آخر 10 مشاركات
روايتي "حمل الزهور ألي كيف أردهُ؟ وصبايا مرسوم على شفتيه" * مكتملة ومميزة * (الكاتـب : الريم ناصر - )           »          1032- رجل صعب - كاي غريغوري -عبير دار نحاس (الكاتـب : Just Faith - )           »          1031 - الأمان في الحب - ساندرا فيلد -عبير دار نحاس* (الكاتـب : Just Faith - )           »          بركة الدار - (96)نوفيلا- بين جنون العشق وجبروت القدر - سما صافية*مميزة*كاملة&الرابط* (الكاتـب : سما صافية - )           »          عندما تنحني الجبال " متميزة " مكتملة ... (الكاتـب : blue me - )           »          409 - غدا لن ننسى - تريزا ساوثويك (الكاتـب : ^RAYAHEEN^ - )           »          أكتبُ تاريخي .. أنا انثى ! (2) *مميزة ومكتملة * .. سلسلة قلوب تحكي (الكاتـب : كاردينيا الغوازي - )           »          300-عيون الحلم -فلورا كيد -عبير الجديدة (الكاتـب : Just Faith - )           »          الهاجس الخفى (4) للكاتبة: Charlotte Lamb *كاملة+روابط* (الكاتـب : monaaa - )           »          سارية في البلاط الملكي * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : هديرر - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > مـنـتـدى قـلــوب أحـــلام > منتدى قلوب أحلام شرقية

Like Tree12Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 01-04-20, 11:07 PM   #1511

سمية سيمو


? العضوٌ??? » 396977
?  التسِجيلٌ » Apr 2017
? مشَارَ?اتْي » 4,356
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
?  نُقآطِيْ » سمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك action
?? ??? ~
keep smiling
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي



القطعة الثانية عشرة
=========

_إيه المفاجأة الحلوة دي؟!
همس بها بصوته الذي يمزج حنانه بمرحه وعيناه تلتقيان بعينيها فور استيقاظها على فراشه ..
فتوردت وجنتاها بخجل وقد انعقد لسانها عن الرد..
بينما انحنى هو عليها لتطبع شفتاه هدية رقيقة على عنقها مع همسه:
_اللي يلاقي حاجة في سريره تبقى بتاعته ...كده خلاص مش هتخرجي من هنا تاني.
احترق وجهها بحرارة عاطفته وهي لا تدري كيف تشرح له سبب وجودها هنا...
وبالتحديد بعد ليلة الأمس الغريبة!!
لكنه رفع رأسه أخيراً ليزيح شعرها عن وجهها ملتقطاً نظراتها الخجول بعينيه العابثتين هامساً:
_أنا عايز كل يوم صباح من ده...بس قوليلي الأول...نمت هنا ليه؟!

عضت شفتها السفلى بقوة مسبلة جفنيها وهي تستند على راحتيها لتنهض من رقادها ...
قبل أن تفتح عينيها لتدور في الغرفة حولها تستكشفها...
كم تبدو لها غريبة الآن عن تلك التي هربت إليها بالأمس من كوابيس ذكرياتها!

_كنتِ خايفة ؟!
قالها بإشفاق وهو يقوم بدوره ليستند إلى ظهر الفراش جوارها فارتجفت شفتاها وهي تومئ برأسها دون رد ...

هنا شعر بالغضب من نفسه إذ تركها ليلتها الماضية وحدها بعدما صارحته به ...
لقد فكر في قضاء الليل معها ساهراً رغم تيقنه من استسلامها للنوم لكنه لم يستطع !
رؤيته لها نائمة بتلك الدموع المتجمدة على وجنتيها كانت تستثيره بجنون ...
تحيي بداخله ثورات وثورات من مشاعر متناقضة كانت تجتاحه بلا رحمة...
أجل ...كان يريد أن يوقظها...يلتقط من بين شفتيها التفاصيل...كل التفاصيل ...يجمع كل الخيوط برأسه كما يُفترض برجل بطبيعته!
لكنه في نفس الوقت كان يريدها أن تنام...أن تنسى...

أن تفقد ذاكرتها فلا تعود تعرف من دنياها إلا أيامها معه ...هو فقط!
فيالتناقض!
وبين الشعورين قضى ساعة من الوقت ممزقاً قبل أن يقرر
الانسحاب من المعركة كلها إلى -غرفته الآمنة- دون أن ينسى أن يبقي لها الكشاف الكهربي مضاءً تحسباً لعودة انقطاع التيار...
وهاهو ذا يستيقظ صباحاً ليجدها نائمة جواره !
لا...لم يكن من الحماقة ليفهم أن تصرفها هذا لا يغير شيئاً من حقيقة وضعها و"عقدتها"...
لكنه كان يكتفي -مؤقتاً- بحلاوة شعوره أنها تجد أمانها معه رغم كل شيء!

لهذا احترم صمتها قليلاً ثم احتواها بين ذراعيه ليهمس لها بينما أنامله تربت على ظهرها برفق:
_قوليها! قولي كنت خايفة فجيت هنا...اتكلمي...قولي كل اللي انتِ حاساه ...من النهارده مش عايزك تخبي عليّ أي حاجة مهما كانت صغيرة !
رفعت إليه عينيها بتردد وقد انفرجت شفتاها وكأنها ستهم بقول شيء ما تراجعت عنه سريعاً لتعاود دفن عينيها في كتفه ...
فتنهد بحرارة وهو يضمها إليه بقوة أكبر مردفاً:
_ماتضيعيش مني تاني...ماتستخبيش تاني لوحدك...من يوم ما عرفتك وأنا بجرب معاكِ إحساس عمري ما عشته...إحساس إني آخد وبس...عمري ما كنت أناني مع حد زي ما كنت معاكِ...جه الوقت إن ده يتغير...
ثم رفع ذقنها إليه ليلتقط نظراتها المهتزة هامساً:
_عايزك تسمحيلي أعمل حاجة...أي حاجة ...تخرجك من اللي انتِ مصرة تواجهيه لوحدك ده.
اتسعت عيناها للحظة وكأنها لا تصدق أنه يقول لها هذا قبل أن تخفي وجهها كله بين راحتيها لتغمغم بصوت مرتجف:
_مش قادرة أتكلم...لحد دلوقت مش مصدقة إني قلت لحد على اللي حصل...ومش أي حد...انت ؟! معقول؟! انت بالذات ؟! إزاي؟!

لكنه أزاح كفيها عن وجهها ليستبدلهما براحتيه اللتين احتضنتا وجنتيها مع قوله بحزم أكبر:
_عشان انتِ عارفة إني مش هاخلليكِ تندمي على صراحتك دي .
فهزت وجهها بقنوط هامسة:
_ماكنتش عايزاك تشوفني ضعيفة كده ...كنت عايزة أدخل حياتك وأخرج منها وأنا لسه ...
_مش هتخرجي!

قالها بحزم مقاطعاً وهو يضع أنامله على شفتيها لتلتقي عيناهما في لحظة بدت وكأنها عرقلت xxxxب الزمن كي لا تسير!
عيناهما العسليتان اللتان هما نقطة تشابهما الوحيدة تتلاقيان
الآن بعناق طويل لا تكادان ترمشان فيه ...
نظراته تعد وعداً بعد وعد ...
ونظراتها تهب عشقاً بعد عشق...
شفتاه تنجذبان نحو وجهها بجاذبية صارت أقوى من أن يتجاهلها فتغمض عينيها بترقب ليتمالك هو نفسه وتحيد قبلته عن مرمى شفتيها إلى جبينها !
لحظات صمت مرت كدقائق قبل أن يتنحنح هو ليقول بصوت عاد إليه مرحه مع خشونته:
_طيب...قرار دكتاتوري رقم واحد ...من النهارده مفيش نوم لوحدك في أوضتك ...
ثم غمزها وهو يداعب شاربه بغرور مصطنع بينما يغلظ صوته عامداً:
_اللي يدخل جيب السبع مايخرجش منه أبداً!

ضحكت رغماً عنها ولازال بعض القلق يظلل ملامحها مما يكمن خلف عبارته ...
هذا القلق الذي طمأنته نظراته بعدها وإن لم ينطق بشيء...
فأومأت برأسها موافقة لتمتد أنامله نحو خصلات شعرها القصيرة التي صار يتلذذ بملمسها قائلاً بنبرة أكثر ليناً:
_قرار ديكتاتوري رقم اتنين...من النهارده شعرك ده ما يتقصش...عايزه يبقى أطول من لساني!
عادت تضحك من جديد وهي تخفي وجهها في كتفه فابتسم بحنان وقد بدت له كطفلة خجول ليربت على ظهرها برفق هامساً بشرود :
_انتِ عارفة إني مابحبش الشعر الأصفر؟!...بس ..بيعجبني شعرك انتِ.

رفعت إليه عينيها بدهشة حذرة وكأنها تتذوق كلماته بخبرتها القديمة به ...
هل هو يعني حقاً ما يقول؟!
لهذا ارتجفت شفتاها قليلاً مع همسها المتحشرج له :
_ممكن أطلب منك حاجة ؟! مش عايزاك تقول غير اللي انت حاسس بيه بجد ...مش عايزاك تجاملني.
هنا كان دوره هو ليضحك قبل أن يشير بسبابته في وضع دائرة نحو وجهه قائلاً:
_انتِ مصدقة نفسك؟! ده وش واحد بيعرف يجامل؟!
ابتسمت بارتياح غمر ملامحها أخيراً فتنهد ليردف بجدية هذه المرة:
_أنا كمان هاطلب منك نفس الطلب...عايزك تعتبريني مرايتك...اتعاملي بطبيعتك ...متقوليش حاجة عشان ترضيني أو تجامليني...اتفقنا؟!
أومأت برأسها موافقة وهي تشعر بقلبها ينتفض بشعور غريب...
رغم أنها تعرفه منذ سنوات لم تعد تذكر عددها لكنها تشعر أن هذه اللحظة بداية ميثاق جديد لهما ...
"سحر الميلاد"!
هذا الشعور الذي قبض قلبها برهبة ممتزجة بسعادة !
شعور غريب لايعرفه إلا من ذاقه !!
ويبدو أنه هو الآخر كان يشاركها هذا الشعور الفريد عندما تناول كفيها ليضغطهما برفق بين قبضتيه بقوة حانية صاحبت قوله الذي عاد إليه مزاحه المشاكس:
_قرار ديكتاتوري رقم ثلاثة...فطار النهارده في الجنينة ؟!
_بجد ؟! شكراً يا طيب!!
قالتها بعفوية وهي تسحب كفيها منه لتمنحه عناقاً خاطفاً قبل أن تزيح غطاءها لتغادر الفراش شبه قافزة مع قولها المرح:
_أتمنى تكون جعان ...عشان هاحضر لك وليمة مش فطار عادي!

كان يدرك الآن أنها تتشبث بهذا المرح بكل قوتها كي لا تستسلم لجحيم أفكارها ...
وهذا ما كان هو الآخر يريده تماماً ...لهذا قام بدوره ليلحق بها قائلاً بصوت عال بينما يراقب خطواتها المتراقصة على الدرج المؤدي للطابق السفلي:
_ما تزوديش الأكل...كابتن الجيم حالف مش هيدخلني لو وزني منزلش الأسبوع ده .
ضحكاتها المرحة تتبعها نحو المطبخ الذي اختفت فيه مع هتافها الذي وصله بنبرتها الحيوية:
_خللي الكابتن بتاعك ده يشرف عندنا المطعم ....وأوعدك مرتين بس ومحدش هيبقى أحسن من حد !

عقد حاجبيه بضيق وكأنما لم تعجبه فكرة أن أحدهم يأكل من صنع يديها غيره !
لكنه تغاضى عن الاعتراف بغيرته وهو يؤدي طقوسه الصباحية المعتادة ...
قبل أن يلحق بها ليجدها جالسة في انتظاره بالحديقة وقد أعدت له طعامها الشهي كالعادة ...
فابتسم وهو يجلس متربعاً بينما يراقبها وهي تصنع له شطيرة ما بانهماك ...
ورغم التعب الواضح على ملامحها بعد ليلة الأمس العصيبة لكنها كانت تدهشه بقدرتها على مقاومة كل هذا بتحدّ غريب ...
مقاومة ؟!
من قال إنها مقاومة ؟!
ألا يحتمل أن يكون كل هذا مجرد تمثيل؟!

هز رأسه نفياً بقوة ينفض عنه -الهاجس الأخير- بينما حاجباه ينعقدان بقوة فالتفتت نحوه متسائلة :
_مش عاجبك ده ؟! أعمللك غيره ؟!
لكنه اغتصب ابتسامة باهتة مقاوماً أفكاره مع قوله :
_لا ده ممتاز!
قالها وهو يتناول منها الشطيرة ليتناول منها قضمة فابتسمت وهي تعد لها مثلها مع قولها بانطلاق :
_المطعم شغله ماشي ممتاز ...لدرجة إني بفكر أفتح فرع جديد للأكل الشرقي .
_بس ده مش حمل زيادة عليكِ؟!
_الشغل مابيتعبش ...الفضا والتفكير هو اللي بيتعب.
قالتها وهي تتصنع الانهماك فيما تفعله فاتسعت عيناه بفهم وهو يدرك محاولتها المستمرة للنجاح ...
لقد قرأ يوماً مقولة أحدهم عندما سألوه عما يفعله عندما يصل للقمة فأجابهم (أبحث عن جبل جديد لأتسلقه)!
وها هي ذي تعمل بذات المقولة !
فما أكثر جبالها وما أشد همتها !!

وبكثير من الفخر عاد يرمقها بنظراته المتفحصة قبل أن يترك ما بيده ليتناول كفها قائلاً بنبرته المشاكسة:
_قانون دكتاتوري رقم أربعة ...هتاخديني شريك بالنُص في المطعم الجديد ؟!
أطلقت صيحة اندهاش عالية وقد بدا لها الأمر مفاجأة حقيقية ...
قبل أن تلقي ما بيدها لتقفز على ركبتيها فتتعلق بعنقه بقوة هاتفة :
_شكراً يا طيب !! شكراً ...شكراً...
ظلت تكررها بفرحة طفولية فضمها إليه بقوة حانية ليجلسها في حجره كطفلة بينما يقول لها محذراً :
_أنا عملت نفسي شريك بالنص عشان أفشكلها براحتي لو انشغلتِ عني ...مفهوم؟!
ورغم ظاهر عبارته الفظ لكنها ضحكت برقة وهي تناظر عينيه بينما تومئ برأسها موافقة لتقول أخيراً بخجل وهي تنتبه لجلستهما هذه :
_أي قرارات دكتاتورية تانية قبل ما نكمل أكل؟!
فاقترب بوجهه منها ليخبط جبينها بجبينه برقة هامساً قبل أن يحررها من ذراعيه :
_اطمني دول مابيخلصوش...بس كفاية عليكِ كده النهارده !
=======
_هتفضل تنام هنا كتير؟!
سألته هانيا وهي تدخل عليه الغرفة الصغيرة التي قضى فيها لياليه السابقة وهي تراه يرفع عليه غطاءه فوق الفراش يتأهب للنوم ...
لكنه أشاح بوجهه قائلاً ببرود:
_ماتشغليش بالك...ارجعي لمذاكرتك .
مطت شفتيها باستياء لتتوجه نحوه ثم جلست جواره قائلة بضيق:
_بلاش شغل العيال ده...تخاصمني وتاكل لوحدك وتنام لوحدك ...دي مش طريقة.

قالتها وهي تشعر بانقباض حقيقي من تباعده ...
لأول مرة منذ عرفته يقوى على خصامها طوال هذه المدة ...
ورغم أنها حاولت التشبث بأسوار كبريائها تنتظر مبادرته كالعادة لكنها لم تقوَ على الصمود أكثر ...
ومع هذا خانها تعبيرها وهي تردف بنبرة جافة:
_أنا مش فاضية عشان أقعد أصالح وأشرح وأبرر .
فالتمعت عيناه بغضب وهو ينتفض مكانه هاتفاً بحدة :
_محدش طلب منك تصالحي ولا تبرري...اتفضلي اخرجي وسيبيني واللا اقوللك أنا اللي خارج.
قالها ثم تحرك ليبدل ملابسه بسرعة لكنه ما كاد ينزع قميص منامته حتى لحقت به لتتشبث أصابعها به بقوة تمنعه وقد عجزت عن الكلام...
فقط عيناها دمعتا بقوة وهي تنظر لعينيه باعتذار صامت ...
فزفر ساخطاً وهو يشيح بوجهه قائلاً :
_سيبيني أخرج يا هانيا عشان ماعملش حاجة تزعلنا احنا الاتنين.

لكنها تحركت لتقف قبالته ودموعها تزداد كثافة في عينيها رغم تماسك نبرتها:
_هو إيه اللي جد؟! أنا ماتغيرتش...أنا ماضحكتش عليك ولا رسمت وش غير وشي...انت اتجوزتني وانت عارف طبعي ...أنا غشيتك ؟! قل لي إيه اللي اتغير ؟!
_المصيبة إن مفيش حاجة بتتغير!
صرخ بها بغضب أجفلها وهو يمسك ذراعيها مردفاً بنبرة أقوى:
_انتِ مش عايزة تقدمي أي تنازلات عشان المركب تمشي...عايزة تفضلي صاحبة الكلمة والقرار وأنا وراكِ بقول حاضر ...عديت تصرفاتك الغلط مرة واتنين عشان أراضيكِ...زعلت أمي كذا مرة عشان خاطرك...قبلت أوضاع ماتتقبلش عشان الدكتورة شايفة كده ...لكن خلاص مش قادر أستحمل أكتر من كده .
سالت دموعها أخيراً على وجنتيها لتهتف بنبرة قوية مناقضة لبكائها :
_انت عايز إيه ؟! عايزني أقضي يومي أتزوق وأستناك ؟! عايزني أوقف مستقبلي اللي حفرت في الصخر عشانه قصاد استعجال مامتك في طفل لسه مش مستعدة له ؟! عايزني أتخلى عن واجبي ناحية صاحبتي عشان أقنعك إني بغير عليك ؟! لا يا رامز ...أنا مابغيرش عليك ...عارف ليه ؟! لأن اللحظة اللي هتقرر فيها تشوف غيري هتكون آخر لحظة بيننا ..
ثم شهقت وسط بكائها لتردف بين نحيبها العالي:
_عمرك ما هتكون نقطة ضعفي...ولو زهقت زي ما بتقول خلاص طلّق...


وضع كفه على شفتيها يقاطع عبارتها التي صارت تكملتها بديهية...
لتتلاقى عيناه الغاضبتان مع عينيها الخائنتين بضعف يناقض كل هذه القوة التي تهتف بها ...
صمتٌ ثقيل أظلهما بعدها لثوانٍ قبل أن يزيح كفه ليكمل ارتداء ملابسه ويخرج دون أن يوجه إليها كلمة إضافية...
استقل سيارته ليدور بها في الشوارع بلا هدف وكأنما يفرغ في قيادتها السريعة شحنة غضبه ...
هل هي محقة ؟!
هي فعلاً لم تخدعه !
هو تزوجها وهو يعلم أن طبيعتها الخشنة العملية تختلف كثيراً عمن عرفهن من النساء ...
لكنه كان يرغب أن تتغير لأجله...لأجله هو فقط !!
كان يريد أن يطوع صفاتها لتظهر الأنثى المختفية بداخلها بين ذراعيه وحده !
كان يعلم أن نجاحها ودراستها أهم ما لديها لكنه كان يطمح أن تشعره أنه هو الأهم !!
أناني؟! مغرور؟! متطلب؟!

لا ...هو فقط رجل يريد أن يشعر أن امرأته تفضله هو على ما ومن سواه !
فهل أجرم؟!
صوت رنين هاتفه قاطع أفكاره فتناوله ليجده رقم غادة ...
عقد حاجبيه بدهشة وهو ينتبه للوقت الذي اقترب من منتصف الليل ...
لكنه فتح الاتصال ليرد باقتضاب:
_خير يا غادة !
أنفاسها اللاهثة كانت فقط جوابها للحظات ...
قبل أن يصله صوتها مرتجفاً واهناً كعادتها :
_ممكن تجيلي البيت دلوقت...من غير ما تقول لهانيا؟!
========
_يامن...اتأخرت ليه ؟!
هتفت بها بقلق وهي تستقبله فابتسم وهو يشير للعلبة في يده قائلاً:
_مش عندنا فرح بكرة ولازم نستعد؟!
قالها بخشونة تناقض حقيقة شعوره وهو يراها بهذه الجاذبية التي لا تتعمدها في منامتها الحريرية طويلة الأكمام بلون الفستق والتي تناسبت مع حلية بنفس اللون لشعرها رفعت به أحد خصلاته القصيرة في حركة تفعلها لأول مرة !

حسناً...لقد بدأت تهتم بشعرها قليلاً وهذا وحده يمنحه شارة جيدة خاصة مع حديثهما صباحاً...

_بدلة جديدة؟!
قاطعت بها تأمله المتفحص فيها وهي تتقدم منه لتتناول العلبة ...
لكنه وضع ما بيديه جانباً ليمسك كتفيها بكفيه متجولاً بعينيه فوق ملامحها التي يكاد يقسم أنها ازدادت نوراً على نور ...قبل أن يقول لها مشاكساً:
_أخيراً سرحتِ شعرك...ده أنا كنت قربت أشك إني متجوز واحد صاحبي!

رمقته بنظرة عاتبة لم تخفِ خجلها وهي تحاول التملص من بين ذراعيه لكنه تشبث بها وعيناه تواصلان رحلتهما الشغوف ببطء على ملامحها...
ليهمس أخيراً بنبرة جادة دافئة:
_عمري ماشفت واحدة بتليق عليها الألوان زيك...كل ماشوفك في لون أقول هو ده أجمل لون عليكِ...واكتشف بعدها إن اللي بعده أحلى...كأن كل لون فيه حاجة منك.
كان يشعر بارتجافة جسدها الخفيفة بين ذراعيه وكأنما المرة الأولى التي تستمع فيها لعبارة غزل !


وجنتاها المحمرتان مع رفرفة رموشها التي أظلت عينيها المسبلتين بخجل ...كل هذا منحه شعوراً عارماً بالرضا وكأنه رجلها الأول!

_على عكسك انت...عمري ما تخيلتك إلا بلبس أسود ...
قالتها ببعض المرح محاولة التغلب على خجلها لتشيح بوجهها مردفة:
_أقوللك سر؟! مفيش مرة عملت شوبنج إلا وكنت بقف قدام
محلات الهدوم الرجالي أتخيلك في كل اللبس الأسود...شياكته جاذبيته غموضه ...مااظنش يليق على حد أكتر منك !
ضحك بفخر حقيقي ممتزج بعاطفته كعادته في كل مرة تتحدث فيها عن عاطفتها الجياشة نحوه...وكيف كان -دون أن يدري- جزءاً لا يتجزأ من حياتها ...
خاصة عندما استطردت بنبرة أكثر خفوتاً وأكثر عذوبة:
_لون واحد بس اتمنيت أشوفك فيه غير الاسود...
الابيض...عندي في دولابي قميص أبيض اشتريتهولك من زمان بس مافكرتش أقوللك عليه قبل كده !
_ليه؟!
سألها وهو يدير وجهها نحوه محتضناً وجنتها براحته فأغمضت عينيها لتجيبه بصوت متهدج :
_لسه مش من حقي أفرض عليك ذوقي .
التمعت عيناه بمزيج هادر من مشاعر تجتاحه الآن بجنون وهي بين ذراعيه بهذا الخجل وهذا العشق وهذه الرقة ...
لو لم يحكم سيطرته على طوفان مشاعره هذا فستكون كارثة !
لهذا تنحنح بخشونة ليقول مغالباً مشاعره بادعاء اللامبالاة :
_ابقي وريهولي يمكن يعجبني!
ابتسمت وهي تفتح عينيها أخيراً مدركة ما خلف عبارته بسعادة زينت ملامحها ...
هو رجلها الوحيد وطفلها المكابر الذي يستنكف أن يظهر عاطفته غافلاً عن أنها لا تجيد شيئاً في هذا العالم كما تجيد قراءة خباياه ...
لهذا اتسعت ابتسامتها وهي تبتعد عنه لتتجه نحو العلبة من جديد قائلة:
_وريني البدلة الجديدة...سوداء كالعادة !
_شوفيها!
فتحت العلبة بحرص لتتسع عيناها بدهشة مصحوبة بالانبهار للحظات قبل أن تهتف :
_ده ليّ أنا؟!
كاد يقذفها بواحدة من عباراته الساخرة اللاذعة لكنه أبى أن يفسد فرحتها وهو يراها كطفلة تتلقى هدية العيد ..
ذراعاها تمتدان نحو الثوب الذي حمل ألوان الطيف لترفعه على جسدها وتدور به حول نفسها بينما تطلق صيحات عالية فرحة حتى تلقفها ذراعاه لتهتف به بصوت لاهث:
_أجمل هدية جت لي في حياتي...ده أحلى من فستان فرحنا...أروح أقيسه؟!
لكنه تناوله من يدها ليفرده بحرص على الأريكة المجاورة قبل أن يعود إليها قائلاً بصوت أجش يخفي طوفان مشاعره:
_لا...اعمليهولي بكرة مفاجأة!
ابتسمت وهي تقترب منه خطوة قائلة ببعض الدهشة:
_معقول؟! يامن "رجل التفاصيل" الأول هيسمح بمفاجأة زي دي قبل الفرح؟! مش خايف يطلع مش مظبوط؟!
فابتسم وعيناه تلتمعان بفخر ذكوري يعجبها بينما يجيبها واثقاً:
_ماتقلقيش من المقاس ...بعد عشرتي لنبيلة والبنات ...بقيت بخمن مقاس أي ست من نظرة واحدة !
_أي ست؟!
هتفت بها بغيرة غلبت مرحها فحك ذقنه بأنامله بحركة مشاكسة ناسبت تراقص حاجبيه العابث بعدها واستجلبت ابتسامة واسعة على شفتيها بينما تقترب منه دون وعي أكثر ...

_تعرف إنك شبه "السينابون"؟!
_لذيذ وبتحبيه؟!
بغمزة ماكرة يهمس بها وهو يلكزها في كتفها فتضحك بنعومة لتجيبه بينما ذراعاها تتعلقان بعنقه:
_دواير كتير لفة حوالين بعضها ...فيه ناس تشوف الدايرة اللي بره بس..الدكتور الناجح اللي واخدها جد...وناس تقرب أكتر تشوف الدايرة اللي بعدها...الرايق أبو دم خفيف...وناس تقرب أكتر وأكتر تشوف حنيتك اللي بتشفع لغلطاتك المهولة...
_ممممم...وانتِ بتشوفي إيه؟!
يسألها بينما كفاه يحتضنان خصرها تماماً كنظراته الشغوف لتقترب بوجهها منه حتى تمتزج أنفاسهما فتهمس بمزيج من حب ورجاء:
_أنا بقى نفسي أوصل لمركز الدواير دي كلها...أقف في المكان اللي أنا واثقة إن محدش سبقني ليه ...أقراك بوضوح وافهم كل تفاصيلك .
_أنا نفسي مش فاهم كل تفاصيلي!
ببعض المرارة يقولها وهو يغمض عينيه وكأنه يهرب من اقتحامها لحصونه لكنها تداعب وجنته بأناملها التي انتقلت برقة نحو جفنيه لتجبره على النظر إليها مع همسها:
_يبقى نحاول سوا...نوصل سوا...ونفهم سوا!
فتح عينيه أخيراً ليمتزج "بحر عسله" الهائج ب"نهر عسلها" الهادئ ...
الآن فقط يتعجب كيف عاشا غريبين طوال هذا العمر وفي عينيها يناديه هذان النجمان ...يخبرانه حقاً أين ينتمي !!!
حب؟! هل هذا فقط مجرد حب؟!
هراء!!!
الحب هذا محض وهم كفر به هو من زمن ...لكن ما بعينيها الآن شيء آخر ...
وكأنما قد وُلِد قلبه من رحم قلبها لتكون له قبل الأم ...أماً!


وعند خاطره الأخير ارتسمت على شفته ابتسامة واهنة وهو يقارن ضآلة جسدها بما يدور في ذهنه ...
ابتسامة قابلتها هي بضحكة رائقة وهي تمرغ وجهها في صدره لا تكاد تصدق ما وصلها من صدق شعوره وإن بخلت به كلماته ...
بينما صمت هو قليلاً مكتفياً بعناقه الدافئ لها قبل أن يبتعد قليلاً ليحيط وجهها بكفيه هامساً:
_سوا! شفتِ انتِ قلتِ إيه ؟! سوا...والكلام ده مش عليّ لوحدي ...علينا احنا الاتنين...فاهماني؟!

أومأت برأسها إيجاباً وهي تزدرد ريقها بتوتر لم يخفَ عليه ...
ملامحها تكاد تصرخ وكأنها على وشك قول شيء ما ...
لكن شفتيها بقيتا منطبقتين بقوة رغم ارتجافهما الواضح ...
ولما أشفق عليها من أفكارها التجأ لتغيير الموضوع بقوله :
_طيب...أنا جعان كالعادة !

ضحكت بسعادة كعادتها كلما تسمع هذا منه وكأنما يخبرها -ضمنياً- أنه يشتاق طعامها !

خطواتها تتقافز بلهفة تميزها وهي تجذبه من كفه نحو المطبخ لتجلسه مكانه قائلة بنبرتها الحيوية:
_كنت مظبطاه دافي على وقت رجوعك بس
الكلام خدنا ...هاسخنه تاني!
لكنه جذب كفها ليجلسها جواره قائلاً برضا:
_ماتتعبيش نفسك...هو كده كويس!
ابتسمت وهي تعد له طبقه بينما عيناه تراقبانها بافتتان ما عاد ينكره ليسألها أخيراً:
_ماقلتليش ...انتِ بتحبي الأكل سخن واللا وسط زيي؟!
اتسعت ابتسامتها وهي تتحاشى النظر نحوه وقد بدت وكأنها لن تجيب ...
لتمد له يدها بطبقه الذي تناوله منها فوضعه جانباً قبل أن يمسك كفها برقة مستحثاً إياها على الإجابة ...
فأطرقت برأسها لتجيبه بصدق مس قلبه:
_عارف؟! من زمان قوي وأنا نسيت بحب إيه وبكره إيه...أنا حاسة كأني خرجت من نفسي عشان أعيش بروحك انت.

هدرت دقات قلبه بصدره بقوة مع سيل مشاعرها الذي يجرفه
كالعادة فلم يجد رداً سوى أن رفع كفها لشفتيه بقبلة عميقة
طالت للحظات واستجلبت رجفة خفيفة لجسدها ...
رباه!
كيف يمكنها أن تشعر معه بكل هذا الأمان وبكل هذا الخوف؟!
كيف تتمنى بكل جوارحها لو تمنحه كل ما تملكه وكيف تخشى هذا في نفس الوقت ؟!
أجل ...كم تريد أن تعاند "رهابها" المرضي هذا بكل طاقتها ...لكنها لا تستطيع!
ثقلٌ هائل يجثم على صدرها كلما شعرت أنها على وشك الولوج في "هذا العالم" من جديد ...
ثقلٌ يجعلها تنسلخ من جلدها ...وكأنما تتلبسها روح أخرى تجعلها تفر بعيداً عن كل هذا بأقصى طاقتها ...
ترى ...هل سيختلف الأمر معه ؟!
هل تجرؤ على معاودة الاستسلام للمحاولة ؟!

_لا!
تمتمت بها بصوت مسموع فالتفت إليها بدهشة بينما يراها تسحب كفها منه لتشبك أناملها ببعضها قبل أن تردف بارتباك ظاهر :
_أخبار سيلين إيه ؟!
التمعت عيناه بفهم وهو يدرك فحوى أفكارها ...ورغم شفقته نحوها لكنه أبى أن يظهرها احتراماً لكبريائها ...
فتنحنح ليجيبها بينما يقلب طعامه في الطبق:
_خمسين مكالمة...وعشر مسدجات ...رديت عليها وكررت عرضي اللي كنت متأكد إنها هترفضه ...قالتلي الدكتور حدد معاد ولادتها بعد يومين ...وهددتني إنها مش هتخلليني أشوفه .
كانت ملامحها تشحب تدريجياً مع كل كلمة يزدها لتغمغم أخيراً بصوت مرتجف:
_وانت فعلاً مش هتشوفه ؟!
أشاح بوجهه للحظات ثم تمتم باقتضاب:
_مش عارف.
_لو هي فعلاً اتغيرت وندمانة...تفتكر...
_مش هارجعلها وانتِ عارفة كده كويس!
قالها بصرامة مقاطعاً عبارتها ليردف بنبرة أكثر قسوة:
_أنا لما بفقد ثقتي في حد بفقدها للأبد...قرار الحمل كان قرارها هي...زي ما قررت قبلها تضربني من ورا ظهري ...تستحمل بقا نتيجة قراراتها .
_وابنك ذنبه إيه؟!
قالتها بنفس النبرة المشفقة ليجيبها بابتسامة ساخرة حملت مرارته:
_ذنبه انه إبني وابنها ...لو كنت أضمن إن رجوعي ليها هيغيرها كنت ممكن احاول استحمل عشانه...لكن أنا عارف إن اللعبة خسرانة .

هزت رأسها بضيق وهي تشعر من جديد بضميرها يثقل كاهلها بهذا الوزر ...
لكن من يدري ...ربما كان هو محقاً !

_ممكن تاكلي وما تفكريش !
قالها وهو يمد لها طبقاً أعده لها على عجل فتناولته منه شاكرة وهي تحاول تخطي كل أفكارها وهواجسها بالاستجابة لمزاحه المشاكس بعدها ...
والذي امتد طوال مدة تناولهما للطعام وحتى انتهيا منه ليعاونها في رفع الأطباق ...
ولم يكاد ينتهيان حتى فوجئت به يرفعها من خصرها ليجلسها على طاولة المطبخ فهتفت بدهشة :
_فيه إيه ؟!
ابتسم وهو يفتح الثلاجة ليحضر علبة "النوتيللا" ثم اقترب منها قائلاً :
_احنا هنطلع دلوقت ننام وأقل حركة جنبي بتقلقني...كلي براحتك دلوقت عشان ماتتسحبيش نص الليل زي الحرامية .
ضحكت بخجل وهي تغطي وجهها بكفيها قائلة:
_انت بتحس بحركتي كل ليلة ؟!
فأزاح أناملها برقة عن وجهها ليتأمل ملامحها بنظرته المفعمة بمشاعره مع قوله وهو يلوح لها بملعقة الشيكولاتة:
_أنا هاعمل اللي عليّ وأأكلك دلوقت...ولو عايزة تخللي البرطمان جنبك ع الكومودينو هاتجاوز واسمحلك ...بس مش عايزك تسيبي الأوضة قبل الصبح ...مفهوم؟!
أومأت برأسها في طاعة رغم شعور الترقب الذي احتل جنباتها خشية الساعات القادمة...
لكنها حاولت إلقاء مخاوفها خلف ظهرها وهي تستجيب لأنامله التي حملت ملعقة الشيكولاتة نحو شفتيها ...
ولأول مرة تشعر بمذاقها مختلفاً ...
وكيف لا؟!
وقد امتزج بنكهة إحساسها "المستحدث" بعاطفته نحوها ...
عاطفته التي يميزها قلبها بعمق ظمئه الطويل لها !
ربما شعرت من قبل بعاطفته -الحسية- التي كانت تذكرها بعذاباتها القديمة ...
لكنها الآن تستشعر نقاءها وقد امتزجت بخفقات قلبه المترنمة بنداء يشبه نداءات قلبها ...
قلبها الذي يستحلفها الآن أن ترفع عينيها إليه ...تملأ ناظريها من حدقتيه المنغمستين بعاطفته التي طالما اشتاقتها ...
لكن خجلها منعها!
كم كانت شجاعتها سهلة وهي تطلق العنان لعواطفها أمامه بينما هو يبدو متباعداً لا يصدق ...

لكن الآن ...وهو منها بهذا القرب ...بهذه الحرارة التي تستشعرها في نظراته...وبهذا القلب الذي تمنت سماعه يخصها هي بدقاته ...
تشعر بشجاعتها تتهاوى ...وبهذا الخجل يطوقها وكأنما هي الفتاة المنزوية خلف كتابها تراقبه بضفيرتها الطويلة وبقلبها الذي لم يعرف من الرجال سواه !

وأمامها كان هو الآخر غارقاً بإحساسه ...
لم يكن غراً ساذجاً ولم تكن هي غزوته الأولى في حروب النساء ...
لقد رأى منهن أشد فنون السحر وأبرع طرق الغواية...
لكنه يكاد يقسم أنه ما من امرأة حظت بنصف فتنتها الآن وهي تجلس أمامه شبه غارقة في منامة لا تكاد تبرز من تضاريس أنوثتها شيئاً ...
ومع هذا يكاد يستشعر احتراق خلاياه رغبة بها ...
أنامله تتلكأ بالملعقة في يده على شفتيها ...يتعمد أن يلطخها وما حولها بالشيكولاتة ...
فترفع إليه عينيها أخيراً محاولةً التغلب على خجلها بقولها المتلعثم :
_برضه مش بتحبها؟!
ويبدو أنها اختارت -أسوأ- عبارة تليق بخجلها عندما تذكر كلاهما في نفس اللحظة ما حدث في ذكرى مشابهة ...
لتجده يقترب منها أكثر هامساً بصوت متثاقل:
_قولي إنك موافقة...وأنا هاجرب تاني.

خفق قلبها بجنون ما بين فوضى مشاعرها التي تجتاحها الآن بهذا العنف بين قبول ورفض ...
هذه الفوضى التي كان هو يتفهمها بينما يقترب بوجهه منها ...
أحد ذراعيه يطوقها بقوة حانية بينما أنامله الحرة تمسد ظاهر كفها بتلك الحركة التي استشعر بحدسه أثرها في نفسها ...
أغمضت عينيها بقوة وهي تحاول وقف نزيف ذكرياتها ...
وجنتها تحرقها بقوة وكأنما تلقت للتو صفعة من تلك- الصفعات القديمة-..
مظهر كدمات جسدها يومض ومضات كثيرة متتابعة وسط
ظلام أفكارها ...
لكن ملمس أنامله الحانية على ظاهر كفها يبدو وكأنه يحارب كل هذا ...
شعورها الكاسح بدفء عناقه يمنحها المزيد من رغبة المقاومة....
وأخيراً همسه الحار باسمها قبل أن تشعر بعناق شفتيه
لملامحها ...
هنا فتحت عينيها بقوة وكأنما تريد حفر هذا المشهد في ذهنها ...
نظراتها تتجه ل-نور المصباح- هناك تنهل منه المدد لمقاومة هذا الظلام اللعين الذي يسكن روحها ...
وأخيراً ...استسلمت!

أغلقت عينيها طواعية لتلقي بنفسها في هذا البحر "الآمن" الذي لا تخشى غرقها فيه ...
استسلام دام لبضع ثوانٍ فقط كانت أكثر من كافية ليدرك هو أنه قد وضع قدميه على الطريق الصحيح ...
ورغم أنه كان لايزال يطمع بالكثير والكثير ...لكنه كان كذلك يدرك أن دوره الحقيقي معها قد بدأ لتوه بعيداً عن شعور أنانيته الذي طالما لازمه معها ...
لهذا ابتعد عنها أخيراً ليمنحها ابتسامة راضية سبقت غمزته الماكرة :
_طلعت "بنت حلال" النوتيللا دي ...مش بطالة!

كتمت ابتسامتها الخجول في كتفه كعادتها قبل أن تتشبث به لتهبط بقدميها على الأرض وهي تشعر بنفسها في حلم غريب ...
هذه الدغدغة اللطيفة التي تستشعرها تداعب جسدها برقة تجعلها تشعر بالارتباك ...
خاصة عندما جذبها من كفها قائلاً :
_ياللا ننام عشان بكرة يوم طويل...رانيا بتغرق في شبر مية وورايا مشاوير كتير لسه هاخلصهالها ...تخيلي إنها لحد دلوقت ...
مضى في ثرثرته المقصودة وهو يصعد بها الدرج نحو غرفته محاولاً تبديد سحب توترها حتى وصلا أخيراً إلى غرفته ليتناول منها بعض أغراضه قائلاً وهو يتوجه نحو الحمام الصغير المرفق بها:
_خدي راحتك...لو محتاجة تشغلي الدفاية شغليها .

مدفأة ؟!
عن أية مدفأة يتحدث هذا؟!
ألا تكفيها هذه الحرارة التي تشتعل بأعماقها؟!
هكذا فكرت وهي تراه يختفي خلف باب الحمام لتدور عيناها في غرفته بتفحص ...
أثاثها البسيط بذوقه الذي تعرفه والذي مزج اللونين الأسود والفضي بتناسق مدهش...
طلاؤها الناصع شديد البياض والذي حرص هو أن يزيد رونقه بتوزيع
الإضاءة بشكل خاص ...
المرآة البيضاوية التي طالما حسدتها في خيالها إذ يبدأ بمطالعتها صباحه ...الآن هي على وشك مشاركتها "هذا الشرف"!
ابتسمت ببعض الارتياح أخيراً وهي تستلقي على الفراش رافعة عليها غطاءها ...

ورغم أن هواجسها لم ترحمها لكنها كانت تقاوم بنفس القوة التي اعتادتها ...
حتى خرج هو أخيراً ليتفحصها بنظرة طويلة سبقت قوله :
_شكلك غريب قوي هنا ...مااتعودتش أنام جنب حد !
كان يتحدث ببساطة محاولاً تجاوز موقفهما الغريب وبث الطمأنينة في نفسها ...
ويبدو أنه قد نجح فقد بدت السكينة على ملامحها عندما انضم إليها في الفراش ليضبط منبه هاتفه مردفاً بنفس النبرة:
_يارب ألحق بكره أخلص مشاوير نبيلة والبنات قبل الفرح...دي في حد ذاتها معجزة !
_ماتقلقش أنا معاك...هنوزع المهام بيننا.
قالتها مبتسمة فرمقها بنظرة ممتنة سبقت قوله:
_تصبحي على خير!
قالها وهو يستلقي على ظهره مغمضاً عينيه كي يحاول التغاضي عن تأثير وجودها جواره ...
الأمر صعب حقاً ...لكنها تستحق أن يقاوم من أجلها ...
أن يمنحها هذا "الأمان" الذي أغرقت هي به عالمه منذ ولجته ...
وأن يمحو آثار من سبقه قبل أن يرفع رايته على أرضها كاملة !


_يامن!
همست بها بخفوت بعد صمت دقائق فابتسم ولازال مغمضاً عينيه ليرد :
_نعم ؟! عايزة تحكي حدوتة ؟!
_عرفت منين؟!
فتح عينيه لينظر إليها بعمق هامساً:
_يعني...بدأت أفهمك زي ماانت فاهماني.
التمعت عيناها بفرحة وجدت صداها في نفسه فاتسعت ابتسامته وهو يعاود إغماض عينيه مردفاً:
_احكي يا عروسة البحر!
ضحكت برقة قبل أن تدخل معه لواحدة من حكاياها الخيالية والتي لم تكد تبدأها حتى فوجئت به يفتح عينيه قائلاً باستياء مصطنع :
_تؤ...انتِ أم فاشلة !
_ليه؟!
سألته بدهشة لتفاجأ به يتحرك جوارها ليعانق خصرها بذراعيه ملقياً رأسه على صدرها بينما يردف بنفس الاستياء الماكر:
_فيه حدوتة تنفع من غير حضن ؟!
صمتت للحظة مبهوتة من حركته قبل أن تنتظم دقات قلبها من جديد بينما هو يردف بصوت ناعس:
_كمللي قبل ماانام .
فابتسمت بحنان وهي تتردد في مبادلته عناقه ...
لكنها حاولت تجاوز مشاعرها السلبية لترسم معه الجنة التي
طالما عاشتها بخيالها ...
وانتهت حكايتها !
وانتهى معها ترددها لتجد نفسها تضمه إليه برفق قبل أن تستسلم لنوم عميق ...
وأخيراً رفع هو رأسه ليتأمل ملامحها الغارقة بسكينتها برضا...
أي خير فعله هو ليجازيه القدر بملاك مثلها ؟!
ملاك ؟! هل هي حقاً كذلك ؟!
كلهن يبدون كذلك في البداية ؟! هل نسيت؟!
وساوسه السوداء تعاود قصفها المدمر لمشاعره الوليدة...
لكنه كان قوياً هذه الليلة بما يكفي ليهزمها كاملة بينما يعود ليستقر برأسه فوق صدرها مستسلماً للنوم هو الآخر!
========
_هتروح الفرح ؟!
سألته زوجة الدكتور ياسر -عمه- على الهاتف ليجيبها بينما يطالع صورته في مرآة غرفته:
_يامن صاحبي...وهيزعل لو مارحتش فرح بنت خالته اللي بيعتبرها زي أخته !

_ماتضحكش على نفسك يا مروان...انت لسه راجع من السفر وعندك الف عذر لو مش عايز تروح....انت رايح عشانها .
قالتها بنبرة عصبية زاد من حدتها صمته بعدها وكأنه لا ينكر... فاستطردت بانفعال:
_ما هو لو كنت لسه صغير كنت قلت نزوة ولعب عيال ...فيها إيه البنت دي عشان مستنيها كل ده ؟! وبعد كل اللي حكيتهولك ؟!
كز على أسنانه صامتاً وهو لا يدري بماذا يرد ...
هو نفسه لا يعرف الإجابة !!

طوال هذه السنوات وهو يراها من بعيد مكتفياً باختلاس أخبارها من روايات يامن المقتضبة عنها ...
قصته معها ربما تبدو غريبة لكنه لا ينكر أنها امتلكت قلبه كاملاً منذ رآها أول مرة ...بل إنه لا يكاد يعرف حقاً متى كانت أول مرة !

بيت والديها القديم كان مجاوراً لبيت خالته هو حيث كان يجتمع الأطفال جميعاً يلعبون في الفناء الواسع بين البيتين ...
وقد كان هذا سبب معرفته الأولى بيامن الذي التقاه مصادفة وقتها في إحدى زياراته لخالته قبل أن تتعمق صلتهما في سنوات الدراسة التي جمعتهم فيها مدرسة واحدة ...

كانت أصغر طفلة وقتها بينهم بينما كان هو ويامن على أعتاب المراهقة ...لكنه كان يحب دوماً النظر لملامحها الفاتنة التي كانت تبدو وكأنها خرجت لتوها من أحد الأفلام الكرتونية ...
لازال يذكر وجهها الصغير الذي لم يكن يختلف في جماله وبراءته عن الدمية التي كانت دوماً تحملها ...
جمالها الذي كان يزداد تألقاً كلما كبرت حتى أنه كان يعتبر رؤيتها أجمل مصادفاته عندما كان يزور خالته ...
حتى حلت بها كارثة موت والديها تلك الليلة...
كان يقف هو ووالده وزوج خالته مع يامن مؤازراً في ذاك الفناء حيث أقيم سرادق العزاء ...
عندما رآها هناك تختبئ في ركن منزوٍ من مدخل البيت أسفل الدرج تحتضن ثوباً أبيضا وحذاء صغيراً وتكتم دموعها بين ذراعيها ...
وقتها فقط شعر أنه كبر ...وهي أيضاً كبرت!
لم تعد في عينيه مجرد طفلة جميلة تتقافز على الدرج ويشاكسها بكلماته ...
لكنه -وبصورة ما لم يفهمها- شعر أنها قد صارت مسئوليته...
ربما لهذا السبب طلب من والده وقتها مساعدة يامن في إيجاد بيت جديد يضمهن جميعاً مع نبيلة التي عادت للظهور في حياتهن بعدها ...
لينغمس بعدها في كفاحه الدراسي في كلية الطب والذي شغله عنها لبضع سنوات قبل أن يعود ويراها من جديد مصادفة ليدرك أنه كان محقاً عندما خطفت قلبه طفلاً ...
كان يسترق أخبارها خلسة من يامن ولم يكد يعلم أن عمه هو أستاذها في الجامعة حتى وجدها فرصة ليعرف المزيد عن
عالمها الذي لا يدرك عنه يامن شيئاً...
لهذا طلب من زوجة عمه أن تراقبها وتعتني بها بعدما صرح لها برغبته في خطبتها في أقرب وقت...
كان يعلم أن يامن لن يوافق على ارتباطها قبل أن تنهي دراستها لهذا لجأ لحيلة رسائله التي كان يرسلها لها عبر الهاتف ...
والتي كانت لا ترد عليها مما زاد انطباعه الجيد عن
-حسن خلقها- ...

والآن تأتي زوجة عمه لتهدم له كل هذا في لحظة واحدة !!
لا ...لن يصدق...
هو يعرف الكثير عن نزقها وطيشها الذي يجعلها تخلع حجابها أحياناً كما رآها ذاك اليوم مصادفة مرتين ...مرة به ومرة بدونه !
لكنه كان يتفهم طبيعتها المتمردة المحبة للظهور والتي طالما كان يشكو منها يامن...
لا ...لم يؤثر هذا في نظرته نحوها ...
هي لاتزال في عينيه تلك الطفلة الباكية لوالديها تحت الدّرج والتي تنتظر من يربت على ظهرها ليهديها الطريق الصحيح ...

_رد عليّ يا مروان !
انتزعته بها زوجة عمه من شروده ليزفر بقوة قائلاً :
_مش يمكن حضرتك فاهمة غلط ؟! أنا عارفها كويس من صغرها ومااعتقدش إنها أبداً زي ما حضرتك فاهمة.
_فاهمة إيه غلط ؟! حركاتها السخيفة مع عمك ؟! واللا قلة أدبها مع زميلها ؟! ياابني حرام عليك ما تشيلنيش ذنوب أكتر ...لولا اهتمامك بيها ده أنا ماكنتش حكيتلك على حاجة !

احمر وجهه غضباً وهو يشعر بالعجز يكبله ...
هو لا يكذّب زوجة عمه...لكنه أيضاً لا يستطيع تصديقها ...
داليا ليست كما تدعي ...
هناك شيء ما خطأ ...أجل...ولن يهدأ حتى يعرف الحقيقة كاملة !!
لهذا أخذ نفساً عميقاً يتمالك غضبه ثم قال لها بحزم:
_خلاص يا دكتورة ...ماعدناش هنتكلم في الموضوع ده تاني.
تنهيدتها الحارة وصلته على الهاتف لترق لهجتها نوعاً مع قولها:
_مادام بتقوللي يا "دكتورة" كده تبقى زعلان...عموماً انت حر ...أنا نصحتك والقرار ليك ...
ثم صمتت لحظة لتردف :
_عمك ميعرفش حاجة عن كل ده ...أنا في الأول والآخر مايهمنيش غير مصلحتك انت وبس ...مش عايزة أسوأ سمعتها .

قالتها ثم أغلقت الاتصال تاركة إياه يغلي ببركان غضبه وعجزه ...
تسوئ سمعتها ؟!
هل وصلت الأمور حقاً لهذا الوصف المشين ؟!!
مستحيل...داليا ليست هكذا أبداً...أبداً...
لا ...لن يستطيع الوقوف ساكناً أكثر !!
لكن ماذا عساه يصنع ؟! وبأي حق يفعلها!!
لو كان تعلقه بها عادياً لاتقى كل هذه الشبهات واستأنف طريقه مع سواها ...
لكن الفكرة نفسها في عُرف قلبه المتيم بها حرامٌ!!!
أطلق صيحة غاضبة وهو يقذف المرآة أمامه بأقرب ما وصلت إليه يده لتنكسر بدوي هائل ...
قبل أن يضم قبضته وهو يهمس لنفسه أن هذه الليلة لن تمر قبل أن يكلمها وجهاً لوجه هذه المرة...
لعله يقرأ في ملامحها ما يزيد يقينه في هذه الشكوك...أو يمحوها!!
لكن ...قبل هذا ...هناك شأن يجب عليه تصفيته ...
ولن يهدأ غضبه حتى يفعله !!
========
فتح نافذة غرفته المطلة على البحر في ذاك الفندق المميز يطالع مشهد الغروب بنظرات غامضة ...
طالما ذكرته الشمس بها ...
ربما لأنها تشبه لون عينيها ...شعرها ...نقاء بشرتها ...
وخداعها المراوغ لنا بأن نملكها كل صباح قبل أن تختفي في النهاية تاركة لنا مرارة افتقادها !!
تنهد بحرارة عند الخاطر الأخير وعيناه تلتمعان بنظرة غريبة ...
هي مزيج من غضب وحسرة...وشيء من الذنب!
عجباً لها من امرأة قادرة على اجتياحه بكل هذه المشاعر في نفس الوقت ...
وبنفس العنفوان الذي كانت تخطف به بصره عندما تطل عليه بوجهها الذي حمل كل براءة النساء وغوايتهن!

زفر زفرة قصيرة عندما رأى قرص الشمس أمامه وكأنما يسقط في البحر لتحمله ذكرياته لتلك الليلة البعيدة معها ...
والتي قرر بعدها أن يترك البلد كله ويسافر ...وهاهو ذا يعود ليجدها قد تخلصت من قيد رجل لتسقط في يد آخر !
تراها وعت الدرس هذه المرة وأجادت الاختيار أم أنها لا تزال كعهدها تسكب أنهارها في أرض لا تنبت ؟!
كان الظلام قد حل تماماً ساعتها فأغلق النافذة ثم أسدل الستار وكأنه يمنع نفسه المزيد من أفكاره اليائسة عنها ...
حانت منه نظرة عابرة لحاسوبه المحمول حيث صورتها الباسمة مع زوجها الحالي -طبيب الأسنان- والذي يبدو متعجرفاً جامداً على عكسها هي التي بدت سعيدة جواره ...
فهل هي هانئة حقاً هذه المرة ؟!

صوت طرقات متحفظة على باب غرفته قاطع أفكاره فنظر في ساعته ثم توجه نحوه ليفتحه قبل أن يطالعه وجه العامل يقول بلهجة مهذبة:
_مساء الخير يا "زين" بيه...فيه واحد منتظر حضرتك في "اللوبي" تحت.
========
دخل القاعة التي أقيم فيها العرس بعينين متوقدتين غضباً
ولازال العراك الذي خاضه منذ قليل يقذف بحممه في صدره ...
ضربه لذاك الوغد هيثم لم يشفِ غليله كما ظن ...بل زاد من فورة غليانه ...
خاصة عندما أعلن الأخير عن رغبته في التقدم لخطبتها كي يخرس الألسنة ...
يبدو أن زوجة عمه محقة !!
لا ...لا يا مروان لا تصدق ...
لا تكن كصديقك الذي تحاوطه وساوسه كسجن من نار ...
ربما لا يعدو الأمر كونه مجرد زميل أعجبته ويريد خطبتها ...
لكن ماذا عن بقية التفاصيل التي روتها له زوجة عمه ؟!!
اللعنة !!!
أي جحيم ألقته فيه تلك الصغيرة العابثة وألقت نفسها فيه قبله ؟!!

_مروان ...حمداً لله على السلامة ...
قاطع بها يامن شروده وهو يتقدم نحوه مصافحاً ...قبل أن
يلاحظ هيئته التي فقدت رونقها المعهود ليردف بدهشة:
_مالك ياابني شكلك دايسك قطر ...انت جاي من السفر على هنا على طول واللا إيه ؟!
غمغم ببضع كلمات مبهمة وهو يدور بعينيه في القاعة باحثاً عنها حتى وجدها هناك ...
رغم اللون الوردي الفاقع الذي ارتدته...رغم زينتها المتكلفة ...ورغم ابتسامتها الواهنة على شفتيها ...
كان يقرأ في عينيها نفس النظرة التي رآها ليلة زفاف يامن ...
نظرة تائهة حيرى تفضح وحدتها وحزنها وجوعها الطويل
لحب حقيقي ...
ليلتها أرسل إليها رسالة مواسية لعله يخفف عنها شعورها
بالوحدة ...

(لا تخفضي جبينك أبداً...لا تحزني...لا تغاري...لو لم تكوني أنتِ عروس الحفل فتذكري أن هناك رجلاً لا يرى قلبه غيرك عروساً...قوليها لنفسك عشر مرات وابتسمي بعدها عشر بسمات وغنّي بعدها عشر أغنيات واذكريني بعدها ولا يهم العدد!)

لكنه لن يفعلها الليلة...
ليس قبل أن يفهم هذه الفتاة التي ظن أنه يحفظ تفاصيلها ...
والآن يفاجأ أنه لم يكن يعرف عنها أي شيئ!

_عموماً انت مش غريب ...كنت بتقول عايزني في موضوع مهم قبل ما تسافر هافضالك بعد الفرح ...معلش دلوقت هاروح أشوف بقية المعازيم ...شلة أصحابنا هناك ممكن تقف معاهم على ما أجيلك.
قالها يامن بسرعة وعيناه تدوران بتفحص في الحضور يحاول
ألا يغيب عن عينيه أي شيئ يفسد كمال الحفل ...
قبل أن يعطيه ظهره لينصرف لكنه عاد إليه بعد ثوانٍ ليناوله هاتفه قائلاً بضيق:
_خد ده معاك...سيلين بتتصل كل شوية خنقتني...لو اتكلمت رد عليها وقل لها مشغول ...سافر ...أقوللك...قل لها مات !
قال عبارته الأخيرة ملوحاً بكفه في سخرية سوداء كعهده فابتسم مروان وهو يتناول منه الهاتف ليخرج به إلى الشرفة الخارجية للقاعة حيث فضل أن يختلي بنفسه ...
كان يستطيع اختلاس النظر إليها في مكانه لكنه كان يحاول منع نفسه عن هذا قدر استطاعته ...
رباه !!
هذا الشك قاتلٌ حقاً !!
قديماً كان يلوم يامن على وساوسه والآن يشعر أنه يحترق مثله بنفس النيران !

انقطعت أفكاره عندما رن هاتف يامن في يده برقم غريب ...
يبدو أنها سيلين...سيخبرها كما طلب منه أنه مشغول الآن !

فتح الاتصال ليرد فاتسعت عيناه بترقب عندما سمع صوتاً رجالياً مألوفاً يقول بنبرة قلقة :
_دكتور يامن...كنت عايز حضرتك بخصوص داليا .
========
_مبروك يا أجمل عروسة في الدنيا .
قالها أشرف بنبرته التي تشعر وكأنها حملت كل عشق العالم وحنانه بينما يراقصها فوق منصة العرس ...
لتطرق برأسها في خجل وهي تشعر برهبة غريبة...
أن تكون محل نظر الجميع بحفل كبير كهذا هو جحيم حقيقي
لامرأة في خجلها وضعف ثقتها بنفسها ...
هذا الذي كان هو يدركه تماماً وهو يرفع ذقنها إليه ليهمس لها بنفس النبرة :
_النهارده مش عايزك تبطلي كلام .
_وانت هتسكت ؟!
همست بها بنفس الخجل وهي تحاول أن تستمد من حرارة عاطفته ما يمنحها المزيد من الثقة ...ليقترب بوجهه منها حتى امتزجت أنفاسهما مع همسه الدافئ:
_أنا كمان مش هابطل كلام...كلام جديد ماسمعتيهوش قبل كده ...كنت محوشه بس لليلة دي!!
عضت شفتها بارتباك خجول لتجد أناملها تتشبث بكتفه أكثر
بدلاً من أن تبتعد بخجلها عنه ...
أجل ...هكذا كان حالها دوماً معه !
هو وحده مرفأ أمانها مهما شردت بضعفها سفنها !
لهذا أسندت رأسها على كتفه لتهمس له بسعادة فاضت بها حروفها:
_لسه إيه في الدنيا ممكن يتعاش ؟! أنا حاسة إني خلاص مش ممكن هافرح أكتر من كده !
لكنه ضمها إليه أكثر ليقبل جبينها بقوة هامساً:
_تبقي غلطانة...أوعدك كل يوم لينا يبقى أسعد م اللي قبله !
ابتسمت وهي تعانق عينيه بنظراتها العاشقة ليتنهد بحرارة وهو يعاود إسناد رأسها على صدره ...
عيناه تنسحبان لأمه التي جلست هناك تغالب آلامها بابتسامتها وفرحتها الصارخة في عينيها أن مد الله في عمرها حتى رأته في أسعد لياليه...
ثم إلى شقيقته التي جلست جوارها ترمقه بنظرات لا تقل عنها سعادة...
وابنتها التي كانت تتراقص حولها بشقاوتها المعتادة...
ورغم القلق الذي ما عاد يفارقه بعد انقلاب عالمه بأحداثه
الأخيرة ...
لكنه كان يشعر الليلة بالذات أنه لأجلهن ...هن الأربعة...سيحارب أي شيء قد يهدم هذه السعادة ...
وبهذا الشعور أخذ نفساً عميقاً ليتحرك بعروسه نحوهن ثم مد يده لأمه يعاونها على الصعود قائلاً بحنانه المرح:
_تسمحيلي بالرقصة دي؟!
ابتسمت رانيا بتفهم وهي تراه يحتضن والدته بقوة ليقبل رأسها وهو يشاركها الرقص بخطوات متمهلة بينما المرأة تضحك من قلبها ...
دمعت عيناها وهي تكاد تقسم أنها لم ترَها من قبل سعيدة كهذه الليلة...
ولا بهذه القوة التي جعلتها تتحرك بطريقة شبه طبيعية معه على المنصة...
حقاً ليس أقدر على هزيمة آلام الجسد إلا فرحة القلب!
لهذا اتسعت ابتسامتها وهي تقترب منهم أكثر لتصفق بكفيها بسعادة وهي تشعر أن الكون كله لا يسع فرحتها هذه الليلة ...

وفي مكان قصيّ من القاعة جلس مساعد أشرف مع أحدهم يراقبهم بنظرات متفحصة ...قبل أن يميل عليه مرافقه هامساً :
_تفتكر خلاص ؟! هيسكت ويبطل يفتش ورانا؟!
فضاقت عيناه وهو يجيبه باقتضاب شرس:
_سيب العريس يفرح يومين...وبعدها لو لقيناه فاضي لنا ...نشغله!
=========
في مكانهما كان يامن وياسمين يشاركان الثنائيات الرقص ...
كانت تشعر بأن ثمة شيئاً ما يضايقه منذ بدء الحفل حتى أن عينيه كانتا تتحاشيان نظراتها فتنحنحت برقة لتسأله:
_مالك ؟!
كانت عيناه تدوران في الحضور وقد اختلجت عضلة فكه واشية بانفعاله ليغمغم أخيراً بنبرة عصبية:
_هو أنا ازاي خليتك تخرجي بالفستان ده ؟!
انفلتت منها ضحكة رغماً عنها فكتمتها بكفها لينظر إليها أخيراً بغيظ جعلها تقول لتهدئه:
_ماله الفستان بس ؟! مفيهوش أي حاجة !

لكنه توقف فجأة ليقول لها بحزم:
_مش هينفع كده ...تعالي نقعد مكاننا .
شعرت بالحرج وهي ترى العيون تتلفت نحوهما وقد توقفا عن الرقص فجأة لكنها أطاعته لتسير جواره متشابكي الأيدي حتى مكانهما حيث جلسا ليتنهد أخيراً بارتياح وهو يلتفت نحوها ضاغطاً كفها برقة مع همسه الغاضب:
_هو أنا عقلي كان فين لما سبتك تخرجي كده ؟! وكمان واقفة ترقصي كده قدام الناس؟!
فاحمرت وجنتاها حرجاً لتتمتم باعتراض:
_هو أنا كنت برقص بلدي يعني ؟! ده مجرد...
_بلدي ؟! ما هو ده اللي ناقص؟!
هتف بها يقاطعها باستنكار ساخط ومجرد الفكرة تدفع بخيالات شديدة الجموح لرأسه ...
ورغم سعادتها الطاغية بغيرته ودلالتها لكنها هزت رأسها لتقول بأسف مصطنع:
_خلاص...خللينا احنا الكابل الوحيد اللي ما يرقصش معاهم ...كلهم بيبصولنا كأننا متخانقين .
فزفر بسخط وهو يمد ذراعه الحر ليطوق به كتفيها بينما لايزال يمسك كفها بكفه الآخر متمتماً :
_مايهمنيش حد ...لو عايز أرقص لينا بيت نرقص فيه !

رفعت إليه عينيها بسهامها العاشقة لتلقي رأسها على كتفه متمتمة :
_هو أنا ينفع أحبك أكتر من كده ؟!
وكأنما امتصت عبارتها كل جنون غيرته الغاضب لتتبدل ملامحه في لحظات ...
شفتاه تتراقصان بابتسامة لعوب تتناسب وبريق عينيه العابث:
_هو ينفع آه...شدي حيلك انتِ بس!
ضحكت ضحكة صافية وأناملها تتشبث بكفه أكثر عندما رأت هانيا تقترب منهما بنظرات متفحصة ...
قبل أن تتوقف أمام يامن تماماً لتقول له بابتسامة راضية :
_مبروك يا يامن .
رمقتها ياسمين بنظرة متسائلة فالتفتت نحوها هانيا لتقول مفسرة:
_كنت قايلاله مش هبارك له إلا لو حسيت بجد إنه مبسوط ..
ثم عادت ببصرها نحو يامن لتردف بابتسامة واسعة :
_ألف مبروك ...دلوقت بس بقولهالك وأنا متطمنة.
أسبل يامن جفنيه كعهده عندما يشعر بالخجل ليتمتم بكلمات مبهمة بينما شعرت ياسمين بالفرحة الممتزجة بالفخر تملأها وهي ترد مباركة هانيا بكلمات لبقة كعادتها ...
ولم تكد هانيا تنصرف حتى التفتت نحوه لتسأله بدلالها العذب:
_انت بجد مبسوط ؟!
_انتِ شايفة إيه ؟!
قالها بنبرة جادة وهو يربت على كتفها فعانقت نظراته للحظات قبل أن تطرق برأسها قائلة :
_قدامنا لسه مشوار طويل!
_وماله ؟! كل ما المشوار بيطول بنفرح أكتر لما نوصل لآخره .
قالها صادقاً وهو يمنحها نظرة مطمئنة لتعود وتخفي وجهها في كتفه ...وكأنها هاهنا فقط تجد أمانها ...
لتقول أخيراً بما بدا كالدعاء:
_مش عايزة أوصل لآخره يا يامن...طريقي معاك مالوش آخر.
========
_كنت فين ؟!
هتفت بها هانيا بضيق وهي تجد رامز يدخل أخيراً من باب القاعة الذي وقفت تنتظره عنده ...
فأشاح بوجهه قائلاً ببرود:
_كان عندي شغل.
_شغل إيه اللي يقعد لدلوقت ؟!
رمقها بنظرة استخفاف وهو يعقد ساعديه أمام صدره قائلاً بنفس البرود:
_ممكن نكمل التحقيق ده واحنا قاعدين؟!

عقدت حاجبيها بغضب للحظات عندما لاحظت تعلق أنظار البعض بهما
فأرخت ملامحها لتتأبط ذراعه وتسير معه إلى المائدة التي تشاركهما فيها داليا ونبيلة ...
ورغماً عنها تذكرت ليلة زفاف يامن عندما فاجأها هو بهدية ليصالحها فدمعت عيناها وهي تشعر بجفائه الحالي يضعها على أول طريق الخسارة ...
لكن المصيبة هاهنا أنها لا تدري ماذا تفعل!!
هي لا تستطيع السباحة ضد التيار الذي اختارته طوال عمرها هذا ...
لكن...لا بأس من المحاولة...
لهذا تنحنحت بخفوت لتلتفت نحوه قائلة بنبرة جافة عززها كبرياؤها:
_تحب نرقص؟!
_لا!
بدت إجابته كصفعة تلقتها على وجه كرامتها !
حتى أنها بقيت تنظر لجانب وجهه البارد بضع لحظات قبل أن تغمغم بارتباك هزم نبرتها:
_ليه؟!
_تعبان!

بنفس البرود المقتضب نطقها وهو لا ينظر إليها ثم قام من مكانه مردفاً:
_هاروح أبارك لأشرف .
ظلت تراقبه ببصرها واجمة وهي تشعر أن الهوة بينهما تزداد عمقاً يوماً بعد يوم ...
قلبها يناشدها أن تتحرك...أن ترمم ثقب السفينة قبل أن تغرق...
لكن كبرياءها كان يكبلها مكانها ...
كوني كما أنتِ...من أراد أن يقترب فليقترب...ومن أراد أن يبتعد فأفسحي له الطريق ....!!!!!!
=======
أغلق الباب خلفهما ليتنهد بارتياح وهو يقول بنبرة راضية:
_أخيراً اتطمنت على رانيا...فاضل داليا بس وأحس إني كملت دوري معاهم .
فابتسمت وهي ترمقه بفخر قائلة :
_يابختهم بيك .
ربت على وجنتها برقة ليتلفت حوله قائلاً بنبرة غريبة:
_تعرفي إن البيت وحشني ؟! اليوم ده كان طويل فعلاً ....
ثم عاد إليها ببصره مردفاً:
_أكلك كمان وحشني .

ارتفع حاجباها بحنان وهي تضع حقيبة يدها جانباً لتتجه نحو المطبخ هاتفة :
_بس كده ؟! ثواني ..
لكنه جذبها من مرفقها نحوه ليهمس أمام عينيها :
_مش مهم...الليلة دي عندنا حاجة أهم.
تسارعت خفقاتها بانفعال وهي ترمقه بنظرة متسائلة فنزع عنها حجابها برفق هامساً :
_عندنا رقصة متأخرة ...مش هتنازل عنها !
توردت وجنتاها بخجل وهي تراه يبتعد لتلك الزاوية حيث أعطاها ظهره لدقائق قبل أن تنبعث تلك النغمات الهادئة...
ثم تقدم منها ببطء وعيناه تغرسان عاطفته في عينيها غرساً...
ثم توقف أمامها ليتناول من جيب سترته ما اتسعت له عيناها انبهاراً...
عقداً ثلاثي الأدوار من البلاتين تداخلت سلاسله الرقيقة مع أحجار كريستالية صغيرة بجميع ألوان الطيف ...
هذا الذي رفعه الآن لعنقها العاري يلبسها إياه قبل أن تمنحها شفتاه معه -عقداً - آخر من قبلات!
ندت منها أنة خافتة وهي تغمض عينيها بقوة ...
هي تريد أن تشكره ...
أين كلماتها؟! أين لسانها ؟! بل أين هي نفسها؟!

هي تشعر وكأنما اختفى العالم فجأة فلم تعد تسمع سوى صوت
الأنغام وهدير دقات قلبه المواجهة لها ...
أنامله تتلكأ على عنقها ...
تمتد لكتفيها قبل أن تشعر بها تنزع عنها سترتها القصيرة بنفس ألوان ثوبها الطيفية والتي صممت لتستر عريه ...
هنا فقط فتحت عينيها لتضع كفيها على كفيه مانعةً إياه بنظرة راجية !

ظهر الضيق على ملامحه للحظة انقبض لها قلبها وكأنما سقطت فجأة من علياء جنتها إلى الأرض ...
قبل أن ترتخي ملامحه بابتسامة واهنة سبقت همسه الحاني:
_زي ما تحبي.
عضت شفتها ارتباكاً وقد شعرت وكأنما سيفسد تصرفها عليهما متعة الرقص لكنه اقترب منها أكثر مردفاً:
_حلو اختراع الكعب ده ...أيوة كده....أنا رقبتي كانت قربت تتلوح من البص لتحت !

قالها مبالغاً ببعض المرح مشيراً لحذائها ذي الكعب العالي الذي قارب بين طوليهما نوعاً كي يخفف حدة ارتباكها الذي شعر به بمجرد أن بدأ في انتزاع سترتها ...

هي تكره عريها أمام الآخرين ...ربما فقدت ثقتها في أنوثتها مع ما تعرضت له ...وربما يذكرها مشهد بشرتها العارية بانتهاكاتها القديمة...
وربما هو كليهما معاً !
لقد سأل أحد أصدقائه الأخصائيين عن حالتها دون ذكر صفتها
بالطبع ليخبره أنها مادامت تتقبله ولو في بعض لحظات قصيرة فإن الأمر لا يرتقي لكونه مَرضياً ولكنها فقط مسألة وقت!
هذا الذي أسعده كثيراً وهو يشعر وكأنما وضعه القدر في طريقها ليكون دواءها ...كما كانت هي دواءه !
لهذا ما كاد يلمح ابتسامتها حتى انحنى يدللها بشفتيه للحظة خاطفة قبل أن يردف بنفس المرح:
_بتعرفي ترقصي واللا عليه العوض في رجلي النهاردة ؟!

لم تدرِ كيف صارت بعدها فجأة بين ذراعيه ...
ولا كيف تناسبت خطواتها مع خطواته ...
هي لم تكن تراقصه ...هي كانت تدور معه في فلك عشق لم يحوِ سوى نجمه.. ونجمها !!
كفاها مبسوطان على صدره ...وكأن أناملها تتلقف صوت دقاته لتصنع منها عقداً من عشق طالما ارتدته في خيالاتها...
عيناها تتشبثان بنهر حب تسكبه حدقتاه ...تأبيان حتى مجرد الرمش وكأنما تخشى أن تغمضهما فتجده قد جف!
ألوان ثوبها الطيفية تمتزج في عينيها بسواد بدلته فتشعر بتمام
الاكتمال...
أجل...هذه هي الصورة بالضبط كما كانت تراها في حلمها ...
هو بزيّه الأسود بكل ما يحمله من أناقة وغموض يحتوي بين ذراعيه ألوانها المشرقة كلها ...
لهذا دمعت عيناها بفرحة حقيقية وقد انفرجت شفتاها عن كلمات لم تسعفها هاهنا...
لكن شعورها وصله كاملاً دون نقصان ...
حبٌ كهذا لا تقف أمامه سدود ولا قضبان...
هو يخترق الصدور كشعاع من نور لا يحتاج لأن يعرف عن نفسه !
ذراعاه تضمانها نحوه أكثر يكاد يلصقها به حتى وكأن قلب كل منهما ينبض في صدر صاحبه ...
ليهمس لها أخيراً بنبرة غريبة عن طبيعته الخشنة :
_احكي .
رمقته بنظرة متسائلة فألصق جبينه بجبينها مردفاً :
_احكيلي عن يامن اللي ماعرفوش...بحب أسمعك وانتِ بتتكلمي عني...بشوف في عنيكي صورة تانية ليّ عايز أصدقها ...احكيلي عنك...عننا ...عن زمان ...رجعيلي العمر اللي لحد دلوقت ماعرفش راح فين وازاي .

مسحت دمعة سقطت من طرف عينها وهي تشعر بصدى كلماته يدوي بداخلها بقوة ...
هذا هو ما تحتاجه هي الأخرى الآن !
لهذا ابتسمت وهي تغمض عينيها لتسمح لنفسها بالاغتسال في نهر الذكرى...
لتنفرج شفتاها عن ذكريات له تعجب من أن تذكرها بهذه الدقة ...

قمصانه التي كان يرتديها بذوق معين مناسب لتلك الفترة بألوانها التي كانت تذكرها له واحداً واحداً...
نظارته الطبية التي استغنى عنها حالياً بعد عملية "ليزك" والتي ذكرت له أدق تفاصيلها بعدستيها الكبيرتين وانعكاسها
الأزرق"أنتي ريفليكشن" الذي كان يضايقها إذ يمنعها مراقبة لون حدقتيه ..
شاربه الذي حلقه وقتها والذي تمنت لو يبقيه على حاله مع بعض التهذيب ...
عادته "الخالدة" بحك ذقنه عندما يشعر بالخجل ..
طريقته المميزة في تناول "الفشار" وقتها عندما كان يرفعه
لأعلى واحدة واحدة قبل أن يتلقاها كحارس مرمى في فمه الضاحك ...
مشيته المميزة التي كان يضع فيها كفاً واحداً في جيبه بينما يبسط الآخر على صدره ليمنحه طلة كاذبة موحية بالغرور لكنها وحدها كانت تفهم ما خلفها من شعوره بالغربة في مجتمعهم ذاك وقتها ...
شجرة السنديان التي كان يحب الجلوس تحتها في مكان معين لا يكاد يغيره بالنادي ...
مواقف رجولته وشهامته التي سردتها بفخر وكأنها تتحدث عن نفسها لا عنه هو ...
ضحكته التي كانت مميزة ببحتها الخشنة وسط الحضور لكنها كانت تعشقها بعفويتها وبساطتها ...
شعره الذي كان وقتها قصيراً ليس كما الآن بتلك القَصّة التي تقل كثافتها عند الجانبين بينما تعلو قليلاً من المنتصف...
وأخيراً عينيه اللتين لم تتغيرا بعد كل هذه السنوات ...

_لسه زي ما هم...بطيبتهم وحنيتهم...ووجعهم اللي مايقراهوش إلا اللي يقرب قوي !
ختمت بها سيل ذكرياتها عنه وهي تمرغ وجهها في صدره غافلة عن أثر حديثها في نفسه ...
عجباً لها ...كيف طوت صفحات من عمره في بضع دقائق ؟!
كيف أعادت له الذكرى مجسدة وكأنه يرى نفسه تلك الفترة ؟!
لقد ظن أنه كان يكره تلك الحقبة من عمره لما تحمله له من سواد الذكريات ...
لكنها أعادت صباغتها بألوانها السحرية لتعيدها له مفعمة
بالحنين والشجن و...مشاعر أخرى لا يجيد الآن توصيفها وإن كانت تجتاحه بجنون !

لهذا ابتعد بوجهه أخيراً ليتلمس ملامحها بأنامله ببطء شديد وكأنه يرسمها ...يحفرها في وجدانه كي لا تضيع منه مع ما ضاع ...
قبل أن يهمس لها محافظاً على خطواتهما الراقصة المتمهلة :
_كل ده عني أنا...احكيلي عنك أنتِ .
_مش هتفرق ...صدقني...انت كنت أهم حاجة في حياتي...لدرجة إني مابقدرش أفتكر يوم واحد من عمري وقتها إلا وافتكرك معاه .

همست بها بصدق وهي تعود لتخفي وجهها بين ضلوعه ...
أناملها تتشبث بقميصه بقوة وكأنما تخشى من هذا الحلم أن تفيق ...

_لحد دلوقت مش مصدق إن ممكن حد يحب حد كده .
همس بها بشرود وهو يربت على ظهرها محاولاً السيطرة على نزيف ذكرياته الذي عاد للتدفق ...
لكنها رفعت عينيها إليه هامسة بيأس خالط نبرتها العاشقة :
_مش مصدقني؟!

عاد ببصره نحوها...
لا...ليس ببصره فقط ...بل بكُلّه!
أجل كل ما فيه الآن كان مُحتلاً بها من الشريان إلى الشريان !
حتى أنه لم يشعر بنفسه وهو يرفعها من خصرها نحوه هامساً بانفعال:
_هافضل أقول إني مش مصدقك عشان كل يوم تبقي عايزة تثبتيلي ده....

انقطعت عبارته بين شفتيها لتذوب بقية حروفه كالشمع في نيران عاطفتهما ...
إحساسها به الآن كان لا يوصف ...
قدماها لم تكونا تلمسان الأرض حقيقة لا مجازاً معتمدة على ذراعيه المطوقتين لها بقوة ...
ذراعاها تتعلقان به وكأنه آخر طوق نجاة بين يدي غريق...
ووعيها يتسرب منها ليدور في دوائر لا متناهية...
شعور لذيذ يكتنفها ...يضمها...يهدهدها...ويرفعها فوق أرجوحة حلم تكاد قدميها تلامسان السحاب ...
لكنه يعود آسفاً ليختنق متوارياً خلف خوف قديم لا حيلة لها فيه ...

دقات قلبها تتجاوز حد الجنون وهي تشعر أنها غير قادرة على التنفس...
دفعة رقيقة منها كانت كافية ليبتعد عنها أخيراً بوجهه وينزلها أرضاً دون أن يفلتها من بين ذراعيه ...
تباً!!!
الآن يشعر أنه يحتاج ما يفوق قوة البشر كي يمنع نفسه عنها ..!!

لهذا أخذ عدة أنفاس متتالية وهو يشيح بوجهه قبل أن يربت على ظهرها ليبتعد عنها أخيراً وقد لاحظ انقطاع اللحن الموسيقي ...فقال بمرح مصطنع:
_كويس إن الموسيقا خلصت ...لا سني ولا لياقتي يسمحوا بأكتر من كده .
ابتسمت ببعض الخزي الذي امتزج بامتنانها لتتقدم منه مطرقة الرأس بهمسها:
_أنا آسفة .
لكنه ربت على وجنتها ليرفع وجهها نحوه هامساً بجدية تامة:
_بتتأسفي ليه ؟! عايزة الحق؟! أنا اللي المفروض أشكرك...لأن اللي حسيته الليلة دي ماحسيتوش في عمري كله .
_بجد؟!
_أيوة ...ولو قلتِ شكراً يا طيب هاضربك !

قالها ملوحاً بسبابته في وجهها فضحكت ضحكة عالية شاركها فيها قبل أن تتأبط ذراعه لتصعد معه الدرج نحو غرفته ...
ولم يمضِ الكثير من الوقت حتى كان مستقراً بين ذراعيها على فراشهما بعد حكايتها التي طلبها هو هذه الليلة...
ولأول مرة يستسلم للنوم قبلها ...ربما لأن اليوم كان حقاً مرهقاً ...
وربما لأنه كان يريد الهروب من فوضى مشاعره نحوها بأي طريقة...
ولم تكد هي تشعر بانتظام أنفاسه حتى قبلت جبينه بعمق لتداعب لحيته السوداء الكثيفة بأناملها بحنان سكن ملامحها ...
حنان تبدل للكثير من الخوف الذي استدعى لها الأرق هذه الليلة لبضع ساعات ...
قبل أن تنتبه لصوت رسالة تلقاها هاتفه الموضوع جواره على الكومود ...
رسالة وخزت قلبها وضميرها معاً بفحواها ...
أجل ...تماماً كما توقعتم...
سيلين وضعت طفلها!!!
=======






سمية سيمو غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-04-20, 11:12 PM   #1512

سمية سيمو


? العضوٌ??? » 396977
?  التسِجيلٌ » Apr 2017
? مشَارَ?اتْي » 4,356
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
?  نُقآطِيْ » سمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك action
?? ??? ~
keep smiling
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي


القطعة الثالثة عشرة
=======

_فيه راجل طالب يشوفك شخصياً!
قالها أحد العمال وهو يدخل عليها جانبها الخاص من مطبخ المطعم الخاص بها فابتسمت وهي تتوقع هويته...
يامن !
تراه جاء وأعد لها مفاجأة ؟!
مسحت يديها في فوطة مجاورة بسرعة ثم نزعت عنها "مِريلة" المطبخ لتتوجه نحو الخارج...
أشار لها العامل نحو الرجل الذي كان يعطيها ظهره فعقدت حاجبيها بدهشة...
إنه ليس يامن !
تقدمت منه بخطوات سريعة لم تلبث أن تباطأت وعقلها يبدأ في استرجاع هذه الهيئة المميزة له...
هل هو ...؟!
معقول؟!
متى عاد ؟! ولماذا الآن بالذات؟!
توقفت فجأة وهي تبسط كفها على صدرها برهبة قبل أن تقرر فجأة العودة للمطبخ قبل أن يراها !
لكنها ما كادت تستدير بظهرها لتسير بضع خطوات حتى سمعت صوته خلفها :
_بتهربي ليه ؟!
وقفت مكانها للحظة والدموع تتكاثف في عينيها ...
تعيد إليها مرارة ذكرى لا تريد الخضوع لها ...
ولن تفعل!!
لهذا أخذت نفساً عميقاً تتمالك به قوتها ثم التفتت نحوه لتقول بلهجة جامدة :
_ما اسموش "هروب"...اسمه "مش عايزة أقابلك"!

التوت شفتاه بابتسامة حملت كل مشاعره في هذه اللحظة ...
حنين ...مرارة...خزي...حسرة...
كل هذا مغلف بإعجاب بدا في كلماته :
_لسه بتعرفي تختاري كلامك كويس...
ثم دار عليها بعينيه مردفاً بنبرة ذات مغزى:
_بس يا ترى اتعلمتِ تختاري طريقك كويس كده برضه ؟!
اتسعت عيناها للحظات وكأنما انفتحت لها بوابة من ماضٍ لها معه ...
عجيبٌ هذا الزمان عندما يغير مواقع الناس على خرائط قلوبنا...
ليجعل ما ظنناه "رافد النهر" الخصب مجرد صحراء قاحلة!

_مبروك جوازك!
انتشلها بها من أفكارها فتلفتت حولها تهرب من لقاء نظراته لتقول
بنفس النبرة القوية :
_انت إزاي تتجرأ تيجي لحد هنا؟! ..أنا لحد دلوقت محترمة اللي كان بيننا ...لكن...
_أنا ضيعت كل اللي كان بيننا في ساعة طيش وعارف إن ماليش عندك حقوق .
قاطع بها عبارتها بمزيج من حزم وأسى لتعاود النظر إليه بعينين ارتجفتا رغم محاولتها التظاهر بالقوة...
فزفر زفرة أخيرة سبقت قوله :
_أنا جاي بس أطمن عليكِ...قولي إنك كويسة ومبسوطة وأوعدك مش هتشوفيني تاني .
ردتها عبارته لواقعها فكتفت ساعديها لترفع رأسها بقولها :
_مبسوطة جداً يا زين.

قالتها بنبرتها العنيدة المحاربة التي يعرفها فتنهد ببعض
الارتياح وهو يشعر أنه قد حقق الغرض من زيارته ...
لهذا هز رأسه قليلاً وهو يرمقها بنظرة طويلة وقد انفرجت شفتاه وكأنه يقاوم حديثاً طويلاً يوشك أن يبوح به...
قبل أن يغادرها بخطوات متباطئة ...
ظلت ترمق ظهره المنصرف حتى اختفى عن ناظريها لتلتمع عيناها بالدموع من جديد ثم اندفعت لداخل المطبخ الذي أغلقت بابه واستندت عليه لتسمح لدموعها أخيراً بالانهمار ...

_مالك يا ياسمين ؟!
هتفت بها مساعدتها بجزع وهي ترى انهيارها هذا فمسحت دموعها بسرعة بينما المرأة تردف :
_مين الراجل اللي كان عايزك ؟! وقاللك إيه عشان ده كله ؟!
لكنها رفعت رأسها لتأخذ نفساً عميقاً قبل أن تجيبها بشرود :
_واحد كان عايز مني خدمة بس ماقدرتش أساعده !
_وانتِ عشان كده بتعيطي؟!
سألتها المرأة بإشفاق لتتجاهل سؤالها مجيبة بنبرة قوية:
_نبهي على كل العمال هنا إني ما بقابلش أي حد من زباين المطعم.
_انتِ خايفة ييجي تاني؟!
سألتها مساعدتها ببعض القلق لتجيبها بثقة لم تخلُ من مرارة:
_مافتكرش هييجي تاني.
========
وقفت في المطبخ تعد له العشاء وهي شاردة في أفكارها لتبتسم أخيراً بحب وهي تدرك أن مجرد انتظاره ...سعادة !
نظرت في الساعة المعلقة على الجدار لتتبين قرب وصوله فتحركت لتمشط شعرها بسرعة عندما سمعت صوت الجرس فاندفعت لتفتح الباب لكنه لم يكن هو ...
بل نبيلة !
رفعت حاجبيها للمفاجأة قبل أن تهتف بترحاب :
_النجمة هنا !! أهلاً ...اتفضلي!
ابتسمت نبيلة بغرور وهي ترد بعبارات لبقة قبل أن تدلف إلى الداخل لترمقها بنظرات متفحصة...
منامتها الطويلة الواسعة بلونها النبيذي تحت "مريلة المطبخ" التي حملت اللونين النبيذي والأبيض ....
وجهها الذي خلا تماماً من الأصباغ...
شعرها القصير فوضوي الهيئة كالعادة والذي يشي بجهل تام لطريق "الكوافير"!
ربما لو قيّمتها الآن كأنثى فستمنحها "صفراً كبيراً" بضمير مرتاح !
ويبدو أن ياسمين قد قرأت هذا في نظراتها فضحكت لتقول ببساطة بينما تخلع مريلة المطبخ لتضعها جانباً:
_يامن على وصول ...لازم أفضل في المطبخ لآخر لحظة عشان ييجي يلاقي الأكل دافي زي ما بيحبه .

وكأنما كانت عبارتها -مفتاحاً- لباب خاص في قلب نبيلة
"الأم" التي تبدلت نظرتها لها لترق لهجتها كثيراً مع قولها:
_خلاص عشان ما أعطلكيش...نقف سوا في المطبخ !
قابلت ياسمين الفكرة بترحاب وهي تصطحبها للداخل حيث جلست نبيلة على أحد الكراسي تراقبها وهي تعد الطعام ...
وبينما كانت ياسمين منهمكة في ثرثرتها الحيوية حول مواضيع كثيرة فتحتها بلباقة كانت نبيلة شبه واعية وتركيزها كله منصباً حول "مريلة" المطبخ التي وضعتها ياسمين هناك ...
شيء ما في هيئتها البسيطة وخز قلبها بشعور غامض ...
شعور بافتقاد هذه الحياة الدافئة التي لم تجربها -هي- إلا قليلاً...
ترى كيف كانت حياتها لتكون لو لم تفضل مستقبلها ك"نجمة" على منحة القدر كزوجة وأم عادية ؟!!

ذكرها الخاطر الأخير بما جاءت لأجله فتنحنحت لتقول بنبرتها ذات الكبرياء المعهود :
_عرفتِ إن سيلين ناوية تسافر بالولد ؟!

تجهمت ملامح ياسمين فجأة لتتوقف عما تفعله قبل أن تتقدم نحو نبيلة لتجلس أمامها قائلة :
_صدقيني أنا حاولت أقنع يامن كتير إنه يرجع لها عشان خاطر ابنه ...لكن حضرتك عارفة إنه عنيد...كمان سيلين رفضت تعمل الاختبار اللي طلبه وده زود شكوكه .
_وانتِ شايفة إيه ؟!
سألتها نبيلة بنبرة متشككة فتنهدت ياسمين بحرارة لتجيبها:
_رفضها للاختبار ده مش معناه إنه مش ابنه...أنا لو مكانها مش هاقبل إني أبقى مجال شك وإن شرفي يتحط تحت رحمة مجرد ورقة ...كمان أنا شفت الولد ...ملامحه كلها من يامن.

تهدج صوتها في عبارتها الأخيرة وهي تتذكر مشاعرها التي انتابتها عندما رأت الرضيع ليلتها في المشفى حيث وضعت سيلين...
كيف تصف هذه الرجفة التي أصابت قلبها وهي ترى ذاك الكيان الضئيل الذي يشبه حبيبها وزوجها ...والذى يُفترض أنه ابنه من امرأة سواها ؟!!!
هذا الشعور المقيت بالذنب وهي ترقب ملامحه البريئة التي رأتها بعين المستقبل تتهمها بحرمانها من أبيه ؟!
هذه الغيرة التي تملكتها وهي ترى بخيالها ثمرة ليلة عشق لرجلها من امرأة منحته ما تزال -هي- غير قادرة على منحه ؟!
وهذا "الأمل البعيد"...البعيد تماماً كالسماء...والقريب جداً مثلها ...أن تحمل هي يوماً منه طفلاً مثله ؟!!

