آخر 10 مشاركات
رواية قصاصٌ وخلاص (الكاتـب : اسما زايد - )           »          لا تتحديني (165) للكاتبة: Angela Bissell(ج2 من سلسلة فينسينتي)كاملة+رابط (الكاتـب : Gege86 - )           »          ومضة شك في غمرة يقين (الكاتـب : الريم ناصر - )           »          جنتي هي .. صحراءُ قلبِكَ القاحلة (1) * مميزة ومكتملة* .. سلسلة حكايات النشامى (الكاتـب : lolla sweety - )           »          يبقى الحب ...... قصة سعودية رومانسيه واقعية .. مميزة مكتملة (الكاتـب : غيوض 2008 - )           »          339 - على ضفاف الرحيل - آن ويل (الكاتـب : سيرينا - )           »          رواية المنتصف المميت (الكاتـب : ضاقت انفاسي - )           »          أطياف الغرام *مميزة ومكتملة * (الكاتـب : rainy dream - )           »          لعنتي جنون عشقك *مميزة و مكتملة* (الكاتـب : tamima nabil - )           »          *&* هنا يتم الابلاغ عن الكتابات المخالفة للقوانين + أي استفسار أو ملاحظه *&** (الكاتـب : سعود2001 - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > مـنـتـدى قـلــوب أحـــلام > منتدى قلوب أحلام شرقية

Like Tree12Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 01-04-20, 10:00 PM   #1501

سمية سيمو


? العضوٌ??? » 396977
?  التسِجيلٌ » Apr 2017
? مشَارَ?اتْي » 4,356
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
?  نُقآطِيْ » سمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك action
?? ??? ~
keep smiling
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي


(القطعة الثانية)
===========

**قبل عام من الأحداث السابقة **
***************

كان يجلس على مكتبه في غرفة الكشف الخاصة به في عيادته انتظاراً للزائر القادم...
وما إن علم من مساعدته أنها طفلة حتى استخرج من درج مكتبه ذاك القناع الملون برسومه الطفولية -والذي لا يظهر منه سوى عينيه- ليضعه على وجهه ..
طريقة لطيفة تعلمها هناك في انجلترا لإزالة الخوف المعتاد لدى الصغار من طبيب الأسنان.
أجل ...هو كان شديد التفاني في عمله خاصة أن عيادته هنا حديثة الإنشاء ويحتاج لبناء سمعة جيدة لها بعد عودته الوشيكة من لندن...
والتي لم يتجاوز عهدها بضعة أشهر بعد عامين كاملين قضاهما هناك .
فُتح الباب لتدخل منه الصغيرة التي ملأت ضحكاتها المكان فور رؤيته بقناعه المرح ومعها امرأة لم يتبين ملامحها كعهده ...
فآخر ما يلفت نظره في هذا العالم....النساء!
ربما يكون هذا غريباً على رجل بوسامته وشخصيته الجاذبة...
لكنه كان مناسباً لماضيه على أي حال!
جلست الصغيرة على الكرسي الخاص بالكشف وهي تضع كفيها على شفتيها لتداري ضحكاتها فابتسم وهو يسألها بلطف:
_الحلوة بتشتكي من إيه؟!
_ضرس مسوس...ورافضة تخلعه...ومامتها قلبها خفيف مش قادرة عليها.
والإجابة جاءته من المرأة التي اصطحبتها والتي لم تزد في عينيه عن فتاة مراهقة ...
فنظر إليها ليقول بلهجة مهذبة:
_حضرتك تقربيلها إيه؟!
_أنا جارتهم .
قالتها باقتضاب فأومأ برأسه بلا معنى قبل أن يقوم من مكانه ليجلس على كرسيه جوار الصغيرة كي يبدأ عمله الذي أداه كما ينبغي...
صحيح أن الصغيرة كانت مزعجة -نوعاً - لكنه عرف كيف يحتوي دلالها بحزمه تارة وبحنانه تارة أخرى ...
تماماً كما يفعل مع بنات خالته منذ سنوات مارس فيها دور الأخ بجدارة ...
سواء كان قريباً هنا معهن أو بعيداً في انجلترا !

_خلاص يا بطلة...وادي يا ستي الضرس المتعب...قوليله "باي باي"...واستعدي لاستقبال الضرس الجديد .
قالها بمرح وهو يرفع الضرس المخلوع أمام عيني الصغيرة الدامعتين والتي ابتسمت رغم ألمها قبل أن تشيح بوجهها قائلة:
_ماما؟!
فجذبتها الفتاة من كفها لتوقفها برفق ثم قبلت جبينها لتقول لها برقة:
_ماما بره مستنياكي...اخرجي لها...وأنا هاكشف على أسناني أنا كمان .

أومأت الصغيرة برأسها في طاعة لتغادر غرفة الكشف ...
بينما جلست هي مكانها لتلتقي عيناهما فتفاجئه بقولها:
_ممكن دلوقت تقلع "الماسك"!

ارتفع حاجباه بدهشة للحظة من عبارتها وهو ينتبه أنه لايزال يرتدي قناعه الطفولي ...
لكن دهشته لم تكن من كلماتها بل من اللهجة التي نطقتها بها ...
لهجة دافئة حوت حميمية غريبة وكأنها تملك الحق فيما تطلبه ببساطة ...
لكنها امتزجت بلوم غامض لم يفهمه !
حسناً....لا بأس!
لقد اعتاد جرأة النساء خاصة من زبائنه هنا...
يبدو أن لديه هنا واحدة أخرى تظنه صيداً سهلاً وهو يستمتع بهذه اللعبة معهن ...
أجل يستمتع برؤية حيلهن وهو يضحك منهن سراً لأنه خير من يدرك أنه لن يقع في شباك امرأة من جديد ...
لكن ما المشكلة؟!
قليلٌ من تسلية كهذه هو ما يصنع لحياته الباهتة معنى!
لهذا رمقها بنظرة تقييمية هذه المرة ....
شقراء فاتنة قد تسيل لعاب أي رجل غيره...
خصلات شعرها الذهبية التي ظهرت بوضوح خلف حجابها -المنحسر قليلاً- كفيلة باستدعاء جيش من الراغبين فيها لكن ليس هو بالتأكيد...
أمه شقراء وزوجته السابقة كانت كذلك...فما المبهر هنا؟!
بل إن قامتها الضئيلة فقيرة المنحنيات تجعلها للدمية أقرب منها لامرأة !
لولا....
لولا هذه النظرة العميقة في عينيها !
أجل ...لو كان جسدها جسد فتاة مراهقة تتفتح للتو براعم أنوثتها...
فنظرتها نظرة عجوز ثاقبة سقاها الدهر الألم والحكمة بنفس الملعقة!

_أقلعه ليه؟! عينيّه مش كفاية ؟!

قالها ببعض العبث ليجيب على عبارتها مدركاً تأثير نظراته العسلية التي تصنع مع سمرة بشرته مزيجاً رجولياً آسراً على الجنس الآخر كما أخبرته -إحداهن- يوماً !
ثم قام من مكانه ليضع بعض الأدوات في جهاز التعقيم متوقعاً منها المزيد من الدلال والتغنج لفتح حوار يتوقع آخره...
لكنها فاجأته بصمتها التام لبضعة دقائق متجاهلةً عبارته مما أشعره ببعض الحرج قبل أن تقول بلهجتها الغريبة:
_لطيفة قوي حركة "الماسْك" دي ...يا ترى بتعملها عشان الشغل بس واللا عشان بتحب الأطفال؟!
_بكرههم جداً!

قالها بسرعة دون تفكير لكنها لم تبدُ مندهشة ...
بل ابتسمت وهي تقول بثقة من تدرك جيداً ما تتحدث عنه :
_طبيعي!..واحد موسوس نظام زيك أكيد بالنسبة له الأطفال بعفويتهم وفوضاهم كارثة!

اتسعت عيناه بدهشة وهو يراها تتحدث عنه بهذه الخبرة والبساطة وكأنها تعرفه منذ زمن ...
قبل أن تعود ابتسامته الساخرة لشفتيه!
هل هذه هي خطوتها الثانية في خطة الإيقاع به ؟!
أن تتظاهر بأنها تفهمه أكثر مما يبدو؟!
حسناً...فلتلعب هي ...وليستمتع هو بالمشاهدة ...والنتيجة !!
لهذا تنحنح بخفوت ليتجاهل عبارتها تماماً قبل أن يستعيد صوته جديته بسؤاله:
_بتشتكي من حاجة معينة ؟!

هزت رأسها نفياً ثم استرخت في مكانها أكثر لتشرد ببصرها في السقف مع قولها:
_لا...مجرد اطمئنان بس.

عاد ليجلس مكانه ثم خلع عنه القناع ليضعه جانباً قبل أن يميل عليها ليبدأ في ممارسة عمله بمهنية تامة متجاهلاً رائحة عطرها التي تجتاحه بهذا القرب ...
لقد تعلم من عشرته لوالدته وبنات خالته أن عطر المرأة يحكي ببساطة حكايتها !
فتارةً هو نفاذٌ ثابت واحدٌ لا يتغير كما تتخيره هانيا واشياً بجديتها وقوتها...
وأخرى هو هادئٌ تكاد لا تتبينه كما تتخيره رانيا منبئاً ببساطتها وضعفها...
وأخرى هو حيويٌّ لعوبٌ متغير كما تتخيره داليا التي لا تكاد تثبت على اختيار واحد في عطورها كعهدها في حياتها كلها ...
وتارة هو صارخٌ باهظ يكاد ينادي الجميع أنا هنا....كما تتخيره أمه...نبيلة...عفواً بل ...بيللا ...."النجمة"!!

لكن هذه "المرأة -الفتاة -العجوز" التي -أمامه- الآن عطرها ملون!
لا يدري كيف يمكن وصف عطر بهذا الوصف لكن هذا ما يشعر به الآن ...
وكأنما رائحته اجتاحته كعاصفة استوائية قبل أن تلفحه شمسٌ حارقة لتلقي به على شاطئ منعش في لحظة واحدة !

عطرها يحكي حكايتها : "أنا سحر الألوان ومكرها...فاحذرني!"
وهو "رجل الأَسوَد"الذي لم يخشَ في حياته ك"خداع الألوان"!!

_كله تمام...واضح إنك مهتمة بأسنانك قوي!
قالها أخيراً بنفس اللهجة العملية وهو يبتعد عنها ليرفع عينيه إليها فتقابله هذه النظرة العاتبة في عينيها ...
نظرة أربكته كثيراً وهو يشعر بها صادقة حارة تلومه على شيء لا يفهمه...
لهذا عاد يتفحص ملامحها باهتمام ليسألها :
_احنا اتقابلنا قبل كده؟!
هيئ إليه أن شفتيها قد حملتا ابتسامة ساخرة مع إجابتها:
_مادام مش فاكر يبقى مش مهم!
عقد حاجبيه بمزيج من دهشة وضيق...
هذه الدمية الغامضة نجحت في لفت انتباهه حقاً !
هو يشعر أنه قد رآها من قبل لكنه لا يذكر أي تفاصيل...
ومن الواضح أنها هي تذكر ...تذكر جيداً!

_شكراً يا دكتور...أنا خلاص اطمنت!
قالتها وهي تقوم من مكانها وقد بدت له عبارتها وكأنها تحمل أكثر من معناها ...
فقام ليقف بدوره متأملاً إياها من جديد ...
قميصها السماوي وسروالها الأبيض يتناغمان مع لون وشاح رأسها الذي حمل اللونين معاً ...
ساعة معصمها ب"ماركتها الشهيرة" التي يعرفها جيداً بحكم عشرته الطويلة لوالدته وقريباته توحي بانتمائها لطبقة معينة...
حذاؤها الرياضي أيضاً كان مميزاً ليس فقط بذوقه لكن بارتفاع ثمنه !
ومن مثله يدرك هذا وهو الذي قضى جمعته السابقة كاملة في التسوق في إحدى المولات الشهيرة مع أربع نساء لا يستهويهن شيء كالثياب و"الموضة"؟!!
بيللا وهانيا و رانيا وداليا...أربع فقط قادرات على ابتلاع ثروة بلد بأكمله !

انقطعت أفكاره عندما توجهت نحو الباب لتغادر فانعقد حاجباه بضيق وهو يشعر بأن ثمة شيء ما خطأ!
هل ستغادر هكذا ببساطة؟!
لماذا شعر إذن بأن لغة جسدها تفضح أكثر من هذا؟!

وكأنما سمعت أفكاره عندما التفتت نحوه وهي تمسك مقبض الباب لتقول بلهجتها الغامضة:
_ما تتعبش نفسك وتحاول تفتكرني دلوقت...ممكن لما نتقابل المرة الجاية .

قالتها ثم غادرت الغرفة لتغلق الباب خلفها دون أن تنتظر رده ،فازداد انعقاد حاجبيه وهو يقول في نفسه:
_المرة الجاية؟! هو لسه فيها مرة جاية؟!
ثم دار حول المكتب ليتصل بمساعدته كي يسألها عن اسم الزائرة السابقة ....

ياسمين ذو الفقار!
الاسم زاده حيرة فوق حيرته فهو لا يذكر أنه قد سمع به من قبل ...
لكن ما صدمه بحق هو ذاك اللقب الذي سبق الاسم ...
"مدام"!
==========
_أنا فرحانة جداً إن أمنية حياتي اتحققت ...أحمد ورامز بقوا أعز أصحاب زيي أنا وانتِ!
قالتها هانيا برضا صبغ نبرتها الرصينة كالعادة بينما تجلس مع صديقتها المقربة غادة في النادي ...
والحقيقة أنها كانت حقاً سعيدة بتقارب زوجيهما ...
فالصديقتان اللتان جمعتهما الحياة صدفة منذ أكثر من أربع سنوات في الجامعة صارتا في علاقة هي للأخوة أقرب من الصداقة!
على الرغم من تضاد صفاتهما نوعاً بطبيعة هانيا التي تميل للعقلانية والمنهج العملي في التفكير على عكس غادة التي تغلب عاطفتها عقلها !
لقد كانت هانيا تخشى أن تفرقهما الظروف ...
خاصةً أن غادة كانت وافدة إلى جامعتهم من بلدتها الأصلية في "بورسعيد" لكن زواج الأخيرة هنا في القاهرة كان المفاجأة الأسعد لكلتيهما.

_أيوة يا ستي...الباشاوات طنشونا وسافروا لوحدهم الاسكندرية...قال إيه حنوا لأيام العزوبية !
قالتها غادة بنبرتها المنطلقة لترد هانيا بقلق:
_أنا بس قلقانة من سواقة رامز ...هايجنني بطبعه المندفع ده في كل حاجة!
ضحكت غادة ضحكة عالية لفتت إليهما بعض أنظار الحضور في النادي لكنها لم تهتم بينما تقول:
_الدنيا لازم تتعاش كده ...باندفاع...العقل ده يا حبيبتي بيقصر العمر ...وبعدين ما تقلقيش ...أحمد معاه وهيلجمه ...انت ما تعرفيش أبو حميد الجامد !
ثم تنهدت بحرارة لتردف وهي ترفع رأسها للسماء بينما تفتح ذراعيها على اتساعهما غير آبهة بما يترصدها من عيون:
_ياااااه...أنا حاسة إني سعيدة جداً ...عمر الدنيا ما ضحكت لي زي الأيام دي!

