك غيرها أذنبت ولم تَتُب يوما مخلّفة وراءها ما من المفترض به أن يكون فلذتين من كبدها دون أن يؤرقها ضميرها يوما فتعود لترى نتيجة ما خلّفته وراءها من دمار، أمّا هي وبعد مدّة لا بأس بها فكلّ ما أخبرتهم به كان أنّ الأمر تعلّق بظهور شاب عرفته بمراهقتها هناك في الغربة، فأعادا تواصلهما دون علم زوجها وأحيا ما كان علاقة بينهما، تساهلت معه وأخطأت إلّا أنّها لم تتمادى بارتكاب كبيرة من الكبائر، وكان أن علم زوجها فاقتصّ لنفسه منها وقتل نفسه معها قهرا، وهنا كان آخر حديث له هو معها حول هذا الأمر... حتّى الآن، وكم يتمنّى لو أنّ الآن لم يكن!
تنحنح محمّد وتململ بانزعاج فأبعدت لميس جسدها عنه ليقول لها بضيق وتشنّج وإنّما بإيمان صادق: إيه الكلام الي انتِ بتقولي دة، أمّا تكون روحك انتي اللي ما بتقوميش عن سجادة الصلاة واللي قرّبتِ تختمي حفظ القرآن روحك مشوّهة ومدنّسة النّاس العادية اللي زيّنا كدة تبقى روحنا شكلها إيه!
مسحت لميس بقايا دموع من على وجنتيها وقالت بحزن: إنت فاهم قصدي كتير منيح يا محمّد... أنا انسانة بماضي بشع، أنا ما بشبه أبدا الإنسانة اللي بيتوقّعوها، أنا عملت بحياتي ذنوب عظيمة بكفّي... بكفّي إنّي كنت السبب بإنّه زوجي يفقد عقله، ينسى ربّه وحسابه، يحرقني و... يقتل حاله
ما إن أنهت لميس كلماتها حتّى انخرطت ببكاء جنائزيّ وكأنّما ما حدث قبل أربع سنوت قد حدث الآن للتوّ
.................................................. .................................................. ......................