هذا الطوفان من المشاعر الذي اجتاحها ليلتها والذي لايزال يؤرق مناماتها كل ليلة من حينها ...
لهذا استطردت بنفس النبرة المرتجفة:
_أنا مش خايفة من حاجة أد ما أنا خايفة إن يامن يندم في يوم من الأيام إنه فرط فيه ...يعرف إن وساوسه وشكوكه حرمته من أكبر نعمة في الدنيا ...ساعتها هيكره نفسه وهو شايف إنه في عيون ابنه ميت بالحياة ..
انقطعت عبارتها مع اتساع عينيها المصدومتين وهي ترى دموع نبيلة تملأ مقلتيها دون أن تسيل على خديها...
لتبتلع هي بقية عبارتها بندم وهي تدرك ما وصلها ...
لكنها للأسف لم تستطع التراجع !!
بينما رمقتها نبيلة بنظرة شاردة وهي تشعر وكأنما يعيد التاريخ نفسه ...
لتقول بنبرة فقدت كبرياءها العتيد لتحل محله رياح من ندم:
_عندك حق ...فيه ذنوب ما بيسامحناش عليها الزمن ...ولا بنسامح عليها نفسنا ...

دمعت عينا ياسمين وهي تشعر أنها ترى هذا الوجه من نبيلة لأول مرة ...
بعيداً عن بهرجة أناقتها وزهوة غرورها وأفكارها التي تبدو أنها لا تدور إلا في فلك نفسها فحسب ...
لكن "النجمة" لملمت رداء عاطفتها بسرعة لتردف بصوت عادت إليه قوته:
_عشان كده جيتلك النهارده عشان تقنعيه ...أنا عارفة إنه صعب عليكِ كستّ إنك ترضي بكده بس...
_والله ما بفكر كده خالص...ربنا عالم حاولت أد إيه بس يامن عنيد وشكاك ...وتصرفاتها الأخيرة زودت شكوكه ...بس هحاول معاه تاني يمكن يلحق يوصل لحل معاها قبل ما تسافر .

قالتها ياسمين بحرارة لا تدعيها قبل أن تصلها رائحة نفاذة من الفرن فانتفضت من مكانها لتستخرج صينية الطعام ثم وضعتها على الطاولة لتقول بابتسامة واهنة:
_الحمد لله إني لحقتها ...آه...
لم تنتبه أن حرارة الصينية لسعت جزءاً من جانب كفها
الآن !
فاندفعت نحو الحوض تريق عليها الماء بينما نبيلة تهتف خلفها بعبارات جزعة لكنها تناولت من دولاب المطبخ أنبوبة مرهم وضعت منه على جرحها لتقول ببساطة :
_ماتقلقيش أنا واخدة على كده ...إصابات عمل!

أرفقت عبارتها الأخيرة بضحكة رقيقة قبل أن تعاود عملها في المطبخ تحت عيني نبيلة المدققتين لما تفعله ...
كانت الآن قد قامت بتشغيل المروحة الكهربية الصغيرة أمام صينية الطعام لتقول بانطلاق:
_يامن مابيحبش الأكل سخن قوي ...بضطر أبردهوله شوية كده لأنه على وصول ...مش عارفة اتأخر ليه .

لكن مالم تعلمه أنه لم يكن قد تأخر ...
كان واقفاً في الحديقة يراقبهما خلسة عبر نافذة المطبخ المفتوحة بعدما عاد ليجد سيارة أمه بالخارج ...
لم يكن يعلم نيتها وإن خمن أنها ستضايق ياسمين بحماقاتها المعهودة لكنه لم يتوقع أن يسير الحوار بينهما هكذا ...
أجل ..لم تكن ياسمين وحدها من لاحظت صبغة الندم في حديث نبيلة...هو أيضاً استشعرها بقلبه الذي طال ظمأه لها ...
لهذا فضل أن يبقى حيث هو يراقبهما دون أن تشعرا ...

_يامن بيحب أكلك ...دايما يشكر فيه !
قالتها نبيلة بنبرة غريبة هي مزيج من إعجاب وحسد فابتسمت ياسمين وهي تسكب العصير في دورق خاص لتجيبها بصوت حمل عاطفتها كاملة:
_أهلي وقرايبي وأصحابي ...مطعم ناجح وزباينه كتير ...والفرع التاني في الطريق ...بس كل دول ولا حاجة لما بحس إنه هو بس بيحب ياكل من إيدي .
عادت عينا نبيلة تلتمعان بدموع خفية وهي تعاود سؤالها بصوت مهزوز:
_بتحسي بإيه ؟!
_يااااه ...لما ييجي تعبان وجعان وعنيه تلمع أول ما يشوف الأكل ...لما أعرف إنه قعد طول اليوم مايدوقش حاجة عشان مايزعلنيش لما ييجي ويخلص أكلي كله ...لما أبقى متأكدة إنه شبع بس صعبان عليه يضيع تعبي فيدوق من كل الأصناف ...بحس وقتها إني خدت أكبر جايزة في الدنيا .
قالتها بمرح حقيقي وهي تدور في المطبخ كالنحلة ما بين غَرف الأطباق وإعداد مائدة السفرة ...
بينما كانت نبيلة غافلة بشرودها حتى عن عرض مساعدتها ذوقياً...
لتسألها أخيراً بنفس النبرة :
_كل ده عشان بس بياكل من إيدك ...امال لما بيحضنك بتحسي بإيه ؟!

تجمدت ملامح ياسمين لأول وهلة من جرأة السؤال لكن نظرة واحدة لعيني نبيلة الشاردتين بحسرة أنبأتها أن
الأمر يتجاوز -ظاهر- معناه ...
لهذا ابتسمت بتفهم وهي تتوجه نحو حماتها لتنحني نحوها فتربت على ركبتها قائلة :
_حُضن يامن دافي ويسع الكل ...أكيد حضرتك أدرى مني بيه .
_عمري ما جربته !

تمتمت بها نبيلة بصوت بالكاد يسمع لتتسع عينا ياسمين بصدمة لم تلبث أن تحولت لإشفاق ...
بينما كانت نبيلة أمامها في حالٍ من نفسها لا تعرفه !!!
ماذا فعلت بها هذه الزيارة ؟!
لقد جاءت إلى هنا حانقة بشدة وهي تتصور أن ياسمين تساند يامن في فكرته القاسية عن التخلي عن ابنه ...

لكنها منذ دخلت إلى البيت وهي تستشعر هذا الدفء الغريب الذي انتقل منه إليها ...
بالإضافة إلى هذا الشعور المكتسح الذي يجتاحها ...
شعور أقرب "للحسد"!!
حسد؟!!
أو فلنقل للدقة اللغوية "الغبطة"!
أجل ...كم تغبط ياسمين الآن على هذا "الدور الحقيقي" الذي تؤديه في الواقع والذي لا تساويه كل أدوارها "الزائفة" في عالمها المبهرج ...
تغبطها على عاطفة يامن الذي لا يبرح يمتدحها أمامهم بمناسبة ودون مناسبة سواء في وجودها أو غيابها ...
تغبطها على حبها -هي- له والذي يبدو جلياً في أفعالها قبل كلماتها ...
حبها الصادق المتفاني الذي عجزت هي عن منحه له منذ طفولته وحتى الآن !

ورغم غمام الحسرة الذي كاد يوشك أن يمطر على وجنتيها الآن لكنها تغلبت على كل هذا لتستعيد سابق كبريائها وهي تشيح بوجهها فتتجاهل كل هذا مع قولها:

_هو اتأخر كده ليه ؟! أنا كنت جاية عشان أكلمكم في موضوع ابنه وبس...اتصلي شوفيه عشان ورايا حفلة مهمة بعد ساعة .

فاتسعت عينا ياسمين وهي تنتبه أخيراً لما ترتديه حماتها ...
يامن سيصاب بذبحة صدرية لو رأى هذا الثوب ...
لكن...هو بالتأكيد قد تعود على هذا!
لهذا تنحنحت لتقول بترحاب بشوش:
_أبداً...حضرتك مش هتمشي قبل ما تتعشي معنا .
بدا الرفض على وجه نبيلة لتفصح عنه بكلمات مقتضبة لكن ياسمين ظلت على إلحاحها حتى انتزعت موافقتها ...

_السلام عليكم .
قالها وهو يدخل عليهما المطبخ أخيراً بعدما اكتفى بهذا القدر مما سمع ...
لتستقبله نبيلة بعاطفتها المكتومة خلف مصافحتها التقليدية قبل أن تقول بعجرفتها المعهودة:
_هاغسل إيدي قبل الأكل .
تابعها يامن ببصره بأسى بينما تغادر المطبخ وهو يكاد يقسم أنه قد رأى اليوم منها وجهاً لم يره طوال حياته...
صدقت ياسمين عندما كانت تشبه البشر جميعاً ب"السينابون"...
دوائر ملتفة يختلف ظاهرها عن باطنها...مزيج من لذوعة الذنب وحلاوة الفطرة ...لكنهم جميعاً عجين متخمر بماء الماضي.

_أنا محضرة السفرة ...اغسل انت كمان إيديك.
انتشلته بها ياسمين من شروده فالتفت نحوها بنظرة طويلة قبل أن يجذبها فجأة ليضمها لصدره بقوة !
أطلقت آهة خافتة أتبعتها بابتسامتها وهي ترفع عينيها إليه هامسة بعاطفة اتشحت بدلالها:
_وحشتك ؟!
لم يجبها بكلماته بل شدد ضغط ذراعيه حولها وعيناه تغنيانه عن أي رد ...
فاتسعت ابتسامتها وهي تستطيل على أطراف أصابعها لتقبل جبينه هامسة :
_وانت كمان وحشتني قوي...
_بوسي على أدّك يا "نخلة"!
همس بها مشاكساً وهو يضم رأسها الموازي لصدره فضحكت وهي تقبل ما نالته شفتاها ...
ثم مدت رأسها تنظر للخارج مردفة:
_ياللا عشان منتأخرش على مامتك .

لكنه انحنى برأسه ليغرس وجهه بين حنايا عنقها مشدداً عناقه للحظات وكأنه لم يسمعها ...
قبل أن يقبل رأسها ليبتعد بابتسامة واهنة جعلت قلبها يرقص طرباً....
سعادتها بمشاعره الوليدة الصامتة نحوها كانت تشع من نظراتها طوال تناولهم للعشاء ...
دعاباته التي زاد مرحها بشكل غريب هذه الليلة ومشاكساته الحنون لها أمام أمه ...
وأخيراً "شوكته" التي تلبسها "جنيّ" ما لتسقط كل بضع دقائق فينحني ليلتقطها مداعباً ساقها خفية تحت المائدة !!!
وجهها كان يكاد يحترق بخجله وهي تشعر بحركاته مفضوحة تماماً أمام نبيلة التي كانت ترمقهما بنفس النظرة الغريبة بين رضا وغبطة وحسرة ...
حتى سألها يامن باهتمام:
_سبتِ داليا لوحدها في البيت ليه ؟! كنتِ جبتيها تتعشى معنا!
لكن نبيلة ردت بغير اكتراث:
_داليا مش في البيت ...خرجت تذاكر عند صاحبتها !
_إيه؟! لحد دلوقت!!
هتف بها يامن بحدة وهو ينظر للساعة جواره لترد أمه بنفس النبرة اللا مبالية:
_وفيها إيه؟!
كز يامن على أسنانه فربتت ياسمين على ركبته مهدئة بينما تناول هو هاتفه ليتصل بداليا وما كادت تفتح الاتصال حتى هتف بها :
_انتِ فين دلوقت؟!
صوتها المرتبك وصله مجيباً:
_بذاكر عند واحدة صاحبتي .
_اديهالي أكلمها!
ظل الصمت نصيبه للحظات قبل أن يصله صوتها بارتباك أكثر:
_متحرجنيش معاها يا يامن ...هتقول عليّ عيلة صغيرة أهلها مش واثقين فيها !
_وهو فيه واحدة محترمة تقعد بره بيتها للساعة دي ؟! انتِ فين وأنا آجي آخدك .
_باباها هيوصلني ...صدقني ...نبيلة عارفاه ...أرجوك يا يامن متحرجنيش معاهم أكتر من كده ...لما أروح هاكلمك !
أغلق الاتصال بعنف ليلتفت نحو نبيلة هاتفاً :
_تعرفي صاحبتها دي وباباها اللي بتقول هيوصللها ؟!
لم تكن نبيلة تعلم عما يقوله شيئاً لكنها تصنعت المعرفة لتقول بنبرتها المتعالية:
_طبعاً...داليا مابتخبيش عني حاجة...بنت محترمة وباباها راجل كويس ...ماتقلقش .
قالتها لتهدئ غضبه لكنه بقي عاقداً حاجبيه للحظات وقد قرر محادثة هانيا من جديد كي تتقرب من هذه الطائشة الصغيرة أكثر ...
ثم قال محدثاً أمه بنبرة حازمة:
_مفيش تأخير بره البيت عن الساعة التاسعة لداليا....وأي واحدة صاحبتها تخرج معها يبقى معاكِ رقمها ...مفهوم؟!
مطت نبيلة شفتيها باستياء وهي تومئ برأسها فتنحنحت ياسمين لتلطف الأجواء بقولها :
_هاقوم أجيب العصير ...معلش نسيته !

قالتها ثم قامت لتحضر العصير من المطبخ لكنها ما كادت تتحرك بضع خطوات حتى تعثرت بطرف السجادة وعندما حاولت استعادة توازنها بالتمسك بشيء ما لم تجد سوى سوى تلك المزهرية الضخمة التي تقاربها طولاً تقريباً....والتي سقطت الآن -معها- على قدمها!
شهقت نبيلة بترقب بينما لم يستغرق يامن بضع ثوانٍ ليكون جالساً أمامها على الأرض يرفع ساقها أمامه بعدما أزاح المزهرية ليهتف بجزع:
_حركي رجلك ...بتوجعك ؟!
ابتسمت ياسمين بحرج فلم يكن الأمر يستحق منه كل هذا خاصة عندما تقدمت منهما نبيلة لتقول بقلق:
_عاملة إيه؟!
_ولا حاجة ...دي وقعة بسيطة !
قالتها ياسمين وهي تعود بظهرها لتستند على راحتيها على الأرض محاولة حفظ توازنها مع رفع يامن لساقها وتفحصه له ...
لكن عينيه التمعتا بمكر وهو يرفع سروال منامتها ل-ما فوق ركبتها- مع تحريكه لمفصل قدمها قائلاً بحزم مصطنع:
_تعرفي منين انتِ؟! أغلب الكسور مبنحسش بيها في وقتها !
شحب وجهها وهي ترى ساقها مكشوفة أمامه وأمام نبيلة التي انتبهت لما يفعله ابنها.... خاصة عندما تحركت أصابعه على طول ساق زوجته ليضغطها في مواقع عدة هاتفاً في كل مرة :
_طب حاسة بوجع هنا؟!
رمقته ياسمين بنظرة راجية وهي تحاول نزع ساقها منه هاتفة بين خجل وحرج:
_والله كويسة...والله مفيش أي وجع!

لكنه ظل على ما يفعله حتى وصل لما فوق ركبتها بينما هي تكاد ترجوه بصوت مرتجف:
_خلاص يا يامن ...كويسة ...خلاص!
ظلت تكررها بخجل شديد أنساها رهابها المعتاد من انكشاف جسدها أمام الآخرين ...
خاصة عندما قالت نبيلة ببعض المكر وهي تتابع ما يفعله يامن بحدسها الأنثوي:
_طيب...أستأذن أنا عشان تكشف على الباقي براحتك !

آه هذا ما كان ينقصني!!
همست بها ياسمين في نفسها وهي تكاد تذوب خجلاً مع قولها المتحشرج:
_لا كملي حضرتك أكلك...
قالتها وهي تدفع يامن ببعض العنف لكن نبيلة تناولت حقيبتها لتقول بتعجل:
_معلش اتأخرت على الحفلة...المهم إنك بقيتِ كويسة...قومي اقفي عشان يامن يطمن !
اكتست عبارتها الأخيرة بالكثير من المكر الذي زاد خجل "البائسة" ياسمين الآن ...
لهذا ما كاد يامن يقف ليوصل والدته إلى الباب حتى عدلت ملابسها لتهب من جلستها ثم توجهت إلى المطبخ تحاول الاختباء عن عينيهما بأي طريقة ...

عاد إليها ليجدها واقفة أمام الثلاجة وقد استندت عليها معطية إياه ظهرها ووجهها مدفونٌ بين كفيها ...
فتنهد بحرارة ليتقدم منها ثم أمسك كتفيها يديرها نحوه قبل أن يزيح أصابعها من على وجهها هامساً بحزم حنون:
_أنا قصدت أعمل كده ...وقدام نبيلة ...عشان تتغلبي على حكاية خوفك دي !

دمعت عيناها وهي ترمقه بنظرة غريبة هي مزيج من خزي وألم وامتنان ...
قبل أن تخفي وجهها في صدره لتهمس بصوت مرتجف:
_انت ماتعرفش أنا بحس بإيه لما جزء من جسمي بينكشف قدام أي حد ...بحس إني خايفة قوي ...وصغيرة قوي .
_وانتِ ماتعرفيش أنا بحس بإيه وقتها ...بحس إنك جميلة قوي .
همسه الأجش كاد يلفح وجهها بحرارته فرفعت عينيها إليه من جديد لتسأله بنفس النبرة المهتزة:
_هسألك سؤال ...يعلم ربنا عمري ما سألته لحد ...بس انت بالذات عايزاك تجاوبني وبصراحة ...
ثم ازدادت ارتجافة شفتيها حتى أطبقتهما لتردف بصوت خفيض جداً يكاد لا يُسمع:
_انت ...بجد...شايفني ...

قاطع عبارتها بشفتيه وقد فهم ما تريد قوله ليعز عليه كثيراً أن تسأل امرأة -مثلها - هذا السؤال !!!!
لو رأى ذاك الوغد طليقها فسيقتله نكالاً بما فعل بها ...
هو لم يؤذِ جسدها فحسب، هو ذبح أنوثتها بسكين ثلم !!
كيف هز ثقتها في نفسها حد أنها تسأل هذا السؤال؟!
إنها -بمواصفاتها الشكلية - في بلد كمصر تعد قِبلة للأنظار أينما حلت ...
ألا ترى كم يغار عليها ؟!
بل إنه يكاد يجن لو رأى أحدهم يطيل النظر نحوها !
لهذا احتضن وجنتها براحته ليهمس لها بصراحة تامة:
_أنا عمري ما اتهزيت لجمال واحدة ست ...هنا أو في لندن ...مش هاتكسف أقوللك إني عندي عقدة من الشُقر ...في الأول اخترت بسنت وسيلين عشان كانوا في خيالي الصورة المثالية للجمال وبعد اللي عملوه بقيت بكره أشوف أي ست شقرا ...
اتسعت عيناها بترقب وكأنما ترتشف كلماته ارتشافاً ليبتسم هو مردفاً :
_لكن معاكِ انتِ بحس إني مش حاطط قواعد ...انتِ جميلة عشان انتِ ياسمين ...سواء كان شعرك أصفر أو أسود...سواء كنت شقرا أو سمرا ...عنيّا شايفاكِ أيقونة جمال لوحدها من غير أي معايير.


ابتسامتها التي امتزجت مع دمعتها الآن كانت أجمل في عينيه من أي وقت رآها فيه ...
خاصةً مع احمرار وجنتيها الذي وشى بخجلها والذي تهربت منه بتغيير الموضوع :
_الأكل كان حلو؟!
_طبعا!
_السفرة كان شكلها كويس؟!
_ممتاز!
_يعني تفتكر عجبت مامتك...مممم...هتحبني؟!
_ومين شافك وماحبكيش؟!

انفرجت شفتاها بذهول وهي تسمعها منه لترمقه بنظرة غير مصدقة...
بينما تراجع هو خطوة وكأنما استاء من بَوْحه هذا الذي خرج دون تخطيط !!
ورغم شعوره بالرضا عن سعادتها التي رسمها اعترافه -غير المباشر- هذا ...
لكن سلطان وساوسه عاد يراود عقله ...يحذره ألا يندفع ...
ما خاب من تبع عقله ...لكن تابع القلب مخذول !


لهذا أشاح بوجهه وهو يبتعد عنها خطوة أخرى ليقول بصوت عادت إليه خشونته :
_هاطلع أخلص كام موضوع كده ع اللاب قبل ما يغلبني النوم .
قالها ثم أعطاها ظهره لينصرف دون أن ينتظر ردها لتفاجئه بندائها خلفه:
_يامن!

ولم يكد يلتفت نحوها حتى فوجئ بها تندفع نحوه لتتعلق بعنقه بقوة ...
تزرع حقول غرامها فوق شفتيه ...
اتسعت عيناه بصدمة للحظة وهو يراها لأول مرة تبادر نحوه بخطوة في هذا الطريق الذي طالما حرمت عليه خطواته ...
قبل أن يجد نفسه يرفعها نحوه ليضمها بقوة هو الآخر ...
يتلقى عطاياها ويردها بالمزيد !!

لحظات مرت بهما صاخبة ملتهبة قبل أن تبتعد هي بوجهها لتنزل بقدميها إلى الأرض وتهمس بين أنفاسها اللاهثة :
_عمري ما هنسى الليلة دي ...انت ماقلتش كلمتين حلوين والسلام...انت رجعتلي عمر ...عارف يعني إيه رجعتلي عمر؟!

توهجت عيناه بعاطفة صارخة ونظرات عينيها تشعل قناديله المطفأة واحداً تلو الآخر ...
تزعم أنه أعاد لها عمراً فما الذي فعلته هي به ...
هي أعادت له "حياة"!!

_أنا كمان عمري ما هنسى الليلة دي ...
همس بها بحنان مسها قبل أن تعود لصوته رنة عبثه الفظّة مع استطراده:
_ويُفَضّل تبعدي دلوقت عشان تعدي على خير!
عضت شفتها بخجل غطى على خوفها المعهود من انحشار الكلام في "تلك الزاوية" لتطيعه وتبتعد ...

هذه الطاعة التي كانت أبعد ما يكون عن مراده الآن لكنه فعلها مجبوراً وهو يدرك أن الطريق لايزال ينتظر الكثير من "الأمان" الذي يعزز خطواته...
الأمان الذي يحتاجه كلاهما ...ليعطيه ويتلقاه بنفس اللذة !
=======
زفرت بضيق وهي تغلق الاتصال مع يامن لتعيد هاتفها لحقيبتها ...
كانت جالسة في ذاك الملهى الذي يشعرها بالتقزز لكنها لا تنكر تلك اللذة التي تتملكها عندما تخطو بابه ...
صوت الأنغام الصاخبة يقرع جسدها ليمنحها نشوة التمرد ...
نظرات العيون الجائعة نحوها تجعلها تتذوق نكهة النجومية التي طالما حسدت بيللا لأجلها ...
لغة جسدها التي تتأرجح بين غرور وتلذذ تجعلها مطمعاً للكثيرين هنا ...
حتى أنها تلقت بعض العروض -المباشرة وغير المباشرة- ممن يظنون أنفسهم قد يغررون بواحدة مثلها ...
لكنها كانت تجيد الدفاع عن نفسها ...أو -هكذا كانت تظن-!!

اللعنة!
لقد كادت الليلة تمر على خير كسابقاتها لولا اتصال يامن هذا ...
هي تعرفه جيداً مادام قد دس أنفه في أمر كهذا فستخضع لتعليمات مشددة منه الفترة القادمة وربما لن تتمكن من الحضور هنا كالسابق!
لهذا عادت تزفر بحنق وهي ترفع عينيها للكرة الذهبية المعلقة في السقف هناك والتي تراقصت عليها الأضواء بجنون لذيذ لتزيد من نشوة شعورها بالانطلاق ...
قبل أن تقف مكانها لترتدي سترتها فوق بلوزتها عارية
الأكتاف والتي تثق أنها بلونها الأحمر الناري كادت تذهب بعقول نصف الحضور ها هنا !
تناولت حقيبتها لتغادر المكان بخطوات متمايلة عامدة...
ولم تكد تخرج لتصدمها الرياح الباردة بالشارع حتى فتحتها لتستخرج منها وشاحاً انتوت أن تغطي به رأسها تحسباً لأن يكون يامن قد عاد مع نبيلة للبيت كي يوبخها على تأخيرها ...
كانت قد بدأت في لفه حول رأسها حين فوجئت بالهتاف خلفها :
_ما تتعبيش نفسك ...اللي كنتِ مخبياه ظهر خلاص!

استدارت نحو محدثها وقد همت بالصراخ فيه لولا أن تعرفت إليه ...
مروان "القبيح" ...صديق يامن المقرب!!
"القبيح"؟!!!
نعم...هذا هو اللقب الذي كانت تطلقه عليه في نفسها كلما صادفت ورأته ...
رأسه الذي غزاه الصلع في هذا السن المبكر ...
ثيابه التي يعود طرازها لما يسبق عامنا بعشر سنوات على الأقل...
نظارته السميكة التي تناسب كونه "طبيباً" معقداً يظن نفسه أذكى خلق الله لمجرد أنه كان "يحفظ" هذا الهراء المدرسي ل"يلقيه" على ورقة اختبار انتهت به لكلية سخيفة تتاجر في آلام الناس باسم "الرحمة"!
فكيف يكون بعد كل هذا إلا قبيحاً؟!!

لكن أفكارها -المتطرفة- هذه تجمدت الآن أخيراً خلف شعور واحد ...
الخوف!
لو علم يامن بما تفعله فستكون مصيبة !!
لهذا ارتجفت شفتاها بخزي وهي تتمتم بحروف مهتزة:
_دكتور مروان...بتعمل إيه هنا؟!
_هنا في الشارع؟! واللا هنا بره "البتاع" اللي انتِ خارجة منه ده ؟!!

هتف بها باحتقار وهو يراقب ملامحها التي طالما عشقها بذهول ...
فاتنته "الصغيرة" التي ظن أنه ينتظر تفتح براعمها يفاجأ بها غارقة في بركة من وحل!!
مكالمة "هيثم" ليلة زفاف رانيا أشعلت المزيد من نيرانه
الآن وهو يتذكر فحواها ...
الغافل هيثم كان يظنه يامن فمضى يحكي له عن أفعالها الغريبة طالباً منه ملاحظة تصرفاتها خاصة مع تلك
الألعاب الالكترونية المخيفة التي دأبت على الهرب إليها بدافع المغامرة !
أجل ...فعلها هيثم ظناً منه أنه يؤدي واجبه نحوها بعدما أجبره عنادها أن يخرج من حياتها ...
ولم يدرِ أنه قد فتح عليها باباً من جحيم آخر ...
وهل أشد من جحيم عاشق أفاق من عذوبة حلمه على مرارة خذلانه؟!
لهذا قرر مراقبتها كي يتأكد مما سمعه ...وليته ما فعل!
ها هو ذا يجدها تخرج من ذاك المكان خالعة حجابها والآن تريد إعادة ارتدائه فقط لتكمل تمثيلية خداعها أمام أقاربها!
صحيحٌ أنه قد دخل وراءها -خفية- ليطمئن أنها وحدها
وألا أحد يضايقها ...
لكن صدره كان يغلي فوق مراجل الشك وهو يراقبها من بعيد لا يكاد يصدق أنها هي ...هي نفس الفتاة التي شغف بها حباً!

_مكنتش جوه...لا ...بصراحة كانت ...كانت حفلة ...حفلة عيد ميلاد واحدة صاحبتي وخفت أقول ليامن يرفض ...أصل...
قطعت كلماتها المتلعثمة الكاذبة وهي تطرق برأسها وقد شعرت أن كذبها مفضوحٌ أمام نظراته النارية ...
لكن ...مهلاً!
ما شأنه هو بها؟!
لولا خوفها من أن يفضحها أمام يامن لألقتها في وجهها بجرأة !
ماذا ؟! تراه معجبٌ بها؟!
نعم...هذا تفسير نظراته الغريبة نحوها والتي لاحظتها ليلة زفاف رانيا ...
آه ...هكذا إذن ؟!
فلتستغل إذن مشاعره هذه حتى تفلت من هذه الورطة وبعدها تتخلص منه كما ينبغي!!
هكذا فكرت بسرعة لتنتهز فرصة الدموع التي تجمعت
فعلاً في عينيها فذرفتها بحرارة مع استطرادها المنفعل:
_مش هتصدقني زيهم !! كلهم مش بيصدقوني ...طول عمري لوحدي...أنا عارفة إني ساعات بعمل حاجات غلط...بس أنا مش عارفة أنا عايزة إيه !

ورغم أنها ظنت أنها تخدعه بهذا التمثيل ...
لكن الحقيقة أنها لم تكن تمثل!
هي قالت ما كان يشتعل بصدرها الآن بمنتهى الدقة ...
ربما لهذا السبب لانت ملامحه نوعاً وهو يتأمل ملامحها بمزيج عواطفه الهادر...
ما أشبهها الآن بتلك الطفلة الباكية وحدها تحت الدرج ليلة وفاة والديها !

صورتها التي لم تغادر مخيلته من حينها وإن اختلطت بصورتها كشابة يافعة يتمنى لو تشاركه الطريق!!
لهذا تنحنح بخشونة وهو يهتف بنفس النبرة الغاضبة التي لانت قليلاً:
_تعالي أوصلك البيت ...واللا هتروحي في الوقت ده لوحدك ؟!
ورغم الاستنكار الممتزج باحتقار لم يخفَ عليها لكنها شعرت برضا خفي من هذا الاهتمام الذي هو "حاجتها وهوسها"!
لهذا تبعته مدفوعة بفكرتها لمهادنته مع ذاك الخاطر
الأخير الذي غزا مخيلتها ...
لو كان مروان هذا يعشقها حقاً فكيف سيكون حبه ؟!
هادئاً حنوناً كهيثم ؟!
صارماً متشككاً كيامن؟!
مهذباً متحفظاً كياسر؟!
أم لعله نوع آخر سيسرها العبث معه قليلاً كي يضيف المزيد من الإثارة لحياتها الخاوية !
لهذا ما كادت تستقل جواره سيارته حتى غمغمت بمسكنة :
_هتقول ليامن؟!
اختلس نظرة جانبية نحوها دون أن يرد ...
هو نفسه لم يكن يعرف الجواب!
الصواب هاهنا أن يخبر يامن عما عرفه عنها ويتركها هو لحياتها العابثة التي لم يكن ليصدقها لولا أن رآها بعينيه ...
لكن منذ متى تعترف القلوب بلغة "الصواب"!
أجل...قلبه الأحمق لايزال يظنها مسئوليته هو ...عِرضه هو ...مصيره هو...
كيف غفل عنها هذا الحد حتى وصلت لما وصلت إليه هذا من انحلال؟!
هنا عاد يختلس نظرة نحوها ...سترتها المفتوحة تظهر بلوزتها الكارثية تحتها والتي تبقى مصيبة وحدها لعينيه...
تباً تباً !!
هنا ضرب على مقود السيارة بيده ليهتف بها بقسوة:
_البسي حجابك واقفلي الجاكيت ده !
عقدت حاجبيها بتمرد وهي تكاد ترد عليه متنمرة كما كانت تفعل مع هيثم لكنها تذكرت وضعها فاضطرت
للامتثال لأمره صامتة وهي تكز على أسنانها متوعدة إياه بانتقام ...
لتعاود القول بنفس النبرة الراجية :
_أرجوك ماتقولش ليامن ...انت أكيد عارف طبعه ...وأنا والله مش هاعمل كده تاني .
لم يلتفت نحوها وهو يعاود التفكير ...
هو يعرف يامن وسلطان وساوسه على عقله...لو علم شيئاً عن كل هذا فربما جعلها تترك الجامعة بل إنه لن يسمح لها حتى بالخروج من البيت!
ماذا لو تقدم هو لخطبتها وعجل بالزواج؟!
هنا زفر بقوة وهو يدرك أن الخاطر الذي كان -قديماً- يملؤه بالسعادة الآن يجثم على صدره ككابوس ثقيل...
أتراه لايزال راغباً فيها بعد كل ما عرفه ؟!
وهل حقاً يمكنه ائتمانها على حياته لتكمل معه طريقه ما بقي من عمر؟!!

كان قد وصل لمكان قريب من بيتها فأوقف السيارة ليصمت قليلاً يتمالك غضبه قبل أن يقول دون أن ينظر إليها:
_انزلي وأنا هامشي وراكِ بالعربية لحد ما توصلي البيت...مايصحش حد يشوفك راجعة في عربيتي في وقت زي ده !

ترددت قليلاً وهي تشعر بالخوف يعاود مراودتها لكنه التفت نحوها ليردف بنبرة قاطعة:
_مش هاقول ليامن ...وانتِ هتبطلي كل تصرفاتك الغلط دي ...
ثم ألقى قنبلته الأخيرة:
_دكتور ياسر يبقى عمي ...ومراته قالتلي كل حاجة !

شحب وجهها بقوة مع شهقة عنيفة وهي تسترجع تاريخها الأسود مع المرأة كله لتهتف بصوت مرتجف بينما تهز سبابتها نفياً بانفعال:
_ما تصدقهاش...دي هي اللي حاطاني في دماغي...بتغير مني عشان...عشان...

عادت تنخرط بعدها في بكاء حقيقي وهي تشعر
بالانهيار ...
كل الوحدة التي عايشتها في أيامها السابقة لا تساوي شيئاً أمام شعورها بالخزي أمام هذا "القبيح"!!
ترى ما الذي أخبرته به زوجة عمه ؟!
هل أخبرته عن إعجابها بزوجها ؟! أم عن علاقتها بهيثم؟!
هل أخبرته أنها رأته بين ذراعيه ذاك اليوم!!
ياللمصيبة!
ياللفضيحة!
يامن سيقتلها!!

وجوارها كان هو يقاوم بشدة أن يضمها لذراعيه ...أن يربت على ظهرها ليمنحها الأمان...
رغم كل ما مسه اليوم من نيران أنوثتها التي كانت خافية عن عينيه لكن كل هذا لا يساوي شيئاً أمام إحساسه بأنها لا تزال مجرد طفلة تفتقد الأمان والتوجيه !
هل كان متردداً بشأن الاستمرار في حبه العتيق لها؟!
الآن ...لم يعد كذلك!
سيحارب لأجلها ولو اضطر أن يقاتلها هي نفسها!!

لهذا أخذ نفساً عميقاً ليقول لها بنبرة صارمة:
_بطلي عياط لأن ده مش حل ...عايزك دلوقت توعديني تخللي بالك من مذاكرتك وتتظبطي كده أحسن لك !

ورغم خشونته التي استفزتها لكنها كانت عاجزة عن الرد عليه وسط كل هذا الخزي الذي يملأها الآن ...
فاكتفت بإيماءة طاعة قبل أن تغادر السيارة لتتحرك نحو بيتها وهي تشعر به يتحرك خلفها بسيارته...
ولم تكد تصل لمدخل البناية حتى توقفت لتنظر خلفها لعلها تستنتج من نظراته ما ينتويه ...
لكنها لم تصطدم سوى بزجاج نظارته الذي حجب عنها حديث عينيه ...
فاكتفت بإطراقتها وهي تصعد للبيت الذي كان خالياً
كالعادة ...
دخلت غرفتها لتخلع عنها سترتها بحركة عصبية ثم وقفت أمام مرآتها لتهتف بانفعال:
_وهو ماله المعقد ده عشان يهددني كده ؟! ماشي ...أنا هاعرف إزاي أطربقها على دماغه قبل ما يفكر يعمل أي حاجة .

قالتها وقد راودتها فكرة شيطانية أن تستغل اهتمامه بها حتى توقعه في شراكها كي تأمن مكره لبعض الوقت ...
وبعدها تخبر يامن أنه هو من يضايقها ويحاصرها بمعاكساته...
وهي تعرف وسواس يامن الذي ستجعله هذه المرة يصب في مصلحتها هي!!
ويبدو أن الفكرة الأخيرة بردت نار غضبها قليلاً ...
لكنها لم تفلح في تبديد شعورها بالوحدة والضياع...
فتحت حاسوبها تستعرض حسابها الاليكتروني ...والآخر على "الفيسبوك" لتجد تلك الصور لهيثم مع "شوشو" ...
فانعقد حاجباها بغضب وهي تشعر بالمزيد من الحسرة...
لتجد نفسها رغماً عنها تبحث في رسائلها عن رسائل العاشق الغامض الذي توقف عن إرسالها منذ زمن...
ورغم أنها لم ترد على واحدة منها يوماً إلا بعلامات استفهام غامضة...
لكنها الآن تشعر أنها تحتاج للمزيد منه ...
لهذا ترددت قليلاً قبل أن تكتب له بلغته
"الفصحى" كما يحب:
_أحتاج صديقاً...فهل تقبل؟!

لم يصلها منه رد لدقائق طالت رغم رؤيتها لهذه النقاط التي تتحرك بسرعة أمامها موحية بأنه لايزال يكتب شيئاً...

حتى كادت تيأس من رده متهمة نفسها بالحماقة...
لكن قلبها تراقص بين ضلوعها أخيراً وهي ترى جوابه:
_العاشق لا يتحول لصديق...لكن العكس قد يحدث.

ابتسمت بسعادة وهي تشعر أن كلماته التي افتقدتها تعيد لها بعض التوازن ...
لو كان صادقاً في مشاعره حقاً كما تحس فهي تحتاج
فعلاً لهذا الحب الآن...
لهذا عادت تكتب له:
_من أنت؟!
_رجلٌ كتبكِ القدر في ماضيه ويرجو لو يكتبه نفس القدر في غدكِ!

يالله!
من أين يأتي هذا الرجل بكلماته هذه ؟!
وكيف تمس قلبها بهذا الشعور الغريب الذي يمنحها الأمان وهي التي لا تعرف عنه أي شئ ؟!
حتى لو كان وهماً!
حتى لو كان مجرد مزحة سخيفة من متحذلق!
وحتى لو كانت واحدة تريد فقط التحايل عليها !
لكنها ستبقى شاكرة لهذا الإحساس الذي يملأها الآن حتى ولو كان مبنياً على كذبة !
لهذا اتسعت ابتسامتها وهي تتنهد بحرارة لتعاود الكتابة :
_إذن دعني أعرفك كما تعرفني .
_لو منحتكِ مفتاح مدينتي...فلن تغادريها.

كتمت ضحكتها وهي تشعر بالإثارة تغزوها وقد بدأ الوضع يتخذ منحى المغامرة التي تعشقها ...
_اتفقنا.
كتبتها عابثة وهي تنتظر رده الذي تأخر كثيراً :
_طالما انتظرت هذا الوعد منكِ...ومادمت قد حصلت عليه فلا رجوع.
انعقد حاجباها قليلاً وهي تشعر ببعض الرهبة من عبارته...
تلك الرهبة الممتعة التي تشعرها بالحماس تماماً كتلك
الألعاب الالكترونية المثيرة التي دأبت عليها مؤخراً...
لكن طبيعتها اللعوب سولت لها أن تلاعبه بعصا الحرمان كي تؤجج شوقه ...
فعادت تكتب بسرعة :
_يكفي هذا اليوم...غداً أكتب لك.
قالتها ثم أغلقت شاشة الحاسوب بسرعة وهي تضحك باستمتاع واضعة كفها على شفتيها ...
كم تروق لها هذه "اللعبة"!!
لعلها تضفي المزيد من الإثارة على حياتها المملة!!

لكن يبدو أن القدر كان يدخر لها المزيد من الإثارة...
فلم تمض بضع دقائق حتى كان هاتفها يرن برقم كان لها يوماً أملاً بعيداً...
المخرج "معتز الشريف"!!
=======
جلست على مائدة السفرة حيث فرشت أوراق مذاكرتها كاملة كعادتها تحاول التركيز في دراستها لكن ذهنها كان مشتتاً بأفكاره ...
لاتزال الهوة تتسع بينها وبين رامز وكلاهما يمنعه كبرياؤه من التقدم خطوة نحو صاحبه ...
لقد كانت تعتمد على ثقتها الكاملة في حبه لها والآن تشعر أنها تفقد الخيوط من يدها واحداً تلو الآخر ...
حتى أنه عندما بات ليلته بالأمس خارج البيت -ورغم أنها لم تذق النوم خوفاً عليه - لم تستطع سؤاله أين كان ولا لماذا فعلها!!!
لكنها أقسمت بينها وبين نفسها إن كررها أن تقف له وقفة حاسمة ولن يضيرها لو كانت هذه نهاية قصتهما !!
انقبض قلبها بجزع عند خاطرها الأخير لكنها قاومت هذا الشعور وهي تسحب كتاباً من كتبها بحركة عصبية وكأنها تفرغ توترها فيه...

صوت رنين هاتفها بعدة رسائل وصلت لتوها يقاطعها ...
فتتناوله بلهفة لعلها تكون منه قبل أن تبتسم بحنان وهي تراها مجموعة من الصور التي أرسلتها إليها رانيا من الفندق الذي يقضيان فيه "شهر العسل"...
صور مشرقة تبدي سعادة شقيقتها الظاهرة والتي تناغمت مع سحر المناظر الطبيعية في تلك المدينة ...
لتتراجع ابتسامتها تدريجياً مع المزيد من الصور التي التقطها لهما أشرف في غرفة نومهما في الفندق ...

والتي كانت رانيا ترتدي فيها ثوب نوم قصير بلون أخضر مثير !
ازدردت ريقها بتوتر وهي تكاد ترسل لها تعليقاً معنفاً بأنه لا يليق بها الاحتفاظ بمثل هذه الصور ولا إرسالها لأي أحد...
لكن رانيا هي التي بادرتها برسالتها :

_(معلش الصورة الأخيرة دي جت غلط...امسحيها حالاً ...أشرف هيقتلني لو عرف إني بعتها لحد حتى لو انت)!

زفرت بضيق وهي تعاود تأمل الصورة بمشاعر متباينة...
غريبٌ جداً شكل رانيا بهذا القميص المثير ...
تذكرها بمظهر "بيللا" في ذاك المشهد الإباحي الذي رأته بها منذ سنوات ...
كيف ارتضت أن ترتدي شيئاً كهذا ولو لزوجها ؟!!
كيف تقبلت أن تظهر كالعاهرات المغويات فقط لترضي رجلاً أمامها؟!!
وكأنما تقول له :خذني هيت لك!

كيف يحترمها بعد ذلك وهو يراها تعرض جسدها بهذا الرخص وكأنها لا تملك غيره لتبهره به ؟!!
ورغماً عنها انتقلت عيناها لوجه أشرف في الصورة والذي كانت عيناه لا تحملان أياً مما يدور بذهنها ...
على العكس عيناه الغارقتان بعشقهما القديم كانتا تحتويان وجه شقيقتها بحنان وذراعه يطوقها بحمائية حب لا رغبة !
أغمضت عينيها بقوة وأصابعها تسارع بمسح الصورة ...
وكأنما استنكفت أن ترى شقيقتها بذاك المظهر الذي كان -في عينها- مهيناً مزرياً!!

عاودت فحص سجل الهاتف لعلها تجد مكالمة أو رسالة من رامز ...
والخيبة المريرة كانت نصيبها!
مسدت جبينها بتعب وهي تعود برأسها للخلف ...
لقد افتقدته حقاً وكم تكره هذا الشعور!
افتقدت دعاباته المرحة...لمساته الشغوف الحنون ...وتلك النظرة في عينيه التي تخبرها أنها شمسه الثانية في هذا العالم !

بل وافتقدت حتى كلمات عتابه التي يبدو أنه قد يأس منها مؤخراً مكتفياً بصمته البارد !!
تباً!
لماذا يقف عقلها حائراً هذه المرة ولا يمنحها الحل السليم ؟!
ربما...لأنها تعلم أن دواءها في علتها هذه المرة !!!
أجل...العلة والدواء في التسليم لأمر قلب لا تثق كثيراً في نداءاته!!

تنهدت أخيراً بعمق وهي تحاول التشاغل عن التفكير فيه بشيء آخر لتتذكر حينها ما طلبه منها يامن بضرورة التقرب من داليا ...
تلك الصغيرة المدللة التي لا تدري ما مشكلتها -التافهة- هذه المرة ؟!
واحدة في سنها لا ينبغي أن تفكر سوى في مذاكرتها فحسب!
لهذا اتصلت برقمها ليصلها صوت شقيقتها بكآبة غير معهودة:
_خير يا هانيا !
_إزيك يا داليا ؟! ماعدتيش بتتصلي بيّ ليه؟!
_مشغولة بالمذاكرة.
ولاتزال رنة الكآبة الغريبة عن مرح شقيقتها المألوف تقلقها ...فترد بنبرة أكثر رفقاً:
_هاعدي عليكِ بكرة في الجامعة نتغدى سوا .
_بلاش الجامعة!
قالتها داليا بنفس النبرة التي خالطها الآن المزيد من
الارتباك مع استطرادها:
_بذاكر في البيت أحسن ...ماعدتش بروح .
عقدت هانيا حاجبيها بشك وهي تشعر أن وساوس يامن في محلها لتقول لها أخيراً بنبرة حازمة :
_خلاص هاعدي عليك بكرة في البيت وآخدك ونروح أي حتة نتفسح ونتكلم .

قالتها ثم أغلقت الاتصال وهي تشعر بالمزيد من الضيق ...
كل ما حولها صار يشعرها بالحصار ...
خصام رامز ...وعبء مذاكرتها ....داليا بتصرفاتها الطائشة ...
وغادة هي الأخرى التي تشعر بتباعدها عنها هذه الأيام ولا تدري ما السبب !!
لتلقي الهاتف جانباً أخيراً بحركة عصبية قبل أن تهتف لنفسها :
_ركزي يا دكتورة...ماتخليش حاجة تشتتك عن مستقبلك...كل حاجة هتبقى تحت السيطرة .

قالتها ثم أخذت عدة أنفاس متلاحقة تتمالك بها بعض تركيزها ...
قبل أن تعاود النظر في الكتاب محاولة إنهاء الجزء المخصص لهذا اليوم !
=========
عاد من الخارج في التاسعة مساء تقريباً ليجدها نائمة فوق أوراقها على المائدة ...
انعقد حاجباه بمزيج من ضيق وإشفاق وهو يقترب منها أكثر ...
عيناه تحيدان نحو صينية الطعام التي وضعتها جوارها والتي احتوت شطيرة يابسة يبدو أنها ظلت مكانها لوقت طويل ،وكوباً بارداً من الشاي يبدو أنه لم يُمس!
أعاد مفاتيحه لجيبه بحذر محاولاً ألا يحدث صوتاً يوقظها ثم اقترب منها حتى كاد يلاصقها ...

ودون أن يشعر ...أو يفكر ...
انحنى برأسه ليقبل رأسها المدفون بين الأوراق قبل أن تنتقل قبلاته لعنقها وذراعها ...
آه...كم اشتاقها!
اشتاق ذوبانها المشتعل بين ذراعيه ...
اشتاق رحيق أنوثتها الذي يدرك أنه لم يكن من نصيب رجل غيره ...
اشتاق حتى لتمنّعها الأبيّ الذي لا يصمد كثيراً أمام غزو عاطفته !!

هي أخبرته منذ اليوم الأول من علاقتهما أن سفينة عاطفتها مثقوبة لكنه كان يثق كثيراً بقدرته على الإبحار بهما سوياً لبر الأمان...
تراه كان مبالغاً حقاً بهذه الثقة؟!

ابتعد عنها لتعبث أنامله في خصلات شعرها الناعمة التي لفتها بعشوائية حول نفسها فيما يسمونه "كحكة"...
قبل أن يشرد ببصره في تلك الليلة التي هاتفته فيها غادة تطلب منه سرعة الحضور إليها دون أن يخبر هانيا ....

ظل طوال الطريق يفكر في أي مصيبة وضعت فيها تلك البائسة نفسها كي تستدعيه بهذه الطريقة ...
لكنه لم يتوقع الحالة التي كانت عليها وهي تفتح له الباب ...
شعرها الأحمر -الكارثي- كان مشوشاً حول وجهها الذي أغرقته دموعها ...
لكن الأسوأ كانت تلك الكدمة الزرقاء على جانب شفتيها...
والتي استدعت صدمته لوهلة قبل أن يهتف بحمائية ثائرة:
_إيه اللي حصل؟! مين اللي عمل فيكِ كده ؟!

انهارت في بكاء عنيف وهي تروي له كيف تجرأ زميلها في المكتب ليأتي إلى شقتها ويتهجم عليها حتى كاد ينتهكها لولا أن قاومته لينتهي به الأمر وقد هشمت المزهرية على رأسه،فخرج والدم ينزف منه متوعداً إياها بانتقام !

_إيه؟! هي حصلت ؟! أنا هاربيه الكلب ده !
هتف بها بنفس الحدة ليردف بعدها باستنكار:
_بس إزاي تخلليه يدخل؟! ومين جرأه يعمل كده ؟! ما هو مش معقول هييجي كده من نفسه يتعدى عليكِ!
فاتسعت عيناها بنفس النظرة التي تثير جنونه من فرط ما تحمل من براءة وذعر خاصة مع تمتمتها وهي تحتضن جسدها بذراعيها:
_والله العظيم ما عملت حاجة...هو اللي كان...بيقول ...البواب قالله ...انت ...يوم...

انتهت تمتمتها بآهات خافتة وهي تنهار جالسة على الكرسي جوارها فزفر بضيق وهو يجلس جوارها دون أن يغلق الباب ليقول محاولاً تمالك غضبه:
_اهدي يا غادة...أنا مش بتهمك بحاجة...أنا عارف أخلاقك كويس بس مش منطقي إنه أي حد يروح لواحدة بيتها
بالجرأة دي؟!

رفعت إليه عينيها الواهنتين بدموعهما وهي تعاود تمتمها المرتبكة التي فهم منها أن ذاك الوغد علم من بواب العمارة أنه -رامز- صحبها إلى هنا تلك الليلة التي غادرت فيها بيته وهو يحمل حقيبتها ...
وما بقي من سوء ظنه لا يحتاج لتأويل!
خاصة بعد زيارة هانيا للشركة والتي اصطحبتها معها للخارج وهي غاضبة !
فانعقد حاجباه وهو يطلق لعنة خافتة ليهتف بانفعال:
_تفكير قذر زيه ...كويس إنك كسرت دماغه ...أنا هاعرفه شغله بكرة...هاقدم فيه شكوى للمدير وأقعده في بيتهم الحقير السافل....
لكنها قاطعته برجائها:
_أرجوك يا رامز ...مش عايزة الموضوع يكبر ...أنا كلمتك عشان كنت خايفة يرجع تاني ومالقتش غيرك ألجأ له..أنا مش عارفة أعمل إيه !

بمنتهى الضعف قالتها وهي تتلفت حولها بقلة حيلة لتردف:
_لو ماكنتش محتاجة الشغل كنت سبتهوله...بس أنا فعلاً محتاجاه ..
قالتها وعيناها تتعلقان بغرفة نومها مع أحمد وكأنها تشرح له بلا كلمات سبب بقائها هاهنا ...
ليهز رأسه بأسف قائلاً:
_ما تقلقيش ...بكرة هاتصرف .
_هتعمل إيه؟!
سألته بخوف وهي تحاول منع دموعها المنهمرة ليقف
قائلاً بنبرة مطمئنة:
_ماتخافيش...هاحلها من غير شوشرة.
ارتجفت شفتاها بما يشبه ابتسامة امتنان فتنهد ليردف بإشفاق:
_لازم تبقي أقوى من كده يا غادة...أنا عارف إن الكلام سهل والتنفيذ صعب بس لازم تحاولي .
أومأت برأسها بعجز وهي تقف بدورها فرمقها بنظرة طويلة مشفقة ثم أعطاها ظهره لينصرف قبل أن تستوقفه برجائها:
_ماتقولش لهانيا .

كاد يبتسم ساخراً ويرد عليها أن صديقتها -التي هي السبب في كل هذا- لن تسمح لنفسها بأن تعترف بغيرة تنتقص من قدر مقامها العظيم...
لكنه آثر الصمت وهو يهز رأسه موافقاً لينصرف تتبعه عبارتها التي ترن في أذنيه من آن لآخر:
_مالقتش غيرك ألجأ له.


تنهد بحرارة عندما عاد للواقع وهو يرمق هانيا النائمة أمامه بنظرة غريبة...
يتذكر كيف تتعمد دوماً أن تشعره أنها مكتفيةٌ بنفسها مستغنية عنه وعن أي أحد ...
لايزال يذكر عندما صدمت أحدهم بسيارتها ذات يوم لتصيبه بأذى بالغ وتصطحبه للمشفى لكنها تدبرت الأمر وحدها حتى أخبرته به ليلاً وكأنه مجرد خبر تافه!
تماماً كما يذكر كيف كان يدعوها طوال فترة خطوبتهما لمشاركتها شراء مستلزماتها أو قضاء بعض حوائجها لكنها كانت تفاجئه دوماً بإنجاز مهامها وحدها ...

وقتها كان يشعر بالكثير من الفخر مدركاً قيمة هذه العبارة التي قرأها يوماً (لاتخش من الارتباط بامرأة قوية فقد يأتي يوم وتكون هي فيه جيشك الوحيد)...
لكنه الآن يدرك أنه لم يعد راضياً عن هذا ...
هو يريدها قوية به ...لا عليه ...ولا دونه!
يريدها واهنة عاشقة خجول لا جادة صلبة مستغنية!!
لماذا لا يلهمها ذكاؤها الموازنة بين صلابتها ورقة ضعفها ؟!

لماذا لا تُسمعه دوماً عبارة كعبارة صديقتها
(مالقتش غيرك ألجأ له)!

اللعنة!!!
هذه المقارنة من جديد تؤرق ذهنه !!
تعاود أرجحته بين "أنثى يعشقها" و "أنثى ترضي غرور رجولته"!!

تململت هانيا أخيراً وهي تشعر به لترفع رأسها نحوه ببعض الدهشة قبل أن تتأوه لتغمغم بصوت ناعس:
_هي الساعة كم؟!
لكنه عاود ارتداء قناع بروده ليجيبها:
_داخلة على عشرة .
عادت تتأوه وهي تمسد جبينها فاستجلبت المزيد من إشفاقه خلف قناع جليده هذا خاصة عندما ترنحت وهي تقوم لتقول بنبرة منهكة:
_مش قادرة...هانام ساعة بس وأرجع أكمل.
قالتها وهي تتجه نحو غرفة النوم قبل أن تتوقف قليلاً لتلتفت نحوه بسؤاله:
_أحضر لك الأكل الأول؟
_أكلت عند ماما زي كل يوم.
قالها بنفس البرود وهو يشيح بوجهه عنها فتحركت نحوه بشعورها بالذنب لتغمغم بنبرتها الجافة:
_أنا كل يوم ببقى محضرة الأكل ...انت اللي ما بترضاش تاكل هنا.
قالتها بنبرة مدافعة فالتوت شفتاه بابتسامة ساخرة رافقت قوله المستهجن:
_معلش...مش وش نعمة.
عقدت حاجبيها بضيق وكبرياؤها يسول لها تركه وشأنه ...
لكنها ترددت قليلاً ثم تقدمت خطوة أخرى لتسأله بنبرة لم تملك جفافها:
_كنت بايت فين امبارح؟!
_لسه واخدة بالك تسألي؟!
_لو مش عايز تقول براحتك...بس لو اتكررت تاني هترجع مش هتلاقيني هنا.

هتفت بها بغضب فجره ضيقها منه...ومن نفسها قبله !!!
لماذا لا تصارحه بأنها -ببساطة- اشتاقته ؟!
لماذا لا تحاول استرضاءه ولو بمجرد كلمة؟!
بل لماذا -وهو أيسر السبل هنا- لا ترقق لهجتها الشبيهة بقذف المدافع هذه ؟!
والجواب كان كامناً بداخلها تخشى الاعتراف به....
هي تخاف ضعفها أمامه تحت سيف الحب!
لهذا دمعت عيناها بعجز يناقض كل هذه القوة التي تدعيها عندما رد هو ببروده القاتل:
_وانتِ أصلاً هنا؟!

تكاثفت دموع العجز في عينيها وقد انفرجت شفتاها تهمان بالرد لكنها لم تجد كلماتها ...
لماذا لا يكف عن بروده السخيف هذا ويحتضنها ؟!
هي لا تريد منه الآن سوى هذا!!
أجل تحتاج عناقاً يطمئنها أنه هنا معها ...لن تخسره...لن تفقده كما فقدت من أحبتهم يوماً!!
بينما تجاهل هو كل هذا عامداً ليجيبها بنفس البرود الذي يخفي اشتعال صدره هو الآخر:
_كنت بايت عند ماما عشان كانت تعبانة .

ارتفع حاجباها بصدمة لتغمغم بارتباك:
_تعبانة ؟! مالها ...ألف سلامة...مكنتش أعرف.
_وهتعرفي منين ؟! طالما حضرتك حابسة نفسك في برج عالي وكل همك دراستك وبس؟!
قالها بنفس الاستهجان البارد فرمقته بنظرة حملت كل مشاعرها قبل أن تدفن وجهها بين كفيها وهي تشعر
بالمزيد من التعب الجسدي والنفسي...
بينما تحولت نظراته الباردة لأخرى مشفقة وهو يشعر أنها -مثله- متعَبة...مستنزفة...
لهذا تقدم منها خطوة ليقول بنفس النبرة الجليدية:
_أنا رايح فرح واحد زميلنا في الشغل بعد شوية ...لو حابة تيجي معايا جهزي نفسك.
لكنها بدت وكأنها لم تسمعه لبضع ثوانٍ قبل أن تزيح كفيها عن وجهها لترفع رأسها للسقف بقولها المنهَك:
_لا مش هينفع...لو لقيت نفسي قادرة بس ممكن أعدي على مامتك أطمن عليها .
_ماتتعبيش نفسك...هي بقت كويسة.
قالها بنفس البرود الساخر فحدجته بنظرة عاتبة ثم أعطته ظهرها لتتوجه نحو غرفة النوم التي ما عاد يشاركها فيها ...
ولم تكد تصلها حتى وصلها صوته من الخارج كسهم غادر:
_غادة رايحة...هاعدي عليها أخدها معايا .
=======
استلقت على "فراش أحمد" كما يحلو لها الآن تسميته وهي تحتضن وسادته لعلها تمنحها بعض الأمان ...
منذ تلك الليلة التي تهجم فيها عليها ذاك الرجل وهي تشعر أنها عادت تلك الأنثى المنتهَكة التي يراها الجميع رمزاً للخطيئة ...
حتى أبسط التصرفات تتلقاها عيونهم كدعوة صريحة للزلل ...

لازالت تذكر صدمتها ليلتها عندما فتحت له الباب لتجده يرمقها بتلك النظرات الحارقة التي تعريها من ثيابها ...ومن آدميتها ...
الرعب الذي تملكها وقتها جعلها تتجمد مكانها -كعادتها- وهي تراه يدفع الباب ليدخل بمنتهى الجرأة ويغلق الباب خلفه...
الخوف الرهيب يشل أطرافها وهي تسترجع ذكريات مشابهة...

رائحة "الفراولة"...دبها القطني ...بيت المكعبات الذي تهدم...
الإحساس المقيت لتلك اللمسات القذرة وكأنها أفعى تزحف على جسدها ...
كل هذا عقد لسانها وأصابها بما يشبه الشلل ...
هذا الذي وصله هو على أنه قبول ليمنحه شارة البدء فيما ظنها راضية عنه...
ساعتها فقط استفاقت من صدمتها وهي تحاول
استجلاب قوة تدرك أنها تنقصها كثيراً ...
لكن محاولاتها الفاشلة لم تزده سوى عنفاً وهو يظنها مجرد تمنع لإثارته أكثر ...
فتتداخل الصور بعينيها ثانية...
تشل جسدها من جديد بهذا الوهن الذي لا يد لها فيه ...
لكن نظرة واحدة لغرفة أحمد ...لفِراشه هناك الذي طالما منحها عليه أسمى معاني الحب ...
جعلتها تنتفض من مكانها وكأنما تلبستها روح امرأة أخرى لتتناول أقرب ما طالته يداها وتهوي بها على رأس ذاك الوغد ...

مشهد الدم يسيل منه يعود ليشعل خوفها من جديد ...
خاصة مع سبابه ولعناته التي كانت تنهال عليها ...
_(عاملة نفسك شريفة يا (.....)...واللا هو حرام علينا حلال لرامز بيه؟!)
تسد أذنيها بكفيها وهي تكتم صرخاتها ...
هي لا تريد أن تسمع ...لا تريد أن تسمع ....
تغمض عينيها بقوة حتى لا تراه...
فقط كلمات أحمد ترن بأذنيها ...
(عشان انتِ من جوه نظيفة)..
هنا فقط تنساب أناتها الخافتة مع نزيف دموعها وهي تتمتم لنفسها وكأنها تقنعها ...
(نظيفة....نظيفة)...

تأوهت بقوة عندما وصلت بذكرياتها إلى هذا الحد وهي تضم الوسادة لصدرها أكثر ...
صدرها يكاد ينشق من فرط ما تحسه من ألم لا تجد من تبوح له به...
حتى هانيا!
لأول مرة تشعر بالخزي من أن تعترف لها بشيء ...
خاصة بعد نظراتها لها في آخر لقاء بينهما ...
يبدو أن العيب فيها هي ...هي التي ستبقى في عيونهم جميعاً مذنبة تستحق الرجم !
حتى رامز ليلتها كان ينظر إليها وكأنها...!

رامز؟!
رامز!
شعور غريب بالارتياح انتابها واسمه يمر الآن على خاطرها ...
لتتذكر كيف استطاع حل الأمر بتكتم كما وعدها ...
إلى الآن لا تعرف ماذا فعل لكن زميلها الوغد ذاك قد وصله بعدها بيومين قرارٌ بالنقل لمكان آخر ولم يتعرض لها بعدها بكلمة !
هي أيضاً استحت أن تسأل رامز عما فعله وهو اكتفى بعبارته:

(ما تقلقيش...مش هيضايقك تاني)


جميلٌ هذا الوعد الذي صدق فيه ...
جميل وهو يمنحها بعض قطرات الأمان التي يفتقدها
عالمها ...
جميل وهو يشعرها -ولو قليلاً- بأن ظهرها لا يزال يجد وسط كل هذا الفراغ حائطاً يستند إليه !

تنهدت بحرارة عند الخاطر الأخير وهي تنظر للساعة المعلقة أمامها ...
لقد اقترب موعد حفل زفاف زميلها الذي سيعقد قرانه على إحدى زميلاتهم أيضاً في العمل ...
فتاة لطيفة دعتها بنفسها وأكدت عليها الحضور ...
ورغم أنها وعدتها لكنها لا تشعر برغبة حقيقية في فعلها ...ستبقى هاهنا تجتر ذكرياتها ب"فراش أحمد"...
مالها وللناس؟!
فلتبقَ هي بعزلتها ...وليهنأوا هم بسوء ظنونهم!
======

استقل رامز السيارة جوارها وهو يختلس نظرة نحوها ...
منذ متى لم يرَها بهذه الأنوثة الطاغية ؟!
منذ ليلة زفافهما تقريباً!!
كانت ترتدي ثوباً للسهرات بدا وكأنه قد قسم طولياً لنصفين...
أحدهما أسود قاتم والآخر بلون الكراميل الذهبي ...
تصميمه بسيط كلاسيكي لا يميزه سوى التصاقه بمنحنياتها التي منحته هذا الشكل المغري ...
لأول مرة يرى امرأة تضيف جمالاً للثوب ...لا العكس!
أو-ربما- هي عينه العاشقة المحرومة التي كانت ترى في ذاك اللون الذهبي بالذات مذاقاً آخر على بشرتها القمحية...
خاصة مع لون حجابها الذي اختارته بدرجة أفتح قليلاً وقد زادت من كثافة الكحل حول عينيها ليظهر لونهما الذي يعشقه...
يالله!!
كم يلزمه الآن من الصبر كي يستمر في بروده اللعين هذا مقاوماً رغبته في غرسها على صدره بعد أن يحطم رأسها -السخيف- هذا أولاً؟!

قام بتشغيل السيارة ليقودها نحو القاعة التي يقام فيها حفل الزفاف والذي فاجأته منذ قليل أنها تود حضوره معه!!
ساعتها ابتسم ساخراً وهو يكاد يذكرها بانشغالها في مذاكرتها ..
ولكن عز عليه أن تتقدم هي منه خطوة ضد كبريائها ولا يقدّر هذا لها!

لهذا اكتفى بصمته بعدها والذي جازته هي عنه بنفس الصمت وإن كان يشعر أن صمتها هذه المرة يخفي الكثير من الغيرة...
أجل...الأمر لا يحتاج لكثير من الذكاء كي يدرك أنها لم تفعلها إلا بعدما صرح لها أنه سيصطحب غادة معه ...
يبدو أن "مفتاح" قلبها العصيّ هذا يكمن في غيرته...
حسناً...سيستغل هذا لأبعد حد !

عاد يختلس نظرة أخرى نحوها وقد تحركت عفوياً ليرتفع طرف ثوبها قليلاً فيبدو من تحته حذاؤها الذهبي ذو الكعب العالي الذي جعله يضم شفتيه مقاوماً انفعاله...

الحذاء المفتوح بسيوره الرفيعة كان يحتضن قدمها الناعمة ليبدو في أعظم تجانس رآه بين هذا اللون وبشرتها ...
لا يدري لماذا يعجبه هذا اللون بالذات عليها ...
ربما لأنه تذكره حقاً ب"الذهب"!
كلما اشتدت عليه نيرانه لم تزده إلا نقاء وصلابة!

_أيوة يا غادة ...هتيجي الفرح؟!
انتبه من شروده على عبارتها وهي تمسك هاتفها فأرهف سمعه يصغي مع عبارتها الأخرى:
_خلاص براحتك....ما تضغطيش على نفسك...لو كنتِ هتروحي كنا هنعدي عليكِ بس خلاص ...تصبحي على خير .

شعر ببعض الضيق وهو يدرك أن وجود غادة كان سيدعم خطته بإثارة غيرة هذه "الذهبية الجامدة"...
لكن هذا لم يمنع إحساسه بالرضا من تغيب غادة بالذات عن محيطهما خاصة بعد الإشاعات الأخيرة التي نالتهما في الشركة بتدبير اللعينة يارا وزميلهما الوغد الذي تدخل لنقله لمكان آخر بعد فعلته .

وجواره كانت هانيا غائبة في وادٍ آخر وهي تشعر
بالاختناق...
هي تتصرف عكس طبيعتها ...وهذه وحدها كارثة!
عندما أخبرها أنه سيمر على غادة ليصطحبها معه وكأنما أصابها مسٌ من الجنون !
لا تدري لماذا تخيلتها وقتها وهي تتأبط ذراعه لتدخل معه وسط الجميع وتراقصه!
مشهد متطرف لا تدري من أين أتت به!!
أين ثقتها في صديقتها؟!
أين ثقتها فيه ؟!
بل أين ثقتها في نفسها التي طالما تغنت بها؟!!
ربما هو خوفها من فقده الذي يزداد يوماً بعد يوم مع جفائه الأخير ...
وربما هو ماضيه الذي أعرب لها عنه ببساطة متفاخراً وكأنما يرغب أن يعيده ...
وربما هو خوفها من -ضعف - غادة المهيمن عليها دوماً والذي تدرك هي أكثر من غيرها أنه يقودها دوماً للكوارث !!

رباه!!
لو كانت الأمور تسير بطبيعتها لضغطت هي على غادة كي تدفعها للخروج معهما كما كانت دوماً تفعل.....
للتخلص من وحدتها التي تكاد تورثها الجنون...
لنسيان الماضي والانخراط وسط الناس لتعزيز ثقتها بنفسها ...
لكنها ...ويالخجلها من نفسها ...تدفعها للعكس!
لقد رضيت منها برفضها للخروج معهما ولم تحاول حتى إثناءها بكلمة وكأنها تشبثت بضعف صديقتها لتخفي خلفه ضعفها هي!!
يالله!
لقد ظنت نفسها أقوى من هذا ...لكنها تنحدر بسلاسة في ذاك الجرف الذي طالما عفت نفسها عنه...
الأنانية...الشك...الضعف...
المثلث الأخطر الذي تحبس أضلاعه كل المعاني التي كرهتها ...
والآن تجد نفسها محاصرة في أحد زواياه!


_وصلنا.
قالها رامز وهو يوقف السيارة قبل أن يترجل منها ليفتح لها الباب ...
تناول كفها في راحته وقد عجز عن منع عينيه من رسم تفاصيل أنوثتها ...
لترتجف شفتاها بابتسامة رضا وشعور الثقة يجتاحها من جديد رويداً رويداً...
كانت تسير جواره وهي شبه غافلة عن الحضور ...
توزع ابتسامتها الرسمية هنا وهناك لكنها لم تكن تعي شيئاً سوى تشبث أصابعه بكفها ...
حتى أنه لم يتركه من يده حتى استقرا مكانهما على أحد الموائد فأطرقت برأسها وهي تشعر بنزيف أفكارها يعاود مراودتها والذي قطعه قوله جوارها بنفس النبرة الباردة التي تناقض كل ما يشعر به:
_عارف إنك جاية غصب...نصف ساعة بس ونمشي .

آه...كم تود الآن لو تخبره أنها ليست نادمة على القدوم...
أنها راضية ببقاء كفها في يده ويكفيها منه هذا الشعور ...
أنها تشتاق لدفء كلماته البعيد تماماً عن بروده المصطنع هذا ...
لكن طبعها غلب تطبعها وهي ترفع له عينيها بقولها الجاف:
_مفيش مشكلة...هاعوض الوقت بالليل وأسهر شوية أخلص اللي ورايا.

رمقها بنظرة ساخطة ليس فقط من كلماتها الجافة...
ولكن لأن جلستها جواره جعلته يلاصق الجانب الأسود من ثوبها ...
لهذا قام ليعدل جلسته للجانب الآخر منها تحت نظراتها المندهشة خاصة مع قوله الذي لم تفهمه:
_المنظر من هنا أحلى!

وفي مكانها كانت يارا ترقبهم بحقد وهي تلاحظ تعلق نظراته بها وكأنه لا يرى سواها ...
بل إنه لم يترك كفها من يده منذ وصلا إلى الحفل ...

_عامل نفسه "هاري تشارلز" ومابيسيبش إيدها حتى وهو بيسلم على الناس...ماشي يا رامز ...هنشوف آخرتها .


تمتمت بها لنفسها بتوعد قبل أن تلتمع عيناها وهي ترى هانيا تغادر مائدتهما نحو الحمام القريب ...
فتخمرت الفكرة برأسها سريعاً وهي تتحرك لتنفذها ...
========
_يظهر إن رامز ومراته اتصالحوا .
_هم كانوا متخانقين؟!
_يوووه! انتِ متعرفيش ...دي حكايته مع غادة الناس كلها عارفاها.
_لا حرام...رامز محترم ومش بتاع الحاجات دي.
_يا حبيبتي انتِ ما سمعتيش المثل اللي بيقول : مفيش رجل ما بيصبش بس فيه راجل بياخد فكرة وراجل بياخد المقاسات .
_وهو بقا أخد المقاسات؟!
_شكله كده ...ده نقل الراجل الغلبان اللي كان عينه منها عشان يخلى له الجو .
_آآه...قلتيلي ...وأنا برضه بقول اتنقل ليه من غير سبب!

شحب وجه هانيا أمام مرآة الحمام وهي تستمع لهذا الحوار الذي وصلها من الخارج ...
استغرقت دقيقة كاملة لتستوعب هذا الذي سمعته قبل أن تخرج بسرعة لتتبين المرأتين اللتين كانتا تتحدثان لكنها لم تجد أحداً...
ظلت تتلفت يميناً ويساراً وهي تقبض كفها بقوة وكأنها على وشك لكم أحدهم قبل أن تنتبه لنفسها فرفعت رأسها للأعلى لتأخذ نفساً عميقاً قبل أن تتحرك بخطوات ثابتة نحو مائدة زوجها ...
نظر إليها من بعيد بقلق وهو يلاحظ تلاحق أنفاسها وحركة صدرها الهادرة صعوداً وهبوطاً ...
اقتربت أكثر ليلاحظ تجمع الدموع في عينيها مع احمرار وجنتيها فوقف مكانه بجزع ليتقدم نحوها لكنه ما كاد يصل إليها حتى تعثر كعب حذائها العالي بطرف السجادة ليتلقفها ذراعاه ...

_مالك؟!
قالها بقلق وهو يشعر بارتجافة انفعالها بين ذراعيه لترمقه بنظرة طويلة غامضة...
قبل أن تشيح بوجهها ...
لتراها !!
أجل...غادة !!
غادة التي عجزت عن البقاء وحدها مع هواجسها وذكريات حزنها لتقرر القدوم إلى هنا ...
في هذه اللحظة بالذات ...وليتها ما فعلت !

فهناك كانت هانيا تنظر إليها بغرابة...
تراقب ثوبها الأسود ذي الشريط النبيذي البراق على كتفه والذي اشترته هي نفسها لها ذات يوم كهدية !
اشترته وهي تدرك كم سيناسب لون شريطه هذا لمعة شعرها الأحمر البراقة!
اشترته وهي تتمنى طوال الطريق أن يناسب جسدها ولم تكد تراها فيه حتى احتضنتها بقوة هاتفة :
(تجنني)!

لماذا الآن تشعر بسواد الثوب ينقلب لألسنة من لهب؟!
بشريطه النبيذي الملتف حول كتفي صديقتها يبدو لها كأفعى تخرج لها لسانها؟!
منذ متى تشعر بجمال صديقتها الصارخ شيطانياً هكذا؟!
هل هذه مشيتها الطبيعية التي تبدو وكأنها تتمايل فيها مستعرضة أنوثتها؟!
هل هذه نظراتها المعتادة نحو رامز؟!
لماذا تشعر إذن أن بينهما حديثاً لا تفهمه؟!!

_إزيك يا هانيا ؟! مالك؟!
قالتها غادة بدهشة وهي تجد رامز يسندها بذراعيه فتمالكت هانيا نفسها لتبتعد عنه قائلة بنبرتها الجافة التي ارتجفت الآن رغماً عنها:
_اتكعبلت بس قمت تاني!
عقدت غادة حاجبيها باستغراب من جفاف نبرتها وعبارتها التي بدت وكأنها تحمل ما يفوق معناها ...
فوجهت لرامز نظرة متسائلة لكنه كان غافلاً عنها بتفحص زوجته هو الآخر ...
خاصة عندما أردفت هانيا بنفس النبرة:
_كويس إنك جيتِ عشان رامز ما يقعدش لوحده ...أنا ماشية.
اتسعت عينا غادة بصدمة من فظاظة أسلوب صديقتها معها والذي تعاينه هكذا لأول مرة...
بينما عقد رامز حاجبيه بغضب وهو يشعر بالعيون مسلطة عليهم...
لو انصرفت هانيا الآن هكذا بمجرد دخول غادة فستؤكد على صدق هذه الإشاعات التي تدور حولهما ...
لهذا أمسك ذراعها بقوة ليقول بصرامة:
_مش هتمشي دلوقت....ربع ساعة وهنمشي كلنا سوا.
لكنها خلصت ذراعها منه لتقول بحزم:
_هامشي دلوقت...ولو عايز تقعد براحتك.
_ماتحرجنيش قدام الناس ...قلت لك اقعدي.
_وأنا قلت هامشي.

اشتعل الغضب في عينيه أكثر وهو يشعر أن الكيل قد فاض به هذه المرة ليرمقها بنظرات هادرة طالت لثوانٍ...
قبل أن يغمغم من بين أسنانه بقسوة:
_لو مشيتِ دلوقت مترجعيش البيت !
شهقت غادة بجزع وهي تتراجع خطوة للخلف لكن هانيا مسحت دمعة فرت من طرف عينها لتقول له بكبريائها المعهود:
_أنا برضه بقول كده أحسن.

ازداد انعقاد حاجبيه وهو يكز على أسنانه بقوة يكاد يحطمها ...
لكنها لم تلتفت نحوه وهي تتناول حقيبتها لتغادر ولم تكد غادة تلحق بها لتسألها عن سبب كل هذا حتى هتفت بها بحزم:
_ماليش مزاج أتكلم الليلة دي يا غادة...
ثم ارتجفت شفتاها بابتسامة ساخرة ناسبت قولها:
_ارجعي انتِ الحفلة واتبسطي...خسارة تلبسي فستان زي ده وما تفرحيش بيه.

وقفت غادة مكانها مصدومة تراقب ظهر صديقتها المنصرف بنظرات مشتتة...
منذ متى تحدثها هانيا بهذه الطريقة ؟!
وماذا تعني بإشارتها لثوبها ؟!
خفضت بصرها للأسفل وهي تتحسس الشريط النبيذي للثوب بأنامل مرتجفة...
قبل أن تعود بعينيها للأضواء المتلألئة هناك في القاعة ...
والتي حجبتها الآن دموعها وهي تشعر بلعنتها الأبدية تطاردها ...
تلفّها برداء يبدو أنه لن يخلعه عنها إلا الموت ...
وتصمُها بالكلمة الخالدة :"مدنسة"!
=======
بعد شهر من الأحداث السابقة...

استيقظ من نومه صباحاً بعد كابوس عنيف كعهده منذ بضعة أيام ...
وبالتحديد منذ سافرت سيلين بعدما عجزت عن نيل مرادها منه...
من المفترض أن يشعره هذا بالظفر لكنه على العكس لا يجد في حلقه سوى مرارة لا يعرف سببها ...
أو هو يعرفه لكنه لا يريد الاستسلام له...

(هابعتلك كل يوم صورة لابنك ...بص له كويس ...عشان تشوفه وهو بيكبر وبيكبر معاه كرهه ليك )

زفر بقوة وهو يسترجع عبارتها القاتلة تزامناً مع تلك الصور التي أرسلتها له ...
هل هو حقاً ابنه ؟!
لماذا إذن رفضت أن تجري هذا التحليل له ؟!
لا ...لن ينخدع بتمثيليتها المفضوحة هذه المرة ... حتى وهو يشعر أن الرضيع نسخة من ملامحه هو...
هراء!
كلهم يتشابهون في هذا السن ...مجرد قطعة لحم حمراء ...هو فقط تأثير الإيحاء ...
لكن...ماذا لو كان حقاً ابنه؟!
هل سيقوى على أن يعيد مأساته كما تقول ياسمين ....
ياسمين ؟!
أين ياسمين؟!
تلفت جواره ليجد الفراش خالياً منها على غير عادتها كل صباح...
فنفض عنه الغطاء ليقوم وإذا به يجدها جالسةً على
الأرض أمام السرير تسند ظهرها له ...
ابتسم بحنان وهو يقترب منها لتشعر هي به فتهتف بنبرتها الحيوية:
_صباح الخير ...نمت كويس؟!
اتسعت ابتسامته وهو يجلس جوارها على الأرض ليستند مثلها على ظهر السرير قائلاً بلهجته العابثة:
_بتعملي إيه ع الصبح كده على الأرض ؟! يوجا برضه؟!
لكنها هزت رأسها نفياً وهي ترفع هاتفها نحوه لتقول بنفس النبرة التي خالطها بعض الشجن:
_صحيت لقيت بابا باعتلي دول ...مجموعة صور ليّ أنا وهو وماما وأنا صغيرة.

انعقد حاجباه ل-المفارقة- ولايزال أثر كابوسه مع أفكاره عن سيلين وابنها يؤرقه... لكنه نفض عنه هذا الخاطر مع قوله:
_وريني كده .
تلاعبت أناملها بشاشة الهاتف للحظات كي تفتح الصور مع قولها :
_دي أول واحدة...ماما الله يرحمها وهي شايلاني.
_شبهك قوي.
قالها وهو يميل رأسه نحوها فابتسمت لترد بشرود:
_أجمل نعمة لما ربنا يخليك تشبه شخص عزيز عليك...متعرفش بحس بإيه لما ببص في المراية وبحس إن ملامحي بتفكرني بيها ...الله يرحمها .

تمتم بدعاء خافت لها بالرحمة وهو يشعر بالحزن الذي كسا ملامحها الرقيقة لهذا عاد يهتف بنبرته العابثة:
_لا ...أنا كده مش شايف كويس...رقبتي هتتلوح...

ثم أحاط خصرها فجأة بقبضتيه ليرفعها فيجلسها بين ساقيه المفرودتين مسنداً ظهرها إلى صدره ...
ثم تناول منها الهاتف بحركة خاطفة وسط تأوهات دهشتها ...ليحيط جسدها بذراعيه بينما يمسك الهاتف بكفيه قائلاً بنفس النبرة العابثة:
_مش كده نشوف احنا الاتنين أحسن؟!
ورغم شعور الخجل الذي انتابها هذه اللحظة لكنها كانت تشعر بأمان عجيب في جلستهما هذه وجسده يحاوط جسدها بكامله كأنها قطعة منه...
لكن هذا لم يمنع ذبذبات ارتباكها التي وصلته فحاول التغلب عليها بدعاباته وهو يقلب الصور :
_كنتِ طفلة "قلبوظة" امال إيه اللي قلبك "سفروتة" كده ؟!
ابتسمت وهي تنظر له من خلف كتفيها بارتباك لذيذ ليغمزها مردفاً بنفس النبرة:
_تخيلي لو كنتِ فضلتِ "قلبوظة" كده بطولك ده ...كان زماني بدحرجك دلوقت في الجنينة !
ضحكت بانطلاق وهي تسند ظهرها لصدره أكثر ثم عادت تنظر للأمام بينما هو يقلب الصور مع المزيد من تعليقاته المشاكسة :
_أسنانك كانت بايظة قوي ...لو كنت شفتك وقتها كان زمانك بقيتِ زبونة مستديمة عندي ...وده إيه كمان ؟!
_ده دبدوب قطعت راسه ولبسته راس عروسة تانية !
_ميول إجرامية مبكرة ما شاء الله ...الواحد المفروض يخاف على نفسه بقا.
قالها ساخراً ليعلو صوت ضحكتها من جديد قبل أن يعود ويقلب الصور بقوله :
_أيوه بقا...بحر ورمل وابتسامة بنوتة و.....إيه ده ؟! بيكينييييييي!!!!!

هتف بها بنبرة عابثة وهو يطيل مقاطعها متعمداً بينما عيناه تلتهمان صورتها الطفولية في "مايوه" من قطعتين بلون البحر ...
فاحمرت وجنتاها انفعالاً وخجلاً لتتمتم دون أن تنظر إليه:
_دي المرة الوحيدة اللي لبسته ...ماما ماكانتش بترضى تلبسهوني أبداً ...كانت بتخاف عليّ.
_عندها حق!
همس بها بنبرة أرق وهو يشدد ضغط ذراعيه حولها مردفاً:
_تخيلي لو لبستيه دلوقت بس بألوان الطيف اللي بتحبيها ...وشعرك بيلمع في الشمس زي خيوط الذهب.

قالها وهو يشعر بالصورة تلهب مخيلته فأحنى رأسه يسنده على رأسها مقاوماً هذا البركان العاصف بداخله ...
ثم ألقى الهاتف جانباً ليمسد شعرها بأصابعه هامساً :
_شعرك طول شوية ؟!
_فردته بالسشوار .
غمغمت بها بارتباك خجول وهي تشعر بلغة جسده تحكي الكثير عن مشاعر يأبى هو التعبير عنها ...
خاصة عندما شعرت بسبابته تسير على ظهرها حتى وصل لمنتصفه هامساً:
_عايزه يوصل لحد هنا ...لا هنا...لا هنا...
كان يتحدث بينما تتحرك سبابته هبوطاً على طول ظهرها لتنتهي عبارته بهمسه الذي امتزجت حرارته بالكثير من الشجن :
_وأشوفه في ضفيرة طويلة زي بتاعة زمان .

ارتجفت بين ذراعيه وهي تشعر بهمسه الحار يشعل بداخلها ثورات وثورات من مشاعر متباينة...
خوف ...رهبة...حسرة...ألم...خجل...توت� �...والكثير بل الكثير جداً من الشغف !

طالما كانت تسائل نفسها بعد طلاقها من ذاك الوغد إن كانت ستتمكن من العيش كامرأة طبيعية أم أنه قد أحرق بذور أنوثتها للأبد ...
لكن الإجابة تصلها مع يامن يوماً بعد يوم...
هي تشعر معه وكأنما تخطو في هذا العالم لأول مرة ...
اللذة التي يمنحها لها قربه وحنانه تمنحها المزيد من القوة لتقاوم هواجسها القديمة ...
لكنها لا تزال لم تبرأ من سقمها كاملاً...لايزال الخوف اللعين يحاصر مشاعرها ويمنعها الاستسلام...

انقطعت أفكارها عندما شعرت بزحف شفتيه الناعم على عنقها فرفعت عينيها نحو "نور الشمس" المتسلل عبر النافذة تقاوم به "ظلام" هواجسها الأليم...

أنفاسها تتلاحق وهي تشعر أنها في حرب حقيقية بين رهبتها من مطارق الماضي التي عادت تدق بابها بقسوة ...
وبين رغبتها الصادقة في الاستسلام للذة شعورها به...
لمنحه كل مفاتيح مدينتها كي يرفع عليها رايته للأبد ...
أصابعها ترتفع رغماً عنها لتتشبث بذراعيه المطوقين لها وكأنها تستمد منه دعماً ...
بينما كان هو منغمساً في استنشاق رحيق أنوثتها الملون ...
رائحتها التي تدوخه في لحظات بين براءة طفلة وغواية أنثى وحنان أم ...
شفتاه تتلمسان طريقهما على بشرتها فتارة تتمهلان باستمتاع ...وتارة تعدوان بلهفة... وتارة تتوقفان وكأنهما تتشبثان بها!!
ذبذبات توترها تزداد مع تلاحق أنفاسها فيأخذ هو نفساً عميقاً ليتمالك نفسه وهو يشعر أن الطريق لايزال يحتمل المسير ...
ليهمس لها أخيراً بصوت دافئ:
_تيجي نروح النادي القديم ؟!
شهقت بفرحة وهي تستدير بين ذراعيه لتواجهه بعينين ملتمعتين فأردف بابتسامة حنون:
_لسه بدري على أول معاد ليّ النهارده...تعالي نفطر هناك...
ثم غمزها بقوله:
_ونستعيد الذكريات!
_بجد ؟! بجد؟!
ظلت تكررها بفرحة طفولية وهي تقفز لتقف مصفقة بكفيها فوقف بدوره ضاحكاً بينما هي تهتف وكأنها لا تصدق:
_هتروح معايا هناك ؟! نلف سوا كل
الأماكن .. كلها ...هاوريك ترابيزتي المفضلة اللي كنت بقعد عليها ...ونقعد سوا تحت الشجرة اللي كنت بتحب تقعد عندها ...هنشتري غزل البنات من نفس المكان اللي حلمت إني أكون معاك فيه ...ونتمشى سوا في الممر الطويل اللي قبل "التّراك" ...هتدخل إيدك في إيدي واحنا بنسلم على عم رفعت الحارس ...كان دايماً يعاكسني وأنا داخلة النادي ويقوللي :يابخته اللي مستنياه ...يااااه يا يامن ...

تقطعت أنفاسها في كلماتها الأخيرة وهي تلقي نفسها بين ذراعيها تغرق وجهها بقبلاتها -الخفيفة- في لمستها و-العميقة- جداً في أثرها ...
وكيف لا؟!
وقد امتزجت الآن بدموعها التي عجزت عن منعها وهي تشعر بانفعال عظيم يعصف بها...
انفعال ترجمته همساتها المتهدجة بعدها:
_عارف؟! سهل قوي تلاقي حد يديك أمل في بكرة ...لكن الصعب إنك تلاقي حد يرجع لك الماضي ...يقولك إن أيامك ما راحتش هدر ...يرجع لك اللي فات ...

قطعت عبارتها وكأنها عاجزة عن السيطرة على مشاعرها لتعاود نثر قبلاتها المجنونة على وجهه مردفة:
_شكراً يا طيب ...يا أطيب يامن في الدنيا.
شعر بقلبه يتضخم بين ضلوعه ودقاته الهادرة تجاوز حد الجنون مع هذه المشاعر الصادقة التي كانت ترويه بها رِيّاً ...
هذه ليست امرأة عاشقة..
هذه امرأة تسقيه روحها ببساطة دون أية محاذير!
الآن يحتاج ما يفوق الصبر ليمنع نفسه عنها لكن لا بأس ...
حبٌ كهذا يستحق أن يصبر عليه كي يشتد عوده قبل أن يجني عذب ثماره ...

بينما توقفت هي فجأة عما تفعله وكأنما شعرت باندفاعها الآن فقط لتشتعل وجنتاها فتتراجع عنه بخجل ...
هنا خبطها هو بخفة على رأسها قائلاً بنبرته المشاكسة:
_وقفتِ ليه؟! كملي كملي...عشان أقول لا فيه نادي ولا مواعيد ولا عيادة ...ونقعد هنا أعلمك لعبة أحلى .
انتهت عبارته وهو يجذبها بحركة مفاجئة بين ذراعيه وبريق عينيه العابث يعيد إشعال الثورات في روحها العاشقة...
لكنها حاولت التغلب على خجلها وهي تدفعه برفق هاتفة بمرحها الحيوي:
_لا لا مفيش رجوع...هانزل ألبس وأستناك .
قالتها لتغادر الغرفة بخطوات راكضة تلاحقها نظراته التي امتزجت عاطفتها بعبثها مع همسه لنفسه:
_هتجنني بنت اللذينا.
=======
فتحت ياسمين باب البيت الداخلي برفق حذر وهي تتوقع عاصفة من غضبه الذي ظهر في مكالمته الهاتفية منذ قليل ...
إنها الليلة الأولى التي تتأخر فيها إلى هذه الساعة لكنها انشغلت كثيراً بشأن الفرع الجديد من المطعم الذي تريد إنشاءه...
الليلة الأولى التي يعود فيها إلى البيت منذ تزوجا ولا يجدها تنتظره ...
الليلة الأولى التي تشعر فيها -كما شعر هو- أن شيئاً ما قد بدأ يسحب اهتمامها ودورانها العتيق حول فلكه !!
وكم آذاها هذا الشعور -قبله- والسخط من نفسها يملؤها ...
لهذا تنهدت بضيق وخطواتها تنسحب نحو المطبخ الذي كان مرتباً كما تركته منذ الصباح لتعلم أنه لم يتناول طعاماً...
ثم تحركت بخطوات سريعة تصعد الدرج نحو غرفته لتجده جالساً على الفراش وقد أسند حاسوبه المحمول على ساقيه المفرودتين أمامه...
ألقت عليه التحية ثم تنحنحت بحرج لتقترب منه قائلة :
_أنا آسفة إني اتأخرت .
_براحتك.

قالها بجمود دون أن يرفع وجهه إليها فعادت تتنحنح من جديد لتجلس جواره مع قولها بنبرة أرق:
_شكلك زعلان...وعد مني مش هاكررها.
_وإيه اللي انت كاتباه على "الفيسبوك" ده ؟!
تنحنحت بحرج وهي تتذكر العبارة التي كتبتها له على حسابه الشخصي وهي في الطريق كي تسترضيه فغمغمت بخجل:
_كنت بصالحك.
_تقومي تكتبي لي كده وكل الناس تقراه!
_وإيه المشكلة؟! انا عايزة الناس كلها تعرف اني بحبك.