قالتها بنبرة تتراقص حروفها طرباً فابتسمت هانيا وهي تراقبها بملامح متفحصة ...
لقد عانت غادة في حياتها كثيراً مع زوج والدتها ...
وزواجها من أحمد هنا بعيداً عن مسقط رأسها كان بمثابة طوق نجاة لها !
غادة لم تكن شديدة الجمال لكنها باهظة الأنوثة !
شيءٌ ما بإطلالتها يجذب إليها الأنظار أينما حلت ...
ربما هذا هو ما جعل أحمد يهيم بها حباً منذ أول لقاء بينهما ويجتهد في وظيفتين معاً كي يستطيع التعجيل بزواجهما!
حكاية وردية لن تصادفها كثيراً في هذا الواقع الذي تعترف هي بشروطه ...
لهذا قبلت الزواج من رامز بطريقة تقليدية ...
"زواج صالونات" كما يسمونه من رجل بوظيفة مرموقة في إحدى شركات الأدوية المعروفة ...
على قدر لا بأس به من الوسامة أضاف إليها -جسده الرياضي- الكثير من الرصيد في نظر النساء العاديات ...وأضاف إليها -خلقه الرفيع- أكبر رصيد في نظرها هي!

لهذا لم تتردد في قبول هذه "الصفقة الرابحة" كما رأتها والتي زادت قيمة في عينيها بعد زواجهما وهي ترى بعينيها كيف يعاملها ...
يحبها؟!
لا تدري!
هو -فقط -يعاملها وكأنها شمسٌ ثانية في كوكب لم يعترف إلا بشمس واحدة!
أجل ...اهتمامه العجيب بها يقارب الهوس !
ربما تجده إحداهن مزية لن تتكرر في عالم الرجال ...
لكنه يسبب لها هي الكثير من الارتباك !
هو أشبه بجواد جامح يريد الانطلاق في ربوع لا متناهية مهما كانت المخاطرة...
وهي قطةٌ حذرة تتشبث مخالب قدميها بالأرض الثابتة تحتها ولا تجيد فنون المغامرة ...
فأي اختلاف!!
على عكس علاقة صديقتها بزوجها واللذان يبدوان نسختين متطابقتين في كل شيء !
لهذا تنهدت بحرارة قبل أن تميل بجذعها للأمام عبر المائدة سائلة صديقتها:
_حبتيه؟!
فاقتربت منها غادة بدورها لترد بهيام:
_بموت فيه...كل حاجة فيه تتحب ...مخلليني طايرة في السما مش ماشية على الأرض!
اتسعت ابتسامة هانيا وهي تشعر بالكثير من الرضا ...
رغم عدم اعترافها بالحب واستماعها لصوت العقل أكثر ...
لكنها تشعر حقاً بأن "طوفان المشاعر" هذا هو ما تحتاجه غادة لتنسى كل ما مر بها من ويلات !

_وانتِ عاملة إيه مع رامز؟!
سألتها غادة بغمزة ماكرة فرفعت هانيا كوب العصير الموضوع أمامها لترتشف منه رشفة قبل أن تقول بجدية تامة:
_معقول...كويس...انسان واضح مستقيم..بيحترمني...هانتظر إيه أكثر من كده ؟!
مطت غادة شفتيها باستياء لتقول مستنكرة:
_يا مغيث! ده كلام واحدة عن جوزها بعد شهر واحد من جوازهم ؟! امال بعد كام سنة هاتقولي إيه ؟!
ابتسمت هانيا وهي تهز رأسها بلا معنى لتردف صديقتها بينما تتلاعب بخصلات شعرها المصبوغة بلون أحمر قاتم جذاب:
_كنت فاكراكي هتتغيري بعد الجواز...تفكّيها شوية كده!
لكن هانيا ردت بنفس الأسلوب الرصين:
_مشكلة رامز إنه متطلب ...زي أي راجل عايز مراته تكون ليه بنسبة مية في المية ...مش قادر يفهم أد إيه شغلي مهم عندي ...عايز يرجع من شغله آخر النهار يلاقي شمع وورد ورومانسية...وأنا يادوبك بلاقي وقت عشان أكمل رسالتي !
_هاقول عليكِ إيه؟! فقرية!!
هتفت بها غادة ضاحكة لتشاركها هانيا الضحك قبل أن تردف الأولى بدلالها الفطري:
_أنا بقى مدلعة أحمد على الآخر...مستعدة أعلمك!
أرفقت عبارتها الأخيرة بغمزة عابثة فاحمر وجه هانيا مع قولها:
_عيب يا بنت!
ضحكت غادة بانطلاق وهي تضم كفيها قبل أن تقول لها بحماستها الفائرة:
_عندي مفاجأة ! مش طول عمرك نفسك أتحجب زيك؟! خلاص يا ستي ...جهزي نفسك عشان ننزل نشتري "طُرَح" و"سكارفات"تليق على هدومي!
_بجد يا غادة؟! أكيد أحمد هو اللي أقنعك!
هتفت بها هانيا بحماس فأومأت صديقتها برأسها قبل أن تمسك إحدى خصلات شعرها لتنظر إليها قائلة بغرور مصطنع:
_حقه يبقى الجمال ده له لوحده !
ضحكت هانيا وهي تشعر برضا حقيقي عن حياة صديقتها التي تتحرك للأحسن كما يبدو ...
لكن هاجساً مزعجاً جعلها تسألها بتردد:
_والدتك بتكلمك؟!
انطفأت ملامح غادة فجأة مع سؤالها مما أشعرها بالندم خاصة مع جوابها المقتضب:
_مرة واحدة من يوم ما اتجوزت...
ثم ابتسمت بمرارة لتردف:
_خلاص ...بورسعيد بقت متحرمة عليّ لآخر يوم في عمري!
امتزجت الخيبة بالإشفاق على وجه هانيا التي تنحنحت بحرج لتقول مغيرة الموضوع:
_طب ياللا بينا نشوف الحاجات اللي عايزة تشتريها ...الحقيني النهارده وأنا فاضية!
لكن ملامح غادة بقيت على شرودها المتألم للحظات قرأت فيها هانيا ما يعتمل في صدرها من ذكريات بائسة...
قبل أن تتغلب صديقتها عليها بصمودها المعهود لتغتصب ابتسامة باهتة على شفتيها وهي تقوم من مكانها لتقول بمرح مصطنع:
_تمام...هو ده الكلام !
قامت هانيا لتقف بدورها وهي تتناول حقيبتها بينما تلملم أشياءها المتناثرة على المائدة ليقاطعها رنين هاتفها ...
ابتسمت وهي تلمح اسم "رامز" على الشاشة ففتحت الاتصال قبل أن تتجهم ملامحها فجأة مع هتافها الجزع:
_حادثة؟! حادثة إيه؟!
=========
_متأكدة إنك جاهزة للفرح ؟!
قالها أشرف عبر الهاتف بقلق فابتسمت رانيا وهي تدرك سر قلقه ...
لقد تخطت منذ بضعة أشهر جراحة ليست هينة ...
الواقع أنها لم تجتزها وحدها ...هو شاركها فيها ...
كما شاركها عمرها كله ...
ليكمل صنيعه معها بأن تبرع لها ب"كليته"!!
لقد سمعت كثيراً عن فتيات يتباهين بعشق رجالهن ...
فكيف عن رجل منحها جزءاً من جسده؟!
ورغم أنها رفضت في البداية خوفاً عليه لكنه أصر على هذا حتى رضخت في النهاية ...
ليكتمل شعورها به حقاً أنه "نصفها الآخر"!!
كل يوم يمر عليهما معاً يثبت لها أن قصة حبهما التي بدأت صغاراً ليست ككل الحكايات...
هي ليست قصة حب ...هي قصة عمر!

_إيه ؟! مش عايز تفرح يا "عريس"؟!
قالتها بخجل وهي تتخيلهما معاً في حفل عرسهما الذي تحلم به منذ سنوات ما عادت تعرف عددها ...
ليصلها صوته المتهدج بعاطفته:
_انتِ عارفة كويس إني بنام واقوم أحلم بالليلة دي ...بس أنا خايف عليكي.
_ما تخافش يا حبيبي...أنا بقيت كويسة جداً...ورجعت أمارس حياتي بصورة طبيعية !
قالتها بنبرة مصطبغة باللهفة التي لم تفوتها أذناه العاشقتان ليضحك أخيراً ضحكة قصيرة سبقت قوله العابث:
_العروسة مستعجلة؟!
عضت شفتها السفلى بخجل وهي تراقب احمرار وجهها في مرآتها المقابلة لتصمت للحظات قبل أن تقول لتغير الموضوع:
_الشقة باقي فيها تفاصيل بسيطة...سهل تخلص في خلال شهر بالكتير...عدي عليَّ بكره ونشوف مهندس الديكور هايقول إيه!
_بلاش بكرة...ماما عندها جلسة !
قالها بنبرة مقتضبة نقلت لها حزنه كما في كل مرة يذكر فيها هذا الأمر عن مرض والدته ب"السرطان" والذي اكتشفوه مؤخراً...
هي أكثر من تعلم عن تأثره بهذا الخبر منذ عرفه فحبه لوالدته كان ولا يزال مضرب الأمثال ...
ربما لهذا لم يتردد لحظة في منح رانيا فرصة جديدة للحياة بتبرعه لها ب"كليته" ...
وكأنه يعطيها الشيء الذي لم يستطع إعطاءه لأمه !
هكذا هو أشرف دوماً طاقةٌ من حنان تتسع لتحتوي الجميع ...
ليس هي فقط ...بل أمه وشقيقته كذلك بعد وفاة والده ليتسلم إدارة مصنعه الخاص ب"لعب الأطفال" في هذه السن الصغيرة ...
لكنه أثبت كفاءة لا بأس بها حتى وقف على قدميه أخيراً...
ليأتي مرض أمه فيكون الضربة القاصمة له !

لهذا ازدردت ريقها ببطء لتغمغم بنبرة مواسية:
_معلش يا حبيبي ...ربنا يخفف عنها !
سادهما صمت قصير أدركت خلاله ما يعانيه قبل أن يعود ليقول بصوت متحشرج:
_هي كمان عايزانا نعجل الفرح زيك!
دمعت عيناها لما يقصده بعبارته وهي تتذكر حب المرأة الشديد لها منذ كانت الجيرة تجمعهم في بيتهم القديم قبل أن ينتقلن للعيش هنا في هذا البيت بعد وفاة والديهن ...
حيث جمعهن يامن مع والدته ليلمّ شمل ما بقي من عائلته قبل أن يسافر انجلترا .
ومع هذا بقيت المرأة الطيبة التي أدركت حب ابنها الشديد لها على علاقتها الوثيقة بها حتى تمت خطبتهما منذ عام تقريباً ...
ربما لهذا تريد تعجيل زواجهما ...
لاريب أنها تخاف أن يدركها الموت قبل أن تفرح بابنها ...
لهذا تمتمت بنبرة حنون:
_ربنا يديها طولة العمر...شوف هي عايزة إيه ونعمله...المهم رضاها !
_بحبك!
كلمته التي تسمعها منه كل يوم منذ سنوات تقارب عمريهما ...
لكنه قادرٌ أن يجعلها كل يوم بمذاق مختلف!
ربما لأنها تتلون بأصباغ شعوره دون أن تفقد لونها الخاص...
هو يحبها عندما يحزن...عندما يفرح...عندما يخاف ...عندما يأنس...
يحبها كل يوم كأنه ...أول يوم!
وهي تسمعها منه كل مرة كأنها أول مرة !
لهذا صمتت للحظات تتذوقها قبل أن تردها له بمثلها ...
لكنها تذكرت شيئاً جعلها تقول بتردد:
_يامن كان عايز يفاتحك في حاجة!
صمت قليلاً قبل أن يقول ببعض الضيق:
_موضوع الشقة ...كلمني النهارده الصبح وقاللي...وانا قلت له مفيش مشكلة...هاكتب نُصّها باسمك مقابل المبلغ اللي هو دفعه في تشطيبها...ولو عايز أكتبها كلها مفيش مشكلة.
تنحنحت لتقول بالكثير من الحرج:
_انت مش غريب ...وعارف يامن وطبعه!
تنهد ليجيبها بتفهم :
_عارف ومقدر والله...بس كان نفسي الثقة بيننا تبقى أكبر من تفاهات المواضيع المادية دي!
هزت رأسها وهي توافقه الرأي لكنها كانت عاجزة عن معارضة يامن...
الجميع يعلمون أنه برغم حنانه واحتوائه لهن لكن وسواس الشك الذي يحتل جنباته يمنعه من منح ثقته لأي مخلوق ...
والحقيقة أنه كان معذوراً في هذا مع ظروف نشأته والصدمات التي تعرض لها بعدها ...
لهذا كانت حائرة في موقفها هذا خاصة أنه بعدما فعله أشرف معها في محنة مرضها الأخيرة لم يكن هناك مجال للشك في نواياه .
لكن يامن يرى أنه دفع هذا المال لأجل قريبته وحقها أن يثبت هذا في أوراق رسمية !

_أنا أو انت مش هاتفرق يا حبيبي...بس نريح باله .
قالتها محاولة استرضاءه فضحك ضحكته النقية التي تعشقها ليقول بمرح:
_يا ستي ربنا يريح باله ...وبال بنت خالته...وبال حبيب بنت خالته .
ضحكت أخيراً ضحكة مشبعة بارتياحها وهي تود الآن لو تحتضنه بعمق امتنانها له !
طالما كان أشرف مقدراً لطبيعة شخصيتها الضعيفة التي تجنح دوماً للسلم ولا تجيد المواجهات ...
لهذا كان يحاول دوماً تجنيبها الخوض في هذا إما بتذليل العقبات أو مواجهتها بدلاً منها ...
محظوظةٌ هي به ...
ولو لم يكن غير حبه في حياتها ...فكفى بها نعمة!
لهذا ما كادت تنهي الاتصال معه حتى رفعت كفها بدبلته فيه تقبلها عندما اقتحمت المكان داليا بعاصفة كعادتها...
_سيبك من اللي بتعمليه ده ...وخلليكي في المهم....شوفي جبتلك إيه!