ورغم أن عبارتها التي نطقتها بحرارتها المعهودة داعبت أوتار قلبه لكنه عاد يهتف بنفس الاستنكار:
_والله ؟! وكل واحد يشوف كلامك يتخيل شكلك وانت بتقوليه ؟! والله أعلم دماغه هتوديه لفين ؟!
_مش ممكن...انت غيرتك دي يتألف فيها كتب ...غلبتني...
هتفت بها بتعجب وهي تضحك من غيرته لتهمس له أخيراً بنبرة دافئة :

_طب ده أنا نفسي تكتبلي إنك بتحبني والدنيا كلها تقراها .
رمقها بنظرة مستهجنة غاضبة وهو يشيح بوجهه فاقتربت منه أكثر هامسة:
_خلاص ما تزعلش.
_ماتكتبليش كلام زي ده على بروفايلي تاني!
قالها حازماً دون أن ينظر إليها فتمتمت بخفوت:
_حاضر.
_وما عدتيش تحطي صور لك على صفحتك أبداً.
كتمت ابتسامتها بكفها وهي تعاود تمتمتها المطيعة:
_حاضر.
_ويفضل لو تقفلي حسابك ده خالص!
_لو ده يرضيك مفيش مشكلة !

لم يصلها منه رد ولا حتى نظرة عين فمدت كفها لتغلق شاشة حاسوبه ثم تقدمت أكثر لتطبع على وجنته رسالة اعتذار ناعمة ناسبت همسها:
_خلاص بقا يا "طيب"...أنا بصالحك أهه.
لكنه صرف بصره عنها ليهتف بخشونته المعهودة والتي
خالطها الآن بعض المكر:
_يعني لا بتعرفي تحكي حواديت عدل ولا تصالحي بذمة ...وحاجة آخر "كَروَتة" صراحة !
ضحكت بخجل وهي تربت على وجنته هامسة:
_عايزني أصالحك إزاي طيب؟!
_كده يا "حضرة الشيف" المحترمة!

لم تكد تعي آخر حروف كلماته حتى كان قد أزاح حاسوبه ليضعها هي مكانه غارساً على شفتيها كل مشاعره العاصفة بين غضب وحاجة واشتياق ...وغيرة!
أجل...شعوره عندما عاد ولم يجدها أشعل في قلبه "مذاق الحرمان" الذي ظن نفسه لن يعرفه معها هي أبداً...
منذ عرفها وهو يشعر أنه هو محور حياتها الوحيد الذي تدور حوله نواتها واليوم يشعر وكأنما تزلزلت هذه الأرض الثابتة من تحته !
وبين ذراعيه كانت هي غارقة بشعورها الجديد معه...

هل فاجأتها عاطفته -الحسية- التي انفجرت هكذا فجأة ؟!
لا !
هي خير من تعلم أن طفلها "المكابر الشقي" يشعر الآن
بالغيرة من عملها الذي صار يستنزف وقتاً أطول ...
وغيرته -كما كل مشاعره- لايجيد التعبير عنها إلا "هكذا"!
والمشكلة الحقيقية في "هكذا" هذه!!

لهذا استسلمت له لبضع ثوانٍ قبل أن تشعر بالخوف اللعين يعود يراودها مع ازدياد -جرأته- هذه المرة...
هذا الشعور المقيت بالاختناق الذي لا حيلة لها فيه- والذي جعلها كتلة من الثلج بين ذراعيه- جعل عينيها تدمعان بعجز وسط تلاحق أنفاسها ...

ورغم شعوره بالضيق لكن سابق رصيدها كان يسمح له
بالصبر الذي جعله يكتفي أخيراً بضمة رفيقة لجسدها المرتجف مع تربيته على ظهرها وكأنه يمنحها وعداً غير مشروط بالأمان ...

ولم يكد يفعلها حتى شعرت بخفقاتها الثائرة تهدأ رويداً رويداً لتستكين أنفاسها على صدره أخيراً وهي تشعر
بالكثير من الخزي الذي حاول هو تبديده عندما رفع ذقنها نحوه ليهمس أمام عينيها المعتذرتين:
_تأخيرك ده مايتكررش تاني ...حسيت إني مخنوق لما رجعت البيت ومالقتكيش فيه .

مسحت دمعة فرت من طرف عينها وهي تبتسم له هامسة بصوت عادت إليه بعض حيويته:
_أعتبر ده اعتراف إنك ماعدتش تقدر تعيش من غيري؟!
لكنه رفع أحد حاجبيه بمكر ليرد مشاكساً:
_لا اعتبريه تحذير شديد اللهجة إن اللي حصل ده ما يتكررش ...وبس!

لفظ كلمته الأخيرة وهو يخبط جبينها بجبينه بخفة فضحكت وقد اكتفت منه بهذا التصريح غير المباشر لتقول له بحنانها المعهود:
_أكيد جعان ...خمس دقايق ويكون الأكل جاهز .
قالتها وهي تدفعه برفق لتقف لكنه وقف بدوره ليلتقط كفها في راحته قائلاً :
_زمانك تعبانة...تعالي نحضره سوا .
ابتسمت له بامتنان وهما يغادران الغرفة معاً ليهبطا الدرج نحو المطبخ حيث تركت هي كفه لتتحرك جانباً مع قولها :
_هاحمر بطاطس عشان مشتاقة لها ...المهم قوللي...إيه أخبار طنط والبنات ؟!
سألته وهي تشعل الموقد ليجيبها وهو يضع صينية الطعام في "الميكرويف":
_كويسين...رانيا مبسوطة مع عريسها وهانيا ملبوخة
كالعادة في دراستها لدرجة إنها سابت بيتها وقعدت عند نبيلة ...داليا اللي قالقاني.
_ليه؟!
سألته بقلق حقيقي ليجيبها بضيق:
_معرفش...فيها حاجة متغيرة...ومروان بيقوللي مش بتذاكر كويس.
_و مروان يعرف منين؟!
_عمه الدكتور بتاعها في الجامعة ...كلمني من فترة وقاللي إنه عايزني في موضوع مهم ...ولما استفسرت منه طلع عنها...قاللي أنبهها تخللي بالها من مذاكرتها ...مش عارف أعمل إيه ....أوه...حاسبي!

هتف بها بجزع وهو يقترب منها لتلاحظ هي النار التي
نالت من طرف كُم سترتها بينما كانت تحدثه بشرود فأغلقت الموقد بسرعة...
لكنه لم يمنحها المزيد من الوقت عندما دفعها بسرعة نحو الحوض ليفتح الصنبور بسرعة مريقاً الماء عليها قبل أن ينزع عنها السترة نفسها ليلقيها جانباً بعدما انطفأت شعلتها ليسألها بلهفة وهو يتفحص ذراعها:
_وصلت لدراعك؟!

لم ترد عليه والصدمة تلجم لسانها ...
ليس فقط من مشهد النار فقد اعتادت مثل هذه الحوادث ...
لكن من وقوفها هكذا شبه عارية بين ذراعيه إلا من "بلوزة" خفيفة عارية الذراعين بحمالتين رفيعتين تكشفان جزأها العلوي بوضوح ...
لكنه كان غافلاً عن هذا في البداية بتفحص معصمها وساعدها الذي احمر قليلاً ليهتف وهو يقترب بها من أحد الأدراج:
_مرهم الحروق كان هنا ...يتهيالي بسيطة...واللا إيه؟!

سألها وهو يلاحظ شحوب ملامحها لتجيبه بنبرات مرتبكة :
_أيوة...بسيطة.
وضع المرهم بحرص على المنطقة المحمرة من جلدها قبل أن يرفع إليها عينيه أخيراً ليدرك ما يسبب لها كل هذا الشحوب والارتباك...
التمعت عيناه ببعض المكر وهما تتفحصان "بلوزتها" الرقيقة بلون "السيمون" الفاتح والتي تزينت مقدمتها
بالدانتيل الرقيق مع فصوص اللؤلؤ الصغيرة لتمنح بشرتها الناعمة مظهراً خلاباً...
فابتسم وهو يقترب منها أكثر هامساً بنبرته العابثة:
_ده ذنب الغلبان اللي مقعداه من غير أكل لحد دلوقت ...شفتِ اللي بييجي عليّ ربنا بيعمل فيه إيه ؟!
ابتسمت بتوتر وهي تشيح بوجهها ليردف وعيناه تلتمعان أكثر:
_مممممم...ده الجاكيت كانت مخبي كتير!
كتفت جسدها بذراعيها وهي تشيح بوجهها ليردف باستحسان ماكر:
_أيوه....حلوة قوي الوقفة دي !
_يامن!
تمتمت بها باستنكار وهي تتحرك لتغادر المطبخ لكنه جذبها من ذراعها ليقول لها بنفس النبرة المشاكسة:
_مش هتتحركي من هنا غير لما ناكل .
_هاغير هدومي وآجي بسرعة.
_لا...أنا جعان ومستعجل.
_يامن ...انت عارف...

قطعت عباتها المرتبكة وعيناها تدمعان لكن إشفاقه لم يمنعه من أن يقربها نحوه أكثر ليردف بنفس الحزم المرح:
_أنا مش عارف دلوقت إلا حاجة واحدة ...إني جعان وإنك هتاكلي معايا حالاً.

أغمضت عينيها بقوة وهي تشعر بنفس الإحساس المقيت بالألم...
بالانتقاص ...وبعدم الثقة ...
_بصيلي.
همس بها وهو يربت على ظهرها برفق محاولاً تمالك ارتجافتها لكنها تمتمت بعجز :
_مش قادرة .
_بصيلي!
كررها بحزم أكبر وهو يرفع ذقنها نحوه لتفتح عينيها ببطء ...
تلتقط نظراته المطمئنة بنَهَم من تحتاج حقاً لهذا الأمان ...

_اللون ده حلو قوي عليكِ...والعقد كده أجمل بكتير .

همس بها وأنامله تتلمس عقده الملون بأحجاره على جيدها فازدادت ارتجافتها وهي ترمقه بنظرات راجية وقد التصق لسانها بسقف حلقها ...
فقط عيناها كانتا متشبثتين بعينيه باستماتة وكأنها تستمد منهما الدعم...
لتنحدر أصابعه نحو ذراعها صعوداً وهبوطاً في ثوانٍ مرت بكليهما عاصفة صاخبة حتى همس أخيراً :
_خسارة!
ضاقت عيناها بنظرة مذعورة متسائلة وقد أساءت تأويل كلمته لكنه استطرد بنبرة دافئة:

_خسارة إنك ما خلتهمش يرسموا لك ذراعك بالحنة في البلد ...كانت هتعمل شغل جامد مع لون بشرتك ده.

كان يريد منحها المزيد من الثقة في نفسها وهو الوتر الذي يجيد العزف عليه حاليا ...
ويبدو أنه قد نجح فقد لانت نظراتها الخائفة نوعاً ...
هنا تناول ذراعها ليفرده أمامه ثم دار على معصمها بسبابته مردفاً بنبرة زاد شغفها:
_تخيلي لو رسمنا هنا وردة كده ...يطلع منها خط طويل كده ...وينتهي بورقة شجر كده ...وكده...وكده...

كان يتحدث بينما يرسم بإصبعه ما يتحدث عنه ...
حتى وصل لأعلى ذراعها وكتفها وبالتحديد عند تلك الندبة هناك ...
والتي استقر عليها إصبعه للحظات قبل أن يهمس بحرارة أكبر:
_وهنا بقى نرسم قلب ...قلب كبير ...محبش غيري ...زي ما بتقولي.

ختم قوله بهذه العبارة وكأنما استنكف سلطان شكوكه أن يعترف بتصديقها ...
أو ربما كان يريد المزيد من اعترافاتها الصريحة القاطعة...
تماماً كذاك الذي منحته له الآن دون تردد:
_ماحبش ولا هايحب غيرك .

هنا استبدل سبابته بشفتيه اللتين طافتا بتبتّل شغوف على بشرتها لتشعر هي بخوفها يتبدل لإحساس آخر ...
إحساس يرفعها في ثانية لأعلى سماء لكنه يعود ويخسف بها الأرض...
لينطلق أخيراً صوت "الميكرويف" منذراً بانتهاء مهمته وهو الذي وجدته هي لها مخرجاً من دوامة مشاعرها هذه ...فدفعته برفق هامسة:
_انت مش جعان؟! الأكل خلاص سخن.

لم يستطع كبح الخيبة في نظراته وهو يراها تفر من بين ذراعيه لتستخرج الطعام وتضعه على المائدة ...
فتنهد بضيق أزالته ابتسامتها المرتجفة وهي تسحبه من كفه لتقول بارتباك:
_ياللا قبل ما يبرد تاني.
جلس جوارها يتناولان طعامهما وهو يلاحظ أنها تتحاشى نظراته المتفحصة لها ولم تكد تتناول بضع لقيمات حتى وقفت لتقول بنفس الارتباك:
_حاسة إني بردت...هاروح أغير هدومي .
قالتها وهي تهم بالمغادرة لكنه جذب ذراعها ثم وقف ليقول لها بحزم:
_الخطوة اللي مشيناها مش هنرجعها تاني ...فاهماني؟!

رمقته بنظرة متسائلة فجذبها من أذنها برفق ليردف بنبرة مشاكسة لعلها تلطف أجواء توترها:
_يعني خلاص شفتك كده واللي كان كان ...بجاماتك الطويلة الواسعة دول لو شفتهم تاني هاولع فيهم...قرار ديكتاتوري رقم...ممممم...مش فاكر !
ارتجفت شفتاها بابتسامة تردد فانتقلت أنامله من أذنها لوجنتها مع استطراده الجاد هذه المرة:
_ماتخافيش من أي حاجة ...أنا بعمل كده عشانك مش عشاني ...عشان انتِ تستاهلي تحبي نفسك أكتر من كده .


دمعت عيناها كعهدها عندما تستبد بها عاطفتها لتلتقي عيناهما في حديث طويل ...
قبل أن تومئ برأسها موافقة ليتنهد هو أخيراً بارتياح وهو يشعر أنه يسير على الطريق الصحيح...
صحيحٌ أنه قد صار يخشى عليها من تعجله لكنه يثق بقدرة قلبه على منحه الصبر .

وبعدها بقليل كانت تدخل عليه غرفته لتلتمع عيناه بشغف وهو يرى منامتها الصفراء عارية الأكمام والتي منحتها حمرة وجنتيها مظهراً شهياً...
صحيحٌ أنها كانت بسروال طويل واسع ورسوم طفولية على منطقة الصدر لكن كما قال لها وهو يقبل ظاهر كفه وباطنه:
_أحسن من مفيش...نبوس إيدنا وش وضهر على كده .

ضحكت بخجل وهي تقترب منه وقد بدد مرحه الكثير من توترها ...
خاصة عندما سبقها للفراش ليرفع عليه غطاءه قائلاً بعد تثاؤب قصير:
_ياللا عشان تحكي الحدوتة...هنام منك .
_أدمنت حواديتي؟!
سألته بنبرة حيوية وهي تلحق به في الفراش ليجيبها مشاكساً:
_كان لي واحد صاحبي مبيعرفش ينام إلا والراديو مفتوح جنبه...أهو انت أحسن م الراديو .
علا صوت ضحكتها الرقيقة فتنهد بعمق وهو ينظر إليها نظرة طويلة ...ليسألها أخيراً بجدية:
_عارفة إيه أجمل إحساس في الدنيا؟!
_إنك تحب؟!
سألته بتردد ليهز رأسه نفياً ثم اقترب منها ليضمها بذراعيه غارساً رأسه على صدرها قبل أن يهمس لها بشرود:
_إنك تطّمن.
_وانت مطمن معايا؟!

وجوابه كان في قبلاته التي تناثرت بسرعة على وجنتيها وذقنها ...
فتأوهت بدلال رقيق ليهتف بها بمرحه الفظ:
_لو دقني بتشوكك...استحملي...مابفكرش أحلقها!
ضحكتها الطويلة كانت جوابها والتي أتبعتها بقبلتين ناعمتين على وجنتيه مع قولها المرح:
_بتهزر؟! انت ما سمعتش المقولة الشهيرة...ما الحب إلا للحبيب الملتحي!
يبتسم وهو يراها تبتلع كل خشونته بمرحها المعهود ليهمس لها بنبرة دافئة:
_مش قلتلك قبل كده إنك جميلة قوي؟!...جميلة لدرجة إنك بتخللي كل حاجة حواليكي جميلة زيك...حتى أنا....
ثم تنحنح ليغمض عينيه مردفاً:
_ياللا بقا...احكي يا عروسة البحر .

تنهدت بحرارة وهي تداعب لحيته بأناملها لتعود برأسها للوراء هامسة :
_كان ياما كان...

فابتسم وهو يشرد في حكايتها التي تخطف لبه ككل ليلة...
لا لم يكن يشعر معها بشعور "شهريار" المتملك القوي ...
بل على العكس ...
كان يشعر وكأنما يطارد أطياف طفولته على صدرها ...
وكأنما يرسم بصوتها الماضي الذي ود لو يتغير ...
والغد الذي لا يريده إلا معها ...
هي العشق الذي لا تدري هل أصابك بسهمه أم داواك بترياقه ...
هي "ليلاه" و"عبلته" و"شهرزاده"...
بل هي بطلة أخرى تستحق أن تكتب لها حكاية وحدها في دفتر العاشقين.
========




سمية سيمو غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-04-20, 11:59 PM   #1513

سمية سيمو


? العضوٌ??? » 396977
?  التسِجيلٌ » Apr 2017
? مشَارَ?اتْي » 4,356
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
?  نُقآطِيْ » سمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك action
?? ??? ~
keep smiling
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي


القطعة الرابعة عشرة
=======

_حمداً لله على السلامة يا عريس؟!
قالها مساعده في الشركة وهو يدخل عليه مكتبه فقام له أشرف مصافحاً بحرارة وهو يشعر بود حقيقي نحو الرجل الذي يتولى أمور المصنع منذ عهد أبيه ...
ليقول بعدها ببعض الضيق :
_الله يسلمك يا عمي...طمني...عرفت توصل لحاجة ؟!
جلس الرجل مكانه مصطنعاً الأسف مع قوله :
_ولا أي حاجة يا أشرف ياابني...ده حتى المصنع عامل أرباح ممتازة الشهر اللي فات ..والطلبيات وصلت في معادها من غير أي مشاكل...أنا مش قادر أحط إيدي على غلطة.
زفر أشرف بقوة ليجلس بدوره مغمغماً بعجز:
_أنا بفكر أبيع المصنع.
_تبيع المصنع؟! شقا أبوك الله يرحمه؟!
قالها الرجل باستنكار مصطنع ليجيبه بنفس النبرة العاجزة:
_ما انا مش قادر أعمل حاجة...ولا عارف أتصرف لوحدي .
ضيق الرجل عينيه وهو يسأله بحذر متفحصاً ملامحه:
_بتفكر تبلغ البوليس؟!
_هابلغ البوليس إزاي من غير دليل؟! هتبقى شوشرة على المصنع
وخلاص...حتى سيدة اللي كان ممكن تشهد معايا اتقتلت والقضية اتظبطت إنها بغرض السرقة...مش عارف أعمل إيه...بجد مش عارف...
قالها أشرف بقنوط وهو يخفي وجهه بين كفيه ليردف بنبرة أكثر يأساً:
_أنا حتى ماعدتش قادر أركز في أي حاجة...خايف على أمي...على أختي ...على مراتي...ماعدتش بنام يا عمي.
_شكلك فعلاً مرهق جداً.
قالها الرجل متصنعاً الإشفاق ليرفع أشرف كفيه عن وجهه قائلاً بتجهم:
_أنا حاجز عند دكتور النهارده يشوف لي موضوع الصداع اللي ما بيخفش ده.

التمعت عينا الرجل بدهاء والفكرة تبزغ في ذهنه براقة شيطانية...
يقولون إن "طباخ السم يتذوقه"!
فليتذوق صاحب المصنع إذن مذاق ما يطبخونه هم!!
ربما تكون هذه هي الوسيلة الوحيدة لإسكاته كي لا يفسد صفقة عمرهم الأخيرة...
لهذا أتقن رسم قناع حنانه على وجهه وهو يقول له :
_دكتور إيه وبتاع إيه؟! بيهولوا الأمور على الفاضي...أنا عندي دوا أمريكي مستورد ابني بيجيبهولي من بره مخصوص ...ممتاز ياابني...هاجيبلك منه علبة جربه...وربنا هو الشافي!
=======
_إيه اللي بينك وبين مراتك يا رامز؟!
سألته والدته بقلق صباحاً وهي ترى تدهور حاله وصمته الذي يصر عليه منذ غادرت هي البيت ...
فعقد حاجبيه قائلاً باقتضاب:
_من فضلك يا ماما...اللي بيني وبين مراتي ما احبش حد يتدخل فيه .
هزت رأسها لتهتف به بقلق أم طبيعي:
_ما هو أنا مش هاسكت وأنا شايفاك كده ...لو مش متفاهمين زي ما دخلنا بالمعروف نخرج بالمعروف...وشوف انت حالك بقا .

انقبض قلبه بجزع من مجرد الخاطر وملامحه تفضح معاناته الصامتة...
منذ تلك الليلة التي غادرت فيها حفل الزفاف وهو يمنع نفسه بشق
الأنفس أن يتحدث إليها ...
لا...ليس الأمر فقط مجرد كبرياء رجولته...
بل شعوره بالعجز عن احتواء طبيعتها !
هل يأس منها بسرعة كما لم يظن أنه يوماً سيفعل؟!
لا...ليس الأمر هكذا...
لكنه فقط يشعر أنه كمن يحارب طواحين الهواء ...
يحتاج فقط لبادرة منها ...أي بادرة...
ولو مجرد رنة هاتف لا ترقى لاتصال!
لكن العنيدة جازته -كما توقع- عن تجاهله تجاهلاً!!

ما الذي حدث لها تلك الليلة؟!
لماذا انصرفت بهذه الطريقة الغريبة فور قدوم غادة؟!
هل انقلب السحر على الساحر؟!
خطته التي ظن أنها ستقربها ..أبعدتها؟!

_انت بتحبها يا ابني.
قالتها أمه بتقرير أقرب منه للسؤال ...فالتفت نحوها من شروده ليزفر بقوة دون رد ...
هنا ربتت على كتفه لتقول بنبرة حماة مصرية أصيلة:
_ما انكرش إنها سمّاوية ودمها يلطش وطالعة فيها...
_ماما!
هتف بها باستنكار مقاطعاً فمصمصت شفتيها لتردف بجدية هذه المرة:
_بس قلبها طيب...ماعرفش حد ممكن يشيل غلبان زي ما هي عملت مع صاحبتها ...الأخ الزمان ده بياكل حق أخوه !
_ياريتها ما كانت طيبة كده !
تمتم بها بتذمر فابتسمت لتقول له بتعقل:
_أنا كنت بجس نبضك ...مادام طلعت بتعزها قوي كده ...شوف العيب فين وصلحه...الراجل هو أساس البيت ياابني ...ربنا يصلح حالك ويهديهالك.
قالتها بنبرة دعاء أمّن عليه قلبه...قبل أن يقبل رأسها دون رد ليغادر إلى عمله ...

شروده يؤرقه طوال الطريق وهو يتأرجح بين غضبه منها ...
وشوقه إليها!
الجاحدة!
ألم ينتبها الحنين إليه ولو للحظة تتخلى فيها عن كبريائها؟!
كان قد وصل لمقر الشركة فركن سيارته ليتوجه نحو المصعد ...
وما كاد يستقله حتى فوجئ ب"الأفعى" تجاوره فيه لتضغط الزر بقولها:
_صباح الخير .
رد تحيتها بفتور وهو يرفع رأسه لأعلى فتجرأت لتقترب منه بقولها :
_شكلك ما نمتش كويس...
عقد حاجبيه بقوة وعطرها الصارخ يثير حواسه...
خاصة مع لون سترتها الذهبي الذي لا يليق أبداً بالصباح !
لكن منذ متى تكترث هي بأشياء كهذه ؟!
هي التي شعرت بتأثره فاقتربت أكثر مردفة:
_مش حالق دقنك ليه؟!
همسها المغوي بنبرته المهلكة يعاود قصف حصونه لكن باب المصعد الذي فتح لتوه ينقذه ...
فيزدرد ريقه بتوتر ليزيحها جانباً ببعض العنف ...
لكنها لم تكن لتتخلى عما تريده بهذه السهولة!
تتبعه لمكتبه متجاهلة نظرات زملائهم الفضولية حتى تلحق به ليهتف بها بنفاد صبر:

_يارا! أنا مش ناقصك وخلقي في مناخيري دلوقت ...روحي مكتبك
حالاً.
لكن ثورته تزيد رضاها وهي تشعر بحدسها الأنثوي بما يختفي خلفها لتقترب منه أكثر قائلة :
_معك حق...مش هينفع الكلام هنا...هاستناك في البيت الليلة ...عارفة إنك هتيجي المرة دي.

اتسعت عيناه باستنكار وهو يهم بسباب ساخط لكنها ابتعدت بسرعة لتمنحه غمزة ماكرة سبقت مغادرتها بخطوات واثقة ...
غافلة عن عيني غادة المرتاعتين اللتين كانتا ترمقانها بصدمة رغم أنها لم تسمع ما قالته بالضبط لكن فحواه كان واضحاً للأعمى!
خاصة عندما جلس رامز على كرسيه بعصبية وهو يتلاعب بهاتفه ...
رامز؟!
معقول؟!
هل يخون هانيا؟!!
هنا لم تستطع التستر خلف قناع خنوعها المعهود ...
قوتها الخفية التي لا تدري متى تظهر هكذا طفت للسطح فجأة وهي تتوجه لمكتبه ...وليتها ما فعلت!
لو كان سوء الظن مؤذياً فحسن النوايا يهلك كثيراً لو تعلمون!
========
استيقظ يامن من نومه على كابوس جديد من تلك الكوابيس التي صارت تؤرقه مؤخراً ...
يبدو أن ضميره لايزال يجلده بالذنب نحو ذاك الصغير الذي لا يدري إن كان ابنه أم لا...
خاصة مع وفاء سيلين بانتقامها بتلك الصور التي ترسلها له يومياً على بريده الاليكتروني...
لكن الجديد هاهنا هو كوابيسه التي صارت تتعلق بياسمين أيضاً!!
أجل...
تارة يراها تبتسم بشيطانية وهي تغرس خنجرها في ظهره...
وتارة يراها تغرق لتسحبه فيغرق معها...
أو تتداخل الرؤى فيراها تخنق الصغير بيديها...
والليلة رآها بين ذراعي رجل آخر تناديه "زين"!
من زين؟!
هو يذكر جيداً أنه قد سمعها تلك الليلة تنادي اسمه بينه وبين الوغد طليقها...لكنها تنكر!
آه...أما لهذا الشك من آخر؟!

جحيم جديد صار يعايشه كل ليلة رغم أنه لم يعد ينام إلا بين ذراعيها فيستيقظ غارقاً في عرقه وخوفه...
ووساوسه التي عادت تبسط سلطانها عليه من جديد!!
استغفر الله بصوت خفيض وهو يتناول منديلاً ورقية مسح به جبينه لينهض من نومه متأملاً ملامحها الملائكية المستكينة جواره...

تلا المعوذتين في سره وهو يحاول تمالك أنفاسه اللاهثة قبل أن ينتبه لصوت آذان الفجر فنفض عنه غطاءه كي يتوجه للصلاة...

وبعدها بدقائق استيقظت هي الأخرى من نومها لتتفقد مكانه الخالي على الفراش قبل أن تنتبه للوقت جوارها فتدرك أنه يصلي الفجر كعادته...
ابتسمت وهي تحتضن ووسادته ببقايا عطره لتضمها نحوها بقوة ثم وضعتها جانباً لتنهض هي الأخرى ...
هبطت الدرج نحو الأسفل حيث ركنه الخاص بالصلاة لتراقبه يصلي باعتزاز لم يلبث أن تحول للكثير من القلق...
هل أطال الصلاة زيادة عما ينبغي أم أنها فقط يهيأ إليها؟!
ظلت واقفة مكانها ترقبه والقلق بداخلها يتضاعف حتى انتهى أخيراً من صلاته بعدما يقارب نصف الساعة!
لكن هذا لم يكن فقط سر قلقها بل تململه الغريب في مكانه بعدها وهو يتناول مصحفه ليقرأ فيه...
قبل أن يغلقه بسرعة ليعيده مكانه دون أن يفعل!
انعقد حاجباها وهاجسٌ ما يراودها جعلها تقترب منه لتجلس أمامه على الأرض قائلة بقلق:
_مالك؟! شكلك متوتر!
هز رأسه بلا رد ثم أخفي وجهه بين كفيه فاقتربت أكثر لتربت على ركبته مع قولها:
_ممكن أسألك سؤال وتجاوبني بصراحة؟!
أزاح كفيه عن وجهه ليرمقها بنظرة مشتتة فأردفت بحذر:

_الوساوس اللي عندك دي بتبقى ناحية النظافة والناس بس؟! واللا كل حاجة ؟!

أغمض عينيه بقوة ثم زفر زفرة قصيرة جعلت شكوكها تتأكد...
لقد قرأت كثيراً عن مرض "الوسواس القهري" لعلها تعرف الكثير عن تفاصيله...
الغريب أنها في أول علاقتهما كانت تجده مبرراً للكثير من تصرفاته لهذا كانت شبه متيقنة أنه مصاب به ولو بدرجة طفيفة...
لكن مع مرور الأيام كانت تشعر أن تلك الأعراض تختفي تدريجياً حتى تكاد تتلاشى ...
تماماً كما قالت له...إنه ينسى شكوكه عندما يستمع لقلبه !
فما الذي جد عليه لتعود له أعراضه هذه ؟!
أرقه...قلقه..شروده...انفعالات ه العصبية !!

_كل حاجة ...دماغي ما بتبطلش تفكير...ممكن أقعد بالساعة مفيش في راسي غير فكرة واحدة مسيطرة عليها...حتى الصلاة...القرآن...أحياناً مابقدرش أركز فيهم من كتر الأفكار اللي بتجيلي...وساوس في كل حاجة...كلام مااقدرش أقوله ...بستغفر كتير وببقى حاسس بتأنيب ضميري من سواد الحاجات اللي بفكر فيها بس غصب عني مابقدرش أمنعها.
دمعت عيناها بتأثر من المعاناة الواضحة في صوته فاحتضنت كفيه بكفيها قائلة بتردد:
_مافكرتش تشوف دكتور؟!

_وأنا في لندن رحت لدكتور هناك...قاللي إن الموضوع بسيط وكتب لي دوا خدته فترة وبطلته...الموضوع مش دايما بالشدة دي...بيزيد وينقص.
_أنا أعرف إنه فعلاً بيزيد مع الضغوط النفسية...بس إيه اللي مزوده
الأيام دي؟!

سألته بحيرة ليرفع إليها عينيه بنظرة طويلة دون رد...
ضمت رأسه لصدرها برفق وهي تطوقه بذراعيها هامسة بحنان:
_قل لي إيه اللي شاغلك ...خللينا نفكر سوا.
تردد قليلاً قبل أن يحكي لها عن كوابيسه بشأن سيلين وابنها متغافلاً عن الجزء الخاص بها هي ...
فتنهدت بحرارة لتقول أخيراً بأسف:
_ده اللي كنت عاملة حسابه...واحد زيك هيفضل طول عمره ضميره واجعه على ابنه.
_مش أكيد إنه ابني.
هتف بها بانفعال وهو يبتعد عنها ليلوح بذراعيه مردفاً:
_لو كان ابني كانت وافقت تعمل الاختبار...لكن هي كدابة...عايزة تفرض سيطرتها علي بأي شكل...واتجننت لما لقتني بدات حياتي من جديد.
قالها ثم هب واقفاً ليستطرد بنفس النبرة المتعبة:
_أنا خلاص لقيت الحل...هاقفل حسابي ده خالص عشان ماعادش يوصلني منها رسايل...بلاش وجع قلب!
رمقته بنظره مشفقة وهي تقف بدورها لتمسك ساعديه قائلة بتردد:
_طيب ممكن بس تسايسها لحد...
_خلاص يا ياسمين...الموضوع ده منتهي...أنا مش هاعيش طول عمري في الحيرة دي!

هتف بها مقاطعاً بانفعال فأطرقت برأسها وهي لا تدري ماذا تفعل...
هي تشعر بحجم الصراع الذي يعيشه خاصة مع رجل مثله بماضيه وعقده الخاصة...
لقد نجحت سيلين في بذر الشك في قلبه ولاتزال تشعل نيران جحيمه بتلك الصور التي تلهب بها قلبه...
لكن ما حيلتها ها هنا؟!
كيف تساعده؟!

_أنا هاطلع أكمل نوم ...دماغي تقيل مش قادر.
قالها بنبرة ضائقة وهو يبتعد عنها ليردف بعدها :
_آه بالمناسبة...عندي مؤتمر في الاسكندرية بعد بكرة ...جهزي الشنط واعملي حسابك هنقعد أربع أيام .
تجمدت ملامحها للحظات قبل أن تقترب منه لتقول بتردد:
_بس أنا مش هاقدر أسافر دلوقت أربع أيام كاملين...انت عارف إني بجهز للمطعم الجديد عشان الافتتاح قرب .
اشتعلت عيناه بغضب زاده انفعاله لكن ملامحه عادت تتشح بالبرود مع قوله:
_معك حق...ركزي انتِ في شغلك...أنا هسافر لوحدي.
======
وقف في نافذة غرفته في الفندق يرمق البحر بنظرة طويلة حانقة...
بقدر ما يعشق مظهر النيل الذي يذكره بالعودة ل"الجذور"
بقدر ما يرهب البحر ويخشاه!
يخشاه وهو يذكره بكل خيباته ...
بكل غدرات القلب التي نالها بظاهر صامد وباطن كسير!
البحر هو أنانية بيللا وغدر بسنت وتسلط سيلين...
والنيل...هو ...هو ياسمين ...لو جاز له هذا التشبيه!!

زفر بقوة عند الخاطر الأخير وهو يتذكر كيف غادر القاهرة بالأمس قبل ميعاده المفترض دون أن يمنحها حتى فرصة للتراجع عن قرارها بالبقاء هناك!
عنيد مكابر أناني...ربما !
وربما هو فقط مجرد عاشق لدغ من جحر النساء كثيراً ولم تعد له طاقة بمجرد خدش جديد!
رن هاتفه بنغمته التي خصصها لها فالتفت نحوه ببعض الحدة قبل أن يقرر تجاهله...
منحنى غرامها الذي كان في صعود حتى بلغ قمته ...يشعر الآن أنه يأخذ طريقه في الهبوط...وكيف لا؟!
وتشبثها بعملها يذكره بفعلة أمه القديمة!!
أجل...ليلتها لم يرَ "العاشقة" التي طالما أبهرته بغمار عاطفتها ...
بل رأى"الزوجة" التي فضلت عملها على زوجها ...
رأى بيللا في صورة جديدة ذكرته بخساراته!!

كوابيسه الليلة السابقة لم ترحمه رغم أنه كان اليوم الأول الذي يفوت فيه صورة للصغير بعدما أغلق بريده الاليكتروني ...
كوابيس كانت تخصها هي وحدها...
وقد تخلت عنه لتتبدل صورتها لصورة بسنت...الغادرة!

انقطعت أفكاره عند سماعه صوت طرقات الباب فنظر في ساعته التي أشارت للرابعة عصراً...موعد الغداء...
لكن من يملك الشهية هاهنا؟!
شهيته هناك...مع طعامها...هي!
لهذا تجاهل الطرقات عامداً لكن إصرار الطارق جعله يتوجه نحو الباب ليفتحه بعصبية ...
قبل أن تتسع عيناه بدهشة وهو يراها هي أمامه!
لحظة واحدة هي كل مااستغرقتها دهشته قبل أن يجدها فجأة أسيرة ذراعيه !

_حرام عليك...كنت هاموت من القلق...ما بتردش على موبايلك ليه؟!

غمغمت بها بين دموعها التي لا تملكها حال انفعالها كالعادة وذراعاها الرقيقتان تطوقان خاصرته بكل قوتها...
لكنه لم يتمكن من الرد مع هذا الانفعال الذي كان يعصف به وهو يجدها
أمامه!
أين ذهب غضبه وحقده؟!
وساوسه ،شكوكه؟!
أين ذاك الحديث "الخائب" عن تشابهها مع الغادرات به قبلها؟!!
كل هذا الآن هشيم تذروه الرياح!!

_طيب...أول قرار دكتاتوري مني أنا...مفيش سفر بعد كده لوحدك ...مهما حصل!
قالتها بصوتها المرتجف الذي تلبسته الآن قوة عشقها ثم لم تدرِ ما الذي حدث بعدها !
صوت الباب يغلق خلفها بينما هو يجذبها نحوه لتذوق معه أعنف وألذ عناق صادفته قبلاً!!
لم ينطق بحرف...لكن جسده كله كان يصرخ...
يصرخ اشتياقاً...احتياجاً...عاطفة.. .و عُتباً!!
قبلاته العاصفة كانت أكثر جموحاً وهي تدوخها بهذا الدوار الشهي الذي لم تعرفه في حياتها إلا معه !
شعورها بالزمان والمكان يتلاشى فلا تكاد تعي سوى حرارة إحساسه...
لو كان قال لها ألف قصيدة عشق وشوق لما وصلها ربع هذا الشعور الذي اكتسحها الآن ...
دوامة!
هي حقاً دوامة انتهت بهما معاً فوق الفراش وكلاهما منغمس فيها حتى النخاع...
_آه!
صرخت بها فجأة وهي تستعيد إحساسها فجأة مع هذا الألم الذي شعرت به عندما انغرس دبوس حجابها في عنقها ليرفع هو وجهه نحوها بقلق هاتفاً:
_فيه إيه؟!
رمقته بنظرة مذعورة عاد إليها خوفها القديم وهي تسترجع ألماً مغايراً في ذكرى مشابهة ...
بينما تحسس هو رقبتها ليحل عنها حجابها بحذر مردفاً بنبرة ضائقة:
_أنا آسف!
قالها ثم مسد عنقها برفق وأنفاسه اللاهثة تعكس بركان عاطفته ...
لتنظر هي إليه مبهوتة...
كل الذي كان يملأ رأسها الآن أنه قد تحكم في نفسه كي لا يؤذيها !
صرخة واحدة منها كانت كفيلة بإيقافه...
هو ليس مثلهما ...ليس مثلهما!!
يامن لن يؤذيها أبداً!

لكنه لم يكن يميز وسط فوضى ملامحها سوى نظرتها الوجلة التي جعلته يبتعد ليقوم ويعطيها ظهره محاولاً السيطرة على جموح إحساسه بخيبة متوقعة...
والغريب أنها -ولأول مرة- كانت تشاركه هذه الخيبة!!!
أجل...لأول مرة يتخلل شعورها بالذعر شعورٌ آخر...
باللذة الراضية!
لهذا نهضت بدورها لتربت على كتفه فالتفت نحوها ...
تيارات العشق في عينيها تجرف كل مشاعره السلبية الآن ...
ابتسامة واهنة يشتد عودها رويداً رويداً على شفتيه ليجذبها نحوه من جديد مقبلاً وجنتها بعمق ...
بينما أنامله تعزف لحنها الخاص بين خصلات شعرها ليسألها أخيراً وهو يتلفت حوله:
_فين شنطتك؟!
لكنها هزت رأسها لتجيبه بعفويتها المنطلقة:
_ماجبتش حاجة...حتى مافكرتش ...فجأة لقيتني بسيب كل حاجة ورايا وبركب العربية وبسوق على هنا .
ورغم سعادته الطاغية بهذه اللهفة منها لكنه تمالك صوته ليقول بنبرة محايدة :
_وشغلك؟!
_مش مهم...كل حاجة مش مهم...دقيقة واحدة معاك أغلى عندي من أي حاجة في الدنيا.
قالتها بصدق حار وهي تدفن وجهها في صدره مشددة ضغط عناقها حوله فضمها إليه بقوة أكبر وهو يكاد يصرخ من فرط مشاعره...
لكن صرخته لم تكن سوى في آهة عميقة تبعت همسه الدافئ:
_وبعدين في كلامك ده؟!
_ده مش كلام ...وانت عارف.

همست بها بيقين وهي ترفع عينيها إليه بسهام عشقها التي ما عاد يملك له معها حول ولا قوة...
قبل أن ترفع أناملها لتتحسس ملامح وجهه هامسة بقلق أم تطمئن على ابنها الغائب:
_نمت كويس امبارح؟!
_مش باين عليّ؟!
قالها بنفس النبرة المتشحة بعاطفتها فرفرفت رموشها وهي ترى احمرار عينيه المرهقتين لتعاود غرس رأسها على صدره مع همسها:
_أنا كمان ما نمتش ولا لحظة ...وحشتني...وحشتني قوي!

أغمض عينيه بقوة وهو يشعر أنه يفقد قدرته على الصبر مع "ألغام" مشاعرها التي تفجرها وسط صمت أعماقه هذا واحدة تلو الأخرى ...
لم يكن عناقه بعدها مجرد عناق ...
ذراعه كان يضغط ظهرها لصدره صعوداً وهبوطاً وكأنما يريدها أن تنفذ لداخله...
أن يزرعها بين ضلوعه وبعشقها المجنون هذا يرمم ما تساقط من جدار "أمانه"...
يسد ثغرات ماضٍ...ويفتح أبواب غد...واليوم...
اليوم لها ...وبها...ومعها!

وأخيراً أبعدها ليحتضن وجهها بين كفيه وشفتاه تنثران على ملامحها زهرات قبلاته الناعمة...
زهرات أينعت بين جنباتها لتمنح وجهها ربيعاً بعد ربيع...
فيبتسم هو أخيراً وهو يشعر معها أن جنة العشق لا ترتبط برضا"جسد" بل ب"تحليق" قلب...
وما أوسع من سمائها هذه كي يطير بها قلبٌ كقلبه ملّ جحيم قضبانه ؟!
ردت له ابتسامته بأخرى وهي تميل وجهها لتقبل راحته المحتضنة
لملامحها ...
ثم أزاحته برفق لتقف هاربة من فوضى مشاعرها الصاخبة مدعية تفحص الغرفة بقولها :
_دافية قوي الأوضة هنا...بعشق لون الجدار ده ...بحس إنه بيحضنني!

رفع أحد حاجبيه باعتراض غيور وهو يتطلع للون الجدار الذي مزج البرتقالي الغامق مع البني بخطوط طولية رفيعة...
ثم وقف بدوره ليجذبها نحوه من جديد ضارباً جبهتها بجبهته مع قوله العابث:
_ولما الجدار يحضنك أنا أعمل إيه ؟!
ضحكت بسعادة غامرة لتتنهد أخيراً وهي تدفعه برفق قائلة :
_هحتاج آخد دش...وأناااام.
التمعت عيناه بإشفاق واضح وهو يرى ملامحها المجهدة فربت على وجنتها برفق ليراها تتجه نحو الحمام المرفق بالغرفة...والذي أغلقته خلفها...
ملامحه تتعلق بالباب المغلق ليشتعل جحيم جوارحه من جديد
بخيالاته ...
قبل أن تخرج هي مرتدية نفس الملابس وقد تزايد الإرهاق على
ملامحها فاستلقت متهالكة على الفراش لتهتف بنبرة مرهقة:
_ماعدتش قادرة...عينيّ بتغمض لوحدها.
اتسعت ابتسامته المشفقة وهو يقترب منها ليجلس جوارها على طرف الفراش قائلاً بمرحه العابث:
_نايمة بهدومك دي ليه؟! كنتِ أخدتِ حاجة من عندي...مش هتفرق كتير عن بجامات "فطوطة" اللي بتلبسيها في البيت.
ضحكت لتشبيهه وجفناها ينطبقان رغماً عنها لتقول بصوت ناعس:
_شكلي هاضطر لكده فعلاً بس لما أصحى....ما تسيبنيش أنام كتير ...ساعة واحدة بس عشان نلحق بقية اليوم.
ضحك فجأة وهو يزيح خصلة من شعرها تسللت فوق عينيها ففتحتهما بصعوبة هامسة بنفس النبرة الناعسة:
_بتضحك ليه؟!
_افتكرت قصيدة عجبتني قوي لكريم العراقي...لدرجة إني حفظتها !
قالها ببعض الخجل الذي لن تشعر به إلا خبيرة به مثلها فابتسمت لتقول بدهشة:
_يامن حمدي بيحفظ شعر؟! يا نهار أبيض!! من ورايا؟!

ضحك ضحكة أخرى وهو يشيح بوجهه لكنها أمسكت كفه لتضعه على صدرها في موضع القلب تماماً مع همسها الناعس:
_عارفة إنك هترفض تقولهالي كده بالساهل...بس عشان خاطري...عايزة أسمعها بصوتك لحد ما أنام.
أطرق برأسه للحظات متردداً لتعاود همسها الذي اكتسب الآن بعض الثقة من مشاعره:
_لو ماقلتهاش مفيش حدوتة النهارده بالليل...هتقدر تنام من غير حواديتي ليلتين ورا بعض؟!
_ما بتهددش أنا!
قالها وهو يقرص أرنبة أنفها برفق فتأوهت بدلال لتهمس وعيناها تناجيان عينيه بغرامهما الفتيّ:
_بس هتقول عشان خاطري.
تنهد بعمق بينما كورت هي قبضتها الصغيرة على أنامله فوق صدرها ليعاود جفناها انسدالهما تلقائياً فابتسم رغماً عنه ليقول قصيدته..

لما استعارت معطفي
فورا تغير موقفي
يا برد أينك من دمي
أنا شعلة لا تنطفي
* * *
الكل من حولي هتف
برد مخيف وارتجف
وأنا عن الكل اختلف
في داخلي دفء خفي..
فهي استعارت معطفي
* * *
يا معطفي ما أسعدك
قُربي وما.. ما أبعدك
حاولت أن لا أحسدك
يا ليتني أنا معطفي..
يا للهدوء العاصف
* * *
قالت أعطرك أجنبي؟
بالله لا تستغربي
هو عطر قلبي الطيب
قالت بكل تلطف..
تبدو الحنون العاطفي
* * *
وتغامزوا من حولنا
فالحب أصبح معلنا
وسألت روحي هل أنا
محبوبها أم معطفي؟
أين الدليل لأحتفي؟


كانت تسمعه بين يقظة ومنام وهي لا تكاد تصدق أنه تجرأ ليقول لها شعراً!
ابتسامتها تتسع رغم إغماضة عينيها لتتمتم بصوت متباعد بين يقظة ونوم:
_ذوقك حلو وشقي زيك... يا "طيب"!
كانت هذه آخر عبارة وعتها قبل أن تسقط في نوم عميق فظل يرمقها بنظراته العاشقة لدقائق لم يدرِ عددها ...
قبل أن ينتبه إلى أن خامة قميصها الخشنة وسروالها من "الجينز" لن تكون مريحة للنوم -أو هكذا أقنع نفسه- وعيناه تلتمعان بعبث ماكر لتختمر فكرة ما في رأسه قام لتنفيذها الآن...
=======
فتحت عينيها لتشهق بدهشة وجلة وهي تجد نفسها ترتدي إحدى
"تي شيرتاته" القطنية السوداء -كالعادة- ، دون سروال...
أجل لم يبدُ جسدها الضئيل مقارنة بجسده الضخم يحتاج لأكثر من هذا وال"تي شيرت" يصل لما فوق ركبتيها بقليل ...
صوت ضحكاته المتشفية جوارها وهو يقف جوار النافذة المغلقة عاقداً ساعديه يثيرها وهي تلتفت نحوه لتهب من نومتها هاتفة :
_أنا غيرت هدومي امتى؟!
ظل يضحك من سذاجتها للحظات جعلتها تضيق عينيها بشك قبل أن تقف لتتوجه نحوه وقد احمرت وجنتاها بانفعالها الخجول الذي ناسب هتافها :
_ما تقولش إنك عملتها!!
_حاضر مش هاقول.
قالها بحاجبين متراقصين مشاكساً فغطت وجهها بكفيها خجلاً لتغمغم من بينهما:
_ياربي...انت مش ممكن!
لكنه اقترب منها ليزيح كفيها عن وجهها المحترق بخجله قائلاً بنفس النبرة المشاكسة:
_خير تعمل شر تلقى...الحق عليّ يعني صعبتِ عليّ تنامي بهدومك التانية !
خبطته بقبضتها برفق على صدره لتتمتم بعتاب خجول:
_والله؟! فيك الخير!
ضحك بانطلاق وهو يضمها نحوه ليقبل شعرها الحبيب فوق قمة رأسها فيخفق قلبها بعنف وهي تخفي وجهها في صدره خجلاً ...وسعادة!
هي لا تدري ما الذي فعله بها لتتبدل مشاعرها السلبية نحو "تماسّهما الجسدي" بهذه الطريقة...
رهابها الذي كان يوشك أن يكون مَرضياً يكاد يتلاشى الآن مع طوفان عاطفته الذي يكتسحها ...
ببطء لكن بثبات كما يقولون...تشعر بجدران خوفها تتصدع مع طرقه الناعم عليها...
براعم أنوثتها تعاود التفتح ببطء تحت شمس مشاعره التي لا يعبر عنها بكلامه الفقير ...بل بأفعاله الجامحة...
بالأمس عشقته مراهقةً خجول...
واليوم تعشقه بصورة أخرى...
صورة امرأة لم يمس ثغرات أنوثتها غيره!
وعند خاطرها الأخير عادت صورة طليقها تجتاحها بعنفوان اعتادته...
لكنها هذه المرة كانت تملك من القوة ما يجعلها تزيحها عن ذهنها قسراً لتتشبث بعناق حبيبها أمامها وهي ترفع عينيها إليه لتنهل من نظراته الحنون ما يروي ظمأها...
وقح ؟!
نعم...كثيراً...كثيراً جداً في الواقع...
لكن ربما هذا بالضبط هو ما تحتاجه من مثلها كي تتجاوز سدود عقدتها...
لهذا ارتجفت شفتاها بابتسامة رقيقة جعلت من وجهها المتورد آية للحسن عندما رفع ذقنها نحوه ليتأمل ملامحها بشغف حار ثم أبعدها
قليلاً ليتفحصها تحت نظراتها الذائبة بخجلها ...
قبل أن يدير ظهرها نحوه ليدفعها نحو المرآة القريبة بقوله العابث:
_اشمعنا هنا ماقلتيش شكراً يا طيب بتاعتك دي؟! عموماً لو مش عاجبك احنا فيها ...أغيرهولك حالاً!
قالها مهدداً وهو يرفع طرفه فشهقت بحدة لتمسك كفيه هاتفة بسرعة:
_لا لا لا...عاجبني !
_أيوه كده...نعيش اللحظة بقى!

قالها ضاحكاً بمكر فرمقته بنظرة عاتبة خجول ثم رفعت عينيها نحو المرآة تتأمل شكلها بتفحص...
ورغم أنها كانت شبه غارقة فيما ترتديه لكنها كانت تشعر بشعور غريب وهي ترى قميصه يطوقها برائحته الحبيبة العالقة فيه...
شعور حميمي غريب يدغدغها بلطف وهي التي ظنت أنها اختبرت معه أقصى درجات العشق...
والآن تفاجأ بالمزيد!!
العجيب أن إحساسها كان واضحاً كالشمس على ملامحها التي نقلت له الصورة كاملة دون نقصان...
فطوقها بساعديه من الخلف لينحني برأسه على رأسها وهو ينظر إليها عبر المرآة هامساً بنفس النبرة العابثة:
_هتخلليني أغير ذوقي في هدومي ...المرة الجاية هاعمل حسابك معايا في كام تي شيرت ملونين!
اتسعت ابتسامتها الخجول وهي تراقب صورتهما في المرآة بفرحة تقافزت لها دقات قلبها ...
خاصة مع هدايا شفتيه السخية التي انهمرت ناعمة دافئة حلوة كقطرات ندى على بتلات ورد ...

إحساسها الجديد به يتراقص بين ضلوعها بتلك اللذة المستحدثة...
فتغمض عينيها وكأنها تخشى أن يكون كل هذا مجرد حلم تحرمها منه قريب يقظة ...
أناملها تحتضن ساعديه على خصرها بقوة فيخفق قلبه أكثر وهو يشعر بتجاوبها الغريب على نفورها القديم ...
يبتسم أخيراً برضا وهو يديرها نحوه ليهمس لها بأسف:
_هاضطر أسيبك ساعة واحدة بس عشان زمايلي عايزينني تحت...وبعدها هنروح مكان ما تحبي.
_خدني أي مكان نشوف البحر ...نفسي من زمان أروحه معاك.
قالتها بلهفة ليبتسم وهو يهز رأسه بقوله:
_تعرفي؟! قبل ما تيجي هنا بشوية كنت ببص للبحر وبفتكر أد إيه ما بحبوش.
فارتفع حاجباها بدهشة للحظة قبل أن ترفع ذراعيها لتتعلق بعنقه هامسة بدلال واثق:
_تؤ...ده كان زمان...إديني فرصة المرة دي وهاخلليك تعشقه زي مابعشقه.
_هنشوف يا غلباوية!
قالها بتحدٍ عابث وهو يقرص وجنتها مشاكساً ثم منحها هدية ناعمة على شفتيها قبل أن يغادر الغرفة تلاحقه نظراتها المفعمة بعشقها ...

وبعدها بقليل كانت تجاوره في جلستهما على أحد شواطئ المعمورة يراقبان الغروب ...
أناملهما متشابكة ...عيناها متعلقتان بالبحر وعيناه متعلقتان بها هي...
صمتها الآن كان غريباً على طبيعتها المنطلقة بعفويتها ...
لهذا قرب كرسيه منها أكثر قائلاً بحنان امتزج بقلقه:
_ساكتة ليه؟!
التفتت نحوه لتروعه هذه الدموع التي تجمعت في عينيها دون أن تسقط ...
فانعقد حاجباه ليضم كفها عفوياً لصدره مردفاً:
_مالك؟!
أخذت نفساً عميقاً ثم أسندت جبينها لكتفه هامسة :
_افتكرت ماما الله يرحمها...آخر مرة جيت فيها الاسكندرية وقعدت فيها قعدة زي دي كانت معاها .
_واضح إنك كنتِ مرتبطة بيها قوي.
همس بها بحنان وهو يمسح دمعة سقطت من طرف عينها فرفعت وجهها إليه لتقول بشرود:
_هي اللي علمتني أبقى قوية ...هي اللي زرعت جوايا الطموح والتفاؤل والثقة في نفسي وفي الناس...كانت عارفة إنها بتربي لوحدها من غير أب يسند عشان كده كان كل همها إنها تبني بنت ما تتكسرش ولا تحتاج حد ...تعرف لو كانت عايشة عمرها ما كانت هتوافق إني أتجوز واحد زي رامي بالطريقة دي وبالسرعة اللي...
_ما تجيبيش سيرته ولا حتى تقولي اسمه...انتِ فاهمة؟!
هتف بها بحدة مفاجئة يقاطعها لترتجف بين ذراعيه مأخوذة للحظة قبل أن تشيح بوجهها ...
فأطلق سباباً ساخطاً ثم زفر زفرة مشتعلة قبل أن يعيد وجهها نحوه
قائلاً بعينين متقدتين غضباً:
_ماتزعليش مني بس أنا دمي بيفور لما بتيجي سيرة الحيوان ده.
أغمضت عينيها بحزن دون رد فعاد يزفر من جديد ...
ثم صمت قليلاً ليقول وكأنه يسترضيها:
_إيه أجمل حاجة كنتِ بتعمليها مع مامتك على البحر؟!
ظلت مغمضة عينيها للحظات قبل أن ترتسم على شفتيها ابتسامة حزينة وهي تفتحهما بقولها :
_مش هتصدق!
ابتسم ليحثها على البوح فعادت تغمض عينيها لتغمغم بشرود مسه الشجن:
_أجمل حاجة كنت بحبها منها على البحر لما كانت بتعلمني أعزف على الكمانجا...كانت عندها هواية من أيام باباها الله يرحمه...ورثتها عنه وورثتهالي...بس من ساعة ما ماتت ماقدرتش أمسكها بعدها...
ثم ضحكت ضحكة قصيرة لتستطرد ولازالت مغمضة العينين:
_الناس اللي على الشط كلهم كانوا بيتجمعوا حوالينا يسمعونا ...ناس تستغرب وناس تسقف...وناس تنتقد...بس ماما عمرها ما حطت في
بالها كلام الناس...كل همها كان أنا وبس...كانت دايماً تقوللي :أنا بعمللك جنة من الذكريات عشان لما ييجي بكره بناره تلاقي اللي يسندك...كأنها كانت حاسة إنها هتمشي وتسيبني.
هنا سالت دموعها على وجنتيها رغماً عنها فضمها لصدره بذراعه ليقول لها بتأثر غلبه:
_أنا حبيتها من كلامك عنها ...الله يرحمها.
لكنها مسحت دموعها بسرعة كعادتها لتهزم ضعفها بضحكة مصطنعة مع هتافها:
_أنا بعمل إيه بس؟! مالي قلبتها غم كده ليه ؟! أنا جايباك هنا عشان أغير رأيك في البحر .
ابتسم بعمق عاطفته وهو يقبل رأسها مدركاً محاولتها البائسة لتجاوز حزنها ككل مرة ...
قبل أن يشاكسها بقوله العابث:
_عشان أنا طيب بس...ممكن أسمحلك بفرصة تانية ...اتفضلي الميكروفون مع حضرتك.
فجارته مزاحاً بمزاح لتخبطه برفق على ظاهر كفه بقولها :
_ده بدل ما تقوللي كفاية وجودك جنبي هنا عشان أحب البحر زي ما بحبك.
قهقه ضاحكاً للحظات فعادت تخبطه على كفه بعتاب مازح...
ليهتف هو بها :
_طب بذمتك...عمرك تصدقي إني ممكن أقول الكلمتين دول؟!
فتنهدت بحرارة لتعود برأسها للوراء مستندة على ظهر كرسيها مع قولها الشارد:
_ليه لا؟! كل اللي حلمت بيه معاك اتحقق...
ثم عادت تلتفت إليه مردفة:
_مش هيأس منك ...وراك وراك لحد ما تقولها بلسانك زي ما بتقولها بعينيك.

ابتسم بما بدا كسخرية لكنها كانت تفهم بخبرتها ما وراء ابتسامة كهذه...
فتناولت كفه لتبسطه على راحتها ثم شرعت ترسم عليه بسبابتها رمزهما المميز الذي اخترعته له منذ عشقته...
حرف الياء بالعربية الذي ينثني طرفه ليصنع شكل القلب الشهير ...
ورغم بساطة حركتها لكنه شعر بها تعصف بكيانه ...
كل ما فيها سهل...بسيط...سلس...كأنفاسه عندما تدخل صدره وتغادره...
لكنه فخم...عظيم...مقدس...ك"سر الروح" الذي لم يفطن إليه أحد !

لهذا مد أنامله الحرة ليحتضن كفيهما معاً فرفعت إليه وجهها لتتعاطى العيون ما بخلت به الألسنة ...
دقيقة...اثنتان...عشرة...أو ربما مائة...
لا جدوى للعدد هاهنا...فهذه اللحظات تفر كاللص من حساب الزمن...
لكنها كانت أول من انتبهت من سكرتهما العاطفية هذه عندما عم الظلام ليرتجف صوتها وهي تغمغم بقلق صار يتفهمه:
_الدنيا ضلمت ياللا نمشي.
ابتسم مشفقاً وهو يدرك خوفها من الظلام ليقوم معها ولايزال يقبض على كفها ...
فيسير معها على الرمال صامتاً لبعض دقائق ...
قبل أن يقول لها ما بين جد وهزل:
_لو جينا هنا تاني ممكن أغير رأيي في البحر.
ابتسمت وهي تلصق نفسها به أكثر فضغط كفها في راحته ليردف بنبرة أكثر مرحاً:
_ولو في يوم ربنا رزقنا ببنت...معنديش مانع تعلميها عزف الكمانجا...

خفق قلبها بقوة وكلماته تنعش أملاً خفياً في نفسها ...
أملاً تخشى حتى مجرد تصديقه...
وتتركه -طوعاً وقسراً- فريسة سهلة لهواجس ماضيها!!
فدمعت عيناها بألم وليد أمل ...
لكنه نجح في انتزاع ابتسامتها من جديد بقوله المشتعل بفظاظة غيرته:
_بس هادفنكم سوا لو عزفتي معاها ع الشط قدام الناس!
========
_مفاجأة!!
هتفن بها جميعاً في نفس الوقت فانتفض مندهشاً وهو يفتح باب شقته ليجد أمه وبنات خالته وأشرف مع ياسمين ملتفين حول مائدة السفرة التي اعتلتها كعكة عيد ميلاد كبيرة...
فابتسم رغماً عنه لكنه كتم رضاه خلف ملامحه الجادة وهو يتقدم منهم قائلاً باستنكار مصطنع:
_إيه ده ؟! هو أنا لسه عيل صغير بتعملوا له عيد ميلاد؟! من امتى أنا بتاع الحاجات دي؟!
_قلت لهم كده ...هي اللي صممت!
هتفت بها داليا بتحفز مشيرة لياسمين التي التفتت نحوه لتقول برقتها المعهودة:
_ده أول عيد ميلاد لك واحنا مع بعض ...حبيت يكون مختلف.
ورغم الامتنان الطاغي الذي شع من نظراته لكنه تجاهل الرد وهو يصافح أشرف بقوله:
_حتى انت يا "عاقل" مهاودهم على الجنان ده ؟!


ابتسم أشرف ابتسامة شاردة أقلقته وهو يشعر بشيء ما غريب في
ملامحه لكن هانيا جذبت انتباهه أكثر عندما تقدمت منه لتصافحه هاتفة بحرارة :
_كل سنة وانت طيب يا يامن.
_فين رامز ؟! ما جاش ليه؟!
سألها وهو يتلفت حوله فتغيرت ملامحها للحظة قبل أن تبتسم بتصنع لتجيبه:
_مشغول شوية ...معلش.
رمقها بنظرة متفحصة وهو يشعر أنها هي الأخرى تخفي عنه شيئاً فانفرجت شفتاه وهو يهم بسؤالها لكنه ما كاد يفعل حتى بادرته نبيلة بقولها :
_كل سنة وانت طيب .
ربما في ظروف أخرى ما كانت عبارتها لتجد كل هذا التأثير في قلبه...
لكنه -وللعجب- وجد في نفسه صدى غريباً لكلماتها...
ربما هو الدفء الذي شعر به يطوق حروفها ...
دفء غريب على برودة علاقتهما المعهودة...
دفء لم ينل نصيبه من كلماتها فحسب بل من نظرات عينيها التي التمعت ببريق حقيقي ...وكأنه بريق دموع!
لهذا اتسعت عيناه قليلاً وهو يرد عليها رداً تقليدياً بينما يمد يده إليها مصافحاً كالعادة ...
هل هيئ إليه أنها اندفعت بجسدها قليلاً ...قليلاً جداً للأمام وكأنها ستعانقه ؟!

ربما...
ابتسامتها المرتجفة على شفتيها تقول :نعم....
لكن كبرياءها العنيد في نظراتها يقسم أن...لا!
لهذا تجمد مكانه للحظات قبل أن يصافحها تقليدياً وعيناه العنيدتان تتحاشيان عينيها ...

_ياللا نطفي الشمع.
هتفت بها ياسمين بسعادة وهي تتأبط ذراعه لتتقدم به نحو المائدة فمال على أذنها هامساً بنبرة متوعدة لم تخلُ من مرح:
_خفي الدلع شوية ...أشرف موجود.
أومأت برأسها في طاعة فرحة بغيرته كالعادة فابتسم وهو يتفحصها بنظراته ...
ثوبها الفيروزي الهادئ الذي غطى جسدها الضئيل كاملاً والذي أضفى ظلاله على عينيها العسليتين ليمنحهما طيفاً سماوياً زادهما فتنة...
ورغم أن حجابها العريض الذي غطى مقدمة صدرها أرضى غيرته لكنه أفسد عليه مزاجه العابث الذي كان يشتهي التدقيق كما يجب ...

_حلو قوي فستانها ...صح؟!
قالتها نبيلة بمكر أنثوي وهي تلاحظ تعلق نظر ابنها بزوجته فتنحنح ليقول بخشونة:
_كويس.
قالها وقد ساءه أن تلفت عبارة أمه نظر أشرف إلى ياسمين التي كانت تفهم شعوره من خبرتها القديمة به لهذا غيرت الموضوع بسرعة:
_أنا اللي عاملة كل حاجة بإيدي ...بجهز من امبارح .
توهجت عيناه بإعجاب وهو يطالع المائدة أمامه ...
والتي افترشتها العديد من الأصناف تتوسطها كعكة كبيرة بالشيكولاتة السوداء اعتلتها صورة مبتسمة له -كما اتفق- وقد زينت طرفها ب"رمزهما" المميز لحرف الياء الذي تقدسه ...

_تسلم إيديكِ .
قالها جميعهم عدا داليا التي أعمتها غيرتها كالمعتاد...
وعداه هو الذي ود لو يغيرها بقوله:"يسلم قلبك"!

أجل...هو أكثر من كان يدرك الآن أنها صنعت كل هذا مدفوعة بعشق قلب ليس كأي قلب!
هنا تعاود وساوسه مهاجمته...
ذكريات متباعدة من كوابيسه الليلية المعتادة تجتاحه بقسوة...
لكنه يغمض عينيه بقوة مقاوماً جحيم نفسه ليسمعهم جميعاً يغنون أغنية عيد الميلاد الشهيرة...
قلبه يرتجف بفرحة لم يعرفها من قبل بهذا العمق...
عيناه تدوران بينهم كتصوير "كاميرا" بطيئ...
تتمهلان على ملامح كل فرد فيهم وكأنه يتشبث بهذا الحب ...
ملامحه شبه متجمدة صلبة كعهده...
وحدها روحه تُحلّق!

يفتح عينيه أخيراً ليشعر بكفها يحتضن كفه ...يلتفت نحوها بابتسامة حب تسع الكون كله...
فتجزيه عنها عيناها جنة من عشق سرمدي!

_طفي الشمع.
قالتها بصوت يتراقص سعادة فانحنى بجذعه معهم ليطفئوا جميعاً شموع الكعكة التي وضعتها ياسمين بعدد سنوات عشقها له...
وحده هو وهي كانا يدركان سر العدد...
وبعيداً عن تأقلم لسانيهما التقليدي مع الحضور ...
كان قلباهما يتراقصان معاً رقصتهما الخاصة وحدهما !

وفي مكانها وقفت هانيا تقلب بصرها بين يامن وزوجته...ورانيا وزوجها ...
نظراتها تفضح حسرة وعجزاً عجزت عن كظمه وهي تشعر بغصة في حلقها ...
هي تحاول تغييب عقلها عن وعيه منذ تلك الليلة العصيبة التي تركت فيها رامز في حفل الزفاف مع غادة...
غادة البائسة التي ملت كثرة اتصالاتها لها بينما ترد عليها هي باقتضاب متعللة بانشغالها في المذاكرة...
لا بالطبع لم تخبرها عما سمعته تلك الليلة...
ولن تفعل!
كبرياؤها لن يسمح لها أن تضع نفسها في هذا الموقف!
هل تشك حقاً بوجود مشاعر ما بين صديقتها وزوجها؟!
لا...نعم...بل...ربما!!
هي لا تدري...لم تعد تدري...
هي تعرف الكثير عن سلبية غادة وضعف شخصيتها ...
فكيف لو ترافق هذا مع ماضي زوجها الذي اعترف به بنفسه ؟!

هل خانها رامز حقاً ولو بعقله؟!
هل وجد ضالته المنشودة في دلال امرأة مع مغناج بطبيعتها كغادة ؟!
هل نفد رصيد عشقها هي الذي كان يدعيه؟!
هل ستواجه أسوأ مخاوفها بفقده كما كانت تخشى؟!

_تعالي معايا يا هانيا.
شهقت بعنف لتفيق من شرودها على عبارة يامن خلفها فالتفتت نحوه لتطالعها عيناه القلقتان ...
ازدردت ريقها بتوتر وهي تسير خلفه مبتعدين عن الحضور حتى وصلا إلى الشرفة الخارجية فبادرها بقوله :
_فيه إيه بقا بالضبط؟! وإياك تقولي مفيش!
راودتها نفسها بالكذب للحظة لكنها كانت تحتاج حقاً من تبوح له بمخاوفها ...
فتنهدت بحرارة لتحكي له ما حدث كما تراه...
ظل صامتاً يستمع إليها بصبر ولم تكد تنتهي من سرد موقف ليلة الزفاف الأخير حتى هتف بها بحنق:
_وطبعاً هربتِ وسبتِ الأمور متعلقة من يومها!
_ماقدرتش أواجهه يا يامن...ماقدرتش!
هتفت بها لتنهار في البكاء فجأة فزفر بقوة ليقترب منها أكثر بقوله الحازم:
_دي غلطتك من الأول وأنا حذرتك...ماينفعش تحطي البنزين جنب النار وبعدين ترجعي تستغربي.
انخرطت في بكائها أكثر فرق لها قلبه ليصمت قليلاً قبل أن يعاود سؤالها بنبرة أكثر رفقاً:
_ما كلمكيش من يومها؟!
هزت رأسها نفياً وهي تمسح دموعها لتغمغم بعجز:
_أبداً...كأنه ما صدق .
عقد حاجبيه بغضب ليهتف بحمائيته المعهودة:
_وأنا مش هاسيبه معلقك كده .
_هتعمل إيه؟!
هتفت بها بذعر أبت الاعتراف به فزم شفتيه بقوة ليهتف بها :
_لسه باقية عليه؟!
اتسعت عيناها قليلاً مع ارتجافة شفتيها وهي لا تعرف الإجابة...
_قولي آه أو لا!
هتف بها بحزم لترد بمواربة:
_لو اتأكدت إنه فعلاً خانني أكيد مش هافضل مع راجل خاين.
_هو ده اللي كنت عايز أسمعه بالضبط!


قالها ملوحاً بسبابته في وجهها ليردف بنفس الحزم:
_"لو اتأكدتِ" دي !....و دي بقا مش هتيجي لحد عندك وانتِ حابسة نفسك وسط كتبك ومذاكرتك ودافنة راسك في الرمل ...عشان كده لازم أتكلم معاه عشان أشوف نيته وأسمع منه .
_لا!
هتفت بها قاطعة لتردف بصوت عادت إليه قوته:
_مش هاخد أنا الخطوة الأولى يا يامن...لو كلمته انت هيقول إني ضعفت وبجرّ ناعم...أرجوك ...عشان خاطري سيبني أنا أحلها.
_هتعملي إيه ؟!
_هتأكد أنا بطريقتي ...ولو طلع اللي في دماغي صح...مش هافضل على ذمته لحظة واحدة .
قالتها صارمة وكأنما تلبستها روح امرأة أخرى غير هذه التي كانت تبكي منذ قليل ...
فأطرق برأسه قليلاً ثم رفع إليها عينيه بقوله الآسف:
_كان نفسي أخالفك في قرارك...بس...إلا الخيانة...دي بالذات ما بسامحش فيها لا ليّ ولا للّي يخصني.
عادت عيناها تدمعان لكنها تصنعت التماسك لتمنحه ابتسامة واهنة مع قولها:
_ما تقلقش عليّ...انت عارفني شبهك...ما بتكسرش.
التوت شفتاه بابتسامة ساخرة حملت مرارته وهو يرمقها بنظرات مشفقة...
هؤلاء الذين يدعون أنهم أقوياء لا ينكسرون هم أول من تحطمت حصون بواطنهم فلم تذر سوى قشرة واهية !
لهذا تنهد أخيراً بحرارة وهو يود لو يخبرها :
_وعشان شبهي ...خايف عليكِ تتكسري.
لكنه استبدلها بعناد يماثل عناد كبريائها:
_أيوة كده...هي دي هانيا اللي أنا عارفها .
اتسعت ابتسامتها المصطنعة وهي تغير الموضوع بقولها:
_سيبك من كل ده...كل سنة وانت طيب...أنا فرحانة قوي عشانك...ياسمين شكلها فعلاً بتحبك قوي.

ابتسم وهو يلتفت برأسه للداخل فجأة يبحث عنها ليجد عينيها كالعادة تلاحقانه...وكأنما لا تريان غيره !
عجباً ...هو يشعر أنه اشتاقها في هذه الدقائق القليلة التي قضاها مع ابنة خالته ...
لكن اشتياقه لا يُقارن بهذه النظرة العميقة في عينيها التي ترمقه بها...
وكأنه تركها منذ مائة عام.
إلى متى سيظل يشعر أنها تتفوق عليه عشقاً؟!
مركزها الأول على قمة هرم الحب لا يبدو أنه سيتمكن يوماً من منافستها فيه!
لكن...هل يريد حقاً أن يفعل؟!
لا...فلتعشقه حتى تبلغ حدود منتهاها ...
حلالٌ في عرف هذا الحب الأنانية!


_اشمعنا هانيا اللي خدتها تكلمها لوحدها وتطمن عليها ؟!
هتفت بها داليا بسخط وهي تفاجئهما بوقفتها المتنمرة مستندة على باب الشرفة فابتسمت هانيا لتتقدم نحوها قائلة بخجل:
_انتِ لسة زعلانة مني من يومها ...خلاص بقا يا بنتي ...قلت لك اتلبخت والله ...نسيت!

قالتها وهي تتذكر ذاك اليوم الذي وعدتها فيه بصحبتها للغداء كي تطمئن على أحوالها لكنها نسيت الموعد برمته وسط انغماسها في مشكلتها هي الخاصة...
هذا الذي لم تمرره داليا بسهولة كما يبدو ...
وها هي ذي ترمقها بنظرتها الحادة مع قولها:
_الله يكون في العون ...ماعدتش بزعل من حد!
_سيبينا لوحدنا يا هانيا.
قالها يامن حازماً فامتثلت لأمره قبل أن يشير بيده نحو داليا أن اقتربي ...
فتقدمت نحوه ولازالت عاقدة ساعديها بتحدٍ صامت ليهز رأسه بأسف قائلاً:
_أحوالك مش عاجباني.
دمعت عيناها لكنها أشاحت بوجهها بعناد مما أثار حفيظته أكثر ليردف بنبرة أكثر حدة:
_أنا مش عارف انتِ ليه دايماً كده ؟! ليه دايماً حاسة إن فيه حاجة ناقصاكِ؟! ليه بتتعمدي تأذي الناس بكلامك وتصرفاتك ؟! احنا مقصرين معاكِ في إيه ؟!

التفتت نحوه بحدة وشفتاها تقسمان أنها على وشك التفوه بما ستندم عليه...
لكنها أطبقتهما بقوة لتستبدل هذا بدموع عينيها الصامتة...
فاستغفر الله بصوت مسموع ليقترب منها خطوة قائلاً بنبرة لانت كثيراً:
_انتِ عارفة لما خالتي الله يرحمها ماتت كان عندك كام سنة؟! عارفة إنتِ بالذات وسط إخواتك تبقي عندي إيه ؟!
ورغم أن الحنان المغلف لكلماته مس قلبها بصدقه لكن طبيعتها المتمردة لم تشأ الاعتراف بهذا ...
لهذا لوحت بذراعيها قائلة بغضب وسط دموعها:
_كل واحد فيكم داير في ملكوته ...محدش حاسس بي ولا مهتم يعرف عني حاجة ...كل همكم رحت فين ...جيت امتى ...ذاكرت واللا لا...ولو اتكلمت تعايرني بالسجن الذهب اللي حاططني فيه .
_أعايرك؟!
هتف بها باستنكار ساخط ليخزها بسبابته في كتفها ببعض العنف مردفاً :
_انتِ مقدرة كلامك ده واللا مش مقدراه؟! لو دماغك صغير ما تلوميناش لو عاملناكِ على أد تفكيرك...أنا مش فاهم بالظبط انت عايزة إيه ؟! كل طلباتك مجابة...على أد ما بيسمح وقتي بزوركم كل يوم عشان أطمن عليكم...لسه الأسبوع اللي فات جايب لك عربية بسواق مخصوص عشان توصلك أي حتة عايزة تروحيها ...عايزة إيه تاني؟!
_انت ماجبتش العربية عشان تريحني ...انت جبتها عشان تراقبني وتحدد حريتي!

هتفت بها مكابرة وهذا الأمر بالذات يثير حفيظتها كثيراً ...
ورغم أنه كان يعلم أنها على حق فهو فعلها بعد تحذير مروان له ...
لكنها هتف مكابراً هو الآخر:
_حتى لو كده ! هو ده مش برضه خوف عليكِ وعلى مصلحتك ؟!
_أنا ماعدتش صغيرة وعارفة مصلحتي كويس!
هتفت بها بنزقها المعهود فتأفف بضجر محاولاً كظم غيظه ليقول لها أخيراً:
_ماشي...قولي لي عايزة إيه دلوقت بعد المحاضرة الطويلة دي!
_مش عايزة حاجة...بكرة هاستغنى بنفسي وماعدتش هاعوز حاجة من حد!
_يعني إيه بقا الكلام ده ؟!
هتف بها بنبرة مهددة وعيناه تشتعلان بغضبه الذي أخافها لترتجف شفتاها قليلاً قبل أن تقول بنبرة خاضعة مرتبكة:
_مفيش...قصدي لما آخد شهادتي .
رمقها بنظرة متشككة للحظات وهو يشعر بالعجز مع هذه الصغيرة
بالذات...
رأسها العنيد المفعم بأفكار لا يعرفها لكنه يستشعر خطورتها ...
ماذا عساه يصنع معها ؟!

"جيل مهبب!!"

هكذا تمتم في نفسه بسخط وهو يشعر أنها تخفي عنه شيئاً لكنه كان
خالي اليد معها إزاء إصرارها على الصمت...
وهاهي ذي تلملم أذيال ثورتها لتردف بخنوع لم يخدعه:
_عموماً كل سنة وانت طيب...معلش لو عكننت عليك الليلة دي!
فعقد حاجبيه بضجر ثم تنهد ليقول بحزمه الحاني:
_خللي بالك من نفسك يا داليا ...ولو عزتِ تاخدي رأيي في أي حاجة أنا هاسمعك للآخر ...بس شيلي من دماغك الأفكار السودة دي ...
أومأت برأسها مخفية عنه نظراتها المفعمة بشعورها بالذنب "مما تخفيه عنه"...
ليردف هو بابتسامة واهنة:
_لو جبتِ التقدير السنة دي...هاسفرك بره ...مش كان نفسك تروحي تركيا أو دبي؟!
التمعت عيناها بلهفة طفولية أرضته وهي ترفع رأسها إليه ...
فاتسعت ابتسامته الحانية وهو يخبطها بخفة على رأسها قائلاً ببعض الارتياح :
_ياللا يا مجنونة ندخل لهم ...بطلي دلع.

دخلت أمامه وهي تشعر بنفس دوامة التخبط تعاود مداهمتها ...
اتفاقها "الخفي" مع معتز يخز ضميرها لكنها لم تستطع ليلة هاتفها أن ترفض عرضه المغري...
ستكون نجمة مثل بيللا !
لن يتحكم فيها أحد بل ستكون سيدة قرارها...
قِبلة العيون...ومحط الأنظار...
لا يهم ما الذي ستخسره في المقابل ...
هي مغامرة ستخوضها مستمتعة بنشوتها للنهاية !!

عاشقها المجهول؟!
لا ...لم تخبره عن هذا بالطبع!
رغم أنها تحدثه يومياً عبر الرسائل الالكترونية ...
لكنها تكتفي بسرد أحداث يومها العادية وكأنه فقط مجرد صديق...
لقلبها رأي آخر؟!
بصراحة...نعم!
هي لا تدري سر هذه الجاذبية التي تحوط شخصه الخفي لكنها صارت تستعذب حديثه...ملاحظاته...أفكاره...ن� �ائحه التي لا تدري لماذا لا تضيق بها كالمعتاد...
نكاته التي لايزال يصر أن يجعلها بالفصحى رغم تقاربهما المتزايد ...
ومع هذا لم تعد تراها ثقيلة الظل...
بل صارت تحسها لذيذة ...مثله!

أجل...هو هالة مميزة وحده وسط فوضى حياتها المبعثرة!

هيثم؟!
شعور جارف بالحنين نحو صداقته لكنه يخفت يوماً بعد يوم ...
لقد تخلى عنها -كما تظن- وهي لم تكن يوماً بمن يتشبث بالذي أعطاها ظهره!

مروان "القبيح"؟!
هذا الذي يغزو فكرها بين آن وآخر بشعور وجل ...
هو لم يتعرض لها منذ تلك الليلة التي قابلها فيها ...لكنها اصطدمت به يوماً وهي في طريقها للجامعة قبل أن يقرر يامن أن يخصص لها سيارة بسائقها...
لم يحدثها يومها مكتفياً بنظرة عميقة طويلة...
لكنها تشعر بتهديد مستتر من ناحيته ...
لا بأس !
غداً ستحقق ما تطمح إليه مع معتز الشريف...
ساعتها لن تشعر بخوف من أحد ...ولن يكبل آمالها أحد!
======
أغلق الباب خلفهم بعد خروجهم ليلتفت نحوها بنظرة طويلة صامتة...
فاقتربت منه لتتعلق بعنقه هامسة بحرارة:
_كل سنة وانت طيب ...يا طيب.

_وانت أطيب.
همس بها بحنان فاض وسط حروفه القليلة وهو يضمها إليه فمرغت وجهها في صدره وهي تهمس له بصوت متهدج:
_من يوم ما عرفت التاريخ ده وأنا حافظاه في دماغي...بحلم باليوم اللي هيبقى من حقي فيه إني أحتفل بيه معاك...مش مصدقة إن خلاص جه اليوم ده.

أغمض عينيه بقوة كاتماً تأثره من هذا الصدق الذي كان يشع من كلماتها ...
بينما رفعت هي إليه عينيها لتتحسس وجهه بأناملها وكأنها حقاً لا تصدق أن حلمها تحقق ...
ليتنحنح متمالكاً مشاعره بقوله:
_تعبتِ قوي النهارده ...ليه ماخلتيش حد يساعدك في تحضير الأكل؟!
ولا تزال كلماتها العذبة تكتسح حصونه:
_تعبت؟! ده أنا عمري ما حسيت بفرحة معاك زي الليلة دي! كفاية إحساسي بنظرة عينيك واحنا كلنا ملمومين حواليك...وانت وسطنا حاسس أد إيه بنحبك...عينيك بتلمع اللمعة اللي أنا بس بحسها لما بتضحك من قلبك...ملامحك متطمنة إننا معاك مش هنسيبك ولا هنخذلك...قلبك كأني سامعة صوت دقاته في مكاني.
فالتوت شفتاه بابتسامة شجن وأنامله تعزف لحناً شارداً على خصرها للحظات...
قبل أن تبتعد هي لتقول بنفس النبرة الحالمة التي خالطها الآن شيء من المرح:
_استناني دقيقة...هاجيب لك هديتك.
ارتفع حاجباه بدهشة للحظة وهو يتابعها تعدو بخطواتها المنطلقة نحو غرفتها لتعود بعد دقيقة حاملةً شيئاً ما في قبضتها المتكورة...
قبل أن تقترب منه وقد أخفت ذراعيها خلف ظهرها قائلة بنفس المرح الشغوف:
_غمض عينيك.


خفق قلبه بعمق عاطفته وهو يمتثل لرغبتها بترقب لا يليق برجل مثله ظن يوماً أنه لم يعد في هذا الكون ما يغريه!
والآن يجد نفسه يتواثب كطفل فوق مربعات غرامها السحرية منتظراً مفاجآتها !
ليفيق من أفكاره على ملمس أناملها الناعم على إصبعه الذي طوقته بخاتمها مع همسها الدافئ:
_دلوقت بس حاسة من حقي إني ألبسك دبلتي.
فتح عينيه ببطء ليتطلع لذاك الخاتم المميز بفصه "الأسود" الثمين الذي استقر في بنصره ...
والذي قبلته هي الآن بعمق لتردف وعيناها تجتاحان عينيه ...
بل كيانه كله:
_مش هتقلعه يا يامن ...مش هتقلعه أبداً !
برجاء...
بحزم...وربما بدت كدعاء خاشع ...قالتها !
لكن المؤكد أنها حملت طوفاناً غامراً من عشق اكتسحه ليجد شفتيه تتمتمان دون إرادة :
_أبداً.
دمعت عيناها وهي تعاود التعلق بعنقه فاعتصرها بين ذراعيه للحظات بدت وكأنها طويلة ...
طويلة بعمر الزمن !
وقصيرة...
قصيرة...بعمر الفرح!
دقات قلبيهما تتعانق قبل جسديهما...
والأنفاس الحارة تحكي ألف قصة للشغف...
كيف يمكن أن يختزل العالم في عناق؟!
أن يختزل العمر في ساعة؟!
أن يختزل العشق في جسد بهذه الضآلة وفي قلبٍ بهذه السِعة؟!

_أنا كمان جبتلك هدية.
همس بها وهو يبعدها أخيراً لتلتمع عيناها بترقب فرح مع ضحكتها:
_بس ده عيد ميلادك انت...مش أنا.
_من غيرك ماكانش هيبقى حلو كده.
قالها صادقاً فتوهجت ملامحها بعاطفتها وهي تهتف بانطلاقها المعهود:
_شكراً يا ط...آه...
انقطعت عبارتها بصيحة دهشة عندما انحنى ليحملها فجأة بين ذراعيه كطفلة ليتوجه بها نحو الدرج فتعلقت بعنقه وهي تهتف بين خجل وفرح:
_طب شايلني ليه ؟! نزلني وهاطلع أنا.
_شششش...هتسكتي واللا أطلع قرار ديكتاتوري الليلة دي ما تتكلميش خالص؟! وبالمناسبة...الليلة طويلة !
توردت وجنتاها بخجل وقلبها يخفق بتلك الدغدغة اللذيذة التي أنستها خوفها المعهود في تقارب كهذا ...
لتجد نفسها تخفي وجهها في صدره مغمغمة بمرح خجول:
_خلاص سكتنا!
شدد ضغط ذراعيه حولها وهو يصعد حاملاً إياها حتى غرفته التي أرقدها برفق على فراشها قبل أن يلوح بسبابته في وجهها قائلاً بعينين ملتمعتين :
_هتقعدي هنا لحد ما أنزل أجيب حاجة م العربية وأرجع...لو فتحت عينيك قبل ما أطلع هاعاقبك بطريقتي...هه؟!

ازداد احمرار وجنتيها المنفعل وهي تغمض عينيها لتومئ برأسها في طاعة جازاها عنها بهدية ناعمة على شفتيها قبل أن تشعر به يبتعد ليغادر الغرفة...
تنهدت بحرارة وهي تغمض عينيها أكثر وكأنها لا تريد أن تفتحهما...
ما الذي يمكنها رؤيته الآن أفضل من هذا الفردوس العامر الذي يعدو فيه قلبها ؟!
من هذه السماء التي بسطت لها من الغيمات سلّماً ودعتها لترتقي درجاته ؟!
من هذه النجوم التي تكدست تحت قدميها لترفعها نحو عناق القمر؟!
طائرة ...محلقة...بل طائفة سرمدية في مدار عشق ما كان له أن يفنى!

_شاطرة...فتحي عينيكِ!
قالها بصوته العابث الحبيب لينتزعها من شرودها ففتحت عينيها ببطء لتتلاشى ابتسامتها تدريجياً وهي ترى ما يحمله...
نظراتها تكتسي بحزن لم تملكه وهي تهمس بدهشة:
_كمانجا؟!
والدهشة البائسة في لكنتها كان لها ما يبرره وهي ترفع إليه عينيها بقولها المتذبذب:
_مش قلتلك إني ما عزفتش عليها من يوم ما ماما الله يرحمها ماتت...هي اللي علمتهالي...ومن ساعة ما ...
انتهت عبارتها المتلعثمة بأنة خافتة فتنهد بحرارة ثم جلس جوارها على طرف الفراش ليحتضن كفها بكفه هامساً بحزم حنون:
_عارف كل ده...بس جه الوقت إنك تتغلبي على حزن الماضي ...أنا متأكد إنك مشتاقة تعزفي عليها بس خايفة...والخوف ده هو اللي أنا نفسي تعديه...
ثم صمت لحظة ليردف:
_قصدي ..نعديه!

تجمعت الدموع في عينيها والآلة العزيزة تعيد إليها الذكرى الغالية فامتدت أناملها المرتجفة نحوها لكنه أبعدها بسرعة قائلاً بابتسامة لعوب:
_عايزة تعزفي كمانجا بالشوال اللي انت لابساه ده ؟!
فارتفع حاجباها باستنكار ناسب سؤالها:
_شوال؟! ده شوال؟!
قالتها وهي تتحسس ثوبها الأنيق الذي أشادت به نبيلة نفسها في الحفل ليرفع حاجبه مجيباً :
_آه ...مقارنةً بده!
قالها وهو يرفع بيده العلبة الضخمة التي انتبهت لها أخيراً والتي استخرج منها الآن ثوباً أرجوانياً استعرضه أمام عينيها الذاهلتين مع قوله:
_هه؟! شوال واللا مش شوال؟!

انفرجت شفتاها عن صيحة خافتة فغطتهما بأناملها وهي تتأمل الثوب الكارثي بتفاصيله...الرائعة..والمربك� �!
وكيف لا؟!
وهي تراه متناهي القصر بلا أكمام...بلا أي شيء تقريباً!!!
فقط بعض الشرائط الرفيعة المتداخلة التي تشكل ظهره ...
بينما تزين صدره بفراشات منمنمة حملت كل ألوان الطيف بدرجة فاتحة رقيقة...
ليضيق خصره ويتسع ما بعده بتموجات مذهلة!
ازدردت ريقها بتوتر رغم إعجابها به وهي تتخيل شكلها فيه لتهمس له متلعثمة:
_بس ...ده...
لكنه وضع سبابته على شفتيها مقاطعاً ليحتوي نظراتها الخائفة بهمسه القاطع:
_قومي البسيه من غير كلام.
رمقته بنظرة مترددة لكنه جذبها من كفها ليقف ويوقفها معه مردفاً بنفس الحزم العابث:
_هتلبسيه بما يرضي الله واللا استنى ألبسهولك زي التي شيرت الأسود بما لا يرضي الله ؟!
ابتسمت رغماً عنها وهي تتذكر ما يحكي عنه لتتناوله منه متمتمة باستسلام:
_خللينا بما يرضي الله .
_أيوه كده !

قالها وهو يرفع إبهامه مع قبضته المضمومة بتلك الحركة الشهيرة في وجهها فضمت الثوب لصدرها وهي تتوجه نحو الحمام المرفق لغرفته بخطوات أثقلها ترددها...
أغلقت الباب خلفها لتنزع عنها ملابسها قبل أن تشرع في ارتداء الثوب...
نظرة قصيرة لنفسها في المرآة أتبعتها بإغماضة عين وجلة!
المشاهد تتوالى في عينيها بجحيم من ماضيها مع ذاك الوغد.....
قطرات العرق البارد تتجمع على جبينها ...
لكنها تتحسس عنقها ببطء وهي تتذكر ليلتها مع يامن في الفندق...
آهة واحدة منها كانت تكفيه ليبتعد...
يامن أبداً لن يؤذيها ...أبداً!

هنا فتحت عينيها من جديد لتطالع صورتها في المرآة بنظرة أخرى...
أكثر ثقة...أكثر رضا...وأكثر أماناً...
عيناها تلتمعان بترقب بينما أصابعها تربط شريط الثوب الخلفي لتزيد من التصاقه حول جسدها...
ابتسامتها ترتجف بخجل انتابه بعض العبث وهي تتوقع غزله لها عندما يراها...
وجنتاها تحترقان انفعالاً وجسدها يرتعش لكنها ترفع أناملها لتمشط شعرها بتلك الطريقة التي يحبها عندما تسدل بعضه على نصف وجهها بينما ترفع بقيته ليظهر وجنتها الطفولية الممتلئة وأذنها "المنمنم" كما يسميه!
تبتعد قليلاً عن المرآة لتحصل على صورة أكثر وضوحاً...
فيعود جسدها لرجفته وهي تتأرجح بين شعورها بالثقة والخوف...

_لسه كتير؟!
هتافه من الخارج أفزعها فاحتضنت جسدها بذراعيها وقد فكرت للحظة في نزع ذاك الثوب والعودة لثوبها القديم "الآمن"...
لكن...

_ياسمين...انتِ كويسة؟!
بهذه اللهجة الحنون القلقة جعلتها ترمق نفسها بنظرة واثقة أخرى قبل أن تتوجه نحو الباب لتفتحه....
وهناك كانت مفاجأتها التالية ...
فالغرفة كانت مغلقة الأضواء إلا من شمعتين كبيرتين هناك ...
مستديرتين بشكل قلب أحمر مستعرض ...
وتنبعث منهما رائحة التفاح التي تعشقها ...
ربما هذا ما خفف حدة توترها مع خوفها -المعهود- من الإضاءة الخافتة...
والمفاجئة هذه!
بينما لم يكن هو أقل تأثراً بمفاجأتها وهو يراها بهذا الثوب أجمل كثيراً مما تخيله...
شعرها الذي طالما أثاره منتفضاً بفوضوية حول ملامحها العجيبة بين براءة وإغواء...
وجسدها يلتف في هذا الثوب كثمرة عشق شهية...
وكأنما فرت فراشاته الرقيقة التي تناثرت على صدره من قلبها لقلبه مترنمة بحبهما معاً !
عيناه تتمهلان في سيرهما على طول جسدها حتى تصطدمان بقدميها الحافيتين اللتين تثيران جنونه أكثر...
هنا يرفع وجهه لعينيها لتروعه النظرة الخائفة التي سكنتهما...
فضمها إليه برفق هامساً:
_لو خايفة ...أفتح النور.

أومأت برأسها باستحسان فظهر بعض الخيبة في عينيه وهو يبتعد عنها نحو زر الإضاءة...
لكنه ما كاد يصل إليه حتى شعر بها خلفه ...
أناملها تحتضن أنامله تمنعها بهمسها المرتجف:
_لا....خلاص.
فارتسمت على شفتيه ابتسامة رائقة وهو يلتفت نحوها ليعانق ملامحها بنظراته الشغوف التي زادت ارتباكها...
هنا أخذ نفساً عميقاً متمالكاً شعوره ليجذبها نحو آلة الكمان هناك حيث ناولها لها قبل أن يجلسها برفق على الأريكة المجاورة للفراش قائلاً بصوت عاد إليه مرحه:
_وريني بقا العزف على أصوله.
فتنهدت بحرارة وهي تنظر لآلتها باشتياق ...
ليردف هو بنفس المرح:
_ما تسرحيش كده وتحسسيني بالعظمة...أنا كل ما اشوف البتاعة دي أفتكر عم مرزوق اللي كان بيسرح في شارعنا القديم بالربابة!
_ربابة!!

ضحكت بها بانطلاق خفف الكثير من توترها وزاد من اشتعال جسده هو ليقول بنبرة جادة هذه المرة:
_سمعت زمان إن اللي اخترع الكمانجا صممها عشان تفكره بحبيبته اللي سابته...رقبتها الطويلة...وسطها...جسمها...عمل� �ا عشان يعزف عليها ويحس إنه لسه معاها ...وهي لسه في حضنه.
كان يتعمد ذكر ما قاله وهو يلاحظ اشتعال وجنتيها أكثر مع كلماته الجموح...
فتمتمت بارتباك خجول وهي تشيح بوجهها عنه:
_ماسمعتش عن حاجة زي كده.
لكنه مد أنامله ليداعب خصلة شعرها التي غازلت وجنتها فيزيحها جانباً مع همسه :
_طب ياللا.
_ما بعرفش أعزف غير ألحان غربية وانت مابتحبش الأجنبي.
همست بها بنفس الارتباك وهي تتجنب النظر لعينيه المشتعلتين بعاطفتهما...
فرفع ذقنها إليه ليهمس بنبرة ذات مغزى:
_مش هتبقى أول مرة أغير فيها ذوقي عشانك.

ارتعشت شفتاها بابتسامة غنية وهي تشعر أخيراً ببعض الثقة التي جعلتها تتنفس بعمق...
قبل أن تغمض عينيها لتميل رأسها الذي أسندته على الكمان بينما تداعب أناملها طرفه والعصا السحرية تتحرك عليه كأنما تداعب قلبه هو...
يراقبها مأخوذاً وهو يشعر وكأنما ملامحها الصامتة تحكي ألف حكاية وحكاية...
جسدها يتفاعل مع اللحن تأثراً فيجاوبه جسده تأثراً وهو لا يدري ما السر...
طالما كره هذه الألحان الغربية -حتى عندما كان في لندن- زاعماً أنها تصيب أذنه ب"تلوث سمعي"...
لكنه الآن يشعر بلحنها الذي اختارته وكأنما حمله لقطعة من الجنة !
ربما لأنه كان هادئاً شجياً بلا صخب ولا تدرج...
بل كان انسيابياً رائقاً...مثلها!
وأمامه كانت هي غائبة بلحنها عن كل شيء...
هذه المقطوعة بالذات كانت تعزفها لها أمها وهي تجلس معها في غرفتها على الأرض...
والآن تشعر وكأنما تستحضر روحها ...
هذا الشعور الذي منحها الكثير من الأمان وهي تستعيد عينيها بنظرتهما الحانية...
وكلماتها التي طالما بذرت فيها الثقة!
يالله!
هذا هو ما تحتاجه الآن بالضبط!!
الأمان...الثقة...
و...الاستسلام!
أجل...الاستسلام لا عن ضعف بل عن رغبة قوية في المنح!
لهذا توقفت أخيراً عن العزف لتفتح عينيها اللتين دارتا في الغرفة ببعض الدهشة...

لماذا تشعر وكأن هذه الدقائق التي قضتها مع لحن العزيزة الراحلة قد ردت إليها جزءاً مفقوداً من روحها...
وكأن الأيام لم تمر ...
وكأنها لم تخسر عمرها مع الخاسرين!
وكأنها لاتزال فتاة تتشبث بعناق أمها فتمنحها الدعم بلا حدود!

_برافو...جميل!
قالها باستحسان فنظرت إليه نظرة غريبة قبل أن تضع ما بيدها جانباً لتقف مكانها قائلة بانفعال:
_أول مرة أبقى مش قادرة أوصف إحساسي...
ثم التفتت نحوه لتردف بصوت مرتجف:
_متعرفش أد إيه كنت محتاجة العزف ده.
_لا عارف.
همس بها بيقين وهو يقف بدوره ليمسك كتفيها مردفاً بحنان:
_فاكرة يوم ما قلتيلي إن ساعات الحاجات اللي بنهرب منها بتطلع هي اللي احنا محتاجينها عشان تقوينا؟!
امتلأت عيناها بالدموع وهي تومئ برأسها فضمها إليه بقوة ليهمس جوار أذنها:
_عمري ما كنت أصدق إن فيه اتنين يكملوا بعض زيي أنا وانت.
فابتسمت وهي ترفع له عينيها الدامعتين بهمسها :
_مش قلتلك؟! رغم إننا نبان عكس بعض بس أنا من الأول كنت عارفة إننا شبه بعض قوي...أنا مش بس بحبك...أنا بحس إن روحي متعلقة بيك...كل نفس بيخرج مني..

انقطعت كلماتها بين شفتيه وقد عجز عن مقاومة إحساسه بهذا الفيض الثائر من عاطفتها ...
بينما كانت هي تشعر وكأنما تلبستها روح امرأة أخرى غير تلك الخائفة المرتعدة المكبلة بأغلال ماضيها...
كانت تشعر وكأنما أطلق أحدهم العنان لجياد عواطفها كي تنطلق بلا حدود...
تشتعل...وتذوب...وتذوب...وتشتع� �...
صقيع روحها كله ينصهر خلف نار تلهب كيانها كله...
لم تعد تحتاج ل"نور المصباح" تتشبث به عيناها هاربة من "ظلام" ألمها القديم ...
هي الآن قانعة ب" شمس عاطفته" ...وكفى!

_هتدينا فرصة الليلة دي... احنا الاتنين ...ننسى كل اللي فات...ننساه بجد...مش مجرد تمثيل.
همس بها بين أنفاسه اللاهثة بما بدا كأمر لكنه كان كرجاء...
وكأنما قرأ كل ما يجول بذهنها ...
لترد بهمسها المشتعل بعاطفته:
_اطفي النور يا يامن...اطفيه خالص...عايزة أبطل أخاف من الضلمة وأنا معاك.
عيناه تتوهجان ببريق صاخب وهو يجذبها بين ذراعيه من جديد ليتحرك بها مطفئاً الشموع...
الظلام يغشاهما فيرتجف له جسدها للحظة لكنها تشدد من قوة عناقها له ...
تشتعل من جديد بلمساته...
نارها ونورها ينبعثان من داخله هو...
بل ...من داخلها هي..
هو..أو هي...ما الفارق؟!
كلاهما الآن واحد!!

_خايفة؟!
_لا.
_أكيد؟!
_كان معاك حق...أجمل إحساس في الدنيا مش إنك تحب...إنك تطمن!

همساتهما تعاود امتزاجها المشتعل من جديد لتشعر أخيراً بأنامله على ظهرها تفك شريط ثوبها ...
الخوف ينتابها للحظة...لحظة واحدة قبل أن تغمض عينيها مستسلمة لطوفان عاطفته...
تشعر بذراعيه حولها يطوقانها بتلك القوة الحنون ليحملها ويهوي بها إلى الفراش...
تأوهاتها الناعمة تشتعل وتيرتها لتنتهي أخيراٌ بهمسه الحار في أذنها:
_الليلة دي انا اللي هاحكي الحدوتة !
==========





سمية سيمو غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 03-04-20, 12:09 AM   #1514

سمية سيمو


? العضوٌ??? » 396977
?  التسِجيلٌ » Apr 2017
? مشَارَ?اتْي » 4,356
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
?  نُقآطِيْ » سمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك action
?? ??? ~
keep smiling
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي


القطعة الخامسة عشرة
==========


_مالك يا حبيبي ؟! بتسوق بسرعة كده ليه ؟!
سألته رانيا بقلق وهي تلاحظ اندفاعه المجنون في القيادة كما لم تعهده من قبل ...
لكنه كان يشعر باحتياجه الصارخ للعودة للمنزل...
كيف نسي إحضار هذه الأقراص "السحرية" معه؟!
تأثيرها الفعال في تسكين ألمه يدهشه حقاً ...
منذ أهداه إياها مساعده في المصنع وهو لا يكاد يستغني عنها .

_مصدع بس شوية وعايز آخد الدوا.
قالها بنفاد صبر نال من حلمه المعهود فرمقته بنظرة قلقة وهي تتشبث بمقعدها أكثر ...
تراقبه بعدم ارتياح وهي تراه يصل أخيراً فيوقف السيارة ليغادرها بخطوات مندفعة دون أن ينتظرها كما يفعل يوماً !
حاجباها ينعقدان بدهشة مرتابة لتغادر السيارة خلفه بخطوات متمهلة...
قلبها يشعر بأنه -كالعادة- يخفي عنها ما يسوؤها لكنها -كالعادة أيضاً- تجبن عن مطالبته بالبوح...
طالما بدا لها هذا العالم بحراً لا قبل لها بالخوض فيه ...
وحده أشرف هو "جدارها" الذي يحميها ...
هو أمانها ودعمها ...ليس لها فقط...للجميع!

ولو صدقت نفسها لأدركت أن هذا الجدار يوشك أن يتصدع من فرط ما صار يتحمله !

هل تسأله عما يشغله ؟!
سيخفي عنها كالعادة مكتفياً بابتسامة مطمئنة وعناق دافئ!
وحتى لو صارحها ...هي أوهن من أن تمنحه حلاً أو حتى دعماً...
شخصيتها المتواكلة لا تجيد سوى الاتكاء على عصيّ الآخرين!

تنهدت بعجز وهي تدخل البيت لتتردد قليلاً قبل أن تريح جسدها على الأريكة ...
شيئ من الفتور بدأ يتسرب لعلاقتهما المشتعلة...
هل يقتل الزواج الحب كما يزعمون؟!
أم هو فقط انشغال أشرف بعمله ومرض أمه ومسئولية شقيقته ؟!
الحل؟!
طفل!
أجل...هذا هو ما تفتق عنه ذهنها وقتها !
ربما فرحته بطفل تلهيه عن كل ما يؤرقه...
لاسيما لو كانت أنثى ومنحها اسم أمه الغالية...
ستكون فرحة لا تقدر بثمن !
أناملها تتحسس بطنها بأمل وهي ترفع رأسها للسماء فيما بدا كالدعاء ...
قبل أن تسمع صوت ضحكاته العالية يصلها من غرفتهما مع صوته يحدث أحدهم...
إذن فقد استعاد مزاجه الرائق!

ابتسامة طفولية ترتسم على شفتيها وهي تندفع نحو الغرفة لتراه جالساً على الفراش يحادث والدته...
هذه النظرة في عينيه والتي تمزج الحنان بالقلق والحزن لا يجتمعون معاً إلا لها .

_ابنك بقى زوج مصري أصيل ...بينام من العِشا ومفيش خروج مع أصحابه ....ناقصني بس البطيخة وأنا راجع...

تضحك لمرحه المناقض لحالته منذ قليل فيلتفت نحوها بملامح مرتاحة أخيراً ليغمزها بينما يردف محدثاً أمه:
_سهرنا النهارده بس شوية عشان كان عيد ميلاد يامن...وانتِ طيبة حبيبتي...لا ما تقلقيش مش ناسي...عارف إن عيد ميلاد نشوى كمان يومين ومجهز لها هديتها كمان...خللي بالك انتِ من نفسك...

يستمع قليلاً لتغيم عيناه بنظرة حزينة بينما يستطرد :
_حاضر يا حبيبتي...ما تشيليش همي بس خليكي في نفسك...حاضر...مش هنام من غير عَشا ...ومش هوطي حرارة التكييف...
ثم يغتصب ضحكة مفتعلة ليردف:
_رانيا جنبي تقول عليّ إيه بس ؟! اتجوزت عيّل أمه خايفة عليه ؟!

هنا تنتزع منه هي الهاتف لتحدثها بلهجتها الرقيقة:
_عيّل ده إيه ؟! ده سيد الرجالة ...إزيك انتِ يا حبيبتي وصحتك عاملة إيه ؟!

يراقبها بنظرة حانية وهو يتحسس جبهته بأنامله شاعراً بالتحسن تدريجياً...
مزاجه يتحسن لكنه لايزال عاجزاً عن التركيز ...
ذهنه مشوش.. مضطرب ...
هل هي أعراض اكتئاب؟!
أي اكتئاب؟! إنه يكاد يضحك بلا سبب!

تماماً كما الآن وهو يجذب رانيا ليجلسها بين ذراعيه غير آبه بنظرتها الرافضة وهي تكمل حديثها مع أمه ...
والذي أنهته سريعاً بقولها :
_وانتِ من أهله حبيبتي .

_انتِ احلويتي الليلة دي واللا أنا بيتهيألي؟!
بهمسه العابث بينما أنامله تزيح عنها حجابها لترمقه بنظرة دهشة...
كيف تنقلب انفعالاته بهذه السرعة ؟!
ما الذي يحدث له ؟!
هل يصالحها لأنه شعر بفظاظته معها منذ قليل ؟!
والخاطر الأخير جعل الغلبة لطبيعتها الأنثوية المتدللة فأبعدت رأسها عنه هامسة بعينين مغمضتين:
_زعلانة منك...عندك تلات مخالفات.
_ممممم...ثلاثة مرة واحدة ؟!
بنفس النبرة العابثة ينطقها بينما أنامله تحل أزرار قميصها ...
تداعب رقبتها وكتفيها ...تدلكهما بلطف وهو يجذبها لصدره مقبلاً طرف أذنها ...

_أولاً...زعقتلي في العربية...ثانياً...خرجت منها وجيت هنا من غير ما تستناني...وثالثاً سبتني قاعدة لوحدي بره وجيت تكلم مامتك لوحدك.

تنهيدة حارة خرجت منه يعقبها سيلٌ من قبلاته التي أغرقتها بعاطفته...
تشبث ذراعيه بها يزداد قوة وهو يعود بظهره للوراء ساحباً إياها معه...
عيناه مغمضتان وابتسامة غريبة ترتسم على شفتيه فلا تدري هل هي ابتسامة ارتياح أم سخرية...

_انتِ عارفة إنك عمرك ما زعلتِ مني؟!
تشرد ببصرها قليلاً مسترجعة تاريخهما المشترك لتبتسم بعد لحظات وهي تلصق وجنتها بوجنته هامسة:
_ماكنتش بتديني فرصة...طول عمرك فاهم إيه بيزعلني وما بتعملوش.

فيفتح عينيه ليطالعها بنظراته العاشقة التي تعرفها ..
أنامله تربت على رأسها ليهمس لها بنبرة متعَبة :
_وعمري ما هاعمل حاجة تزعلك...معلش استحمليني اليومين دول...أنا مش عارف مالي ...دماغي هتجنني...ما ببطلش تفكير كأني في دوامة ...ماعدتش مركز في أي حاجة...حتى الشغل بقيت حاسس إني طفل صغير واقف وسط الشارع لوحده .
ترفع رأسها قليلاً لتقبل جبينه ثم تعدل وضعها لتستلقي جواره محيطة وجنته بأناملها مع همسها:
_قل لي ممكن أساعدك إزاي...تحب أشتغل معاك ؟!
ابتسامة واهنة تعرف طريقها لشفتيه وهو يقترب بوجهه ليريحه في تجويف عنقها ...
يأخذ نفساً عميقاً معبقاً برائحتها التي طالما حملت له معنى "الهويّة"...
أجل...مهما كان متعباً...هاهنا يجد راحته !

_مراتي ما تشتغلش وتبقى فرجة للي رايح واللي جاي...مراتي تستريح في بيتها اللي بيها بيبقى جنة .

عجباً له كيف يفعلها ؟!
كيف يمكنه هكذا أن يبدل قلقها وخوفها في لحظات لأمان بلا حدود ؟!
لكن هذا ليس غريباً عليه...
هذا هو أشرف وهذا هو حبه ...
منحة السماء التي اكتنفتها وترعرع عليها قلبها يوماً بعد يوم !

لهذا وجدت نفسها تحتضنه بكل قوتها لتهمس له بتلعثم:
_طب قل لي أعمل إيه عشان ...
_وجودك لوحده كفاية.
يقاطعها بها صادقاً وهو يقربها منه أكثر ...
يتلو تراتيل عشقه على جسدها ...
ويغرس بين حناياها عاطفة من نور ونار !
حبٌ كهذا كيف نفقده يوماً ؟!
كيف نرضى عنه اغتراباً...وبماذا يمكن مقايضته ؟!
إلا إذا ...!
=======
فتح عينيه صباحاً بعد نوم متقطع التهمته كوابيسه المعتادة مؤخراً ...
ابنه -المزعوم-...بسنت...سيلين...بيللا ...وأخيراً ...ياسمين!
مدارات متشابكة يدورون فيها جميعاً لتنتهي به هو غريقاً في مركزها!!
هذا الذي تعجّبه بعد ليلتهما السابقة التي كانت أكثر جموحاً مما توقع...
أكثر بكثير!!
ربما كان هذا ما توقعه من نفسه بعد كبته مشاعره طوال الأيام السابقة لكن ما فاجأه حقاً هو ذوبانها المشتعل بين ذراعيه بعد طول جمود ...
عجيبةٌ هذه المرأة!
كل ما فيها سخي دافق وكأنها طاقة عطاء لا تنفد!
فقط لو تغادره كوابيسه بشأنها!!
تلك التي تؤجج وساوسه نحوها لينتهي به الحال أسير حرب بين قلبه وعقله!
التفت جواره لذاك الجانب المتكوم من الغطاء باحثاً عنها لكنها لم تكن هناك!
عقد حاجبيه بضيق وهو ينفض عنه غطاءه ليقوم باحثاً عنها ...
هبط الدرج نحو المطبخ لكنه كان هو الآخر خالياً منها!
انقبض قلبه بشعور مهيب بخشية فقدها جعله يهرع نحو الحديقة بخطوات راكضة ...
فراغ المكان حوله يزيد من اشتعال جحيم صدره...
ووساوسه تزرع ألغامها في حقول غرامها تكاد تبيدها!!
هل هجرته كما يخشى...وكما يتوقع؟!!
لماذا ؟! كيف؟!
مهلاً!
لا تزال هناك غرفتها السفلية...قد تكون هناك!!
الأمل الأخير جعله يركض نحو غرفتها ليفتح بابها المغلق بلهفة ...
تتوقف أنفاسه فجأة بصدره قبل أن تعاود جنون لهاثها وهو يراها هناك جالسة وسط بالوناتها الملونة !!
بقدر ارتياحه...بقدر سعادته...وبقدر خوفه ...
تدفقت نظراته تطوقها حتى جلس خلفها ليعانقها صامتاً ...صارخاً بكلام تبخل عنه الشفاه...
لكنها وحدها تسمعه!

_بتنهج كده ليه؟!
همست بها بقلق وهي تلاحظ اضطراب أنفاسه لكنه لم يستطع مصارحتها بمخاوفه ...
فقط شدد ضغط ذراعيه حولها صامتاً للحظات قبل أن ينتبه لجلستها هنا و"رمزية" ما تعنيه ...
فأدارها بين ذراعيه ليسألها بقلق:
_للدرجة دي اتضايقتِ من اللي حصل امبارح؟!
لكنها هزت رأسها نفياً لتمرغ وجهها في صدره بهذه العادة التي صارت تعشقها بقدر عشقها له ...
وكأنها من هاهنا تنفذ لداخل روحه ...
فرفع ذقنها نحوه ليتطلع لعينيها هامساً :
_امال ليه قاعدة هنا وسط البالونات ؟!

اشتعلت وجنتاها بخجل مع ذكريات ليلتهما الماضية التي انسابت لذهنها هادرة صاخبة...
كيف تخبره عن حقيقة ما شعرت به معه؟!
كيف تحكي عن ثورة أنثى لم يسعها سوى ميدانه ؟!
عن ترنيمة جسد لم يُجد العزف عليه سواه ؟!
عن نشوة قلب لم يمنح لغيره شفرة دخوله ؟!
بالأمس فقط استعادت مفاتيح مدينتها كاملة لتعود لها ثقتها بنفسها كامرأة !!
لكن...
ماذا عن تلك الغصة في حلقها وهي تدرك أنها لم تروِ له ماضيها كاملاً؟!
احتفظت ب"حقها" في دفن بعض التفاصيل ...
فليست كل ذنوبنا قابلة للعرض على -أرصفة البوح- ولو مع الأحبة !
هذا ما كان يصرخ به عقلها مدافعاً باستماتة...
لكن قلبها كان ينحني بحمل وزره و...خوفه...وخزيه!

لهذا تلألأت نظراتها بالدموع التي أساء هو فهمها ليزداد انعقاد حاجبيه بقوله:
_أنا آسف لو ...
لكنها قاطعت كلماته بأناملها على شفتيه لتهمس له بفيض عاطفتها:
_شكراً يا طيب.

التمعت عيناه للحظة وهو يشعر أنه يسمع عبارتها -المكررة-بنغمة خاصة هذه المرة...
نغمة عشق راضية مثقلة بالعشق...هائمة بالشغف!
لهذا افتر ثغره عن ابتسامة اتسعت تدريجياً لتمحو عنه ظلال وساوسه ...
بينما حلقت أنامله فوق جنان بشرتها مع همسه الذي مزج مكره بجموح عاطفته:
_يعني عجبتك حواديتي؟!
ضحكة قصيرة خجول منها كانت جواب سؤاله قبل أن تخفي وجهها في صدره ...
لكنه فاجأها عندما مال بثقل جسده عليها بينما يزيح البالونات جانباً ليخلي الفراش ..
قبل أن يهمس وهو يشرف عليها من علوّ:
_قرار ديكتاتوري مش فاكر رقمه...مفيش خروج قبلي من أوضتي الصبح ...عايز أصحى ألاقيكِ أول حاجة عيني تشوفها .

ازداد اشتعال وجنتيها وهي تومئ برأسها في طاعة لتهمس بصوت مرتجف:
_يادوب دلوقت ألحق أحضر لك الفطار ...عشان ما تتأخرش على مواعيدك.
_لو قدرتِ تقنعيني أخرج النهارده من البيت ...تبقى معجزة!
تمتم بها بين غزو شفتيه الناعم فازداد ارتجاف صوتها وهي تحاول دفعه برفق:
_انت غبت كتير عن العيادة الأيام اللي فاتت...مش هينفع كده !
_قوليها!
همس بها بعينين متقدتين وأنامله تتلمس نعومة قميصها الوردي لتذوب حدقتاها في لهيب نظراته مع تساؤلها المشتت:
_أقول إيه؟!
_قولي...اخرج... وسيبني ...اوعى ...تهمل ...في ...شغلك!

كان يهمس بها متقطعة ببطء ولمساته الخبيرة تدرك مواطن قصفها الصائب لحصونها فتتهاوى دون أي مقاومة ...
همساتها تعانق لهيب أنفاسه محاولةً مجاراته فيما يقول:
_اخرج...وسيبني...اوعى..
_همممم...
همهمته المترقبة بمكر ترافق تصاعد وتيرة عزفه الصاخب فتجد نفسها تهمس أخيراً دون مقاومة :
_اوعى ...اوعى ...تخرج!
ضحكته الراضية تملأ أذنها قبل أن تغيب معه في دوار لذيذ صارت مدمنته معه...
وهو -للعجب- أكثر إدماناً!
لم تكن أول أنثى يكتشف مواقع خرائطها ...
لكنها كانت أول وطن يقبل لجوءه بعد طول اضطهاده في منافي البشر!
لهذا كانت لذة وصالها أشهى مما توقعه وهو يراها بتوهج ألوان بالوناتها التي تناثرت حولهما...
سحر أصباغها يتسرب عبر شقوق روحه السوداء ليمنحها وهجاً يشبهها...
وهو لا يخشى الاعتراف أنه يود التشبه بها !

_بحبك!
همست بها أخيراً وسفن عواطفهما الثائرة ترسو على شاطئ الرضا فأغمض عينيه بقوة وعناق ذراعيه يكاد يعتصرها اعتصاراً...
قبل أن يفتح عينيه ببطء يتفحص ملامحها التي غاب عنها ذعرها القديم ليحل محله شعورٌ آخر يشبه شعوره هو الآن...
شعور بالاكتفاء...بالاكتمال!
لهذا داعبت ثغره ابتسامة حانية وشفتاه تحطان على جبينها باعتراف لم يكن لمثله أن يتفوه به ...
_لسه مش عايز تقوللي إنك بتحبني؟!
همست بها بعتابها الحنون وهي تداعب شعيرات لحيته بأناملها بينما تستند بمرفقيها على صدره الذي استلقت عليه ،لتلتقي عيناهما في حديث طويل سبق قوله الشارد:
_أنا عمري ما قلت لحد إني بحبه...نبيلة دايماً تقول عليا إني ماليش عزيز...ورثت قسوة القلب من والدي .
_مش صحيح!
همست بها بثقة وهي تمر بسبابتها على وجهه لتردف:
_إحساسك بالمسئولية ناحية والدتك وبنات خالتك بيبهرني...بيحسسني بالأمان معاك...حرام نختزل الحب في كلمتين ...بس ده مايمنعش إني محتاجة أسمعها منك ..
_ما اوعدكيش!
ورغم فظاظة عبارته التي لم يقصدها لكنها نظرت في عمق عينيه لتهمس بيقين:
_لكن أنا أوعدك...أوعدك أخليك تحبني زي ما بحبك وأكتر!
=======
جلس رامز ينتظرها في أحد المطاعم المطلة على النيل وهو يشعر بمزيج من السخط والترقب ...
لقد فوجئ بها بالأمس تقتحم عليه مكتبه بجرأة غريبة على طبعها المتردد الخانع لتطلب منه الحديث في أمر مهم لكنها اشترطت أن يكون هذا بعيداً عن العمل ...
والواقع أنه هو الآخر كان يفضل هذا بعدما نالهما من إشاعات وصله صداها وأكدها تصرف هانيا الطائش ليلة زفاف زميليهما !
ترى ماذا تريد؟!
هل تركت له هانيا معها رسالة ما تريد إيصالها له دون أن تخدش كبرياءها بالحديث معه هو شخصياً؟!
أم تراه مجرد اجتهاد شخصي منها هي تريد الإصلاح بينهما؟!
أو ...لعله لا هذا ولا ذاك !!
لعلها ...!!
خاطر غريب انتابه وهو يتذكر غضبة ملامح غادة وقتها عقب رحيل يارا من مكتبه ...
هل تشك في وجود علاقة ما بينهما ؟!!

_مساء الخير يا رامز!
انتزعتها بها غادة من شروده فالتفت نحوها لتتخذ عيناه رحلة متفحصة سريعة على ملامحها التي حملت هذه المرة أيضاً وهجاً طفيفاً من شراسة فتية ...
ربما لهذا السبب ابتسم ابتسامة خفيفة وهو يرى فيها "المزيج" الذي طالما تمناه من ضعفها الآسر وقوة "صديقتها" الجاذبة!

_أهلاً غادة...خير؟!
_من غير مقدمات ...فيه حاجة بينك وبين اللي اسمها يارا دي؟!

هتفت بها بصوت مرتجف وهي تلقي حقيبتها على المائدة بحركة عصبية قبل أن تجلس أمامه ...
فاتسعت ابتسامته التي حملت شيئاً من السخرية...والكثير ...بل الكثير جداً من المرارة ...وهو يتمنى لو كانت من تلقي هذا السؤال امرأة أخرى سواها !
امرأة لم تهتم بفقده طوال هذه الأيام وكأنها تصرخ بكل ما أوتيت من قوة أنه لا يعنيها!!
لكنها أساءت فهم ابتسامته فشحبت ملامحها لينخفض صوتها رغماً عنها مع استطرادها:
_أرجوك قول لا ...قول لا..

ظلت تتمتم بها برجاء التهمه شرودها القلق على صديقتها ...والذي قطعه هو بقوله:
_ولو قلت لك أيوة ...هتعملي إيه...هتقولي لصاحبتك ؟!

ازداد شحوب ملامحها ووهج قوتها يتراجع من جديد خلف خوف مبهم عاد يسكن روحها ...
هانيا آخر ما تبقى لها هي من "جدران" هذا العالم ...
لو تهاوت ...فستكون بعدها مجرد ريشة في مهب الريح!
خيانة رامز ستكون طعنة في صدر كبريائها ربما يمكنها مداراة ألم نزفها لكنها ستموت بها في كل يوم ألف مرة !

_تفتكري هتفرق معاها؟!
سؤاله الذي تسربت فيه مرارته عبر كبرياء رجولته يعاود اختراق سمعها وسط هواجسها فتهتف بتشتت:
_انت بتقول إيه ؟! أكيد هتفرق ...هانيا بتحبك ومش ...
_بتحبني؟! بذمتك ؟! عمرها قالتهالك ؟! عمرك حسيتِ بيها منها؟!

كانت نبرته تزداد انفعالاً مع كل سؤال يلقيه ...
هانيا حقاً لم تخبرها يوماً أنها تحبه !
كل حديثها عنه كان في إطار "عمليتها" المعهودة !
مجرد زوج مناسب لامرأة لا ترى في الزواج أكثر من مكمّل لمظهرها الاجتماعي!

لهذا ازدادت انكماشاً في مقعدها وعيناها المذعورتان تعودان لخوفهما القديم بينما طلقات أسئلته لاتزال تصيب صدر إدراكها:
_عندك تفسير لتصرفها يوم الفرح ؟! تقدري تقوليلي ليه مشيت بالطريقة دي ؟! ليه أحرجتني وأحرجتك بالشكل ده ؟!
ثم صمت لحظة ليلتقط أنفاسه بينما تغيم عيناه بنظرة مرارة قاتمة ناسبت غمغمته الخافتة:
_وليه طول الفترة دي ما كلفتش نفسها حتى تسأل عليّ؟!

ارتجفت شفتاها وهي تتأمل ملامحه ب"جهل" من تراه بهذا القرب لأول مرة!
طالما صنفت الرجال في معسكرين لا ثالث لهما ...
إما معسكر "الأعداء" المتربصين بأنوثتها المنتهكة ...
وإما معسكر "الأحبة" الذي لم يشغله سوى فرد واحد ...أحمد!
والآن لا تدري أين تضع رامز هذا فيهما...
هل هو الرجل الذي سلب أحمد حياته بتهوره ...والآن يبحث عن ذريعة ليخون زوجته ؟!
أم هو الرجل الذي ساندها في أشد لحظات حياتها قتامة سواء كانت تحت سقف بيته أم وحدها في شقتها ؟!
هل هو الصورة "الذئبية المعدلة" لزوج أمها ...لزميل دراستها...لجارها القديم ...لزميل عملها ؟!!
أم هو انعكاس آخر ل"رجولة " أحمد؟!
وكيف تجيبه عن كل هذه الأسئلة التي يلقيها الآن في وجهها وهي نفسها لا تفهم سر تغير هانيا وتباعدها مؤخراً ؟!

_عموماً ...هاريحك يا غادة !
قالها أخيراً وهو يتفحص ملامحها التي سكنها خوفها الآسر من جديد بإشفاق استنفر حميته الرجولية ...
فالتمعت عيناها بسؤال أجابه دون انتظار:
_مفيش حاجة بيني وبين يارا ...ولا هيكون!
تنهدت بارتياح لترتخي ملامحها بابتسامة شاحبة سبقت قولها :
_الحمد لله...صدقني ...هانيا مش زي ما انت شايفها ...هانيا بتخبي مشاعرها من كتر ما بتخاف من تأثيرها عليها ...قلبها عندها غالي قوي..
_بس كرامتها أغلى...طموحها أغلى ...أي حاجة في الدنيا تخسر قدام الاتنين دول.
قاطعها بها بسخرية مريرة فازدردت ريقها بتوتر وهي عاجزة عن الإنكار ...
لكن هذا لم يمنعها من القول بنبرة عادت إليها قوتها المستحدثة:
_لو هي مش قادرة تمشي خطوة ناحيتك امشيها انت...العمر أقصر من إننا نضيعه في عِند ومكابرة...اسألني أنا.
ارتجفت حروفها الأخيرة بنكهة شعورها بالفقد لتتكدس الدموع في عينيها اللتين غاب عنهما خوفهما لتحل محله مرارة حزن اجتذبت حنانه...
خاصة عندما أردفت بنفس الانفعال الصادق:
_عمرك ما هتلاقي زي هانيا ...ست قوية تحميك في ظهرك قبل ما يكون قدامك...ست مابتعرفش تزيف أو تخون...ست بتعرف تشيل مسئولية من غير ما تشتكي أو تمن عليك...ست الحب عندها مش كلمتين ...الحب عندها سند ...حماية...طوق ما بتخلعوش من رقبتها عمرها كله ...يا بختك بيها...يا بخت أي راجل عنده ست زيها .
كانت تلهث في آخر عبارة مع التماع عينيها بحماس جعله يبتسم ابتسامة حقيقية مع إعجابه بدفاعها المخلص عن صديقتها ...
دفاع من تدرك قيمة ما تتحدث عنه خاصة وهي نفسها تفتقده !
فصمت للحظات متفحصاً ملامحها التي اشتعلت بصدق مشاعرها نحو صديقتها ثم مال نحوها للأمام قائلاً :
_انتِ جميلة قوي.
_فعلاً!
والجواب "الساخر" لم يأتِه منها ...
بل من تلك التي كانت الآن تقف جوارهما تماماً ترمقهما بنظرة جوفاء تخفي اشتعال صدرها بحسرته...
أجل...هانيا !
======
لم تكن تعلم وهي تتقدم نحوهما أي قوة مستقلة كانت تمتلكها قدماها فيما يتفتت قلبها من الداخل ...
لم تكن تعلم وهي تتلقى وشاية بواب العمارة التي تقيم فيها غادة عن خروجها وحدها أنها ستتبعها نحو هاوية علاقتين...
لا علاقة واحدة !
أجل ...هي لم تخسر صديقتها فحسب بل خسرت حبيبها كذلك !
حبيبها؟!
الآن تعترف بها هكذا ببساطة دون تعقيدات؟!
وهل بقي لها إلا الاستسلام لهذه الحقيقة ؟!
وإلا بما تفسر هذه القبضة القاسية التي تعتصر قلبها وهي تراه يكاد يلتهم ملامح صديقتها ....عيناه معلقتان بابتسامتها ...
والآن تتدخل أذنها لتسمع بنفسها اعترافه بجمالها!
طوال الأيام السابقة وهي تكذب كل ما وصلها عنهما ...
تذكر نفسها بأن الرجل الذي كان يراها شمس عالمه الثانية لن يرتضي عنها بديلاً...
وبأن صديقتها التي ساندتها هي في أشد لحظات حياتها حلكة لن تخون ...
والآن ...؟!!!
الآن !!!
ماذا؟!
هل ستسمح لنفسها بالسقوط على مسرح خيانتهما أمام جمهور لا يرحم ؟!
هل ستركع أمام سلطان شعور الفقد الذي طالما حصنت نفسها ضده ؟!
لا!
حاشاها حاشاها!!
فيما كان إذن جدار صلابتها الذي تحصنت خلفه طوال هذا العمر؟!
ألم يكن هذا عدوها الذي بقيت تتربص له خلف قلاع جمودها ؟!
ابكِ يا قلب واتشح بالسواد ...وَلوِل كما الثكالى واصرخ كما شئت...
لكن أفسح المجال لكبرياء لن ينحني مثلك أبداً !!

لهذا ما كادت تسمعه يصفها بالجمال حتى أودعت كلمتها الوحيدة كل معاني برودها الساخر ...
فعلاً غادة جميلة!
جميلة ناعمة رقيقة كما -يُفترض- أن تكون الأنثى في نظر ذاك الخائن !

كان رامز أول من تمالك مفاجأته وهو يسمع ردها المقتضب البارد على إطرائه لغادة...
ورغم أنه لم يقصد وقتها سوى وصف إعجابه بإخلاصها لصديقتها لكن البرود الذي اتشحت به هذه "الجاحدة" أمامه بعد فترة القطيعة هذه جعلته ممن تأخذهم العزة بالإثم ...

ليجد نفسه يقف مكانه في مواجهتها قائلاً بنبرة متحدية :
_جمال غادة ما يختلفش عليه اتنين...بس ما أظنش وقت الدكتورة الغالي يستاهل تضيعه وتيجي هنا بس عشان تصدق على كلامي.

الوقح...الخائن ...المخادع...!!!
كيف يجرؤ على مواجهتها بكل هذا البرود بعدما اكتشفت خيانته أمامها هكذا؟!
كيف يلقيها في وجهها بهذه البساطة وكأنها مجرد نكرة ؟!!
كيف انقلبت الأوضاع بهذه الغرابة لترجح كفة غادة وتهوي كفتها هي في ميزان اهتمامه ؟!!
الأفكار السابقة جعلت الدموع تحتل عينيها لكن كبريائها كان لها بالمرصاد !!
لن تسقط عبرات خسارتها ...تماماً كما لن تسقط هي!!

وعلى المقعد كانت غادة تراقبهما بعينين ماتتا ذعراً !
لم تعد فقط منكمشة في مقعدها بل انسل جسدها رغماً عنها لتغوص في مكانها أكثر وكأنما تود لو تختبئ تحت المائدة ...
هانيا لم تتهمها بشيئ لكنها تفهم هذه النظرة في عينيها جيداً !
تفهمها فقط ؟! إنها تحفظها !!

وكيف لا وهي موصومة بها منذ طفولتها ؟!!
مدنسة!
مدنسة!
مدنسة !

_تقدري تقوليلي بتعملي إيه هنا مع جوزي لوحدكم ؟!
سؤال هانيا الذي اشتعلت حروفه بالبركان المنتظر كان أول خنجر عرف طريقه لقلبها ...
لكن مهلاً...ليس الأخير!
هانيا التي أدرك عقلها أن رامز ببروده الساخر المستفز هو الطرف -الأقوى- هنا فالتجأت للطرف -الضعيف- تغرس فيه نصال غضبها ...
الطرف الضعيف الذي ازداد انكماشه مع ارتجافة جسده ودموعه تسيل فيما بدا لهانيا أنه اعتراف بالذنب ...

_مش زي ما انتِ فاهمة والله...أنا جيت هنا عشان ...عشان...

كلماتها المبعثرة بين ارتباك وخوف كانت تغادر شفتيها بشق الأنفس!
ماذا عساها تخبرها؟!
أنها جاءت إلى هنا لتحافظ لها على ما تبقى من زوجها؟!
أنها كانت تخاف خيانته لها بقدر ما تكره لها أن يصيبها أذى ...أي أذى؟!
أن القدر الذي اختار لها أن تسمع فقط غزل رامز بخل عليها أن تسمع دفاعها هي عنها والذي سبق هذا ببضع ثوانٍ؟!
لماذا تعاندها الظروف هكذا؟!
لأنها مدنسة !
لأنها دوماً رمز للخطيئة تجتذبها كما تجتذب الفراش النار!
إثمها يلاحقها ..يسِم جبينها ...حتى يكاد يقرأها الجميع ...
آثمة...عاهرة...مدنسة !!

_عايزة تعرفي قابلتها هنا ليه النهارده ؟!
كبرياؤه الذبيح يعاود تناول دفة الحوار ...الجاحدة التي طالما رفضت كل أيادي الحب التي مدها نحوها ...
التي طالما أعلنت زهدها فيه ....
الآن تظهر فجأة من العدم تريد إثبات تهمة غير موجودة ...فقط كي تقلب الأمور لصالحها !!!
لا...وألف لا!!
سيحاربها بنفس سلاحها وليكن ما يكون!
إن كانت تفتخر بقوتها وزهدها فيه ...فلتثبت هذا الآن ...
ولترحل بعدها للأبد !!
فلا خير في أنثى تترك رجلها لغيرها ولا تقاتل دفاعاً عنه حتى آخر رمق!
لهذا أخذ نفساً عميقاً وهو ينقل بصره بين المرأتين أمامه....
كلتاهما نظراتها راجية وإن اختلف الرجاء...
كلتاهما تناشده الصدق لعله ينقذ السفينة الغارقة ...
لكنه...سيكذب!
لقد جرب معها كل الطرق التقليدية كي يكسب قلبها العنيد...
فليجرب هذه المخاطرة إذن ...
إما كسبها ...أو خسرها واستراح من عناء هذه الحرب للأبد !!

_طلبت أقابلها عشان...أعرض عليها الجواز!

وسط هذا الطنين الذي احتل أذنيها لم تستطع هانيا سماع الأصوات المتداخلة للناس حولهم وقد اجتذب مشهدهم الأنظار في حادثة مثيرة لامرأة تضبط زوجها متلبساً مع عشيقته ...
لم تستطع التقاط شهقة غادة الذبيحة التي شقت صدرها قبل أن تغطي وجهها بكفيها وكأنها بهذا تداري عارها في العيون...
لم تستطع تبين لهاث أنفاسه التي فضحت استشعاره خطورة ما تفوه به ...
لكن طبيعته العنيدة جعلته يلقي أوراقه كاملة على المائدة وكأنما فجرت هذه المواجهة كل ما كظمه غيظه طوال هذه الأيام ...

_عايزة تعرفي عايزة أتجوزها ليه ؟! عشان عايز ست بتحس ...عندها قلب خايف عليّ وفاهمني...عايز ست أحس إني فارق معاها مش كل شوية تقوللي إنها مش خسرانة حاجة لو سبتها...عايز ست تشاركني مش كل همها تثبت لي إنها مستغنية عني بنفسها...عايز ست بتتفنن تبين جمالها مش بتهرب منه ومني!

كان يلقي عباراته بانفعال صارخ أنساه الزمان والمكان وتجمهر الناس حولهم ...
قد يبدو الأمر في ظاهره وكأنما كان يثأر بكلماته لكبريائه الذي أهدرته بطول تجاهلها ...
لكنه وحده كان يسمع فيه صراخ قلبه اليائس بحقه فيها !!
التهور لم يكن يوماً صفة تنقصه ...لكنه أهلكه حقاً هذه المرة ...
لا...لم يهلكه وحده ...
اثنتان من ضحاياه كانتا الآن أمامه ...
إحداهما تغطي وجهها بكفيها وجسدها يرتجف كأنما هي انتفاضتها الأخيرة...
والثانية ...؟!!!
الثانية لم تكن لتسمح لنفسها أن تخسر أكثر!!
يظن أنه سيلبسها جلباب العار ويحملها هي ذنب خيانته ؟!
لا!
هي أقوى من أن تخرج من هذه المواجهة خاسرة كبرياءها ...
كفاها قلبها!!

لهذا عقدت ساعديها أمام صدرها وعيناها تناطحانه عناداً بعناد :
_مبروك...لو الست في نظرك وش حلو وقميص نوم رخيص فانت اخترت المرة دي الست الصح اللي تليق بيك...ست ماتقدرش ترد إيد راجل تتمد عليها ...وابقى اسأل عن تاريخها القذر قبل ما تديها اسمك ...مع جوز أمها وجيرانها وزمايلها ....واللا أقوللك بلاش تسأل... انت ما تستاهلش أحسن من واحدة زيها !

صفعته القاسية لها أعادت لها الشعور الذي ظنت نفسها وأدته بهذا الجمود الذي تدعيه...
فانهمرت دموعها غزيرة على وجنتيها وهي تدرك لتوها فداحة ما قالته...
هي لم تتورع أن تستغل ماضي صديقتها الذي ائتمنتها عليه لتطعنها به في "صدرها"..
لكن ما الضير هاهنا ...
ألم تطعنها غادة في "ظهرها"؟!!
غدر بغدر والبادي أظلم !!

_انتِ طالق!
هتف بها بكل ما أوتي من قوة وهو لا يرى في ملامحها إلا مسخاً مشوهاً من امرأة عشقها يوماً بكل جنون ...
فأعطته ظهرها لتركض مغادرة المكان بخطوات لم تفقد ثباتها رغم كل شئ ...
لم يكترث بصياح الناس حولهم وقد اندفع بعضهم يحاول إبعاده عنها بعدما نالها من صفعته ...
فقد بدا وكأن الزمن قد توقف في عينيه فلم يعد يرى سوى لسانها يقذف السم في وجهه ...
كيف تهينه بهذه الطريقة؟!
بل كيف تجرؤ على وصف غادة بهذه البشاعة ؟!
كيف سولت لها نفسها أن تنتقم بهذه الطريقة ؟!
ولو صدق نفسه لأدرك أن كليهما لم يرَ في هذه اللحظة إلا نفسه وجعل من البائسة غادة كبش فداء!!
غادة ؟!
أين غادة ؟!!
تلفت حوله بقلق محاولاً البحث عنها وسط الفوضى التي عمت المكان مدركاً لتوه عظم الفضيحة التي نالتهم هاهنا...
لكنها لم تكن هناك بل اختفت...اختفت تماماً !
=======
_سرحان في إيه ؟! لسه بتفكر في ست الحسن بتاعتك ؟!
قالتها شوشو بغيرة وهي تجلس معه في أحد المطاعم ليجيبها هيثم بعد شرود قصير:
_خايف عليها قوي...داليا مجنونة وسهل تضيع نفسها ...بقى لها كتير مش ظاهرة واختفاءها ده يعني مصيبة ...اسأليني أنا.
_هي رفضتك وقطعت علاقتها بيك ...وانت عملت اللي عليك وبلغت ابن خالتها ...وخدت علقة سخنة من الراجل التاني ده بسببها ...خللي عندك كرامة بقا وانساها .
هتفت بها بغيظ ليلتفت نحوها قائلاً بضيق :
_خلاص يا شوشو انتهينا ...
_لا ماانتهيناش...مافكرتش الراجل اللي ضربك ده عمل كده ليه ؟! ويقرب لها إيه ؟!
_قصدك إيه ؟!
سألها باستنكار لتجيبه بسرعة:
_أكيد واحد من اللي معشماهم ...داليا دي بنت مش مظبوطة ...كل يوم بحكاية...مرة دكتور ياسر ...ومرة انت...والراجل اللي ضربك ده ...فوق بقا يا هيثم واحمد ربنا إنك خلعت قبل ما تلبس!

قالتها بلغتها الدارجة لتغادره بخطوات مندفعة تلاحقها نظراته الضائقة ...
شوشو تحبه !
هذا ما تنطق به ملامحها دون أي تصريح منها ...
لكنه لا يزال يدور في فلك حبه اليائس لداليا ...
صحيحٌ أنه قد بدأ يشعر بالفتور نحوها ...
لكنه لايزال يترقب أخبارها من بعيد ...ينتظر رؤيتها حتى وإن تظاهر بتجاهلها ...
يتعمد إثارة غيرتها بنشره لصوره مع شوشو على حسابه الاليكتروني وهو يعلم كم يثير هذا ضيقها ...
هو ما عاد يفهم نفسه حقاً!
لو كان يريد داليا فلماذا لم يتمسك بها أكثر؟!
لماذا كان يتهاون معها عندما كانت تقوم بتصرفاتها الطائشة مكتفياً بنصيحة باهتة ؟!
ولو كان لا يريدها فلماذا يشعر الآن بهذا الفراغ في روحه ؟!
لماذا لا يستطيع فتح قلبه لأخرى؟!
زفر بقوة عند الخاطر الأخير ليغادر المطعم بدوره ...
استقل سيارته وما كاد ينطلق بها حتى تلقى اتصالاً من والده الذي بادره بقوله المرح:
_لوحدك واللا معاك "سكر"؟!
فابتسم وهو يرد دعابته :
_لا النهارده "ساده".
ضحكة والده تصله عالية ليرد بعدها :
_اخس! ما طلعتش ابن أبوك...هي الستات خلصت واللا انت اللي ماعندكش نظر .
فيضحك بدوره ليجاريه في مشاكساته المعتادة :
_ماشفتش في حياتي أب بيحرض ابنه على الفساد زيك.
_بذمتك عمرك شفت أب لارج كده زيي؟!
_كده اكس لارج ياسحس !
ضحكاتهما تمتزج للحظات قبل أن يقول والده بجدية هذه المرة :
_عايزك تعدي على ملجأ الأيتام تشوفهم لو محتاجين حاجة ...واتأكد إن كله تمام...عايز أطمن قبل ما أطلع العمرة.
_حاضر يا سحس...بارك الله فيك...المكالمة بدأت ب"سكر" وانتهت شرعي ...هيجيلي انفصام كده !

قالها مشاكساٌ لينتهي الاتصال بضحكاتهما المشتركة...
حسين رجائي!
والده الذي يعتبر نفسه محظوظاً بأب مثله !
حنانه ...نجاحه...تقواه وورعه رغم ثرائه ...
نموذج نادر هذه الأيام وسط حياة "اللا أخلاق" التي نعيشها ....
فقط لو يستمع لنصيحته ويهتم بصحته التي يتجاهلها رغم مرضه !

انقطعت أفكاره عندما عاد الهاتف يهتز في يده فابتسم تلقائياً وهو يرى اسم "شوشو" على الشاشة ...
هذا أكثر ما يعجبه فيها ...
فترة صلاحيتها للنكد تكاد تساوي الصفر!
تغضب في ثانية وترضى في التي تليها...على عكس داليا تماماً !
وعلى ذكر داليا تراجعت ابتسامته قليلاً لكنه أصر على تجاوز خيبته هذه المرة ففتح الاتصال بسرعة ليقول بمرح تعمده :
_أهلاً ....يا سكر!
=======
_مفاجأة!
هتفت بها ياسمين بنبرتها الحيوية وهي تدخل عليه غرفته في عيادته فارتفع حاجباه بدهشة قبل أن يفتح لها ذراعيه بابتسامة فرحة ناقضت فظاظة عبارته:
_هنبدأ حركات الستات بقا وألاقيكي تطبي عليّ كل شوية في العيادة !
لكنها قرأت مشاعره بعينيه العاشقتين لتهرع إليه بخطوات متراقصة...
قبل أن تجلس على ساقيه متعلقة بعنقه مع قولها بنفس النبرة:
_انت لسه ماشفتش حركات ستات...بكرة أوريك جنون الغيرة على أصوله !
_برئ يا بيه !
قالها وهو يرفع ذراعيه باستسلام مصطنع فضحكت بانطلاق لتداعب أنفه بأنفها هامسة بمشاكسة:
_اعترف ...عينيك شافت كام واحدة حلوة غيري النهارده ؟!
_بتعرفي تعدي لغاية كام؟!
قالها وهو يراقص حاجبيه مشاكساً فشهقت وهي تعود برأسها للخلف هاتفة :
_كده ؟! وبتقولها في وشي؟!
ضحك بانطلاق وهو يعيد تقريب وجهها من وجهه ليقول بنفس النبرة العابثة:
_مش عاملة لي فيها واثقة من نفسك وجوّ "سترونج اندبنت وومن" ده ؟!
_إلا في دي ...معنديش هزار!

قالتها ببعض الانفعال ملوحة بسبابتها التي نالت منها شفتاه بعضة خفيفة جعلتها تطلق آهة مرحة ...
فعاد يقبل وجنتها ضاحكاً لتتنهد هي بينما أناملها تحتضن وجنتيه مع همسها:
_وحشتك؟!
التمعت عيناه بنظرة عابثة تقسم أنه لن يمنحها جواباً شفهياً يريحها وإن كانت لغة جسده تمنحها جميع الأجوبة المرضية ...
فتوهجت عيناها هي الأخرى بعبث مشابه وهي تنثر قبلاتها على وجهه هامسة بدلال :
_انت وحشتني قوي...قوي...

ولا يزال عطر ياسمينها رغم هدوئه يشعل براكين عواطفه التي ظنها خمدت للأبد...
سحر حبها يجتاحه عاصفاً فلا يملك أمامه إلا التسليم !
أين كانت هي منه طوال هذا العمر؟!
وكيف يسامحها أنها ظلت طوال هذه السنوات تحرمه من هكذا حب؟!!
بل ...والأهم...
كيف يمكنه الشعور بالارتواء من هذا العشق الذي كلما نهل من بئره زاد ظمأه للمزيد ؟!
ساحرة الألوان ألقت عليه تعويذتها ليتسلل عشقها بين جلده وعظامه فتكون منه ...ويكون منها !!

_وبعدين بقا في شقاوتك دي؟!
همس بها بعتاب مصطنع وأنفاسه اللاهثة تفضح تأثره بجموح عاطفتها لتبتسم هامسة بشقاوة لذيذة اكتسبتها مؤخراً معه:
_قل لي إني وحشتك وأنا هبطل شقاوة .
_ومين قاللك إني عايزك تبطلي؟!
همس بها بمكر لتنطلق صيحة دهشتها وسحرها ينقلب عليها مع هجومه الضاري الذي لم تتوقعه بهذه الخفة ...
وبهذا الاكتساح!
صيحات اعتراضها تنحبس في حلقها مع استسلامها لهذا الإعصار الذي لفهما معاً لدقائق ...
قبل أن تجد بعض الوعي والجرأة لتدفعه برفق هامسة بصوت مرتجف:
_وأنا اللي كنت مفكراك هتبقى عاقل في العيادة ؟!

فعقد حاجبيه ببعض الضيق وكأنما عاد إليه شعوره بالزمان والمكان هو الآخر ...
ليخبطها على رأسها بخفة هاتفاً :
_ماشي يا فصيلة!
ضحكت ضحكة قصيرة أخفت بها جذوة مشاعرها وهي تسند رأسها على صدره بشرود دام للحظات وقطعه هو بسؤاله :
_مالك؟!
قالها وهو يرفع ذقنها نحوه فالتوت شفتاها بابتسامة واهنة مع إجابتها:
_بفتكر أول مرة جيت لك فيها هنا...
ثم اكتسبت لهجتها نوعاً من الحدة مع استطرادها :
_وبحاول أنسى التانية !
ابتسم بدوره وهو يتذكر ما تحكي عنه عندما تجرأت عليه سيلين لتدخل ياسمين في نفس اللحظة وتسيئ فهم الموقف ...
ليرفع أحد حاجبيه قائلاً بغرور مصطنع:
_وأنا مالي ؟! هي اللي...
_خلاص يا يامن !
هتفت بها مقاطعة بغيرة صار يتلذذ بها فقرص وجنتها بخفة ليقول بنبرة تحذير لم تفقد مرحها:
_انتِ بتعللي صوتك عليّ واللا انا بيتهيألي؟!

لكنها أزاحت أنامله عن خدها لترمقه بنظرة عاتبة جعلته يقبل جبينها ليعاود تطويق خصرها بذراعيه قائلاً بشرود وهو يسترجع لقاءهما الأول:
_يومها حسيت إني شفتك قبل كده بس ما كنتش فاكر امتى ولا فين...نظرة عينيكِ كانت بتقول كلام كتير ماكنتش فاهمه...بس دلوقت بس حسيت معناه.
_إيه أول حاجة لفتت نظرك لي؟!
همست بها بابتسامة مشرقة ليلتفت نحوها مجيباً:
_"البرفيوم" بتاعك!
رفعت حاجبيها بدهشة فابتسم وهو يرفع راحتها نحو شفتيه اللتين استقرتا على معصمها مع نفس عميق منه سبق قوله:
_ريحتك عموماً مميزة ...مش بس "البرفيوم"...هي خليط كده من حاجات كتير ...يااااه...تعرفي؟! لي واحد صاحبي أكبر مني بكتير أصله بسيط بس ربنا فتحها عليه ولف العالم...مرة قال لي إنه بعد كل العمر ده وكل البلاد اللي راحها ...عمره ما عاش إحساس زي إحساسه وهو بيبوس إيد والدته وبيشم رائحتها ...توليفة كده بتاعتها لوحدها ...هي بس اللي كانت بتحسسني بشعور غريب...بكل أمان الدنيا وحبها ونعيمها...ولا أحسن "بيرفيوم" في الدنيا...
ابتسمت بتفهم وهي تشعر رغم بساطة حديثه بأنه يحمل لها أعمق معاني مشاعره ...خاصة عندما أردف بنفس النبرة الشاردة:
_يومها اتريقت عليه وزعل مني...عمري ما عشت الإحساس اللي كان بيوصفه ده وقتها ...بس النهارده لو قابلته هاعتذر له...هاقول له إن أنا كمان بقيت ألاقي ريحة مميزة مش شبه أي حد...ريحة معها بحس ب...

_بإيه؟!
هتفت بها تستحثه لإكمال عبارته التي قطعها فجأة لكنه بدا متحفظاً -كعهده- عن البوح بمشاعره فأشاح بوجهه ليسألها مغيراً الموضوع:
_ما قلتيش إيه سبب زيارتك هنا النهارده ؟!

ظهرت الخيبة على ملامحها للحظة وهي تتبين تهربه من مصارحتها بحقيقة أحاسيسه ...
لكنها تنهدت بكثير من التفهم مدركةً لطبيعته ...
لهذا صمتت للحظة ثم مدت أناملها نحو ياقة معطفه الأبيض هامسة :
_ممكن أقلعك البالطو؟!
_البالطو بس؟!
غمزها بها عابثاً فهزت رأسها متمتمة بابتسامة يأس:
_مفيش فايدة...على طول دماغك شمال!

قالتها ثم وثبت من على ساقيه لتقف مكانها ثم تناولت الحقيبة التي دخلت بها من على مكتبه لتستخرج منها ما رفعته أمام وجهه قائلة :
_وأنا برتب دولابي لقيت ده ! عارف عمره كام سنة ؟!
وقف بدوره ليتناول منها المعطف الأبيض الذي تزين جيبه العلوي برسم أنيق ل "ضرس" مفرغ وجواره كان أول حرف من اسميهما بالإنجليزية ...
ابتسم بإعجاب مشوب بالدهشة وهو يتوقع عبارتها التالية :
_ماعرفش إزاي نسيته طول الفترة دي...مع إنه كان أول حاجة أعملها لك بإيدي من سنين ...اتعلمت "الكانافا" مخصوص عشانه...عشت أيام وشهور أحلم باليوم اللي هالبسهولك فيه بإيدي ...مااخبيش عليك إني لما يأست خبيته في علبة في دولابي القديم في بيت ماما ...وبالصدفة النهارده لقيته ...يااااه أد إيه فرحت بيه !! ولقيت نفسي جاية جري على هنا .

ظل ينقل بصره للحظات بين عينيها الصارختين بعاطفتها ...وبين "قطعة قماش" وسعت الكون كله في ناظريه الآن!!
أجل ...هو لم يكن مجرد معطف!
بل نسيج من عاطفة وحنان وصدق و...سنوات لا يدري فيما مضت ولا كيف مضت ...لكنه يشعر برغبة حارقة في استعادة كنوزها معها هي...هي فقط !
آه...كم يود الآن لو يخبرها أن حياته قبلها لم تكن حياة ...
أنه يريد لو يعطل عداد العمر فيبدأه من جديد معها ...
أنه عاش عمره كله مشتاقاً لهذا الذي تمنحه الآن بسخاء ويتلقاه هو بنهم !
أنه يحبها ...
يحبها ؟!
بل يعشقها كما لم ولن يعرف يوماً !!
لكن حروفه احتبست خلف سدود كتمانه المعهود ...
فقط عيناه كانتا تفيضان بحبٍ اجتاحها وهي تنزع عنه معطفه برفق لتلبسه "معطف حلمها" مع قولها بلهجتها الحيوية :
_ما تقلقش ...عارفاك موسوس...غسلته قبل ما آجي .
ضحك ضحكة رائقة مستسلماً لحركات أناملها وهي تعدل له وضع المعطف لتنتهي بتربيتة حنون على صدره مع قولها بعينين دامعتين انفعالاً:
_زي ما حلمت بالضبط !

همست بها ونظراتها تحوطه كأنما فرغ الكون من كل ما فيه سواهما ...
قبل أن تقترب أكثر لتطوق خاصرته بذراعيها ملقيةً رأسها على صدره مع همسها الخاشع بعاطفته :
_سيبني في حضنك لحد ما أشبع يا يامن.

ماذا حدث له ؟!
لو كان ما يدور الآن بينهما مشهداً يراه لأشبعه سخرية واستهزاء !!
لكنه الآن -وهي بين ذراعيه ذائبة بعشقها- يشعر وكأنه مثلها غريق في نفس البحر!
قلبه يترنح ثملاً منتشياً بين ضلوعه ...
تارة تتسارع دقاته حد أنه يخشى على نفسه ...
وتارة تتجمد...تتباطأ...وكأنها تستجدي الزمن أن يفعل المثل!
قف هنا أيها العمر ...
لا تتقدم لحظة ولا تتأخر ...
هاهنا يحلو الخلود!!


رأسه ينحني ليستند لرأسها المزروع على صدره كقمر عاند حلكة ليله ...
وذراعاه يحوطانها برهبة طفل محروم امتلك فجأة علبة حلوى فلا يكاد يصدق خشية فقدها !
دقات قلبيهما تتعانق...تلتحم...تنصهر ...تقسم أن تتراقص على نفس الإيقاع...
والصمت يبسط سلطانه على أرض حب تبخسه الكلمات حقه ...

ترفع رأسها أخيراً تهم بالابتعاد وقد شعرت بأن وقفتهما قد طالت ..
لكنه يعاود جذبها نحوه هامساً بصوت متهدج :
_أنا لسه ما شبعتش.

ابتسامتها الآن تبدو ك"إكليل نصر" عادت به ملكة فاتحة بعد حرب طويلة...
فما كان أطول هذه الحرب ...ما كان أشقاها ...
والآن ما أجملها !
عيناهما تتبادلان كئوس الغرام وكلاهما يتشبث بصاحبه تشبثه بالحياة نفسها ...وربما أكثر....

صوت رنين مكتبه الداخلي يقطع عليهما سحر اللحظة لتنتفض مكانها فجأة بينما يزفر هو بضيق ليفتح الاتصال مع مساعدته وهو ينظر في ساعته ...
قبل أن ترتخي ملامحه بارتياح مفاجئ ليغلق الاتصال بقوله الذي عاد إليه مرحه المشاكس:
_حظنا حلو...الحالة اللي عليها الدور اعتذرت.
_عندك غيرها للأسف!
قالتها بنفس النبرة المرحة متحسسة وجنتها فعقد حاجبيه لتردف:
_حاسة بألم فيهم من الصبح...قلت آجي أطمن.
_ممممم يعني جاية تستغليني مش قصة بالطو وعواطف !
قالها مازحاً وهو يعاود الاقتراب منها ليقرص خدها بحركته المعهودة مردفاً:
_هاعديهالك بس عشان خاطر النوتيللا...مايخلصنيش نتحرم منها دي بقت طقس من طقوس قبل النوم.
ضحكت بخجل وهي تتذكر ما يعنيه بطقوسه هذه خاصة عندما أردف بنفس النبرة المشاكسة:
_ولو أني ما أضمنش ضميري المهني لو شفتك ممددة على الكرسي ده !

عادت تضحك بدلال وهي تتقدم لتستلقي على كرسي الكشف فتحرك بدوره نحوها ليستخرج أدواته من مكانها ...
قبل أن يجلس على كرسيه ويبدأ في فحص أسنانها ...
_هه...الألم فين بالظبط؟!

أشارت بسبابتها لموطن وجعها فانحنى ليبدأ عمله محاولاً التسرية عنها بالثرثرة كما يفعل مع مرضاه :
_قرأتِ اللي بعتهولك من شوية على الواتس؟! ...واحد نسبها لشكسبير بس مش عارف هو اللي قال كده واللا لأ .

أصدرت همهمة استحسان وهي تتذكر ما أرسله لها منذ قليل ...
والذي ناسب ما كانت تحاول والدتها تعليمها إياه ...


«لو رزقني الله ولداً، سأعمل جهدي أن يكون البالون أكثر ألعابه، وسأشتريه له باستمرار،
فاللعب في البالون يعلمه الكثير من أسرار الحياة والناس.
سيعلمه أن يصبح كبيراً بلا ثقل وغرور، حتى يستطيع الارتفاع نحو الأعلى.
وسيعلمه فناء ما بين يديه في لحظة وفقدانه بلا سبب أو مبرر، لذلك عليه أن لا يتشبث بالأمور الفانية، ولا يهتم بها أكثر من اللزوم.
وأهم شيء سيعلمه أن لا يضغط كثيراً على الأشياء التي يُحبّها، وأن لا يلتصق بها لدرجة يؤذيها ويكتم أنفاسها،
لأنه سيتسبب في انفجارها ويفقدها إلى الأبد...
.. فالحب يكمن في إعطاء الحرية لمن نحبهم.
وسيفهم، من خلال لعبة البالون، أن المجاملة والمديح الكاذب، وتعظيم الأشخاص للمصلحة يشبه النفخ الزائد في البالون، وفي النهاية سينفجر في وجهه، وسيؤذي نفسه بنفسه.

سيدرك أن حياتنا مرتبطة بخيط رفيع كالبالون المربوط بخيط لامع رفيع،
ومع ذلك تراها ترقص في الهواء، غير آبهة بقصر مُدّة حياتها، أو ضعف ظروفها وإمكانياتها.
«سأشتري له البالون باستمرار، وأحرص أن أنتقي له من مختلف الألوان، كي يحبّ ويتقبّل الجميع، بغض النظر عن أشكالهم وخلفياتهم الدينية والثقافيةوالاجتماعية !».

_عجبتني فلسفة البالونات دي ...واضح إنكم كتير!
قالها مازحاً وهو منهمك فيما يفعله قبل أن يضع ما بيده جانباً قائلاً:
_كله تمام...التهاب بسيط في اللثة ...هاكتب لك حاجة تجيب نتيجة سريعة...
ثم وقف فجأة لينحني عليها مردفاً بمكر :
_بس هنفتقد النوتيللا الليلة دي.
ابتسمت بخجل وهي تدفعه برفق لتنهض بينما هو يردف بنفس النبرة العابثة:
_رايحة فين ؟! طب شوية شقاوة ع الماشي!
_لينا بيت نتشاقى فيه يا طيب!

قالتها بدلال مرح وهي تقف مكانها لتردف بنبرة استئذان :
_ممكن أتأخر الليلة دي بس شوية ؟! انت عارف المطعم الجديد محتاج مجهود زيادة.
ظهر الضيق على وجهه للحظات قبل أن ترتخي ملامحه مع قوله :
_مفيش مشكلة ...ربنا معاكِ ...بس ما تتأخريش قوي عشان ...
قطع عبارته عامداً لتلتمع عيناه بجاذبيته التي تعشقها وهي تتوقع أن يكمل عبارته بأنه سيفتقدها ...
فضحكت وهي تكتف ساعديها بقولها المترقب:
_عشان إيه ؟!
_عشان...ما أوحشكيش!

قالها مغيظاً وهو يكزها بسبابته في أنفها فتنهدت بقليل من الخيبة التي لم تشفع لها ثقتها في عمق مشاعره ...
قبل أن تهز رأسها بيأس من رأسه الصلب فيما يخص تعبيره عن عواطفه بالكلمات ...
لهذا توجهت بخطى متثاقلة نحو الباب لتفاجأ به يضم ظهرها لصدره بحركة خاطفة مطوقاً إياها بين ذراعيه ...
والكلمة التي انتظرتها رغم همسه شديد الخفوت بها تدوي كزغرودة فرح في أعماقها ...
_هتوحشيني !
========
فارقٌ كبير سادتي بين ما نتوقعه وما نلاقيه !
هواجسك مهما بلغت ضراوتها لن تكون شيئاً أمام واقع تتلقاه جوارحك بكل قسوة!
ادّعوا ما شئتم من صلابة...
وتحصنوا خلف دروع تشاؤمكم كيفما شئتم ...
لكن تيقنوا أنه عندما تحين المواجهة فلن يعصمكم هذا من تلقي طعنات الألم !

هذا الذي أدركته هانيا وهي تفرغ دموعها على وسادتها ومشهده الأخير معها يتكرر لقطة لقطة لينتهي بجملته القاتلة ...."انتِ طالق"!
ألم تكن تتوقع شيئاً كهذا بعد قطيعتهما طوال هذه الأيام؟!
ألم تكن هي نفسها تخطط لهذا لو ثبتت لها خيانته؟!
ألم تكن لتطلبها بنفسها بعدما رأت بعينيها وسمعت بأذنيها؟!
أليست هي القوية المستكفية بنفسها عن كل من عداها والكافرة بهكذا حب؟!
لماذا إذن كل هذا الألم الذي يمزقها من الشريان إلى الشريان؟!
هل تبكي كبرياءها الذي أهانه على مرأى من صديقتها -أو التي كانت صديقتها- بل والكثير من الناس؟!
أم تبكي زواجهما قصير العمر الذي سيبقى ندبة في صحيفة حياتها؟!
أم تبكي انحدار نفسها لهذا السفح من هتك ستر امرأة ائتمنتها على أسرارها لتفضحها بالباطل؟!
أو لعلها تكون أكثر صدقاً وتعترف أنها تبكي خسارته هو!!
هو الذي احتل قلبها رغماً عن أنف "عقدتها" وكبريائها !!

طرقات خافتة على باب الغرفة قطعت أفكارها فانتفضت مكانها لتمسح دموعها بسرعة قبل أن تسمح للطارق بالدخول ...
خطوات نبيلة المترددة تصل لسمعها قبل أن تشعر بها تجلس جوارها على الفراش...
ما أثقل هذه الجلسة على قلبها!
نبيلة بالذات هاهنا لن تضيف لجرحها إلا المزيد من الوجع!
الغريب أنها لم تتوقع ردة فعلها على طلاقها حتى الآن!
هل ستلومها ؟!
ستتهمها بالتقصير في استغلال أنوثتها للاحتفاظ برجلها؟!
أم أنها على العكس ستذم رامز ببضع كلمات مجاملة لتمنحها سلوى زائفة؟!
لكن ما لم تتوقعه حقاً هو هذا العناق الذي منحته له "خالتها" والذي انفجرت معه دموعها من جديد !!
أجل ...لأول مرة تستشعر مذاق هذا العناق الدافئ الذي نقلها من خانة "النجمة" البعيدة لخانة "الخالة" ال...
ال...ماذا؟!
القريبة؟!
هل صارت قريبة حقاً؟!
الأمر يحتاج لما يفوق العناق !!
ربما يحتاج لمكاشفة...مواجهة...حديث من القلب ...
تماماً كهذا الذي تناله الآن ....

_قعدتك دي بتفكرني بنفسي من أكتر من عشرين سنة ... يوم ما طلقني عبد الرحيم والد يامن...وقتها كنت شبهك قوي ...صغيرة...حلوة...ذكية...طموحة.. .الدنيا كلها قدامي فاتحة لي دراعاتها ...إيه يعني راجل راح ...بكرة ييجي أحسن منه!! إيه يعني كام سنة عدّوا؟! ما العمر كله قصادي! إيه يعني بيت وابن ؟! يساووا إيه قصاد اسم وشهرة وفلوس وعالم بحاله ؟! أي ست بسهولة تبقى زوجة وأم لكن كام واحدة ممكن تبقى نجمة زيي ؟!

حملت عبارتها الأخيرة الكثير من سخريتها المريرة جعلت هانيا تحملق فيها فاغرة فاها وهي ترى منها هذا الوجه لأول مرة ...
عجباً...هل تشعر بيللا بالندم خلف قناع كبريائها هذا طوال تلك السنوات؟!
هل تحس الآن بظلم المقايضة بين ما باعته زهيداً وما لهثت خلفه ؟!

انقطعت أفكارها عندما تراخى ذراعا نبيلة حولها لتنهض من جوارها متجهة نحو النافذة لتعطيها ظهرها بينما تراقب السماء التي مالت شمسها للغروب :

_مش هاقوللك عبد الرحيم ما حبنيش...أنا عارفة إنه عاش ومات ومفيش ست في قلبه غيري...رغم كل اللي عمله فيّ...رغم إنه حرمني أشوف ابني قصاد إنه يطلقني ...رغم الكره اللي زرعه في قلب يامن...أنا بس اللي كنت فاهمة إن قسوته دي طبع مش كره ...طبع ما قدرتش أستحمله طول عشرتي معاه...

_ندمانة؟!
سألتها هانيا بخفوت وكأنها تخشى أن تفيق خالتها من نوبة صراحتها المفاجئة هذه فتعود للتخفي خلف قناعها من جديد...
لكنها أجابتها -لحسن الحظ -بشرود :
_إزاي ما أندمش؟! لما بشوف ست في عمري بتحسدني على شكلي...على عمري اللي مش باين عليّ...ببقى هاين عليّ أضحك في سري وأنا بلاقي نفسي أنا اللي بحسدها على لمة ولادها حواليها...على إيد جوزها اللي سانداها ...على كام شعراية بيضا وشوية تجاعيد بتحكي حكاية شقاها وتعبها اللي لقيت تمنه في الآخر ...دفَعِت حب وقبضِت حب...لكن أنا...

غص حلقها بدموعها أخيراً لتقطع عبارتها للحظات احترمت فيها هانيا صمتها ...
قبل أن تسألها بصوت غلبه إشفاقه :
_وليه بتقولي لي كده دلوقت؟!
_عشان ما تغلطيش غلطتي...أنا سبت عبد الرحيم بسبب عيلته اللي كانت مأثرة عليه...كانوا دايماً مفهمينه إني مش من توبه...وإني في أي وقت هاحن للفن والشهرة...كانوا بيشحنوه ضدي فاتحول الحب لسجن من وساوس وشكوك وقسوة ...وقتها كنت صغيرة ما استحملتش...يأست بسرعة واستسهلت أهد البيت ...لكن لو رجع بي الزمن عمري ما كنت هاسمح لهم ولا هاسمح له هو نفسه ... كنت هدافع عن بيتي وابني بكل طاقتي ومش هاخللي قوة في الدنيا تمنعني عنهم.

ثم استدارت نحوها لتردف بنبرة أكثر حدة :
_وانتِ دلوقتِ بتعيدي التاريخ تاني؟! بتسمحي لواحدة تاخد منك جوزك وبيتك من غير مقاومة وفرحانة قوي إنك بتنصري كرامتك؟! معشمة نفسك في شغلك وطموحك ومش هتاخدي بالك إلا لما العمر يجري بيكِ وتلاقي نفسك لوحدك ...تفتحي إيديكِ ما تلاقيش غير هَوا...هوا!

ربما لو كانت تحدث امرأة أخرى بغير عناد هانيا لآتت نصيحتها ثمارها ...
لكن الأخيرة لم تكن تنظر للأمر من هذه الزاوية...
هي لم تكن ترى سوى ما تظنه خيانة فحسب...
والخيانة في عرفها لا تحتمل جملة جديدة بل تعد نقطة آخر سطر حُسِم مصيره !
لهذا غضت الطرف عن كل ما سمعته لتغير الموضوع بسؤالها:
_يامن عارف اللي حكيتيه ده ؟!
تنهدت نبيلة بحرارة وهي تطرق برأسها مع إجابتها بالنفي لتعاود هانيا سؤالها باستنكار:
_وليه ما قلتلوش ؟! ليه سايباه عايش طول السنين دي على الفكرة اللي زرعها فيه والده ؟!
_عشان هو ما سألش...عشان عارفة إنه مش هيصدقني...ويمكن عشان حاسة إني مااستاهلش صورتي في عنيه تبقى أحسن بعد ما فرطت فيه زمان .

غمغمت بها نبيلة بصوت مزج ندمه بصدى كبرياء لم يفارقه رغم كل شيئ ...
لتردف بعدها بنبرة أقوى بينما تعاود الاقتراب من ابنة شقيقتها:
_لما والدتك الله يرحمها ماتت ورغم زعلي عليها حسيت إن الدنيا بعتتلي فرصة تانية لما جمعتكم في حضني انت واخواتك ويامن...كنت عارفة إن طريقي خلاص بانت نهايته لكن كنت بشوف فيكم القصة اللي عايزاها تكمل صح...
ثم صمتت لحظة لتردف بضحكة مكتومة :
_الفيلم اللي عارفة إني عمري ما هاقدر أبقى "بطلته"!
عادت عيناها تمتلئان بالدموع في عبارتها الأخيرة فوقفت هانيا مكانها لتحتضن ساعديها بكفيها ...
هنا ابتسمت نبيلة وهي تشيح بوجهها لتستطرد بنفس النبرة:
_يمكن ما قدرتش أكون أم...لا ليامن ولا ليكم...لكن هانصحك دلوقت بحق حاجة واحدة بس ...حاجة اوعي تشكي فيها مهما حصل...إنكم أغلى حاجة في حياتي وإني مش عايزاكم تخسروا زي ما انا خسرت .

ظلت هانيا ترمقها بنظرة غريبة وهي تشعر أنها لأول مرة تراها من هذا الجانب الإنساني...
طالما بدت لها نبيلة مسخاً مشوهاً لامرأة فقدت هويتها فلم تعد ترى قيمة لنفسها أبعد من جمال جسد !
لم تتصور يوماً أن خلف هذه "الدائرة الخارجية" دوائر أخرى من مشاعر ندم وألم !
ورغم أن هذا كان من الأولى به أن يجعلها تستمع لنصيحتها التي استشعرتها بهذا الصدق الحار...
لكن عنادها ...كبرياءها...جرحها "الطازج"...كل هذا كان حائط صد أمام ما سمعته منها ...
لهذا أخذت نفساً عميقاً لتزيح كفيها ببطء عن ذراعي نبيلة مع قولها بنبرة مكابرة:
_ما تخافيش...مش هاخسر زي ما خسرتِ...مش عشان أنا أقوى واللا أذكى بس عشان أنا عارفة كويس أنا عايزة إيه .
هنا عادت نبيلة تلتفت نحوها بابتسامة ساخرة ناسبت قولها الذي حمل الكثير من المرارة:
_مش هاضغط عليكِ...فيه دروس لازم نتعلمها لوحدنا عشان ما ننساهاش بعد كده ...
قالتها ثم عاد إليها قناعها الذي تعرفه كلتاهما لتردف :
_أنا خارجة ...عندي معاد مهم في النادي .

ثم أعطتها ظهرها لتغادر وكأنما استكفت بما أبدته لها منذ قليل من ضعف أنوثتها ...
لكنها ما كادت تغادر الغرفة حتى اصطدمت به واقفاً جوار الباب ...

_يامن...انت هنا من امتى؟!
قالتها بارتباك وهي تتفحص ملامحه المتجهمة ...
هل سمع حديثها مع هانيا؟!

_لسه جاي.
كانت تعلم أنه يكذب!
وإلا فلماذا يتحاشى لقاء عينيها بهذا التصميم ؟!
حاجباه منعقدان بشدة وقطرات عرق خفيفة تظلل جبينه الغائم بعاصفته...
تماماً كما كانت تعلم أنه حتى لو سمعها فلن يعقب بشيئ!
صندوقه "الأسود" سيبقى مغلقاً على ما فيه !
لهذا تشبثت بقناع كبريائها من جديد لتقول بنبرة محايدة :
_هانيا صاحية لو عايز تكلمها ...أنا خارجة.

رمق ظهرها المنصرف عنه بنظرة طويلة وهو يستعيد ما سمعه منها لتوه...
الآن يكتمل الجزء الناقص من الصورة ليبدو له المشهد كاملاً...
بيللا لم تكن "شيطان" الحكاية كما كان يتصور ...
تماماً كما لم يكن والده "ملاكها" الجريح ...
كلاهما غلبته طباعه ليدور شقا الرحى طاحنين بينهما حباً كان أضعف من أن يصمد !
يكذب لو قال أن ما روته "نبيلة" لم يحرك بداخله شعوراً مغايراً نحوها بالشفقة...
بالرثاء...بل سيكون صادقاً مع نفسه أكثر ليعترف أنه لم يرها يوماً أكثر إنسانية من هذه اللحظة..
إنسانية...وليست أمومة!
والفارق بينهما عميق جداً لو تعلمون!

لهذا زفر زفرة قوية وهو يسمع باب الشقة يغلق معلناً عن استسلامها لدور "بيللا" من جديد...
قبل أن يعود ببصره لباب غرفة هانيا الذي تقدم منه أكثر ليطرقه منتظراً سماحها له بالدخول ...
عيناه اللتان امتزج حنانهما بحزنهما تراقبان ملامحها الذابلة بقلب يرتجف حزناٌ عليها ...
لكن لسانه يلفظ بفظاظته المعهودة :
_اوعي تعيطي تاني...حركات الستات الخايبة دي مش بتاعتك انتِ...انتِ أقوى من كده !

دمعت عيناها من جديد وكأنما لم تشفع ثقته السابقة في قوتها ...
فتنهد بحرارة ليجلس جوارها على الأريكة الجانبية قبل أن يردف بنفس النبرة :
_مش عايز كلام نبيلة يأثر فيكِ...انتِ صح...الراجل اللي يخون مرة يخون عشرة...واللي يبيعك رخيص تبيعيه ببلاش...حتى لو جالك زحف بعد كده -وأنا عارف إنه هييجي- مش هارجعك ليه .
ازدادت الدموع كثافةً في عينيها لكنها تصنعت التماسك بابتسامة مرتجفة ليستطرد هو مؤكداً بينما يلوح بسبابته :

_لو شكيت ما تكملش...ده مبدئي...لو الأثاث مضروب يفيد بإيه لو رفعت مِيت دور؟! مسيره هيقع!

ابتلعت غصة مرارتها وهي تومئ برأسها موافقة...
ثم تجاوزت الحديث عن الأمر لتسأله بتماسك مصطنع:
_انت سمعت كلام نبيلة كله ؟!
أطرق برأسه مدركاً ما تعنيه بسؤالها والذي أكدته بقولها بعدها:
_بعد كل السنين دي وبعد اللي عرفته أفتكر من حقها تديها فرصة تانية يا يامن...يمكن الحاجز اللي بينكم ده يتكسر .
ظل مطرقاً برأسه للحظات بعدها تجتاحه أفكاره بين مد وجزر ...
ثم رفع عينيه إليها ليقول بنبرة أكثر رفقاً:
_سيبك مني وخليكِ في نفسك...أنا عارف إن التجربة صعبة عليكِ...بس الضربة اللي ما بتكسرش بتقوي...والدنيا ما بتقفش بينا مهما حصل.
فأومأت برأسها موافقة لترسم على شفتيها ابتسامة تصميم ناسبت قولها:
_معاك حق...ماتخافش عليّ...الباب ده اتقفل خلاص...من النهارده مش هاشوف غير مستقبلي وشغلي وبس.
=======
_مبروك علينا.
همست بها بحب وهي تتأبط ذراعه في حفل افتتاح مطعمها الجديد...
أو بالأدق مطعمهما المشترك الذي حمل رمزها الأثير لحرف الياء بالعربية حيث ينثني طرفه بشكل القلب...
أخيراً تشهد الدنيا كلها على حبهما الذي توجه عمل مشترك...وزواج مشترك...
وليته يكتمل بثمرة أخرى تتمناها بكل جوارحها !

_ما تتصورش فرحتي بالمطعم ده ...رغم إن سينابون أول فرحتي وطعم نجاحي لكن هنا بحس إني كملت عمري بيك.

لاتزال مستمرة في انطلاقها الذي يغبطها عليه في التعبير عن مشاعرها بينما اكتفى هو بحديث عينيه اللتين كانتا تشاركانها فرحتها ...
رغم فظاظة عبارته المتوقعة :
_هاقفلهم لك الاتنين لو شغلوكِ عني!

ومن مثلها يمكنها أن تقرأ في عبارة جافة كهذه ما عجز لسانه عن البوح به ؟!
لهذا ضحكت ضحكة صافية وهي تلتصق به أكثر لترفع إليه عينيها بهمسها العاشق:
_معقول لسه مش مصدق إن مفيش حاجة في الدنيا تشغلني عنك ؟!انت في كفة والعالم كله في كفة تانية !
تزينت شفتاه بابتسامة راضية ليغمزها بينما يميل عليها بهمسه الماكر:
_صراحة انت تستاهلي مكافأة على الكلمتين دول بس مش هنا وسط الناس.
عادت تضحك للحظات قبل أن تستطيل على أطراف أصابعها لتهمس في أذنه بدلال:
_مستنياها بفارغ الصبر.

ارتفع حاجباه بدهشة من جرأتها المستحدثة فابتسمت برضا وكأنما أسعدها أن تفاجئه...
هنا التمعت عيناه بفيض عاطفته وهو يرمقها بنظرة عميقة سبقت همسه:
_كل ما أقرب أحس إني خلاص فهمتك تفاجئيني بوش جديد منك ما شفتوش قبل كده ...أول ما عرفتك قلت ست مسترجلة واثقة في نفسها ناجحة في شغلها دماغها ما تشيلش غير أرقام ...بعدها شفت وش تاني لست بتحب من غير حدود ولا عقل ...ساعات أشوفك مثالية لدرجة إني أرسمك في خيالي من غير عيوب...قوية...طموحة...حماسية... وساعات أشوفك هشة جداً...لدرجة ببقى خايف عليكِ من طولة لساني...مرة رقيقة ومكسوفة...مرة جريئة ودلوعة...حيرتيني معاكِ!
_وهو المطلوب يا دوك...عشان ماتزهقش مني وتحس إن معاك "كوكتيل" ستات مش ست واحدة !
قالتها بنبرة عابثة تشبه نبرته قبل أن يكتسب صوتها المزيد من الجدية مع شرودها بقولها:
_مش قلت لك قبل كده ؟!...كلنا سينابون...دواير لافة حوالين بعضها ...واللي يحكم ع الدايرة الخارجية بس يبقى غلطان .


انعقد حاجباه بشك وشرودها يزيد وقع كلماتها الغامض في أذنيه ...
ربما لايزال عاجزاً عن فهم فلسفتها الخاصة بالبشر في دوائرهم المتداخلة...
لكنه لايريد أن يصدق إلا هذا الوجه "المثالي" الذي يراه منها !
هذا "الدرع" الذي يحتاجه ليصد وساوسه وشكوكه التي تتصارعه مع كوابيس كل ليلة ...
هو يحتاج أن يراها كما يرسمها عقله ملاكاً لم تدنسه خطايا بشر!
لهذا تجاوز عن حديثها بهزة رأس سبقت همسه العابث:
_إيه رأيك بالمناسبة دي تعملي لي مفاجأة ؟!
رفعت حاجبيها بدهشة لتضحك وهي ترمقه بنظرة مترقبة فقد كانت تعرف أن هذه النبرة الماكرة منه تخفي شيئاً...
_ممممم...مفاجأة زي إيه ؟!
_يعني...تخطفيني مثلاً؟!
ضحكت بانطلاق وهي تخفى وجهها في صدره بينما هو يردف بنفس البراءة المصطنعة:
_يعني نخلص الحفلة مثلاً وألاقيكِ واخداني من إيدي على العربية مثلاً ...وتطلعي بينا لحتة ماعرفهاش ...
_مثلاً....وبعدين ؟!
_لا سيبي بعدين عليّ أنا ...أنا مهاراتي ك"مخطوف" هتبهرك !
عادت تضحك وهي ترفع إليه عينيها بقولها المرح:
_مش خايف تعجبني اللعبة وأفضل خاطفاك على طول ؟!
_ياريت.

ورغم العبث الذي كان يقطر بين حروفه لكنها قرأت صدق قلبه يكاد يصرخ بكلماتها ...
كانت لاتزال متأبطة ذراعه بينما امتدت أنامله لتحتضن كفها على ساعده وعيناه تنتقلان بضيق بين نظرات الحضور التي تعلقت بهما وجعلتها وساوسه تخصها هي وحدها ...
رغم يقينه أن شمس عينيها لا تشرق ولا تغرب إلا على واديه وحده ...
لكن ما حيلته في غيرته عليها والتي تدفعه دفعاً لإخفائها عن هذا العالم بأسره؟!

بينما كانت تشعر هي وكأنما ملكت العالم كله بين كفيها ...
نجاحها يزين ناظريها أمامها بينما يحتويها هو بين ذراعيه ...فهل بقي من نعيم العالم المزيد؟!!