قالتها وهي تغلق الباب خلفها بقدمها لترفع ذراعيها بما يحملانه من أكياس مردفة:
_فرحك قرب وعارفاكي خايبة وكسّوفة ...قلت أنقذ الغلبان اللي صابر من بدري ده !
اتسعت عينا رانيا بترقب وهي تتابع معها ما تستخرجه من الأكياس من متعلقات نسائية شديدة الخصوصية ...
قبل أن تشهق بعنف لتهتف مستنكرة:
_انتِ وقفتِ في محل تشتري حاجات زي دي لوحدك؟!
ضحكت داليا بانطلاق من خجل شقيقتها المناقض تماماً لطبيعتها المتحررة ...
قبل أن تهز رأسها وهي تستخرج من أحد الأكياس ثوباً شديد الأناقة بلون الكشمير رفعته أمام عينيها لتقول بافتتان:
_وده بقى اللي هاحضر بيه فرحك..استني لما تشوفيه عليّ...تحفة !

قالتها ثم خلعت ثيابها بسرعة لترتديه أمام المرآة ...
فتأملتها رانيا بنظرات حنون معجبة وهي تعترف أن الثوب زاد شقيقتها فتنة على فتنتها ...
شعرها الكستنائي القصير الذي بالكاد يلامس كتفيها ويلائم استدارة وجهها ..
عيناها البنيتان المتألقتان بلمعة شقاوة عابثة ...
أنفها المنمنم وشفتاها المكتنزتان بامتلاء ..
ملامح رائعة تمنحها ذاك المزيج المذهل بين براءة الأطفال وفتنة النساء!
كان الثوب شديد التحفظ بأكمامه الطويلة وتصميمه الانسيابي -فكما يبدو أنها راعت ذوق يامن- لكنه كان شديد الجاذبية حقاً ...
لهذا تقدمت نحوها لتحتضنها أمام المرآة قائلة:
_قمر يا حبيبتي ...قمر!

لكن شقيقتها بدت مأخوذة مثلها بشكل الثوب عليها لتشرد قليلاً قبل أن تهمس :
_تفتكري هاعجب يامن؟!
مطت رانيا شفتيها باستياء وهي تدرك مغزى سؤالها لتسحبها من ذراعها فتجلسها جوارها على طرف الفراش قائلة برفق متعقل:
_افهميني كويس يا حبيبتي...انتِ لسه صغيرة...كلنا بنحب يامن بس مش الحب اللي في دماغك...هو بالنسبة لنا السند...الأمان...مش عايزاكي تكبري الموضوع جواكي أكتر من كده .
كانت تدرك أن داليا -بحكم كونها الصغرى بينهن- هي أكثر من تعلقت بيامن لأنها رأت فيه صورة الأب الذي حُرمت من حنانه ..
لهذا تخشى عليها من خيالاتها المراهقة التي تبحث عن الحب في كل رجل تراه !

_لكن أنا بحبه بجد!
هتفت بها داليا بعناد اشتعلت له عيناها المتقدتين فأمالت رانيا رأسها لتسألها بنبرة عاتبة:
_زي ما بتحبي دكتورك في الجامعة ؟! واللا زي ما بتحبي هيثم زميلك؟! واللا يمكن الرجل الغامض بسلامته اللي بيبعتلك رسايل ع الماسنجر من غير ما يقول هو مين؟!
ابتسمت داليا رغماً عنها لتلوح بذراعيها قائلة بحماس:
_كلهم! بحبهم كلهم...أستاذ ياسر ده حاجة كده هيبة ...لما بشوفه بحس إني مخضوضة كده ...بس لما بيبتسم لي بحس الدنيا كلها بتضحكلي...هيثم ده بقى رفيق الكفاح من أيام الابتدائي...لما بكلمه بحس إني بكلم نفسي...بيفهمني قبل ما أقول ولا حرف ...
ثم تناولت هاتفها من جيبها لتنظر لشاشته باحثةً عن رسالة من عاشقها المجهول لتردف :
_لكن النجم الغامض ده بقى مش شاغل بالي قوي...ممكن تكون واحدة صاحبتي عاملاها فيّ فصل...ماهو مش معقول حد يكون قريب كده وواخد باله مني وأنا مش حاسة !
_انتِ سامعة نفسك يا داليا؟! فاهمة كل اللخبطة اللي بتقوليها دي؟!

غمغمت بها رانيا بمزيج من قلق وضيق من مشاعر شقيقتها المتخبطة...
لكن داليا كتفت ساعديها لتقول بنبرة عابثة:
_مادام مابعملش حاجة غلط ماحدش له عندي حاجة ...أديني بتسلى لحد ما اشوف حياتي رايحة على فين !
رمقتها رانيا بنظرة طويلة قلقة وهي تعجز عن مجاراتها في هذا الحديث ...
تخاف أن تثقل عليها في النصيحة فتتوقف عن مصارحتها بما يحدث خلف ظهرها ...
وتخشى في ذات الوقت أن تفرط في التساهل مع ما تسمعه فتظن شقيقتها الأمر هيناً...
وبين هذا وذاك هي عاجزة عن اتخاذ قرار كعهدها !
داليا أكثرهن شططاً عن طريقة يامن شديدة التحفظ معهن ...
بل إنها تعتقد إن غيابه في لندن لعامين هو الذي ترك هذا الأثر على داليا التي كانت أشدهن تعلقاً به قبل سفره ...
لقد كانت تحتاج حزمه الرفيق في هذه المرحلة من حياتها ...
وعودته الآن زادتها تخبطاً لتتغير نظرتها نحوه من الأخ إلى صورة من فارس الأحلام!

لكن نغمة خاصة من هاتف شقيقتها قطعت أفكارها فالتفتت نحو الأخيرة التي فتحته بلهفة تطالع آخر رسالة من "العاشق الغامض":

(كل الأشياء في حياتي فقدت قيمتها بالتقادم...
إلا أنتِ!
كلما مر يومٌ على قلبي يزداد تعلقاً بكِ وكأنكِ سرّه الأصيل!
أنتِ القديمة المتجددة...والعتيقة التي تزيدها الأيام قدسية! )

ورغم أن الكلمات وقعت في نفسها موقعاً خاصاً لكنها أبت الاعتراف بهذا وهي تبتسم بسخرية لتعطي شقيقتها الهاتف هاتفة باستنكار مرح:
_شوفي شوفي الباشا كاتب إيه !! الناس طلعت القمر وده لسه عايش في زمن عبد الحليم وفاتن حمامة !

تناولت رانيا منها الهاتف لتقرأ كلماته بتمعن قبل أن تقول لها بتردد:
_مش عارفة اللي هاقوله صح واللا لأ...بس حاساه صادق قوي!
هزت داليا كتفيها باستهجان مع ردها:
_جو الأفلام ده ما بحبوش...أنا واحدة أحب أشوف بعيني وأمسك بإيدي مش أبني قصور في الهوا...بس عموماً خللينا مستنيين .
_مش هاتردي عليه؟!
سألتها رانيا بتوجس لتغمزها بمكر ناسب قولها:
_أنا بسيب الباب موارب ...كل رسالة منه برد عليها بعلامة استفهام وبس...عشان يعرف إني قراتها بس برضه مااريحوش ...بلاعبه زي ما بيلاعبني!
عقدت رانيا حاجبيها بضيق من أسلوب شقيقتها الذي لا يروق لها بحال ...
لتحتد لهجتها نوعاً وهي تقول لها :
_يامن لو حس بحاجة من كل ده هيكسر الدنيا ...انتِ عارفاه!
فتراقص حاجبا العابثة بمرح لتقول بشقاوتها المعهودة :
_أنا عارفة هو محبكها كده ليه ؟! امال لو ماكانش عاش في انجلترا أكتر من سنتين ...ما تخافيش عليا...احنا نفوت في الحديد يا بنتي!
لم تكد تتم عبارتها حتى رن هاتفها برقم هيثم فوقفت لتقول لها بسرعة :
_ده هيثم...هارد عليه بره عشان ده رغّاي مش عايزة أدوشك!
قالتها وهي تغادر الغرفة بخطوات مندفعة متجاهلة نظرات رانيا المستاءة والتي تنهدت بقلق ناسب همسها:
_ربنا يستر...خايفة عليكي من نفسك يا داليا .
=======
_من فضلك...عايز أقابل الشيف!
قالها يامن وهو يلوح للنادل خفية بورقة نقدية كبيرة فتردد الرجل للحظة قبل أن يقول بارتباك:
_مش عارف هينفع واللا لأ...بس أحاول!
قالها وهو يدس الورقة النقدية في جيبه قبل أن يتوجه نحو الداخل تحت نظرات يامن المتفحصة للمكان ...
المطعم يبدو شديد الأناقة بذوق بسيط يميل للطابع الغربي...
جدرانه بيضاء ناصعة مع ديكورات بسيطة حملت ألوان قوس قزح برقة متناهية...
خاصة مع توزيع الإضاءة الممتاز الذي يجعل المكان ككل مبعثاً لطاقة إيجابية لا ينكرها ...
ورغم أنه يفضل المطاعم الكبيرة التي جربها واعتادها مع طبيعته المتشككة دوماً ....
لكنه استجاب لاقتراح صديقه ذاك الذي هتف به الآن:
_مفيش فايدة فيك... هتفضل موسوس كده ...أنا قلت عيشتك في لندن هتفرق في طبعك الرخم ده...مش معقول كل ما نروح مطعم تبقى عايز تشوف الطباخ!
فالتفت نحوه ليقول مبتسماً:
_من صغري وأنا ماقدرش آكل حاجة إلا لو شفت من إيد مين...تقدر تقول عليَّ معقد ...بس للأسف مش عارف أغير العادة دي...وعموماً دي مش مشكلة ...كل مطعم رُحته كان بيتفهم الموضوع ده والفلوس بتسهل كل حاجة!
ضحك في عبارته الأخيرة فابتسم صديقه وهو يميل عليه عبر المائدة قائلاً:
_ما اظنش هينفع المرة دي...ما اعتقدش جيسي ممكن تقابل حد من زباين المطعم.
فابتسم وهو يغمز صديقه قائلاً بمرحه الماكر:
_شكلك مظبط الشيف وجايبني مصلحة....طب كنت قول بدل ما شكلي يبقى وحش كده...على الأقل كنت ظبطت مقاس "القرطاس"!

قال عبارته الأخيرة وهو يشير بأصابعه نحو رأسه ساخراً ...
لكن صديقه ضحك قبل أن يجيبه:
_لا ...دي ما تتظبطش...دي حتة شيكولاتة كده تبص لها وتحلم من بعيد بس ما تقدرش تمد إيدك!
_يا سلاااااام!
قالها متهكماً وهو يصفق بكفيه في حركة ساخرة لكن صديقه استطرد :
_جيسي صاحبة المكان مش مجرد شيف...بتعمل الموضوع هواية ...بس زي ماانت شايف المطعم نجح جداً في فترة بسيطة...صراحة هي دماغ بنت لذينا...طوب الأرض بيموت فيها...باباها رجل أعمال مستقر في ماليزيا دلوقت ومامتها ماتت من فترة...عايشة لوحدها و....
_خلاص يا عم....هو أنا هاخطبها؟!
هتف بها مقاطعاً "نشرة الأخبار" التي انطلقت من فم صديقه والذي ضحك بعدها ليقول بفخر:
_هيعجبك "السينابون" أنا متأكد ...وهتبقى زبون كمان!

_شرف لينا يا فندم!
رفع يامن رأسه عندما سمع عبارتها...
ليفاجأ بها خلفه فاتسعت عيناه وهو يقف مكانه هاتفاً بدهشة:
_انتِ؟!

لم تبدُ عليها المفاجأة بل حملت عيناها نفس النظرة العاتبة التي لا يفهمها مع مسحة من مرح ناسبت ملامحها الطفولية وقولها:
_على الأقل المرة دي فاكر انت شفتني فين !

عقد حاجبيه بضيق لم يفهم سببه وهو يشيح بوجهه عنها ...
هو لا يحب هذا الشعور بفقدان السيطرة على أمر ما ...
وهذه المرأة تتلاعب به بغموض لا يفهمه!
لهذا عاود الجلوس على كرسيه بغطرسة قائلاً:
_مش فارقة!...الحقيقة أنا مابعرفش آكل في أي مكان إلا لما بشوف مين هيعمللي الأكل ..وأتأكد من نظافته.

لكزه صديقه في خاصرته كي ينبهه لفظاظة أسلوبه ...
لكنها لم تبدُ نافرة من أسلوبه ، بل عقدت ساعديها أمام صدرها لتقول بلهجة عملية:
_أنا الشيف هنا...لو كنت نلت رضا حضرتك تقدر تطلب الأوردر...ولو ما عجبتكش فالمطعم له بابين مش باب واحد!

قالتها ثم غادرته بخطوات واثقة متغافلة عن نظرات بعض زوار المطعم الذين كانوا منجذبين لمظهرها شديد الجاذبية ...
بينما كتم صديقه ضحكاته للحظات قبل أن يقول له معاتباً:
_تستاهل...مش هتبطل الدبش اللي بتحدفه ده ؟! حد يقول كده ؟!
رمقه بنظرة غاضبة وقد احمرت أذناه انفعالاً مع هتافه:
_أنا كده ...وإن كان عاجبك...وما تكبرهاش في دماغي أخرج بجد !
لكن صديقه ربت على ركبته ليقول مهدئاً :
_خلاص يا كبير ...روق كده...واضح إنكم معرفة قديمة !
_ولا معرفة ولا بتاع...كانت عندي الصبح في العيادة مع بنت صغيرة..وشكلها كده بترسم !
قالها بلهجته المتعالية وهو يعبث بأنامله في شعره لكن صديقه أجابه بجدية تامة:
_جيسي ما ترسمش...انت ماتعرفش كام واحد عايزين يخطبوها بس هي رافضة الموضوع تماماً ...عيشتها لوحدها خللتها بجد ب"ميت" راجل.
_يخطبوها؟! هي مش متجوزة؟!
قالها بتشتت وهو يسترجع ما ذكرته مساعدته عنها صباحاً ليجيبه صديقه:
_كانت! ومش مهم تعرف القصة !

كاد يسأله بفضول عنها لكن غروره منعه فقال بلا مبالاة مصطنعة:
_معاك حق...مش مهم!
لم يكد يتم عبارته حتى اقترب منهما النادل ليسألهما عما يطلبانه فبادر صديقه بالطلب قبل أن يقول له:
_سيبني أنا أختار لك مادام أول مرة .
هز كتفيه وهو يدور بعينيه في المكان باحثاً عنها لكنه شعر أنها لن تظهر ثانية ...
فعاد ببصره نحو المائدة يتأمل هذه المفارش البيضاء التي زينت بغرزة "الكانافا" الشهيرة بألوان الطيف كذلك لتحمل رسماً مميزاً لحرف الياء بالعربية وقد التف طرفه ليصنع شكل "القلب الشهير"!
فابتسم ساخراً من نرجسيتها -كما رآها وقتها- وظنونه تصور له أنها عاشقةٌ لنفسها بصورة مغالية كي تحمل كل مفارش المائدة ذاك النقش بأول حرف من اسمها !