_تعال نشوف بوكيهات الورد اللي وصلت...شكلها يجنن!
قالتها وهي تتحرك معه نحو ذاك الجانب من قاعة المطعم الذي تراصت فيه أكاليل الزهور المهداة كما يتوقع في مناسبة كهذه...

_مامتك بعتت ده...رهيب...شايف فخم إزاي؟!
التوت شفتاه بابتسامة باهتة كانت تفهمها هي جيداً خاصة مع إجابته المقتضبة:
_بيللا دايماً ذوقها ملفت !

رمقته بنظرة مشفقة وهي ترى تعمده مناداتها بلقبها "بيللا" دون "أمي"!
وكأنما هذه فقط مكانتها في قلبه ...
لكنها تدرك جيداً أن خلف هذا القناع الساخر يكمن طفل منبوذ ينتظر العودة لحضنها ...ربما وقتها فقط يمكنه استعادة اتزانه !
حسناً...ستكون هذه قضيتها القادمة معه...أن تعيد له هذا الحجر المفقود كي يتم تشييد بنائه الذي ترتجيه له ...

لهذا تجاوزت عن هذا لتكمل رحلتها بين باقات الزهور وهي تقرأ بطاقاتها بصوت عالٍ وكأنما تفتخر بنجاحهما معاً...
ولم تكد تتم قراءة آخر بطاقة كانت منشغلة بها حتى فوجئت بسؤاله الغاضب خلفها:
_مين زين؟!
===========
استدارت نحوه بدهشة حاولت فيها السيطرة على صدمتها بكل قوتها لترد سؤاله بسؤال:
_مين زين؟!
انعقد حاجباه بحدة وهو يجذبها من كفها نحو الركن الآخر من القاعة والذي استقرت فيه باقة ضخمة مميزة وصلت لتوها فبدت وهي تقف وحدها هكذا كصرخة عالية في فراغ روحه ...
خاصة مع البطاقة المميزة التي حملتها بكلمتين فقط :
_"مبروك....زين"!
زين؟!
هذا الاسم اللعين الذي يطارده في كوابيسه يحرمه لذة الهناءة معها ...
هو يكاد يقسم أنه سمعها تتفوه به تلك الليلة وسط اسمه واسم طليقها بما بدا كالهذيان لكنها أنكرت....
تماماً كما تفعل الآن :

_ما اعرفش حد بالاسم ده ...يمكن حد صاحب بابا ...أو زبون متحمس شوية...أو يمكن حد تبعك انت!

كانت تحتاج الكثير من رباطة الجأش وهي تتحدث بهذه البساطة محاولة إقناعه...
ملامحها الهادئة كانت تخفي بركان غضب وخوف لو أطل على العالم لأحرقه !
لماذا يصر زين على التواجد في محيطها ؟!
لماذا الآن يظهر ليلوث سعادتها التي بالكاد نالتها؟!
لكن...لا!
لن تسمح له ولا لغيره أن ينال من غنيمتها التي منحتها لها الأيام بعد طول عناء!
يامن حب حياتها الذي ستفتديه بآخر قطرة دم...بآخر دقة قلب لو اقتضى الأمر!
لهذا رسمت ابتسامة متقنة على شفتيها وهي تسأله ببراءة مصطنعة :
_انت ليه متضايق كده ؟! تعرفه ؟!

ظل يتفحص ملامحها للحظات وهو يشعر بالاختناق مع لهاث أنفاسه الثائرة...
هل هذه ملامح امرأة كاذبة ؟!
قلبه يصرخ بألف لا ...وحده عقله يعيد تذكيره بما كان ...
وهواجس شكوكه تلقي رياحها على نيرانه فتزكيها أكثر!
الحرب بينهما تعتصره بين شقيها والحكم أولاً وأخيراً له...
فماذا يختار؟!
يصدقها مع قلبه...أم يكذبها مع عقله وظنونه ؟!!
العجيب أنه اختار هاهنا أن ...
يصدقها!
أجل...ذاك الطفل الذي يختبئ بين ضلوعه لم يجد سوى أن يتعلق بجلبابها هي راسماً لها أكثر الصور مثالية !
هي لن تكون أبداً "خصماً" في صراعه مع نفسه...بل هي "السلاح" الذي سيحارب به كل هواجسه !
أجل...أجل...
هذه السعادة الخالصة التي يتنعم بها معها تستحق أن يهزم طبيعته الوسواسية لأجلها !
ياسمين لا تكذب...ياسمين لا تخطئ ...ياسمين تعشق ...تعشق فحسب!

_مالك بس يا طيب؟!
عادت تسأله بنفس الهدوء الخادع الذي تداري به جحيماً بداخلها لا يقل عن جحيمه هو ...
لتلين ملامحه تدريجياً مع إشاحته بوجهه ...

_مفيش!
_يعني مستعد أخطفك دلوقت؟!

هتفت بها بضحكة انتزعتها انتزاعاً وسط الحرب هذه ليرمقها بنظرة أخرى طويلة وكأنه يحاول استجواب عينيها من جديد...
لكنها كانت أذكى من أن تقع في هذا الشرك عندما تأبطت ذراعه لتسير به خارج المكان مع ثرثرة مرحة استهلكت المزيد والمزيد من قوتها ...
حتى وصلا إلى سيارته فاستدارت نحوه لتهتف بنفس المرح المصطنع:
_تحب أخطفك فين ؟! أنا "مجرمة" ديمقراطية ولازم أسألك!

ملامحه المشتتة بين تصديق وتكذيب لم تمنحها سوى ابتسامة شاحبة سبقت قوله المحايد:
_عشان بس أول مرة أتخطف هاعمل معاكِ واجب وأسوق أنا...لو عجبني النظام هابقى زبونك .

ضحكت ضحكة عالية أوردتها كل انفعالاتها وهي تستقل السيارة جواره لتلقي رأسها على كتفه بينما ينطلق بهما ...
قبل أن تستسلم لصمت طويل محاولة إعادة شحن طاقتها ...
ستتجاوز هذا الموقف ...
ستتجاوزه كما تجاوزت ما هو أقسى!
لن تسقط من على هرم عشقها بعدما وصلت قمته !!

_يامن!
_ممممم؟!
_انت عارف أنا بحبك أد إيه ؟!
أحست بتصلب عضلة ذراعه الذي تتأبطه بينما تريح رأسها مغمضة العينين على كتفه وقد كانت هذه الإجابة الوحيدة التي نالتها لبضع ثوان فتنهدت بحرارة لتردف دون أن تفتح عينيها:
_يمكن أكون غير ستات كتير بتتكسف تعبر عن مشاعرها...بتخاف تاخد الخطوة الأولى وبتستنى حبيبها هو اللي ييجي الأول...بتعمل حساب كرامتها لو في يوم قال لها إنتِ اللي جريتِ ورايا...بس ...
_بس إيه؟!
قالها مستحثاً حديثها الذي قطعته بصمت قصير وقد نجح كلامها في الاستحواذ على اهتمامه لتفتح عينيها أخيراً وترفعهما إليه بقولها :
_بس أنا ما بحسبهاش كده...أنا ماحبتكش عشان عايزاك تحبني...أنا حبيتك عشان انت تتحب...عشان انت نُصّي التاني اللي مش هيكمله حد غيرك ...مش بمزاجي...غصب عني ...انت مش اختيار.. انت قدر!

يالله !!
هل من الممكن ألا يصدقها بعد هذه الكلمات؟!
هل بقي مجال لحرب يراها بين قلب غدا منتصراً وعقل تراجع مدحوراً؟!
لهذا حارب نفسه -بنفسه- هذه المرة لأجلها في سابقة تعد الأولى من نوعها في حياته ...
ليقبل جبينها المرفوع نحوه هامساً :
_ليه بتقولي لي كده دلوقت؟!
_انت عارف إني بحب أقولها كل وقت...بس الليلة دي بالذات حاسة إني لازم أقولها لك.
_اشمعنا؟!
_عشان نجاحي الليلة دي طعم تاني غير أي نجاح حققته قبل كده ...نجاح باسمي واسمك سوا.
ابتسم وهو يعاود تقبيل جبينها وقد نجحت مشاعرها الصادقة في نسف كل شكوكه ليعاود التركيز في الطريق بقوله :
_أتمنى خطة الخطف دي تعجبك ...أصلها كلفتني كتير من مبادئي الحقيقة .
_ليه ؟! هنروح فين ؟!
هتفت بها ضاحكة بفضول ليجيبها بغمزة لعوب:
_المخطوف المؤدب يتخطف وهو ساكت !
========






سمية سيمو غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 03-04-20, 12:24 AM   #1515

سمية سيمو


? العضوٌ??? » 396977
?  التسِجيلٌ » Apr 2017
? مشَارَ?اتْي » 4,356
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
?  نُقآطِيْ » سمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك action
?? ??? ~
keep smiling
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي


القطعة السادسة عشرة
************


_دي بنت هبلة !
قالها معتز لصديقه وهو يمسك هاتفه ملوحاً به مع استطراده :
_الحلوة طلعت خوافة وابن خالتها قِفل ومحوط عليهم ...تقلت عليها شوية وبعدين شاورت لها بالفيلم والبطولة...لكن المفاجأة إنها طلبت مني نخللي تصوير المشاهد في السر بعيد عن الاعلام لحد ما نحطهم قدام الأمر الواقع لما الفيلم ينزل !

قهقه صديقه ضاحكاً وهو يخبط كفيه هاتفاً:
_في السر؟! وكمان صدقت بجد إنها هتبقى بطلة الفيلم ....عملتها إزاي دي؟!
_دي الخبرة بقا.
قالها معتز بغرور وهو يقلب في هاتفه باحثاً عن صورها التي أطال التفحص فيها مردفاً:
_صاروخ! حلوة...خوافة...مغرورة...يعني صيد ممتاز...بنت الإيه بتلبس الحجاب وتقلعه بمزاجها...تقريباً خوف من ابن خالتها برضه...النوع اللي يخاف ما يختشيش ده بقا لعبتي!
أطلق صديقه ضحكة مستمتعة وهو يخطف منه الهاتف قائلاً:
_بس ينوبنا م الحب جانب...لقمة هنية تكفي مية .
ضحك معتز ضحكة ظافرة وهو يستعيد منه الهاتف ليقول بغرور:
_طب شوف بقا الخطوة الجاية ...هتعجبك !
قالها وهو يتلاعب بهاتفه ليتصل بها وما إن سمع صوتها حتى تنحنح ليقول باحترام خادع:
_آنسة داليا...آسف لو بزعجك في وقت مش مناسب.
صوتها المرتبك يأتيه بعبارة مجاملة تقليدية ليصمت لحظة قبل أن يقول متصنعاً الأسف:
_هو فيه خبر مش حلو...المنتج عنده اقتراح لبطلة تانية...ورافض إنه يدي الفيلم لوجه جديد...خصوصاً إنك رافضة تبذلي معنا مجهود في الدعاية عشان موضوع عيلتك وكده .
_يعني خلاص مش هاخد الدور؟!
الإحباط الملتاع في نبرتها يرضيه فيصمت للحظات قبل أن يقول بلهجة مدروسة:
_أنا عندي اقتراح...إيه رأيك تقابلي المنتج بنفسك...أنا متأكد إنه لو شافك هيغير رأيه .
غمزته الماكرة تلتحم بضحكة صديقه المكتومة ليصله ردها الحائر:
_طب فين ...وامتى؟!
_بكره عندنا حفلة صغيرة كده ع الطريق الصحراوي...نظام سافاري...خيم ورقص شرقي وغنا بدوي...إيه رأيك تيجي وتقابليه بنفسك ؟!

صمتها القصير يفضح ترددها ليبادر بنصيحته:
_الحفلة هتبدأ متأخر ...وأنا ممكن أوصللك بعد ما نخلص لو قلقانة .
ولما طال صمتها أكثر اضطر لقوله :
_لو مش هتقدري خلاص...بس مااضمنش ألاقيلك فرصة تانية .
_خلاص جاية.
قالتها بلهفة أرضته ليعاود غمز صديقه قبل أن يغلق معها الاتصال ...

وفي غرفتها كانت هي تنظر لهاتفها بقلق ...
إنها فرصتها الذهبية ولن تضيعها !
آن الأوان أن تخرج من عباءة يامن التي تطوقها هذه !
ستثبت له وللجميع نجاحها وقدرتها على الاستقلالية...
ستكون نجمة حقيقية مثل بيللا بل...أفضل!
هي فقط تحتاج للتأني حتى لا يفسد عليها يامن الأمر في مهده ...
لهذا اشترطت على معتز أن يتكتم على أمر التصوير ولا يظهرها في الدعاية...
لكن الآن...ماذا ستفعل؟!
زفرت بسخط ثم استلقت على فراشها لتهمس بعزم:
_هقابل المنتج ده وأقنعه...محدش غيري هياخد الدور ...دي فرصتي وجت لحد عندي .

صوت وصول رسالة جعل ابتسامة حقيقية ترتسم على شفتيها ...
ابتسامة لم تعد تعرف معناها إلا معه ...هو فقط...
الحبيب المجهول الذي يضفي على حياتها الباهتة بعض البريق ...

"افتقدت مشاكستك اليوم يا شقية"

لايزال يصر على محادثتها بالفصحى رغم أنهما قطعا شوطاً كبيراً في تعارفهما الغريب هذا ...
رغم أنها صارت تحكي له الكثير عنها ...كما فعل هو...
حتى باتت تشعر وكأنها تعرفه منذ زمن !
والغريب أنها صارت تتلذذ بتبادل محادثاتها معه بالفصحى هذه كأنها بها تدخل معه عالماً جديداً كعالم الروايات والأساطير ...
لا عالماً حقيقياً كواقعها الذي تعيشه !

لهذا تحركت أناملها لتكتب له بسرعة :
"أنا الأخرى افتقدتك يا عنيد "
_"عنيد؟!"
_"لأنك ترفض إخباري المزيد عنك...اسمك...عملك...عنوانك...أل ا يحق لي معرفة ما يعرفه الآخرون؟!"
_"ومالك وللآخرين؟! دعي لهم ظاهري ولكِ أنت الباطن!"
_"إذن...حدثني عن ماضيك...عن النساء في حياتك"
_"النساء في حياتي؟!"

تأهبت حواسها لما سيكتبه وهي ترى النقاط تتراقص على الشاشة بما توحي بأنه يكتب شيئاً...
ثانية...اثنتان...عشرة....
هل تأخر أم هي من تتعجل الجواب؟!
هل سيتباهى بكثرة مغامراته ؟!
أم سيدعي أنه لم يعشق قبلها؟!
لن تصدقه ...لن...

_"أنتِ...أنتِ....وأنتِ...أنتِ كل نسائي"

ابتسامتها تتحول لضحكة نقية...وهي تجد نفسها رغماً عنها تقبل الهاتف حيث كلماته ...
كلماته التي تمس جانباً بروحها لم يمسه أحد قبله ...
هل ظنت أنها يمكن ألا تصدقه؟!
كيف وقلبها يكاد يقسم :هذا العشق ليس بكاذب!
لقد بدأ الأمر ب"لعبة" ...لتجده يتملك من قلبها يوماً بعد يوم...
ربما هو إحساسها بصدق شعوره...
ربما هو غموض صورته الذي يضفي عليه المزيد من الجاذبية...
وربما السبب فيها هي ...
هي التي تفتقد اهتماماً خالصاً كاهتمامه...
دون غاية أو غرض!
إنه حتى لا يحاول طلب لقائها !

وعند الخاطر الأخير تذكرت ما جعلتها تكتب له بذهن مضطرب:
_"الغد يومٌ مصيريٌ عندي...ربما أقترب من تحقيق حلم طالما تمنيته"

كان معتاداً على تجاهلها لمشاعره وإن كان يدرك أن سهامه البطيئة الواثقة قد بدأت تؤتي ثمارها معها ...
لكن عبارتها الأخيرة أقلقته ليكتب لها بسرعة...

_"وماذا سيحدث غداً؟!"
ابتسامتها العابثة تعاود غزو شفتيها ...لتكتب له منهية المحادثة :
_"سأخبرك في الوقت المناسب."
========
(لو الست في نظرك وش حلو وقميص نوم رخيص فانت اخترت المرة دي الست الصح اللي تليق بيك...ست ماتقدرش ترد إيد راجل تتمد عليها ...وابقى اسأل عن تاريخها القذر قبل ما تديها اسمك ...مع جوز أمها وجيرانها وزمايلها ....واللا أقوللك بلاش تسأل انت ما تستاهلش أحسن من واحدة زيها !)

كانت الكلمات السابقة تتعاقب في قذفها لصدرها كنصال حادة يعرف كل منها طريقه لقلبها الذي ما عاد يحتمل...
مستلقية على "بقعة أمانها" الوحيدة في هذا العالم...
"فراش أحمد" ....
محتضنة لوسادته ...
أناملها تداعب دبلته في إصبعها ...والتي لم تكن مجرد حلقة ذهبية...
بل كانت "شارة طهارتها" الوحيدة التي منحها لها القدر وسط كل الصرخات التي كانت تنادي بدنسها ...
رائحة الغاز "النفاذة" تحتل أنفها فينفر منها جسدها بردة فعل تلقائية لكنها مع هذا كانت تشعر بارتياح غريب مدركة قرب الخلاص...
ستموت الآن هنا...
على فراشه ...وسط بقاياه الوحيدة التي منحتها انسانيتها وسط هذا العالم القبيح...
ستلحق به مادام قد عجز هو عن البقاء معها ...
طالما كرهت الموت واعتبرته عدوها في هذه الحياة...
ليس فقط كونه قد حرمها من أحمد...
بل منذ اختطف أباها وهي لا تزال طفلة صغيرة ليتركها أسيرة أمّ لا تستحق هذا اللقب...
لكنها الآن قررت مهادنته ...قررت الخضوع لسلطته...
ربما لا يكون الموت قاسياً قسوة حياةٍ كهذه التي تعيشها ...
ربما يكون فقط بوابتها لعالم آخر ...أكثر عدلاً...أكثر رحمة...!!

رائحة الغاز تزداد ضراوة فتغمض عينيها مشددة ضغط ذراعيها حول وسادته...
الآن يستريح الجميع...
تستريح أمها من حملها الذي طالما أشعرتها بثقله...
وتستريح هانيا من وزر هواجسها عن علاقتها هي بزوجها ...
وتستريح هي...منهم جميعاً!
ابتسامة شاحبة تزين شفتيها وهي ترى نفسها أخيراً تأخذ قراراً ما في حياتها وحدها ...
ربما يكون صائباً...ربما ...لا...
لم يعد الوقت مناسباً للتراجع على أي حال ...!
=========
_بعتلها كل حاجتها خلاص؟! كده ارتحت؟!
قالتها والدته بعتاب ساخط وهي تدخل عليه شقته التي صار يقيم فيها وحده ...والتي باتت الآن خاوية على عروشها بعدما أعاد لهانيا كل متعلقاتها بما في ذلك أثاث الشقة !

فزفر بقوة ليجيبها بينما يكمل ارتداء سترته:
_لو سمحتِ يا ماما ...مش عايز أتكلم في الموضوع ده ...من النهارده هانزل أبات معاكِ تحت.
_كان معاه حق أخوك يقوللي أأخر جوازك لأنك متهور ولسه مش مستعد تتحمل مسئولية .

كانت تعلم أنها تضع المزيد من الحطب فوق نيرانه المشتعلة لكنها كانت تعرف ابنها جيداً...
تعرف أنه سيبقى حبيس قوقعته مالم تستثره بأي حديث ...
لكنها تعجبت ردة فعله عندما لم يغضب كما توقعت بل أشاح بوجهه ليقول ببرود:
_فعلاً ...كان معاه حق!

عقدت حاجبيها بأسى وهي تسمع نبرته التي اكتست رغماً عنه بالكثير من الندم...
منذ ذاك اليوم الذي طلق فيه هانيا وهو يتحاشى الحديث عن الأمر ...
يكتفي بقضاء يومه كله خارج البيت ولا يعود إلا للنوم ...
ليفاجئها اليوم بقراره إعادة كل حاجيات هانيا إليها !
وكأنما هذا هو ما سيعيد حياته لسابق عهدها !

_عايزة أتكلم معاك شوية عندي تحت قبل ما تخرج وما ترجعش إلا وش الفجر زي كل يوم.
قالتها وهي تجذبه من كفه نحو الباب لتردف بنبرة ذات مغزى:
_بص كويس على المنظر ده قبل ما تنزل عشان تفهم إن خراب البيوت مش بالساهل .

قالتها وهي تشير بعينيها لصالة المنزل الخاوية على عروشها والتي بدت كئيبة موجعة ...
فانسابت عيناه هو الآخر على المكان تمشطانه بأسى وهو يقاوم شعوره بالخسارة...
لا ...ليس سهلاً...
ليس سهلاً أبداً!
لهذا أغلق الباب ببعض العنف متجاهلاً الرد على عبارة أمه ليهبط معها الدرج نحو شقتها لتحين منه التفاتة نحو الشقة المقابلة التي كانت تشغلها غادة يوماً...
غادة التي نسيها تماماً منذ ذاك اليوم لينخرط في حزنه الخاص ...
ربما تذكرها بضع مرات راودته فيها نفسه أن يطمئن عليها باتصال بعدما نالها من قسوة صديقتها ...
لكنه لم يستطع!
شعوره بالذنب نحوها كان أعظم من يقاومه في هذه الفترة بالذات ...
هو أدخلها رغماً عنها في حربه الباردة مع هانيا التي ذبحتها بسكين ثلم ...
وليته ما فعل!
انقطعت أفكاره عندما وصلا لشقة والدته التي دخلت ولاتزال تجذب كفه خلفها كطفل مذنب ...

قبل أن تجلس جواره على الأريكة لتواجه ملامحه المرهقة بعينين آسفتين قائلة:
_لما كنت لسه صغير وتعمل عملة...كنت بترفض تعترف إنك غلطان...تستحمل العقاب من سكات لحد ما الموقف يعدي...تفتكر هتحل مشكلتك دلوقت بنفس الطريقة ؟!
_أنا خلاص...ماعادش عندي مشكلة ...كل حاجة كانت متعلقة حطيت لها نهاية.
لايزال يكابر بنبرته الباردة التي تفهم هي ما خلفها لتتنهد قائلة :
_لما مراتك جابت صاحبتها وسطكم ما كنتش رافضة وجودها عشان مش عايزة أساعدها ...لكن عشان كنت شايفة الصورة من بعيد وحاسة ان الوضع هينتهي بيكم كده ...ابني وعارفة ذوقه في الستات ...مراتك مكبرة دماغها وعايشة في دور المسترجلة...ووسط ده تحط واحدة زي صاحبتها دي تبقى كأنها بتقدم لها جوزها على طبق فضة!

_غادة مالهاش ذنب ...مفيش أي ذرة شك في أخلاقها ...انا اللي بغبائي ورطتها معايا اليوم ده .

قالها بضيق وهو يطرق برأسه مسترجعاً مشهد غادة الموجع وهي تتلقى اتهامات هانيا بصدمة وقتها ...
لقد كانت قبل بضع دقائق فقط تدافع عنها أمامه...تناشده التشبث بها والصبر عليها ...
لينقلب الوضع كله في ساعة غضب !

_عايز الحق وما تزعلش؟!
انتزعته بها أمه من شروده ليرفع عينيه إليها بترقب فتردف بنظرة ثاقبة:
_انت عمرك ما كنت هتخترع كذبة زي عرض الجواز ده إلا إذا كنت فعلاً فكرت فيها وشغلت عقلك .

زفر زفرة حارقة وهو يشيح بوجهه ليصمت للحظات سبقت قوله المنفعل:
_مش غادة نفسها ...لكن صفاتها ...أنا ما كدبتش لما قلت يومها إني كنت عايز ست زيها .
_ولما انت عايز ست زيها اتجوزت واحدة بمواصفات هانيا ليه ؟!

لاتزال أمه تحاصره بأسئلتها التي تحشره في زاوية معينة لا يريد الوصول إليها ...
ربما لأنها تشعره بالمزيد من الذنب...المزيد من العجز...المزيد من الخسارة !
لهذا عاد يطرق برأسه دون رد لتجيب هي سؤالها بنفسها:
_زيك زي أي شاب لف ودار ولما جه يستقر اختار واحدة زي الألِف عشان يبقى ضامن أخلاقها ...عقلك قاللك بعد الجواز تتغير وتطوعها على كيفك...المشكلة إنك وقعت في واحدة ما بتطوعش...هي كمان كانت عايزة تشكلك على مزاجها ...انتم الاتنين حوّلتم جوازكم لاستعراض قوة...لعبة ...كل واحد فيكم كان عايز يكسبها ...والنتيجة انكم انتم الاتنين خرجتم خسرانين!
هز رأسه عاجزاً عن الإنكار أمام تعريتها للحقيقة بهذه البساطة ...
لتربت هي على كفه مردفة:
_انت بتحبها وعايزها ...إيدك لما بتوجعك ما بتقطعهاش ...بتعالجها...ليه شباب اليومين دول مستسهلين خراب البيوت قوي كده ؟! على أيامنا كانت كلمة الطلاق دي عيبة كبيرة قوي.
_على أيامكم كان فيه ستات بتحافظ على بيوتها .
قالها بحسرة ساخرة وكأنما ساءه أن تحمله المسئولية كاملة لترد هي مؤكدة :
_قلت لك قبل كده ...الراجل هو عمود البيت .
_خلاص يا ماما انتهينا ...أنا مش أول واحد يختار غلط ويندم.
هتف بها بغضب أججه شعوره المختلط بين ندم وعجز ثم انتفض مكانه ليغادرها بخطوات مندفعة...
فعادت تتنهد بيأس لتتمتم في نفسها:
_ياريتك تقتنع فعلاً إنك اخترت غلط...مشكلتك إنك متأكد إنك اخترت صح.

بينما تركها هو ليستقل سيارته التي جاب بها الشوارع على غير هدى محاولاً تجنب التفكير في حديث أمه الذي بدا له شديد العقلانية لكنه شديد التحيز !
لماذا تحمله هو العبء كاملاً؟!
لقد صبر كثيراً على طبع هانيا الصعب واحتمل ما لم يظن أن رجلاً غيره يحتمله !
جفاؤها...تباعدها...اهتمامها المغالي بدراستها...إهمالها لمظهرها...حتى قرارها المنفرد بمنع الإنجاب !
كل هذا لم يلقَ لديها أي صدى!
حتى رد فعلها على ما كان يوم طلاقهما والذي كان شديد البرود ...
ألا يعني كل هذا أنه لم يكن شيئاً لديها؟!

زفر بسخط عند الخاطر الأخير الذي أعاد تمزيق كبريائه...
ليصرف عنه ذهنه قهراً بالتفكير في غادة...
غادة التي لم تعد تأتي للشركة منذ ذاك اليوم حتى صارت مهددة بفقد عملها الذي يدرك هو كم تحتاجه !
آه...لقد ظلمها كثيراً!
وكأنما وضعه القدر في طريقها ليكون لعنتها ...
في البداية كان سبباً في حرمانها من زوجها ...والآن صديقتها وعملها!!
كز على أسنانه بقوة وشعوره بالذنب يمزقه ...
ليتناول هاتفه باحثاً عن رقمها ...
سيعتذر منها ويطلب منها العودة للعمل حتى لو تركه هو...فلا يظنها ستقبل النظر في وجهه بعد ما كان !
رنين الهاتف الرتيب لا يمنحه ما يريحه فيعيد الاتصال مرة بعد مرة...
لاريب أنها لا تريد إجابة اتصاله ...ولا يمكنه لومها!
لكنه لابد أن يتحدث معها !

هنا انعقد حاجباه بتصميم وهو يتخذ طريقه نحو بيتها ...
ركن سيارته ليغادرها نحو بنايتها حيث رمقه بواب العبارة بنظرة ماكرة لم يكترث لها وهو يصعد الدرج نحو شقتها ...
رن الجرس بضع مرات حتى يأس من إجابتها وكاد يرحل لولا...
تلك الرائحة!
عقد حاجبيه بتركيز تحول للكثير من الهلع وهو يميز هذه الرائحة النفاذة !
لا ...ليس ثانية !
ليس ثانيةً!
لن يحتمل هذا الذنب من جديد !!
====
_واااو ...شاليه على البحر ؟! عشان كده كنت بتقول هتبيع مبادئك؟!
هتفت بها ياسمين بسعادة وهي تتبين وجهة سيارته التي استقرت بهما جوار الشاليه المنعزل الذي بدا لها كأنه قطعة منفصلة عن العالم ...
ثم تعلقت بذراعيها في عنقه لتردف بفرحتها الطفولية:
_كده أنا هاخطفك للأبد .
ضحك لسعادتها التي توقعها وإن لم يقلل هذا من رضاه بهذا الشعور الذي يغمره عندما يرى ابتسامتها ...
ليطوق خصرها بذراعيه قائلاً:
_واحد صاحبي بيتحايل عليّ أشتريه منه بقاله كتير وأنا متردد ...بس أخيراً حسمت الموضوع واشتريته.
_عشان عرفت إني بحب البحر!

همست بها بدلال في جواب أقرب منه للسؤال فانفرجت شفتاه عن تلك الابتسامة التي تمزج مكرها بخجلها بينما يشيح بوجهه...
هذه الابتسامة التي تكاد تذيب أوصالها رغم أنها تعلم أنه يخفي بها شعوره نحوها ...
لكن مرحباً بهكذا إخفاء يكاد يصرخ بكل الذي تود سماعه!!
لهذا شددت ضغط ذراعيها حول عنقه لترسم شفتاها طريقها الشغوف على ملامح وجهه بينما تهمس بدفء عاطفتها:
_كنت فاكرة اني عمري ماهاقدر احبك اكتر من زمان بس كل يوم بحس اني بحبك بطريقة مختلفة.
_أنا عن نفسي عاجباني قوي الطريقة دي ...اثبتي عليها !

غمزها بها مشاكساً وهو يضمها إليه أكثر متنعماً بشعوره بالرضا عما آلت إليه علاقتهما -الحسية- التي تدرج منحناها لديها من ذعر لنفور لتردد...
وأخيراً لشغف متوهج كهذا الذي يراه الآن ...
شرقيٌّ هو في غيرته وتملكه لأبعد حد ...
ربما لهذا السبب يشعر ببعض السلوى عندما تجعله يحس أنه رجلها الأول الذي تمكن من فك شفرة أنوثتها ليمنحها ما لم يمنحها إياه غيره...
حتى ولو لم يكن حقاً الأول!
أشعره الخاطر الأخير بمزيج من ضيق وغيرة لكنه جاهد نفسه ليقاوم هذا الشعور بقوله :
_تحبي نقعد على البحر شوية؟!
_ما بحبش البحر بالليل!

قالتها ببعض الحرج وهي تخفض ناظريها عنه ليرفع ذقنها نحوه بسؤاله:
_لسه بتخافي من الضلمة ؟!
فتصمت للحظات تسبق همسها :
_ماعدتش بخاف من حاجة وأنا معاك.
عيناه تلتمعان بوهج عاطفته ليمنحها هدية ناعمة على شفتيها قبل أن يقول بمرح:
_خلاص نأجل البحر للصبح ...ياللا عشان تتفرجي على الشاليه من جوه.
تراقص الحماس في عينيها وهي تغادر معه السيارة ليتوجها نحو الشاليه الذي فتح بابه ليقول بنفس النبرة المرحة :
_ادخلي برجلك اليمين يا شابة.

ضحكت ضحكة عالية أودعتها كل انفعالاتها وهي تتقدم للداخل متفحصة المكان الذي بدا وكأنه أعد خصيصاً لها هي ...
كان يشبه بيته في القاهرة في كونه ذا طابقين ...
لكن الفارق هاهنا كان في ديكوراته التي اختارها مشابهة لتلك التي في مطعمها ...
بألوانها التي مزجت رقة ألوان الطيف بنصاعة الأبيض...
بأناقة الأثاث الذي حمل الطابع الغربي الذي تفضله ...
وبهذه البالونات المبهجة التي كادت ترقص مكانها في استقبالها ...

_الله...مش ممكن يا يامن...أنا حاسة إني بحلم.

هتفت بها بصوت مرتجف وهي تجد نفسها تتشبث به بقوة وكأنما تخاف أن تتسرب منها كل هذه السعادة في غمضة عين ...
ليحتويها هو بين ذراعيه قائلاً :
_خللينا في المهم...الدور اللي فوق...أوضة النوم!

قالها بوقاحته المعهودة التي ما عادت تثير حفيظتها ...بل على العكس...
صارت تشعرها بأنوثتها أكثر وهي ترى ولعه بها ...هي ياسمين وليس كونها مجرد امرأة !
هذا الإحساس الذي عوض بشاعة إحساسها القديم مع رامي ...
وحتى الذي عرفته مع زين!
زين؟!

عادت ذكراه تثير المزيد من غضبها وضيقها و...خوفها!
خوفها المحموم الذي يقبض قلبها ويحرمها اللذة الكاملة لهذا القرب يعود ليسيطر ...
حتى وهو يجذبها ليصعد معها الدرج نحو الأعلى ولايزال ذراعاه يتشبثان بها ...
حتى وهو يغمرها بالمزيد من تعليقاته العابثة عن خططه لهذه الليلة...
وحتى وهي ترى بعينيها كيف اهتم -كعهده- بكل تفاصيل غرفة نومهما بما يناسب ذوقهما معاً ...
شموع التفاح...ستائر الغرفة وشرشف الفراش بألوانهما الطيفية كما تحب هي...
لون الأثاث الأسود المميز كما يحب هو ...
والهواء المعبق بشغف عاطفتهما كما يحبان معاً !

_عجبك؟!
_كل حاجة بتعملها عشاني بحبها معاك مرتين ...مرة عشانها ومرة عشان بستطعمها من جديد معاك ...كنت فاكرة إنك رجعتلي عمري اللي فات...لكن الحقيقة إن كل يوم معاك عمر جديد .

همست بها وهي تتعلق بعنقه ليشعر بأناملها تتشبث بقوة بقميصه من الخلف بحركة بدت له ذات مغزى ...
فجازاها عنها بأخرى عندما اعتصرها بين ذراعيه وكأنما يبادلها تشبثاً بتشبث...

_دايماً تغلبيني في الكلام .
_الكلام بس؟!
غمزته بها بدلال ووجنتها تعانق وجنته فضحك ضحكة راضية سبقت قوله العابث:
_تنكري إن حواديتي تغلب حواديتك؟!
_تؤ...ماانكرش!
همست بها ضاحكة وهي تتفلت من بين ذراعيه لتخلع حجابها فاقترب منها ليحل رباط شعرها متفحصاً إياه بقوله:
_شعرك طول شوية...ممكن يتعمل ضفيرة صغيرة.
_اعملهالي!
قالتها وهي تعطيه ظهرها بدلال ليجيبها بفظاظته المعهودة :
_بتهزري؟! ما بعرفش طبعاً .
_أعلمك!

قالتها وهي تجذبه من كفه لتجلس معه على الأرض التي افترشتها سجادة أنيقة انتهى طرفاها بجدائل رفيعة طويلة من صوفها ...
هذه التي تناولتها هي الآن بين أناملها لتقول له بنبرتها الحماسية :
_شوف يا سيدي ...فيه طريقة للضفيرة العادية...لكن اللي بعملها اسمها "السنبلة"...الضفيرة العادية بنقسم الشعر فيها ثلاثة أجزاء...لكن السنبلة بنقسمه لنصين بس ...وناخد من كل نص خصلة كده ...وكده...

كانت تتحدث بينما تطبق ما تفعله عملياً على جدائل الصوف أمام عينيه ...
نفسه تراوده بتعليق ساخر فظ على ما تفعله ...وما تريد منه فعله...
لكن الغريب أنه كان مستمتعاً حقاً بمراقبتها...
كل ما تفعله مهما بدا له -بقناعاته- القديمة تافهاً بسيطاً يجده يكتسب قدسية خاصة نابعة منها هي نفسها ...
لهذا لم تكد تنتهي مما تفعله حتى أدار هو ظهرها نحوه ليتناول شعرها بين أصابعه...
أنامله تداعب منابت رأسها برقة قبل أن يبدأ في تطبيق ما تعلمه منها ...
متعة غريبة تجتاحه وهو يرى جديلته رغم قصرها وضعف إتقانها ...
متعة جعلته يرفعها نحو شفتيه يقبلها برقة جعلتها تلتفت نحوه لتهمس بتأثر:
_للدرجة دي شكلها حلو؟!
فأدارها نحوه ليحتضن وجنتيها بكفيه هامساً :
_لسه مش بالطول اللي أنا عايزه...مش زي ما أنا فاكرها ...بس هافضل وراها لحد ما اشوفها زي زمان.
_اشمعنا ؟!
_عشان دي الحاجة الوحيدة اللي فاكرها في شكلك زمان...عشان بتفكرني بفترة عملت المستحيل عشان أنساها ...بس انتِ خلتيني أرجع أتقبلها...وأحبها.

همس بها بانفعاله الحار الذي تعشقه إذ يخرجه من طور فظاظته وتحفظه المعهود إلى هذا البوح النادر الذي قلما تسمعه منه بأذنيها لا بقلبها ...
لهذا مدت أناملها تزيح أصابعه من على وجنتها لتضعها على صدرها في موضع قلبها تماماً ثم همست بصوت مرتجف:
_مش عايزاك تقوللي إنك بتحبني...هاكتفي مؤقتاً إنك تقوللي إنك مصدق إني بحبك...وإنه مهما حصل مش هتشك يوم في ده .

انعقد حاجباه بانفعال وحديثها يعاود نبش هواجسه...
لماذا تطلب منه هذا الليلة بالذات؟!
لا ...لا ...
لن يسقط في هذه الهوة من جديد ...
لن يعاود التأرجح بين شك ويقين ...
سيختارها هذه المرة...
سيغامر بالثقة لأنها تستحق!

_يامن!
همسها الذي مزج قلقه برجائه انتزعه من أفكاره ليفتر ثغره عن ابتسامة اتسعت رويداً رويداً ...قبل أن يهمس لها بكلمة واحدة :
_مصدقك.
كلمة واحدة مقتضبة لكنها منحتها الكثير من الارتياح لتتنهد بعمق هامسة:
_طيب قوللي أمارة...عشان لو في يوم من الأيام شكيت في كده...أفكرك بيها.

ورغم أنها كانت جادة تماماً فيما تطلبه ...
مدفوعة بخوفها من أن تسلبها الظروف هذه السعادة الصافية التي تعيشها معه ...
لكنه ظنها مجرد مزحة دلال فأمال رأسه بعبارته الساخرة:
_عايزة كلمة سر يعني؟!

ابتسمت وهي تمد كفها الآخر لتحتضن أنامله على صدرها بهما معاً ...
فشرد ببصره ليقول بجدية :
_تعرفي ؟! أيام كتير كنت بصحى من النوم أفضل في السرير ...ماليش مزاج أقوم...أقوم ليه ؟! أشتغل ليه ؟! أقابل ناس ليه ؟! أعيش أصلاً ليه ؟!
ثم ابتسم ليصمت لحظة سبقت استطراده:
_مؤخراً بس بقيت لما أسأل نفسي الأسئلة دي ...ما بلاقيش غير إجابة واحدة بتخليني نفسي مفتوحة إني أقوم من السرير وأكمل يومي ...
قالها ثم رفع إصبعه الذي يحمل خاتمها ذا الفص الأسود أمام وجهها في إجابة غير منطوقة...
إجابة جعلتها تندفع لتحتضنه بكل قوتها هامسة:
_خلاص..يبقى كلمة السر هي الخاتم بتاعي ...يوم ما تنسى هافكرك بيه.
_مش هانسى!

قالها وهو يعدل وضعها ليرقدها في حجره كطفلة رأسها مستقر على أحد ذراعيه ...
ثم ألصق وجنتها بوجنته بينما ذراعاه يطوقانها ...
فتأوهت بخفوت وهي لا تدري بماذا تصف شعورها الآن...
إنها سعيدة...سعيدة كما لم تعرف من قبل...
سعيدة حد الألم!
الألم من أن تفقد كل هذا الذي تعيشه الآن فتموت دونه !
هل من الأصوب أن تصارحه بما تخفيه كي تتخلص من هذا الوزر؟!
أم أن الستر هاهنا أولى؟!
آآه !
آهة عميقة غادرت صدرها كقذيفة لتجده يرمقها بنظرة متسائلة حملت حنانه هذا الذي يغريها بالاعتراف...
يامن العاشق لن يخذلها ...
سيتفهمها...يحتويها ...يتجاوز عن خطيئتها ...
ربما هذا ما منحها الشجاعة لتهمس له بتردد غريب عن طبيعتها الواثقة:
_بمناسبة الليلة المهمة دي ...كنت عايزة أتكلم معاك في حاجة من فترة ...بس ...
_حاجة إيه؟!

نظرة الشك في عينيه تعاود قصفها بالخوف ...
تنتزع منها يقينها لتتراجع...
فتزدرد ريقها ببطء لتلقي كرتها في مرمى آخر:
_هانيا ...مش عاجبني موقفك من طلاقها.

هنا يزفر هو بقوة فلا تدري ارتياحاً لأنها خالفت هاجساً يملؤه نحوها...
أم ضيقاً من هذا الأمر بالذات ...
حسناً...مضى وقت التراجع ...فلتكمل في هذا الطريق...

_أنا قلت لها قبل كده ...الخيانة ما بسامحش فيها...في الموضوع ده بالذات اللي اتكسر ما بيتصلحش...اللي اتكسر يترمي ورا ظهرنا وننساه.

هتافه المنفعل يعزز يقينها بصحة قرارها فيما تخفيه ...
يامن لن يتقبل الحقيقة هاهنا...
ليس من الحكمة أن نواجه لهب النار بصدور عارية...
أحياناً يكون الانسحاب محض انتصار ...!
وبهذا اليقين أخذت نفساً عميقاً لتربت على صدره برقة قائلة بهدوء خادع:
_الجواز مش لعبة عشان تتهد في يوم وليلة...الموقف كله مش داخل دماغي...مفيش واحد بيخون مراته مع صاحبتها بيعترف لها كده بصراحة زي ما هو عمل ووسط الناس ...تصرف رامز مش تصرف واحد خاين ...ده رد فعل واحد مجروح ضرباته طايشة في أي اتجاه .
_مفيش واحد بيقول لمراته إنه هيتجوز غيرها إلا لو كان عايز يهد البيت!

لازال يزأر بكلماته بحدة حمائية ...
ولازالت تربت على صدره مهدئة بقولها:
_مش شرط...يمكن عايز يخلليها تغير ...تتغير ...يمكن كان عايز يسمع منها إنها باقية عليه ومش هتسمح لواحدة تانية تاخده منها ...صدقني الموقف كله غريب ...أنا شفت رامز مع هانيا أكتر من مرة...وأقدر أحكم إنه فعلاً بيحبها .
_حتى لو قلتلك إنها سمعت بنفسها إشاعات عنهم قبل الموضوع ده !
_وإنت ليه ما صدقتش الإشاعات اللي طلعها رامي علي؟!

سألته بما بدا كاستنكار عاتب لكنها كانت حقاً تترقب جوابه في هذه اللحظة ...
هذا الذي هتف به وهو يشدد ضغط ذراعيه لا إرادياً حولها:
_مش قلت لك قبل كده ماتجيبيش سيرة الحيوان ده تاني؟! دي حاجة ودي حاجة...أنا لولا إني لقيتك كتاب مفتوح قدامي ما كنتش فتحت لك طريق معايا .

صراخه الغاضب جعلها تنكمش بين ذراعيه والخوف يلون نظراتها التي أخفتها عنه عندما دفنت وجهها في صدره...
قلبها المذعور يشعر بقبضة الماضي تطوقه ...فلا الصراحة تنجيه...
ولا الإخفاء يريحه !
لكنها لا تزال تتشبث ببقايا أمل في قلبه الذي -بالكاد- بدأ حبوه الوليد نحوها...
هذا الذي -حتماً- سيشفع لها يوماً !

_آسف عشان اتعصبت...بس دي عندي مسألة مبدأ ...لو شكيت ما تكملش...اللي يخون مرة يخون عشرة ...واللي يسامح مرة هايعيش طول عمره يتنازل.

قالها بعد صمت قصير وهو يربت على ذراعها باعتذار صامت...
فرفعت إليه عينيها بهمسها:
_مش لايقة عليك القسوة يا طيب.
_دي مش قسوة ...ده الدرس اللي دفعت كتير عشان أتعلمه.

همس بها بإصرار وعيناه تناظران عينيها ببعض الجمود فأغمضتهما بقوة عاجزة عن جداله...
هذا هو يامن ببساطة ...فهل تدعي مفاجأتها بطباعه؟!
لهذا عادت تتشح بصمتها مكتفية بعناقهما الصامت في هذا الوضع الذي تعشقه منه...
ربما لأنه يمنحها شعوراً نادراً معه ب-أبوته- لها ...
هي التي اعتادت أن تكون له أماً !

_إيه بقى؟!
سألها بنبرة عاد إليه عبثها مقاطعاٌ صمتها الذي طال فابتسمت لترد سؤاله بسؤال:
_إيه ؟!
_يعني أنا صارف ومكلف وشاليه وبحر وبلالين عشان آخرتها نقعد على الأرض؟!
ضحكت بمرح وهي تداعب أنفه بأنفها هامسة بترقب:
_امال عايز إيه ؟!
_حدوتة ...بس من بتوعي!
همس بها بمكر تعرفه عندما يقرر شن هجومه اللذيذ عليها ...
لتجيبه بدلال عابث:
_هي حواديتك دي ما بتخلصش؟!
والجواب يأتيها كما تتوقعه...وكما تريده أبداً ...أبداً...
_أبداً!
========
استيقظت جواره صباحاً لتتأمل ملامحه النائمة بحنان ...
ثم مدت أناملها برفق تتلمس خصلات شعره الناعمة التي يحرص أن يبقيها طويلة نوعاً لتمنحه ذاك المظهر العابث الذي تدرك أنه لا يناسبه ...
لكنها لا تنكر إعجابها ب"قَصته " هذه على أي حال!
همهمته الناعسة تداعب أذنيها فتبتسم وأناملها تنتقل لوجنتيه تلامسان لحيته بتلك الطريقة المميزة بين حميمية وقدسية...
فيفتح عينيه أخيراً ليهمس بصوت لم يغادره نعاسه:
_أصحى؟!
_أيوه طبعاً اصحى...هو أنا خاطفاك عشان تنام!

هتفت بها بتنمر مصطنع أطار ما تبقى من نوم في عينيه ليجذبها بين ذراعيه قائلاً بعينين ملتمعتين:
_معك حق...أما أنا مخطوف قليل الذوق صحيح !
ضحكت بمرح لتتنهد بعدها بينما عيناها تعانقان ملامحه مع همسها:
_بحب أشوفك لما تبقى لسه صاحي من النوم...شعرك منكوش ...وصوتك متحشرج ...وعينيك نص مفتوحة.
_اشمعنا؟!
_يمكن عشان بحس وقتها إنك على طبيعتك قوي...أكتر حاجة بتخوفني من الناس لما بيبدأوا يخالفوا طبيعتهم.

همست بها بشرود استرعى انتباهه فتفحص ملامحها باهتمام ليتذكر شيئاً جعله يسألها:
_والدك ما كلمكيش من زمان؟!
تنهدت وهي تريح رأسها على صدره لتجيبه:
_كلمني يبارك لي على المطعم الجديد امبارح ...بس طبعاً كان زعلان لأنه عرض عليّ أكتر من مرة أني أشاركه في شغله وكنت برفض.
_وليه كنتِ بترفضي؟!
كان يعرف الإجابة لكنه كان يريد الاستماع منها عن دواخل نفسها التي تشاركه فيها بكل بساطة...

_عشان أنا يمكن أسامح بس مابنساش...ودي حاجة بتضايقني من نفسي جداً ...علاقتي ببابا بقت غريبة...لا قادرة أقرب ولا عارفة أبعد...ماخبيش عليك...ساعات بحس إني بنجح عشان أعاقبه بنجاحي...
_تعاقبيه بنجاحك؟!
همس بها مستغرباً لتجيبه بانفعال:
_عشان أقولله إني كويسة جداً من غيره ومن غير أي حد...لكن في نفس الوقت ببقى عايزة أشوف نظرة الفخر في عينيه...نفس النظرة اللي شفتها زمان لما علمني أكتب اسمي...لما رسمت أول رسمة لوحدي...لما كان بيشوف نجمة في كراستي...لما حضر حفلة تكريمي على حفظ القرآن...لما اخدت أول شهادة...
ثم صمتت لحظة وكأنها تستوعب مشاعرها المتناقضة هذه لتردف بينما تلوح بكفيها :
_علاقة متلخبطة...متناقضة...مابفهمش نفسي معاه...يمكن عشان كده واقفة في النص.
_وإيه ممكن يخليكِ تقربي؟!
سألها باهتمام لتجيبه بابتسامة حملت طعم البكاء:
_معرفش...بس أعتقد اللحظة الوحيدة اللي ممكن ألجأ له فيها لو حسيت إني اتكسرت...وإني خلاص ماعدتش قادرة أسند نفسي بنفسي زي مااتعودت طول عمري.
كلماتها اعتصرت قلبه بقبضة خانقة ليرد سريعاً بحميته المعهودة بينما يقربها منه أكثر:
_طول ما أنا عايش مش هاسمح إنك تعيشي الإحساس ده ثانية واحدة.
_شكراً يا طيب.
همست بها ومشاعره تصلها كاملة لتجزيه عنها بهدية ناعمة على شفتيه ...
قبل أن تسأله بتردد :
_ممكن أفاتحك في موضوع شاغلني من فترة ؟!
رمقها بنظرة مشجعة لتردف متفحصة ملامحه باهتمام:
_قلت لي مرة إنك بتكره الأطفال ...لسه عند رأيك ؟!

تغيرت ملامحه فجأة وسؤالها يعيده لجحيم هواجسه الذي يصطلي به كل ليلة...
صور ابنه -المزعوم- تتوالى في ذهنه تباعاً مع عبارة سيلين كأنه يسمعها بصوتها المسموم ...
_هاخلليه يكبر وهو بيكرهك!

هل يكره الأطفال حقاً؟!
نعم....طالما صرح بهذا ..لكنه لا ينكر هذا الشعور الذي يجتاحه كلما رأى صورة ل(ابن سيلين) رغم شكه في نسبه له!
نسبة الصدق الضئيلة في أبوته له تجعله يعرف إحساساً لا يجد له وصفاً...
إحساساً يود لو يعيشه كاملاً دون أي رواسب من شك أو نفور...
هو لا يريد طفلاً فحسب ...
هو يريد طفلاً منها هي !

_أطفال يعني إزعاج...مسئولية ...وجع قلب...
قالها أخيراً بنبرة مستاءة لتشحب ملامحها التي لم تتوقع رداً كهذا ...
قبل أن يبتسم ليردف :
_بس لو منك انتِ معنديش مانع أستحمل كل ده !

صيحتها الفرحة كانت جوابها مع قبضتها التي هوت على صدره بخفة عاتبة قبل أن تعانقه بقوة لتهتف بصوت ارتجف انفعالاً:
_مش بمزاجك على فكرة....ماكنتش هاسيبك إلا لما أقنعك...انت بس قصرت على نفسك الطريق!
ضحك بمرح وهو يربت على ظهرها مستشعراً قوة انفعالها الذي بدأ عاتباً لينتهي دافئاً آملاً مع كلماتها :
_متعرفش أد إيه بحلم بابننا أو بنتنا...يااااه يا يامن...عمري ما اتمنيت حاجة في حياتي أد ما بتمناه .

الحرارة المشعة في كلماتها فعلت به الأفاعيل ليجد أمنيتها تنتقل لصدره هو ...
يحلم بها بنفس القوة...
حتى أنه يكاد يرى بعين خياله طفلة تشبهها تعدو في حديقة بيته ...
تقطف أزهاره فيعنفها ...ثم يصالحها بأن يرفعها لأرجوحتها هناك ...
تقبله شاكية خشونة ذقنه...فيتوعدها ألا يحلقها كما فعل يوماٌ مع أمها !

_سرحت في إيه؟!
همست بها ببعض القلق ليواجهها بعينين ضاحكتين مع قوله :
_متخيلك بتجري ورا العيال بشعر منكوش وفردة شبشب في إيدك وصوتك الرقيق ده واصل للجيران .
فضحكت بدورها وهي تشعر بالكثير من الارتياح لتنهض قائلة بنشاط :
_طب ياللا نقوم...عايزة أشوف الشاليه بالنهار ...المنظر تحت أكيد تحفة .
لكنه جذبها من كفها ليسقطها فوقه محتوياً إياها بين ذراعيه هامساٌ بخشونته الحارة:
_لسه بدري ...انتِ قلقتيني من النوم وأنا عايز تعويض .
ضحكتها العابثة تختم الحوار الذي تحولت كلماته لمشاعر عاصفة اعتاد كلاهما ثورتها وجنونها ...
جنة عامرة وجدها كل منهما في صاحبه...
جنة يخشى كلاهما أن يُطرد منها بخطيئته في أي وقت !
متى إذن ذاق أحدهما الشجرة المحرمة ؟!
أم أن كليهما قد فعل؟!
دعونا نرى....!
=======
_عايز حاجة تانية ؟!
قالتها سكرتيرته الخاصة وهي تتناول أوراقها من على مكتبه ...
تميل بجذعها نحوه عارضةً معطيات أنوثتها بسخاء عبر فتحة قميص أحمر مثير...
يرفع عينيه النافذتين نحوها متأملاً جمالها "الصدئ" بنظرة زاهدة !
صدئ؟!
أجل...نظريته الخاصة أن جمال المرأة إما غالٍ نفيس أو زهيد صدئ!
وهو يصنف نفسه دوماً ك"صائد كنوز"!
لا...لم يكن زير نساء بالمعنى المعروف لكن حياته لم تخلُ من علاقات...
تطرف يوماً ووصف بعضها بالحب...
لكنه الآن يدرك أن قلبه العصيّ لا يزال ملك يده !
واحدة فقط هزت عرشه!
لكنها تسربت من أصابعه كخيط دخان !



صمته المتفحص مع نظرته العميقة أربكت أنوثتها أمامه لتظن نفسها قد أحرزت هدفاً ...
تعاود الاستقامة بجسدها في وقفة استعراضية لتزيح خصلة من شعرها خلف أذنها قائلة :
_كده احنا خلصنا الشغل ...هتحتاج مني حاجة ؟!

ابتسامة ماكرة تتسرب لشفتيه وهو يفيق من شروده ليعود بظهره للوراء قائلاً بصوته الرخيم :
_عارفة إيه سر نجاحي ؟!
فترسم أروع ابتساماتها على شفتيها لتقترب منه أكثر هامسة بغنج مثير:
_إيه يا مستر زين؟!
يصمت قليلاً ليعطي كلماته الأثر المنشود قبل أن يقول لها ببطء :
_إني بعرف أقرا اللي قدامي كويس...ما بمشيش سكة إلا وأنا عارف آخرها ...

وعند كلمته الأخيرة تسرب طيف ياسمين لذهنه ليعاود الشرود اجتياحه وهو يتذكر كيف لم يقاوم إرسال باقة زهوره لها ...
ربما ستكره تصرفه...
سيذكرها بليلتهما العاصفة معاً...
وربما ستفهمه -كما أراده- أنه اعتذار ورغبة صادقة لها بالسعادة التي تستحقها ...
وربما لن تراها أصلاً ...
لكن يكفيه أنه فعلها !
ليس منطقياً؟!
ومنذ متى كان يتعامل معها هي بالذات بأي منطق؟!
هو الذي طالما رسم حياته ب"المسطرة" لكنها هي فقط ظلت خطاً -منحنياً - يعاند يده !

لقد جمع معلوماته عن هذا الرجل الذي تزوجته ...
والتي علم منها أي شخصية معقدة هو ...
ابن مشتت بين أب قروي متشدد وأم ك"بيللا"...
تزوج من قبل وطلق زوجته رغم أنها تحمل طفله ...
الجميع يصفونه ب"الوسوسة"...
عيبٌ خطير مع امرأة كياسمين ...
هي التي تفعل كل شيئ بحدسها مستجيبة لرغبة قلبها ونداء روحها دون تعقل أو منطق!
فهل يفلح هذان معاً؟!
ظنه أن لا!
لهذا يريد عندما تحين هذه اللحظة أن يدخل الميدان بخير جياده ...
ولن يرتضي ساعتها عن الفوز بها بديلاً.

_وقريتني إزاي؟!
همسها المغوي يقتحم شروده ليلتفت نحوها فتتسع ابتسامته وهو يشبك أصابعه أمام وجهه قائلاً :
_لا ...الخط بتاعك ده عيني ما تقراهوش...تعدي عليه بسرعة كده بس.

اكفهر وجهها فجأة مصدومة بقسوة عبارته التي أتبعها بقوله :
_خليكي ذكية وقدّري مكانك في ملعبي.
قالها ليقوم من مكانه متناولاً سترته قبل أن يغادر المكتب تاركاً إياها خلفه تكاد تذوب خجلاً وارتباكاً لاعنةً اليوم الذي اضطرت فيه للعمل مع رجل مثله !
=========
وقفت أمام مرآتها تتأمل شكلها في ثوبها الذي اختارته للمقابلة...
الثوب الذي تعمدته مبهراً بلونه الثلجي وقد تميز نسيجه بلمعة ماسية ...
ملتصقاً بجسدها ليبرز منحنياتها بسخاء تحتاجه الآن...
ينحسر عن أحد الكتفين ليظهر بياض بشرتها الناعمة ...
بينما يغطي الآخر مفسحاً المجال للمزيد من الخيال ...
ابتسمت برضا وهي تضع آخر لمسات زينتها بطلاء شفاه قاتم ناسب اللمسة الدخانية لتبرجها الذي تعمدته كي يعطيها الطابع الغامض الواثق إذ هو بالضبط ما تحتاجه الليلة...

دارت حول نفسها أمام المرآة وهي تشعر بمزيج من الرضا والثقة جعلها تراقب الساعة بلهفة...
لقد حان موعدها مع معتز ...
منتصف الليل؟!
موعد مناسب إذ خرجت بيللا كالعادة بعدما غادرهم يامن بعد موعد زيارته اليومي للاطمئنان عليهن...
أما هانيا فغارقة كعهدها في غرفتها المغلقة ما بين تجرع خيبتها على فقدان زوجها أو تشاغلها بمذاكرتها ...
ارتدت حذاءها وهي تلقي على نفسها نظرة أخيرة ...
ووسط كل أفكارها الشغوف بما ينتظرها هذه الليلة تسللت ابتسامة نقية لشفتيها وهي تعدل خصلات شعرها متذكرة عبارة "الحبيب المجهول"...

_ليس أصدق من شعر امرأة يروي تاريخ عاشقها.

ابتسامتها تتراجع وهي تحاول تخيل ردة فعله لو علم بما تنتويه...
هل سيعترض على امتهانها التمثيل ؟!
أم سيؤيد قرارها؟!
لو كان يحبها حقاً كما يزعم فسيدفعها للحلم الذي تريد تحقيقه !

بهذا الخاطر الأخير أخرست صراع نفسها لتأخذ نفساً عميقاً وهي تغادر البيت نحو الشارع المجاور الذي اتفقت مع معتز أن يلتقيا فيه كي يقلها بسيارته لمكان الحفل !

وفي سيارته التمعت عيناه بنظرة جائعة وهو يراقب تقدمها الواثق نحوه ...
قبل أن يشيح بوجهه متعمداً مظهر اللامباليّ...
غزاله مطمئن ساذج ولايريد إثارة ذعره قبل أن يلقي نحوه سهم صيده !

استقلت السيارة جواره لتلقي تحية عابرة ردها بنبرة متحفظة قبل أن ينطلق بها...
ردة فعله الباردة رغم أنها تطمئن خوفها الفطري لكنها تثير حفيظتها...تزلزل ثقتها بنفسها ...
هل هي حقاً دون المستوى الذي يريدونه ؟!

هنا تشبثت أناملها بهاتفها وهي تود الآن لو ترسل ل"المجهول" رسالة تسترد بها بعض شتات نفسها !
لكن صبراً...
عندما تعود ستحمل له خبر انتصارها ...
حلمها الذي كادت تمسكه بيديها !!


أخذت نفساً عميقاً لتسأله بعدها بترقب:
_هنتأخر؟! مش هاقدر أقعد أكتر من ساعة !
مط شفتيه باستياء ليقول لها بنبرته الرزينة التي خالطها الآن بعض الاستهجان:
_بلاش شغل التلامذة ده قدام المنتج...ماقدرش أتأخر ...أهلي صعايدة...مابخرجش...ما بشربش...مش عايزين الراجل يتخنق!
_هو فيها شرب خمرة ؟!

شهقت بها مستنكرة ليعاود مط شفتيه قبل أن يلتفت لها قائلاً بحماس مصطنع:
_انتِ عارفة أنا عايز أعمل منك إيه ؟! نجمة الموسم...قنبلة ...مصر كلها تتكلم عنها...وانتِ عايزة تبوظي كل ده بأفكارك الرجعية دي ؟! ده انتِ خالتك كانت ولازالت نجمة من نجوم المجتمع...وأنا متوقع إنك هتبقي أحسن منها كمان ...ناقصك بس حد يوجهك للطريق.

انتقل حماسه منه إليها لتشرد ببصرها وهي تتصور نفسها كما يقول ...
نجمة الموسم...
حديث الإعلام والصحافة...
تسابق المعجبين ...
ستكون مثل "بيللا"...بل وأفضل!

التهم شرودها مسافة الطريق حتى انتبهت لوصولهم للطريق الصحراوي فانقبض قلبها ببعض الخوف وهي ترى نفسها معه وحدهما في العراء في هذا الليل البهيم...
لكنها طمأنت نفسها بقولها لنفسها :
_ده مخرج مشهور مش هيخاطر بسمعته ويعمل فيكِ حاجة...وبعدين شكله محترم جداً...ده حتى ما بصلكيش من ساعة ما ركبتِ...ماتخلليش خوفك يضيع منك الفرصة ...هو انتِ كنتِ طايلة إنه يرضى يديكي الدور؟!

بينما اختلس هو نظرة إليها ...
نظرة واحدة لجانب كتفها المكشوف وما خفا تحته من ثوبها جعلت الدماء تفور بجسده لكنه أخفى هذا بمهارة صياد محنك ...
تراها عذراء؟!
جرأتها وتحررها وطريقة حديثها...كل هذا يجعله يشك في هذا ...
سيخيب أمله حقاً لو لم تكن كذلك ...
فالجميع ينتظرونها هناك ليكملوا "حفلهم"!

لكن ...ما يضيره هو؟!
امرأة مجرّبة خبيرة أكثر متعة بكثير من عذراء سخيفة تصرخ مطالبة بالستر!
لهذا ارتسمت ابتسامة ظافرة على شفتيه وهو يقول لها بنبرته المتحفظة التي تدحض مخاوفها:
_قربنا نوصل ...ماتخافيش أنا مش هاسيبك هناك...بس أهم حاجة تقنعي المنتج .

أومأت برأسها في طاعة وهي تسترجع بعض حديث "بيللا" معها عندما كانت تتفاخر أمامها بتاريخها "الفني"...

_مخرج مين اللي كان يمشيني؟! أهم حاجة المنتج كان يكون معايا ...وكلهم كانوا زي الخاتم في صباعي...عشان كده كنت بحس نفسي ملكة الفيلم ...أنا أقول إيه اللي يتعمل وإيه ما يتعملش.

لهذا هتفت بما أرادته واثقاً متحمساً:
_ما تقلقش ...أكيد هاقنعه.
_وريني شطارتك...واثق فيكي!
قالها بنفس اللهجة المجردة عن كل ما يملأ شعوره الآن نحوها من رغبة خالصة...
قبل أن تلتمع الأضواء من مكان بعيد أمام ناظريهما ليردف :
_شكلهم بدأوا الحفلة بدري؟!
_بدري؟!
هتفت بها باستنكار ليرمقها بنظرة مستهجنة قبل أن يعاود التركيز في الطريق ...
بينما عاد الأمان يتسلل إليها تدريجياً كلما تقترب الأضواء أكثر ...
أجل...
الأضواء وسط كل هذا الظلام بدت لها كإسقاط بعثه القدر لها مصادفة ...
مرحباً بالأضواء...بالنجومية ...بالنجاح الذي أضاعته بيللا لكنها هي ليست بزاهدة فيه !

تبتسم ابتسامتها المرسومة التي تعلم أنها تزيد جاذبيتها وهي تراه يغادر السيارة ليفتح لها الباب ...
مشهد الخيام التي أوقدت حولها النيران مع صوت الموسيقا الصاخبة ...
رائحة الهواء المميزة في هذا الفضاء الشاسع حولها ...
ماركات السيارات الفخمة التي تراصت جوار سيارته...
كل هذا منحها شعوراً هو مزيجٌ من التحرر والفوضوية والترقب !
البعض يرقص...والبعض يغني بصخب ...
والبعض يتسامرون ضاحكين ...
الجو كله يناسب خيالاتها عن العالم المتوهج البراق "الحر" الذي تريده!

لكنها لا تعرف أحداً ممن هنا...
هل كلهم وجوهٌ جديدة مثلها ؟!
تساؤلها الأخير غاب عن عقلها عندما شعرت بنظراتهم تتركز حولها ...
ما بين فضول وإعجاب أذكى غرورها أكثر ...
معتز يقدمها لهم بنبرته التي قل تحفظها ليحل محله بعض المرح الذي أذاب المزيد من خوفها ...
قبل أن يتحرك بها نحو أحد الخيام حيث جلس أحدهم متكئاً على إحدى الوسائد يجري مكالمة تليفونية ليدخل بها معتز للخيمة قائلاً بنبرته المرحة :
_جبتهالك تشوفها ...يمكن تغير رأيك ...ونتفق.

نظرات الرجل تخترقها من أسفل لأعلى ...
تتركز عند مفاتنها التي حرصت على إبرازها ...
فليقل إنها "جيدة"...
فلينبهر بجمالها ...
فليعتذر عن سابق رأيه معلناً فوزها على منافستها...
فليفعلها الآن ...الآن!

أفكارها المتحمسة التنافسية "الساذجة" كانت تشغل ذهنها عما يُفترض أن يؤرق فتاة بوضعها ...
حتى أنها كادت تصرخ فرحاً عندما أغلق الرجل الاتصال الذي معه ليبتسم لها قائلاً:
_معك حق...شكلي هاغير رأيي.

ابتسمت بسعادة حاولت إخفاءها كي لا تبدو "محدثة نعمة"...
لتسير نحو متكئه الذي أُعدّ له ببعض الوسائد الكبيرة بدوية التصميم التي ناسبت المكان ...
ثم جلست على إحداها دون إذن لتتحدث لأول مرة منذ بدأ اللقاء:
_أنا مش غريبة عن الوسط...بيللا تبقى خالتي ودايماً تقول عليّ موهوبة.
ارتفع حاجبا الرجل بما بدا لها كتقدير أكسبها المزيد من الثقة لتحتضن ركبتيها بساعديها مردفة باعتداد:
_أنا مكسب لكم...زي ما أنتم مكسب ليّ.
الرجل يتبادل نظرات لم تفهمها مع معتز الذي ضحك ضحكة قصيرة بينما ظل واقفاً مكانه ...
قبل أن يلتفت الرجل نحوها ليقول بنبرة جادة:
_نجرب!
كلمته المقتضبة أثارت الكثير من ضيقها مع تزعزع ثقتها نوعاً ...
هذا الذي ذهب ببعض تركيزها عندما شعرت به يناولها كأساً من الشراب قائلاً بنفس النبرة الجادة:
_الدور مش سهل...وفيه تطورات كتير للشخصية ...مش وش حلو وخلاص.

تناولت منه الكأس بتردد ليرمقها معتز بنظرة محذرة جعلتها تتجرعه كاملاً دون حيطة...
تسعل لمذاقه الحارق نوعاً لكنها تحاول تمالك نفسها لتقول له بسرعة:
_قرأت السيناريو وعارفة إن الدور فعلاً صعب بس أنا أده.

هنا ابتسم معتز وهو يأخذ مجلسه بينهما ليقول بنبرته الجادة :
_ممكن نناقش شوية تفاصيل .
ظهر الاهتمام في ملامحها وهي تتابع حديث معتز عن قصة الفيلم...
دقائق مضت وهو يتحدث بحماسته المصطنعة التي لم تنتقل إليها هذه المرة...
لماذا يبدو لها حديثه كأنه ثرثرة بلا معنى؟!
أم أنها هي من فقدت التركيز بأثر الكحول؟!
ياللخجل!
هل ثملت من كأس واحد ؟!

صوت رنين هاتفها برقم غريب يخترق الضباب الذي يغيم على عقلها ...
لتشعر بمعتز يسحبه منها قائلاً بحزم:
_مادام بنتكلم في الشغل نقفل الموبايلات .

لم تستطع مجادلته وهي تراه يغلقه فعلاً قبل أن يمد لها الرجل يده بكأس آخر قائلاً:
_اسم خالتك هيفيدنا كتير في الدعاية...بس معتز بيقوللي إنك عايزة أكبر قدر من السرية في التصوير ...وده هيبقى صعب إن ماكانش مستحيل.

تتناول الشراب مرغمة وهي تحاول التظاهر بالتركيز في ما يقول ...
لن تبدو بمظهر الخرقاء الساذجة عديمة الخبرة ...

_بس ...ده....شرطي!
بحروف متقطعة تقولها والضباب حول عقلها يزداد ليتبادل معتز مع الرجل نظرة ذات مغزى قبل أن يقول الأخير ساخراً:
_شرطك ؟! يظهر إنك مش فاهمة كويس...

ثم مال عليها درجة الخطورة مردفاً بهمس مسيطر:
_أنا هنا صاحب الليلة...يعني أنا اللي أقول شروطي مش انتِ.
ابتعدت بحركة غريزية مفاجئة جعلتها تفقد توازنها لتسقط على ظهرها مستندة على مرفقيها ...
هذه الحركة التي بدت شديدة الإغواء مع ثوب كهذا الذي ترتديه ...
فالتمعت عينا الرجل ببريق خطر وهو يقول لمعتز ونظراته ملتصقة بجسدها هي:
_سيبني معاها شوية...يا اقنعها...ياتقنعني .
_بس ده ماكانش اتفاقنا .

يقولها معتز ببعض الضيق فلم يتفقا أن يسبقه هو لنيل غزاله الذي تعب في اصطياده طوال هذه الأيام حتى يأتي بإرادته إلى هنا ...
لكن الرجل هتف به بنفاد صبر:
_اخرج دلوقت يا معتز ...هناديك لما نخلص.

كز على أسنانه مغتاظاً وهو يراقب عينيها الزائغتين بسخط...
قبل أن يغادر الخيمة ليسدل ستارها خلفه...
بينما صارت هي مشوشة تماماً وهي تشعر بالرجل يقترب منها أكثر ليهمس بصوت أجش:
_فيه مشهد واحد حابب أشوف تمثيلك فيه.
_مشهد إيه ؟!
تمتمت بها بما بدا كالهذيان قبل أن تشعر بثقله فوقها مع استطراده الحار:
_ده !
=========
_ردي يا زفتة...يا حيوانة....هاطلع روحك في إيدي أول مااشوفك!
صرخ بها مروان بغضب ذبيح وهو يركن سيارته على الطريق جوار سيارة معتز ...
لقد صدق حدسه !
عندما أخبرته بالأمس أنها على وشك تحقيق حلم مصيري توقع أنها كارثة جديدة من كوارثها ...
لكنه لم يتوقعها بهذه الجرأة !
لقد ظل واقفاً يراقب مدخل بيتها عقب خروج يامن في موعده الليلي المعتاد موقناً أنها لو كانت تنتوي شيئاً فلن تفعله إلا بعد خروجه !
وقد صدق ظنه عندما وجدها تخرج في منتصف الليل مرتدية هذا الثوب الكارثي لتستقل مع ذاك المخرج سيارته ...
معتز الشريف؟!
الحمقاء ؟!
هل هذا هو حلمها الذي تنتظر تحقيقه بهذه اللهفة؟!
ألا تعلم أي سمعة سيئة تطارده ؟!
لكن...ربما ليست حماقة !
ربما هي حقاً كما يزعمون ...
لعوبٌ منفلتة بلا رابط!
لا!
حبيبته التي يعرفها ...التي منحها قلبه منذ سنوات ...
هذه التي تشاطره تفاصيل حياتها عبر رسائلهما ببراءة مهلكة...
هي نفسها من تكذب هذه الصورة التي تفرض نفسها الآن على الوضع!!
تباً!
من تكون حقاً هذه الفتاة ؟!
هل هي البريئة التي تبادله مشاعره بنقاء ...باحتياج قلب يتيم يفتقد المؤازرة؟!
أم هي اللعوب المتراقصة بفجر على أوتار الرجال؟!
لا يهم!
فليجدها الآن وفقط !
لكن ...كيف ؟!
اقتحم الحفل لتطالعه وجوه الحاضرين بمزيج من فضول وازدراء لزيه الكلاسيكي فقير الأناقة الذي لا يناسبهم...
لكنه لم يهتم وهو يبحث عنها بعينين مشتعلتين غضباً حتى وجد معتز يخرج من إحدى الخيام فجذبه بقوة صارخاً:
_فين داليا؟!
توترت ملامح معتز ليصمت للحظة عاجلته فيها لكمة مروان الذي ما كاد يعيد سؤاله حتى سمع صراخ استغاثتها من الداخل ...
دفع معتز بعنف ليسقطه أرضاً لكن البعض تكالبوا حوله ليتحول الأمر لشجار غير متكافئ...

_داخل خناقة بنضارة ؟! ده انت هتتنفخ يا معلم!

عبارة ساخرة من أحدهم لكنه لم يكن يسمع وسط هذا الضجيج سوى صوت صراخها هي ...
يالله!
فلتكن بخير حتى ولو فقد هو حياته في المقابل!!
دقائق لا يدري كيف مرت به وهو يتلقى الضربات محاولاً التماسك بين ألم جسده وقلبه...
ويبدو أن أبواب السماء قد انفتحت لدعائه عندما ظهر الخلاص في صوت سارينة الشرطة ...
===========
_كانت فين دي ؟! باللبس ده ؟!
صرخ بها يامن بجنون وهو يدخل غرفة الحجز في قسم الشرطة ليستقبله مروان مهدئاً:
_اهدا يا يامن ...الحمدلله هي بخير ...ماحصلش حاجة.
لكنه بدا وكأنه لم يسمعه ...
كل ما كان يدور بباله أن يستر عريها هذا فخلع قميصه دون تردد ليلبسها إياه هاتفاً بحدة مخاطباً صديقه:
_إيه اللي حصل وإيه اللي وصلك انت ليها؟!

تردد مروان قليلاً قبل أن يحكي له ما كان محاولاً تهوين التفاصيل قدر المستطاع...
بينما كانت هي تراقبهم بوجه تلطخ بمزيج أصباغها ودموعها ...
كانت بالكاد قد استعادت وعيها كاملاً لتجد نفسها في سيارة الشرطة مع مروان "القبيح" الذي زادته آثار الضرب قبحاً !
ورغم ما يُفترض أن تشعر به من امتنان لهذا الذي أنقذها من فخ معتز الحقير ...
لكنها على العكس كانت تشعر بمزيج من خزي وسخط وهي ترى نفسها معه في هذا الموقف من جديد !
هل يراقبها هذا المعتوه ؟!
هل وصلت سفاهته إلى هذا الحد؟!
لا بأس!
حماقته هذه أنقذتها هذه المرة من مصير لا تعلم أين كان سينتهي بها !

وعند الخاطر الأخير رمقت معتز القابع في زاوية الغرفة بنظرة نارية قابلها بابتسامة ساخرة ...

ليقطع أفكارها المشتتة صراخ يامن الهائج:
_كل ده بيحصل من ورا ظهري وانت مخبي عليّ؟!
التفتت نحوه بخوف وهي تدرك أن الدور القادم عليها وقد صدق ظنها عندما التفت يامن نحوها مكملاً صراخه :
_وانتِ يا سافلة يطلع منك كل ده ؟! قسماً بالله ما هاخلليك تشوفي نور الشمس بره البيت بعد النهارده !
صراخه الهائج تزامن مع اندفاعه نحوها يهم بصفعها ليقف مروان بينهما فيحول دون ذلك ...

_بطل زعيق يا أستاذ...مش في الشارع احنا.
قالها الضابط المسئول وهو يدخل الغرفة ليلقي عليهم جميعاً نظرة عابرة قبل أن يجلس على مكتبه ليقول بلهجة عملية:
_مين صاحب بلاغ الخطف؟!
_أنا.
قالها مروان بحرج متجنباً النظر لوجه يامن الملتهب بغضبه ليقول معتز ببرود واثق:
_خطف إيه يا سعادة الباشا؟! الآنسة داليا جت بمزاجها معانا...وعندي شهود على كده .
_ولما هو بمزاجها كانت بتصرخ ليه وقت ما وصلنا؟! عندنا آثار لمقاومة اعتداء.

شحب وجه يامن فجأة وهو يتوقع الأسوأ ليلتفت نحوها بنظرة مرتعبة بينما رد معتز بنفس اللهجة الواثقة:
_دلع بنات .
اندفع نحوه يامن يهم بلكمه ليقف مروان بينهما بينما الضابط يقول بصرامة:
_حركة تانية وهاطلعك بره خالص .

كز يامن على أسنانه بغضب وهو يتابع التحقيق كالمغيب!
لا يتصور أن داليا...ابنته التي لم ينجبها ...تعرضت لكل هذا خلف ظهره !
هو الذي ظن أنه يحميهن جميعاً تحت جناحه !
ما بال حبات العقد تنفرط هكذا من بين يديه واحدة تلو الأخرى؟!!!

_أنا شايف إننا نحفظ التحقيق ونحلها ودي ...بلاش شوشرة لمصلحتكم انتم الاتنين .

انتزعها بها الضابط من شروده ليهتف بانفعال:
_ودي إيه وبتاع إيه؟! دول عايزين الشنق!
لكن الضابط رمقه بنظرة مستهجنة ناسبت قوله:
_قريبتك راحت معاه بمزاجها ...لو عايز الحق...المفروض أتهم الأستاذ بتهمة البلاغ الكاذب...

قالها مشيراً لمروان الذي استنزفه إرهاقه الجسدي بعد الشجار إضافة لنزيف مشاعره العميق بعد أحداث الليلة الصاخبة...
فاكتفى بإطراقة رأس بينما يامن يرمقه بنظرات نارية خاصة عندما أردف الضابط بحزم:
_نفض المولد بقا من سكات ...عشان مصلحتكم كلكم ...
ثم أكمل عبارته مهدداً:
_واللا نعمل للآنسة كشف عذرية ونكمل التحقيق؟!
=======
خرج بهما من قسم الشرطة بعد الفجر ليستقلا سيارته وما إن ابتعد بها قليلاً حتى توقف بها ليلتفت نحو مروان الذي استلقى بإنهاك على المقعد الخلفي قائلاً بغضب مكتوم:
_أطلع بيك على المستشفى؟!
قالها وغضبه يخالطه مزيج من الامتنان والشفقة على مظهر صديقه ...
واللذيْن لم يشفعا كثيراً خاصة عندما قال مروان بتماسك:
_لا مش مستاهلة...أنا كويس.
هنا هتف يامن بحدة ساخطة:
_أنا عايز أفهم انت عرفت إزاي إنها رايحة هناك ...وليه ما قلتليش أصلاً إنك رايح.
_وأنا كمان عايزة أعرف.
قالتها داليا بترقب ليصرخ بها يامن بعنف أجفلها:
_انتِ تخرسي خالص ...مااسمعش نفسك...حسابك معايا في البيت.

بينما صمت مروان وهو لا يدري كيف يخبر يامن عن الأمر ...
طوال هذه السنوات وهو يخفي مشاعره نحو داليا عن صديقه خشية طبيعته المتشككة ...وانتظاراً للتوقيت المناسب ...
والآن تنفضح مشاعره بهذه الطريقة المفجعة ...
يامن لن يمررها له أبداً...

لكن صوت انهيار داليا الباكي يقاطع أفكاره :
_ما كنتش أعرف إن معتز ده زبالة كده...أنا كان عندي حلم ولقيتها فرصة....اشمعنا كل واحد فيكم اختار طريقه؟!...ليه أنا كمان مااختارش...أنا عايزة أبقى زي بيللا...وانت مصرّ تطلعني زي ما انت عايز.
_لسه ليكي عينك تجائري وأنا جايبك م القسم الفجر...عايزة توصلي لفين بعد كده ؟!

صرخ بها يامن وهو يقاوم رغبة عارمة في صفع تلك المتمردة حتى تفيق من عنادها وغبائها المستحكم هذا ...
بينما رمقها مروان بنظرة طويلة من الخلف وبكاؤها هكذا يذكره بصورتها القديمة في عينيه...
نفس الطفلة الباكية على درج السلم تحتضن ثوب عيد لم يقدّر لها ارتداؤه !

ربما هذه هي مشكلته معها!
أنها -بكل مصائبها - لا تستطيع محو هذه الصورة عن عينيه !
هو مريض بها!
مريض بحبها الذي لا يدري أين سيوصله بعد كل هذا !
منذ ساعات فقط كان سيقتلها نكالاً بفعلتها والآن يود لو يضمها لصدره...
لو يلم شعث شعرها هذا بأنامله...يغسل ما لطخته أصباغها من وجهها...
يقبلها...ويقبلها...ويقبلها ...
حتى تذوب عشقاً بين ذراعيه كما يفعل هو منذ سنوات !

_عايز أخطبها.
قالها مروان أخيراً ملقياً آخر أوراقه لتشهق هي بارتياع هاتفة :
_مستحيل...لو آخر راجل في الدنيا مستحيل أتجوزك انت.
_ممكن تخرسي!

صرخ بها يامن وهو يخبط بقبضته على مقود السيارة لكنها لم تكن لتصمت !
ما الذي ستخسره أكثر؟!
لهذا اندفعت بكل أسلحتها الرخيصة لتهتف :
_لازم تعرف حقيقته كويس...ده بني آدم مجنون...ما بيبطلش يجري ورايا في كل حتة أروحها وآخرها الليلة دي ...بيفرض نفسه عليّ بالعافية...هددته كذا مرة أقوللك بيقوللي ما يهموش لأنك صاحبه ومش هتصدق عليه حاجة...ده طلب مني أروح له شقته لوحدنا...ولما رفضت هددني إنه يفضحني بأي كذب عشان ....عشان عمه دكتور عندنا في الكلية .

كانت عينا يامن تتسعان بارتياع مع كل كلمة تقولها ...
مروان حقاً أخبره عن تكاسلها في دراستها بعد شكوى عمه منها !
هل فعل ما تقوله حقاً؟!
لا لا!
مروان صديق عمره !
من يأتمنه على كل أسراره !
هل يكون حقاً بهذه الخسة ليغرر بقريبته من خلف ظهره؟!
لكن سلطان وساوسه يعاود إذكاء النيران في صدره ...
ولمَ لا؟!
لو لم يكن يطاردها حقاً فكيف علم عما حدث الليلة ؟!
ولماذا لم يخبره بكل ما يعرفه عنها؟!
ولماذا لم يصارحه برغبته في خطبتها إلا الآن بالذات عندما انكشف ستره؟!

_لو وافقت عليه والله أموت نفسي...الموت أرحم عندي من صاحبك البشع ده !

كانت تهتف بها بين عبراتها الحارة لا تدري أن كل حرف...
كل حرف خنجر يطعن في صدر عاشق لم يرجُ من النساء سواها !
كل حرف يجلد رجولته التي لم تستنفرها أنثى غيرها ...
كان يتوقع منها تفكيراً في عرضه...
أو حتى رفضاً مهذباً !
لكن أن ترفضه بهذا الإصرار ...بهذا اليقين...وبعد ليلة عاصفة كهذه أنجاها فيها من مصير مهلك ؟!
أن تكذب بهذا الجحود فقط لتتخلص منه!!
هذا هو ما أصاب قلبه في الصميم!!
لقد تحمل حماقاتها ...رعونتها...طيشها...جياد تمردها التي تأبى الاستقرار بأرض...
لكن كلماتها هذه أقوى من أن تحتملها أعمدة رجولته !
عيناه الذابلتان تراقبانها بجمود وهو يدرك أن جرحها هذه المرة لم ينل من قلبه فحسب...
ولا من كبريائه...
بل من صداقة عمره كذلك !!

_ردك إيه ع الكلام ده ؟!
هتف بها يامن كالمجنون وهو لا يدري من يصدق ومن يكذب ها هنا!!
كل الخيوط تفلت من يده وما عاد يثق في أي شيئ ولا أي أحد !!
هذه "الفوضى" تثير جنونه وتنتزع من عقله أي منطق عندما يشعر باهتزاز عرش ثقته...
ليرفع مروان رأسه قائلاً بنبرة ميتة:
_الحاجة الوحيدة اللي صدقت فيها هي أد إيه بتكرهني...أفتكر مش محتاج بعد كده رد على طلبي.

قالها ثم غادر السيارة بسرعة قبل أن يسمع المزيد من يامن ...
كلاهما كان يدرك أن صداقتهما -رغم قوتها- لن تصمد أمام طغيان الموج الأخير..
=========
وقفت نبيلة تراقبهما بعينين دامعتين خلف باب غرفة داليا المفتوح...
داليا التي استسلمت للنوم أخيراً بين ذراعي هانيا التي لم تقل عن يامن قسوة ...ولا حناناً !
كيف تسامح نفسها هذه المرة ؟!
كيف تتجاهل أن داليا كادت تضيع بسببها هي ...
بسبب رغبة طائشة في أن تحذو حذوها ...
طريق ضياعها الذي سارته خطوة خطوة لم يعد يهلكها وحدها مسيراً...!

أغمضت عينيها بألم وهي تتذكر كلمات يامن التي صرخ بها في وجهها منذ قليل ...

_مش قلت لك قبل كده انت اللي هتضيعيها ؟! كانت هتروح في داهية عشان عايزة تطلع زيك ...أنا مش عارف هتفوقي امتى ؟! مستنية إيه عشان ترجعي عن طريقك ده ؟! حقي وسامحت فيه لكن البنات ذنبهم إيه ؟!

سالت دموعها غزيرة على وجنتيها وهي تشعر بمزيج من الخزي والألم...
يظن التراجع عن الطريق سهلاً هكذا؟!
حصاد عمرها الذي يشعرها بقيمتها ؟!
هي تركت التمثيل من أجله ...
لكن ألا يحق لها الفرح بثمار نجاحها...
بالتحليق في نفس السماء التي أمطرتها عطايا ؟!
بالشعور بأنها لا تزال حية...تتنفس...
تنال من نظرات الإعجاب ما يطفئ حسرتها على عمر ضاع بلا ثمن ؟!

صوت أنين داليا في نومها يمزق قلبها أكثر فتقترب من السرير تراقب وجهها الملتهب بدموعه...
لتصطدم عيناها بتلك الآثار والخدوش على رقبتها وكتفها وما ظهر من صدرها فتشعر بالدم يفور في عروقها ...

تخرج من الغرفة بخطوات حذرة لتتناول هاتفها وما إن سمعت الاتصال يفتح بترحيب الرجل:
_بيللا بنفسها بتكلمني؟! يارب تكوني وافقتي على اقتراحي وهترجعي بالفيلم بتاعي؟!
صوتها الذي يجيد مزج كبريائه بأنوثته يأتيه واثقاً:
_بفكر !
الرجل يسهب في عرض مزاياه لكن ذهنها مشغولٌ عما يقول ...
فتسمعه مضطرة قبل أن تقول له بنفس النبرة :
_خلاص...قلت لك بفكر...كنت عايزة منك طلب.
_تؤمريني يا نجمة .
_المخرج اللي اسمه معتز الشريف والمنتج (.......) ...عايزاك تبعت لهم "هدية" من بتوعنا بتوع زمان ...فاكرهم ؟!
يضحك الرجل مجلجلاً وهو يتذكر ما تحكي عنه من ذكرياتهما المشتركة قديماً قبل أن يقول لها بين ضحكاته:
_يا مغيث ...عملوا إيه دول عشان يضايقوكي كده ؟!
_من غير تفاصيل ...انت عارفني ما بحبش الكلام الكتير.
تقولها باقتضاب لم تغادره نبرة دلالها ليجيبها بودّ:
_عُلم وينفذ يا فندم...استني أخبار حلوة في خلال يومين .

تغلق الاتصال معه وهي تشعر ببعض التشفي ...
هذا الوسط له ميزاته على أي حال!
قبل أن تعود لغرفة داليا ...
تتردد قليلاً قبل أن ترفع الغطاء لتأخذ مكانها بين النائمتين ...
تضم كلاً منهما بذراع كاتمةً آهة لوعتها ...
ليس أصعب من أن تدرك خطأ خطواتك ...دون جدوى..فلا أنت قادر على الرجوع ولا تملك شجاعة التوقف!
========
جلست رانيا على الأريكة في مدخل الشقة تنتظر عودته ...
قلبها يكاد ينفطر بعدما حدث لشقيقتيها ...
واحدة خسرت زوجها ...والثانية كادت تخسر شرفها !!
ضميرها يخزها بشدة وهي تحمل نفسها المسئولية لأنها ابتعدت عن داليا كثيراً بعد انشغالها بزواجها ...
صداقتهما رغم ضعف موقفها هي فيها لكنها كانت تمنح داليا مزية "الفضفضة" ...
داليا التي ما تبدو به من نزق ...عناد...غرور ....لكنها تعلم أي ضعف يختفي خلف كل هذا !
كيف غفلت عنها إلى هذا الحد حتى كادت تضيع؟!
ليست هي فقط...
أشرف كذلك !
حاله غريب ولا تعلم السبب ...
منذ متى؟!
هي لا تعرف بالضبط...
كل ما هي واثقة منه أنها قضت معه أجمل "شهر عسل" قد تعرفه عروس...
وأن "أشرف الحبيب" لا يفوقه روعة سوى "أشرف الزوج"!
لكنه قد بدأ يبتعد تدريجياً عنها ...تحجبه عوالم خفية لا تعلم أسرارها ...
وتجبن أن تسأله عنها!!
أجل ...لايزال خوفها يمنحها الذريعة لتختفي داخل شرنقتها مكتفية بالأمل أن يصلح الحال وحده !
ربما تكون طبيعتها غريبة لكنها لا تملك تغييرها بهذه السهولة !

انقطعت أفكارها عندما سمعت صوت الباب يفتح فانتفضت مكانها لتسأله بلهفة:
_اتأخرت ليه يا أشرف؟!

عيناه المحمرتان أثارتا خوفها خاصة مع تلك الهالات السوداء التي استوطنت جفنيه مع شحوب بشرته...
هل يرهقه العمل إلى هذا الحد؟!
وكأنما سمع أفكارها ليأتيها جوابه الجاف:
_ما انتِ عارفة الشغل كله على دماغي.