_عاجباك المفارش؟! جيسي بتصممهم بإيدها ...تخيل!
قالها صديقه وهو يلاحظ تفحصه الشديد لها فاتسعت ابتسامته الساخرة لتليق بقوله:
_ده فَضا بقى!
قالها وهو يحاول التظاهر بتأمل قائمة الطعام والتي لم تحوِ سوى "السينابون" فقط لكن بأنواع عديدة ...
قبل أن ينشغل ذهنه بقصة طلاقها هذه ...
لا يكاد يصدق أن هذه القامة القصيرة والجسد النحيف ذا الملامح الطفولية قد دخل عالم الزواج المعقد بل ...وخرج منه!
ثم ما الذي يدفع رجلاً عاقلاً ليطلق امرأة بهذه المميزات ؟!
جميلة ...ذكية....ناجحة...وعلى قدر كبير من الثراء...
إلا لو كان في سلوكها -مثلاً- ما يشين ؟!
عقد حاجبيه بقوة عند الخاطر الأخير وهو يتذكر حوارهما معاً في عيادته محاولاً صبغته بسوء ظنه حتى اطمأن قلبه لسابق فكرته -السوداء-عنها!
لو كانت تحدث جميع الرجال بهذه الطريقة التي حدثته بها -والتي تمزج غموضها بعفويتها- فلاريب أن تاريخها زاخرٌ بالكثير من المعجبين...
تاريخها فقط؟!
ربما ...حاضرها كذلك!!
امرأة لعوب تستغل فتنتها وذكاءها للتراقص على مسارح الخطيئة!

انقطعت أفكاره المصطبغة بطبيعته المتشككة عندما وصل النادل بما طلبه صديقه فامتدت أنامله لقطعة الحلوى بالكراميل خاصته يتذوقها وهو يترقب لأي عيب ينتقدها به ...
لكن الحقيقة أنها كانت حقاً شهية حتى أنه التهمها كاملة تحت نظرات صديقه الراضية التي ختمها بقوله:
_مش قلتلك هتعجبك؟! هتبقى إدمان وبكرة أفكرك!
=========
_هتحضر معانا الحفلة يا يامن؟!
هتفت بها داليا بدلال وهي تتعلق بعنقه فرمقتها نبيلة بنظرة مستاءة وهي تتوقع رده:
_مين "معانا" دول؟! نبيلة عايزة تحضر هي حرة ماليش فيه...لكن انتم لأ...وأظن دي مش أول مرة نتكلم فيها في الموضوع ده !

قالها بحزم وهو يزيح ذراعي بنت خالته عن عنقه ليردف بنبرته الخشنة :
_وقلت ستين مرة قبل كده انك كبرتي على جو الأحضان والدلع ده...المرة الجاية هاحرجك بجد يا داليا!
رمقته الفتاة بنظرة غاضبة ثم هرولت إلى غرفتها لتغلق بابها خلفها بعنف فالتفتت نحوه أمه لتقول بعتاب:
_مفيش فايدة فيك...مصمم تعمل فجوة بيني وبين البنات...خلاص هيروحوا النار يعني لو حضروا معايا الحفلة!
_ياريت بلاش نتكلم في الموضوع ده عشان مانتخانقش!
هتف بها ببرود لم يخدعها فاقتربت منه لتحتضن كتفيه بكفيها قائلة :
_مش كده يا يامن ...أنا مقدرة خوفك عليهم ...لكن انت محبكها قوي!
فابتسم ساخراً ليرد بغضب هذه المرة:
_صحيح...محبكها كتير...إيه يعني حفلة فيها رقص وغنا وخمرة للصبح...بسيطة...ليه أقفلها في وشهم كده...مش يمكن مُخرج عظيم يكتشف واحدة فيهم هناك ويخلليها نجمة كبيرة زيك...وبالمرة يعيد أمجادك ويرجعوا الناس يفتكروكي!
_اخرس !
هتفت بها بحدة لتردف بصوت عالٍ بينما تشير لصدرها بغرور ناسب قولها:
_أنا سبت التمثيل عشانك ...وممكن أرجع في أي وقت بإشارة من صباعي ...لكن أنا عارفة دماغك ..ما تستغلش ده !
فالتمعت عيناه بغضب أسود مع قوله:
_عشاني؟! لا والله ؟! أنا آسف إني ما قدرتش تضحيتك العظيمة دي... يمكن عشان ما كنتش محتاجها...أيوة ما كنتش محتاجها...أنا عشت عشرين سنة من غير أم ... ما كانتش هتفرق لو كنت كملت عمري كله كده!
_انت ...انت نسخة من أبوك...نفس القسوة والقلب الأسود.

قالتها بنبرة متحشرجة واشية بقرب بكائها وهي تخفض ذراعيها عنه لتدفعه بعنف...
فكز على أسنانه بقوة ثم تحرك مبتعداً عنها ليعطيها ظهره قبل أن يقول بصوت عاد إليه بروده:
_ما منعتكيش تعيشي حياتك زي ما أنت عايزة ...عشان كده استقليت بحياتي في بيت لوحدي بعيد عنكم ...لكن مش هاسمحلك تضيعي تعبي مع البنات...هم أمانة في رقبتي ومش هاخللي حاجة في الدنيا تمنعني أوصل بيهم لبر الأمان.
_ما بقوش صغيرين عشان تفرض عليهم تحكماتك...واحدة اتجوزت والاتنين التانيين قربوا ...واللي بتحرمهم منه دلوقت بكره عنيهم هتزغلل عليه.
هتفت بها بسخط ليلتفت نحوها بقوله الساخر:
_تبقي ما تعرفيش بنات أختك كويس...مش أنا لوحدي اللي كرهت أسلوب حياتك...هم كمان كانوا شايفين آخرة طريقك العظيم إيه...مااظنش واحدة فيهم بعد كده تتمنى تبقى زيك ...يا نجمة!
_انت قليل الأدب وما اتربتش!
صرخت بها بعجز وهي تخفي وجهها بين كفيها فاقترب منها ليهتف بغضب :
_معلش...أمي ما كانتش فاضية تربيني وهي بتتصور في حضن كل راجل شوية!

صفعتها القوية على وجنته أنهت الموقف بأسوأ ما يكون ...
قبل أن تتركه لتندفع نحو غرفتها وصوت شهقاتها الباكية يقع على صدره كجلد السياط!!
زفر بقوة وهو يتحسس وجنته ثم اندفع ليخرج من بيتها نحو سيارته التي استقلها ليذهب إلى بقعته المفضلة في ذاك المكان الجبلي المنعزل ...
لماذا سمح لبركانه الخامد طوال هذه السنوات أن ينفجر الآن فجأة ؟!
طالما كان يتباهى بقدرته على كظم غيظه أمامها -هي بالذات- وإلا فعل ما سيندم عليه طوال عمره ...
لهذا ترك لها حياتها تعيشها كما تشاء دون أن يطلب منها شيئاً...
حتى اعتزالها التمثيل كان قرارها هي الحر الذي لم يكن له أي دخل فيه ...
بل إنه حتى لم يظهر رضاه عنه!
ربما لأنه كان قد تأخر ...
تأخر كثيراً لو تعلم !!
ربما غضبه اليوم منبعه خوفه على بنات خالته وبالذات داليا الصغيرة ...
يخاف أن يجرها انبهارها الساذج بذاك الجو كي تخطو خطوات خالتها ...
هن الثلاثة يعتبرهن حصاد عمره ولن يسمح بأن ينجرفن في ذاك التيار!

كان قد وصل لبقعته النائية المرجوة فخرج من سيارته ليستند على مقدمتها متطلعاً للسماء بشرود ...
شعور بالذنب يسكن صدره كعهده في كل مرة يجرح فيها أحدهم لكنها طبيعته الخشنة التي لا يملك لها دفعاً...
الغريب أنها تتناقض مع الانطباع الأولي الذي تعطيه ملامحه بالمرح لكنه اعتاد هذا التقلب بينهما ....
تماماً كما اعتاد كل تناقضات حياته!!
منذ شب عن الطوق ليجد نفسه ابن "بيلّلا" نجمة السينما و "عبد الرحيم حمدي" أحد أعيان قرية كبيرة من قرى الدلتا...
تزوج والده من النجمة الشهيرة التي خلبت لبه ليشترط عليها اعتزالها للفن...
لكن "بيللا" أو نبيلة لم تحتمل أكثر من عامين قبل أن تطلب منه الطلاق لتعاود مسيرتها الفنية ...
تاركة إياه لأبيه الذي ترك قريته اتقاء للقيل والقال ليهاجر به إلى القاهرة كي يتوه به في زحامها عن نسبه لوالدته...
رباه والده بحزم شديد كما يفترض لرجلٍ في نشأته وطبيعة شخصه ...
ليكون الدرس الأول الذي تعلمه أن الرجال لا يقهرهم إلا العشق !
هذا الدرس الذي نسيه -هو- مرة ...
مرة واحدة ...أقسم أن تكون الأخيرة !
بعدما أذاقه الزمن مرارة -خبرته الخاصة- وهو لايزال في مقتبل حياته ...
ليتلقى صفعة الغدر على وجه كبرياءٍ أقسم ألا تمسه بعدها امرأة !

هنا تنهد بحرارة ليصرف عن نفسه مرارة الذكرى ...
وأفكاره تعاود التركز حول أمه التي لم تظهر في حياته إلا بعد وفاة والده وهو في العشرين من عمره !
جزء بداخله استقبلها بعطش طفل لحنان أم افتقدها طوال هذا العمر...
لكن جزءاً آخر مطعوناً في رجولته لايزال ينفر منها حتى بعد اعتزالها لهذه المهنة منذ عدة سنوات ...
يحبها؟!
بالتأكيد هو يفعل...
وإلا لما اهتم بها وببنات شقيقتها هذا الاهتمام المغالي ...
لكنه كان يود لو يشعر أنها هي ...تحبه!!
هي -ثمرته المحرمة- التي قضى سنوات طفولته ومراهقته يراقبها خلسةً عبر الشاشات لا يكاد يصدق أنها بكل هذا القرب...
وبكل هذا البعد!!
جميلة !!
هكذا كان يراها في صورها و....
قبيحة ...بل منفرة!!
هكذا كان يراها بعين ظنونه التي غذتها هواجس والده الحاقدة عليها ...
لكنه بين هذا وذاك ...
لم يستطع أن يبتعد عندما وجدها تقترب على استحياء من عالمه !

ربما يفسر هذا تناقض تصرفاته الشديد معها ....
وحرصه الأشد على بنات خالته اللاتي صار يعتبرهن كل عائلته !
انقطعت أفكاره برنين هاتفه فزفر باختناق...
قبل أن يتناوله ليفتح الاتصال مع قوله:
_أيوة يا رانيا...مش راجع الليلة دي...
لكنه ما كاد يستمع قليلاً حتى هتف بجزع:
_إيه؟! مالها؟!
=======




Menna Hegazy likes this.

سمية سيمو غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-04-20, 10:05 PM   #1502

سمية سيمو


? العضوٌ??? » 396977
?  التسِجيلٌ » Apr 2017
? مشَارَ?اتْي » 4,356
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
?  نُقآطِيْ » سمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك action
?? ??? ~
keep smiling
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي


(القطعة الثالثة)
***********

جلس على طرف فراشها يراقب ملامحها الساكنة بمزيج غريب من مشاعر تجتاحه بجنون هادر ويقاومها بجنون أكبر...
لماذا لا تكبر ملامحها ؟!
لماذا لا يبدو عليها أثر السنين؟!
لماذا لا تتخلل وجهها تجاعيد الهرم كمثيلاتها من النساء؟!
لماذا لا تسمح لخصلات المشيب أن تعلن عن نفسها ...
ربما تعلن معها "أمومتها"!!
نعم...ربما وقتها فقط ...ينسى "بيللا" الفاتنة نجمة الأضواء التي عاش يطارد سرابها لسنوات مرت ثقيلة كالجبل على صدره!
لكنها للأسف لاتزال تتشبث ببقايا عهدها القديم ...
تماماً كما عينيه العاجزتين عن رؤيتها إلا بصورة "المرأة الفاتنة"...
و"الأم الجاحدة"!!
جمالها كان ولايزال "نعمتها"...و"نقمته"..
"كنزها"...و"لعنته"...
ربما لهذا لا يزال عاجزاً أن يلبسها عباءة "الأم" تماماً كما لاتزال هي متشبثة ب"تاج"نجوميتها!

فتحت عينيها فجأة لتلتقي بعينيه الصارختين بمشاعره لكنه أغمضهما بسرعة وكأنه خشي أن يفضحه حديثهما ليقول بنبرته الخشنة:
_قبل ما تلوميني وتقولي أنا السبب ...الدكتور قال إن أدوية التخسيس اللي بتاخديها هي اللي أثرت عليكِ وسببت الهبوط اللي حصللك ده.

رمقته بنظرة عاتبة صامتة وجدت صداها في صدره فاختلجت عضلة فكه وهو يحاول كتمان ما يشعر به!
عندما وصل إلى هنا منذ ساعات ليجدها فاقدة لوعيها كاد يسقط جوارها وهو يتصور نفسه السبب في انهيارها هذا ...
وحتى عندما طمأنه الطبيب بقي على حالته من القلق حتى تحسن وضعها نوعاً ..
ساعتها تمنى لو ...
لو يحتضنها!
هل تعلمون أنه لم يحتضنها مرة واحدة في حياته كلها؟؟!!
هي حاولت كثيراً في مواقف عدة أن تضمه لصدرها لكنه كان يكتفي
بالاستسلام لحركتها متيبساً قابضاً ذراعيه جواره !!
هذه الحركة التي لم يفوتها قلبها ك"أم" لكن كبرياءها ك"نجمة"
تغاضى عن مناقشة سببها معه !
لكن...هل تراها حقاً لا تفهم ؟!
أم أنها تتجاهل السبب كما تجاهلته هو نفسه لعشرين عام من عمره ؟!

_يامن...أنا مش وحشة قوي كده !

بهمسها الخفيض اقتحمت بها "دائرته الخارجية" الخشنة لتصل لما بعدها باستطرادها المتهدج:
_انت عمرك ما سألتني سبت باباك ليه...عمرك ما عاتبتني ...
_ولا هاعاتبك !
قالها وهو ينتفض واقفاً وكأنما خشي أن يقترب من "صندوق ذكرياته الأسود" ليردف بنفس الخشونة :
_وياريت بلاش نتكلم عشان احنا الاتنين ما نزعلش...
ثم ابتسم ليقول بسخرية مريرة:
_واضح إن تأثيري وحش على صحتك ...كان معاكي حق ترميني زمان ...لو منك أعيدها تاني دلوقت !

أغمضت عينيها بألم افترش ملامحها لكن ظنون "نقمته" كانت تراها
الآن "بيللا" الممثلة البارعة التي طالما اعترف بمهارتها في إجادتها في إتقان الدور!
ربما هذا ما برر قسوة عبارته بعدها:
_عموماً ما تقلقيش...(ساعةْ صراحة) وراحت لحالها ...يامن اللطيف اللي بيزورك هنا ساعة كل يوم ويشوف طلباتك وطلبات البنات هيرجع تاني...أظن ده الأريح لنا احنا الاتنين !
فتحت عينيها لتنظر إليه نظرة "جائعة" لعاطفة هو "أبخل" ما يكون عنها ...رغم أنه "أحوج" ما يكون إليها !
لكن ما حيلته؟!
عندما تحترق الزهور يسهل أن تنبت من جديد ...
لكن ماذا لو احترقت "الجذور"؟!
هل يبقى هناك من أمل؟!

وتساؤله الأخير أجابه ببساطة عندما "ابتعد" عنها بضع خطوات في طريقه لباب الغرفة مع قوله:
_أدوية التخسيس دي ما تتاخدش تاني...لو عايزة تعملي رياضة خفيفة ممكن أفضيلك نفسي ساعة كل يوم الصبح بدري نمشيها سوا..
ثم التفت إليها برأسه ليردف بابتسامة مريرة:
_والحفلة احضريها براحتك وهاوصللك وأرجع آخدك...ماهو ما يصحش الناس ما يلاقوش ابن "النجمة" جنبها في مناسبة زي دي...مش ده كل اللي يهمك؟!
انفرجت شفتاها وهي على وشك الاعتراض لكنه قاطعه باستطرادها الصارم ملوحاً بسبابته:
_لكن البنات محدش فيهم هيحضر...وابعدي عن داليا بالذات ...مفهوم؟!
قالها بشراسة فتيّة اجتاحت حروفه لتفضح لها حقيقة شعوره نحو بنات شقيقتها ...
هو يريدهن جميعاً الصورة التي كان يتمناها فيها هي...
بل ويريد تجنيبهن جحيم حرمانه الذي عاشه عمره كله!
لهذا أغمضت عينيها ببعض الخزي الغريب على كبريائها المعهود
لتقول بصوت واهن:
_قَرّب يا يامن!

والعبارة وصلته كما أرادتها بالضبط!!
ليس فقط بما "ظهر" من قرب المكان ...إنما بما "بطن" من قرب القلب!
لهذا ازدرد ريقه بتوتر وقد بقي على حاله يعطيها ظهره للحظات
قبل أن يعود ليتوجه نحوها بخطوات بطيئة وعيناه تجبنان عن مواجهتها بنظراته ...

_آسفة...عشان ضربتك!

ليتها ما قالتها !!
الآن ...تعتذر؟!
علامَ؟! على مجرد صفعة؟!
هي -لو تدري- تجلده جلداً منذ ولد ...
تجلده ب-قربها-...كما فعلت منذ زمن ب-بُعدها-!
تعتذر على صفعة؟!
ألا تدرك أنه يوماً ما تمنى لو تصفعه؟!

أجل...وقتها كان طفلاً منطوياً كعادته يجلس منزوياً على إحدى مقاعد حديقة عامة مع والده الذي شرد عنه بتفحص جريدته ...
عندما رأى طفلاً آخر يصغره بسنوات وقد اندفع خارج سور الحديقة القصير مطارداً كُرته التي يلعب بها حتى كادت تدهسه دراجة مسرعة
لولا توقفها في آخر لحظة !
عيناه وقتها التصقتا بأم الصغير التي جرت نحوه بسرعة لم يرَها يوماً في امرأة حتى تلقفت ابنها ليكون أول رد فعل لها هو ...صفعة!

صفعة تمنى مثلها من فرط ما فضحت مشاعر الأم الملهوفة التي علا صوت بكائها وهي تحتضن ابنها بعدها بقوة وقبلاتها تمتزج بدموعها على وجهه!
ساعتها تمنى لو تكون له أم كهذه تصفعه لو أخطأ ...
مادام سينتهي كل هذا بعناق دافئ كهذا!!

_المفروض تتأسفي على حاجات كتير!
تمتم بها بصوت غير مسموع فرفعت إليه عينيها بتساؤل لكنه هز رأسه مقاوماً مشاعره لتعود لصوته خشونته مع قوله متجاهلاً اعتذارها :
_أنا هبات هنا النهارده عشان لو احتجتم حاجة .

نظراتها المريرة حملت تفهّمها لكل هذا الجفاء الذي يبديه...
وإن منعها كبرياؤها من الرد فاكتفت بالإشاحة الصامتة بوجهها بينما
رمقها هو بنظرة أخيرة قبل أن يخرج صافقاً الباب خلفه بعنف!!

هو وُصم بها منذ طفولته ولم يملك لهذا سبيلاً...
لكن قريباته لن ينحدرن في هذا الجرف مادام في صدره نفس يتردد.
"بيللا" تريد عيش حياتها نجمة فليكن لها ما أرادت ...
لكن النجوم لا تلمع إلا في "الليل"...
و"ليل جفائه" لن يقل ظلمة عن ليل "جحودها"!!
ولا عزاء ل"عاطفة" تظن أن بعد هذا الليل فجراً.....
========
_هي عاملة ايه دلوقت ؟!
سألها رامز هامساً بينما يراها تغلق باب غرفة النوم الصغيرة في شقتهما والتي صارت غادة تشغلها منذ وفاة زوجها في تلك الحادثة البشعة
والانهيار الذي أصابها بعدها ...
فأجابته وهي ترمقه بنظرة غريبة بين لومها وعجزها:
_هتموت يا رامز...لو جرى لها أي حاجة ذنبها هيبقى في رقبتك!

قالتها بعينين دامعتين وهي تتقدم نحوه ...
فهتف بانفعال:
_أنا كمان حاسس بالذنب بس والله ماأعرف ده حصل ازاي...الطريق كان فاضي عشان كده دست بنزين براحتي ....معرفش المقطورة دي ظهرت امتى وازاي!
تطلعت لجرح جبهته الغائر الذي تم تضميده وتلك الكدمات التي تغطي ما ظهر من جسده ...
قبل أن تنخفض نظراتها لجبيرة ذراعه المكسور ...
ثم أغمضت عينيها بألم وهي لا تكاد تصدق ما حدث في الأيام السابقة ...

حلم غادة الوردي تبخر في غمضة عين !
حب أحمد الذي كان لها الدنيا وما فيها صار الآن مجرد ذكرى!!
"العروس البائسة" التي لم يمر على زواجها سوى بضعة أشهر فقدت أمان عالمها كله فجأة ...
وهذا "المتهور" أمامها هو السبب!!
لهذا لم تملك نفسها وهي تفتح عينيها من جديد لتهتف بصوت مرتجف:
_أنا عارفة إن كل شئ قضاء وقدر ...بس غصب عني ...مش قادرة أبص في وشها ...فرحتها اطفت في عزها ...آآه....يا حبيبتي يا غادة !
انهارت بعدها في بكاء خفيض فضمها إليه بذراعه السليم ليهمس بمزيج من أسى وأسف:
_ما تشيلنيش الذنب أكتر ...أنا لحد دلوقت مش مصدق إن هو فعلاً مات...آخر صورة له في دماغي وهو بيضحك قبل الحادثة بدقايق...تخيلي كان بيفكر هايجيب لها هدايا إيه من هناك عشان يعوضها عن الكام ساعة اللي هايغيبهم ...مكانش يعرف إنه...
_اسكت يا رامز...اسكت !!
تمتمت بها بين آهات بكائها وهي تنكمش على صدره أكثر ...
ذراعاها يتشبثان به بقوة وهي تستعيد لحظات مشابهة ...


عندما وصلها خبر وفاة والديها في حادث كهذا ...
ساعتها تجمد بها الزمن وهي تكذب الخبر لأول وهلة ...
قبل أن تضم شقيقتيها معاً لصدرها وهي تدرك لأول مرة في هذه الحياة معنى "المسئولية"...
ربما لهذا السبب لم تبكِ وقتها أمامهما ...
ظلت تحتضنهما بكل ما أوتيت من قوة لتتلقى دموعهما على صدرها هي متظاهرة بالصلابة ...
ورغم أنها لم تكن تعلم وقتها ما ينتظرها من دعم يامن وعودة خالتها لحياتهن ، لكنها تعهدت أن تبقى القوية وسطهن وألا يقهرها حزن ولا عاطفة !
كانت هذه أول صدمة تلقتها في عمرها القصير ...
والصدمة التالية كانت ...يامن نفسه!
يامن الذي خانته معشوقته الأولى لتهين رجولته بفضيحة تحدث عنها الجميع وهو لا يزال في مقتبل عمره ...
يظنون أن صدمته أثرت عليه هو فقط ...
لكنهم لا يعلمون أنها هي كانت تراقبه بقلب كسير وهي تتساءل عن السبب الذي يجعل امرأة عاقلة ترفض عشقاً كعشق يامن !

ورغم أنه زعم أنه تجاوز ذاك الأمر بعدها ليحاول خداع الجميع بقناعه القاسي حتى أنه تزوج منذ فترة من امرأة أخرى في لندن ...
لكنها تعلم أن ندبة "معشوقته الأولى" لا تزال راسخة في قلبه ...
ليس فقط كونها حبه الأول ...وجرحه الأول ...
بل لأنها لمست بخديعتها "وتره الحساس" الخاص بوالدته ...خالتها!
ومن وقتها وقد تعلمت أن الحب هو الشيء الوحيد الذي يخفض هامات كبريائنا.
ربما لهذا كانت تستخف كثيراً بالمشاعر وتتشبث بقناعها العملي ...
لكنها عندما تخلو بنفسها تدرك أنها بداخلها أشد هشاشة مما تبدو عليه ...
ولهذا تجد نفسها رغماً عنها تتريث في خطواتها نحو رامز ...
تخاف التعلق ...بقدر ما تخاف الغدر...
وبقدر ما تهاب الفقد!!

وعند خاطرها الأخير التفتت نحو الباب المغلق لغرفة غادة وقلبها ينتفض بين ضلوعها بحسرة على صديقتها التي تعيش الآن "كابوس الفقد" الخاص بها وحدها ...
وحدها؟؟!!!
لا ...لن تتركها وحدها أبداً!
لهذا رفعت إليه عينيها لتهمس بنبرة أقوى:
_أنا آسفة إني جبتها هنا...بس انت عارف إن والدة أحمد ماتت من زمان ومعندوش إخوات بنات ...وهي مالهاش قرايب في القاهرة...
ثم صمتت للحظات لتغيب في شرود سبق قولها المقتضب:
_ووالدتها ظروفها مش مناسبة إنها ترجع تعيش معاها .
قالتها بالطريقة "الألطف" كي لا تحرج صديقتها أمامه أكثر ولو صدقت لقالت إن المرأة تذمرت من عودة غادة معها لبلدها مكتفية بعزاء قصير لها هنا ...

بل إنها -بمنتهى الصفاقة- طلبت من هانيا أن تبحث لها عن عمل هنا كي تعتمد على نفسها فهي لن تعيش لها العمر كله -بزعمها-!

_غريبة! مع إن جوز والدتها كان مرحب جداً بإنها ترجع معاهم زي ما قاللي.

قالها رامز بحيرة فتراقصت على شفتيها ابتسامة استهجان وهي تدرك سر تمسك "الوغد" بعودة "غنيمته الباردة" من جديد بعد ما صار "نيلها" أسهل فلم يعد هناك ما يمنعه منها ويكشف بغيه عليها !
هو نفس السر الذي يجعل والدتها "المتصابية" تتجاهل أمومتها فداء ل"أنوثة" تظن نفسها ستغتصبها اغتصاباً من بين أنياب السنين...
لقد ظنت يوماً أن "نبيلة" كانت أسوأ أم عرفتها ...
لكنها تعد "ملاكاً " إذا قورنت بأم غادة!
لهذا تنحنحت بخفوت لتتمالك بأسها فيما قال هو ببعض الحرج:
_واضح إنك مخبية عني حاجة بخصوص حياتها بس أنا مش عايز أتدخل في خصوصياتها ...لكن....
صمت للحظات مرتبكاً قبل أن يردف :
_ما ينفعش تفضل قاعدة معنا هنا كده ...انتِ عارفة إن ده بيت العيلة...وماما مش بالعة حكاية وجودها معانا في نفس الشقة...مش ماما بس ...الوضع كده مش لطيف خالص .
أومأت برأسها في تفهم ثم قالت بنبرتها -شبه الآمرة-:
_ما تقنع مامتك إنها تديها شقة أخوك اللي قصادنا ولو بإيجار مؤقت لحد ما أقدر أوفر لها سكن تاني ...أنا محتاجة إني أكون جنبها الفترة دي...
ظهر الامتعاض على ملامحه واشياً بصعوبة ما تطلبه خاصة مع طباع حماتها المتسلطة لكنها أردفت بصوت لائم:
_أظن دي أقل حاجة ممكن نعملهالها خصوصاً إن اللي حصللها...
_خلاص يا هانيا ...أنا هاتصرف وأقنع ماما!

قاطع بها عبارتها التي يفهم مغزاها بضيق وهو يشيح بوجهه .
هنا لانت ملامحها نوعاً وهي تنتبه أنه لا يزال يحتضنها بذراعه السليم ،
فازداد تشبثها به وهي تتفحص وجهه بمشاعر شتى ...
قبل أن تهمس باسمه بخفوت ليلتفت نحوها ...
أناملها ارتفعت لتتحسس وجهه ببطء وعيناها تناجيانه بحديث لم يفهمه...
حديث بعيد تماماً عن تقريعها الدائم ...وعدم الرضا الذي يستشعره واضحاً ولا يفهم سببه!
نظراتها الآن كانت تحمل شيئاً جديداً على عينيه ...
وكأنما تسرب عبر شقوقها الضيقة قبسٌ من شمس عاطفة لا تسمح لها أبداً بالظهور ...
لهذا ابتسم ابتسامة واهنة وهو يتفحصها هامساً:
_عايزة تقولي إيه ومترددة؟!
التمعت عيناها ببريق دموع حقيقي مع صمت لحظات قبل أن ترتجف شفتاها بهمسها:
_يوم الحادثة قبل ما نعرف الخبر غادة سألتني إذا كنت بحبك ...ما عرفتش أرد...ما قدرتش أحدد ...

بدا الاهتمام على ملامحه وذراعه يضمها إليه بقوة أكبر ...
فازدادت ارتجافة صوتها مع استطرادها:
_بس لما عرفت الخبر كنت زي المجنونة...لدرجة إني مش فاكرة إيه اللي حصل لحد ما شفتك قدامي ...كأن الزمن وقف والدنيا كلها وقفت لحد ما اطمنت عليك ...
اتسعت ابتسامته وهو يعانق ملامحها بنظراته العاشقة فأسندت رأسها على كتفه وهي تردف :
_يمكن ماليش في حركات البنات والكلام المزوق ...بس ...بس...انت بجد غالي عندي قوي ...
ثم رفعت عينيها إليه لتقول بنبرتها المرتجفة البعيدة عن قوتها المعروفة:
_لدرجة اني اتمنيت ساعتها اكون مكانك بس انت تبقي كويس!