انعقد حاجباها بدهشة وهي تشعر بالمزيد من الغرابة ...
منذ متى يشكو أشرف أي شيئ ولأي أحد ؟!!
منذ متى يرد بهذه اللهجة نافدة الصبر ؟!
أين دلاله...حنانه...رقته...أين حبه؟!
اغرورقت عيناها بالدموع عند الخاطر الأخير فزفر بقوة هاتفاً بنفس النبرة:
_يوووووه....كل حاجة عياط ونكد...أنا خارج تاني!

قالها دون أن يمنحها الفرصة للاعتراض ليخرج صافقاً الباب خلفه بعنف ...
رأسه يكاد يقتلع من مكانه بهذه الضربات التي ما عاد يعرف لها سوى علاج واحد ...
هو ليس بهذه السذاجة كي لا يدرك الفخ الذي استدرج نحوه...
ذاك الxxxx الذي وصفه له مساعده لم يكن مجرد مسكن ...
وهذا يعني أن الرجل الذي منحه ثقته ليس سوى الرأس المدبر لكل هذه المصائب ...
وعند الخاطر الأخير ابتسم ساخراً وهو يصل لسيارته التي استقلها ليقودها بسرعة جنونية افتقرت للكثير من الرشد...

_برافو يا أشرف...عرفت الحقيقة ...بس متأخر ...متأخر قوي!

قالها لنفسه وهو يفتح تابلوه السيارة أمامه ليستخرج منه شريط الدواء...
لقد حاول المقاومة...
صدقاً قد حاول ...
لكن الوقت يمر والألم يكاد يفقده عقله ...
فليذهب العالم كله للجحيم ...
لكن فليحظَ بهذا القرص قبلاً !

شعر بالسيارة تخرج عن سيطرته لتتسع عيناه بصدمة وأضواء السيارة أمامه تسطع ببريق الموت ....
========
ذهنه مشوش بالكامل حتى أنه لم ينتبه لسيل السباب الذي انطلق من فم السائق الذي تجاوزه...
قبل أن يستعيد بعضاً من وعيه ليكمل القيادة حتى أقرب مكان رصف فيه سيارته ...
لاتزال أنامله متشبثة بالأقراص في يده ورأسه يستند بإعياء على مقود السيارة...
ربما كان ما حدث منذ قليل رسالة القدر له ألا يستسلم...
ألا يفرط في أمانة منحها الله له...
أن يقاوم كل هذا بكل قوته حتى ينهض من جديد ...
صوت الآذان يصدح حوله وكأنه إشارة أخرى فيغمض عينيه بألم وهو يدعو الله أن يلهمه القدرة على المقاومة...
ليس فقط لأجله...لكن لأجل أمه...شقيقته...ولأجل رانيا...
رانيا التي يوقن أنها الآن تبكي وحدها!

أطلق آهة عالية وهو يحاول رفع رأسه عن المقود رغم هذه المطارق التي تدق كل خلاياه تكاد تهشمها...
لم يدرِ بعدها كيف تمكن من القيادة ...ولا بأية معجزة عاد إلى بيته ليجدها كما توقع منهارة في بكائها ...وفي نفس المكان!
هذه هي رانيا التي يعرفها ...
هل يلومها الآن على ضعفها وخنوعها الذي طالما كان جزءاً أصيلاً من شخصيتها؟!
هل يعترف الآن أنه ما عاد يحتملها عبئاً جديداً فوق أعبائه؟!
هل ضاق قلبه بها؟!!
لا...لا...

لو ضاق القلب بها هي فلمن يتسع إذن؟!!

لهذا رفع رأسه للأعلى محاولاً التماسك قبل أن يقترب منها ...
كان يعلم أنه لن يحتاج لأكثر من عناق كي تسامحه، وهو ما منحه لها الآن بكل قوة احتياجه لها...
ذراعاه كانا يطوقانها بمزيج غريب من قوة تشبثه بها وضعف جسده الذي كان يئن ألماً...

_ما تزعليش...عشان خاطري بطلي عياط...أنا آسف.
كانت كلماته تخرج متقطعة لاهثة وهو يحاول قدر استطاعته مداراة وجعه عنها ...
عندما أحاطت وجنتيه براحتيها لتهتف بين دموعها:
_أنا مش زعلانة منك...أنا بس عايزة أفهم...قوللي مالك...فيه إيه؟!

مسح دموعها بأنامل مرتجفة وأنفاسه تغادر صدره لاهثة بالألم ...
فعادت تهتف بأقصى ما وصل إليه عقلها:
_انت خلاص ماعدتش بتحبني؟! ندمان على جوازنا؟!
ابتسامة ساخرة تنامت على شفتيه حولها انفعاله لضحكة مريرة سبقت همسه الصادق:
_مهما حصل بيننا إوعي تشكي في حبي ليكِ...مهما اتغيرت أنا أو اتغيرتِ أنتِ...حبنا عمره ما يتغير.
ألقت رأسها على صدره وهي تضمه بكل قوتها صارخة:
_يبقى ريحني وقوللي مالك.

زفر زفرة حارقة وهو يسند رأسه إلى كتفها ...
ليتها تفهم!
ليتها تفهم أنه يود لو يستند إليها الآن حقاً لا رأساً لكتف بل ...
مصيراً لمصير !
ليتها تدرك حاجته الآن لقوة لا يدري حقاً هل تمتلكها أم أنه يظلمها بتحميلها ما يفوق قدراتها ...
هي -هُريرته- الناعمة الهشة التي طالما أغدق عليها تدليله حتى نسيت وجود مخالبها...
والآن ...هي سبيله الوحيد للنجاة ...فهل تخذله؟!!
لهذا صمت لدقائق قبل أن يواجهها بقوله:
_لو قلت لك إني تعبان ومحتاج علاج...هتروحي معايا بكرة من غير أسئلة ومن غير ما تقولي لحد ...أي حد ...حتى يامن ؟!
شحبت ملامحها أكثر وعيناها تزيغان بخوف كان هو أكثر من يدركه لكنه لم تكن له حيلة فيه...
أسئلتها كلها جففها الرعب في حلقها وذراعاها يعتصران جسده أكثر بينما تومئ برأسها في إجابة لسؤاله بالطاعة...
فاغتصب ابتسامة باهتة على شفتيه ليردف مطمئناً إياها:
_ما تخافيش كده ...حاجة بسيطة...

هو يكذب ...!
كل ما فيه يكذب ...!
الألم في ملامحه يكذبه...ارتجافة جسده تكذبه...لن تنخدع بهذا الهدوء الذي يدعيه...
لأول مرة تكره حنانه هذا الذي يحاول حمايتها به!!

_أنا معاك خطوة بخطوة بس لازم أعرف كل حاجة...
غمغمت بها بإصرار فأشاح بوجهه عنها لتعاود هتافها بنبرة أقوى:
_ما انا لازم...
رنين هاتفه قاطع عبارتها خاصة عندما عقد حاجبيه وهو يتبين الوقت ليفتح الاتصال بسؤاله القلق:
_خير يا نشوى ...ماما ...
والصرخة المقابلة من الجانب الآخر للاتصال منحته الحقيقة قاسية قاطعة !
=======
_مش هنرجع بيتنا بقا؟!
همست بها بتردد وعيناها الحزينتان معلقتان بجسده المتهالك على ذاك الكرسي الذي اعتادت أمه -الراحلة- الجلوس عليه ...
ليجيبها دون أن يفتح عينيه :
_خللينا هنا مع نشوى شوية...مش عايز نسيبها لوحدها وهي مش هترضى تيجي معانا .

صوته المتحشرج الكسير يخدش جدران قلبها وهي تشعر بالفجوة بينهما تزداد يوماً بعد يوم...
منذ وفاة والدته وهو يهوي أكثر وأكثر في بئر حزنه وشتاته الذي لا تفهم سببه...
والذي يهرب منه في كل مرة تسأله عنه ...

_أشرف...افتح عينيك وكلمني!
قالتها وهي تجثو على ركبتيها أمامه لتحتضن ساعده بأناملها ففتح عينيه ببطء لتطالعها نظراته الجامدة ...
ازدردت ريقها ببطء وهي تسأله بصوت مرتجف:
_من يوم الوفاة وأنا مش قادرة أسألك...كنت قلت لي إنك تعبان...ومحتاج علاج.
نظرته الجامدة تطول ليجيبها بعدها بلهجة غريبة :
_ماتشغليش بالك...ما طلعتش تعبان ولا حاجة...كان تحليل غلط.

قالها وهو يخفي عنها خيبته باضطراره للرجوع لهذه الأقراص!!
خبر وفاة والدته دك ما بقي له من حصون مقاومته ليجد نفسه يستسلم بلا أي عزيمة ...
لقد ظن أنه يملك من القوة ما يحمي به الجميع ...
لكنه الآن يدرك أنه حتى عاجز عن حماية نفسه !
عالمه ينهار حوله وهو لا يملك إلا المراقبة...والتحسر!

بينما رمقته هي بنظرة تشكك قائلة :
_طب كان تحليل إيه ؟! وعرفت منين إنه غلط ؟!
زفرة عميقة كانت جوابه مع إشاحته بوجهه لتحتضن هي عضديه بكفيها هاتفة برجاء:
_عشان خاطري يا أشرف ما تخبيش...قل لي الحقيقة عشان ...
_عشان إيه ؟! فاكرة نفسك ممكن تعملي إيه ؟!
صرخ بها بثورة مفاجئة لم يكن لها ما يبررها في نظرها لكنه حقاً كان يحترق بداخله !
دور "البطولة" الذي أصر على ممارسته وحده منذ البداية صار مهلهلاً على كيانه الذي يزداد ضآلة يوماً بعد يوم ...
وها هو ذا يهوي...
ومن بعده سيسقطون جميعاً بلا داعم !

بينما انكمشت هي مكانها لتضم كفيها نحو صدرها بخوف ...
خوف حقيقي صار يجتاحها بلا رحمة وهي تشعر أنه يتحول لشخص آخر غير هذا الذي عرفته طوال عمرها ...
دموعها تسيل على خديها بعجز وهي لا تدري ماذا تفعل!
هل هو مريض حقاً ويخفي هذا عنها؟!
كيف تعرف الحقيقة مادام هو مصراً على إخفائها؟!
يامن؟!
هل تستشيره؟!
لا...هي وعدت أشرف ألا يعرف يامن شيئاً عن الأمر ولن تخلف وعدها...
إذن...ما الحل؟!

_بتزعق ليه يا أشرف؟!

هتفت بها نشوى شقيقته وهي تدخل عليهما الغرفة لتجدهما بهذا الوضع ...
فانتفض أشرف مكانه وقد عز عليه أن تراهما شقيقته ورانيا جاثية تحت قدميه بهذا الوضع الذي قد تسيئ فهمه...
ليمد ذراعيه فيرفع رانيا نحوه ليضمها بذراعه مخاطباً شقيقته :
_معلش...أعصابي فلتت .
نقلت نشوى بصرها بينهما للحظات ثم تقدمت منه لتقول بنبرتها العملية :
_عارفة إن الوقت مش مناسب بس كنت محتاجة فلوس...قسط العربية ومصاريف ريما .
أومأ برأسه وقد ارتسم الهم جلياً على ملامحه المنهكة ...
لتتوجه نشوى ببصرها نحو رانيا قائلة :
_تعالي معايا...عايزاكِ في كلمتين.

رفعت رانيا عينيها الواهنتين نحوها بارتباكها المعهود ليشدد أشرف ضغط ذراعه حولها مطمئناً قبل أن يقول لشقيقته بحزم:
_قولي اللي انتِ عايزاه هنا....هو فيه أسرار بيني وبينكم ؟!
لكن نشوى جذبتها ببعض الرفق لتحررها من ذراعه قائلة بابتسامة حرصت أن تكون لطيفة :
_ده كلام ستات مالكش فيه .

قالتها لتسحب رانيا المستسلمة خلفها غير منتظرة لإذنه قبل أن تخرج من الغرفة لتغلق بابها خلفها ...
وما إن جلست جوار رانيا على أريكة الصالة حتى سألتها بنبرة خفيضة:
_أشرف ماله ؟! وإياك تخبي عليّ.
هزت رانيا رأسها بما يوحي بجهلها لتزداد نبرة نشوى عصبية باستطرادها:
_ده مش أشرف أخويا...لا ده شكله ولا دي صحته ولا ده طبعه...حتى من قبل وفاة ماما الله يرحمها وهو فيه حاجة متغيرة...ولازم أعرفها.

_سألته كتير...مش راضي يقول.
قالتها رانيا بنبرتها قليلة الحيلة لترد نشوى بغيظ:
_وبعدين ؟! سبتيه كده خلاص؟! عملتِ اللي عليكِ يعني؟

شعرت رانيا بالارتباك أكثر كعهدها عندما يوجه أحدهم لها اتهاماً بالتقصير لتكتفي بفرك أصابعها بينما استمرت نشوى بأسئلتها :
_من امتى وهو كده ؟! راح لدكتور؟! بياخد دوا معين ؟! بياكل كويس؟! بينام كويس؟!
كانت رانيا تهز رأسها بجهل مع كل سؤال لتتمتم أخيراً بنفس النبرة :
_معرفش...هو بيقعد وقت كبير بره البيت ...ولما بيرجع بيبقى خلقه ضيق ...تقريباً شغل المصنع بيخلليه...
_مصنع إيه ؟! جوزك بقاله ثلاث أسابيع ماعتبش المصنع وكلموني هنا يسألوا عليه !
قالتها نشوى بغضب لتتسع عينا رانيا بصدمة مع همسها :
_إيه ؟! امال بيروح فين كل يوم؟!
_بتسأليني؟! هو جوزك انتِ واللا جوزي أنا؟!

كانت تعلم أنها تقسو عليها بردة فعلها لكنها كانت حقاً مستفَزة !
ليس فقط حزنها على والدتها ...ولا قلقها على أشرف ...
ولا مسئولية ابنتها التي تتحملها وحدها بعدما هجرها طليقها ...
لكن ضعف رانيا الخانع كان يؤجج انفعالاتها...
هي التي لا يثيرها شيئ كضعف امرأة في موطن يُفترض لها فيه القوة !
هكذا علمها أبوها وربتها أمها -كما فعلا مع أشرف- أن تتحمل المسئولية تحت أي ظرف ...
لقد صدق ظنها في رانيا كما كانت تراها من البداية...
لن تكون سوى حِمل آخر فوق ظهر أشرف الذي ضج بما يحمله !

لهذا زادت دموع رانيا من استفزازها -لا العكس- لتجد نفسها تقول بما بدا قاسياً:
_دموعك مش هتحل المشكلة...لازم نفهم فيه إيه ...حتى لو اضطرينا نراقبه من غير ما يحس...لو انتِ قليلة الحيلة وهتقعدي تعيطي جنب الحيط فأنا مش هاسيب أخويا يضيع.

رمقتها رانيا بنظرة ضائعة وهي لا تعلم بماذا ترد ...
لكن القدر كان يدخر لهما مفاجأة أقسى عندما فتح باب غرفة أشرف فجأة ليظهر هو منه ممسكاً بهاتفه بوجه ممتقع جعل نشوى تنتفض لتتوجه نحوه هاتفة بقلق:
_فيه إيه يا أشرف؟! حاجة حصلت ؟!

فيرفع الهاتف ليخبرها بالفاجعة بعبارات متقطعة مصعوقة :
_كلموني دلوقت...المساعد بتاعي اتقبض عليه في شحنة مخدرات...والمصنع ...المصنع هيتحجز عليه .
======





سمية سيمو غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 03-04-20, 12:29 AM   #1516

سمية سيمو


? العضوٌ??? » 396977
?  التسِجيلٌ » Apr 2017
? مشَارَ?اتْي » 4,356
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
?  نُقآطِيْ » سمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك action
?? ??? ~
keep smiling
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي


القطعة السابعة عشرة
************

دخلت عليها غرفتها لتجدها ممددة في فراشها تغطي وجهها بذراعها فتنهدت بحرارة لتجلس جوارها قائلة :
_إزيك يا داليا ؟! ممكن نتكلم شوية ؟!
_عايزة تديني محاضرة انتِ كمان ؟!
غمغمت بها داليا ببرود تعِس غريب على طبيعتها التي تعرفها ياسمين ...
والتي تأملتها بالكثير من الإشفاق !
رغم بداياتهما المشتعلة معاً لكنها تشعر أن داليا ليست أكثر من طفلة ترتدي ثوباً أكبر منها ...
طفلة افتقدت القدوة...أو -فلنقل- أساءت اختيارها في صورة بيللا الخادعة !
وعندما حلقت بجناحيها نحو ما ظنته نوراً كادت تحترق!

_لا ...مش هاتكلم معاكي خالص عن اللي فات...خللينا نتكلم في اللي جاي.

قالتها ياسمين وهي تزيح ذراعها عن وجهها ليصدمها شحوب ملامح داليا الواضح وعينيها الذابلتين من فرط البكاء...
والتي انتفضت الآن مكانها لتهتف بها بحدة :
_لو يامن اللي باعتك قولي له مالوش لازمة كل ده ...أنا أهه حسب أوامر سيادته محبوسة في أوضتي ومش هاخرج منها لحد ما أموت ...استريحتوا؟!

انتهت عبارتها بشهقة بكاء استسلمت له سريعاً ومشاهد تلك الليلة البشعة تعاود غزو مخيلتها ...
تأثير الكحول شتت ذهنها ليلتها فلم تسترد وعيها الكامل إلا في اليوم التالي لتصدمها بشاعة التفاصيل !
الظلام...مشاعل النار ...الخيام...صوت الموسيقا الصاخبة...
يد الرجل الغليظة تمتد لها بالكأس...
وابتسامة معتز الشيطانية وهو يغادر الخيمة ليتركها له !
كأنها مجرد عاهرة يسلمها بلا ثمن !!
ولولا الظروف لكان قد انتهكها بلا رحمة !!
"الظروف" أم "مروان"؟!
لا!
لن تعترف لذلك "القبيح" بفضل ...أي فضل!

ازدادت حدة بكائها وهي تشعر بأنها حقاً سيئة!
لم تشعر في حياتها أنها تكره نفسها كما الآن!
تلك الليلة استخرجت أسوأ ما فيها لتجد نفسها مجرد أمة لشيطانها...
بداية من خروجها مع معتز وانتهاء باتهامها البشع لمروان !
لقد أفسدت أنانيتها إنسانيتها!
وها هي ذي تفسد بوشاية صداقة عمر !

ضمتها ياسمين لصدرها وهي تربت على شعرها مدركة شعورها ...
ما مرت به ليس هيناً على الإطلاق...
ويامن زاد الطين بلة عندما أصدر قراره بحبسها في البيت ...
ليس هكذا تحل أمور فتاة متمردة كهذه !
لهذا تنحنحت بخفوت لتقول لها بحنان لا تدعيه :
_يامن خايف عليكي...كلنا...كلنا خايفين عليكي...مش هاقوللك إن اللي حصل ليلتها سهل نعديه كلنا...بس على الأقل نحاول...محدش بيتعلم ببلاش...المهم تفكري في بكرة.

حنانها الصادق مس قلب داليا التي وجدت نفسها تتشبث بعناقها ...
رغم حدة هتافها بعدها :
_وهو فين بكرة ده وهو حابسني في البيت زي المجرمين؟!
_اثبتيله إنك اتغيرتي وهو شوية شوية هيرخي الحبل .
قالتها ياسمين ناصحة وهي تدرك شدة عناد يامن ...لكنها تدرك أيضاً عمق حنانه خاصة لهذه الصغيرة ...
أشاحت داليا بوجهها في عدم اقتناع لتردف ياسمين بنفس النبرة الحانية:
_انتِ ماتعرفيش يامن بيحبكم أد إيه...ده كان هيتجنن ليلتها ...كل اللي بيعمله ده من خوفه عليكي...
ثم أدارت وجهها نحوها لتردف :
_انت بنت ذكية...وبتعرفي توصلي للي انت عايزاه...العبيها صح المرة دي واكسبي ثقته ...يامن شكاك وموسوس بس قلبه مفيش أطيب منه...اكسبيه من تاني هو مش عدوك ...ده أكتر واحد خايف عليكي.
عادت عينا داليا تمتلئان بالدموع فاحتضنتها ياسمين لبعض لحظات أخرى قبل أن تقول لها ببعض المرح:
_بيقولوا إنك مش راضية تاكلي...بس أنا مصرة تتغدي النهارده من إيدي...إيه رأيك ؟!
عضت داليا شفتها ثم أومأت برأسها فقبلت ياسمين وجنتها لتقوم ...
لكنها توقفت قليلاً قبل مغادرة الغرفة لتسألها بتردد:
_هسألك سؤال،ولو مش عايزة تجاوبي مش هاضغط عليكي...
اختلست داليا نظرة خاطفة نحوها لتردف ياسمين وهي تتفحص ملامحها باهتمام :
_هو فعلاً مروان عمل اللي قلتيه ليامن ؟!

ارتجفت شفتا داليا بوضوح للحظات ثم ازدردت ريقها لتقول باقتضاب:
_أنا ما بكدبش.
ظلت ياسمين تتفحصها للحظات وقد ظهر الجواب على وجهها واضحاً...
قبل أن تتنهد بحزن آسف لتغادر الغرفة مغلقة الباب خلفها برفق...

بينما مسحت داليا دموعها وهي تشعر بضميرها يخزها ...
موقفها المخزي من مروان ليس له ما يبرره إلا رغبتها في التمرد على كل ما يفرضه عليها يامن ...
لو لم تقلب المائدة على رأسه ليلتها كان يامن سيوافق على خطبتهما خاصةً بعد إنقاذه لها ...
لم يكن أمامها حل آخر !
هذا ما أسكتت به ضميرها وهي تقول لنفسها بمكابرة:
_بكرة الأيام تنسيهم ويتصالحوا...ياما بيحصل بين الأصحاب.

ولو صدقت نفسها لأيقنت أن عقلية موسوسة كيامن لن تأمن لمروان بعد هذه العاصفة !

زفرت بسخط وهي تتناول هاتفها لتفتح رسائل "المجهول"
منذ تلك الليلة العصيبة وهو لا يرد على رسائلها رغم أنها أرسلت له الكثير ...
كم تحتاجه الآن في عزلتها الانفرادية هذه !
تحتاجه أكثر من أي وقت مضى !!
تحتاج أن تبوح له بكل ما حدث ...
حتى ولو سقطت من نظره للأبد !

_أين أنت؟!

كتبتها بمزيج حروفها ودموعها لتراقب الهاتف بعدها بحسرة وهي تشعر بالمزيد من الانهيار ...

وفي عمله كان هو يخلع معطفه عندما شعر باهتزاز هاتفه ...
تناوله ليرمقه بنظرة متصلبة جامدة وهو يراقب رسالة أخرى من رسائلها التي لم تنقطع منذ تلك الليلة ...
مزيجٌ عاصف من مشاعره يعصف به في هذه اللحظة...
احتقار...
لهذه التي خانت ثقة أهلها وكادت تفقد نفسها بلا ثمن !
اشمئزاز...
من كذبتها التي انطلت على صديق عمره لتصمه بما لم يفعله بعد إنقاذه لها !
شفقة...
على حيرتها وضياعها وتخبطها كأنها لا تعلم ماذا تريد بالضبط !
سخرية...
من هذه التي رفضته بكل حدة لترجوه الآن الرد غافلةً عن حقيقة كينونته!
وجع...
منها ...ولها ...!!
وأخيراً...حبٌ...
حب لم يفقد مكانه على قمة الهرم وسط كل هذه المشاعر المتخبطة !!!

عقله وكبرياؤه يأمرانه بتجاهل المزيد من رسائلها حتى تيأس وتكف عن إرسالها ...
لن يسمح لنفسه بمزيد من السقوط في بئر حبها !!

لهذا أعاد الهاتف لجيبه وهو يتناول مفاتيحه ليغادر المشفى الذي يعمل فيه ...
استقل سيارته ليقودها متجاهلاً المزيد من اهتزاز هاتفه الذي تعمد وضعه في جيب سترته جوار قلبه في إشارة ساخرة لوضعهما الغريب هذا ...
لعل هذا الاهتزاز يهدئ حسرة قلب موجوع بحب يائس!

وصل لبيته فركن السيارة ليزفر بقوة وهو يتناول الهاتف ليقرأ آخر رسائلها ...

_رد...أرجوك...أحتاجك...أحتاجك جداً.

ضم قبضته بقوة جواره وهو يشعر بالصراع بين قلبه وعقله يزداد وجيبه ...
لكن رجاءها الأخير حسم الصراع وهو يأتيه بصورتها ...
لا...ليست صورتها الفاجرة بثوبها العاري ...
ولا تلك الصارخة بكرهها له وافترائها عليه ...
بل بتلك القديمة لها ...طفلة تبكي وحدها على الدرج !
والتي يدرك الآن أنها -رغم مرور هذه السنوات- لا تزال تسكن جنباتها وتدفعها لهذه الأفعال الطائشة ...

لهذا تنهد بحرارة وهو يكتب لها متقمصاً دور الصديق:
_آسف...كنت مشغولاً...كيف حالك؟!
_لست بخير.
_ماذا حدث ؟!هل حققتِ حلمك تلك الليلة؟!

كان يشعر بالندم من استمرار علاقته الغريبة بها هذه والتي يعلم أنها لن تفضي لشيئ مادامت ترفضه كشخص...
لكنه كان يراها طريقته الوحيدة للاطمئنان عليها ...وحمايتها...
هذا الذي لن يكف عن فعله طالما هي تطلب دعمه!

_أريد التحدث ...لا الكتابة.

عقد حاجبيه بترقب لينتظر رسالتها الصوتية التي حملت له دموعها مع ما كانت ترويه باستفاضة عما حدث ليلتها ...
فازداد انعقاد حاجبيه مع سماعه للرواية من وجهة نظرها هي ...
كيف غرر بها ذاك الوغد مستغلاً رغبتها في التمثيل ...
كيف غابت عن وعيها جزئياً بتأثير الخمر لتفيق على الكارثة...
كيف انتهت الليلة بظهور يامن وطلب صديقه "المنقذ" للزواج منها ...
وكيف كذبت لتتخلص منه !

غص حلقه بمرارته وهو يسمعها تتحدث عن "مروان" الذي تراه بعينها ل"مروان" الذي تعرفه ب"قلبها"...
لم يكن يتخيل أن الفارق بينهما شاسعٌ هكذا !
"الأصلع القبيح" ..."البغيض"..."المطارد"..."صديق يامن المعقد مثله" !
كل هذه الأوصاف التي أسهبت في سردها بانطلاق وسط فيض دموعها الشاكي ...
لتنتهي بوصف ندمها على كذبها تلك الليلة لكنها كانت طريقتها الوحيدة كي لا تتورط في هذه الزيجة !

أطلق آهة عميقة وهو يعيد سماع تسجيلها مرة بعد مرة مقنعاً نفسه بالتريث في الرد ...
لكن أي تريث بعد ما سمعه ؟!!
هل بقي في قصتهما المزيد ؟!!
فليُنهِها لكن...بطريقة لائقة !
وليكمل تقمص دوره الذي اختارته هي له !

_آسفٌ لأجل ما حدث وأدرك حجم المعاناة التي تعرضتِ لها ...أخطأتِ في افترائكِ على ذاك الرجل ليلتها....لكن...لم تخطئي في رفض الزواج منه...هو ليس صاحب فضل عليكِ...أي رجل حار الدماء مكانه كان سيفعل مثله ...فتاة جميلةٌ مثلك تستحق الأفضل...لا هذا "الأصلع القبيح"!

قرأت رسالته لعدة مرات وهي تتمنى لو كان أرسلها بصوته بدلاً من كتابتها ...
لكن مهلاً...لماذا تشعر بأن شيئاً ما في حديثه مختلف...
هل تشوهت صورتها في عينيه بعد ما روته؟!
لم تعد حبيبته النقية التي رسمها في خياله ؟!

ترجمت خاطرها الأخير لرسالة أخرى صوتية رد عليها بأخرى مكتوبة ...

_توقفي عن البكاء وكوني واثقة...مهما حدث...لن تتغير صورتك في عيني كما لن تتغير في قلبي .

ابتسمت وسط دموعها التي مسحتها بسرعة وهي لا تدري بماذا ترد ...
هذا بالضبط ما تحتاج سماعه الآن ...
لو طاوعت قلبها الآن لاعترفت له في التو واللحظة أنها تحبه !
جنون؟!
نعم ...جنون !!
أن تعشق رجلاً لا تعرف عنه أي تفاصيل سوى أنه يحبها إلى هذا الحد...
يفهمها إلى هذه الدرجة...
يحتويها بكل هذا الحنان ...
يمنحها العالم السحري الذي لا يملك مفاتحه غيره !

لكنه عاجلها برسالته :
_سأسافر غداً ...ولن أستطيع محادثتك لوقت لا أعلمه....سأعاود التواصل معك عندما....أستقر!

لم تكن الصدمة من نصيبها وحدها وهي تتلقى رسالته بل من نصيبه هو الآخر ...
هو الذي وجد هذه "الكذبة" تقفز سريعاً لذهنه في طلب من نفسه ب"هدنة"!
هدنة يستريح فيها من صراع نفسه هذا !
لن يستطيع الاستمرار في التواصل معها ...
تماماً كما لن يستطيع التخلي عنها ...
يالله !
راحة !
فقط راحة قصيرة من حربها المهلكة هذه قبل أن تستنزفه عن آخره ...

بينما اتسعت عيناها بذهول وهي تتلقى رسالته كصفعة !
هل سيحرمها القدر منه في هذه الظروف؟!
في أكثر وقت تحتاج وجوده فيه ؟!
هل هي ردة فعله على ما روته ؟!
أم هي حقاً مصادفةٌ قدرية ؟!

_هل ستتركني وحدي أنت الآخر؟!

سؤالها المكتوب يصله بصوت دموعها في أذنيه فيطعن قلبه بقسوة ...
لكنه يغلق هاتفه بحسم ...
ليبقى سؤالها معلقاً دون جواب!
===========
فراش أبيض...
ملاءات بيضاء...
وجهها الشاحب ...
حتى خصلات شعرها النبيذية المصبوغة عجزت عن منحها بعض الحيوية وسط أشباح الموت التي تحوم حولها !
صورة باهتة من امرأة شهد يوماً أنها إعصار فتنة ...
واليوم يراها هكذا بسببه !

_روح يا رامز ...أنا خلاص بقيت أحسن .
تمتمت بها بصوتها المتحشرج وعيناها تتحاشيان نظراته بجولانها في غرفة المشفى التي تشغلها منذ أنقذها رامز من محاولة انتحارها اليائسة !
يقولون أن القدر قد منحها عمراً جديداً ...
عمراً هي أغنى ما تكون عنه !

_مش هاسيبك !
لا يدري بأي نبرة نطقها وهو يشعر باختناق هائل يعتصر حناياه...
هل يدعي الآن الرجولة بوقوفه جوارها ؟!
أين كانت شهامته هذه عندما أدخلها رغماً عنها في حربه الباردة مع صديقتها الجاحدة ؟!
أين كانت عندما تجاهل ما يدار حولهما من شائعات مكتفياً باستغلالها فقط لإثارة غيرة من كانت زوجته ؟!
بل أين كانت عندما تركها وحدها بعد ما كان في المطعم فريسة لحزنها ويأسها الذي كاد يودي بحياتها؟!
دون اعتذار؟!
دون حتى أي تبرير ؟!

بينما أغمضت هي عينيها بألم وعبارته -رغم ظاهر نبلها- تعاود طعنها بخنجر مسموم...
لم تعد مساندته لها مروءة تحمدها له...
لم تعد تحتاج لتسأل نفسها في أي معسكر من الرجال يقف هو ...
كلهم سواء !
وحده أحمد كان الاستثناء...
ربما لهذا رحل!
حتى عندما أرادت اللحاق به ...منعوها!
أي عذاب هذا؟! أي عذاب؟!

انهمرت دموعها صامتة عند خاطرها الأخير فتحشرج صوته وهو يهتف بها :
_أنا مش عارف أعتذر لك على إيه واللا إيه ...أي كلام هاقوله هيبقى صغير قوي قصاد اللي اتسببت فيه ...بس أنا مستعد أعمل أي حاجة ...أي حاجة ترضيكِ .
_عايزة هانيا...عايزاها جنبي ...عايزاها تصدق إني ما خنتهاش .
تمتمت بها وسط دموعها لينعقد حاجباه بتأثر بينما هي تردف مغمضة العينين بما بدا كالهذيان:
_عايزاها تنكر كل اللي قالته يومها ...عايزاها تقول لأحمد إني لسه زي ما هو كان شايفني .

ابتلع غصة حلقه وهو يراها قد اختلطت حقائقها بخيالاتها ...
هو يعرف الكثير عن هشاشتها لكنه لم يتصور أن تتلقى اتهاماً كهذا من صديقتها بردة الفعل الخانعة هذه !
تراها صادقة هانيا في ما اتهمتها به؟!
لا!
قولاً واحداً!
هو ليس غراً ساذجاً كي لا يفهم امرأة أمامه بعد خبرته السابقة في النساء!
خبرته التي تؤكد له أن هذه المرأة أمامه نقية حد السذاجة !
ولا يدري من أين أتت هانيا باتهاماتها هذه إلا أن تكون محض افتراء!

لهذا احتدت نبرته وهو يهتف بها بانفعال:
_أنا مش فاهم انتِ إزاي باقية عليها بعد كل اللي قالته ؟!
_كنت عايزها تعمل إيه ؟! أي ست مكانها كانت هتتصرف كده !
قالتها بنفس النبرة البائسة وهي تمسح دموعها ليهتف هو بنفس الانفعال:
_أي ست مكانها كانت هتستنى تفهم قبل ما تقلب الترابيزة على الكل ...كانت هتحارب عشان تحتفظ ببيتها...أي ست مكانها كانت هتحترم العشرة اللي بينكم...مش تسوأ سمعتك وسط الناس.
_تبقى ما تعرفش الستات كويس....وما تعرفش هانيا خالص!

غمغمت بها باستنكار هش وهي تفهم الآن سبب ما فعله وقتها...
الأحمق كان يحاول إثارة غيرتها لعله يردها لرشدها ...
ألم يجد سوى هذه الطريقة؟!!
لهذا تنهدت بعمق ثم عاودت إغماض عينيها لتردف:
_هانيا عكس هي ما هي باينة من برة جامدة وقوية...لكن من جواها هي خايفة...دايماً خايفة...خايفة تعيش الإحساس اللي حسته يوم ما فقدت باباها ومامتها فجأة وتلاقي نفسها لوحدها من غير مقدمات ...خايفة تسلم قلبها لحد يعذبها بيه...بتحارب نفسها عشان مرعوبة تطلع في الآخر صورة من خالتها اللي اشمأزت منها زمان وبتصعب عليها دلوقت ...ووسط كل ده ...انت زودت الحرب جواها ...وفي الاخر اديتها الدليل إنها صح...وإنها كان معاها حق لما قفلت على قلبها كل ده ...

ثم فتحت عينيها بقولها:
_أنا مش زعلانة منها ...أنا زعلانة عليها ...شخصية زي هانيا يمكن تنجح في إنها تبين للناس إنها مش مكسورة...يمكن حزنها بالعكس يخلليها تنجح في شغلها أكتر ...لكن من جواها هيفضل فيه جرح بينزف من سكات ومن غير دوا .

اتسعت عيناه قليلاً وهو يشعر بصدمته من حديثها ...
طوال معرفته لغادة وهو يشهد على ضعفها وارتباك كلماتها التي كانت تثير بداخله حمية رجولية للدفاع عنها ...
لكنه لم يشهد على هذه القوة في الجدال إلا عندما تدافع عن صديقتها !
ياللمفارقة!
هانيا التي تبدو للجميع بهذه الصلابة كجبل لا يلين ...
وغادة التي يبدي ظاهرها كل هذه الهشاشة الناعمة...
الاثنتان تتبادلان المشهد لو نظرت إليهما من الداخل متجاهلاً خداع المنظر!

هانيا!
أفكاره تجذبه من جديد نحوها خاصة بعدما روته غادة وماشهدت عليه سابق ملاحظاته لأفعالها ...
لكنه يقهر هذا قسراً وكبرياؤه يمنعه تقديم المزيد من التنازلات !
الحاجز اللي صار بينهما يزداد ارتفاعه يوماً بعد يوم !
الحب وحده لا يكفي ...
الحب هو "قطعة الكرز" التي تزين "كعكة الزواج" فحسب...لكن إتقان إعدادها هو ما يتطلب مهارة حقيقية ...والكثير بل الكثير جداً من الجهد !
كفاه أنانية!
هو وهانيا استغلا هذه المرأة أمامه في حربهما دون رادع ...
والآن ...غادة هي الأهم !
سيكفر عن خطئه معها بأي طريقة !
وأي طريقة تنجح في إنقاذ سمعتها وانتشالها من هذا اللي هي فيه إلا ...!!!

_تتجوزيني؟!
=========
صراخه الهائج يكاد يصم أذنيها فلا تدري ماذا تفعل ...
أشرف انهار تماماً بعد سقوط مصنعه !
بل إنه كان عُرضةً لدخول السجن لولا أن تحريات الشرطة أثبتت أن ما كان يحدث في المصنع كان في غفلةٍ منه ...
تعبه وتعب والده قبله في هذا المصنع ضاع سدى...
من سيأمن أن يشتري لعباً لأطفاله من مكان وُصم بتجارة للمواد المخدرة ؟!
وليت هذا أسوأ ما في الأمر ...
بل إن نشوى اكتشفت أنه هو نفسه قد سقط في شرك نصبه له مساعده ليجعله مدمناً لهذه المواد...
الآن فقط تفهم لماذا كان يطلب منها مساعدته زاعماً أنه مريض...
لكنه الآن يرفض العلاج !
أجل...كل محاولاتها ومحاولات شقيقته لدفعه للعلاج تبوء بالفشل بينما هو مستسلم لانهياره ...
مدمن؟!
أشرف صار مدمناً كهؤلاء الذين كانت تشمئز منهم على شاشات التلفاز،والنت؟!
مستحيل!
كيف غرق في هذا البحر لأذنيه هكذا ؟!
كيف استسلم وهو الذي كان يبهر الجميع بتماسكه وقوته ؟!


صرخة أخرى منه في غرفته جعلتها تنتفض مكانها تبكي بانهيار وهي لا تدري ماذا تفعل...
صوت تكسير يصلها من الغرفة يتبعه صراخه من جديد باسمها فيرتجف جسدها بالخوف وهي لا تدري كيف تتصرف...
لا يمكنها أن تخبر يامن ...ولا تعرف ماذا تفعل وحدها...
كل ما استطاعت فعله هو أن تغلق عليه الغرفة بالمفتاح كي تمنعه من الخروج لإحضار أقراصه التي نفدت ...

_افتحي يا رانيا...عشان خاطري افتحي...
يصرخ بها بحدة أول الأمر لتتحول حدته تدريجياً لرجاء متقطع مع انهيار صوته :
_سيبيني أخرج أجيبه...أو خدي العنوان وهاتيه انتِ...حراااام....مش قادر...بموووووت.

كانت تعلم أنه لم يعد في وعيه من فرط الألم ...
لو كان في وعيه لما طلب منها أن تذهب لمكان مشبوه كهذا ...
لكنها هي في وعيها ...ماذا تفعل ؟!
هل تتركه لعذابه هذا ؟!
أم تخرج وتحضر له ما يريد ؟!
صوت ارتطام مكتوم يزيد فزعها فتهرع بسرعة لتفتح الباب فتجده ملقىً على الأرض أمامها يضم جسده بذراعيه وقد تحولت صرخاته لأنين مكتوم...

_اتصرفي وهاتيه يارانيا...عشان خاطري...
كلماته المرتجفة بألمه ...
ملامحه المبتلة بين عرق ودمع...
رعشة جسده المتلوي أمامها ...
وأخيراً ...
همسه الراجي المستعطف باسمها ...
كل هذا جعلها تحسم قرارها وهي تسأله باكية عن المكان الذي صار يحصل منه على هذه السموم...
فيجيبها بما بدا كالهذيان قبل أن يعود لنوبة جديدة من صراخه المتوجع...
=======
أوقف يامن سيارته في المكان الذي وصفته له ليجدها تتقدم نحوه بوجه ممتقع ...
ملامحها البائسة أثارت حميته فلم ينتظرها حتى تستقل السيارة بل غادرها هو ليتوجه نحوها هاتفاً بقلق:
_مالك يارانيا ؟!
ازدردت ريقها ببطء لتتصنع ابتسامة لم تخدعه :
_الحمدلله مفيش حاجة...كنت محتاجة بس فلوس وماكنتش عايزة أشرف يعرف.
_ماتحمليش هم...كل اللي انتِ عايزاه اعتبريه معاكِ.
قالها متفهماً وهو يتحرك بها نحو سيارته ثم ناولها بطاقة ائتمانية ...
_أنا حطيتلك مبلغ مناسب في حسابك النهارده اسحبي منه وقت ما تحبي ...بس قوليلي الأول أمور المصنع وصلت لفين...أشرف على طول قافل موبايله عايز أطمن عليه.

أطرقت برأسها وهي تشعر بقرب انهيارها لكنها حاولت التماسك قدر استطاعتها ...
ماذا يمكنها أن تخبره ؟!
لو علم يامن شيئاً عما يعانيه أشرف فسيبعدها عنه دون جدال ...
لهذا اكتفت بقولها المتحشرج:
_هو بس محتاج وقت عشان يعدي اللي حصل...المصايب كلها جت ورا بعضها ...وفاة مامته وكارثة المصنع .
تنهد بحرارة ثم قال لها مطمئناً:
_أزمة وتعدي...الحمد لله إنه مااتورطش في حكاية المخدرات دي ...ولو أنه غلط لما ما بلغش البوليس من الأول .

عضت شفتها بقوة وهي تقاوم إخباره بما هي ذاهبة لأجله...
طبيعتها "المتواكلة" تميل لإلقاء هذا الحمل عنها ...
لكن قلبها يستحلفها أن تتماسك لأجل رجلها ...
أشرف يحتاجها ...
ستجلب له ما يطلبه هذه المرة فقط وبعدها سترجوه أن يمتثل للعلاج...
سيطيعها...هذه المرة سيفعل...
ستهدده بالانفصال عنه إن لم يستجب!
لكن لتخفف عنه ألمه هذه المرة...هذه المرة فقط !

_واقفة ليه ؟! اركبي أوصللك.
انتزعها بها يامن من شرودها لترد بسرعة مرتبكة :
_لا لا...أنا هاخد تاكسي ...طريقي مش طريقك.
عقد حاجبيه بتشكك وهو يشعر بخبرته عنها أنها تخفي شيئاً عنه ...
لكنه ما كاد يفتح شفتيه ليعاود سؤالها حتى بادرته بسلام قصير لتغادره قافزة نحو أقرب سيارة أجرة وجدتها ...
=======
_تتجوزيني!!
هل يعرض عليها الزواج حقيقة هذه المرة ؟!!
يالله!!
حقاً...إلا الحماقة أعيت من يداويها!!
البائس يرى في عرضه الزواج عليها حلاً !!!

لنرَ كيف تكون ردة فعلها إذن !

ابتسامة مريرة ترتسم على شفتيها الشاحبتين وأناملها تتشبث بطرف الغطاء فوقها بحركة لا إرادية...
جفناها ينسدلان بما يظنه هو حرجاٌ وتدرك هي أنه...خوف...
هروب!
ملامحها ترسم لوحة واضحة للرفض لكنه يدافع بقوله:
_علاقتي بهانيا خلاص انتهت ...انت عارفة صاحبتك أكتر مني وعارفة إننا مستحيل نرجع لبعض ...أنا مش بعرض عليكِ الجواز عشان أعند معاها ...لكن ده الحل الوحيد اللي ينقذ سمعتك بعد اللي حصل ...

تفتح عينيها من جديد بنظرات جليدية لم يفهمها ...
فيزفر بقوة وهو يشيح بوجهه مردفاً بانفعال:
_عموماً كل الكلام ده سابق لأوانه...قومي بالسلامة وبعدين نشوف هنعمل إيه...أنا مش هاتخللى عنك بعد كده ومش لاقي صورة تخلي تصرفي ده مقبول إلا الجواز .

ابتسامتها العلقمية تتسع مشبعة بسخريتها ...
لم تشعر يوماً أنها ضعيفة كهذه اللحظة !
ليس فقط بدنها الذي تعجز عن رفعه ...
بل روحها المثقلة ...
المثقلة بحزنها ...يأسها ...خوفها ...خزيها ...و خسارتها!

ماذا عساها تقول له ؟!
تشكره على عرضه السخي الذي يزعم أنه سينقذ سمعتها؟!
أم تلعن تهوره الذي أوردهما هذا المصير؟!
آه!
حتى هذا الرد تعجز عنه !
سفنها احترقت جميعها فهل ترضى ب"جِذعه" الضعيف العائم ...
أم تستسلم تماماً للغرق؟!

_ما تخافيش يا غادة...أي قرار هتاخديه أنا معاكِ...لو يرضيكِ أروح وأقول لهانيا على الحقيقة معنديش مانع...بس انتِ عارفة قبلي إنها مش هتصدق ...هي اختارت تشوف اللي عايزة تشوفه وبس !

قالها بيأس محترق وهو يشعر أنه يتخبط بين جدران لا مرئية...
خطأ...خطأ...
كل ما يفعله خطأ!
لكنه لا يدري كيف يوقف هذه الدائرة ؟!
ربما ...ربما زواجه من غادة هو الحل!
من يدري؟!
بداية جديدة...تكفير ذنب...و...
استبدال امرأة بنقيضتها!
ما الذي قد يحتاجه أكثر؟!!

شعر برأسه يكاد ينفجر من فرط التفكير خاصة مع صمتها المطبق أمامه ...
فزفر زفرة يائسة ليقوم من مكانه قائلاً :
_هاخرج أشرب فنجان قهوة وأرجع لك على طول.

نظراتها الجليدية لا تزال تلقي سهامها نحو ظهره المنصرف...
نظرات كانت يوماً تحمل ذعرها ...ضعفها ...قلة حيلتها ...وشعور بالذنب لا تدري مبعثه لكنه كان يجتاحها بقوة...
والآن يتوارى كل هذا خلف فراغ رهيب...
فراغ يتسع حتى ليبتلع روحها كاملة !
نظراتها لاحقته بجمود حتى اختفى عن عينيها ...

رائحة "الفراولة" اللعينة تعاود غزو أنفها رغم يقينها أنها نابعة فقط من رأسها ...
من ضميرها المثقل !
هي حقاً خطيئة تسير على قدمين!
حتى زوج صديقتها يريد تأكيد هذا الآن ولو تخفى هذا خلف عرض زواج !
أمها كانت على حق...زوجها الوغد ...زميل دراستها...معلمها ...جارها ...
وأخيراً هانيا ...
كلهم على حق!
هي المذنبة...المدنسة التي تجتذب الخطايا كما يجتذب المغناطيس كسور الحديد!
هو طريقها الذي وجب عليها سيره ...
هل ظنت أنها ستحيد عنه ولو باستجداء الموت؟!
قدرها محسوم ...
قدرها؟!!

الكلمة تدوي في رأسها متزامنة مع اتساع عينيها وهي تلتفت لا إرادياً نحو باب الغرفة...
تميز "الرجل" الذي أثارت رؤيته كل حواسها لتوقظها فجأة...
يتقدم منها الآن بعينين تفيضان حديثاً...
وكأنما هو رسالتها أن للقدر أحياناً ...كلمة أخرى!
=========
صعدت رانيا الدرج بخطوات مترددة ودموعها تغرق وجنتيها ...
جسدها يرتجف بقوة وهي تطالع الباب الذي وصفه لها بوجل ...
قلبها يكاد يتوقف من فرط جنون دقاته لكن "مشهده الأخير" لا يفارق مقلتيها ...
صواب؟!
خطأ؟!
ماذا تفعل ها هنا؟!

شهقت بعنف عندما انفتح الباب ليبدو منه وجه رجل رمقها بنظرة مخيفة ظافرة تفحصتها من رأسها لأخمص قدميها ...
نظرة قميئة نافستها ابتسامته السمجة مع عبارته:
_أي خدمة؟!
شفتاها بالكاد تتحركان في تمتمة واهية وعاها الرجل فاتسعت ابتسامته الماكرة وهو يضع يده في جيبه ليستخرج ما أرادته قبل أن يمد به كفه نحوها ...
لكنها ما كادت تتناوله حتى قبض على كفيها بقوة خانقة جعلتها ترتجف رعباً مع همسها:
_الفلوس معايا في الشنطة.
_مش عايزين فلوس...عايزينك انتِ!!
غمغم بها بابتسامة شيطانية لتنفلت منها صرخة عالية قبل أن يكتم صراخها بكفه بينما يجذبها معه للداخل ...
الهواء يختفي فجأة من صدرها وهي تشعر بالذعر يكاد يفقدها وعيها ...
الحقير يجذب حجابها لينتزعه عنها بقسوة خدشت رقبتها ...
قبل أن يلصق ظهرها بالجدار محاولاً نزع ثوبها ...
ضرباتها الواهنة له لم تزده سوى رغبة فيها ليصدر زمجرة مخيفة قبل أن يدفعها ليسقطها أرضاً ...
تأوهت بقوة وهي تزحف محاولة إدراك الباب لكنه جثم فوقها ليصفعها صفعة قوية أفقدتها وعيها جزئياً...
صوت طرقات عنيفة على الباب يعيد إليها بعض إدراكها ...
قبل أن يصلها صوت يامن من الخارج يصرخ بغضب ...
تنهيدة ارتياح كانت آخر ما وعته قبل أن تسمع صوت سارينة الشرطة الذي جعل الرجل يبتعد عنها بذعر ليقفز من النافذة...
باب الشقة يقتحمه يامن بعنف ليقترب منها بجزع وهو ينظر إليها نظرة مرتعبة...
قبل أن تشعر بشيئ غريب يحدث جعلها تنتبه لبقعة الدم التي تتسع تحتها رويداً رويداً...
=======
_إزيك يا بنتي؟!
سألها الرجل وهو يتقدم نحوها بظهره المنحني على عصاه التي تعلم أنه لم يعد يستغني عنها ...
نظراتها معلقة بعينيه -شبيهتي عيني أحمد الحبيبتين -...
قلبها ينتفض بين ضلوعها بقوة ورؤية الرجل تعيد إليها قبساً من ذكرياتها العامرة معه ...
كم تحتاج هذا الآن !
تحتاجه بشدة !

_اعذريني إن كنت قصرت معاكِ في السؤال الفترة اللي فاتت ...انتِ عارفة إن صحتي ...

انقطعت عبارته بسعال قوي أكد ما يريد قوله ...
فرمقته بنظرة مشفقة وهي تقول بصوت أرجفه انفعاله:
_ولا يهمك يا عمو ...ربنا يديك الصحة .
كانت تعلم أن الرجل معتل الصحة لا يكاد يغادر بيته إلا للضرورة القصوى ...
خاصة بعد وفاة ابنه الوحيد الذي دك ما بقي له من عزم !
لقد كانت تهاتفه لتطمئن عليه من آن لآخر لكنها انشغلت عن هذا مؤخراً خاصة بعد عملها ...
لهذا شعرت بالكثير من الخجل مع قول الرجل :
_أنا كنت جايب لك أمانة...رحت البيت والبواب قاللي على اللي حصل .
عادت الدماء لوجنتيها والانفعال يعصف بها من جديد ...
ما الذي عرفه الرجل عنها ؟!
ما الذي قالوه له بالضبط ؟!
هل نالتها اشاعاتهم أمامه ؟!
هل سيظلمها هو الآخر؟!

هنا انخرطت في بكاء حارق وهي تخفي وجهها بين كفيها ...
خيول ظلمهم ستطأ أرض أحمد !
والده كذلك سيظن بها الظنون!

_ليه عملتِ كده يا بنتي؟! العمر ده أمانة ربنا إداهالنا وهو بس سبحانه وتعالى اللي يحدد امتى يسحبها مننا ...

قالها الرجل بنبرة حنون تشبه كثيراً نبرة ابنه ...
ليقوم بصعوبة من على كرسيه ليجلس جوارها على طرف الفراش ...
أنامله التي حفر عليها الزمن تجاعيده تربت على كتفها بينما يردف :
_مهما افتكرتِ إن همك كبير ربنا رحمته أكبر ...استغفري يا بنتي ...العمر كله لسه قدامك.

_مش عايزاه !
تمتمت بها بين فيض دموعها ولازالت تخفي وجهها بين كفيها كأنها عاجزة عن مواجهته -بما تظنه - عارها ...
ليتنهد الرجل بحرارة قائلاً:
_لو كل واحد ظهره اتحنى من حمله قرر زيك يرميه ويقابل ربه كافر بنعمته ورافض لنصيبه ...مكنتيش لقيتِ حد عايش في الدنيا دي !ربنا كتب لك النجاة بمعجزة...كان ممكن جوز صاحبتك مايجيش...كان ممكن يتأخر وما يلحقكيش...وكان ممكن هم هنا في المستشفى مايقدروش ينقذوكِ...لكن ربنا سبحانه وتعالى أراد يسبب لك الأسباب عشان يكتب لك حياة جديدة...عارفة ليه ؟!

كلماته الهادئة رغم بساطتها تصيب مواقعها في قلبها المتعطش لأي بارقة أمل ...
فتجد نفسها رغماً عنها ترفع كفيها عن وجهها لتناظره بعينين صارختين...
_ليه ؟!
هنا تفاجئها ابتسامته الراضية وهو يعاود تربيته الحنون على كتفها بقوله:
_ده السؤال اللي هتجاوبيه انتِ الأيام الجاية...شوفي ممكن تعملي إيه تستاهلي عليه حياة تانية...شوفي إيه اللي كنتِ عايزاه يختفي واعتبريه مات الليلة إياها ...واللي عايزاه يعيش هو بس اللي هيتكتب له عمر جديد !

عيناها تتسعان بقوة وهي ترمقه بنظرة غريبة ...
كلماته تفتح لها باباً كانت طوال الوقت غافلة عن مفتاحه !
لماذا تصف نفسها بالضعف طوال الوقت ؟!
لماذا استسهلت قرار الموت بينما تستصعب قرار الحياة ؟!
لماذا عندما قررت اتخاذ خطوة في حياتها ...اختارت الطريق الخطأ؟!
حياتها لا تزال بين كفيها ...فلتقرر بها ما شاءت !

_حمداً لله على سلامتك يا بنتي.
قالها الرجل وكأنما قرأ بعينيه الخبيرتين ما وشت به ملامحها ...
لتجد نفسها تسأله دون تحفظ :
_البواب قاللك إيه ؟! الناس بتقول عني إيه ؟!

أطرق الرجل برأسه قليلاً يتخير كلماته ...
ثم رفع إليها عينيه بقوله بنبرة ذات مغزى:
_الناس عمرها ما هتبطل تتكلم على الفاضية والمليانة...لو سلمنا لهم وداننا ...مش هنعيش حياتنا احنا...هنعيش الحياة اللي هم عايزين يرسموهالنا.

عيناها تفيضان من جديد وهي تعود قسراً لموقف الدفاع لتصرخ باكية:
_والله العظيم ما عملت حاجة غلط...عمري...عمري ما عملت حاجة غلط .

صراخها هذا كانت ما تحتاجه حقاً لتعبر هذا الحاجز!
لم تكن تصرخ بها في وجهه هو ...
كانت تصرخ بها في وجه أمها ...
زوجها ...
زميل دراستها...
جارها ...
كانت تصرخ بها في وجه هانيا ...
في وجه رامز ...
بل في وجهها هي نفسها!!

أجل!
هي أول من تحتاج لمنح نفسها صك براءتها !
هي أول من تستحق الاعتذار منه ...
هي تحتاج لأن تصدق أنها لم تكن طرفاً في معادلة قبحهم !
ذنبها الوحيد كان استسلامها...
هذا الذي ستتوب عنه ما بقي لها من عمر!

_عارف يا بنتي ...وعمري ما شكيت في كده لحظة واحدة.

قالها الرجل بصوت واثق رغم وهنه ...
فلم تشعر بنفسها وهي تلقي رأسها على كتفه تخفي فيه ما بقي من دموعها ...
جسدها كله كان يرتجف انفعالاً وكأنما قطعت شوط عدو طويل ...
وهاهنا المستقر!
هاهنا البداية !

ابتسامة الرجل الحانية تطوقها وهو يربت على ظهرها برفق ...
فترفع عينيها نحوه بابتسامة مشابهة أنبأته بنجاح مغزى زيارته !

_هاسيبك تستريحي دلوقت...اعذريني لو ما قدرتش أزورك تاني...انتِ عارفة حركتي بقت صعبة.
قالها وهو يقف مكانه بكثير من العسر فرفعت وجهها إليه بإشفاق قائلة:
_هازورك أنا بإذن الله ...أول ما أبقى كويسة .

ابتسامته تتسع وهو يهز رأسه برضا لتسأله هي وقد تذكرت:
_حضرتك قلت كنت رايح لي الشقة عشان جايب لي أمانة...كانت إيه ؟!

_يوووه...كنت هانسى...
قالها وهو يفتش في جيبه ليستخرج منه مظروفاً ورقياً ناوله لها مردفاً:
_الست وهي بتنضف أوضة أحمد الله يرحمه لقت فيها ده ...أفتكر إنه جواب قديم من اللي كان بيبعتهم لك قبل الجواز ...معرفش ليه ما بعتوش زي اللي قبله ...خديه اقريه !

شهقت بلهفة وأنامله تتخطفه منه كأنما ردت إليه روحها ...
حتى أنها لم تدرِ بعدها كيف انصرف الرجل ...
ولا كيف فتحته لتعدو عيناها بين السطور ...
رسالة من أحمد ...الآن...
الآن !!!
وهي في أمس الحاجة لدعمه الذي ما تركها يوماً !!

تاريخ الرسالة يعود لعامين قد مضيا ...
هي تذكر التاريخ هذا جيداً...

كانت إحدى مشاجراتهما النادرة عندما رفض اصطحابها للسينما أول أيام العيد لكنها أصرت بدلال قابله هو بالموافقة...
ليلتها تحرش بها أحدهم لفظياً بينما تنتظره أمام السينما لينتهي الأمر بعراك خرج منه الرجل بعدة لكمات في وجهه ...
وخرج منه أحمد بكفٍ دامٍ....وخرجت هي منه بعبارته الغاضبة :
_عشان ما بتسمعيش الكلام...قلت لك ما تقفيش لوحدك كده بره السينما...عايزة تتعاكسي؟!

ولأن عبارته سكبت الملح على الجرح القديم فقد غضبت منه حقاً تلك الليلة ...
لتفاجأ به صبيحة اليوم التالي يطلب مقابلتها ليعتذر منها !

_كتبت لك جواب بس مارضتش أصالحك كده زي كل مرة .

كانت خطاباته الناعمة هي طريقته شديدة الرومنسية في مصالحتها ...
لكنه هذه المرة لم يقتنع بخطاب بل تعمد لقاءها بنفسه ليعتذر منها ويصالحها حتى أرضاها ...

يبدو أن هذا هو الخطاب الذي لم يعطِه لها وقتها...

"أول مرة تزعلي مني قوي كده النهارده...معاكِ حق...أنا زودتها...بس أكيد ماقصدتش اللي قلته...أنا عارف أخلاقك كويس...وعارف إنك قادرة توقفي أي حد عند حده ...أنا مش بخاف عليكِ عشان ضعيفة ولا قليلة الحيلة...أنا بخاف عليكِ عشان احنا بقينا في دنيا وحشة قوي...خصوصاً للناس النضيفة زيك...انتِ كنزي يا غادة...والكنز بنخبيه ونحافظ عليه من عيون الناس ...بس بنبقى عارفين قيمته...عارفين إن الدهب بيفضل دهب ".

كانت تبكي بهستيرية عند آخر كلمة قرأتها وكأنما تستحضرها بصوته ...
وكأنما هي رسالته من العالم الآخر لها الآن !
هو لايزال سندها ...عونها ...حتى بعد موته !
عند الخاطر الأخير عادت ظنونها تتراجع ...
ربما ليست رسالته هو ...
ربما هي رسالة السماء !
قدرها الذي اختار لها أن تتلقى رسالة كتبها هو منذ شهور بعيدة ...
في هذه اللحظة بالذات ...
لتكون مرشدها في ساعة حاسمة كهذه !


_مالك يا غادة ؟! منهارة كده ليه ؟! والد أحمد كان عايز إيه ؟!
هتف بها رامز وهو يدخل عليها غرفتها ليشهد انهيارها الباكي ...
انهيارها الذي لم يدم بعدها طويلاً وهي ترفع إليه عينيها لتمسح دموعها بأنامل مرتجفة ...
فيكاد يقسم أنها تبدلت لامرأة أخرى بتلك النظرة القوية التي اكتسحت عينيها بعزم ...
مع سؤالها الذي لم يتوقعه بهذه الحدة :
_انت فعلاً عايز تتجوزني؟!
=========
_كانت حامل؟! وراح خلاص؟!
هتفت بها ياسمين بهلع وهي تستمع من يامن للتفاصيل في المشفى خارج غرفة رانيا المغلقة...
ليجيبها بانفعال بينما يتحرك بتشتت ثائر كأسد حبيس:
_الحمدلله كان ممكن يحصل أسوأ من كده...أنا مش عارف كان ممكن إيه اللي يحصل لو ما كنتش شكيت في تصرفاتها ومشيت وراها بالعربية...لحد دلوقت مش قادر أتلم على أعصابي...الحيوان هرب قبل ما اقدر أدخل الشقة وأفش فيه غلي.

كتمت آهة شفتيها بكفها وهي تربت على كتفه بالآخر مدركةً عظم الموقف الذي مر به كلاهما ...
رانيا الهشة التي لم تتحرك يوماً خطوة واحدة من تلقاء نفسها...اليوم فعلتها لكن في الاتجاه الخطأ!
من يصدق أنها تجرأت لتذهب لمكان لهذا لوحدها ...
هكذا بمنتهى السذاجة...بمنتهى الحماقة ؟!

ترجمت خاطرها الأخير لكلمات مسموعة ليهتف يامن بحدة ساخطة:
_الهانم كانت فاكرة إنها كده بتساعده...مش عارف مين فيهم أغبى من التاني.
هزت رأسها بتفهم لتعاود التربيت على كتفه مهدئة قبل أن تقول بصوت متماسك:
_اهدا بس عشان نعرف نتصرف في المصيبة دي...أشرف عرف؟!

_معاها جوه ...بس قسماً بالله لتكون آخر مرة يشوفها فيها....هاخلليه يطلقها .
قالها بنبرة قاسية جعلتها تشهق بعنف لتهتف به باستنكار:
_انت بتقول إيه يا يامن ؟! هو خلاص الطلاق عندك بقا بالساهل كده ؟!
_ساهل؟! البنت كانت هتضيع في شربة مية...هاستنى إيه تاني؟!

لازال انفعاله يجتاحه وهو يسترجع ذكرى الساعات القليلة الماضية ليستطرد بنفس الثورة:
_كتلة غباء! الأول يعمل فيها بطل ويروح يدور ورا العصابة لوحده ...وبعدين يضحكوا عليه ويجروا رجله لحد ما يدمن...فيه حد الزمن ده يآمن ياخد قرص اسبرين حتى من غير ما يشوف مصدره وجاي منين ؟!

_ده مش غباء...دي حسن نية ...مش كل الناس شكاكة زيك.
قالتها بنبرة شبه عاتبة رغم هدوئها ليجيبها بنفس النبرة الحادة :
_عشان تعرفي إني صح...حسن نيته ده ضيعه وكان هيضيع رانيا معاه ...مستحيل آمن عليها معاه تاني.
_انت عارف انت بتتكلم عن إيه ؟!
سألته وهي تمسك كتفيه بقوة وعيناها تحدقان في عينيه بنظرة مستنكرة لتردف بحرارة مخلصة:
_أشرف ده مش مجرد زوج ...أشرف ده حب عمرها اللي فتحت عينها عليه...ده اتبرع لها بجزء من جسمه ...مين بيعمل كده اليومين دول ؟!
أشاح بوجهه دون رد وهو يكز على أسنانه لتردف هي بنفس الدفاع الحار:
_فيه ناس مهما عملت رصيدها يشفع لها ...لو هي مش هتقف جنبه دلوقت يبقى إيه لازمته الحب اللي بينهم ؟! لو كل واحد هيتخلى عن حبيبه في محنته يبقى مين هيقف جنبنا؟!
لكنه يعود إليها ببصره ليردف بعدم اقتناع:
_اللي بيمشي في السكة دي مابيرجعش...وأنا مبدئي ثابت...لو شكيت ما تكملش...
ثم لوح بسبابته في وجهها مردفاً:
_بعد اللي حصل ده عمري ما هارجعها له ...على جثتي.

هزت رأسها بيأس من مجادلته وهي تشعر بالخوف منه يعاودها ...
سلطان شكوكه يهزم منطقه مهما كانت قيمة الشخص لديه !
"لو شكيت ما تكملش" !
هكذا دون أي اعتبار لماضٍ...لذكريات...لمواقف...لع� �ر ؟!!
"لو شكيت ما تكملش"
بها جعل هانيا تخسر رامز ...
بها خسر مروان صديق عمره...
بها يريد الآن أن يفرق بين رانيا وأشرف...
ومن يدري ...ما الذي سيدمره مبدأه هذا في حياته ؟!
تراها هي الضحية القادمة؟!

_فين رانيا يا يامن؟!
انتزعتها بها نبيلة - التي وصلت لتوها مع هانيا وداليا- من شرودها لتلتفت نحوها بينما اندفع يامن نحوهن هاتفاٌ بنفس الثورة الحانقة :
_انتِ عملتِ اللي في دماغك وجيتِ برضه ؟! مش قلت لك بلاش تيجي هنا عشان الفضايح...الف عين دلوقت هتيجي تصور النجمة وتشوف الحكاية ...هو احنا ناقصين ؟!

ربتت هانيا على كتفه مهدئة بينما رمقته نبيلة بنظرة طويلة...
حملت عتابها ...قلقها...استنكارها...وكبريا� �ها الذي كان الآن ملطخاً بالكثير من الخزي وهي تدرك أنه على حق...
بينما حاولت ياسمين تدارك الموقف بقولها:
_يامن أرجوك وطي صوتك...احنا في مستشفى...رانيا بس تقوم بالسلامة وبعدها هنشوف هنعمل إيه .
لكنه يلتفت نحوها ليهتف بحسم لايقبل الجدل:
_هو احنا لسه هنشوف؟! الموضوع انتهى...هيطلقها!
=========
_ياربي....أنا عملت إيه ؟! عملت إيه ؟!
يتمتم بها بحسرة ملتاعة وهو يعتصر كفها بين راحتيه مراقباً ملامحها الشاحبة الغارقة في دموعها ...
حبيبة عمره كادت تتعرض لاغتصاب ؟!
فقدت طفلاً طالما حلما به معاً ؟!
هل هذه الحماية التي تعهدها بها ؟!
هل هذا هو الأمان الذي وعدها به ؟!!

_سامحيني يا حبيبتي...سامحيني.
همس بها برجاء وهو ينكب على جبينها يقبله ليتبعها ببقية قبلاته على نلامحها الملطخة بدموعها ..
كيف فعلها؟!
كيف أعطاها العنوان ؟!
هو لايذكر أنه قد فعلها!
آخر ما يعيه هو دخول شقيقته عليه لتجده ملقى على الأرض....
بعدها أفاق ليجد نفسه أمام طبيب ما يسأله بعض الأسئلة التي أجابها بتشوش...
لكنه ما إن علم بما حدث لزوجته حتى ترك كل شيئ ليهرع إلى هنا!

بينما كانت هي غارقة في بكائها ولازالت الصدمة مسيطرة عليها ...
لقد كانت تخفي عليه خبر حملها لتجعلها مفاجأتها له !
ورقتها الرابحة التي كانت تظن أنها ستدفعه للعلاج الذي يرفضه...
والآن...ضاع كل شيئ!
أي عالم أسود هذا انجرف إليه ليغرق فيه ويغرقها معه ؟!
كيف عرفهم ؟!
أين أشرف القوي الحنون المسئول من هذا الضعيف المنهار أمامها؟!
لقد خسرت طفلها بسببه...
وكادت تخسر ما هو أكثر!
يالله !!
كلما تتذكر بشاعة الانتهاك الذي تعرضت له يجتاحها شعور بالغثيان !

_سيبني دلوقت يا أشرف...مش قادرة أكلمك...مش قادرة حتى أبص لك.

همست بها بصعوبة وسط فيض دموعها ليتراجع عنها مصدوماً وهو يسمع منها هذه الكلمات لأول مرة ...
لأول مرة في تاريخ علاقتهما الذي يقارب عمريهما معاً يشعر بها تتباعد عنه هكذا ...

_انتِ بتقولي لي أبعد يا رانيا ؟! أنا ؟! أنا أشرف؟!
يتمتم بها بذهول وعيناه المشتتان ترويان حكاية ضياع...
لتجيبه بنفس النبرة المخذولة...والخاذلة ...:
_لا انت عدت أشرف ولا أنا عدت رانيا...ماعدتش قادرة أحس بالأمان معاك...ابعد ولاقي نفسك...يمكن لو لقيتها تلاقيني.

_قصدك إيه ؟!
يسألها مذعوراً والجواب في عينيها أوضح من أن يُجهَل...
فيجد نفسه ينكب عليها من جديد ...
يحتويها بين ذراعيه ليهمس في أذنها بحرارة لوعته :
_ولما أبعد مين هيداوي جرحي غيرك؟! ومين هيداوي جرحك غيري؟! هو احنا لينا غير بعض؟!

دموعها لاتزال إجابتها الوحيدة وسط هذا الحزن الذي يعتصر قلبها...
ضعفها ليس غريباً عليها ...
لكن ضعفه هو ...هو الغريب!

_أنا محتاجك جنبي...انت الحاجة الوحيدة اللي ممكن ترجعني أقف على رجلي تاني .
يهمس بها بوهن أرهق رجولته ...
هو الذي ضج من فرط تظاهره بالقوة !

_ياما قلت لك صارحني...قل لي مالك...انت اللي كنت بتبعدني .
تهمس بها بعتاب وكأنه ينقصه الجلد !
ليبتعد عنها هاتفاً بحرقة :
_مااسمهاش ببعدك...اسمها بحميكِ...كنت خايف عليكِ...كنت عارف إنك أضعف من إنك تشيلي معايا ...
ثم لوح بسبابته المرتعشة في وجهها ليردف بنكهة اتهام :
_وانتّ كمان استحليتِ الدور ده ...كنتِ بتقفي ساكتة تتفرجي...زي ما تكوني بتسألي بس تقضية واجب...كنتِ خايفة تتصدمي وراضية بإني شايل الحمل عنك .

ورغم يقينها بصحة ما يقول لكن صدمتها بما حدث لها جعلتها تهتف مدافعة:
_خلاص بقيت أنا الغلطانة ؟! أنا اللي خليتك تجري ورا دور أكبر منك ؟! أنا اللي خليتك تتورط مع ناس ما بترحمش ؟! أنا اللي خليتك تدمن الزفت ده لحد ما كنت هاضيع معاك ؟!

عيناه تلتمعان ببريق حقيقي من دموع وهو يرتد برأسه للخلف يراقبها بنفس الدهشة الممتزجة بالألم...
كان يعلم أن مواجهةً كهذه آتية لا ريب ...
لكنه لم يتصور أن تكون على قلبه بهذه القسوة وهو يرى حبيبة عمره التي طالما انصهرت معه في كيان واحد تطلب الآن أن تنفصل عنه ...
والأقسى أنه لا يمكنه لومها بعد ما حدث !

_هتعالج يا رانيا...هارجع زي الأول...بس محتاجك جنبي.

قالها بنبرة وهن غريبة على رجل اعتاد أن يكون هو دعم كل من حوله...
قالها واضعاً كفه على صدرٍ -طالما احتواها بحنانه-..
قالها كما يشعر بها في قلبه ...
ملتهبة...حارة...موجعة...
تحترق بألمهما معاً !

لكن النظرة في عينيها منحته الجواب ...
على مفترق الطريق هاهنا...تنفصل خطواتنا...
من يدري...لعل بعدها يكون لنا ثانيةً لقاء!
=========
وقفت تراقب جلسته على الأريكة وقد أخفى وجهه بين كفيه ...
جزء بداخلها يلومه على ما وصلت إليه الأمور ...
لكن "أمومتها" الخفية له تجعلها تعذره...
سلطان "شكوكه" أقوى من أن يقاومه ...
هذا السلطان الذي تهاوى أمامه كل شيئ حتى صداقة العمر !
المؤسف هنا أنه لم يفسد حياته فحسب ...
بل أفسد حياة بنات خالته كذلك !
طباعه "الوسواسية" تجعله يميل دوماً للاستقرار على رمال "اليقين" ...
لكن كيف نعبر البحر نحو مرادنا إذا ظلت أقدامنا متشبثة بالشاطئ...
قليل من المخاطرة بصراع الموج هو ما يعطي الرحلة معنى!

تقدمت منه بخطوات متمهلة ليصله رحيق ياسمينها المميز ...
فيرفع وجهه المتعَب نحوها بنظرة تجيد خطف قلبها ...
ودون كلمات أخذت مكانها على ساقيه لتمنحه مكانه على صدرها بينما تطوق جسده بذراعيها بقوة حانية...
آهته رغم خفوتها تقرع قلبها بقوة شعورها بألمه ...
بصراعه بين معتقدات عقله وبين شعور قلبه...
تقبل جبينه بعمق ...تداعب خصلات شعره بحنان صامت...
فيهمس لها دون أن يغير جلسته :
_طبعاً شايفاني غلطان ؟! هانيا ورانيا اتطلقوا بسببي...داليا كانت هتضيع ...خسرت صاحب عمري...حتى أمي رغم إحساسي بندمها مش قادر أقرب منها.
لكنها تشدد ضغط ذراعيها حوله لتهمس له مؤازرة:
_كل حاجة في الدنيا لها وشين ...الفكرة احنا بنبص لها من أي وش...انت شايف نفسك ضيعت بنات خالتك ...وانا شايفاك من ناحية تانية بتحتويهم كأنهم بناتك...واحد غيرك كان قال وأنا مالي ...لكن انت مشكلتك بالعكس ...انك حاطط نفسك مكانهم في نفس المشكلة ...وبتتصرف من هذا الأساس...
ثم تنهدت بحرارة لتردف:
_اللي أنا مش قادرة أستوعبه ...مروان...ده صاحب عمرك !

هنا يرفع إليها رأسه فجأة ليهتف بانفعال:
_عشان كده ما توقعتش ده منه...حتى لو ما صدقتش المجنونة داليا...حتى لو قلت هو مش ممكن يتجرأ عليها ...لكن يطلع بيكلمها من ورايا ...أنا اللي كنت قدامه كتاب مفتوح...عمري ما خبيت عنه حاجة...أنا اللي مابثقش في حد وثقت فيه هو ...يقوم يخبي عني كل ده ؟!

_مش يمكن خاف منك؟! خاف من طبعك الشكاك ؟! خاف يخسرك لو قاللك؟!
قالتها بنبرة مرتجفة وهي تتحدث بلسان نفسها لكنه لم ينتبه لهذا وسط انفعاله الجارف ليهتف بها :
_أثق فيه تاني إزاي؟! أعرف منين إنه مش مخبي حاجة تانية ؟! آآمن له تاني إزاي ؟!إزاي؟!
دمعت عيناها رغماً عنها وهي تتخيل نفسها في نفس الموقف لتهمس به :
_دي أكتر حاجة بتخوفني منك...للدرجة دي يا يامن مالكش عزيز؟!

زفر زفرة حارة وهو يضمها إليه بقوة ...
قبلاته العاصفة تفضح شعوراً يأبى أن ينطقه لسانه ...
عناقه الذي ازداد اشتعاله يبرهن على تشبثه بها ...
حتى قبل أن يصلها همسه :
_انتِ حاجة تانية ...دايماً بفكر فيكي من ناحية تانية...غير كل العالم.

همسه كان شديد الخفوت حتى أنها شكت أنه قد قالها حقاً ...
لكن من يهتم؟!
كفاها شعورها ببركان عاطفته وحممه الآن تجتاحهما معاً...
كفاها يقينها أنها الآن أقرب أهل الأرض لقلبه...
صدى آهاته لا يسمع إلا في وادي عشقها ...هي فقط !
ليس فقط جسداهما المتلاصقان...بل قلباهما اللذان تتراقص نبضاتهما على نفس الإيقاع ...
يامن لن يخذلها !
حبه لها سيهزم وساوسه مهما عظم سلطانها !

"لو شكيت ما تكملش"...
هذا المبدأ البغيض لن تنالها سهامه مادام يعشقها إلى هذا الحد !

هذا ما كانت تقنع به نفسها وهي تجذبه إليها بقوة عاطفتها لتتلقى عطايا عشقه بنفس القوة ...
ليت الزمان يقف هاهنا...
ليت الحب وحده يكفي ل"ترقيع" ما مزقته عيوبنا!
========
على أرضية الشقة الخاوية على عروشها يجلس مسنداً ظهره للحائط...
أفكاره عاصفة...مهتزة...مرتبكة...
وكلام غادة الذي رمته به يوقظ المشاعل في جنبات روحه واحداً تلو الآخر...

_انت بجد عايز تتجوزني؟! عايز تصلح غلط بغلط ؟! عايز تعند مع هانيا واللا مع نفسك ؟! أقوللك أنا الإجابة ؟! انت مش عارف انت عايز إيه بالضبط !

تنهد بحرارة وهو يرفع أحد ركبتيه ليسند ذراعه عليها ...
هو حقاً لا يعلم ماذا يريد ...
وأي عبثٍ هذا الذي يتخبط بين جدرانه ؟!!

هل يريد هانيا ؟!
هي ...كما هي ...دون تغيير ؟!
بجفاء ظاهرها ...باهتمامها المغالي بدراستها وعملها ...بثورة كبريائها...بطبيعتها المنغلقة التي تحرمه حرية التعبير عن المشاعر ...؟!

لا ! لا يريد كل هذا!
عجباً ...ألا يرى فيها إلا العيوب؟!
لماذا لا يعيد السؤال بصياغة أخرى؟!
هل يريد هانيا ؟!
هي ...كما هي ...دون تغيير؟!
بذكائها ...بقوتها...باعتمادها على نفسها ...بطيبة قلبها ...برحيق أنوثتها الذي يستثير رجولته كما لم تفعل به امرأة من قبل ...؟!!

الإجابة صعبة...محيرة...

_لا يا رامز ...مش هاتجوزك عشان أصلح غلطة ما عملتهاش...مش هامشي حياتي بكلام الناس ...مش هاعض الإيد اللي اتمدت لي ...مش هاخون صاحبتي ولا هاخون أحمد ...أنا خلاص عرفت كويس أنا عايزة إيه.

كلمات غادة تعاود اقتحام أفكاره ...
تعيد ترتيب القطع في "بازل" قصتهما المعقدة...
غادة علمت ماذا تريد ...
فهل يأتي يوم ويعلم هو الآخر ماذا يريد ؟!
========
_عاملالنا إيه النهارده ؟! نبيلة ورانيا بره هيموتوا م الجوع!
قالها وهو يدخل عليها المطبخ ليجدها قد أنهت إعداد الأطباق ...
احتضنها بين ذراعيه ذاك العناق القوي الذي يشفع لفراق اليوم كله ...
فرفعت عينيها إليه هامسة :
_وحشتني يا طيب...
ثم ابتسمت لتتلفت حولها مردفة :
_هانيا وداليا مارضوش ييجوا صح؟!
مط شفتيه باستياء مؤكداً توقعها لكنها ربتت على وجنته لتقول مدافعة :
_داليا أكيد زعلانة ومكسوفة منك ...كنت متوقعة إنها ما تجيش ...
_وهانيا ...عذرها إيه ؟!
قالها بضيق وهو يتذكر كيف رفضت دعوته هذه على العشاء بكلمات جافة مبررة بكونها لا تريد ترك داليا وحدها ...

_هانيا مش عايزة تواجه الناس ...بيتهيألها إن كل الوشوش هتبص لها باتهام أو بانتقاص...هي مش قوية زي ما انتم مصرين تحطوها في القالب ده ...هي بتكابر .
قالتها ببعض الأسف ليرد بانفعال:
_ناس مين اللي مش عايزة تواجههم ؟! ده أنا وانتِ؟!
_ما هي المشكلة يمكن في أنا ...مش عارفة ليه دايماً بحس إن هانيا وداليا بالذات مش بيستلطفوني .
قالتها بحرج ليقرص وجنتها مداعباً مع قوله :
_بلاش كلام فارغ...هي يمكن بس مسألة وقت على ما هم الاتنين يتخطوا اللي حصل ...هو برضه مكانش سهل .

هزت رأسها موافقة ثم أشارت نحو الرف العلوي قائلة :
_طب ياللا عشان ما نتأخرش عليهم...جيت في وقتك عشان تجيب لي مفارش السفرة من فوق.
نظر حيث تشير ثم عاد ببصره نحوها ليتراقص حاجباه مشاكساً مع همسه الماكر:
_لا...هتجيبيهم انتِ.
التمعت عيناها بهذه النظرة العابثة التي تجاري شقاوة حركاته وقد توقعت أن يحملها من خصرها بالطريقة التقليدية...
لهذا شهقت بعنف للمفاجأة عندما وجدته ينحني فجأة لتجد ساقيها يتدليان فوق كتفيه بينما يحملها هكذا كالأطفال...
فصرخت صرخة قصيرة وهي تترنح على كتفيه لتتمسك برأسه بقوة هاتفة بصوت خفيض:
_مش هتبطل جنانك ده ؟! الناس بره !
ضحك بمرح لمفاجأتها وهو يتحرك بها نحو الرف الذي تريده قائلاً :
_حلو المنظر من فوق يا "نخلة"؟!
_مفيش فايدة فيك !
قالتها ضاحكة وهي تتناول بغيتها لتردف :
_نزلني بقا خلاص!
_ببلاش كده ؟!

انحنت بوجهها نحو رأسه الذي رفعه نحوها لتلتقي الشفاه في حديث صاخب قبل أن تشعر به ينزلها أرضاً فيزداد صخبه أكثر ...

وفي مكانها خارج المطبخ توقفت رانيا بحرج عندما شاهدتهما لتغادر بسرعة قبل أن يلاحظا وجودها ...
عادت لبيللا لتجدها منشغلة بهاتفها فتنهدت بحرارة وهي تأخذ طريقها للحديقة التي كانت مظلمة في هذا التوقيت من الليل ...
مظلمة كحياتها ...دونه !

دمعت عيناها وهي تسترجع مشهد يامن وزوجته العاطفي الحار الذي رأته منذ قليل ...
والذي ذكرها بنعيم أيامها مع أشرف...
الحلم الذي عاشته بطول عمرها كله لتفيق منه على كابوس!

تحسست بطنها بحسرة وهي تتخيل ...
ماذا لو لم يكن قد تورط في قصة إدمانه هذه ؟!
ماذا لو لم تكن قد تهورت بذهابها هناك تلك الليلة ؟!
ساعتها كانت لتكون الآن معه...ينتظران طفلهما...ينتقيان اسمه...يشتريان حاجاته...يتابعان نموه يوماً بعد يوم...
ينام بين ذراعيها كل ليلة واضعاً رأسه جوار خفقات صغيره في بطنها !

انهارت في البكاء أخيراً وهي تخفي وجهها بين كفيها ...
كيف انتهيا هكذا ؟!
كيف انقلبت سفينتها الآمنة لتلقي بها في عرض البحر؟!
كيف بهذه البساطة افترق جسداهما وهما اللذان انصهرت روحاهما كل هذا العمر؟!

تربيتة حنون على كتفها جعلتها ترفع عينيها لتجدها أمامها تهمس بحنان آسف:
_الأكل جاهز...واقفة هنا لوحدك ليه ؟!
مسحت رانيا دموعها لتقول لها بابتسامة مصطنعة:
_طب ياللا ندخل.
لكن ياسمين جذبتها بين ذراعيها لتعانقها بدفء صامتة للحظات ...
قبل أن تهمس لها :
_أنا حاسة بيكي قوي...مفيش كلام في الدنيا ممكن يوصف وجعك...لكن أنا مقتنعة إن ورا كل وجع درس بنتعلمه ....
ثم صمتت لحظة لتردف :
_لو كنت مكانك ما كنتش سبته لحد آخر لحظة في عمري...أكرم لي أموت وأنا بدافع عن حبي من إني أعيش بتحسر عليه .

الحرارة التي كانت تتحدث بها زادت لهيب الوجع في قلب رانيا التي همست لها بين دموعها :
_ما قدرتش...ماقدرتش أعيش مع واحد تاني غير اللي عرفته طول عمري...أشرف ما بقاش هو نفس الشخص اللي حبيته وحبني.

_بس حبه ليكي ما اتغيرش...امبارح كلم يامن وقالله إنه بدأ العلاج وهيستمر فيه عشان يرجع لك...ليه ما تكونيش جنبه الفترة دي؟! ليه تحرمي نفسك وتحرميه من إنكم تشاركوا بعض وجعكم زي ما اتشاركتم كل حاجة حلوة قبل كده ؟!

_عشان خايفة ...خايفة ما يكملش...خايفة ما يقدرش...خايفة يأذيني تاني...وخايفة أكره نفسي لما أحس إنه خلاني أكرهه.
قالتها رانيا بين شهقات دموعها لتضمها ياسمين أكثر هامسة بعتاب:
_وهتفضلي خايفة طول ما انتِ بعيد ...أنا عارفة إن كلهم حاطوكي في إطار البنت الضعيفة اللي بتغرق في شبر مية...انتِ بالذات بيعاملوكي زي الطفل الصغير اللي لازم يقضوا له طلباته ويحددوا مصيره...الغريب إنك راضية ومبسوطة بالصورة دي...بس دي الحرب الوحيدة اللي ماينفعش حد يدخلها مكانك...انتِ اللي لازم تنصري قلبك مش أي حد تاني.

رمقتها رانيا بنظرة حائرة من عينين ضائعتين لم تختبرا من قبل معنى اتخاذ قرار ...
كلام ياسمين يبدو براقاً حماسياً لكن لأي أنثى أخرى سواها !
هي التي لا تجيد سوى لعب دور "الضحية"...!
وليس أسهل من نلقي أوزارنا ليحملها عنها غيرنا ...
زهيدٌ هو الحب -أحياناً- عندما نقايضه ب"راحة بال"!
=========
_ما تتأخرش ...عاملالك مفاجأة.
ابتسم ابتسامة عابثة وهو يقرأ رسالتها على هاتفه بينما هو في عيادته...
هذه الرسالة المرفقة بصورة لعلبة متوسطة الحجم مع عدد من الأكياس الصغيرة التي لا يعرف محتواها لكنه يمكنه تخمينه مع اختيارها لوضعها على الفراش جوار عدد من الشموع !

_علمناهم الشحاتة !
رد بها بسرعة وابتسامته تتحول لضحكة خافتة متوقعاً ردة فعلها التي جاءته في تلك الصورة "ايموشن" لوجه يغمز بعينيه مع رسالتها:
_سبقناك ع البيبان يا "دوك"....عارفة إنك هتقعد على نار لحد ما تعرف الأكياس دي فيها إيه .

داعب ذقنه بأنامله وهو يشعر بالإثارة تجتاحه مع كلماتها ...
هل من الممكن أن يشعر يوماً بالملل مع امرأة كهذه ؟!
امرأة تمنحه كل أدوار النساء التي افتقدها في حياته ...
الأم...الطفلة...الصديقة...الز� �جة...والحبيبة !
تنهد بحرارة عند الخاطر الأخير لينظر في ساعته...
حسناً...لم يبقَ إلا القليل لينظر ماذا أعدت له -الماكرة- من مفاجآت !
ضغط زراً في مكتبه كي تدخل مساعدته الحالة المنتظرة...
ثم جلس مكانه ملتقطاً أدواته المعقمة في وضع الاستعداد...

الاستعداد الذي لم يكن "لفظاً" مناسباً هاهنا والباب يُفتح ليتقدم منه الرجل ...
عيناه تشتعلان بغضب وهو يميز هويته !
لقد رآه مرة من قبل ...مرة واحدة كان يتشاجر فيها مع ياسمين في الشارع...
لكنه يشعر أنه رآه كثيراً ...
رآه في كل نظرة ذعر كانت تحتل عينيها عندما يمسها ...
رآه في كل آهة ألم كانت تنبعث منها عندما تتذكر ماضيها معه...
رآه في شعور بالخزي لم تعرفه امرأة مثلها إلا مع وغد مثله ...
ورآه في كل لحظة غيرة تقتله وهي بين ذراعيه وهو يتصور أنه سبقه إليها!!
أجل...رامي!!


جسده يتصلب للحظات ثم يشتعل برغبة عارمة في الانتقام ...
لم يشعر بنفسه وهو يقف مكانه ليجد نفسه فجأة أمام الرجل الذي كانت عيناه تنضحان بغيظ لا يقل عنه ...
ملامحه هو الآخر تصرخ بأنه لم يأتِ في خير ..
وإن رسمت شفتاه ابتسامة سمجة رافقت قوله :
_قصدت أجيلك هنا عشان ماتتهورش قبل ما تسمعني.

أنفاسه تتسارع بجنون وهو يضم قبضتيه جواره وكل ما فيه يناشده بضبط النفس ...
لكن أي ضبط نفس هاهنا؟!
وكأنما تحركت قبضته من تلقاء نفسها ليفيق على صوت تأوهه أمامه ...
قبل أن يندفع رامي ليدفع جسد يامن أمامه فيحاصره في زاوية الغرفة مكبلاً ذراعيه ...
يامن الذي انفجرت طاقاته كلها فجأة ليتحول الأمر لقتال قصير لم يدم سوى لبضع دقائق منتهياً برامي تحت قدميه يتأوه بقوة والدم يسيل من وجهه !

صوت طرقات الباب يجعله يفيق من فورة غضبه...
ليتوجه نحوه فيفتحه قائلاً لمساعدته ببرود قاسٍ:
_مشي كل الحالات وامشي انتِ كمان ...واقفلي باب العيادة وراكِ.

لم يكترث لنظرة الرعب التي رمقته المرأة بها وهي ترى جسد رامي المتكوم على الأرض قبل أن تشير برأسها في طاعة لتفعل ما أمرها به !

بينما أغلق هو الباب خلفه ليلتفت نحو رامي الذي وقف مترنحاً مكانه ليقول بينما يحاول كتم نزيف أنفه:
_هتندم على اللي عملته بس بعدين ...كفاية عليك تعرف اللي جيت عشانه النهارده.

كانت دقات قلبه تدوي في صدره بهدير قاسٍ وهو يود لو يعيد الكرة ...
لو يظل يضربه ويضربه بقدر ما آذاها...
بل لو يقتله نكالاً بما قتله من روحها!