اتسعت عيناه الملتمعتان للحظة وقد كان هذا آخر ما وعته ...
قبل أن يفاجئها بدفعها للجدار خلفها وشفتاه تمنحانها "مكافأتها" الخاصة على هذا الاعتراف الذي تأخر كثيراً...
والذي يدرك هو أكثر من غيره قيمة أن تنطقه امرأة مثلها !
امرأة ربما لا تعرف الكثير عن فنون "إغواء حواء"...
لكنها تجيد غزو قلبه بقوة "الاسكندر" وذكاء "نابليون" وثقة "هتلر"!
جوهرةٌ "خام" لم تصقلها التجارب فبقيت على حالها من الخشونة لكنها تبقى فريدة...وأصلية!!
وبين ذراعيه كانت هي غائبة في عاطفة تذيبها ...وتخوفها!
"احذر من تكرهه مرة...ومن يكرهك مائة مرة...
ومن تحبه ألف مرة...ومن يحبك ألف ألف مرة!!"
طالما كانت هذه حكمتها التي تضعها على طريق طموحها ...
ليس أقدر على إيذائنا من أناسٍ اعتدنا "غيث" عطائهم ونخشى "جفاف العطش" بعدهم!
لهذا تمالكت نفسها لتدفعه برفق نائية بنفسها عن الغرق في طوفان مشاعرها أكثر... فالتقط أنفاسه ليهمس لها بنبرة دافئة:
_صدقيني لو قلتلك ده أجمل اعتراف بالحب سمعته ...مش عايز أكتر من كده !
لكنها أشاحت بوجهها لتتجاهل عبارته قبل أن تعود ببصرها نحو باب غرفة صديقتها المغلق قائلة بنبرة عادت إليها قوتها:
_غادة مش صاحبتي وبس...غادة أختي الثالثة...ساعدني نخلليها تتجاوز أزمتها مهما حصل.
=========
الفراش يتراقص بها بنعومة ورائحة "الفراولة" المميزة لدبّها الصغير من الفرو تملأ أنفها ...
قطع المكعبات الملونة بين أناملها تبني بيتاً صغيراً ...
وتصنع شكل فتاة تحركها لتجعلها تبدو وكأنها تدخله!

ابتسامتها تشق الطريق عبر شفتين بريئتين تدنسهما الآن أنامله القذرة عندما اقتحم الصورة فجأة !
عيناها تتسعان برعب وهي تحتضن دبها فيصلها هسيس صوته المرعب:
_حضن عمو أحلى!

تغمض عينيها بقوة فيصلها صوت المكعبات حولها تتكسر ...
بيتها الجميل ينهدم...
و"فتاة المكعبات" صارت بلا ...بيت!
مثلها!

_أحمد!
تناديه بها باستغاثة ولازالت مغمضة عينيها فلا يرد عليها ...
فقط صوت -الرجل المرعب- يدوي في أذنيها مع لسعة أنامله فوق بشرتها ...
فتنادي أمها ليصلها صوتها من بعيد ...

_انتِ اللي سافلة وقليلة الأدب عشان بتفكري في الحاجات دي ...ناسية ابن الجيران اللي ظبطتك معاه ولا زميلك في المدرسة اللي حكالي المدرس عن اللي بتعملوه في الفصل من وراه ...ودلوقت جاية لجوزي كمان ...من النهارده أوضتك تتقفل عليكي بالمفتاح...ومالكيش دعوة بيه خالص....امتى تتجوزي وأخلص من همك ؟!

_أحمد!
تتمتم بها بيأس وهي لا تجد لها ملاذاً غيره فيظهر أخيراً ليزيح عنها طيف الرجل المرعب ...
ويضمها إليه بقوة ...
قبلاته الناعمة تغرق وجهها وشعرها فتتشبث به بكل قوتها ...
تكاد تلتحم بجسده والأنفاس بصدرها تتوسله البقاء...
لكن شيئاً ما ينتزعه من بين ذراعيها بقوة ليقذفها بقوة فتسقط على ظهرها صارخة باسمه!!!

_قومي يا غادة...قومي!
تهتف بها هانيا وسط دموعها وهي تهز جسد صديقتها على الفراش لكن
الأخيرة لا تستجيب بينما جسدها ينتفض كالمحمومة مع نداءاتها باسم زوجها الراحل ...
_اعمل حاجة يا رامز ...مش هنقف كده !

تصرخ بها بعجز وهي تحاول ضم جسد غادة المتشنج فيلتفت نحوها رامز ليقول بقلق :
_دقيقة واحدة ...أجيب الحقنة المهدئة اللي الدكتور قال عليها !
قالها ثم خرج من الغرفة ليحضر لها الحقنة ثم عاد بها ليناولها لزوجته التي كشفت ذراع غادة تحقنها بها...
غادة التي كانت شبه غافلة تتشابه المرئيات أمامها مع كوابيسها ...
دموعها لا تكاد تتوقف تماماً كهمسها باسم الفقيد الغالي ...
حتى استكان جسدها أخيراً بفعل تأثير الدواء لتستسلم لذراعي هانيا المحتضنين لها بقوة ...
والتي لم تكف عن البكاء بدورها لترفع عينين قلقتين نحو رامز الذي تجهمت ملامحه بدوره أمام هذه المأساة الحية!!
لكنه أخذ نفساً عميقاً ليتمالك حزنه قبل أن يجذب زوجته من كفها برفق هامساً:
_خلاص نامت...سيبيها ترتاح!
لكن هانيا تشبثت بها بقوة رفيقة مع همسها الخفيض:
_معلش يا رامز ...هنام معها!
ورغم تفهمه للظروف لكنه لم يستطع منع الضيق الذي كسا ملامحه مع همسه العاتب:
_دي سابع ليلة يا هانيا!
وضعت سبابتها على شفتيها محذرة فزفر باستياء ليغادر الغرفة مغلقاً بابها خلفه برفق كي لا يوقظ البائسة التي لا تكاد تفرق بين ليل أو نهار ..
أو يقظة أو منام !
أجل كان يتعاطف كثيراً مع وضعها خاصةً وهو يحمل نفسه الكثير من الذنب فيما حدث لزوجها ...
لكنه ببساطة يريد زوجته التي تلاشت تماماً في حزن صديقتها الذي ابتلعهما معاً !
الغريب أنه كان يرى هانيا دوماً امرأة قوية مسيطرة تتمتع بأكبر قدر من الثبات الانفعالي الذي يقل عادة لدى النساء...
لكنها صدمته أن كل هذا كان مجرد "دائرة خارجية" تخفي بداخلها هشاشة ورقّة بلا حدود !
وفاؤها لصديقتها يبهره لكنه يرى أنها تغالي قليلاً...
والدته وافقت بشق الأنفس أن تمنحها الشقة المقابلة لمدة بسيطة بعد رجاءاته العديدة ....
لكنه فعلها فقط إرضاء لهانيا التي لا يفهم ما الذي تخفيه بشأن غادة ويجعلها ترغب في إبقائها هنا معهما دون أن تعود لبلدتها كما يفترض!
ومع استلقائه على فراشه وحيداً ككل ليلة منذ ذاك الحادث زفر بحنق وهو يطالع السقف بشرود ...
ثم تناول هاتفه ليلعب إحدى تلك الألعاب الالكترونية التي صار يدمنها مع همسه الساخر لنفسه:
_يا فرحة الحاجّة بيك لو عرفت إنها جوزتك عشان تقضيها لِعْب على الفون ومراتك نايمة في حضن صاحبتها!

وفي الغرفة الأخرى استلقت هانيا جوار صديقتها تضمها بقوة وهي تهمس لها دون أن تدرك إن كانت تسمعها أم لا:
_ما تخافيش يا حبيبتي ...أنا معاكي...مش هاسيبك أبداً لحد ما تقفي على رجليكي من تاني .
=======
_مش ملاحظة إن صدفك كترت؟!
قالها بغيظ مكتوم وهو يرى باب المصعد الذي يستقله في أحد
ال"مولات" التجارية الضخمة يفتح في اللحظة الأخيرة لتدخل هي منه !
هي التي تجاهلته تماماً وهي تعطيه ظهرها لتسمع هتافه الساخط خلفها:
_انتي ماشية ورايا واللا إيه؟!
ظلت على وضعها فاستشاط غضباً ليردف بحدة أكبر:
_أروح النادي ألاقيكي في وشي...أخرج من "الجيم" ألاقيكي داخلة...حتى الحفلة اللي حضرتها أمي لقيتك فيها ...آه ..بالمناسبة كنتي بتعملي إيه هناك؟!
قال عبارته الأخيرة بشيء من الاحتقار ورؤيته لها في ذاك الحفل الذي أصرت والدته على حضوره تعمق صدق ظنونه السوداء بها!
ليلتها كان ينتظر والدته ليوصلها ففوجئ بها تخرج معها ...
وبقدر ما بدا هو -وقتها- مصدوماً برؤيتها ، بقدر ما بدت هي هادئة تماماً إلا من نظرتها العاتبة كالعادة ...
نفس النظرة التي رمقته بها الآن مع إجابتها بصوتها الواثق:
_ممكن أقوللك انت مالك وأسيبك تغلي لوحدك ...لكن لو حسنت أسلوبك ده ممكن نتكلم .
_ومين أصلاً عايز يتكلم معاكي ؟!...اوعي كده !
قالها وهو يزيحها جانباً بخشونة ليغادر المصعد نحو محل بعينه قصده ليشتري لداليا هدية يصالحها بها بعد آخر صدام كان بينهما والذي طال بعده خصامها له خاصة بعد ما حدث لنبيلة ...
دخل المحل ليصافح صاحبه الذي بدا على معرفة وثيقة به والذي دعاه للجلوس ريثما يعد له طلبه .
جلس على الكرسي الذي يتيح له أن يكون ظهره مواجهاً للباب وكأنه يتوقع رؤيتها بالخارج تنتظره ...
هذه المرأة تكاد تصيبه ب"فوبيا" الغرباء من فرط ما صار يخشى رؤيتها ...
شيء ما بهيئتها ينفره منها...
يذكره ب-شيء يكرهه- لكنه لا يدركه...
غريب؟!
ربما...لكن الأكثر غرابة أنه لا يدري لماذا تطارده بهذه الفجاجة دون أن تتعمد الحديث إليه مكتفية برؤيته ...
تراها مخبولة؟!
لا!
مظهرها وحديثها لا يوحيان بهذا ...على العكس...إنها تتحدى مهارته الشهيرة في السماجة والوقاحة بأسلوبها القوي !
وما يزيد من هالة الغموض حولها هذه النظرة اللائمة التي لا تغادر عينيها كلما رأته وكأنه قد آذاها يوماً ...
فقط لو يذكر أين رآها من قبل!!

_اتفضل يا دكتور...ده ذوق الآنسة داليا...أنا واثق إنه هيعجبها جداً!
انتشله بها البائع من شروده فتناول منه العلبة الصغيرة ليفتحها متفحصاً الخاتم فيها ...

_عيار كام ؟! وشركة إيه؟! فين الخِتم؟!
قالها بنبرته المتشككة والتي يبدو أن الرجل اعتادها فقد أشار له ببساطة لذاك التجويف في الخاتم مع قوله:
_اسم الشركة والعيار على الخِتم اهه يا دكتور !
_تمام...اكتبلي بقى كل ده في الفاتورة!
قالها ولايزال يتفحص الخاتم فابتسم الرجل بتفهم وهو يجلس على مكتبه ليكتب له ما يريد ....
بينما ابتسم هو ابتسامة خفيفة وهو يرى الفص الأحمر الكبير الذي تزين بها الخاتم ...
والذي يدرك أن داليا ستهيم به حباً !
ربما لو كانت هانيا لاختار لها شيئاً بفص أسود يلائم مزاجها الجاد شديد التحفظ...
ولو كانت لرانيا لكانت اللآلئ الصغيرة المنمنمة هي الخيار الأمثل لطبيعتها الهادئة الرقيقة.
لا ...ليس عجيباً أن يفهم أذواقهن لهذه الدرجة ...فهو يعتبرهن شقيقاته ولو أن تعلقه بهن وتعلقهن به يجعلهن ل"بناته" أقرب رغم أن فارق السن بينهم لا يسمح بهذا!

_مبروك يا دكتور...وسلامنا للآنسة داليا...وللنجمة بتاعتنا طبعاً!
قالها الرجل بعفوية فتجهم وجهه للعبارة الأخيرة ...
قبل أن يتمتم بكلمات مبهمة وهو يعطيه "بطاقة الائتمان" الخاصة به كي يسدد ثمن الهدية .
خرج من المحل ليختلس نظرة حوله لكنه لم يعثر ل"مطاردته" المجهولة على أثر فهز كتفيه ليقنع نفسه بعدم الاكتراث ...
ثم خرج من المكان وهو يختلس نظرة خلفه من آن لآخر وكأنه يبحث عنها ...
ووجدها!!
لكنها لم تكن خلفه بل أمامه !
على بعد خطوات من مدخل "المول" تتشاجر مع أحدهم وقد بدأ الناس في الالتفاف حولهم!
عقد حاجبيه بضيق وهو يتابع صراخ الرجل الحاد بها والذي قابلته هي ببرود في البداية قبل أن يتجرأ ليجذب ذراعها نحوه بقسوة فكان دورها لتصرخ به هي الأخرى وهي تدفعه بقوة !
تحرك خطوة نحوها وقد دفعته نخوة رجولية للدفاع عنها لكن طبيعته المتشككة كالعادة جعلته يتسمر مكانه للحظات وشياطين ظنونه لا تزال ترسم لها أبشع الصور ...
الرجل الذي يجرؤ على الصراخ في وجه امرأة وجذبها بهذه الطريقة في طريق عام إما مجنون... أو صاحب حق يخول له عفوية هذا التصرف!
لهذا ابتسم بمزيج من سخرية واحتقار عندما رآها تلتفت نحوه لتتسمر مكانها هي الأخرى عندما رأت نظراته قبل أن تصمت تماماً والناس حولها يحاولون فض النزاع.

لكنه لم ينتظر المزيد فقد اندفع نحو سيارته بخطوات متزنة ليستقلها مبتعداً عن كل هذا تلاحقه نظراتها التي لم يرها وإن شعر بها .
ولم يكد يبتعد بضعة أمتار عن المكان حتى شعر بالضيق وهو يتلفت خلفه ...

هذه المرأة صارت تحتل مكانة أكبر بكثير مما تستحقه مثيلاتها ...
وغموضها هو ما يصنع حولها هذه الهالة ،ربما لو انكشف هذا الغموض فيمكنه التخلص من التفكير بها بهذه الطريقة المغالية خاصة مع مطاردتها الدائمة والصامتة له!

لهذا أدار مقود سيارته ليعود بها إلى الشارع الذي تركها عنده لكنه رأى سيارتها تمر أمامه... فابتسم وهو يقول في نفسه:
_حلو قوي ...كده نقلب الأدوار وامشي أنا وراكي أشوف الهانم عايزة إيه !
قالها ثم تناول هاتفه ليتصل بصديقه المقرب يخبره عن وجهته ومكانه وما ينتويه ليختم حديثه بقوله:
_لو ما كلمتكش في خلال ساعة كلمني انت...لو ماردتش عليك بلغ البوليس...أنا شاكك فيها صراحة وممكن تكون دي حركة منها !
_انت بتشك في نفسك أصلاً...إيه جو المغامرات ده ؟!
قالها صديقه ضاحكاً قبل أن يغلق معه الاتصال متفهماً طبيعته الوسواسية...بينما استمر هو يتعقبها بسيارته حتى خرجت بها من حدود المدينة المعمورة ليزداد يقينه بظنونه السوداء.
هنا انتبه فجأة للطريق الذي تتخذه فانعقد حاجباه بغضب وهو يغمغم بصوت مسموع:
_يا بنت الإيه!!....معقول تكون هتروح هناك ؟!

قالها وهو يزيد من سرعة سيارته بحركة عصبية ليتبعها حتى وجدها تتوقف تماماً كما توقع ...
في مكانه -هو- المفضل في تلك المنطقة الجبلية المنعزلة !!
زفر بسخط ثم كز على أسنانه ليوقف سيارته بدوره قبل أن يترجل منها ليندفع نحوها فينحني أمام نافذة سيارتها هاتفاً :
_انتي بتعملي إيه هنا؟!
اتسعت عيناها بصدمة وقد بدت متفاجئة تماماً بوجوده ...
فابتسم ساخراً مع هتافه:

_إيه يا حلوة ؟! اتخضيتي ؟! أظن هتقولي إنها صدفة وإنك ما تعرفيش إن ده مكاني اللي بروحه لما بحب أبقى لوحدي ؟!
_لأ عارفة!

قالتها ببرود كادت تنجح فيه لولا نبرة صوتها المتحشرجة التي فضحت قرب استسلامها للبكاء قبل أن تأخذ نفساً عميقاً بينما هو يستطرد بحدة:
_كده كتير ....أنا عايز أعرف حكايتك بالظبط معايا .
_انت اللي جاي ورايا المرة دي !
قالتها وهي تشيح بوجهها لكنه هتف بها بفظاظته المعهودة:
_هو ده اللي هامّك دلوقت ؟؟!...انتي ماعندكيش دم؟! فيه واحدة تيجي مكان زي ده لوحدها الساعة دي؟!
ثم أطلق صوتاً ساخراً وهو يردف:
_واللا يمكن مقصودة وأنا قاطع عليكي معاد مهم؟!
لكنها لم تبدُ متفاجئة بوقاحته بل فتحت تابلوه السيارة المجاور لتستخرج منه صاعقاً كهربائيا لوحت به في وجهه مع قولها بنفس النبرة المتحشرجة:
_بعرف ادافع عن نفسي كويس ...ودلوقت لو سمحت امشي وسيبني !
مع كلمتها الأخيرة خانتها عيناها بخطين من الدموع سالا على وجنتيها فانقبض قلبه تأثراً ...
لكنه كتم هذا خلف قوله الساخر الذي حافظ على فظاظته:
_شيلي يا شاطرة اللعبة اللي في ايدك دي...لو حد حب يأذيكي هنا محدش هيعرف لك طريق!
_امشي يا يامن أرجوك ...محتاجة أبقى لوحدي !

قالتها وهي تخفي رأسها بين ساعديها المرتكزين على مقود السيارة قبل أن تستسلم لبكاء صامت....
فاعتدل بجسده ليتطلع للمكان حوله بمزيج من غضب وضيق قبل أن يدور حول السيارة ليحتل المقعد المجاور لها دونما استئذان !
تركها لبكائها لدقائق فهو تعلم هذه القاعدة الذهبية من أمه وقريباته ...
لا تعترض طريق بكاء امرأة ،دعها تفرغ فيه انفعالاتها بدلاً من أن تفرغها في وجهك!!
لهذا صمت طويلاً قبل أن يقول لها بخشونة:
_انا مش هستناكي تخلصي عياط للصُبح...هم كلمتين وهامشي ...انتي عايزة مني إيه؟!
_ماعدتش عايزة منك حاجة ...مش من النهارده ولا من امبارح ...لأ ..من زمان قوي!
قالتها بنبرتها المختنقة دون أن ترفع رأسها فتجهمت ملامحه وهو يعاود سؤالها:
_أيوااااا ...إيه حكاية من زمان دي بقى؟! انتي تعرفي عني إيه بالظبط؟!

_كل حاجة تقريباً!
قالتها بنفس النبرة قبل أن ترفع رأسها لتمسح وجهها بمحرمة ورقية ،ثم أشاحت بوجهها لتردف:
_وما تسألنيش إزاي لأني مش هجاوبك.
_أنا مش فاضي للعب العيال ده...خلصيني وقولي انتي مين وحكايتك إيه!
هتف بها بخشونة لكنها حافظت على صمتها مع إشاحة وجهها عنه ،فحاول اللجوء للحيلة :
_نبيلة اللي زقاكي صح؟! عشان كده كنتي معاها في حفلة رأس السنة ؟!
التوت شفتاها بابتسامة ساخرة جعلته يردف بنبرة أكثر حدة:
_فاكراكي هتعجبيني ونتجوز؟!
أخذت نفساً عميقاً ثم أسندت رأسها على ظهر مقعدها لتقول بنبرة عاد إليها هدوءها:
_ومن امتى هي بتهتم بحاجة زي كده أو بأي حاجة تخصك؟! بتضحك عليّ واللا على نفسك؟!

شعر بإهانة حقيقية في عبارتها وكأنها ترد له رصاصة وقاحته بأخرى، لكنه لا ينكر أنها أصابت كبد الحقيقة...لهذا ضم قبضته بقوة كادت تحطمها...
بينما أردفت هي دون أن تنظر إليه:
_الحفلة كانت مجرد صدفة...بس ماانكرش اني لما شفتها اتعمدت أتعرف عليها .
_ليه؟!
غمغم بها من بين أسنانه فقالت بنفس النبرة الهادئة:
_زي ما بحاول أقرب من أي حاجة تخصك !
_إيه؟! بتحبيني؟!

قالها بنبرة ساخرة بعد ضحكة مكتومة لكنها لم تجبه مكتفية بصمتها الشارد والذي قطعه رنين هاتفه برقم صديقه الذي هاتفه كما اتفقا...
ففتح الاتصال ليغمغم ببعض الحرج:
_كله تمام...زي ما انت قلت كنت ببالغ...سلام دلوقت هاكلمك بعدين!

_انزل وسيبني لوحدي لاني مش هريحك !
قالتها وهي تنظر أمامها فانفرجت شفتاه وكأنه على وشك أن يقول شيئاً ما قبل أن يطبقهما ليغادر السيارة صافقاً بابها خلفه بعنف مع هتافه بلهجته الفظة:
_لو شفتك في أي مكان تاني هاعمللك فضيحة تحكي عنها البلد لسنين قدام .
قالها وهو يلوح بسبابته في وجهها ليردف باحتقار نفث فيه غيظه:
_وأظن بعد اللي شفته من شوية واحدة زيك مش ناقصة فضايح!

أغمضت عينيها بألم لم تفوته عيناه المتفحصتان...
لكن غضبه حجب عنه شعوره بالذنب فابتعد عن سيارتها ليعود بسيارته من حيث أتى ...
تباً لها من امرأة !!
كيف لهذه القامة الضئيلة أن تثير بداخله كل هذه الفوضى ؟؟!!
هو الذي لا يكره شيئاً في حياته كالفوضى!!
كيف استطاعت في أيام قليلة الاستحواذ على كل هذا القدر من تفكيره ؟!
ربما هي طبيعته الموسوسة التي تكره خروج الأمور عن سيطرته ...
وربما هي جاذبيتها الغريبة المتشحة بغموضها !!
وربما هو -باب الذكرى المغلق- الذي تطرقه ملامحها العاتبة وإن عجز عن تذكر التفاصيل!!!

ظل منشغلاً بأفكاره عنها والتي شابها بعض القلق وهو يفكر أنه تركها وحدها هناك في مكان كذاك....
لكنه نفض عنه هذا الشعور وهو يهتف لنفسه بصوت مسموع:
_وأنا كنت خلّفتها ونسيتها ؟! أنا قارف نفسي بيها ليه؟!

ظل يرددها لعدة مرات وكأنه يقهر بها ذاك الصوت الخفي بداخله حتى وصل إلى بيت أمه التي استقبلته بقولها:
_اتأخرت النهارده...أخلليهم يحضروا لك العشا.
_لو هتاكلي معايا !
قالها بتهكم شابته بعض الخيبة وهو يتوقع إجابتها:
_مش هينفع يا "مانّو"...الدايت!
مط شفتيه باستهجان ساخر من تدليلها الذي لا يتقبله... فأردفت بارتباك:
_سوري يا يامن...انا...
لكنه أشار لها بكفه ليسكتها بفظاظة ثم سألها وهو يتلفت حوله:
_فين داليا؟!
_نامت...أو عاملة نفسها نايمة عشان زعلانة منك!
قالتها بنبرة عاتبة فاستخرج العلبة من جيبه قائلاً بحزم:
_لما تصحى اديلها ده...وقوليلها تبطل عبط...أنا مش عايز غير مصلحتها !
تناولت منه العلبة لتفتحها قبل أن تبتسم لذوقه المراعي لاختلاف كل واحدة منهن...ثم نظرت لعينيه ...
وكأنها تحاول مدّ جسور للعاطفة بينهما بقولها:
_طول عمرك حنيّن ... بس لو تبطل الوساوس اللي في دماغك دي!
فابتسم ابتسامة ساخرة وهو يشيح بوجهه دون رد ...
غافلاً عن -تلك التي وقفت خلف باب غرفتها الموارب- ترمقه بنظرات مختلسة ظافرة ...وكل ما يشغل ذهنها فكرة واحدة ...
فارسها جاء ليصالحها بهدية!!
=======
_ميرسي جداً يا دكتور ياسر...مش عارفة أشكر حضرتك إزاي!
قالتها داليا بدلال وهي تجلس مع أستاذها في غرفة مكتبه بالجامعة ...
كانت قد تذرعت بأنها لا تفهم شيئاً من محاضرته الأخيرة كي تتبعه إلى هنا وتبقى بصحبته لما يزيد عن نصف الساعة !
نصف ساعة فقط لكنها اعتبرتها إحدى انتصاراتها العظيمة في معركتها لكسب اهتمامه هو بالذات!
الغريب أن الرجل لم يكن شديد الوسامة بل بدا -بجسده الممتلئ وقامته التي تميل للقصر نوعاً ونظارته الطبية التي لا يكاد يخلعها وثيابه شديدة التواضع- كمواطن بسيط ممن تقابلهم في الشارع بل... في الحافلة !
لكنها لم تكن تنظر لكل هذا ...
فقط كانت تكتفي بتلك النظرة المهيبة في عينيه ...
حزم صارم مغلفٌ بحنان لن يخطئه قلب فتاة مثلها !
أجل...إن كان "يامن" يمثل صورة "الأخ" في قلبها ...
و"هيثم" يمثل صورة الصديق ...
ف"ياسر" يمثل صورة الأب التي تفتقدها!
لكن ...هل توقفت لتسأل نفسها أين صورة "الحبيب" وسط كل هذا؟!

فلندع الأيام تجيب هذا السؤال ولنعد لأستاذها الذي كان غافلاً عن مشاعر إعجابها هذه وهو يسألها بلهجة عملية:
_لو محتاجة أعيدها مفيش مشكلة !
لكنها هزت رأسها بحركة متعمدة لتتطاير خصلات شعرها الكستنائية حول وجهها مع جوابها المتغنج:
_بلاش أعطل حضرتك أكتر من كده ...كفاية عليّ النص ساعة دي...
ثم قامت من على كرسيها المقابل لمكتبه لتستخرج من حقيبتها مسبحة زرقاء مدت بها أناملها نحوه وهي تردف بنبرتها المتدللة:
_دي عشان العربية الجديدة...ممكن حضرتك تعلقها على المراية عشان كل ما تشوفها تفتكرني ...
ثم تلعثمت بحركة مدروسة لتستطرد:
_آآآ...أقصد تفتكر أدّ إيه تلامذتك بيقدروك !
لكن الرجل بدا شديد الغفلة عن حركاتها هذه التي تلقاها بحسن نية وهو يتناول منها هديتها ليقول بنبرة بسيطة رغم وقارها:
_متشكر جداً.
ويبدو أن حسن النية الذي تقبل به هديتها وكلامها أثار ضيقها فتجرأت لتقول بنبرة أكثر دلالاً وهي تقترب منه بجذعها عبر المكتب:
_أنا اللي عاملاها بإيدي ...اتعلمت الطريقة مخصوص عشان حضرتك!

_ونعم الطالبة فعلاً!
والعبارة لم تكن من أستاذها بل من زوجته التي تشتغل بالتدريس مثله في الجامعة لكن في كلية أخرى ...
والتي دخلت الآن الغرفة لتتقدم نحوهما بنظراتها الثاقبة ...
فالتفتت نحوها داليا بضيق لم يخفَ على عيني المرأة الثاقبتين قبل أن تعتدل الأولى بجسدها لتقول بنبرة واثقة:
_شكراً لحضرتك...أستاذ ياسر عزيز علينا كلنا!
ابتسمت المرأة ابتسامة ذكية وهي تمد أناملها لتلتقط المسبحة من يد زوجها تتفحصها ببصرها قبل أن تقول بهدوء:
_جميلة فعلاً...تسلم إيديكِ.
وقف الرجل ليمد يده مصافحاً زوجته وهو يتجاهل هذا الحديث ليقول باهتمام:
_استنيني هنا خمس دقايق هاخلص حاجة مهمة ونروح سوا.
أومأت له زوجته برأسها ليغادر الغرفة تلاحقه نظرات داليا التي مزجت غيظها بتحديها ...
بينما جلست المرأة مكانه تتأمل داليا للحظات سبقت قولها بهدوء ذي مغزى:
_واضح إنك طالبة مجتهدة قوي...كل ما آجي للدكتور مكتبه ألاقيكي !