لهذا عاد يتقدم نحوه وقد أنذرت ملامحه بعاقبة أقسى هذه المرة...
لولا أن رفع رامي هاتفه أمامه ليقول وسط أنفاسه اللاهثة:
_شوف ده الأول عشان تعرف هي تستاهل حمقتك دي واللا لأ.
========




سمية سيمو غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 03-04-20, 12:33 AM   #1517

سمية سيمو


? العضوٌ??? » 396977
?  التسِجيلٌ » Apr 2017
? مشَارَ?اتْي » 4,356
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
?  نُقآطِيْ » سمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك action
?? ??? ~
keep smiling
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي


القطعة الثامنة عشرة
**************


واقفة في حديقة البيت تنتظره بترقب ...
ترتدي إحدى مناماتها الطويلة التي كفت عن ارتدائها من زمن لكنها تعمدت هذا في مناورة -ماكرة- لما تنتويه !
ابتسامتها العابثة تزين شفتيها وهي تسترجع مفاجأتها "الشقية" له !
مفاجأة واحدة ؟!
لا...بل العديد من المفاجآت !
لماذا تأخر؟!
ساعة كاملة مرت على موعده المنتظر وهي لا تكاد تطيق صبراً !

صوت بوق سيارته يصدح أخيراً بالخارج فتتأهب حواسها جميعها ...
تعدو بخطوات رشيقة لتختبئ خلف الباب الخارجي الذي فتح ليطل هو منه قبل أن يغلقه خلفه بعنف لم تنتبه هي له...

_اخس عليك...وأنا اللي قلت هتطير عشان تعرف مفاجأتي.
هتفت بها بمرح وهي تتعلق بذراعيها في عنقه ...
لكنه حافظ على ذراعيه جواره مع تصلب جسده ليقول بنبرة باردة :
_أنا كمان عامللك مفاجأة.
_بجد ؟! قول انت الأول !

قالتها بدلال وهي تميل على وجنته لتقبله فتصطدم بابتعاده عنها بينما يغلق عينيه بقوة ...

انعقد حاجباها وهي تشعر بغرابته لتغمغم بحيرة:
_مالك يا يامن ؟! فيك حاجة متغيرة ؟!
_أكتر واحدة بتفهمني...صح؟!
نبرته الساخرة التي حملت الكثير من المرارة أقلقتها لتعاود اقترابها منه باسطة كفيها على صدره بينما تتفحص ملامحه في ضوء الحديقة الخافت ...
شفتاه ترتجفان كعهده عندما يخفي غضباً يكتمه...
أنفاسه غير منتظمة ...
عيناه ذابلتان شديدتا الاحمرار وكأنه كان ...يبكي؟؟!!!

قلبها ينقبض لوعة بين ضلوعها وذراعاها تتشبثان بخاصرته مع همسها القلق:
_فيه إيه ؟!
إطراقة رأسه ظلت جوابه الوحيد لدقيقة كاملة ألجمها فيها توترها أن تعاود السؤال ...
قبل أن يرفع إليها عينيه العاصفتين بقوله :
_مش عايزة تتمرجحي ؟! من زمان ما عملناهاش!

برودة لكنته الساخرة تصدمها وهي تشعر بالغرابة ...
لتشهق بعنف وهي تراه يجذبها خلفه يكاد يعتصر كفها في قبضته ليسير بها نحو تلك الأرجوحة اليدوية التي صنعها لها بنفسه يوماً ...
كفاه اللذين كانا الآن ككلابتين من نار يطوقان خصرها ليرفعها فوقها أمام عينيها الذاهلتين ...
تشهق من جديد ببعض الخوف وهي تراه يدفع الإطار الذي يشكل قاعدة الأرجوحة بعنف جعلها تتشبث بالسلسلة المعدنية بقوة هاتفة :
_بالراحة يا يامن ...انت كده بتخوفني.
لكنه يبدو وكأنه لا يسمعها ...
شياطين غضبه تتراقص على ملامحه الشاردة بينما يهتف بنبرة حادة :
_مش عايزة تعرفي مفاجأتي!

صدرها يعلو ويهبط بانفعال وهي لا تفهم ما يجري هنا ...
ماذا الذي يحدث له ؟!
هي لم تره يوماً بهذه الحالة الغريبة ؟!
عيناها المصدومتان ترمقانه بنظرة وجلة فيوقف الأرجوحة فجأة ليقترب بوجهه من وجهها هامساً ببطء ساخر:
_مش أنا عرفت مين زين!

ملامحها التي شحبت فجأة كانت أبلغ اعتراف !
الدموع التي تكدست في عينيها ...
الانتفاضة التي عجز عن استعابتها جسدها ...
وهذه الزفرة الحارقة التي بدت وكأن روحها قد غادرت معها !!
هل يحتاج بعد كل هذا لدليل؟!

كفه يرتفع بغضب نحو وجهها لكن صرختها تجعله يوجهه نحو السلسلة المعدنية التي أدمته لكنه لم يكن يشعر بألم ...
جسده يتأرجح بين فورة غضب تجعله يكاد يغلي...وبين ألم موت يثير الخدر في أوصاله ...
منذ غادره ذلك الحقير وهو يجوب الشوارع محاولاً استيعاب كل هذا الذي حكاه له !
وكأنه كان يحكي له عن "ياسمين" أخرى غير تلك التي عشقها بكل جوارحه !!

_ست شاذة ...مش طبيعية ...مش هتصدق كانت بتطلب مني إيه ! صبرت عليها مرة واتنين لغاية ما عرفت أخلاقها القذرة.
_انت فاكر إني كنت أول راجل في حياتها ؟! الهانم كانت مقضياها ...والدليل اهه ...شفتها بعنيّه معاه !
_اسمه زين...كان شريكي...ده فيديو ليها وهي معاه في جنينة بيته...كانت حفلة حضرناها واكتشفت إنها مش موجودة...خرجت أدور عليها مالقيتهاش...تاني يوم لقيت الفيديو ده مبعوت لي ...واجهتها...ما أنكرتش...طلقتها ومع ذلك ما خلصتش من لسانها ...كانت مصدرة للناس وشها البريئ وبتتهمني باللي كانت هي نفسها بتطلبه وأنا برفضه ...شفت بجاحة أكتر من كده ؟!
_أنا جيت النهارده عشان عرفت إن البيه لسه بيجري وراها...وإن الهانم لقت ضحية جديدة تضحك عليها...دي صورة جديدة لهم سوا في مطعم السينابون بتاعها بعد ما رجع من السفر ...وأظن ده كان بعد جوازكم بفترة.
_انت ضربتني بس بكرة تشكرني لما تعرف الفخ اللي نجيتك منه...الفيديو والصورة مش متفبركين وممكن تتأكد بنفسك !

كان يلهث بقوة عند الخاطر الأخير وكأنه كان يعدو في سباق طويل!!
لا يصدق أنه سمح لرجل...أي رجل ...أن يقذف زوجته هو بهذه الأوصاف!!
لكن صدمته فيما رآه جعلته ينسلخ عن جلده !!
جعلته يشعر وكأنما هو فقط يراقب أحد كوابيسه مستسلماً حتى يصحو ككل صباح ليجدها بين ذراعيه !!
صدمته التي يبدو أنه لم يفق منها إلا الآن وهو يستخرج هاتفه هو من جيبه ليقذفه في وجهها صارخاً بجنون:
_افتكريه معايا مادام كنتِ ناسياه !

ارتجف جسدها برعب وهي تفتح هاتفه لترى خطيئتها مجسدة أمامها !
الصور تتابع أمامها فلا تكاد تصدق نفسها ...
إذا كانت هي تعجز عن التعرف على نفسها بهذا الوضع...
تكاد تنكر ...لولا أنها تذكر...
لا...لا....لم يكن الأمر بهذه البشاعة...
أو لعله كان ...وهي التي تناست حتى نست!
ها هي ذي تسقط من قمة معبد عشقها الذي نصبته حجراً حجراً لتهوي نحو القاع!!
هل رآها يامن هكذا؟!
هل رآها يامن هكذا؟!

كل رصيد حبها سيساوي الآن صفراً أمامه!!

بينما كان هو يتفحص ملامحها بحرقة وهو يود الآن لو تنكر ...
لو تثور ...تعترض ...تدافع ...
لو لم تفعلها الآن...فسيقتلها!
سيعتصر عنقها هذا بين كفيه حتى يزهق أنفاسها واحداً واحداً ...

الرغبة الأخيرة جعلته يضغط بأسنانه على شفتيه حتى أدماهما ...
قبل أن يعطيها ظهره ليبتعد بضع خطوات محاولاً التقاط أنفاسه المختنقة...

أما هي فقد أفاقت من صدمتها لتنظر لظهره بجمود ...
لا يمكن أن ينتهي الأمر هاهنا ...
دون أن يسمع...دون أن يفهم...دون أن يعذر!!
كيف؟!
ما كان معنى ما بينهما إذن؟!!
لا ...مستحيل!!

حاولت الهبوط من على الأرجوحة التي كانت عالية نوعاً لكنها فقدت اتزانها لتجد نفسها تسقط على الأرض ...
يلتفت نحوها فيجدها تحت قدميه ولا يبالي أن يرفع لها يداً !!
الآن هي بالأسفل ...وهو بالأعلى ؟!!
هذا المشهد الذي استنفر كبرياءها لتنهض وحدها وتواجهه بعينين مشتعلتين ...

_جبته منين الفيديو ده ؟!
_من رامي!
_الحيوان اللي كنت بتضايق لما بجيب سيرته ؟! دلوقت صدقته ؟!
كانت تتحدث وهي تدور حوله ...
نبرتها الجامدة بنكهة استنكارها لا توحي بجحيم روحها بينما كان يبدو هو وكأنما ينفث براكين من لهب ...!

_قولي إنه كداب ...قولي إن الصور مش حقيقية...قولي إنك ما قابلتيش زين ده بعد جوازنا ...الطاقم اللي انتِ لابساه في الصورة الأخرانية أنا اللي شاريهولك .
صرخ بها بجنون وهو يعتصر زنديها بقوة آلمتها لكن أي ألم كان يبدو هيناً أمام تمزق قلبها الذي كان ينزف بصمت ...

_الفيديو والصور حقيقيين...أنا فعلاً قابلت زين بعد جوازنا.

قالتها بنبرة ظاهرها تحدٍّ وباطنها...باطنها موت!
ذراعاه يتراخيان حولها وهو يشعر باعترافها يضع النصل الأخير في عمق قلبه...
أن يسمع...أن يرى...أن يعي ...كل هذا لا يساوي شيئاً أمام أن تقولها هي!
هل كان محقاً في هواجسه نحوها؟!
وساوسه لم تكن مجرد شكوك ...كانت حدساً!
وهو الذي حاربها لأول مرة...
لأول مرة في حياته يفعلها لأجلها!!!!

_كنتِ بتخونيني؟! زي ما خنتيه قبلي؟!
تمتم بها مصعوقاً وأظافره تنغرس في لحم ذراعها لتجد نفسها تصرخ نافية بانهيار:
_لا خنتك ولا خنته...ليلتها كنت رايحة له عشان ...عشان...
صمتت لحظة بعدها لتقطع عبارتها بينما تهز رأسها لتردف بين نزيف دموعها:

_أنا بعمل إيه ؟! بعمل إيه؟! بدافع عن نفسي قدامك ؟! قدامك انت؟! عن شرفي؟! عن حبي؟! بعد كل اللي بيننا ؟!

لكنه بدا كأنه لم يسمعها ...
كانت بين ذراعيه حقيقة لكن ما بينهما كان كما بين المشرق والمغرب!
دموعها...صراخها...كلماتها التي بدت كالهذيان...
كل هذا لم يكن في عينيه أكثر من دلائل إدانة !

_مش مصدق! مش مصدق إني أتلدع من نفس الجحر ثلاث مرات !

صرخ بها بحدة وعروق وجهه النافرة تحكي ألف قصة عذاب ...
لتشهق هي بارتياع بينما صراخه يزلزل روحها:
_قابلتيه كام مرة بعد جوازنا؟! كل الليالي اللي كنتِ بتتأخري فيها وتتحججي بالشغل؟! كل رعبك من إني ألمسك كان تمثيل ؟! كل حكاياتك عني وعن طليقك كانت كذب؟! إزاي كنتِ بتقدري تتلوني كده ؟! كنتِ عايزة توصلي لإيه معايا بالضبط ؟! انتِ شيطانة زي صاحبتك اللي عملتها زمان !

دموعها تجف فجأة كأن لم تكن !
اتهامه الصريح يصفعها...لكنه يتلقفها ليجذبها لأقرب أرض صلبة يمكن أن تقف عليها !
كبرياؤها!
هذا الذي جعلها تنفض ذراعيه عنها بعنف لتهتف بتنمر غريب على طبيعتها معه:
_مادام مصدق عليَّ كده مش هاناقشك...مادام كل اللي بيننا طلع ما يستاهلش حتى إنك تسألني قبل ما تحكم عليّ يبقى مالوش لازمة...عايز تصدق إني خاينة زي كل الستات اللي عرفتهم ؟! صدق! ارجع لدنيتك السودة اللي بترتاح لها...ارجع لوساوسك وشكوكك وعينيك اللي مابتشوفش أبعد من نفسك وبس...حتى لو عرفت الحقيقة ورجعت لي ندمان...مش هسامحك...من اللحظة دي اللي بيننا انتهى .


لم تكد تتفوه بآخر عبارة حتى انهارت كل قوتها لتشهق شهقة عالية وهي تمسك صدرها بقوة ...
صرخة قصيرة انبعثت منها وهي تشعر بأنها ستفقد وعيها في أي لحظة ...
ستسقط ...لكن ليس هنا!
لهذا دفعته بكل قوتها لتعدو مغادرة البيت كله غير آبهة بما ترتديه ...
تلاحقها نظراته المصعوقة بكل هذا الذي يحدث ...
هذا الذي يفوق أكثر كوابيسه بشاعة !

لا ...لايزال هناك المزيد!
فهناك عند الباب ظهرت هانيا فجأة والتي اندفعت نحوه هاتفة بجزع:
_مصيبة يا يامن!
تقلص وجهه بابتسامة متشنجة مريرة وكأنه لا يتوقع المزيد بينما تقدمت هي نحوه لتسأله بينما تتلفت حولها:
_فين ياسمين؟! عرفت طليقها عمل إيه؟!
انعقد حاجباه بقوة وحديثها يهدم آخر حصون تحمله:
_الحيوان منزل فيديوهات وصور زبالة ليها على صفحتها وصفحتك على الفيس ...مش بس صفحتكم....أنا وبيللا ورانيا وداليا...التليفونات ما بطلتش رن ...فضيحة يا يامن...فضيحة !
=======
_مش وعدتك أرجعهولك ؟!
هتفت بها سيلين بلكنتها الغريبة التي تمزج عربيتها الركيكة ببعض الانجليزية أمام صغيرها النائم في سريره ...
قبل أن تبتسم برضا وهي تميل تقبله لتهمس وكأنه يسمعها :
_بكرة ييجي لحد هنا يطلب يشوفك وأنا اللي أقولله لأ.

قالتها ثم عادت تستقيم بجسدها لتخرج من الغرفة قبل أن تتناول هاتفها لتتصل برقم ما ...

_عملت إيه يا رامي؟!
_زي ما اتفقنا بالضبط...وزمان البرنسيسة متروقة دلوقت ...ده لو ماكانش قتلها .
ابتسامة ظافرة ترتسم على شفتيها وهي ترى نجاح خطتها الكامل ...
هل تصور يامن أنه سيخرج من قبضتها بهذه البساطة ؟!
ألا يعلم أنها لن تخسر يوماً شيئاً أرادته...
وهو ليس مجرد شيئ...
هو أبو ابنها الذي لن تقبل بفقده أبداً!

_الفيديو اللي معايا ما كانش هيعمل حاجة من غير صورتها اللي بعتيهالي مع زين ...البنت المساعدة بتاعتها في المطعم دي جت في وقتها ...برافو عليها إنها لحقت تصورهم يومها .

قالها بتشفٍّ ظاهر لتسأله بتعجب:
_اللي أنا مستغربة له ...انت ليه ما فضحتهاش بالفيديو ده قبل كده ؟!واشمعنا قبلت تتعاون معايا دلوقت .
ضحكته القصيرة كانت جوابه ليتبعها بقوله :
_المصالح بتتصالح ...زين ما كانش هيسكت...هو مش قليل...كان لي شغل كتير معاه...لكن خلاص مصلحتي معاه خلصت وجه وقت الحساب ....
ثم صمت قليلاً ليردف بنبرة أقسى:
_زمان فضيحتها دلوقت على كل لسان ...الهانم اللي كانت عاملالي فيها خضرة الشريفة وهي بتلعب من ورا ظهري ...الفيديو ده اتبعتلي من زمان أيام ما كانت على ذمتي...وقتها اتجننت كان نفسي أفضحها من وقتها بيه لكن اللي كان محجمني شراكتي مع زين بيه......بس أنا ما سكتتش جبت واحدة في بيتها وعلى سريرها وخلتها تشوفني بخونها ...ضربتها بكل الغل اللي كان ماليني وقتها ...ساومتني ع الطلاق قلت اخلص منها ... لكن لما ظهرت انتِ وطلبت مساعدتي لقيتها فرصة نصفي حساباتنا القديمة .

_تفتكر يامن هيطلقها ؟!
_ده لو ما طلعش روحها في إيده قبلها ...انت ما شفتيش منظره بعد ما شاف الفيديو ...خلاص ما عادش هيرفع عينه في عين حد بعد ما رفعت الفيديو على صفحتها وصفحته ع الفيس...فضيحة تمام المرة دي .
قالها بنفس النبرة الظافرة لتضحك ضحكة طويلة ناسبت قولها:
_الخطة ما كانتش هتنجح غير بينا احنا الاتنين...لو يامن كان شاف الفيديو بس كان ممكن تضحك عليه بكلمتين وتقولله ماضي وراح...لكن صورتها الجديدة معاه هتخلليه يصدق إن اللي بينهم لسه ما انتهاش وإنها بتخونه زي ما كانت بتخونك .
_وبعدين ...فيه حاجة تانية هنعملها بعد كده ؟!
ابتسمت ابتسامة متشفية لتقول باقتضاب:
_نستنى ...ونتفرج !
======
_حلو يا أحمد ؟!

قالتها مبتسمة أمام مرآتها صباحاً وهي تطالع شكلها الجديد بحجابها !
عيناها ترمقان ملامحها بفخر ومشهد فِراشه ووسادته في خلفية الصورة يمنحها الكثير من الأمان الذي تحتاجه ...
ابتسامتها تتسع وهي تعدل وضع حجابها ليغطي مقدمة صدرها ...
عباءتها الفضفاضة حديثة الطراز من "الجينز" الأزرق تكسبها مزيجاً من الأناقة والحشمة...
ووشاحها الوردي يخفي خصلات شعرها التي تراجع لون منابتها النبيذي المصبوغ ليظهر لونه البني الأصلي ...
صفحة وجهها نقية...
ليس فقط كونها خالية من مساحيق التجميل ...لكنها هذه المسحة الجديدة من السكينة التي ملأت روحها بعد الحادث...
بل بالتحديد بعد زيارة والد أحمد وتسلمها خطابه !
وكأنها كما قال لها ولدت من جديد ذاك اليوم ...
بداية جديدة منحها لها القدر وقررت استغلال عطيته أفضل استغلال ...
الخطوة الأولى كانت ارتداء الحجاب الذي لم تشعر به هذه المرة مجرد قطعة قماش ترتديها وفقاً للأعراف كما فعلتها قبلاً...
بل درعاً منحته لها شريعة السماء كي تقيها شرور الطامعين ...
ودرجة أخرى ترتقيها في سبيل صعودها الطريق لرب العالمين ...
الرحمن الذي تغمدها برحمته في أشد لحظات حياتها ظلمة وهي الغافلة التي لم تنتبه لهذا وسط حسرتها على خذلان البشر...
أجل...قدرها الرحيم الذي طالما ضاقت بكرباته لم تكن تخلو "مِحنه" من "مِنح"!
ربما يكون بلاؤها شديداً لكن رب الخير لا يأتي إلا بالخير...
هو الذي منحها حب أحمد ودعم هانيا واهتمام ورامز ....
هو الذي سخر لها الكثير من النعم التي كانت لا تراها بعين "سخطها" والآن تملأ ناظريها رضاً!

وعند الخاطر الأخير استدارت نحو الفراش بجسدها وكأنها تراه أمامها ...
كلمات خطابه تبزغ من مكان مشرق في ذاكرتها تعلم أنه أبداً لن يظلم ...


"أنا عارف أخلاقك كويس...وعارف إنك قادرة توقفي أي حد عند حده ...أنا مش بخاف عليكِ عشان ضعيفة ولا قليلة الحيلة...أنا بخاف عليكِ عشان احنا بقينا في دنيا وحشة قوي...خصوصاً للناس النضيفة زيك...انتِ كنزي يا غادة...والكنز بنخبيه ونحافظ عليه من عيون الناس ...بس بنبقى عارفين قيمته...عارفين إن الدهب بيفضل دهب ".

فتبتسم ابتسامة راضية وهي تستعيد معه قول أبيه...

_شوفي ممكن تعملي إيه تستاهلي عليه حياة تانية...شوفي إيه اللي كنتِ عايزاه يختفي واعتبريه مات الليلة إياها ...واللي عايزاه يعيش هو بس اللي هيتكتب له عمر جديد !

_غادة اللي حبيتها هي اللي هتعيش يا أحمد...مش غادة اللي هم عايزين يرسموها في دماغهم زي ما هم شايفين.

قالتها بحزم وهي تقترب أكثر من الفراش لتحتضن وسادته بقوة قبل أن تتركها من يدها لتغادر البيت نحو المكان الذي ترجوه...
صعدت البناية لتطرق باب الشقة الذي فتح بعد فترة ليطل منه وجه الرجل البشوش مستنداً على عصاه :
_غادة ؟! أهلاً يا بنتي...اتفضلي.

ابتسمت وهي تلج المكان بحذر تحاول قدر استطاعتها ألا تنجرف في تيار الذكرى ...
بينما أغلق الرجل الباب ليتوجه نحوها قبل أن يجلس جوارها متفحصاً ملامحها برضا مع سؤاله :
_اتحجبتِ؟!
اتسعت ابتسامتها وهي تومئ برأسها لتقول بشرود:
_كانت رغبة أحمد قبل ما يموت...كنت مجهزة نفسي أعملهاله مفاجأة أول ما يرجع من السفر ...بس هو ما رجعش.
تحشرج صوتها رغماً عنها في عبارتها الأخيرة وكادت تستسلم لضعفها القديم...
لكنها نفضت رأسها بعنف وكأنها تقوي هذه الروح الجديدة التي تسكنها لتردف :
_معلش اتأخرت شوية بس المهم إني لحقت نفسي.
هز الرجل رأسه وهو يطرق على الأرض بعصاه بحركات رتيبة وقد بدت له عبارتها تحمل من المعاني أكثر بكثير مما تتحدث ظاهرياً عنه ...
ليصمت لبضع لحظات سبقت سؤاله الحذر:
_رجعتِ شغلك ؟!
أطرقت برأسها للحظة ثم عادت ترفعه لترد باعتداد:
_للأسف ماعنديش حل تاني دلوقت...بس هادور على شغل جديد...مش هيأس.
_وليه تسيبيه ؟!
بنفس الحذر يسألها لتشيح بوجهها دون رد ...
بينما هو يردف بنفس النبرة المحايدة :
_أنا شايف إن قدامك فرصة ماتتعوضش...رامز رجل محترم ومن كلامك خلاص علاقته بمراته مش هترجع...وهي ماصانتش العشرة اللي بينكم وفضحتك بالكدب...جوازك منه دلوقت هيرد اعتبارك...هيديكي الأمان اللي انتِ محتاجاه.

فاستدارت بوجهها نحوه لتكتسح شفتيها ابتسامة ساخرة فاضت بمرارة قولها:
_الأمان؟! الأمان في راجل عايز يتجوزني إنقاذ موقف؟! واللا عِند في اللي كانت مراته وصاحبتي؟! لا يا عمي...حتى لو هي ما صانتش العشرة أنا مش هاخون .

لاحت على شفتي الرجل ابتسامة اعتزاز لكنها لم تميزها وسط شرودها باستطرادها:
_لو قبلت عرض رامز يبقى هافضل ألف في نفس الدايرة...يبقى مااتعلمتش حاجة من كل اللي فات.

_ربنا يهديلك نفسك يا بنتي...أنا كده اطمنت عليكِ.
قالها الرجل بنفس النبرة الراضية لتغتصب هي ضحكة قصيرة بينما تسأله :
_كنت بتمتحنني يا عمو؟!
_أيوه...ونجحتِ.
_مممم...وجايزتي؟!
قالتها بمرح منطلق لم تعرفه منذ زمن بعيد وعيناها تلتمعان ببريق حقيقي نابع من روحها الجديدة...
ليجيبها بغموض :
_سيبيها لله...لو اللي في بالي اتحقق هتبقى فعلاً أحلى جايزة.
رفعت حاجبيها بترقب لكنه هز رأسه ليردف بمرح حنون:
_إيه رأيك تتعشي معايا ؟! بطني نشفت من المسلوق ...بفكر الليلة دي نعمل سوا صينية مسقعة.
_مسقعة يا عمو؟!
شهقت بها باستنكار ليردف بينما يقوم مستنداً على عصاه :
_ماتخافيش...مش هنسبكها ...كله ني في ني...رشة زيت زيتون وعلى الفرن عدل...خفيفة ومش هتتعبني...قومي قومي.
ظهر التردد في عينيها مشفقة عليه ليقول لها بعناد :
_هتقومي واللا أخلليها بطة محمرة وبشاميل ؟!
_لا لا ....المسقعة أرحم.
هتفت بها وهي تلوح بكفيها أمام وجهها لتنهض وتتوجه معه نحو مطبخ شقته المتواضع ...
عرضت عليه الجلوس والاكتفاء بمراقبتها لكن الرجل قال باعتراض حازم :
_سيبيني أحس إني لسه عايش يا بنتي...احنا عايشين طول مااحنا بنعافر أول ما بنبطل معافرة بنموت بالحياة.

خفق قلبها بعمق شعورها بالشجن الذي احتل صوته...
عبارته البسيطة تطرق أبواب ضلوعها لتشعرها كم هما متشابهان...
ربما يفصلهما في العمر الكثير من الأعوام لكنهما شريكان في الوجع...
في الوهن...في المكابرة لأجل ألا يسقطوا تحت أقدام اليأس.

لهذا تنهدت بحرارة وهي تومئ برأسها في طاعة...
أناملها الناعمة تربت على كفه غائر العروق قبل أن تهتف بمرح عاد يحتل نبراتها:
_أجمد صينية مسقعة نعملها سوا.
======
أغلق باب العيادة خلفه ليستند بظهره إليه وقد انتوى قضاء الليلة هنا...
يومٌ طويل لا يكاد يذكر منه شيئاً سوى ما فعله منذ قليل ...
هذا الذي -ظن- أنه قد ختم به قصته القصيرة معها !

قصة خديعة نالت من غروره الذي ظن أن لن تمسه امرأة أبداً!
الدرس صعب حقاً هذه المرة !
ليست فقط فضيحتها التي يراها في عيون معارفه...أصدقائه...جيرانه...و� �لتي تطعن رجولته بألف خنجر ...
ليس فقط شعوره بالانتقاص وهو يرى فيها خيانة كل من سبقنها إلى حياته من نساء...
ليس فقط بركان غيرته الذي يقذف حممه بين ضلوعه وهو يسترجع مشاهدها مع زين...

شعرها الذي تمناه طويلاً يتراقص كشيطان على كتفي رجل آخر!
بشرتها الناعمة عارية تعدو فوقها جياد شفتيه ...
ثوبها الأنيق المكشوف تتمزق ياقته لتقف وكأنها تفخر بشغف رجل ما عاد يتحمل طغيان الانتظار !
صوتها الذي يعلو ويتهدج فلا يدري إن كان أنين استجابة أم صراخ من تستجدي المزيد ...

عند الخاطر الأخير صرخ صرخة عالية لم يسمح لمثلها أن تغادر صدره من قبل وهو يضرب الحائط بقبضته عدة مرات حتى أوقفه الألم ...
عرقه الغزير يبلل وجهه وصدره فيتهاوى جالساً على الأرض مسنداً ظهره للباب ...

كانت خائنة ؟!
مخادعة؟!
كل ما كانت ترويه له عن عذابها مع رامي؟!
كل الذعر الذي كانت تجيد تمثيله في البداية عندما يمسها ؟!
كل الرضا الذي صارت تتصنعه بعدما أقنعته أنه داوى جرحها القديم؟!
وهو الغافل الساذج الذي كان يظن نفسه البطل المغوار الذي صبر عليها حتى أعاد لها ثقتها بأنوثتها ؟!!!!

ضحكة ساخرة شقت طريقها وسط أخاديد وجهه ...
ضحكة تعمدها عالية وكأنها مجرد صرخة أخرى لا غير!
تستحقها يا أحمق!
هل صدقت أن حباً كهذا الذي كانت تزعمه موجود حقاً في قاموس النساء؟!
هل أعجبتك صورتك في أسطورة تحكيها غانية مثلها عن حب عذري لا تقتله السنوات ؟!
أغراك سراب حنانها ...رقتها...هوسها بتفاصيلك؟!
ما كان عذرك يا سفيه وأنت تترك لها سفينتك فلم تدرك حالك إلا وأنت ...في القاع؟!!
عذرك أن شمس خديعتها كانت أكثر وهجاً من شموع حذرك!
وقانون العشق لا يحمي المغفلين !

انقطعت أفكاره عندما سمع صوت رنين الجرس فانتفض مكانه بغضب وهو يتساءل عن الطارق...
تراها هي ؟!
هل علمت بما فعله منذ قليل ؟!
هل جاءت تبرر...تشرح...تعاود نصب شراك خداعها من جديد ؟!
يالتبجحها لو كانت هي!!
هذه المرة سيقتلها بدم بارد ولو كلفه الأمر حياته !!

وبهذا العزم فتح الباب بعنف لتتسع عيناه بصدمة وهو يرى أمامه آخر من يتوقعه الآن ...

_نبيلة ؟!
تمتم بها ببعض الخيبة التي لم يستطع إنكار اعترافه بها !
أجل...جزء ضئيل بداخله كان يتمنى لو كانت ياسمين حقاً!
لو تأتيه بدليل براءتها وتسترضيه عن كذبة لم تقصدها!
لو تخبره أن قلبه لم يكن مخطئاً عندما أحب "ساحرة الفوضى" كما لم يحب امرأة في حياته !
لو تؤكد له أنها كانت وستظل "عروس البحر" التي لم تنكشف على إنسيّ غيره !
لو تعيد له راية "الألوان" التي نكستها جيوش الغدر السوداء!
لو...ولو...ولو...
وهل بقي له الآن إلا التعلق بأضغاث أوهام مالها في عرف الحقيقة تأويل؟!!

_بتعمل إيه هنا دلوقت؟!
قالتها بنبرة غريبة على كبريائها المعهود معه ...نبرة خالطها الكثير من الإشفاق الذي أثار حفيظته ليهتف بحدة :
_أنا حر ...أبات في المكان اللي يريحني .

لم يشأ الاعتراف أنه لم يعد له مأوى إلا هنا !
لن يعود لبيت شاركته إياه يوماً ليتجرع وحده كأس خسارته !
لن يرجع لمكان قاسمها فيه ذكرياتها الخائنة مثلها !

هذا الذي قرأته نبيلة بوضوح في ملامحه الثائرة كأسد جريح يوشك على قتل أي أحد في طريقه ...
ربما لو كانا في موقف آخر لتصارع كبرياؤها مع نفوره كالمعتاد لكنها وجدت نفسها تتقدم منه لتغلق الباب خلفها ...
فأعطاها ظهره وهو يتحرك مبتعداً ولولا بقية من تعقل بداخله لأخرجها من هنا دون تحفظ !

_هتعمل إيه في المصيبة دي؟!
سألته بنفس النبرة التي امتزج قلقها بإشفاقها ليجيبها بمرارته الساخرة :
_هو فيه حاجة تتعمل؟!
ثم التفت نحوها مردفاً بفظاظته المعهودة والتي زادها الجرح قسوة :
_قوليلي يا "نجمة" بحكم خبرتك في الفضايح ...بيعملوا إيه في المواقف اللي زي دي؟!
ورغم أن عبارته المهينة وخزتها بماضيها الذي لايزال يقف بينهما ...
لكن -للعجب- غلبت أمومتها كبرياء النجمة بداخلها هذه المرة لتتجاهل حديثه بسؤالها المباشر:
_مش هتقف جنبها ؟! تعلن قصاد الكل إن الكلب جوزها ده كذاب؟! تدافع عن شرف مراتك اللي هو شرفك ؟!
_مابقتش مراتي!

لفظها من فمه كطلقة قاسية...صارمة...حازمة...لا ترد !
هو أدخلها حياته بورقة...وأخرجها منها بورقة !
وليت الأمر حقاً بهذه البساطة التي يدعيها !

_طلقتها؟!
شحب وجهها وهي تسأله غير آبهة بغباء السؤال !
ما الذي تنتظره من رجل كيامن في موقف كهذا ؟!
إذا كان عجز عن تقبلها -هي- أمه في حياته بعد كل هذه السنوات ؟!!
لكن...ياسمين تختلف!
هو أحبها حقاً!
ومن مثلها يمكنها تمييز العشق في نظراته ...
العشق الذي لم تره في ملامحه إلا لياسمين فحسب!

لهذا تقدمت منه أكثر لتكتنف ساعديه بكفيها هاتفة باستنكار:
_هو ده ردك ؟! وهي ذنبها إيه لو حيوان زي ده ملفق لها الفيديوهات دي؟!
_هو أنا ماقلتلكيش؟! مش متلفقة!
بنفس السخرية الذبيحة هتف بها ليغمض عينيه بألم والمشاهد تتوالى في عينيه من جديد ...
تنحره بنفس النصل البارد ...
رباه!
أما لهذا الألم من نهاية ؟!

_مااصدقش... ياسمين ماتعملش كده ...انت اتكلمت معاها؟! سمعت منها؟!
هتفت بها ولاتزال تهز ساعديه وكأنما ترغب أن يجعله يفيق من نوبات شكه التي تعرفها والتي توشك أن تودي به هذه المرة ...
ليصرخ بها بجنون أججته براكين صدره:
_واجهتها! قالت الصور حقيقية مش متفبركة ! ارتحتِ؟!
_غبي!
هتفت بها بحدة وهي تدفعه لتلوح بكفها صارخة بغضب مشابه :
_وانت فاكر ست زي ياسمين لما تتهمها بحاجة زي دي هتقف تبرر لك ؟! لو كانت عملتها كنت شكيت فيها ...ست زي ياسمين كانت مستنياك تطمنها...تقف في ظهرها...تسمعها ...مش ترميها أول ما تشوف حاجة زي كده كأنك ما صدقت !

_بس بقا...كفاية...مش عايز أسمع كلمة واحدة عن الموضوع ده .
صرخ بها بثورة أجفلتها وهو يندفع ليلقي كل ما تطاله يداه على الأرض ...
الدوي الصاخب في أذنيها لصوت تحطم الأشياء لم يكن شيئاً أمام عاصفة شعورها به الآن وهي ترى السخرية الجامدة التي تقبل هو بها الأمر من وقتها تتحول الآن لصورتها الحقيقية...
هذا الإعصار الذي يلتهمه ...يمزق حناياه...يقتله ببطء وبمنتهى القسوة !
هي التي كانت تحسد ياسمين على حبه الجارف لها ...
لم تكن تعلم أن حب رجل كيامن لن يقل تطرفاً عن قسوته !

هاهو ذا يفرغ ثورته في تحطيم أثاث عيادته التي تعلم كم تفانى في تحضيرها قطعة قطعة...
لكنها توقن أن الخراب بداخل روحه أشد وطأة !
شكه في براءة ياسمين ليس لصالحه كما كانت تظن ...
بل على العكس ...شكه هذا يزيد سعير الندم في قلبه ...
ليته يوقن أنها خائنة فيلفظها خارج مداره للأبد...
أو يثق من براءتها فيقضي بقية العمر نادماً مستغفراً إياها!
لكن أن يكون هكذا معلقاً على أنشوطته متأرجحاً بين عذاب مغدور وندم ظالم فهو الجحيم بعينه !

دمعت عيناها بعجز وهي ترى ثورته تنتهي بخبطه لرأسه في الحائط بضع مرات وكأنه يود لو يفرغه من أفكاره أو يفقده للأبد !
مرة تلو مرة تلو مرة...
والألم النابض في جسده يورثه المزيد من الخدر الذي يود لو ينتهي بأن يغيب وعيه...
هو لم يعد يحتمل كل هذه المكابرة !
لكنه فوجئ أخيراً ب"صلابة" الحائط تُستبدل ب..."حنو" صدرها !!!


لم يشعر بها وهي تتشبث به لتديره نحوها وتجذبه إليها ...
كل ما أحس به وقتها هو مذاق هذا العناق الذي تأخر كثيراً ...
كثيراً...كثيراً...
بطول عمره كله !
آهته الخافتة امتزجت بشبيهتها لديها وهي تحيط جسده بذراعيها فلا تشعر بضخامته ...
بل تراه بعين "قلبها" ذاك الجسد الضئيل الذي فرطت فيه صغيراً لتقضي بقية عمرها ندماً عليه !
تبكي وتبكي ...كما لم تفعل من قبل !
تندم وتندم...كما لم تشعر من قبل !
تشهق كما لو كان رصيد الهواء في صدرها قد نفد فجأة...
كأنما تعانق الحياة نفسها من جديد بأنفاس غير الأنفاس!
تتشبث به وكأنما منحها القدر فرصة جديدة لعمر جديد ..
عنقاء "أمومتها" التي طالما دفنها كبرياؤها تحت رماد نجومية مزعومة الآن تنهض من طول رقادها لترتشف معه هذا الإحساس الغامر قطرة قطرة ...
حزينة لأجله....سعيدة بعودته لحضنها...
قلقة عليه...مطمئنة بعناقه...
تائهة بحيرتها...مسترشدة بأنسها به ...
مشاعر مبعثرة...متناقضة...مبهمة لكنها تتحد في شيئين...
صدقها....واجتياحها!

لأول مرة تجرب شعورها به بين ذراعيها ...
رأسه المثقل بهمه يلتجئ لحنان كتفيها ...
دقات قلبه الهادرة تعوي في تجويف صدرها ...
هذا الكيان الذي حملته -محتاجاً واهناً- في بطنها تسعة أشهر لينفصل عنها ويعيش مستغنياً...الآن يعود ليستقر بين ذراعيها بنفس الاحتياج الواهن !
وكأن الأيام لم تمر!
وكأنها فرحتها الطاغية به عندما رأته وليداً لأول مرة !
وكأنها هي هي...ببساطة أنثى...
بفطرة أم...دون أية رتوش إضافية !
تضمه إليها ...تقبل رأسه ...
تدعو له بهذه الدعوات -البسيطة- جداً التي كانت تسمعها من أمها والتي طفت فجأة لذهنها الذي نسي هاهنا -فخامة- لهجتها المخملية !
باختصار...
لقد عادت في لحظة ...أماً!
لحظة...ليست كأي لحظة !

الجميل أن هذا لم يكن شعورها فحسب !
هو الآخر كان يحس أن الحواجز بينهما تهاوت فجأة ...
أنه يحتاج لوجودها الآن حقاً حتى وهي لا تملك ما تفعله له !
يحتاج لهفتها الصادقة هذه ...
عمق حنانها الذي يتذوقه لأول مرة بهذا النقاء...
بساطة تعبيرها الذي لا يحتاج لتنميق جمل ...تكفيه عفوية تصرفها ودعاءها المتلعثم !
ربما لهذا السبب سمح لجسده أن يستكين بين ذراعيها ...
لدموعه العزيزة أن تسيل صامتة ...عاجزة...شاكية...
بل ...لذراعيه هو الآخر أن يضمانها بنفس القوة !
الطفل اليتيم الذي طالما واراه بين ضلوعه قانعاً بقوة رجولته الآن يخرج من أسواره صارخاً بحاجته!

لطالما علمه أبوه أن الرجال لا يبكون !
لكنه لم يعلمه ماذا يفعلون عندما تنكسر هامتهم ...تنفطر قلوبهم...تتلاشى ثوابتهم ...
ماذا يفعلون؟!
يتظاهرون بالتماسك كأن شيئاً لم يكن ؟!
تماماً كهذا الذي يفعله الآن وهو ينتبه لنفسه أخيراً فيبتعد عنها ليعطيها ظهره من جديد ...
لكنها لن تسمح له بالابتعاد عن فلك أمومتها مؤخراً !

لهذا سارت لتواجهه بعينين سكنهما حنان جارف:
_يمكن أي راجل مكانك كان يبقى معذور لو اتصرف زيك ...لكن ياسمين كانت تستاهل منك أحسن من كده ...مايفهمش الست إلا الست اللي زيها ...وأنا بقوللك إنها مابتحبكش حب عادي ...دلوقت بس ممكن أعترف لك إني ...إني ساعات كنت بغير منها وأنا شايفاها بتحبك الحب اللي كان نفسي أنا أحبهولك ...حاول تكلمها تاني خلليها تدافع ...

_لا!
هتف بها صارمة ووجهه القاسي يعيد تشكيل ملامحه قبل أن يلتفت عنها مردفاً بنبرة أقوى:
_مبدإي مش هاغيره...لو شكيت ما تكملش.
=======
في غرفة نوم والدتها على الأرض تجلس محوطة بالعديد بالبالونات ...
نغم قديم يعزفه "كمانٌ" لا تراه عينها ...لكن تسمعه روحها فيزيد عمق الشرخ في جدارها ...
مُطفأة!
هكذا تشعر كما لم تفعل يوماً!
جنتها التي طالما زعمت أن لا أحد بقادر على انتزاعها من بين ضلوعها...
الآن صارت مجرد خراب تحوم حوله غربان يأسها!
حب العمر الذي ظنته سيكون زاد قلبها في رحلته تسرب من كيسها المثقوب بخطيئة لم تحسب حسابها ...
ألا لعنة الله على ذنوب لم تقترفها أيدينا بل دفعتنا إليها أوجاعنا!

عيناها الخائنتان تنسحبان رغماً عنها لورقة وضعتها جوارها على الأرض...
ورقة صارت بها غريبة عن وطن لفظتها أرضه !
طلقها غيابياً وكأنما لم يعد يحتمل أن ينظر في وجهها؟!
أن يواجهها بها؟!
طلقها؟!
من أين أتوا بهذا اللفظ الذي يحمل في اللغة معنى "الحرية" إذا كانت تشعر الآن أنه أسلمها لسجن كبير ...
وهل أكبر من سجن بسعة الكون وطول العمر؟!
لكن لماذا العجب؟!
ألم تعش منذ سنوات سجينة عشق مريض كعشقه ؟!
هل غرتها هذه "الهدنة" التي منحتها لها الأيام بقربه ؟!
سَكرة قصيرة بخمر غيّب عقلها لترتد بعدها على وعيها بأنه كان مجرد سراب!

ما الجديد يا "قوية"؟!
يا "صامدة"؟!

أليست هذه نفس الجلسة التي احتوتك بعد هجر أبيكِ؟!
بعد وفاة أمك؟!
بعد طلاقك الأول؟!
ماذا يضيركِ لو تحتويكِ الآن بعد طلاقك الثاني؟!

هاهي ذي بالوناتك الملونة تهمس لكِ ...
لايزال العمر يتسع للمزيد من الألوان !
لا كسر يكبر على روحك الفتية فتعجز أن تجبره !

_الخيانة ما بسامحش فيها...في الموضوع ده بالذات اللي اتكسر ما بيتصلحش...اللي اتكسر يترمي ورا ظهرنا وننساه.

كأنما تسمعها بصوته تلك الليلة ...
هل يظنها الآن خائنة ؟!
بهذه البساطة ؟!
هكذا ؟! دون حتى أن يسمع منها؟!
هل سيقوى على رمي ما كان بينهما ونسيانه ؟!
وهل ستقوى هي؟!
ولمَ لا؟!

وعند الخاطر الأخير استلقت على جانبها لتتكور على نفسها في وضع الجنين ...
وعقلها يستعيد تفاصيل تلك الليلة التي لن تنساها ما عاشت ...
لقد كانت تظن أن القدر ستر عليها فعلتها ...
لم تكن تعلم أن ذاك الحقير رامي يملك ما يسجل به تفاصيل مخزية كهذه ...
ربما لهذا السبب أنكرت معرفتها بزين عندما سألها يامن !

زين؟!
أصدرت أنيناً مكتوماً وهي تستعيد لقاءها الأول به ...
كيف بدا برصانته وأناقة حديثه مختلفاً تماماً عن أصدقاء رامي التافهين الذين كان يصر على مرافقتهم في حفلات تجمعهم ...
ليلتها أخبرها أنه شريكه الجديد مبدياً اهتمامه الخاص بتلك الشراكة ...
تعددت بعدها لقاءاتهما في مثل هذه التجمعات لتكتشف بداخله روح صديق كانت أحوج ما تكون إليها !
هوة روحها التي كانت تحفرها قسوة رامي يوماً بعد يوم صار يردمها اهتمام زين وصداقتهما التي أيدتها اهتماماتهما المشتركة !
صداقتهما؟!
نعم...الغريب أنها مع إعجابها بالكثير من صفاته ...حنانه ...ثقافته...قوة شخصيته...مع كل هذا لم تجد له في قلبها مكانة أكبر!
حتى وهي تأخذ قرارها بهجر رامي في كل مرة ينتهكها بقسوة ليبادرها بعدها باعتذار ...
ليس فقط قلبها المحتل بعشق يامن اليائس ...
لكن كيانها المجروح وقتها بخيبتها في كل الرجال!

كانت تغرق وحدها في بحر هائج ...
بلا أم...بلا أب...بلا حبيب...
ووسط كل هذا لم تجد سوى صداقته طوق نجاة !
حدثته عن نفسها ...هواياتها ...أحلامها المبتورة ...وطموحاتها عن هدايا الغد ...
وحدثها هو كذلك عن كل هذا ...
كانت قانعة بهذه الصداقة تظنها نسمة باردة وسط جحيم تتلظى به وحدها ...
حتى اعترف لها يوماً بحبه !

اعترافه الذي تقبلته هي بخيبة متحسرة مدركة أنه سيكون خاتمة صداقة كانت تقدرها حقاً ...
فما كانت لتكون أبداً زوجة خائنة !

انهمرت دموعها غزيرة عند الخاطر الأخير ليرتجف معها جسدها الذي ازداد تكوره حول نفسه بينما تحتضنه بذراعيها وكأنما تود لو تتضاءل...
بل لو تتلاشى من هذا الكون كله !

تراها حافظت على عهدها لنفسها حقاً ألا تزل قدمها في بئر خيانة ؟!
لا....بل نعم...
آآآه!
هي لا تدري ماذا حل بها تلك الليلة !

كان حفلاً يقيمه زين في بيته ودعاها ورامي إليه مع العديد من معارفهما ...
ورغم أنها فكرت ألا تذهب لكنها لم تكن يوماً ممن يهربون من مواجهة !
(زين خرج من حياتها تماماً عندما قرر نقل نفسه من خانة الصديق لأي خانة أخرى)
هكذا فكرت وهي تتوجه مع رامي للحفل ...
ستواجه زين بكل شجاعة...بكل برود ...
هذا الذي يبدو أنه قد قرره هو الآخر وهو يستقبلهما قبل أن ينخرط مع باقي المدعوين ...
لا تذكر كيف انتهى بها الأمر لتجد نفسها وحدها دون رامي...
عيناها تبحثان عنه وسط المدعوين فتعود خائبة الوفاض ...
الحرج الذي نال من كبريائها كثيراً جعلها تحاول الاندماج وسط المدعوين قبل أن تنسحب بدورها محاولة العثور عليه لتقريعه...
وعثرت عليه حقاً لكنها لم تقرعه...
لم تخبره حتى أنها رأته !
كان غارقاً بين ذراعي امرأة أخرى في أحد الأركان المظلمة ...
وكانت المرة الأولى التي تراه فيها رأي العين مع امرأة سواها !
الدم الذي ضرب في رأسها فجأة ...
الجرح الذي ازداد نزفه من كبريائها ...
اليأس ...الوحدة...الضياع!
كل هذا لم يكن سوى جنود أسلمتها لسلطان شيطانها...
انسحبت صامتة من المشهد تجر أذيال خيبتها وتتوعد بالانتقام ...
زين ؟!
أين زين؟!
ألا يزعم حباً ؟!
فلترد بضاعة الخيانة بمثلها إذن!
وبهذا الانفعال الصارخ الذي غيب عقلها مضت تبحث عنه حتى وجدته في الحديقة بعيداً عن صخب الحفل...
خطواتها تندفع نحوه على غير إرادتها تصرخ بالثأر...
لا ...ليس ثأراً لقلب ...بل لكبرياء !
وكأنما تلبستها روح أخرى غير روحها النقية التي تعرفها !
آثمة ؟!
نعم...بكل خزي تعترف !
لكن عزاءها أنها أفاقت قبل أن تدنس نفسها بخطيئة لم تكن لتسامح عليها نفسها أبداً ...


أفاقت في اللحظة الأخيرة وهي تدرك الهاوية التي كانت على وشك السقوط فيها ...
قاومت...يشهد الله أنها قاومت ...
لكن عنفوان عاطفته الصاخبة وقتها اكتسحها دون إذن منها ...
أجل...زين لم يختلف وقتها عن رامي...
كلاهما مجرد قشرة رقيقة لباطن وحشي ...
وعندما ظنت أنها النهاية وجدت الملاذ في حقيبة يدها الصغيرة التي هوت بمقبضها المعدني على عينه لتصيبه قبل أن تعدو هاربة ...
هاربة من خيانة رامي ...
من خذلان زين...
ومن ضعف نفسها الذي كاد يوردها مورد الخيانة لولا أن عصمها القدر !

ربما لم تخن رامي بجسدها ...
لكنها وحدها تعترف بينها وبين نفسها أنها كادت تفعلها ليلتها !
هذه الخطيئة التي لم تسامح نفسها عليها أبداٌ !
والتي تظهر الآن من العدم لتلوث نهر حياتها ببقعة جاز سامة !

هل كان يامن ليصدقها لو اعترفت له ؟!
وحش غيرته كان ليسامحها ولو على مجرد النية؟!
سلطان وساوسه كان ليأمن لها ألا تكررها؟!
العجيب أنها رغم يقينها أن الجواب بالنفي ...كانت تؤمل نفسها أنه سيفعل!
يقينها الراسخ في عظم هذا الحب الذي -كانت- تحمله له كان يقنعها ألا شيئ في هذا العالم سيقف أمامه !

الحب الذي تحول الآن لكراهية لم تعرفها مثلها يوماً بعدما تخلى عنها في محنتها ...!
ورقة طلاقه وسط هذه الفضيحة وفي مجتمع كهذا ليست إلا حبل مشنقة حول عنق شرفها !
تكرهه !
تكرهه!
تكرهه وهو يفعل بها الشيئ الوحيد الذي لم يستطع غيره فعله بها !
هو أطفأها...
اجتث عنق كبريائها الذي طالما رفعته رغم كل شيئ!

تخليه عنها بهذه البساطة ...
بهذه السرعة...
دون حتى أن يحاول سماعها ...جعلها تشعر بالدونية التي لم تشعرها حتى مع تصرفات رامي المعوجة !
يامن لم ينل من قلبها فحسب !
يامن أحرق هذا الجزء "الصامد" من روحها والذي كان يسندها في كل عثرة لتقف من جديد !

تعذره؟!
ربما لو كانت امرأة عادية لعذرته في ما صدقه وما فعله ...
لكن هي !
هي التي عشقته كل هذا العشق!!
ألم تكن تستحق مجرد فرصة ؟!
سنوات عمرها التي أضاعتها في حبه لم تكن تستحق بضع ثوانٍ ...فقط بضع ثوانٍ....يستمع فيها إليها قبل أن يصدر حكم إدانتها؟!
هل كانت لديه حقاً بمثل هذا الرخص؟!
بمثل هذه الضّعة؟!
وعند الخاطر الأخير انتفضت مكانها لتتلقف هاتفها وترسل إليه رسالة صوتية أقسمت أن تكون آخر ما يناله هو من كلماتها ...

_مفيش فايدة فيك...هتفضل طول عمرك أناني مابتشوفش غير نفسك وشكوكك وبس...واللي زيك عمره ما يحب ولا يستاهل يتحب...أنا بكرهك وبكره نفسي عشان حبيتك .

ولم تكد ترسلها حتى انهارت في البكاء من جديد ...
قبل أن تنتزع دبوس شعرها لتتناول بالوناتها ...
تفرقعها واحدة واحدة ...
الصوت على هنته كان يدوي كقنبلة في فراغ روحها ...
يصرخ بين جنباتها أنها أبداً...
أبداً لن تعود كما كانت ....
========




سمية سيمو غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 03-04-20, 12:38 AM   #1518

سمية سيمو


? العضوٌ??? » 396977
?  التسِجيلٌ » Apr 2017
? مشَارَ?اتْي » 4,356
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
?  نُقآطِيْ » سمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك action
?? ??? ~
keep smiling
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي


القطعة التاسعة عشرة
**********

_عايزين نوضب الأوضة دي ...يامن هييجي يعيش معانا.

قالتها نبيلة بنبرة عجيبة مزجت سعادتها بعودة ابنها لحضنها مع حزنها على حاله ...
نفس الشعور الذي وجد صداه في قلب كل من هانيا ورانيا اللتين كانتا تدركان معنى قبول يامن بالإقامة هنا أخيراً !
يامن الذي لم يفعلها يوماً ...
طالما استقل بحياته مقدماً له دعمه لكن دون أن يسمح لأحد بالاقتراب من منطقته الخاصة ...
رضوخه للبقاء هنا يعني ببساطة أنه لم يعد قادراً على الصمود وحده ..
حتى ولو ادعى أنه يفعلها لمؤازرتهن في أحداث حياتهن التي ساءت مؤخراً !

_هيبيع بيته الثاني؟!
سألتها رانيا بأسى متذكرةً ما أخبرتها به نبيلة منذ قليل والتي تنهدت بحرارة لتجيبها :
_قالهالي كده في وسط الكلام...وما رضيتش أضغط عليه في تفاصيل.
_عين العقل.

قالتها هانيا وهي تزيح بعض الأغراض من مكانها في الغرفة مردفةً:
_لازم يقطع على نفسه الطريق ده ...لازم يرمي ورا ظهره أي حاجة تفكره بيها ...قصتهم خلصت خلاص .
ترمقها رانيا بنظرة غير مقتنعة لتبتسم نبيلة ساخرة وهي تقترب منها قائلة بتعجب:
_انتِ مصدقة فعلاً على ياسمين الكلام اللي اتقال ده ؟!

_مصدقة واللا مش مصدقة الفضيحة دلوقت أمر واقع ...يامن هيرفع وشه في عين الناس إزاي ؟! وبعدين مااصدقش ليه ؟! ياما ناس اتخدعنا فيهم والزمن كشف حقيقتهم ؟!

قالتها بمرارة تقطر من بين حروفها وهي تتحدث عن مأساتها الخاصة ...
لتهز نبيلة رأسها قائلة بثقة :
_أنا بقا مش مصدقة على ياسمين الافترا ده ...بكرة يامن يعرف إنه ظلمها ...
ثم تنهدت لتردف بأسى حقيقي:
_بس ياريت وقتها ما يكونش فات الأوان .

ومن بعيد كانت داليا تسمع حديثهم بنظرات خاوية ...
تتحرك كالشبح وهي تشعر أنها ما عادت تكترث بأي شيئ أو أي أحد ...
كلهم منخرطون في مشاكلهم الخاصة وهي في سجنها الانفرادي هذا بلا أي هدف ولا غاية ...
يامن لا يحدثها منذ تلك الليلة مكتفياً بالسؤال عنها من بعيد مع توصياته بعدم خروجها من البيت ...
عقابها الذي اختاره لها كما تراه هي ...
وحيلته هو الأخيرة بعدما استنفد كل سبله معها فلم يعد لديه ما يحميها به من عنفوان طبيعتها التي لا يفهمها !

تناولت القليل من الشراب لتعود لغرفتها تاركةً لهم ثرثرتهم عديمة المعنى كما صارت تراها ...

تناولت هاتفها تبحث عن رسالة جديدة من "المجهول" كما تفعل كل يوم ...
لا جديد ...
يبدو أنه فقد احترامه لها بعد ما روته ...
لكن ...لا ...
هو قال لها أن صورتها في عينه -كما هي في قلبه - لن تتغير!
إذن لماذا تخلى عنها كالآخرين ؟!!

دموعها الصامتة تسيل على بشرتها فلا تكترث حتى بمسحها ...
تعاود التلاعب بهاتفها لتصطدم عيناها ب"اللعبة" التي تركتها منذ فترة...
لماذا لا تعود إليها ؟!
لعبة سوداوية غريبة تناسب مزاجها الحالي لعلها تضيف المزيد من الإثارة لحياتها المملة هذه ...
صحيح أنها تطلب منها بعض الأوامر الغريبة التي تصل حد الأذى الجسدي أحياناً ...
لكنها تمنحها الكثير من المغامرة...التشويق ...
عالمٌ افتراضي تختاره لنفسها لتهرب فيه من رتابة عالمها ...
تمتد أناملها نحو الشاشة من جديد ...
ليبدأ اللعب!
===========
صباح جديد !
ومن يهتم؟!
فلتذهب صباحات العالم للجحيم مع لياليه ...
هو فقط عمر يمضي ...فليمضِ كيفما شاء!

هذه الأفكار التي صارت تعتنقها -أو تقنع نفسها أنها تعتنقها- بعد ما كان!
ابتسامتها الباردة تلتصق بشفتيها وهي تغادر الفراش ...
نظرة عابرة للمرآة تكشف لها عن وجه شاحب وجسد زاد نحوله حتى بدت عظمتا ترقوتيها كنتوءين شديدي البروز ...
ورغم أن المشهد لم يكن يستحق مبالغة التقدير لكنها ضحكت ضحكة منفعلة وهي تتحسسهما ببطء ...
لتصطدم عيناها بعقده الملون هناك !
ألا يزال هذا هنا ؟!

تنتزعه عن عنقها بقوة أدمته لكنها لم تبالِ وهي تلقيه بعيداً ليصلها صوت انفراط أحجاره الملونة...

ذاك الصوت الرتيب لتدحرجها على الأرض الصلبة يكاد يصم أذنيها وكأنه يذكرها بسقوطها هي ...
سقوطها الذي بدأ...ولم ينتهِ بعد ...
ألا رحمةً بي أيها القاع فمثلي لم تنتظر يوماً سقوطاً !

_يوم تاني ممل؟! عايزين شوية "ساسبينس" كده !
قالتها ساخرة باردة مريرة بصوت مسموع وهي تتجه نحو خزانة ملابسها لتستخرج منها ملابسها المحتشمة كلها والتي دأبت على ارتدائها بعد طلاقها من رامي مباشرة ...
وقتها كرهت جسدها كما لم تفعل من قبل ...
لهذا قصت شعرها الطويل وأخذت قرارها ب"الحجاب"...
لا لم يكن في عينيها مجرد خطوة إيمانية ...بل كان تغطية لما نفرت منه من جسدها ساعتها!
والآن تجد نفسها تميل للعكس!
فضيحتها الآن تتناقلها الألسنة !
المرأة التي كانت قبلة الأنظار لجمالها ونجاحها وتألقها الآن تلوك سمعتها الألسنة !
حصاد عمرها الذي بذلت فيه روحها الآن تشتعل فيه النيران ليضحى رماداً تذروه الرياح !
يصمونها بشرفها ؟! حسناً ...فلتمنحهم ما يريدونه إذن !

انتهت أفكارها بنظرة عزم أججها يأسها وهي تتناول ملابسها هذه قطعة قطعة...
تمزقها شر ممزق وكأنما تفرغ فيها كل انفعالاتها ...
من حسن الحظ أنها تركت ملابسها التي تحمل ذكرياتها مع يامن هناك في بيته ولن تستعيدها ...
بل ربما من سوء الحظ !
أجل...ليتها تستطيع تمزيقها الآن مع كل ذكرى ...مع كل نبضة حب ...مع كل لحظة عاشتها ناسكة في محرابه !
ستفعل!
قسماً بمن ابتلاها بعشق مريض كعشقه ...ستفعل!
ستقتله في قلبها حتى ولو قتلت نفسها قبله !

هنا حانت منها التفاتة لخاتمه في إصبعها ...
عجباً !
ألم تكن تعشق الألوان ؟!
ألم تكن تراها بهجة البالونات وسحر الزهور ...ورونق قوس قزح؟!
ما بالها تراه الآن كوجه مهرج مزركش تخيفها عيناه ؟!!
حقاً...الألوان مجرد وهم تسعى خلفه أحزاننا تستجدي بُهرجَه الخدّاع ولو صدقنا أنفسنا لارتضينا منها لونين فقط...
"بياض" عطائنا و"سواد" خذلاننا !

وبهذا الخاطر الأخير انتزعت الخاتم من إصبعها ...
لا لن تلقيه على الأرض كعقده الملون ...

_تستاهل نهاية أحسن يا صغنن!
بنفس السخرية الباردة همست بها وهي تتحرك نحو المطبخ وبالتحديد نحو نافذته التي زرعت أمام سياجها نبتة صغيرة ...
نبتة ذبلت الآن بعدما أهملتها وجفت تربتها لتمنحها مظهراً متشققاً يشبه شقوق روحها هي ...
تناولت دورق ماء لتسقي الطين الجاف الذي تشربه بنهم...
قبل أن تقلبه بملعقة خشبية طويلة لتغرس خاتمه فيه وتردم عليه الطين!

_إكرام الميت دفنه ...واللي بيننا مات خلاص...عايزة أفضل فاكرة المشهد ده وما يطلعش من دماغي أبداً!

تمتمتها الباردة بدت كرفرفة طير ذبيح وهي ترفع أناملها التي تلطخت بالطين أمام عينيها ...
تماماً كحياتها كلها الآن...ملطخة !

رنين جرس الباب يخدش أذنيها ...
من عساه يكون؟!
لقد طردت الخادمة...وأمرت حارس الأمن بالأسفل ألا يسمح لأحد ..أي أحد بزيارتها ...
ردود فعل معارفها بعد ما كان تؤذيها ...كلها تؤذيها !
سواءٌ المستنكر فيهم والمصدق ...
سواءٌ المتعاطف فيهم والشامت ...
كلهم غرباء...بعيدون ...شاذون عن نغمة حياتها ...
أو ربما هي الشاذة التي ظنت أن لحن العمر قد يتسع للمزيد من جنون القلب!
لا يهم!
هي لا تريد أحداً...لا تحتاج أحداً...
لا تنقصها شماتتهم المزينة بشفقة مزيفة !

لهذا تجاهلت صوت الباب لما يقارب ربع الساعة حتى تشارك القرع العالي لخشبه مع رنين الجرس ...
تأففت بضجر عالٍ غريب على طبيعتها الهادئة لتعدو نحوه وقد أقسمت أن تفرغ في الطارق غضبها ...
فتحت الباب بعنف لتصطدم عيناها بعيني الطارق الذي رمقها بنظرة غريبة طويلة سبقت صمته المطبق ...

_جاي ليه ؟!
لم تكد تفيق من دهشتها حتى هتفت بها بخشونة لم يعتدها من طبعها الحليم رغم كل ما فعله بها قديماً...
لهذا ما كاد يسمعها حتى انعقد حاجباه بقلق ...
قلق ...لا غضب يُفترض من ردة فعل كهذه !

_جاي تتأكد من اللي بيتقال؟! جاي تسألني إن كنت خاينة واللا لأ ؟! جاي تطمن على سمعة بنتك اللي بقت في الوحل ؟!
كان صوتها يعلو تدريجياً مع كل سؤال تسأله بينما تلوح بذراعيها بانفعال وهي تتراجع عنه ...
تبتعد...تهرب ...في سابقة لم تعرفها من قبل معه !
كان يدرك بشعور الأب بداخله أنها لم تسامحه يوماً على ما فعل ...
لكنها كانت تداري هذا خلف قناع مرحها ...لباقتها...لطفها المهذب معه...
والآن يسقط القناع لتبدو من خلفه ندوب روحها المشوهة التي كانت تجيد مداراتها !

_واللا جاي شمتان فيّ عشان أنا اللي اخترت غلط المرة دي ...معلش...مرة عليك ومرة عليّ...انت اخترت رامي وانا اخترت ...

انتهت عبارتها بشهقة مكتومة وانهيارها المتوقع يأتي حتماً بعد كل هذه الثورة العارمة ...
الأرض تهتز تحت قدميها لكنها تشعر به يتلقفها ...
عناقه البارد يزداد دفئه لحظة بعد لحظة ...
لتجد نفسها تستسلم له مخفية وجهها في صدره كما كانت تفعل وهي صغيرة خائفة لا تدري أنها ستفقد لذة أحضانه هذه غدراً !

_لا جاي شمتان ...ولا محتاج أسأل...أنا عارف بنتي كويس...يمكن مش أنا اللي تعبت وربيت لكن عارف والدتك الله يرحمها ربتك إزاي...أنا أكدّب عيني ومااكدّبش ثقتي فيكِ.

كلماته الواثقة الحنون تخترق أذنها وتزيد حرارة بكائها ...
هذا بالضبط ما كانت تحتاج سماعه الآن !
واحد...واحد فقط يشعرها أنه معها ...يثق بها ...يؤمن بها ...
واحد فقط يُكذّب ألف عين وألف أذن ...ويصدق يقينه ببراءتها ...
واحد كانت تتمنى لو كان "الحبيب" الذي نذرت له عمراً ...
لكن لا بأس...لعل القدر يدخر ل"الأب" كفارة عن ذنبه القديم !

_لو مش عايزة تتكلمي دلوقت براحتك...بس أنا مش هسيبك غير لما أفهم ده حصل إزاي ...أكيد الفيديو ده مش حقيقي ...ولو حقيقي أنا واثق إن له بقية تبرأك !

من بين غياهب ظلماتها تتلقى عبارته كطوق نجاة !
كقبس ضعيف...ضعيف جداً...يزداد وهجه حتى يملأ ناظريك !
الثقة التي يتحدث بها ...اليقين الذي ينتقل منه إليها ...الأمان الذي يتسرب إليها بين حروفه ...
حسناً...هو على الأقل لم يخذلها هذه المرة !

ربما لهذا السبب تخلت عن وعدها لنفسها بكتمان تفاصيل هذا الأمر ...
حذرها المعهود -معه هو بالذات- ينهار أمام رغبتها الحقيقية في مشاركته حملها !
كلماتها مقتضبة...
تارة خجول وتارة غاضبة وأخرى عاتبة ....
لكنها كانت صارخة في كل حالاتها ...
صارخة بهذا البركان الذي دفنته في صدرها طوال هذه الأيام ليخرج فجأة عن قشرته ويهدر بلا رادع!

_كل ده كان بيحصل من ورايا ؟! كل ده استحملتيه لوحدك ؟! ليه ؟!
هتف بها أخيراً بمزيج من ذهول واستنكار قبل أن يهز كتفيها بعنف مردفاً :
_كنتِ مستنية إيه عشان تعرفيني؟! عشان تسمحيلي أكون أب بجد مش مجرد اسم في بطاقتك ؟! إيه اللي كان في دماغك الناشفة دي وانتِ بتخبي؟! كنتِ بتعانديني واللا بتعاندي نفسك ؟!
لتكتسب كلماته المزيد من الحسرة باستطراده:
_للدرجة دي كنتِ شايفاني بعيد ؟!

عادت دموعها تنهمر غزيرة وهي تنتفض بين ذراعيه ...
هاقد تهاوت آخر سدود كبريائها !
حتى تماسكها المزعوم ما عادت قادرة عليه !
وهاهي ذي تقف -بعد طول مكابرة- بلا حول ولا قوة !
كل ما فيها يجثو على ركبتي يأسها فكيف تدعي الوقوف برأس مرفوع؟!

بينما ظل هو مصدوماً لدقيقة كاملة يتفحص ملامحها بمزيج من غضب وندم !


_المهزلة دي لازم تقف...جوزك لازم يعرف الحقيقة .
هتف بها بحزم لتتمتم هي بين دموعها :
_طلقني!

اتسعت عيناه بصدمة للحظة قبل أن يكز على أسنانه محاولاً كظم غضبه بقوله :
_أي راجل مكانه كان هيعمل كده خصوصاً إنك ما عرفتيهوش الحقيقة.
_ومش هاعرفه !
قالتها بإصرار بدا غريباً وسط حالة الوهن التي تملكتها ...
لكنه لم يكن في حالة تسمح له بمزيد من عنادها الغبي!
لهذا هتف بها بنفاد صبر :
_برضه لسه هتمشي بدماغك ؟! برضه هتقوليلي كرامتك مانعاكِ تقفي في موقف دفاع؟!
_يمكن تشوفها كرامتي اللي ماسمحتليش ادافع عن اتهام بشع زي ده مادام ادى لنفسه فرصة يصدقه ...ويمكن تشوفها حسرة على حبي اللي ماقدروش ...اللي ماساواش فرصة يسمعني قبل ما يتخلى عني في المصيبة دي لوحدي ...
قالتها بنبرة جامدة وسط فيضان دموعها الصامت الذي لم يجف ...
لتردف بنبرة أقسى:
_ويمكن ...مجرد ذكاء ...اني ما بحبش أراهن علي حصان خسران ...بعد اللي حصل كل اللي بيننا انتهى...يامن اللي اعرفه ممكن يبيع اي حد قصاد لحظة شك ...أي حد مهما كان رصيده .

_ولما انت عارفة كده اتجوزتيه ليه بعيبه ده؟!
سألها بعتاب لم يغادره حنانه وقلبه يتآكل حسرة على تلك التي انطفأت فجأة كنجم أسر العيون بريقه قبل أن يهوي فجأة محترقاً ...
لتجيبه بنزف كلماتها الموجع:

_عشان لما الدنيا اسودت في عيني ...لما كرهت نفسي وكرهت الناس ...هو بس...هو بس اللي كان فاضل له في قلبي مكان ..هو بس اللي كنت واثقة إنه هيقدر يرجع لي عمري اللي فات ...ويرجع لي نفسي اللي ضاعت مني .

أغمض عينيه تأثراً وهو لا يدري بماذا يصف شعوره الآن ...
جزء من أبوته يشعر بالغيرة على قلب ابنته الذي وجد في غيره ملاذاً عندما ضاقت به السبل ...
وجزء آخر يشعر بالحسرة على ما آل إليه حالها ...
لكنه وسط هذا وذاك لا يملك شعوره -كرجل بعيداً عن قلب الأب- بأن يعذر يامن !
لهذا عاد يسألها بغضب مكتوم :
_ولما انتِ عارفة طبعه ليه كدبت عليه لما سألك عن زين ده؟!
_مكنتش أعرف إن فيه فيديو زي ده متصور ...كنت فاكراها مجرد حكاية وخلصت ...وبعدين كنت عايزني أقولله إيه ؟! وحتى لو كنت قلت له الحقيقة تفتكر كان هيصدقني؟! ولو حصلت المعجزة وصدقني تفتكر شكل حياته معايا كان هيبقى إيه ؟! ده بني آدم بيشك في خياله ...لو كنت اعترفت له كنت هاعيش معاه في جحيم .

هتفت بها مدافعة وهي تتراجع عنه بظهرها ملوحة بذراعيها ...
عيناها الزائغتان تفضحان تشوشها ما بين حقيقة وخيال ...
ربما لو كانت في وعيها الكامل لما سمحت لنفسها أن تظهر أمامه ...أو أمام أي أحد بهذا الضعف...
لكنها كانت حقاً تتهاوى ...تتآكل ...
كيانها المميز الذي يرنو للكمال ...الذي كان يجيد ترميم نفسه بنفسه كل مرة ليقوم من عثرته ...الذي اعتاد نظرات الفخر والإعجاب ممن حوله...الآن يتساقط أمام فضيحة ليست كأي فضيحة...
الآن يخجل من الاعتراف بخطيئة -لم يتمها- لكن تكفيه مجرد النية ليكره هذا الشعور بضآلته !

زفر بقوة وهو يشيح بوجهه لتقع عيناه على غرفتها المفتوحة حيث ملابسها التي مزقتها ...
فاضطرب قلبه بجزع وهو يدرك أن أقسى ما يواجه ابنته الآن ليس فضيحتها ...
ولا حتى طلاقها ...
بل هي نفسها!

ياسمين التي يعرفها لم تكن لتكترث لألف فضيحة بل كانت ستسعى لانتزاع احترام الناس وإعجابهم من جديد كما كانت دوماً تفعل ...
لم تكن لتكترث لرحيل شخص...أي شخص...حتى ولو زعمت له حباً كهذا الذي تحكيه عن يامن...
لكن من أمامه الآن واحدة أخرى ...واحدة فقدت هويتها وصارت تتخبط بين جدران لا مرئية ...
تبدو مجنونة لكنها فقط ...مجروحة ...
الجرح هذه المرة أكبر كثيراً من تحملها !

لتكمل هي له نسيج أفكارها بقولها بنفس اللهجة المشتتة:
_أملي الوحيد كان فيه هو ...إن هو نفسه اللي يقول لا ...هي ماتعملهاش...إن رصيدي عنده كان يبقى أكبر من شكوكه ...لكن للأسف كانت حرب خسرانة...خسرانة.
انتهت كلماتها بدفقة أخرى من دموعها بينما تنكس رأسها وكأنه مجرد إشارة أخرى لهزيمتها في معركة لم تكن أهلاً لها ...
فتنهد الرجل بعمق ليقترب منها هذه الخطوات التي ابتعدتها ...
ذراعاه يطوقانها من جديد وأنامله تربت على رأسها برفق مع كلماته التي تعمدها بطيئة واثقة:
_أكدب عليكِ لو قلت لك إن مفيش حاجة بيننا اتغيرت ...من النهارده مش هاقدر أسيبك لوحدك...مش هآمن عليكِ زي زمان ...لكن الحاجة الوحيدة اللي مش ممكن تتغير هي ثقتي فيكِ انتِ...مهما حصل هتفضلي بنتي اللي بفتخر بيها وبنجاحها وبقوتها اللي ما بتتهزش أبداً.
======
فتح عينيه فجأة ليجد نفسه مقيداً على أحد الكراسي في غرفة حقيرة بلا نوافذ ...
شحب وجهه وهو يرى تلك الأفعى تزحف هناك بعيداً عنه قليلاً لكنها كانت كافية ليرتجف قلبه رعباً ...
ما الذي وصل به إلى هنا؟!
آخر ما يذكره أنه كان عائداً لبيته في سيارته قبل أن تقطع عليه الطريق سيارة أخرى ليصطدم بها ...
هل فقد وعيه ونقلوه إلى هنا ؟!!
السؤال هنا...من هم ؟!!

حاول النهوض من مكانه بسرعة فقد كانت قدماه حرتين لحسن حظه...
ليفاجئه الصوت الذي دخل لتوه من الباب :
_لا لا...ما تنرفزهاش بحركة عنيفة....شايف خضيتها إزاي؟!

ازداد شحوب وجهه وهو يراقب الأفعى التي توقفت عن الحركة فجأة لينساب لسانها بهذه الحركة المتراقصة المخيفة ...
والتي جعلت مفاجأته بصاحب الصوت تقل أثراً ليهتف برجاء مثير للشفقة :
_زين بيه ...احنا من امتى بننزل للمستوى ده ؟! لو جرالي حاجة انت هتبقى أول مشتبه فيه ...بعد الفيديو اللي نزل ...اعقلها كويس.

لكن زين ظل واقفاً مكانه ليقول بنبرته الواثقة الخالية تماماً من أي انفعالات :
_مشتبه فيه ؟! ليه تفكيرك يروح للحاجات الوحشة دي؟! هي فين الجريمة عشان ندور على المشتبه فيهم؟!
ارتخت ملامح رامي ببعض الارتياح لكنها عادت تتشنج عندما أردف زين بنفس النبرة :
_واحد سايق عربيته على طريق مهجور عطلت بيه وطلع له تعبان خلص عليه ...خلصانة بشياكة !

اتسعت عينا رامي بارتياع وهما تنتقلان من ملامح زين الباردة للأفعى التي بدأت زحفها الحثيث نحوه ...

_فكني يا زين ...خرجني من هنا وهاعملك اللي انت عايزه ...
صرخ بها بخوف وهو يحاول التراجع بكرسيه للخلف ...
لكن زين ظل ثابتاً مكانه وكأنه يستمتع بنظرات الخوف هذه في عينيه ...
قبل أن يقول بنبرته المهيمنة :
_اللي عايزه منك كتير ...هنبدأها بأنك تعرفني على التفاصيل...مين بعتلك الفيديو ؟! وليه دلوقت بالذات اخترت تنشره ؟! كل حاجة...كل حاجة عندك عن الموضوع ده عايز أعرفها ...وياريت بسرعة عشان مصلحتك.

امتقع وجه رامي وهو يراقب حركة الأفعى برعب لينطلق لسانه في البوح بكل تفاصيل اتفاقه مع سيلين ...
وكيف أرسلت له صورة زين مع ياسمين عن طريق مساعدة الأخيرة في المطعم والتي كانت تعمل لحسابها .

عقد زين حاجبيه للحظات ليسأله :
_ومين بعتلك الفيديو ده ؟!
_معرفش...يمكن حد من اصحابي اللي كانوا حاضرين الحفلة ...صدقني مااعرفش...كفاية كده يا زين ...فكني ...
هتف بها رامي بانهيار وهو يرى التفاف الأفعى حول قدمه ...
عيناه تتسعان بهلع وهو يراها ترفع رأسها في وضع الانقضاض قبل أن يغلقهما بقوة ...
صوت رصاصة مدوية يقتحم رأسه فيفتح عينيه بسرعة ليرى انتفاضتها الأخيرة تحت قدميه ...

تصبب العرق غزيراً على وجهه وهو ينهار ليجلس على الكرسي الذي اختل توازنه به للحظات قبل أن يستقر وهو فوقه عاجز عن تمالك أعصابه ...

بينما أعاد زين مسدسه لجيبه قائلاً بنفس النبرة الثلجية :
_كده خلصنا أول مرحلة....ندخل بقا ع التانية .

قالها وهو يشير للخارج نحو أحد رجاله الذي تقدم من رامي المذعور وقد تحفزت خلاياه للقادم ...
لتزداد ارتجافته وهو يرى الرجل يحل وثاقه ...
قبل أن يخلع زين سترته ليناولها إياه فيختفي من الغرفة تماماً ...

هنا تقدم زين منه وهو يفك زر إسورة قميصه قائلاً بصوته الذي ازدادت نبرته خطورة :
_إن جيت للحق...انت ليك عندي حق عرب ...أنا برضه اعتديت على بيتك في لحظة طيش...ما تيجي نصفي حساباتنا راجل لراجل...أنا قدامك أهه...
انتهت عبارته بلكمة مفاجئة صرخ لها رامي بألم بينما زين يردف بنبرة ظهرت أخيراً انفعالاتها الهادرة:
_انت عارف من امتى نفسي في اللحظة دي؟!...ما ترد ...رد ...واللا انت ما بتسترجلش إلا على الستات!


أتبع عبارته بلكمة أخرى حاول رامي ردها لكن زين كان يفوقه قوة واستعداداً...
ضرباته هذه التي تمناها من زمن ...
منذ كان يرى آثار اعتداءاته على ياسمين ...
ياسمين التي ود لو تنتفض لكرامتها من أول اعتداء لكنها كانت تعود للمحاربة في معركة خاسرة من اعتذاراته ووعوده !

_كفاية .. كفاية !
صرخ بها رامي بألم وهو ينثني على نفسه محاولاً اتقاء الضربات ...
ليتوقف زين لاهثاً للحظات قبل أن يقول له بين لهيب أنفاسه :
_ماشي...كفاية...
ثم مال عليه بحركة مفاجئة ليهمس أمام عينيه المذعورتين بصوته المخيف:
_زي ما عملت المصيبة دي تتصرف وتحلها...تنزل اعتذار على صفحتها...تقول إن الفيديو متفبرك ...تتنطط ...تتشقلب ...مش شغلي ...المهم تبرأها زي ما فضحتها ...وإلا ورب الكعبة ما هاخللي الدبان الأزرق يعرف لك طريق.
=======
_نصابين!
هتفت بها زميلتها في القسم حيث تجلسان معاً على أحد المكاتب وهي تلوح بهاتفها بعصبية لتسألها هانيا :
_فيه إيه؟!
_موقع على النت بيبيع لانجيريهات ...عارضين موديل عجبني ...طلبته وبعتوهولي...لقيته بشع...لا خامة...ولا شكل...غير الصورة خالص...شوفي!

اتسعت عينا هانيا بارتباك والحمرة تتسرب لوجنتيها مع مرأى القميص الفاضح -كما تراه - ...
تغمض عينيها تلقائياً بمزيج من خجل وغضب ...
قبل أن تفتحهما وهي تتأمل زميلتها بالكثير من الدهشة ...
فقد كانت منتقبة لا ترتدي سوى الأسود حتى كفاها مغطيان بالقفازين!
لم تتصور أبداً أن امرأة "فاضلة" مثلها يمكن أن ترتدي مثل هذه الأشياء ولو في بيتها!
ماذا حدث في هذا العالم ؟!
ألم تعد النساء يفكرن سوى في هذه الأشياء؟!!!

الاستنكار الذي ملأها جعلها تهتف في وجه صاحبتها دون تحفظ:
_معقول؟! انتِ تلبسي حاجة زي كده ؟!
_وفيها إيه ؟! وأنا بلبسها لحد غريب ؟! ده جوزي!
قالتها صاحبتها بدهشة لتستمر هي في هتافها المنفعل:
_وعشان هو جوزك تقللي احترامك قدامه ؟! هي دي الست من وجهة نظركم ؟! هو ده المطلوب منها؟! جارية بتعرض جسمها عشان شهريار يتفرج ويتبسط ؟! تفرق إيه الست اللي تعمل كده عن أي بنت ليل يتبص لها عشان شكلها وبعدين تترمي في الآخر للكلاب؟!

تجمدت ملامح المرأة التي لم تتوقع هذه الإهانة من شخصية كهانيا...
قبل أن تضيق عيناها بتفهم لتتمتم:
_آه...فهمت.

لكن هانيا لم تسمعها وقد غرقت في شرودها في ذكرى طفت لذهنها فجأة من ماضيها ...

_ضربتِ زميلتك بالقلم ليه ؟!
تقولها الأخصائية الاجتماعية في مدرستها الثانوية معنفة إياها لتهتف هانيا مدافعة :
_هي اللي بدأت...خلت البنات كلهم يتريقوا عليّ.
_ما اتريقتش...كنا بس بنتكلم على صورة خالتها في الفيلم الجديد...هو الحق يزعل؟!
تهتف بها زميلتها بسماجة وهي تلوح بصورة بيللا بثوبها المكشوف الذي زادته وقفتها الإغرائية جرأة ...
لتنقل المرأة بصرها بينهما للحظات قبل أن تنتزع من زميلتها الصورة لتهتف بنبرة زاجرة :
_ارجعي انتِ فصلك .
الفتاة ترمقها بنظرة مستهجنة متوعدة قبل أن تغادر لتجذبها الأخصائية من يدها فتجلسها أمامها قائلة :
_هي فعلاً بيللا تبقى خالتك؟!
تفرك كفيها بارتباك وهي تود لوتنشق الأرض وتبتلعها ...
تشد تنورتها الطويلة تتأكد أنها تغطي ساقيها ...
تعدل حجابها فتسدله ليغطي مقدمة صدرها...
سؤال المرأة لم يزد في عينيها عن "اتهام"...
اتهام دفعته بهتافها المنفعل:
_آه خالتي بس مالناش علاقة بيها .

ترمقها المرأة بنظرة مشفقة طويلة قبل أن تقول لها ب-ما ظنته نصيحة-:
_أنا ماليش أتكلم في حاجة عائلية...ولا هتكلم عن خالتك...بس هاتكلم عنك أنتِ...البنت المحترمة اللي زيك ماتمدش إيدها على حد...ما تخليش حد يستفزك بحاجة مالكيش ذنب فيها ...أنا مش هعاقبك لأني عارفة أخلاقك ...بس ياريت تثبتي على موقفك...
ثم وضعت الصورة على المكتب مقلوبة على ظهرها بحركة ذات مغزى لتردف بما ظل محفوراً في ذهنها:
_البنت المحترمة تلبس زيك كده وماتديش فرصة لأي حد يجيب سيرتها.

_هانيا!
انتزعتها بها زميلتها من شرودها وهي ترى بوضوح حركة صدرها المضطربة لتلتفت نحوها بحدة فتبتسم المرأة قائلة :
_شكلي نرفزتك وفكرتك بحاجة ضايقتك.
قالتها المرأة ببعض الإشفاق وقد أدركت أن طلاق هانيا قد يكون بسبب كهذا ...
هانيا التي أشاحت بوجهها وهي تشعر بالاشمئزاز من مجرد تصور المرأة ترتدي شيئاً كهذا !
المرأة التي كانت متفهمة كثيراً فيما يبدو وهي تقترب منها أكثر لتقول لها بنبرة ودود:
_مشكلة بعض الناس في مجتمعنا إنهم ساعات بيسرفوا في توجيه البنت للأخلاق للدرجة اللي ممكن يخلليها تتجاهل أنوثتها ...تتكسف منها وتعتبر اهتمامها بيها سفالة و قلة حياء حتى لو في إطار شرعي سليم...
ثم صمتت لحظة لتردف :
_مش عيب ولا حرام...ليه تبصيلها إنها قصة جارية وسيد...ليه ما تبصيلهاش إنك كده بتعفّي زوجك ...بتحميه من إنه يدور بره على اللي مش لاقيه جوه...بتسدي عليه طرق الشيطان اللي بيزينله الغواية...ليه ما تقوليش إنها صورة تانية للتعبير عن الحب...بالظبط زي ما بتزوقي الهدية قبل ما تقدميها ؟!

التفتت نحوها هانيا ببطء وحديث زميلتها يفتح لها ثغرة ضعيفة وسط جدار قناعاتها المصمت ...
ثغرة اتسعت شيئاً فشيئاً مع استطرادها:
_ده عمره ما كان قلة قيمة ولا عدم احترام...للأسف احنا في زمن فتن...الرجل بيشوف حواليه في كل حتة ستات من كل شكل ولون...لو غض بصره ألف مرة غصب عنه مرة عينه هتشوف...هتشتهي...هتقارن...ليه ما تساعديهوش إن المقارنة دايماً تكون في صالحك؟!
_فيه رجالة ما بيملاش عينها إلا التراب... وبعدين الراجل اللي يسمح لنفسه أصلاً يقارنني بغيري ما يستاهلنيش!

قالتها بقهر وعيناها تدمعان رغماً عنها ...
كل ما تدعيه من صلابة ينهار بداخلها عندما تتخيل أن رامز قد استبدلها بهذه البساطة...
وبمن؟! بصديقتها؟!
ربما كان شعورها بالإهانة...بالغدر...برثاء الذات هو ما يغلب عليها في البداية...
لكن رويداً رويداً...يوماً بعد يوم...تدرك أن هذه المرارة في حلقها أقوى من هذا...
إنها -وياللعار- تغار!
إنها -وياللمصيبة- تفتقده!
إنها -وياللخيبة- تحتاجه !
لكنها -وياللفخر- قادرة على تجاهل كل هذا لتمضي قدماً في حياتها وكأن شيئاً لم يكن !
وكأنها لا تجد بداخلها روحاً تتفتت...
كفاها انتصاراً أنها كانت على حق عندما كانت تكبل مشاعرها معه ...
على الأقل هي لم تخسر كبريائها معه بأي صورة ...
وهذا هو المهم !
فليذهب الحب للجحيم...
وليحمل معه "صداقة" لم يعد لها معنى في هذا الزمان!

_أكيد .
هتفت بها زميلتها موافقة لرأيها فانتزعتها من لجة أفكارها لتردف بابتسامة واسعة:
_بس الحب زي الحرب...كل الأسلحة مباحة عشان تضمني النصر.
_أنا ما بحاربش عشان حد ....أنا في حد ذاتي نصر!

هتفت بها بما بدا شديد الغرور لكن لمعة عينيها الدامعتين فضحت حقيقة وهنها ...
هنا شعرت زميلتها بعقم الحوار فقامت من مكانها لتقول لها بود :
_احنا مش مختلفين...الحكاية بس إن كل واحدة فينا شايفة الموضوع من وجهة نظر معينة...معلش هستأذنك أروح أشوف حاجة.

غادرتها زميلتها لتتابعها بنظرات بدأت متنمرة معاندة قبل أن ترق تدريجياً لتتلون بألم خالص...
صراع نفسها يشتد وهي تشعر بالحلقة حولها تضيق...
هل هي حقاً مخطئة ؟!
هل كانت هي من دفع رامز بعيداً عنها؟!
هل يقتصر الحب على بضع كلمات لعوب وثياب ساخنة ؟!
هل قيمة المرأة في مجرد دلال وميوعة ؟!

يبدو أن الإجابة "نعم" وإلا لما تركها رامز ليهرع لغادة !
غادة؟!!
غادة!!


هل تتخيل أم أنها حقاً تتقدم الآن نحوها من الباب المفتوح؟!
بخطوات ثابتة قوية ...
بنظرات حملت مع العتب شيئاً من الامتنان لعهد قديم...
وبمظهر متحفظ غريب على طبيعتها ...
هل ارتدت حجاباً ؟!
رامز جعلها تفعلها ؟!
هل يغار عليها إلى هذا الحد ؟!
الخاطر الأخير وحده جعل النار تشب فجأة في ضلوعها لتنتفض مكانها صارخة بحدة غير آبهة بالمكان :
_انتِ بتعملي إيه هنا؟!
والجواب أتاها هادئاً...
عاتباً...
ودوداٌ...ومؤلماً !
_جاية لصاحبتي!
========
صاحبتي!
الكلمة -على بساطتها- أشعلت براكين صدرها واحداً تلو الآخر !
جعلت دموعها -العزيزة- تتأرجح على ضفاف جفنين لايزالان متشبثين بعناد الكبرياء ...
هل افتقدت حب رامز فحسب؟!
ألم تفتقد شيئاً آخر؟!
صداقتها لغادة لم تكن مجرد صحبة عابرة ...
لم تكن مجرد تآلف امرأتين بمشاعر سطحية ...
صداقتهما كانت نوعاً من رمزية "اليين واليانج" الصينية الشهيرة...
حيث لا أبيض مطلق ولا أسود مطلق...
كلتاهما تكمل صاحبتها لتلتئم دائرة روحها كاملة !

ربما تبدو هانيا القوية المسيطرة الجافة بينما غادة تشكل الجانب الضعيف اللين الخانع...
لكن كلتيهما كانت تدرك أن خلف هذه "الدائرة الخارجية" الخادعة توجد روح أخرى مغايرة...
قد يبدو الأمر وكأن غادة كانت المستفيدة من دعم هانيا وقوتها لكن الحقيقة أن غادة هي الأخرى كانت تغذي بداخل هانيا شعوراً تحتاجه...
شعوراً أقرب للأمومة ...بمزيج المسئولية والحنان!
صداقتهما كانت مرآة لكلتيهما ترى فيها كل واحدة الصورة التي تنقصها...وتتمناها سراً !

والآن ما عاد مجال للأسرار ...مرحباً بالمواجهة !

_إيه ؟! جاية تعزميني على الفرح؟!
هتفت بها هانيا ملوحةً بكفها بسخرية حادة وقد بادرت بالهجوم كما يتوقع ...
لكن غادة التي خلعت عنها رداء الخنوع لم تنكمش خوفاً كعادتها بل استمرت في التقدم نحوها لتقول بنفس النظرة غزيرة المعاني:
_انتِ مصدقة نفسك ؟! انتِ متخيلة إني فعلاً ممكن أعملها؟!

ولأول مرة في تاريخ صداقتهما تنقلب الأدوار!
خانة "الضعيف" التي طالما احتلتها غادة الآن تنحشر في زاويتها هانيا...
بينما تتولى غادة زمام المبادرة وقد صارت أمام هانيا تماماً ...
تناظر عينيها الزائغتين لتلقي برمية أخرى:
_واللا انتِ صدقتِ بس اللي كنتِ عايزة تشوفيه ؟! عشان تثبتي لنفسك إنك صح وإنه كان معاكِ حق لما قفلتِ على قلبك طول العمر ده ؟!

اتسعت عينا هانيا بصدمة ليتراجع رأسها للوراء ...
لتلقي غادة برمية جديدة وهي تشير بسبابتها نحو صدر هانيا مكان قلبها تماماً:
_ده عايز يحب...بس خايف يفقد اللي بيحبه بعد ما يتعلق بيه...
سبابتها تنتقل نحو رأس صديقتها لتلقي بالرمية التالية ...
_وده بيقول له لأ...الحب ده لعبة خسرانة...طموحك...كبرياءك...مك? ?نتك...شغلك ...هو ده النجاح الحقيقي...

ثم تفرد كفيها في وجهها لتردف بنبرة أكثر شدة :
_يبقى إيه الحل ؟! رامز يطلع خاين...انتِ تطلعي صح...وتطلعي نفسك من الحرب دي .

لكن هانيا تسترد بعض قوتها لتهتف بمكابرة:
_أنتِ بتجادلي في إيه ؟! أنا سامعاه بوداني وهو ب...
_بإيه ؟! بيقوللي إني جميلة ؟! كام مرة قالهالي قدامك مجاملة وكنتِ بتعديها ؟! قاعد معايا في مكان عام ؟! كام مرة خللتيني أخرج معاكم وكنتِ ساعات بتسيبينا لوحدنا؟! كام مرة خللتيه يوصللني بالعربية واحنا راجعين من الشغل لوحدنا؟! فجأة حسيتِ بأن الوضع غلط ؟!واللا انتِ اللي كنتِ مستنية الفرصة عشان تشوفي الغلط غلط ؟!

آه...هدف!
يبدو أن غادة أحرزت أول هدف في هذه -المباراة الكلامية -...
وهاهي ذي هانيا تفقد أعصابها تماماً لتهتف بينما تغطي وجهها بكفيها :
_ده قاللي بمنتهى البجاحة إنه جايبك هناك عشان يعرض عليكِ الجواز !

ولازالت غادة سيدة الملعب بضرباتها المتوالية ...
حيث أزاحت كفي هانيا عن وجهها لتتوهج عيناهما المتقابلتان بشرر الحقيقة :
_ما تضحكيش على نفسك ...جزء جواكِ كان متأكد إنه مايقصدش اللي قاله ...وإنه اتهور كالعادة عشان يرد عِند بعِند...لكن كبريائك منعك تصدقي...كبريائك اللي خلاكي ما تشوفيش وقتها غير إنه بيقارن بينك وبين ست تانية...وهو هو كبريائك اللي خلاكي تدوسي على كل اللي بيننا عشان تشوهي صورتي وتفضحيني...لأنك وقتها ما كنتيش شايفاني أنا...ماكنتيش شايفة غير نفسك وبس...عموماً هاريحك وأقوللك إني كنت رايحة يومها أقابله عشانك...واحدة معنا في الشغل بترمي شباكها عليه...رحت أحذره منها وخفت أقوللك لأني عارفة دماغك...

الضياع الذي رسم أخاديده في عيني هانيا الشاردة يثير شفقتها فتتنهد بعمق لتردف :
_اطمني...رامز مابيحبش إلا انتِ...لا هي ولا غيرها.

الآن يتمكن الوهن من كلتيهما ...
"تعادلٌ " في دموع حارة تغشي الأحداق...
في ارتجافة الشفاه...
وجنون الخفقات !

يتبعه "انتصارٌ " ساحق لغادة فضحته عينا هانيا المذنبتين التي انسدل جفناها بينما تردف الأولى بهمس خفيض متوجع...وموجع:
_انتِ كتير وقفتِ جنبي...ساندتيني في أصعب مواقف حياتي...عملتيلي اللي محدش من أهلي عمله...كنتِ أختي وأمي وصاحبتي...ائتمنتك على اللي ماقلتوش لحد غيرك...وفي الآخر ...

قطعت عبارتها بما بدا مفهوماً ...
هذا الذي جعل هانيا تقرر "الانسحاب" تماماً لتعطيها ظهرها فجأة ودموعها تغرق وجنتيها بمزيج من ذنب وعجز...
دقيقة صمت تقتطع من وقت "المباراة"!
يتبعها هجوم جديد لغادة التي تحركت لتتملك هي زمام المواجهة من جديد ...
فتتلقى هانيا هجومها بآخر "خائب":
_وانتِ جاية النهارده عشان تعاتبيني؟!
_لأ...عشان أودعك قبل ما أسافر.

هجمة موفقة من غادة جعلت هانيا تتسمر مكانها قليلاً قبل أن تسألها بحمائية قلقة:
_تسافري فين ؟! اوعي تكوني هترجعي بورسعيد ؟!

ابتسامة شاحبة تتسرب لشفتي غادة ...
هانيا لا تزال هانيا رغم كل شيئ!
لهذا أطرقت برأسها قليلاً تتمالك صراع مشاعرها بين عتاب وامتنان ...
قبل أن تعاود رفعه لتقول بنبرة قوية راضية:
_لا مش بورسعيد...أنا سايبة مصر خالص.

نظرة القلق في عيني هانيا تتحول لذعر حقيقي...
أي غادة هذه التي تريد ترك مصر لبلد غريب وهي التي تغرق في شبر ماء ؟!
ستضيع حتماً!
وهي السبب؟!
الآن تنتبه أنها وسط غيمات علاقتها المتشابكة برامز لم ترَ في صديقتها سوى "وسادة قطنية" تفرغ فيها لكماتها الغاضبة ...
هي التي أخطأت عندما بالغت في إقحامها لحياتهما...
وعندما أرادت إخراجها اختارت الطريقة الأسوأ!
فضحتها بأسرارها كذباً وبهتاناً !

وبهذا الإدراك الأخير وجدت نفسها تمسك كتفي غادة تهزهما بقوة هاتفة :
_انتِ اتجننتي؟! هتسافري فين لوحدك ؟! انتِ فاكراها لعبة هتخاصميني وتستخبي !
هنا اتسعت ابتسامة غادة وهي ترفع كفيها تحتضن أنامل هانيا على كتفيها لتقول بنفس النبرة المتوازنة بين قوة وتسامح:
_أولاً...أنا لا مخاصماكي ولا رايحة أستخبى...أنا رايحة أشتغل....
ضاقت عينا هانيا بتساؤل لتردف غادة بتنهيدة ارتياح:
_وثانياً...مش لوحدي...عم أحمد الله يرحمه هيقابلني هناك...هو اللي دبر حكاية الشغل دي بعد ما والد أحمد طلب منه...والحمد لله جت في وقتها.

ورغم الارتياح العارم الذي كانت تتحدث به غادة لكن هانيا كانت تشعر بالعكس ...
ليس فقط خوفها على شخصية كغادة ....
لكنه أيضاً شعورها بالذنب لأنها توقن أنها السبب الرئيسي خلف هذا ...
وهو ما قرأته غادة بكل وضوح لتجيبها بينما تحرك كفيهما معاً لتضعهما أمام صدريهما في -حركة خاصة اعتادتا فعلها معاً منذ أيام الجامعة-...

_لو حاسة بالذنب ...ماتخافيش...أنا مش مسافرة هربانة...بالعكس...أنا مسافرة عشان ألاقي نفسي ...أبنيها من جديد زي ما أنا عايزة مش زي ما الناس عايزين يشوفوني...
ثم أخذت نفساً عميقاً لتردف :
_ولو خايفة عليّ...فأنا هسألك سؤال واحد بس...غادة اللي قدامك النهاردة غير غادة اللي تعرفيها ؟!

تفرست هانيا في ملامحها وهي تشعر بالإجابة تكاد تصرخ !
نعم ...
غادة هذه تختلف تماماً عن تلك الضعيفة المذعورة التي تتخبط بين عجز وخوف...
غادة هذه واثقة...راضية...تشع قوة وحيوية ...
لهذا عادت عيناها تدمعان وهي تومئ برأسها إيجاباً في رد قاطع لسؤالها ...
لتبتسم غادة وهي تعاود سؤالها :
_يتخاف عليها؟!


فتهز رأسها بالنفي وهي تجد نفسها تجذبها بقوة بين ذراعيها ...
تعانقها هذا العناق الذي ميز صداقتهما منذ عهد بعيد ...
عناق اختلط اعتذارها فيه بدموعها النادمة...
من هذا الذي اختزل الحب في علاقة رجل بامرأة ؟!
ها هي ذي أسمى معاني الحب في صداقة مزجت "ضعف"كل منهما ب"قوة" الأخرى!
عناقهما كان يكمل الصورة التي رسمها القدر لكلتيهما ...
متناقضان كسيران يجبر كلاهما صاحبه !

_خللي بالك من نفسك ...ابعتيلي أول ما توصلي .
هتفت بها هانيا وهي تبتعد أخيراً متجاوزة عن اعتذار تدرك -أحقيته- كما تدرك الآن -عدم جدواه-..
لتمنحها غادة ابتسامة ذات مغزى ناسبت قولها:
_وانتِ كمان ...ابعتيلي أول ما توصلي...
رمقتها هانيا بنظرة متسائلة عما تعنيه لتردف غادة بثقة :
_رامز طريق بدأتيه ولازم تكمليه.

وأخيراً تتركها خلفها مشتتة بأفكارها ...
ربما منحها القدر فرصة لترميم علاقتها بصديقتها ...
لكن يبقى الحب محظوراً ببطاقة حمراء خرجت بها من ملعب العاشقين !
=======
في مكانه المنعزل يقف مستنداً على مقدمة سيارته ...
هذا المكان الذي شهد كل انكساراته والآن يرى أعظمها ...
لم يكن يوماً شخصاً شاعرياً يكترث بالقمر والنجوم وهذا الهذيان عن جمال الليل وسحر السماء ...
لكنه في وقفته هذه على سطح هذا المرتفع...
وقد خلا المكان إلا منه...
لا يملك هذه الرجفة التي تسري في جسده وهو يرى القمر مقيداً بغمامة صفراء شاحبة جعلته يبدو كأسير حرب تنعيه نجومه حوله !

لقد كانت "الخائنة" تزعم أنها -مثله- تحب هذا المكان ...
تأتيه عندما تريد عزلة لأحزانها عن البشر ...
"كذبة" أخرى من كذباتها التي أجادت روايتها وأجاد هو الانخداع بها!

"الخائنة" التي لوثت ذكرياتها حياته كلها ...
بيته ...عيادته...عائلته...قريته...مد ينته...عالمه كله !
كيف له أن يحتمل طيف خيانتها الذي لون كل شيئ حوله فلم يعد يرى أي شيئ إلا بسواد جرحها ؟!!

"الخائنة" التي نجحت أخيراً في إنهاء صراع نفسه حولها ...
لم يعد يعاني كوابيسه بشأنها بعدما تصالح مع هواجسه...
هو ألبسها ثوب "الشيطانة" وانتهى الأمر!
انتهى الأمر؟!
بهذه البساطة ؟!
معقول؟!
كل هذه التفاصيل التي شاركته فيها ؟!
النادي القديم ...ضفيرتها الطويلة ...عشقها المخفيّ خلف كتاب...خباياه الصغيرة التي كانت تحفظها ...مذاقات طعامها بنكهة حب لم تمنحه له سواها...
رمزها الفريد لحرف الياء المميز ..."عقدة ماضيهما" المشتركة التي تقاسما عناءها وحصادها....لذة عناقها الذي كان يشعره أن قلبيهما يتشاركان النبض ...
ابتسامتها ...دعاباتها...نظرة عينيها التي كانت تسع كوناً بأكمله ...

كل هذا كان فقط مجرد خداع ؟!
واجهة أنيقة تخفي خلفها امرأة لعوب تجيد تبديل الرجال كما تبدل ملابسها؟!


_مش قلت لك قبل كده ؟!...كلنا سينابون...دواير لافة حوالين بعضها ...واللي يحكم ع الدايرة الخارجية بس يبقى غلطان .


هل هذا ما كانت تقصده عندما قالتها تلك الليلة ؟!
لسانها انفلت فاضحاً خبيئتها وهو فقط المغفل الذي كان يتجاهل كل إشارات عقله ؟!
انقطعت أفكاره عندما رن هاتفه برقم غريب ...
قلبه "الخائن" ينتفض من رقاده الطويل مترنحاً بدعائه أن تكون هي !
لكنه يخرس نداءاته بزفرة ساخطة وهو يفتح الاتصال بعنف:
_أيوة أنا دكتور يامن ...مين ؟!
الصوت الذكوري على الجانب الآخر من الاتصال يخمد ما بقي من نداءات قلبه فيستمع قليلاً ليرد بنبرة مشتتة :
_آه...حضرتك بتتصل بخصوص إعلان بيع البيت...هو بيت دورين ...له جنينة حواليه ...الدور الأول ريسبشن ومطبخ وأوضة كبيرة...والدور التاني ...

تهدج صوته فجأة ليقطع عبارته وهو يرى نفسه رغماً عنه محاصراً بذكرياته معها ...
ربما تكون هي فاجرة لكن هذه الذكريات تبقى أطهر ما عاشه هو !
ربما لهذا السبب يجب أن يتخلص من كل ما يحمله قسراً إليها ...
سيبيع هذا البيت رامياً خلف ظهره ماضياً جارحاً لا يريد تذكره بعد الآن ...

_تتفرج؟!

قالها أخيراً بنفس النبرة المشتتة والرجل يطلب منه معاينة البيت قبل شرائه ليجد عروقه فجأة تشتعل بغيرة لا منطقية وهو يرى بعين خياله رجلاً غريباً يفتح باب غرفة كانت يوماً لها ...
تتجول عيناه على فراشها ...تصافحان نفس المرآة التي كانت تحتضن جسدها ...
تتناول أنامله أدوات مطبخها ...يشم أنفه رائحتها العالقة بين الجدران...
تصعد قدماه نفس الدرج الذي تراقصت عليه خطواتها...

_لا!
هتف بها بحدة ليصمت محدثه قليلاً وكأنما ألجمته المفاجأة خاصة عندما أغلق الاتصال بقوله:
_أنا آسف...غيرت رأيي...مش هابيعه .

لاريب أن الرجل الآن يتهمه بالجنون ...
ماذا يضيره ؟! هو يشعر أنه حقاً في سبيله لهذا!
مجرد وفائه لذكرى خائنة مثلها ...جنون !
جنون لا حيلة له فيه إلا تجاهله !
ومن مثله يمكنه العيش بقناع اللامبالاة ؟!!

أعاد هاتفه لجيبه لتصطدم عيناه بخاتمها ذي الفص الأسود في بنصره ...


_مش عايزاك تقوللي إنك بتحبني...هاكتفي مؤقتاً إنك تقوللي إنك مصدق إني بحبك...وإنه مهما حصل مش هتشك يوم في ده .
_مصدقك .
_طيب قوللي أمارة...عشان لو في يوم من الأيام شكيت في كده...أفكرك بيها.
_تعرفي ؟! أيام كتير كنت بصحى من النوم أفضل في السرير ...ماليش مزاج أقوم...أقوم ليه ؟! أشتغل ليه ؟! أقابل ناس ليه ؟! أعيش أصلاً ليه ؟! مؤخراً بس بقيت لما أسأل نفسي الأسئلة دي ...ما بلاقيش غير إجابة واحدة بتخليني نفسي مفتوحة إني أقوم من السرير وأكمل يومي ...
_خلاص..يبقى كلمة السر هي الخاتم بتاعي ...يوم ما تنسى هافكرك بيه.
_مش هانسى!


لا...لم يخلعه...ولن يفعل!
سيبقيه في إصبعه لعله يذكره بسواد غدرها !
لعله يظل شاهد عيان يمنعه السقوط في هذا الشرك من جديد ...
يوماً ما كان خاتمها "الأسود" هو ما يعطيه دافعاً للحياة "معها"...
والآن يبقيه ليظل دافعه للاستمرار في الحياة "دونها"!
فياللمفارقة !

انقطعت أفكاره من جديد عندما شعر بسيارة تقترب ...
التفت بوجهه نحوها بعنف ولازال يتوقع أن تكون هي ...
لكنها لم تكن !
سيارة فخمة سوداء بنوافذ معتمة تقترب الآن منه ليترجل منها من ظهرا كحارسين شخصيين ...
فتح أحدهما الباب الخلفي ليترجل منه سيدهما...
آخر من يود يامن رؤيته في هذه اللحظة ...
بل في هذا العالم كله !
=========
_انت؟!
قالها من بين أسنانه وهو يتابع تقدمه نحوه ...
ربما لم يلتقِ به من قبل لكن ملامحه حفرت بالنار على جدران روحه ...
هو الذي ظل اسمه يؤرق لياليه بكوابيسه قبل أن تحتكر مشاهده -المهلكة- معها أرض عالمه المظلمة كلها !
لماذا جاءه ؟!
وهنا؟! هنا بالذات؟!
هل كُتب عليه أن تلطخ خيانتها كل بقعة تشتهيها روحه؟!

_معلش...اضطريت أراقبك الكام يوم اللي فاتوا عشان أختار مكان مناسب ينفع نتكلم فيه براحتنا...وأظن مفيش أحسن من هنا.

قالها زين بنبرته الرصينة التي تجمع هيمنة لا يدعيها مع لمحة طفيفة من ود خفي !
هل هذه طريقته في كسب من أمامه؟!
هل كانت هذه بدايته في إغوائها؟!
وسيم...ثري...شخصيته القوية تنفذ كاسحة عبر عينين صارمتين ...
أنيق بتلك الطريقة التي يبدون فيها على شاشة التلفاز ...
لم يكن يوماً ممن يتصفون بقلة الثقة لكنه يشعر حقاً الآن أنه غير كفء للمقارنة معه !

هذا الشعور الذي أورثه المزيد من الغضب ...
خلاياه كلها تصرخ برغبتها في قتله !
لكنه وأد هذا الشعور بإرادة من فولاذ ...
غضبه يعني أنها لا تزال شيئاً لديه...
وهو أقسم لنفسه أنها لن تكون في حياته بعد الآن أي شيئ!

لهذا تجمدت ملامحه وهو يقول بنبرته الساخرة :
_خير؟! ما اظنش فيه حاجة بيننا تستاهل الكلام.
تفحصه زين ببصره للحظات وهو يقترب منه أكثر وكأنه يدرس انفعالاته ...
ليقول بعدها بحذر:
_متأكد؟!
_اللي بيننا كان واحدة ست ...وخلاص طلقتها .

يعلم الله كم جاهد نفسه لينطقها بكل هذا البرود المستهجن !
جسده كله كان متصلباً ...يابساً...قبضتاه مضمومتان جواره وكأنه سيفتك به في أي لحظة ...
أسنانه تكاد تتحطم من فرط ضغطه عليها...
لكنه لن يسمح لنفسه بالمزيد ...

_هدوءك ده كويس جداً...يشجعني أتكلم في اللي جاي عشانه.
قالها زين بنفس النبرة وهو يشير لحارسيه إشارة ذات مغزى جعلتهما يبتعدان قليلاً كي يتركا لهما حرية الحديث...
ليهتف يامن بنفس السخرية الباردة التي اكتسبت الآن رغماً عنه بعض العدائية :
_عايز إيه ؟!
هنا اقترب منه زين أكثر متفحصاً ملامحه بدقة مع قوله:
_جاي أقوللك الحقيقة اللي مايعرفهاش غيري أنا وياسمين...وإذا كنت مش هتصدقها هي فأظن أنا ماليش مصلحة أكدب.

مجرد جمعه لنفسه مع ياسمين في جملة واحدة استنفر كل الغضب الذي كان يحاول كظمه منذ بدأ اللقاء...
نسف كل ما كان يدعيه من برود ...
وأحيا كل وحوش همجيته وهو يستعيد مشاهدهما التي رآها بعينيه !
زمجرة غاضبة تشق صدره لتخرج هادرة بعنف مع صراخه:
_وفر كذبك لنفسك ...قلت لك سبتهالك خلاص!

قالها وهو يدفعه بعنف حتى كاد يلقيه أرضاً قبل أن يستدير وقد قرر المغادرة ...
لكن زين استعاد توازنه سريعاً ليشد ذراعه هاتفاً :
_انت سمعت كتير الفترة اللي فاتت...مش هتخسر حاجة لو سمعت مني اللي جاي أقوله !

توقف يامن مكانه وقد بدا وكأنه ينفث النار من فمه !
هل لا يزال هناك متسع للمزيد من الأكاذيب؟!

_لا خنتك ولا خنته...ليلتها كنت رايحة له عشان ...عشان...أنا بعمل إيه ؟! بعمل إيه؟! بدافع عن نفسي قدامك ؟! قدامك انت؟! عن شرفي؟! عن حبي؟! بعد كل اللي بيننا ؟!


كلماتها تظهر من العدم لتنير في ذهنه فجأة!
ما الذي أرادت قوله وقتها ؟!
هل تحتمل اللعبة المزيد من الألغاز ؟!
فليدلِ دلوه إذن ولنرَ!

_الفيديو حقيقي مش متزور...بس له بقية...وبقيته ببساطة دليل براءتها اللي هنا...

قالها زين مشيراً لحاجبه فتفحصه يامن ببصره ليجد ندبة اختفى من مكانها الشعر ...
عقد حاجبيه بشدة بينما زين يردف بنفس النبرة التي خالطها الآن الكثير من الندم:
_كانت غلطتي أنا...أنا اللي اتجرأت عليها ليلتها واستغليت صدمتها في اللي شافته بعد ما ظبطت رامي مع واحدة في الحفلة...كانت بتسمع كتير عن خيانته لكن دي كانت أول مرة تشوفها بعنيها ...
ثم أشاح بوجهه ليردف:
_مش هانكر إني وقتها ضعفت...بس هي ماضعفتش...أنا خنت الثقة اللي هي ادتهالي كصديق...لكن هي ما خانتش...لا خانت رامي ...ولا خانت نفسها...ضربتني بشنطتها وجريت...ودي كانت آخر مرة شفتها فيها ...

فازداد انعقاد حاجبي يامن وهو يعجز عن التصديق ...
ليستطرد زين باستدراك مدركاً خطأه:
_أقصد قبل الأخيرة...المرة الأخيرة كانت في مطعمها بعد ما رجعت من السفر ...كنت رايح أعتذر لها بس هي تقريباً طردتني .
رمقه يامن بنظرة فاحت منها شكوكه وعيناه تنتقلان بتوجس بين جرح حاجبه وعينيه النافذتين ...
ليقول زين بينما يبسط كفيه أمام وجهه :
_حقك تصدق او ماتصدقش...القرار قرارك .

ظل يامن يرمقه بنظراته العاصفة وذهنه يدور في دوامات شتى ...
قلبه الذي كان ينتفض بين ضلوعه يصرخ الآن بتصديقه لروايته...
هي الرواية الوحيدة التي تتسق وفكرته السابقة عنها ...
لكن عقله يقف له بالمرصاد ...
هل ستسلم رأسك لهذا الهراء من جديد ؟!
أما اكتفيت من جحيم خذلانك؟!

ويبدو أن زين قرأ صراعه هذا في عينيه فقد أخذ نفساً عميقاً ليقول بنبرته المتملكة:
_أنا جيت النهارده اقوللك الحقيقة عشان عارف إنها بتحبك وانها يمكن...يمكن ...تكون اختارت الراجل الصح المرة دي ...لكن لو هتفرط فيها فانا بقوللك ...مش هاسيب فرصة ...اي فرصة تخليني أكسب قلبها ...مش هاضيعها من ايدي تاني .

قالها ملوحاً بسبابته في تصميم أفقد يامن صوابه ليتوجه نحو وجهه بلكمة أوقفها زين بقبضته...
هنا تحرك الحارسان ليفاجأ بهما يامن وكأنهما قد ظهرا من العدم يطوقانه بعنف لكن زين أشار لهما ليعاودا ابتعادهما بنظرات حذرة...
انتزع يامن يده من قبضة زين الذي قال بهدوئه المسيطر:
_لو عايز نمشيها بالعنف معنديش مانع...بس انت الخسران...
ثم ابتعد عنه بخطوات ثابتة ليردف :
_أنا كده خلصت كلامي ...فرصة سعيدة يا دكتور.

كاد يامن ينفجر غيظاً وهو يراه يركب سيارته بهدوء لتنطلق به مع حارسيه تنهب الطريق نهباً...
ماذا؟!
هل سينصرف حقاً بهذه البساطة؟!
بعدما قلب عالمه رأساً على عقب؟!
ماهذا الذي يحدث؟!
هل يصدقه؟!
لا!
هل يكذبه؟!
لا!
رباه!
أما لهذه المتاهة من نهاية ؟!
لا...ليست متاهة ...بل جحيم يكتوي به ولا يدري له مخرجاً!

_مادام مصدق عليَّ كده مش هاناقشك...مادام كل اللي بيننا طلع ما يستاهلش حتى إنك تسألني قبل ما تحكم عليّ يبقى مالوش لازمة...عايز تصدق إني خاينة زي كل الستات اللي عرفتهم ؟! صدق! ارجع لدنيتك السودة اللي بترتاح لها...ارجع لوساوسك وشكوكك وعينيك اللي مابتشوفش أبعد من نفسك وبس...حتى لو عرفت الحقيقة ورجعت لي ندمان...مش هسامحك...من اللحظة دي اللي بيننا انتهى .

كلماتها تعاود اختراق أفكاره كشهب من نار!
يكاد يسمعها بصوتها...باهتزاز صدرها الخافق بحسرته...بنظراتها التي مات عشقها لتحل محله أشباح الوجع...
قلبه يئن بجرحه وهو يرجوه الاستماع إليها...مواجهتها بهذا الذي عرفه...
يكاد يصرخ أنه يصدق براءتها فمليكته لم تكن يوماً خائنة...
هذا الحب الذي رفعه لأعلى جنان السعادة لم يكن سراباٌ ...

لكن سلطان وساوسه لايزال يبذر الوهم في عروقه...
كاذبة !
كذبت يوم أنكرت معرفتها بذاك الرجل...ليس مرة واحدة بل اثنتان!
ومن تكذب مرة...تفعلها ألف مرة ...
اثبت مكانك يارجل ...
هاهنا أرضك الصلبة وما دونها سراب وتيه !
=======
_عجبك الأكل؟!
تسأله نبيلة وهي تجده شارداً عقب تناولهم للطعام ليرده سؤالها لآخر مشابه كانت تسأله -أخرى- له...
أخرى أفسدت عليه مذاق حياته بعدما اختلطت رائحتها بدمه وعظمه فما عادت حواسه تستشعر الوجود إلا بنكهتها هي ...

_حلو...جداً...شكراً.
كلماته المقتضبة رغم جمودها كانت أكثر من مرضية ل"أمومتها" التي تحاول استردادها معه ...
هي تعرف جيداً ما يعانيه ...
ما مر به ولايزال يحرق صدره أقوى بكثير من تحمل أي رجل ...
فما بالها برجل لا ينقصه احتلال الهواجس والظنون !

لهذا تنهدت بحرارة وهي تجلس جواره على الأريكة ليبادرها بسؤاله :
_البنات عاملين إيه ؟!
عادت تتنهد بحرارة لتحتضن كفه بأناملها مجيبة:
_كان نفسي أطمنك بس أحوالهم مش عاجباني...داليا دايماً حابسة نفسها في أوضتها ...رانيا على طول بتعيط...هانيا بتكابر وبتعمل نفسها مشغولة في دراستها بس أنا عارفة إن هي كمان مش مرتاحة.

فأغمض عينيه بألم وهو يستدير نحوها ليدفن وجهه في طيات عناقها بمذاق حنانها "المستحدث"...
نقطة الضوء الوحيدة التي وجدها وسط ظلام أحداثه السابقة ...

_أول مرة أحس إن إيدي فاضية معاهم...مش قادر أعمل لهم حاجة ...أنا اخترت لهم اللي يحميهم ...الغلط فين ؟! فيّ واللا فيهم واللا في الظروف؟!

ضمته لصدرها بحنوّ مستلذة هي الأخرى بشعورها به بين ذراعيها ...
لتقول له بحيرة :
_مش عارفة...ساعات بقول لو كنت مكانك كنت عملت زيك...وساعات بفكر فيها من ناحية تانية...بقول الخوف ممكن يحمينا بس برضه بيحرمنا من حاجات كانت تستاهل نحارب عشانها .
ابتلع غصة حلقه مدركاً أنه مثلها لا يعرف الجواب ...
هو اختار الأرض الصلبة التي اعتادها طوال عمره ...
فلماذا تتزلزل الآن تحت قدميه ؟!!

صوت رنين الجرس يقاطع أفكاره فيلتفت نحوها متسائلاً :
_مستنية حد ؟!
تهز رأسها نفياً فيقوم ليفتح الباب ...

للوهلة الأولى لا يميز أي شيئ سوى هذا "الوجه" الصغير الذي طالما احتل كوابيسه ...
ملامحه المنمنمة...عيناه الواسعتان ...ابتسامته البريئة التي رجت قلبه رجاً...
لكنه انتزع نفسه من كل هذا انتزاعاً ليرفع وجهه نحو سيلين التي بادرته بقولها :
_مفيش حمداً لله على السلامة ؟!

عقد حاجبيه بضيق لم يستطع كتمانه ...
هل تنقصه سخافات هذه الأخرى؟!
لماذا عادت ؟!
فكرة ساخرة تتسرب لعقله ...
ولماذا لا تعود ؟!
ألم تخلُ لها الساحة بخروج "الأخرى" منها ؟!
أو -هكذا- تظن ؟!
والآن ماذا؟!
هل سيبحث عن أخرى يتزوجها ليبعدها من جديد ؟!
المواجهة هي الحل!

_حمداً لله على السلامة...اتفضلي.

المفاجأة هذه المرة كانت من نصيب سيلين التي دلفت للداخل وهي ترمقه بنظرات متفحصة ...
يامن تغير !
شتات نظرته...ارتجافة شفتيه ...حتى لهجته التي طالما اعتادتها باردة ساخرة صارت تحمل مرارة شجن دافئة !
لا بأس ...هذا كله يصب في مصلحتها هي على أي حال!

_أهلاً سيلين .
هتفت بها نبيلة بلهفة وعيناها معلقتان بطفلها الذي تحمله ...
قلبها يكاد يقفز نحوه بل قفز فعلاً وهي تتلقفه منها لتضمه لصدرها بحنو ...

"أعز الولد ولد الولد"

هكذا تسمعهم يقولونها ...لكنها لم تشعر بحرارة معناها إلا الآن ...
ابتسمت سيلين برضا واستقبال نبيلة الدافئ يعزز الغرض من زيارتها ...
فألقت حقيبتها على مائدة قريبة لتجلس واضعة إحدى ساقيها فوق الأخرى قائلة بلكنتها المميزة بين عربية وغربية:
_أنا عرفت اللي حصل وجاية أديلك آخر فرصة...عشان خاطر ابنك .

قالتها مباشرة بمنهجها العملي الذي اعتاده لتعود لملامحه شراستها مع ابتسامته الساخرة :
_ابني؟! أفهم من كده إنك موافقة نعمل التحليل؟!
هنا انتفضت من مكانها لتواجهه بحدة هاتفة:
_مش هاعمل تحاليل ؟! انت فاكر كل الستات زبالة زي اللي كنت متجوزها ؟!

انقطعت عبارتها بصرخة قصيرة وأنامله تتوقف على بعد بضعة سنتيمترات من وجهها في صفعة لم تنلها ...
بينما احمر وجهه حتى كاد ينفجر منه الدم وجسده كله يرتجف واشياً بانفعاله الذي هدر كالرعد في كلماته :
_لو جاية فاكرة الدنيا اتغيرت فمفيش حاجة تخصك اختلفت ...رجوع مش هارجع لك ولو كنتِ آخر ست في الدنيا ...الولد ما عادش يهمني نسبه لأنه حتى لو ابني مش عايزه ...وعشان تعرفي أد إيه بحتقرك ومستحيل أرجع لك بقوللك إن جوازي منها كان لعبة ...مجرد طريقة عشان أطفشك وأخلص من زنّك...لكن خلاص ما عادش يهمني...أعلى ما في خيلك اركبيه !

ضمت نبيلة الصغير الذي انفجر في البكاء فجأة مع صراخ يامن العالي وهي تراقب الموقف بقلق ...
إذن هذا سبب زواجه السريع اللا منطقي من ياسمين !
لقد شكت في هذا وقتها لكن الحب الصارخ في عيني ياسمين بعدها جعلها تستبعد هذه الفكرة ...
يامن أخطأ بذكر هذا الآن !
سيلين لن تمررها له ...وهي ليست بهينة على أي حال !


_انت ما تعرفش انت بتكلم مين ؟! انت ...انت بتهرب مني أنا ؟
صرخت بها سيلين بجنون غرورها المعهود لتردف بينما تضربه بقبضتيها على صدره :
_أنا هاعرف إزاي أدمرك هنا زي ما عملت في لندن...كل اللي بنيته هنا هاهدّه ...هارجعك للصفر تاني .

هنا تدخلت نبيلة لتتشبث بالصغير بأحد ذراعيها بينما تجذب سيلين بالآخر :
_اهدي يا سيلين ...وتعالي معايا .
لكن سيلين ظلت واقفة تناطحه بنظراتها النارية لتردف نبيلة بنبرة آمرة:
_خللينا نتكلم بالعقل عشان خاطر الولد المفطور في العياط ده .

التفتت نحوها سيلين لتلتقط منها الصغير وتضمه إلى صدرها هي قبل أن تدفعها نبيلة للداخل برفق قائلة :
_تعالي نتكلم لوحدنا ...اهدي كده...اهدي.

كانت تحاول امتصاص ثورتها وهي تدرك أن تهديدها ليامن ليس بفارغ...
هي حقاً قادرة على فعل ما تقول وإلا لما اضطر ل"لعبة زواج" كي يتخلص منها !

بينما ظل هو واقفاً مكانه يحاول السيطرة على براكين غضبه دون جدوى!
صدره يغلي بوجع يسع الكون كله !
تعيّره بياسمين ؟!
هي التي "كنزه" .."شمسه"..."عالمه السحري" الذي لم يطأه أحد قبله...
الآن تصير "عاره"؟!!

انقطعت أفكاره عندما سمع صوت رنين هاتفها يدوي من حقيبتها المفتوحة التي تركتها خلفها ...
فالتفت نحوه بعدم اكتراث ليزداد فضوله مع إصرار المتصل...
تناوله بخفة لتتسع عيناه بصدمة وهو يرى اسم "رامي"...
رامي؟!!
هل هي مصادفة أن تعرف سيلين رجلاً هنا في مصر بنفس الاسم ؟!!

فتح الاتصال دون أي رد يستمع لصوته الذي أكد له ظنونه قبل أن يغلقه بعنف!
إذن سيلين تعرف رامي؟!
ما الذي بينهما ؟!
هذان الاثنان لن يجمعهما إلا "ياسمين"!!

لهذا ظل يقلب في هاتفها قليلاً لتتسع عيناه بصدمة مع سجل مكالماتهما الطويل الفترة السابقة...
صورة ياسمين مع زين في مطعمها والتي أُرسلت لسيلين من رقم يحمل اسم مساعدة ياسمين في المطعم مع رسالة منها تطالبها بتحويل مبلغ ما لها على رقم حسابها البنكي.
هكذا إذن تتضح الخيوط !!

مساعدة ياسمين تصيدت لها هذه الصورة لترسلها لسيلين مقابل المال ...
سيلين التي استغلت الصورة مع الفيديو القديم الذي يحتفظ به رامي لتحكم الوثاق حول مؤامرتها !

إذن زين محق !
ياسمين بريئة !
لكن...الفيديو ؟!
صورها معه بين ذراعيه ؟!
هل كانت تبدو راضية ؟!
لا!
هل كانت تبدو مجبورة ؟!
الجواب أيضاً لا !!
إذن أين الحقيقة ؟!
من يصدق ومن يكذب ها هنا ؟!!
أما لهذه الدوامة من آخر؟!!

_سيليييييييييين!!
هدر بها بعنف وهو يندفع للداخل ليجذبها من ذراعها فيوقفها هاتفاً بحدة بينما يناولها هاتفها:
_رامي باشا بيتصل...طمنيه إن الخطة تمام وشربتها كويس.

امتقع وجه سيلين وهي ترى الشاشة تومض من جديد باسم رامي ...
ليردف يامن بنفس الحدة المنفعلة:
_اللعبة اتكشفت ...خدي ابنك واطلع بره .

_لعبة إيه ؟! الفيديو حقيقي والصورة حقيقية ...أنا كل دوري إني كشفتها لك ...انت بس اللي...

_بره...بره...
صرخ بها بجنون في وجهها لتندفع مغادرة المكان بخطوات شبه عادية تحمل صغيرها الباكي . ..
قبل أن يهرول هو نحو غرفته ليغلق الباب خلفه مستنداً عليه بظهره...
جحيم وساوسه يعاود التلذذ بعذابه....
مذنبة ...أم بريئة ؟!
خانته...أم لم تفعل؟!

"لو شكيت ما تكمللش؟!"

لماذا لا يحميه خوفه هذه المرة ؟!
لماذا لا يمنحه الشك مزية اختيار الشاطئ الآمن كما تعود ؟!!
لماذا يشعر أنه يتمزق ...يتمزق حقاً بين رغبته في تصديق براءتها...
وبين هواجس وساوسه التي تصورها بأبشع الصور !
متاهة...
دائرة حول دائرة حول دائرة ...
أما لهذه الحيرة من آخر؟!
=========


سمية سيمو غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 03-04-20, 12:42 AM   #1519

سمية سيمو


? العضوٌ??? » 396977
?  التسِجيلٌ » Apr 2017
? مشَارَ?اتْي » 4,356
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
?  نُقآطِيْ » سمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك action
?? ??? ~
keep smiling
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي


*القطعة العشرون*

خاتمة الجزء الأول
**********

عودة للحاضر ...
========
أفاق من شرود ذكرياته على صوت آذان الفجر ...
هز رأسه لا يصدق كيف مرت به الليلة هكذا دون أن يشعر ...
نهض من نومته لتتعلق عيناه برمزهما الأثير على وسادتها لحرف الياء بهذه الطريقة المميزة خاصتها ...
فالتمعت عيناه ببريق حنين وهو يتحسسه بأنامله متمهلاً باشتهاء كأنه يسترجع شعورها بها بين ذراعيه ...
لقد سافرت مع أبيها !
هو الذي ظن أنها لن تفعلها أبداً ...


_علاقة متلخبطة...متناقضة...مابفهمش نفسي معاه...يمكن عشان كده واقفة في النص.
_وإيه ممكن يخليكِ تقربي؟!
_معرفش...بس أعتقد اللحظة الوحيدة اللي ممكن ألجأ له فيها لو حسيت إني اتكسرت...وإني خلاص ماعدتش قادرة أسند نفسي بنفسي زي مااتعودت طول عمري.
_طول ما أنا عايش مش هاسمح إنك تعيشي الإحساس ده ثانية واحدة.

تأوه بخفوت عند الذكرى الأخيرة مدركاً أنه لم يستطع الوفاء بعهده لها ...
فهل كان ذنبه وحده ؟!
لماذا لم تعلمه بالحقيقة ؟!
لماذا -وهي سيدة العطاء- التي طالما احتوت عيوبه عجزت عن فعلها هذه المرة ؟!
السؤال هنا ...هل كان ليصدقها لو فعلت ؟!
هل يأمن هواجس وساوسه التي تدفعه كل ليلة لمشاهدة ذاك الفيديو وكأنه يجلد نفسه به !!!
وكأنه يذكر نفسه أنه لم يخسرها دونما سبب!!
وكأنه يتعمد تشويه صورتها في عينيه بعدما يأس من فعلها في قلبه !!

انقطعت أفكاره عندما رن هاتفه فانعقد حاجباه مدركاً أن اتصالاً في وقت كهذا لا يعني سوى كارثة ....
وقد كان ...ماذا؟!

داليا ...ومحاولة انتحار!
=========
_للأسف الألعاب الاليكترونية من النوع ده انتشرت كتير اليومين دول ...بتعتمد على حس المغامرة عند المراهقين...بتبدأ في الأول كلعبة تحديات.... تطلب منهم أوامر ...يسمعوا موسيقا كئيبة...يتفرجوا على أفلام رعب ...يأذوا نفسهم جسدياً بآلات حادة ...ده غير إن بعضها بيطلب منهم معلومات عن أهلهم وبيهددوهم بيها لو ما نفذوش أوامرهم ...وفي النهاية اللاعب بيلاقي نفسه بينفذ أوامرهم لحد ما توصل للانتحار .

قالها الطبيب ليامن خارج غرفة داليا التي أنقذوها للتو من محاولة فاشلة للانتحار عبر تناول بعض الأقراص السامة ...
الفتاة كادت تفقد حياتها فدية للعبة سخيفة ...
لكن هل كان هذا حقاً هو السبب ؟!

_أنا ممكن أفهم شعور واحد يائس مكتئب ممكن يستسلم للعبة زي دي ...لكن اللي مش قادر أفهمه إزاي أهله واللي حواليه ما يلاحظوش انشغاله...وحدته بالساعات...تغيير مواعيد نومه...الجروح اللي بيسببها لنفسه ؟!! إزااااي؟!

لا يزال الطبيب يلقي سهام لومه على يامن الذي لم يكن ينقصه اللوم ...
منذ عرف الخبر وهو في عالم آخر !!
داليا؟!
طفلته التي لم ينجبها؟!
من ظن أنه يحميها بعزلها عن العالم بعدما رآه من أفكارها وأفعالها المتطرفة ؟!
كيف غفل عنها حتى وصلت لهذه الدرجة من الإحباط واليأس؟!!
ذنبها في رقبته !

هذا تقريباً ما ختم به الطبيب حديثه وهو يغادره بنظرة نارية ليجلس هو مكانه دافناً رأسه بين كفيه ...
دقات صدره الهادرة تعوي في صدره وهو عاجز حتى عن رؤيتها هكذا ...

شعر بيد تربت على كتفه فرفع عينيه ...

_هتبقى كويسة .
قالها مروان بنبرة مطمئنة فوقف يامن مكانه ليقابله بعينين ضائعتين بين حزن وذنب ...
دقيقة كاملة مرت به وهو ينظر لمروان عاجزاً عن الكلام ...
مروان الذي كان قد قطع علاقته به تماماً منذ تلك الليلة التي علم فيها عما بينه وبين داليا ...
ليفاجأ به اليوم يهرع ليكون معهم هنا دون أن يطلب أحدهم مساعدته!

غشاوة تسدلها على ذهنه أفكاره وهو لا يدري ماذا يفعل ولا ماذا يقول...
ها هو ذا صديق عمره...ضحية من ضحايا ظنونه وهواجسه ...
يقف أمامه الآن فلا يدري بأي وجه يراه !
لكنه يختزل الطريق أخيراً بعناقه له!
عناق يحتاجه الآن ...
هو الذي لم يشعر في حياته كلها بالضياع كما يشعر في هذه اللحظة !
هذا الذي شعر به مروان وتفهمه جيداً وهو يربت على ظهره مؤزراً ...
قبل أن يرفع وجهه نحوه ليتنحنح قائلاً:
_هي فاقت دلوقت...أنا هامشي .

تشبث يامن بذراعه في دعوة صامتة منه للبقاء لكن مروان هز رأسه قائلاً بابتسامة شاحبة :
_أنا جيت بس أطمن عليها...
ثم تنحنح مصححاً:
_عليكم...لكن مش هينفع أفضل أكتر من كده.

قالها قارناً قوله بفعله قبل أن يغادره بخطوات سريعة تاركاً إياه خلفه يتجرع مرارة خذلانه !
========
_يا بنت كلي...جننتيني...ده جيلي الفراولة اللي بتحبيه.
قالتها نبيلة في المشفى لداليا التي هزت رأسها لتقول بصوت واهن:
_مش قادرة أحط حاجة في بطني.
ربتت نبيلة على رأسها برفق وهي تزيح الطبق جانباً لتنظر إليها بعينين دامعتين ...
كيف تعفي نفسها من مسئولية ما وصلت إليه الفتاة ؟!
للمرة الثانية تنجرف داليا في تيار وحدتها وتصرفاتها اللامسئولة بينما هي غافلة لاهية عابثة تعدو خلف سراب...
ما الذي تنتظره لتغير حياتها ؟!
ما الذي تسعى إليه بعد كل هذا العمر ؟!

_عارفة يا داليا لو قمتِ بالسلامة...هاعتزل الوسط كله....مش هاسيبك لوحدك أبداً...هنقضي اليوم كله سوا...يامن كمان وعدني يسفرنا...هنروح تركيا زي ما كنتِ حابة...بس شدي حيلك عشان خاطري ...عشان خاطرنا كلنا...يامن هيموت من يوم اللي حصل .

غمغمت بها بصوت أرجفته دموعه قبل أن تضم جسد داليا الواهن لصدرها لتطالعها نظرات الأخيرة بدهشة متأثرة...
هل هذه نبيلة تكاد تبكيها حقاً؟!
يبدو أن حادث انتحارها هذا كان محورياً كي تدرك قيمتها لديهم ...
كلهم لا يكادون يتركونها منذ أفاقت ...
لقد توقعت لوماً...تقريعاً...وصفاً لها بالمزيد من التمرد والغباء ...
لكنها لم تتوقع كل هذا الفيض من مشاعرهم !
ماذا حدث؟!
كيف أوصلتها هذه اللعبة لهذا الحد من الاستهانة بحياتها ؟!
إنها لا تستوعب سوى رغبة المغامرة التي اتحدت مع تيار وحدتها واكتئابها لتودي بها في هذه الهاوية ...

_أنا آسفة...خللي يامن يسامحني...أنا عارفة إنه زعلان.

تمتمت بها داليا بندم حقيقي وهي تتذكر كيف لايزال يامن عاجزاً عن التواصل معها رغم وجوده الدائم حولها ...
لتجيبها نبيلة بنفس الانفعال :
_يامن مش زعلان منك...يامن زعلان من نفسه...حاسس إنه بيضيع كل حاجة من إيده وهو واقف يتفرج .

أسبلت داليا جفنيها بألم دون رد وهي لا تعلم ماذا تقول ...
قبل حادث انتحارها هذا كانت تشعر بالحنق على الجميع ...
رغبة عارمة في تحميلهم هم ذنب إخفاقاتها ووحدتها ...
بل إنها لا تنكر أن جزءاً منها كان يريد الموت فقط نكاية بهم كي يعيشوا يحملون وزرها !
لكنها الآن وهي ترى لهفتهم الصادقة ...
اجتماعهم حولها...الخوف الذي يسكن نظراتهم وهم يتشبثون بها وكأنهم لا يصدقون أنها حقاً قد نجت ...
تجد نفسها تدرك كم كانت حمقاء !

_مساء الخير .
والتحية الودود كانت تنطلق هناك عند باب غرفتها ...
بلسان المرأة الوحيدة التي لا ترغب داليا في وجودها الآن بالذات ....
من ؟!
=========
_بجد كويسة ؟!
سألها مروان بمزيج من قلق ولهفة وهو يستقبلها في بيت عمه عقب رجوعها من المشفى لتجيبه بابتسامة واهنة:
_والله كويسة....
ثم ضحكت لتجلس على أول كرسي قابلها مردفة ببعض المرح:
_صحيح وشها جاب ألوان أول ما شافتني بس بعد شوية اتكلمت معايا عادي.
_قالت لك إيه ؟! وانتِ شايفة وضعها إزاي؟! لسه مكتئبة ؟!

سألها بلهفة تحمل الكثير من ندمه وهو يشعر بالذنب نحوها ...

_هل ستتركني أنت الآخر؟!

يتذكر أنها كانت كلماتها قبل أن يقرر هو الابتعاد لعله يتمالك صراع مشاعره...
كيف هانت عليه هكذا؟!
كيف لم يتنبأ أنها ستفعلها بحالتها السوداوية التي أشهدته عليها في آخر مكالمة بينهما؟!
لن يسامح نفسه أبداً حتى يسترضيها ...
لكن متى ؟! وكيف؟!
هو لا يستطيع الظهور لها ك"مروان" من جديد ...
"الأصلع القبيح" الذي لن ترضى به ولو كان آخر رجال الكون ...
لكن يمكنه دوماً أن يظهر لها ك"حبيب مجهول" يتواجد متى تحتاجه ...
خداع؟!
لا...هذا ليس خداعاً...
إنها فقط طريقته الوحيدة لمنحها ما ترفض أخذه !

_يعني...طبيعي تبقى متاخدة...وشها مخطوف...وجودي هناك في الأول كان نقطة ضعف ليها ...بس أنا حاولت ألطف الموضوع على أد ما قدرت....تعرف ؟! أول مرة النهارده أحس إنها فعلاً غلبانة وتصعب عليّ.

قالتها زوجة عمه بنبرة هادئة فظهر التأثر على وجهه وقلبه يكاد يقفز بين ضلوعه ...
لتربت هي على كتفه مردفة :
_البنت صحيح طاقّة وصواميل مخها تلفانة بس النهارده حسيت إن جواها حاجة تانية غير اللي بتتعمد تظهره...إثبات تاني لقاعدة إن الظاهر غير الباطن ...علاقة زي دي مشاكلها كتير ...مش عارفة هتحلها إزاي بس أنا واثقة فيك يا دكتور .
======
استيقظت من نومها صباحاً لتتأمل غرفتها التي عادت إليها بعد تماثلها للشفاء ببعض الرضا...
إيلاف النعم هو أكثر ما يفعله البشر جحوداً نحو رب العالمين...
ها هي ذي غرفتها التي كانت تضيق بها ذرعاً تتحول بنظرها لجنّة مقارنةً بما كانت تعانيه في المشفى !


ضاقت عيناها بدهشة عندما وجدت صندوقاً صغيراً على الكومود الخاص بها ...
فنهضت من رقادها لتفتحه باهتمام ...
قبل أن تشهق بفرحة وهي تتبين محتواه ....
آداتها الموسيقية المميزة مع الكثير من الكريات البلاستيكية الصغيرة الملونة ...
_"هارمونيكا ...و...."بلْيْ"!
هتفت بها بسعادة طفولية وهي تضمها لصدرها بقوة ...
قبل أن تنظر للبطاقة بداخلها ...

_ليتني هلكت وما أصابتكِ أنتِ شكة إصبع!

خفق قلبها بجنون وهي تحاول التعرف على هوية مرسل الهدية...
هذا ليس خط يامن حتماً ولا هي طريقة تعبيره ...
ولا أحد -حتى هيثم- يعرف عن هوسها ب"الهارمونيكا" و"البلي " منذ كانت طفلة ...
فمن أرسلها ؟!
عقدت حاجبيها بشيئ من الضيق وهي تشعر بالتوتر الذي لا تحبه عندما يتعلق الأمر بشيئ تجهله...
لكنها ابتسمت بتفاؤل أصرت على التمسك به وهي تتناول هاتفها تطالع صفحتها على "الفيسبوك"...
هيثم بعث إليها بعشرات الرسائل والمنشورات بعدما عجز عن زيارتها في المشفى ...
الكثير من صديقاتها في الجامعة رغم وهن علاقتها بهن أرسلن لها الكثير من الدعوات أيضاً...
جميع المجموعات التي كانت تشارك بها كانت تطالب أعضاءها بالدعاء لها وتتمنى لها الشفاء العاجل ...
صفحتها عامرة بالكثير ...الكثير جداً من الحب الذي لا يحتاج لأن تكون "نجمة" كي يمنحوه لها ...
يكفيها أن تكون فقط "انسانة"!

بريد رسائلها يعج بالكثير لكن عينيها تتوقفان فقط عند رسالة واحدة ...

_ليتني هلكت وما أصابتك أنتِ شكة إصبع!

نفس العبارة المكتوبة على الهدية...
هو ؟!
هو مرسلها؟!!
هل عاد ليكلمها أخيراً!!!
إذن فقد علم بما حدث لها رغم سفره ؟! كيف؟!

رفرف قلبها سعادة وهي تكتب له سؤالها الأخير عامدة ألا تظهر فرحتها العارمة بعودته للتواصل معها ...
"التقل صنعة"..
و"الصنعة" هذه تبرع هي فيها كثيراً !!

_مهما ابتعدت...لكِ من قلبي دوماً عينٌ ترعى .

ضحكت ضحكة صافية لم تعرفها منذ زمن بعيد وكلامه "اللذيذ" هذا الذي لا تدري من أين يأتي به يخترق قلبها ...
لا الاختراق ليس اللفظ المناسب بل ..."الهدهدة"!

_كيف هانت عليك روحك يا كل روحي؟! كيف بخس في نظرك العمر يا كل العمر؟! لأي حياة كنتِ ستتركينني وحدي وأنتِ كل الحياة ؟!

اغرورقت عيناها بالدموع وهي تقرأ كلماته مرة تلو مرة ...
الأولى صامتة...
والثانية هامسةً...
والثالثة يعلو فيها صوتها المرتجف بتأثره وكأنما تود لو تحفرها بقلبها !!
إلى الآن لا تدري أي سحر هذا في كلماته يختطفها هكذا؟!
هي ليست "محدثة نعمة" في شئون الغزل فلطالما أسمعها غيره إياه...
لكنها معه...هو بالذات ...تشعر بإحساس غريب ...متملك...نافذ ...حنون...مسيطر...
مزيج غريب من مشاعر لم تعرفه إلا معه هو!

ومع هذا استمرت بمبدأ "التقل صنعة" لتتجاهل عبارته بسؤالها التالي:
_كيف عرفت عن "الهارمونيكا" و"البلي"؟!
_طالما رأيتك صغيرة تلعبين ب "البلي" في الطرقات...تعزفين "الهارمونيكا" على الدرج...تأكلين "الذرة المشوية" بجانب فمك عبر أسنانك المكسورة...لو كنت أضمن ألا يفسد الذرة لأرسلت لكِ مع الهدية واحداً !

أطلقت صيحة فرحة مستمتعة وهي تقرأ عبارته لتكتب له بسرعة:
_كنت جارنا في البيت القديم؟!
_تقريباً.
_هل تكلمنا من قبل وجهاً لوجه؟!
_ليس كثيراً.

ارتفع حاجباها بصدمة للحظة من تصريحه الأخير لتغزوها الإثارة ...
حقيقة أنها كلمته من قبل وجهاً لوجه تثير جنونها ...
كيف هو؟! كيف شكله ؟! ما اسمه؟!

عبرت عن تساؤلاتها الأخيرة بسؤال مكتوب ليصلها رده :
_لا أريد أن تتعلقي بي وجهاً لوجه...بل قلباً لقلب...روحاٌ لروح...دعينا نكن قصة مميزة وسط كل هذا الهراء الذي يملأ أغاني العاشقين.

ورغم إعجابها بما يقول لكنها عادت تكتب بحنق:
_أنت تعرف شكلي...عنواني...كل شيئ عني تقريباً...هذا ليس عدلاً!
_تتحدثين عن "العدل" يا قاسية ؟! وهل من العدل أن أعيش طوال هذا العمر بقلب تملكينه بينما لا تعلمين أنتِ عني شيئاً ؟! تتحدثين عن العدل؟! وهل من العدل أن تكوني من روحي قريبة حد دفء أنفاسي وبعيدة عن يدي حد السماء؟! تتحدثين عن العدل؟! كفى تذمراً يا مدللتي...لو حاكمتك بالعدل فأنتِ مدينة بالكثيييير!

تنهدت بحرارة وهي تتشرب كلماته بنَهَم أرض شققها الجفاف وأخيراً تذكرها سيل الغمام ...
إنها حقاً تحتاجه ...
ويزداد شعورها بالاحتياج عندما يقترب أكثر!
هل هذا هو الحب الذي يروون عنه؟!
الحب؟!
الحب هو ما اختزله الآن بعبارته التي أنهى بها المحادثة ...

_اعتني بنفسك...اعتني بنفسك لأجل رجل يراك الدنيا وما فيها.
=========
_أنا عايز أشوف رانيا...زمانها منهارة بعد اللي حصل لداليا.
قالها أشرف وهو يتناول مفاتيحه ليهم بالخروج فاستوقفته نشوى بقولها :
_لسه باقي عليها بعد كل اللي حصل؟! دي واحدة قليلة الأصل.
_نشوى!
هتف بها زاجراً ليردف بنبرة أقوى:
_مادام ما تفهميش نفسية رانيا ما تتكلميش...
ثم ارتجف صوته باستطراده :
_أنا عارفها كويس...هي بتتعذب أكتر مني بس مش قادرة تقول...مش عارفة تقول...ماتعودتش تشتكي لحد غيري...

دمعت عينا نشوى بتأثر من حال شقيقها الذي لا يكف عن التفكير فيها ...
كلما خطا خطوة في طريق العلاج مدفوعاً بأمل الرجوع إليها يعود لينتكس مع يأسه من عودتها إليه...
وكأنها هي فقط سر حياته !

أشرف الذي كان سند الجميع ومصدر قوتهم انهار فجأة حتى ما عاد قادراً على دعم نفسه !
لكن من خذلها حقاً ...هي رانيا!
رانيا التي تخلت عنه في أول محطة توقف فيها قطار عطائه !
لهذا اندفعت تهتف بانفعال:
_فوق يا أشرف...مش عشانها ...عشان نفسك...عشاني...عشان بنتي...عشان مصنع أبونا اللي لازم يرجع يرفع اسمه ...فوق بقا فوق!

كانت كمن تتحدث إلى شبح بهذه الهالات السوداء تحت عينيه ...
وهذه النظرة الغائمة بين جفنين متعبين...
وهذا الجسد الذي يزداد نحوله يوماً بعد يوم !
ومع هذا كان لديها أمل عميق أن ينهض بعد كبوته هذه !

هذا الأمل الذي تضاءل الآن مع عبارته المهتزة :
_هابقى كويس...أكيد هارجع زي الأول ...بس وهي معايا.
هزت رأسها بيأس من مجادلته لتتركه يخرج بعد صدام معتاد ...
خطواته المشتاقة تقوده لبيتها ...
يعاود الاتصال بها للمرة التي لا يذكر عددها ...

_طب بلاش تردي...بصيلي بس من الشباك...أنا تحت البيت...عشان خاطري يا رانيا...هاموت وأشوفك.

يرسلها لها بيأس وعيناه معلقتان بنافذتها المفتوحة...
قلبه يترنح بين ضلوعه بألم وهو يميز ظلها يقترب ...

وبغرفتها كانت هي عاجزة عن السيطرة على انفعالاتها وهي تقرأ رسالته...
هي الأخرى تكاد تموت شوقاً لرؤيته...
لكن أي أشرف هذا الذي ستراه ؟!
رفيق الطفولة والصبا وحب العمر؟!
أم ذاك "المسخ" الذي تسبب في هلاك طفلها بل وهلاكها هي الأخرى؟!!
مشاهد تلك الليلة تعود لتنساب في ذهنها كشريط متواصل قاسٍ...
بداية من منظر أشرف المثير للشفقة ...مروراً بانتهاك الوغد المريع لها...
وانتهاء ببقعة دم تحت جسدها كانت يوماً طفلها...
حلمها ...أملها للغد !
ماذا تفعل؟!
هل تستجيب لنداء قلبها وتعود إليه ؟!
أم تستمع لصوت العقل الذي يناشدها التريث كي لا تخسر أكثر؟!

الجواب صعب...
شديد الصعوبة لامرأة لم تعتد في حياتها كلها أن تتخذ أي قرار!
ضعفها يسلمها لأقرب منطقة آمنة...
نصيحة يامن ...

"لو شكيت ما تكملش"!
هذا هو الصواب!
أجل...هذا هو الصواب!

وبهذه الفكرة الأخيرة حسمت أمرها لتتوجه نحو نافذتها فتغلقها بأنامل مرتجفة...
قبل أن تنهار بدموعها ساقطة على الأرض!

البائسة لم تدرك أنه لن يحتمل منها هذه الحركة...
هذه الطعنة !
أنه كان ينتظر منها بادرة أمل...أي بادرة...
كي يكمل هذا الطريق الصعب ...
أنه مع زلّته كان يأمل في رصيد طوييييل اكتشف فجأة أنه يساوي صفراً لديها ...


لكن الخبر وصلها بعد قليل في مكالمة شقيقته التي صرخت بها :
_أشرف رجع من عندك مش شايف قدامه...أخد "أوفر دوز" من الزفت اللي بيبلعه ده ...كان هيموت فيها ونقلوه المستشفى ...لو جراله حاجة ذنبه في رقبتك .
======
أمسكت غادة بحقيبة مشترياتها تضمها لصدرها وهي تستقل إحدى الحافلات لبيتها ...
غداً موعد السفر ...
إعصار من مشاعر يجتاحها فلا تجيد التفريق بينها ...
مزيج من لهفة وترقب وفرحة خفية بعالم جديد يفتح لها ذراعيها ويمنحها بداية وليدة ...
مع خوف طبيعي يُفترض لأنثى مثلها ...
لكن عزاءها أن أحمد سيكون معها ...
أجل ...بروحه ...بدعم ذكرياته...بتشبثها بالنجاح لأجله ...وباقترابها أكثر من عمه هناك والذي طالما أخبرها كم يحبه ...

انقطعت أفكارها عندما شعرت بحركة الرجل الجالس جوارها ...
قبل أن يتذبذب جسدها كله وهي تشعر بأنامله المختلسة تحتك بباطن ساقها ...
جسدها يتجمد فجأة والخوف القديم يعاود إصابتها بالشلل ...
لقد جربت هذا الموقف من قبل في المواصلات مرتين ...
الأولى تجرأت لترفع صوتها باتهام المتحرش بها لتجده يرد بصفاقة أنه لم يفعل شيئاً وأنها "ترمي بلاءها عليه" لتصطدم بردة فعل الناس اللامبالية وقتها ...
والثانية لم تجد حلاً إلا الاستسلام المرتعب ومغادرة الحافلة في أقرب محطة ...

لكنها الآن لن ترضى بهذا أو ذاك ...
هي ليست ضعيفة لتصرخ أو خانعة لتستسلم وتهرب....

وبمنتهى الثبات مدت أناملها تنتزع دبوس حجابها الطويل ببطء حذر في حركة غير محسوسة...
وبكل الغضب الذي يملأها الآن غرسته في ذراعه !

صرخة الرجل المكتومة تكاد تسمعها وهو يبعد يده عنها بسرعة ...
فتلتقي نظراتهما لترمقه بنظرة متوعدة شرسة زاجرة جعلته يقف مكانه ليتحرك طالباً من السائق النزول في المحطة المجاورة ...

ابتسامة ارتياح ترتسم على شفتيها وهي ترى الرجل يختفي عن ناظريها ...
رويداً رويداً...
فتتابعه ببصرها وكأنها تشعر أنه لا يرحل وحده...
بل يرحل حاملاً معه كل ذكرياتها التعسة بهذا الشأن ...
لا ...لم تكن بهذا الحمق كي تفهم أنها تخلصت منها للأبد...
الأمر يحتاج لوقت ولصبر ...وهي لا تفتقد كليهما !
كفاها الآن شعورها أنها لم تعد خائفة...
أنها قادرة على المقاومة...على المواجهة...
أنها أبداً ليست "مدنسة"!

_حد نازل هنا؟!
عبارة السائق تنتشلها من شرودها لتبتسم وهي تضم حقيبتها لصدرها أكثر مغادرة الحافلة لتسير في الشارع بخطوات واثقة...
طفلة صغيرة في يد والدتها تسير أمامها مقابلة لها ...
تحتضن دباً قطنياً من "الفرو" مع علبة بلاستيكية بدت محتوياتها من "المكعبات"...
شيئ من الشجن يعتصر حناياها وهي تقاوم ذكراها البائسة المرتبطة بهذا المشهد ...
لتتغلب عليه أخيراً باتساع ابتسامتها للصغيرة وهي تغمزها بحركة مداعبة...
تقترب أكثر فتعطيها الطفلة زهرة كانت في يدها دون أي تفكير ...
تمتزج ابتسامتهما معاً قبل أن تعاود كل منهما طريقها ...
بينما ترفع هي الزهرة لشفتيها تتشمم عبيرها بقوة...
رسالة أخرى من رسائل القدر أن القادم أجمل...
وهي تعلمت قراءة رسائله !
======
على السرير في بيتهما الذي عاد إليه أخيراً يجلس مسنداٌ رأسه إلى وسادته ...
بيتهما؟!
نعم ..جزء بداخله لايزال يراه بيتهما رغم كل ما حدث ...
هو نفس الجزء الذي ينتظر رجوعها إليه ...
وهل للإنسان إلا بيته ؟!

الألم الحارق في صدره يزداد وهو يئن اشتياقاً إليها ...
هي التي أدمنها حد الجنون ولا يريد منها شفاء ...

أنامله تمتد لهاتفه حيث داؤه ودواؤه ...
الفيديو اللعين لها مع زين والذي يجبر نفسه على مشاهدته كل مرة يشعر فيها بالاشتياق إليها ...
وكأن سلطان وساوسه يتجبر بحكمه على قلب موقن من براءتها ...
قلب يبرر بأنها ما نطقت اسم زين هذا للمرة الأولى إلا في موضع انتهكت فيه أنوثتها رغماً عنها ...
هذا يبدو منطقياً مع ما حكاه له ذاك الرجل...
لكن من يحميه من ظنونه السوداء التي ترسم لها أبشع الصور ؟!

لا...يجب أن يخرج من هذه الدائرة !
لكن كيف ؟!
كز على أسنانه يكتم وجعه وهو يأخذ قراراً خاطفاً بمسح هذا الفيديو !
هراء!
حتى لو مسحه من هاتفه ..كل صورة فيه محفورة بأعمق أعماقه ...

أما من دواء؟!
ولأول مرة منذ افترقا يجد الجرأة ليفتح حسابها الخاص على "الفيسبوك"...
هذا الذي طلب منها يوماً إغلاقه غيرةً بعد مغازلة دافئة منها استنكف أن يقرأها غيره...
تراها فتحته من جديد ؟!

نعم...فعلتها!
وكأنها تتحداه بفعل ما كان يكره...
أو وكأنها -هي الأخرى- تحاول استعادة مذاق حياتها قبله ...
غص حلقه بمرارته وهو يقرأ آخر منشوراتها ...


_كنت أنا أبحث عن "إبرة" حبك وسط كومة من "قشّ" عنادك ...
وكنت أنت تغمض عينيك عن "شمس" حبي قانعاً ب"عتمتك"..
فلا أنا وجدت "إبرتي" ...ولا أنت "رأيت" النور...
خاسران نحن بثوب عاشقين ...
وليس أقسى من لوعة الحب ...إلا خسارته!

التمعت عيناه ببريق حقيقي وهو يعيد قراءة حرفها المنغمسة بلوعتها ...
لا تزال تجيد التعبير عن مشاعرها المنطلقة...
تماماً كما لايزال هو عاجزاً عن فعلها !

_أنت الذنب الذي كلما اقتنعت بالتوبة عنه أمعنت في اقترافه أكثر ...
والدقيقة التي كلما ظننتني قضيتها تحولت ليوم ثم عام...ثم قرن من الزمان ...
أنت الحرب التي خرج منها كلانا مهزوماً ومنتصراً...
والموت الذي وقفنا على جسره حائرين بين بعث وعدم!

قلبه يترنح بين ضلوعه بألم وكلماتها التي يكاد يراها مرتجفة بدموعها تطعن صدره كألف رمح...
يستحضر صورتها بعينيها العسليتين اللتين رأى فيهما يوماً عشق العالم كله...
بشعرها الذي تمنى لو يراه طويلاً فأبى إلا أن تراه عيناه قصيراً كعمر هواهما...
وبشفتيها اللتين اختصرتا فنون الغرام بين ما يُقال وما يُحسّ!

_هاجر إليك قلبي .. طير نورس يتلقفه الشوق والترحال حتى احتواه دفء أرضك...
فلماذا أعدته لي دامعاً ملطخ الريش بسواد خذلانك؟!

يغمض عينيه بألم وهو يكاد يعتصر الهاتف بين أنامله ...
كيف هانت عليه ليبتعد هكذا بهذه البساطة...
وكأنه لم يترك معها روحه ؟!!
لكن سلطان وساوسه يعاود رمي سهامه ...

هل ستُخدع من جديد؟!
من أدراك أنها لا تتعمد وضع هذا الكلام لتستعطفك وتستعطف الناس قبلك ؟!
من أدراك أنها غادرت البلاد هرباً من جرحك ؟!
ألا يحتمل أنها فعلتها لتلتقي عشيقها هناك بحرية؟!
من أخبرك أنه كان يقول لك الحقيقة؟!
لماذا لا تكون خطة وضعها كلاهما بعدما انكشف أمرهما؟!
كيف تثق بها من جديد وهي التي كانت تكذب المرة تلو الأخرى بوجه بارد ؟!

أصدر آهة عالية وهو يخبط رأسه في ظهر الفراش لعدة مرات ...
سيصاب بالجنون حتماً لو ظل هكذا !!
فليصدق طهارتها ويسترضيها ...
أو فليصدق خيانتها ويطردها من حياته للأبد...
لكن هذا الجحيم الذي يصطلي به لا يُحتمل!!!

هنا اتسعت عيناه بقوة وهو يتابع شاشة هاتفه التي حملت له صورة لها شاركتها على حسابها للتو وكأنها شعرت بوجوده ...
رباه ؟!
هل هذه هي؟!!

صورة لها بشعرها المكشوف الذي ازداد طوله كما تمنى دوماً بضفيرة طالما اشتهاها على جانب كتفها وكأنها تغيظه بها ...
وكأنها تخبره أنها عادت -دونه- لعمرٍ قديم !
لقد خلعت حجابها !
كل العيون الآن ترى "ضفيرته" التي حلم بها ...
حلمه صار مكشوفاً مباحاً على أرصفة الناظرين؟!
الحسرة تقاتل الغيرة في قلبه...
يتنافسان على مركز الصدارة وهو يراها ترتدي قميصاً واسعاً رمادياً قاتماً زاده جسدها الذي ازداد نحوله كآبة...
منذ متى ترتدي "امرأة الألوان" هذا الرمادي؟!
ربما خشيت أن ترتدي "الأسود" فيذكرها به !
تبتسم ابتسامة باهتة تدعي التحدي...
وكأنه لن يفرق بينها وبين ابتسامة كانت يوماً تختزل الحياة في انفراجة شفاه!
تستند لكتف والدها الذي يضمها بحنان التمع في نظراته التي خالطها الإشفاق...
فيرتجف جسده تأثراً وهو يتخيل نفسه مكانه...

هذا الشوق الذي يعصف به أكبر كثيراً مما يحتمل...
ليته ما فتح حسابها هذا ...
ليته ظل على صراع حواسه عوضاً عن هذه الحمم التي تلقي لهيبها في صدره ...
ليته يدرك كيف يسبح في بحور أهلكته تيهاً بحثاً عن "عروس بحر" ضائعة!!
=======
لقد صارت حرة !
هكذا حدث زين نفسه وعيناه تتابعان صورتها على حسابها ...
عيناها مطفأتان...ذابلتان...
لم يرَها هكذا حتى في فورة خلافاتها مع رامي!
يبدو أن الجرح هذه المرة كان أكبر كثيراً من تحملها !

تنهيدة حارة صاحبت شروده وهو يتأكد من صدق حدسه بفشلها مع ذاك "الموسوس"!
كيف كانت تظن أن روحها الحرة التي لا تتبع عقلاً ولا منطق ستتناسب مع رجل يشك في ظله ؟!
إنه حتى لم يصدق روايته التي حكاها له رغم أنه لا مصلحة له في الكذب...
ورغم أن الوغد رامي نفذ وعده بأن يعلن اعتذاره وزيف هذا الفيديو !

لكن لا بأس...
هو منحها الفرصة للابتعاد...
وبعدها صارت كل الفرص له بالاقتراب !

وعندالخاطر الأخير ابتسم بمزيج شعوره من التحمس والإثارة قبل أن يتناول هاتفه وما إن فتح الاتصال حتى قال بنبرة آمرة لم تخل من جزل:
_احجز لي في أول طيارة رايحة ماليزيا...عايز أكون هناك الأسبوع ده.
========
_طلقتها ؟! ليه ؟!
هتف بها رامز باستنكار محدثاً صديقه المقرب الذي فوجئ بطلاقه هو الآخر لزوجته والذي أجابه بانفعال حاد :
_سطحية...تافهة...معندهاش أي طموح...يا بنت الحلال ذاكري عشان تاخدي معادلة ونعرف نهاجر ...لأ...طب حتى ارجعي شغلك خسارة تعب السنين دي كلها يروح ع الفاضي...لأ...طب فكري معايا ممكن نعمل إيه عشان مستقبلنا ...مابفكرش سيبها لله...خنقتني ...كل تفكيرها جمالها ولبسها وشياكتها وخروجات أصحابها ...وجابت آخرها بقا معايا لما أخويا طلب مني يسيب ابنه عندي عشان مراته محتاجة تسافر تعمل عملية ومالوش غيري قالت لي مابخدمش ولاد حد .

ابتسم رامز بتهكم وعبارات صديقه تحيي إذكاء جرحه القديم ...
صديقه هذا كان آخر من يتوقع طلاقه من شلّتهم ...
لماذا؟!
زوجته أنيقة جذابة لكن الأروع -من وجهة نظره- كان تلك الطريقة التي تجيد تدليله بها حتى وسط الآخرين ...
لم تكن تستحي أن تعبر عن حبها له بعبارات دافئة مغناج كأنه أول الرجال وآخرهم !

_ماكانتش شاطرة غير في الكلام...بحبك ...بموت فيك...انت حياتي...انت روحي ...وأنا ماتجوزتش واحدة أقضي معاها يومين والسلام...أنا اتجوزت عشان ألاقي واحدة دماغها كبيرة ...عندها طموح...عايزة تكبرني وتكبر معايا ...واحدة جدعة أثق أنها هتسندني في أي موقف .

قالها صديقه وكأنما قرأ أفكاره ليشرد رامز ببصره وهو يتعجب من المفارقة...
"محدش عاجبه حاله"!
قالها لنفسه بتهكم لكنه لم يستطع منع صورتها التي غزت ذهنه ...
تارة وهي دؤوب عاكفة على دراستها ...
تارة وهي تريه شهادات تفوقها طوال هذه السنوات...
تارة وهي تحكي له عن أحلامها للغد...
وأخرى وهي تقف مؤازرة لصديقتها في محنتها قبل أن يفسد هو الصورة !

عيوبها التي كان يراها بعين انتقاصه...
الآن يجد نفسه رغماً عنه يراها كمزايا ...
خاصة وصديقه يردف بتحسر :
_اللي يلاقي بنت أصول دماغها حلوة الأيام دي يمسك فيها بإيديها وسنانه !
هز رامز رأسه بشرود عندما استأذنه صديقه ليغادره تاركاً إياه وحده في هذا المقهى الذي اعتادا الجلوس فيه ...
والذي انطلقت منه الآن الأنغام الكلاسيكية بصوت "الست"...

انا وانت .. ظلمنا الحب بايدينا

وجينا عليه .. وجرحناه لحد ما داب حوالينا

ما حدش منا كان عايز يكون ارحم من التاني

ولا يضحي عن التاني

وضاع الحب ضاع .. ما بين عند قلب وقلب ... ضاع

ودلوقت لا انا بنساه

ولا بتنساه ...ولا بنلقاه .. أنا وانت...

تنهد بعمق شعوره...بقوة اشتياقه...
وبمذاق خسارته ...

لماذا خسر هذه الحرب التي ما تمنى في حياته مثل غنائمها؟!
لماذا تغافل عن أسرار منحتها له "جواسيس" عينيها بسخاء مقابل ما تواجهه به من جفاء؟!
لماذا تناسى أن "الضلع الأعوج" تكسره "الشدة" وماله إلا وضعه في مكانه الصحيح الذي يبدل عوجه لكمال؟!

هنا تناول هاتفه ليقلب في صوره...
لماذا نبدو دوماً في البعد أجمل؟!
أغلى؟! و....أقرب؟!!
شفتاه ترتجفان بابتسامة واهنة وهو يمرر سبابته بحرص على ملامح صورتها ...
ماذا لو كلمها الآن ؟!
لو أخبرها كم اشتاقها ؟!

"نبدأ من جديد؟!"
ببساطة يقولها ؟!

"عمري ما حبيت غيرك!"
بصراحة يعترف بها ؟!

لكن عناد كبريائه يقتحم الصورة ...
يجعله يغلق هاتفه ليعيده لجيبه بعنف!!
لا! كفاك تنازلاً !
لا خير في حبٍ تتساقط في خريفه أوراق كرامتنا !
========
خرجت من مبنى الجامعة لتقود سيارتها نحو البيت ...
موقف سخيف استجلب غضبها وجعل الدماء تغلي في عروقها ...
أحد زملائها في القسم أرسل لها من يلمح لها برغبته في خطبتها .
ورغم ما يُفترض أن تشعر به من فخر أنثوي وهي ترى نفسها محل إعجاب ورغبة ...
هذا الشعور الذي اضمحل كثيراً بعد تجربة زواجها الفاشلة...
لكنها على العكس كانت تشعر بالغضب ...
وكأنه تجرأ على سرقة ما ليس ملكه !

زفرت بسخط وهي تزيد سرعة السيارة ثم نظرت لنفسها في المرآة...
أمور رسالتها الدراسية تسير على خير وجه ...
أحوال العائلة استقرت نوعاً بعد "النكبة" الأخيرة...
ورب ضارة نافعة !
يامن بدأ يتأقلم مع حياته بعيداً عن ياسمين التي سافرت لأبيها...
داليا بدأت التعافي بعدما تعلمت درسها ...وتعلموه هم كذلك ..
رانيا كذلك...
رانيا؟!
وكأنما قفزت من أفكارها عندما رن الهاتف باسمها لتفتح الاتصال فتصطدم ببكائها الحارق:
_أشرف يا هانيا...أشرف بيموت بسببي !

شهقت بعنف وهي تستمع منها للتفاصيل لتهتف بنبرة باكية :
_اهدي بس ما تعيطيش...هايبقى كويس ...أنا جاية لك .

قالتها وهي تغلق الاتصال لتزيد من سرعة السيارة أكثر بينما تتخذ طريقاً آخر كي تصل أسرع...
الموت اللعين يوشك أن يختطف "عزيزاً" آخر !
عقدتها القديمة تعاود طفوها على السطح ..
"فوبيا الفقد" التي عاشت تخنقها لسنوات ...
هذا "الهوس" الذي يجعلها دوماً تخشى الحب...
لا علاج لألم الفقد إلا عدم التعلق!
هذا المبدأ الذي قيدت به خفقات قلبها لسنوات قبل أن تجده يتسرب من يدها غفلةً ليملكه من رحل ...

انقطعت أفكارها عندما اصطدمت سيارتها فجأة بجانب الرصيف ....
صوت الصرير الحاد يدوي في أذنها قبل أن تفقد وعيها جزئياً بتأثير المفاجأة ...
صرخاتها العالية تلتحم مع الانقلاب العنيف للسيارة...
رأسها ينزف بقوة والألم في جسدها ينبئها أنها النهاية !
ياللسخرية !
لقد عاشت عمرها تخشى فقد من تحبهم...
لم تحسب حساب هذه اللحظة...
أن تنقلب الأوضاع...
أن ترحل هي أولاً ...!!!

أن تغادرهم دون أن تؤدي حقوقهم نحوها ...
دون أن تنصح نبيلة بالابتعاد عن عالمها المبهرج الذي يزيدها كآبة رغم أنها تتوهم فيه العوض عن عمر مضى...
دون أن تكون جوار داليا التي كادت تهلك بوحدتها وضلالاتها...
دون أن تهتم برانيا التي تدرك مدى هشاشتها وضعفها ...
دون أن تقنع يامن بأن يصدق براءة زوجته دون اعتبار لرأي الناس ...
وغادة ؟!
غادة التي فضحت سترها واستغلت خبايا ماضيها لتشوه رسمها ...
بل وتركتها تسافر بضمير مستريح قانعةً بما رأته من تغير حالها ؟!
وأخيراً....رامز....
رامز الذي طالما بخسته قدر حبه وادعت فيه زهداً هي أبعد ما تكون عنه ؟!
لم تقدر رجولته...حنانه...دعمه لها في نجاحها ...صبره على سوء طباعها ...و...حبه الذي طالما هربت منه وهي التي لا ترجو غيره ؟!
تأوهت بخفوت ورائحة الدخان حولها تجعلها تسعل بوهن عدة مرات ...
السيارة تحترق...
تماماً كعمرها الذي ظنته طويلاً بطول طموحها ...
فقط لو يمنحها القدر فرصة لتقولها له ...
لآخر مرة ...
لتخبره أنها أحبته...أحبته حقاً...كما لم تحب أحداً...
أناملها تحاول استخراج هاتفها من حقيبتها لكن جسدها الصارخ بآلامه يعاندها ...
ثانية واحدة...
واحدة فقط تعترف له فيها بالكلمة التي بخلت بها عليه طوال هذه الأيام...
دموعها تسيل بحرقة...بحسرة...
عبر آلام جسدها لا تميز سوى قلب تعتصره قبضة الخيبة...
يود لو يُسمَع صوت خفقاته ولو مرة واحدة...
أخيرة!

وأخيراً تحارب أناملها وسط لهاث أنفاسها المتقطع لتمسك الهاتف...
الثواني تمر بطيئة متثاقلة والألم يشق صدرها أكثر ...
حتى تسمع صوته أخيراً فتشهق شهقة عالية حملت كل رغبتها في الحياة ...قبل أن تلفظها بقولها ..

_رامز...أنا....بحبك...

الصدمة تلجمه مكانه وقلبه ينتفض بين ضلوعه بقوة...
لا يصدق أنها أخيراٌ قالتها ...
هكذا ببساطة....دون مقدمات...!!!
لكن صوتها الغريب المختنق يجعله يسألها بقلق :
_مالك يا هانيا ؟!انتِ فين ؟!

لايزال يسألها مرة تلو مرة بصوت يعلو تدريجياً حتى وصل حد الصراخ في آخر مرة مع سماعه للأصوات المتداخلة من الجانب الآخر ...
والتي تزامنت مع صوت سارينة الإسعاف...

_هانيا...ردي...انتِ فين ؟!
يصرخ بها برعب دون جدوى وهو يخرج من البيت كالمجنون نحو سيارته لا يدري له هدفاً وهاتفه معلق بأذنه...
حتى يسمع أخيراً صوتاً يقول بأسى:
_البقاء لله !
==========
تأفف بضجر وهو يتقلب في الفراش الذي لم يغادره منذ الصباح...
فراشها هي في غرفتها بمنزله والذي صار يحتله مطارداً عليه سراباً يحمل اسمها ..
لا مزاج لأي شيئ يفعله!
فليحتفظ العالم بسخافته ليوم واحد دون أن يزعجه!

تناول "ريموت" التلفاز ليشغله على مباراة كرة القدم المنتظرة ...
لعل شغفه بالكرة يلهيه !

_شايف محمد
صلاح ده مثلاً؟! أراهنك في خلال سنة هيكون له مستقبل عظيم .

يسمعها بصوتها يأتيه من الماضي فترتجف شفتاه وهو يتابع المباراة بتشتت...
لقد أفسدت عليه كل شيئ...
حتى هواياته !
عالمه كله اصطبغ بألوانها فما عاد قانعاً ب"سواده"!

لهذا أغلق التلفاز بعنف ليفتح هاتفه الذي ظل مغلقه طوال النهار ...
مكالمات فائتة عديدة من نبيلة وداليا ورانيا ...
لا ريب أنهم يشعرون بالقلق عليه بعد اختفائه هنا طوال النهار ...
كاد يضغط زر الاتصال بأمه لكن الهاتف أضاء فجأة باتصال من رقم غريب دولي...
الرعشة التي سرت في جسده فضحت أمنيته في أن تكون هي !
جعلته يفتح الاتصال بسرعة لكن الصوت الباكي الذي أتاه بلكنته الغريبة التي يحفظها جعلته يعقد حاجبيه بقوة قبل أن ينتفض مكانه بانفعال وهو يسمع مفاجأتها ...

_ابنك مات خلاص يا يامن....ما عدتش محتاج تخطط عشان تخلص مني ومنه...مات من غير ما تحضنه مرة واحدة ...خللي شكوكك تنفعك وانت بتتعذب كل يوم بذنبه .

خط الدموع الذي سال على وجنته مع كلمات سيلين يتزامن مع هذه الصعقة التي ضربت فؤاده من هول المفاجأة !!!
لم يعد يسمع صوت ولولتها ونحيبها وهي تروي له كيف أصابته عدوى قاتلة أودت بحياته في أيام قليلة...
بل صوت بكاء الصغير في آخر مرة رآه فيها ...
صوره التي كانت ترسلها له لترسم له كوابيس ليلية لا تنتهي...
مشاعره التي كان يحاربها بضراوة نحو هذا الجسد الصغير الذي استنكف يوماً أن يضمه ...
والآن ...ما عاد ينفع ندم !

تغلق هي الاتصال بعنف وصرخاتها الهستيرية تكاد تصم أذنيه لكن أنامله تظل متشبثة بالهاتف وكأنه ينتظر منها المزيد...
تكذيباً لهذا الذي يقال ...
لكن صوت الرنين الرتيب يؤكد له الحقيقة...

الموت!
هذه الحقيقة المجردة التي تكشف لنا زيف الدنيا...
هذا الزائر المهيب الذي يكشف اللثام عن وجه أفعالنا فيرينا حقيقتها...
هذه القبضة التي تنتزع منا أناساً شغلتنا عنهم الحياة لنكتشف فجأة قيمتهم لدينا...
هذا الدرس الذي نعيش عمرنا نحفظه وقل من ينجح في اختباره !

يتهاوى جالساً مكانه وهو عاجز عن منع دموعه...
دموعه التي كانت الآن توثق ألف معنى للخسارة...
سلطان وساوسه الذي طالما ظن أنه يحميه الآن يدرك أنه أضاع منه كل شيئ...
أفسد حياته وحياة كل من حوله بدعوى الأمان...

"لو شكيت ما تكملش"!
هذا المبدأ الذي نذر له عمره ليكتشف الآن كم كان مخطئاً...
ليدرك أن الطريق الذي بدأ برصيد من مشاعر وذكريات ومسئولية يستحق أن نحارب شكوكنا كي نكمله...

لكنه دفع الكثير كي يدرك هذه الحقيقة...
عجلة ظنونه حصدت في طريقها كل أحبته...
بداية من بنات خالته ومروراً بصديق عمره ...
والآن ...ابنه...
ابنه الذي كان مجيئه صدمة...ورحيله صدمة...
وكأنها صفعة القدر له أن يفيق!

ياسمين!
وسط كل هذا الدخان الذي يخنق روحه يذكرها...
تباً لعناده ...لكبريائه...
هو يحتاجها ...
يحتاجها أكثر من أي وقت مضى...
أي صدرٍ الآن يحتوي دمعه إلا صدرها ؟!
أي كتف يحمل معه وزره إلا كتفها ؟!
أي عين تشاركه الآن دمعه إلا عينها ؟!

لهذا لم يشعر بنفسه وهو يفتح حسابها الذي لا يعرف طريقة للاتصال بها سواه...
يتصل بها مترقباً وهو لا يعلم هل ستجيب اتصاله أم تتجاهله...
مرة تلو مرة تلو مرة...
لكنه لم يمل...
هي التي كانت طيفاً طالما طاردته ألوانه...
ماذا يضيره لو طارده هو الآن ؟!

الاتصال يفتح أخيراً دون رد إلا من أنفاسها التي عجزت عن منع تهدجها ...
شفتاه تنفرجان وهو لا يدري ماذا يقول...
ربما لو كانت تراه الآن...
لحكت لها عيناه حكاية لن تفهمها غيرها ...

_ابني ...مات !

لم يستطع إلا قولها...
مقتضبة...مختنقة...مذنبة...راك? ?ة تحت قدمي الندم...
ليجيبه صمتها الطويل ....
صمتها الذي كان يزيد من عمق الجرح في قلبه لكنه -للعجب- كان كافياً ليؤنسه...
ليعزيه...
ليعيد إليه بعض الاتزان...
قبل أن يصله أخيراً صوتها بأقسى ما توقعه يوماٌ ...

_وانت مكلمني عشان أواسيك؟!

حاجباه ينعقدان بقوة مدركاً أن هذه القسوة المستحدثة قتلت الكثير من عرائس عشقه فوق غمامها ...
لتأتيه بقية كلماتها كطعنات في الصميم...

_للأسف مش هاقدر ...وعلى فكرة...انت ما خسرتش ابنك من سيلين بس...انت خسرت ابنك مني أنا كمان.
============

محدش فينا عارف
لسه بكره مخبي إيه...
لكن كل اللي فاتك
ممكن أحكيلك عليه...
أصعب أيام في عمري
مااقدرش أوصفها عمري
وأكيد حسيتي بيا وعشتي أيام زيها...

منا زيك برضه واكتر
اوقات بسرح وافكر
انا وانت بعدنا ليه...
مالقتش اجابة جيت لك
ما انا يمكن لو حكيت لك.
تقولي لي كسبنا إيه ..
==========











سينابون...
هكذا نحن مزيجٌ من مذاق "القرفة" اللاذع و"الصوص" الحلو والعجين "المتخمر" بماء الماضي..









==========
ولا تزال للحكاية بقية...
انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني بإذن الله بنفس الاسم ...
٢٠١٨ اكتوبر

إهداء

إلى رجل يساوي كل العالم ...
إلى رجل دللني كابنته...
وتعلق بي كأمه...
واحترمني كمعلمته...
وأحبني كامرأته...
إلى رجل يستحق أن يقال عليه ..."رجل"!






سمية سيمو غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 03-04-20, 02:08 PM   #1520

Nadosh M

? العضوٌ??? » 425829
?  التسِجيلٌ » Jun 2018
? مشَارَ?اتْي » 61
?  نُقآطِيْ » Nadosh M is on a distinguished road
افتراضي

🥰🥰🥰🥰🥰🥰🥰🥰🥰🥰🥰🥰🥰🥰🥰

Nadosh M غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:40 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.