ورغم شعورها بالحرج لكن داليا رمقتها بنظرات قوية مع قولها :
_دكتور ياسر مش بيتأخر الحقيقة عن أي حاجة بحتاجها.
كانت تشعر أن المرأة تلمح لها بشعورها باهتمامها الزائد بزوجها لهذا تعمدت أن تلقي لها هذه العبارة ذات المعنى -المزدوج- ...
والتي تلقتها المرأة بذكاء يليق بها وهي تتلاعب بالمسبحة بين أناملها للحظات بينما عيناها تمشطان جسد هذه الفاتنة أمامها لتقول أخيراً :
_السبحة اتعملت عشان نفتكر بيها ربنا وقت ما ننشغل عنه ...

وفجأة...وبحركة خاطفة لم تشعر داليا بها ...كانت المسبحة قد انفرطت حباتها لتسقط تباعاً على الأرض!!!
عقدت داليا حاجبيها بغضب وهي ترفع رأسها للمرأة التي أكملت بنفس الهدوء وكأنها لم تفعل شيئاً:
_مش عشان أي حاجة تانية...ودكتور ياسر ماشاء الله عليه مش محتاج حد يفكره !
ازداد انعقاد حاجبي داليا بغيظ وصل حد الصفاقة بينما بدت المرأة شديدة البرود مع استطرادها الواثق:
_آسفة إن السبحة اتقطعت ...بس ياريت ماتحاوليش تعملي غيرها ...هاتضيعي تعبك على الفاضي!
احمر وجه داليا وانفرجت شفتاها كي تهم بالرد لولا دخول الرجل من جديد ليقول مخاطباً زوجته:
_ياللا بينا!
ثم انتبه لداليا فأردف بلهجته الجادة:
_انتِ لسه هنا يا داليا ...محتاجة حاجة تاني؟!
ابتسمت زوجته ابتسامة واثقة وهي تقوم من مكانها لتتأبط ذراعه بينما قالت داليا بغيظ مكتوم:
_لا خلاص.
قالتها ثم غادرت الغرفة بخطوات سريعة فضحت غضبها قبل أن تتوقف في ذاك الممر بين أروقة المبنى لتلتقط أنفاسها بضيق...
وكأنها تملك الحق فيما تفعله!!
الغريب أنها لم تكن تحس بالغيرة من زوجته...
هي فقط كانت تشعر أنها تملك "حق المشاركة"!!!
غريب؟!
لا ليس غريباً بالنظر إلى مشاعرها المضطربة المتخبطة...
والتي ازدادت تخبطاً برؤية هذا الذي تقدم نحوها ...

_هيثم؟! بتعمل إيه هنا ؟! مش قلت هاتروح؟!
رمقها بنظرة متفحصة طويلة قبل أن يقول لها بضيق:
_الجو وحش قلت أستنى وأوصللك ...
ثم أشاح بوجهه مردفاً بغيرة فاحت بين حروفه:
_اتأخرتِ قوي في مكتب الدكتور!
ابتلعت مشاعرها السلبية لترتدي قناع مرحها وهي تقترب منه قائلة:
_طالبة مجتهدة ...عندك اعتراض!
_داليا أنا فاهمك أكتر من نفسك...وحاسس إن علاقتك بالدكتور مش عادية...على الأقل من ناحيتك!
قالها عاتباً وهو يعود إليها ببصره فضحكت ضحكة رنانة وهي تقترب منه أكثر بغمزة عابثة :
_غيران يا "روميو"!
لكنه لم يستجب لشقاوتها العابثة هذه المرة بل ابتعد عنها خطوة ليقول بلهجة جادة تماماً:
_الطبيعي إني أكون غيران...بس الحقيقة إني خايف عليكِ أكتر!
ورغم أن الصدق الدافئ الذي لون كلماته مس قلبها الظمآن للعاطفة لكنها تخطت هذا بهزة من رأسها لتقول وهي تتظاهر بالتشاغل فيما حولها:
_هيثم احنا اتكلمنا في الموضوع ده قبل كده ...وقلت لك إديني فرصة أحدد مشاعري ناحيتك...أنا مش برفض ...بس كمان مش باقبل ...انت صاحبي من أيام المدرسة وصعب قوي أخرج علاقتنا من الإطار ده لشكل تاني بسهولة كده .
_واشمعنا أنا قدرت؟!
بعتاب جاد قالها ونظراته تكاد تصرخ بمشاعره نحوها لكنها عادت تتجاوز عن هذا محتميةً بدرع مزاحها اللعوب:
_خلاص علمني!
وعبارتها وازت هزة من كتفيها بحركة تدرك كم يحبها من هذه اللمعة في عينيه وهذه الارتجافة في ابتسامته ...
ابتسامته التي ما كادت تلمحها حتى تنهدت بارتياح لتبدأ في السير جواره قائلة:
_أيوة كده فُكّها أبوس إيدك مش ناقصة عقد...ياللا "ننمّ"على العيال شفت اللي حصل في الشلة ؟!
هز رأسه باستسلام لثرثرتها المعهودة وهو يستمع صابراً كعهده حتى خرج بها من المبنى نحو سيارته التي استقلتها جواره ...
ولم يكد ينطلق بها حتى فوجئ بها تنحني لتلتقط شيئاً ما من دواسة السيارة ...
ثم رفعته أمام عينيه بقولها الغاضب:
_سلسلة شوشو ! ما تكدبش...أنا شارياها معاها وعارفة...كانت بتعمل إيه في عربيتك؟!

ابتسم ابتسامة راضية وهو يرفع أحد حاجبيه مشاكساً مستمتعاً باحمرار وجهها المنفعل مع هتافها:
_امال حوار الغيرة والعواطف اللي داخللي فيه ده لازمته إيه طالما سيادتك مقضّيها من غيري؟!
لم يرد عليها مكتفياً بصمته وهو يأخذ طريقه نحو بيت خالتها الذي يعرفه ...
فزفرت بقوة وهي تلقي السلسلة من النافذة بغيظ ...
ثم كتفت ساعديها لتعاود الاستقرار في كرسيها زامّة شفتيها المكتنزتين بحركة غاضبة ...
ظلا هكذا طوال الطريق حتى وصل بها إلى مكان قريب من البيت فهتفت به بنبرة آمرة:
_استنى هنا ...كنت هانسى!
استجاب لطلبها بالتوقف ثم استدار نحوها ليراها وهي تستخرج من حقيبتها وشاحاً قبل أن تلم خصلات شعرها لتعقدها بحركة سريعة سبقت ارتدائها للوشاح بإهمال...
ثم تناولت منديلاً لتمسح أثر الزينة على وجهها مغمغة بضيق:
_يامن ممكن يبقى موجود ...مش طالبة نكد و نصايح و يصحّ وما يصحش!
مط شفتيه باستياء وهو يستدير نحوها بجسده ليقول بانفعال:
_أهه الحسنة الوحيدة في يامن ده إنه محجّم جنانك شوية...فيها إيه يعني لو تتحجبي حقيقي؟! وبعدين شكلك من غير ماكياج أحلى ألف مرة من اللي بتعمليه في وشك ده!
همهمة ساخطة منها كانت جوابها قبل أن تغادر السيارة لتنحني بعدها على النافذة قائلة له بعنادها الذي يعرفه:
_أنا محدش يقوللي اعملي وما تعمليش ...احفظ الدرس ده كويس قبل ما تفكر تعدي "الفريند زون" اللي بيننا .
نظرته الغامضة الطويلة كانت الجواب الوحيد لما قالته ...
قبل أن تستقيم هي بجسدها لتغادر لكنها ما كادت تفعلها حتى سمعت عبارته خلفها:
_شوشو ما ركبتش معايا ...هي قصدت بس ترميها هنا عشان تعمل فيكِ مقلب لما تشوفيها!
كانت شبه واثقة مما يقوله -إن لم يكن يقيناً في مشاعره نحوها ففي طبيعة تلك الفتاة التي تدرك غيرتها منها- لهذا هزت كتفيها برشاقة لتعاود الانحناء على النافذة بقولها العابث:
_ما يهمنيش!
غمزته بعدها بحركة لعوب جعلته يبتسم وهو يشيح بوجهه بينما سارت هي مبتعدة نحو البيت ...
لم تجد سيارة يامن فشعرت بالكثير من الخيبة وهي تدخل البناية لتصعد الدرج بخطوات متثاقلة ...
البيت خالٍ كما يبدو ...بيللا تؤدي تدريبها المعتاد في صالة الألعاب الرياضية القريبة...رانيا منهمكة في المشاوير المعتادة لعروس اقترب زفافها !
زفرت بقوة وهي تشعر بالخواء قبل أن تدخل غرفتها التي استلقت على فراشها تناظر السقف بشرود...
ماذا تريد بالضبط؟!
السؤال العتيق الذي لم تجد له إجابة ويبدو أنها لن تفعل!
ماذا ينقصها كي تكون سعيدة؟!
ذاك التجويف الفارغ في صدرها كيف تملؤه ؟!
لا شيء سوى "نشوة المغامرة"هو ما يمنح حياتها الرتيبة بعض الإثارة ...
ربما لو يمنحها القدر فرصة لتكون نجمة مثل "بيللا"!!
نجمة تخطف قلوب الجميع فيتهافتون لإرضائها!!!

صوت هاتفها يقاطع أفكارها فتشرق ملامحها وهي ترجو رسالةً من عاشقها المجهول تبدد سحب مللها هذه ...
وقد كان ..
(اليوم كان القدر كريماً معي لأبعد حد ...رأيتك مرتين ..إحداهما كانت خصلات شعرك البرّية تحيط بملامحك كحرسٍ مخلص ثائر...وفي الثانية كان الوشاح النبيذي ينافس حمرة ملامحك المنفعلة...وفي المرتين نجحتِ في بعثرة دقات قلبي كعهدك...تعلمين كم أحب شعرك !! أحبه لأنني أشعر به رفيق دربي ...طفولتي منقوشة بذكريات شعثه ...مراهقتي مرادفة لجدل ضفائره...أولى خطوات شبابي رأيتها يوم صبغتِه أنتِ بالأشقر البشع الذي لا يليق به ...قبل أن يعود بعدها -لحسن الحظ- للونه الكستنائي كقهوتي الصباحية عندما أخففها باللبن...أرجوكِ لا تفعلي شيئاً بشعركِ ...لا تقصيه...لا تصبغيه...دعيه حراً يسرد تاريخي ... فما أصدق قيلاً من شَعر امرأة يروي تاريخ عاشقها؟!!)

انفرجت شفتاها رغماً عنها وقلبها يخفق بجنون ...
رغم العبث اللامبالي الذي تتلقى به رسائله لكنها لا تنكر أنه مس قلبها بصدق هذه المرة ...
يقول إنه رآها مرتين ...مرة بحجابها ومرة دونه ...وهذا يعني أنه قد تبعها من الجامعة إلى هنا ...
أو ربما هو أحد جيرانها ؟!
هل رأى هيثم معها ؟!
لماذا لم يلمح لها بغيرة إذن؟!
تراه واثقاً إلى هذا الحد من طبيعة علاقتها بصديقها ؟!
أو لعله لم يره !!
زفرت بقوة عند خاطرها الأخير وفضولها يشعلها حد الغيظ ....
ثم قامت من فراشها لتنزع عنها وشاحها بسرعة أمام مرآتها...
تحرر خصلات شعرها لتجعلها تحيط بوجهها في طلّة فوضوية ...
تبتسم وهي تتذكر كلماته التي كادت تحفظها ...

ما أصدق قيلاً من " شَعر"امرأة يروي تاريخ عاشقها؟!

محظوظةٌ أنتِ يا فتاة ب"رجالك" الذين يتناثرون على خريطة "أنوثتك" كلٌ في موقعه بالضبط...
محظوظة؟!
من يدري ...ربما ...منكوبة!!
======
_أنا آسفة يا "طنط"!
قالتها رانيا بارتباك للمرأة التي فتحت لها باب بيتها ببشاشة لتردف بتلعثمها المعهود:
_جيت من غير معاد بس قلقت على أشرف ...ما بيردش على موبايله!
ضمتها أمه بحنان ثم جذبتها لتدخلها وتغلق الباب خلفها قائلة:
_ما تقلقيش يا حبيبتي ...هو هتلاقيه مش دريان بالدنيا...
ثم غامت عيناها بحزنها وهي تردف:
_متبهدل بين شغل المصنع ...و لفّه معايا على الدكاترة والجلسات ...ومشاكل نشوى وبنتها ...هيلاقيها منين واللا منين؟!
رمقتها رانيا بنظرة تعاطف طويلة وهي تشعر بأن إشفاق المرأة على ابنها يفوق حزنها على نفسها ...
هي تعلم أن أشرف يحمل الكثير على كاهله بعد وفاة والده خاصة بعد انفصال شقيقته عن زوجها الذي سافر وترك لها مسئولية ابنتهما كاملة ...
تماماً كما تعلم أن أشرف لا يتذمر من كل هذا بل على العكس...
طبيعته المسئولة تجعله دوماً يشعر بالتقصير مهما فعل...
لكن هذه ليست المشكلة...
مشكلتها أنها عاجزة عن دعمه في كل هذا!
تريد .. لكن...لا تستطيع!!
طبيعتها -السلبية الخانعة- لا تجعلها تمنحه أكثر من مجرد عبارات مواساة !
_ادخلي صحيه يا بنتي ...اعمليهاله مفاجأة!
قطعت بها المرأة أفكارها بحنان -لم يفتقر مرحه بعد رغم الألم- فترددت رانيا لتقول بارتباك:
_لا يا "طنط" مش هاينفع...
ضحكات المرأة الواهنة قاطعت كلماتها المتلعثمة وهي تجذبها من ذراعها قسراً نحو غرفة ابنها قبل أن تلتفت لها بقولها :
_الولد مقتول من التعب ...مفيش قنبلة هتصحيه دلوقت من النوم إلا لو شافك.
_خلاص خلليه نايم!
قالتها بحرج وهي تبتعد تلقائياً لكن المرأة فتحت لها الباب لتقول لها بجدية عاد الحزن يشوبها من جديد:
_صحّيه يا بنتي وخديه واخرجوا...فرّحيه...أنا عايزة أشوفه فرحان!

ارتعش صوتها في عبارتها الأخيرة قبل أن تبتعد بسرعة مخافة أن تفضحها دموعها فراقبت رانيا انصرافها بنظرات مشفقة ..
ثم عادت ببصرها لذاك النائم هناك...
حمرة الخجل تصيب من وجنتيها وهي تتقدم نحو فراشه ...
لم تكن المرة الأولى التي ترى فيها غرفته بحكم جيرتهما القديمة ،لكنها كانت المرة الأولى التي تدخلها وهو فيها !
ابتسمت بحنان وهي تراقب ملامحه المتعبة قبل أن تجلس جواره على طرف الفراش ...
لقد كان يحتضن "الوسادة" الحمراء بشكل القلب الشهير والتي أهدتها له في عيد ميلاده السابق ، والتي نزعتها الآن منه برفق لتربت على كتفه بتردد هامسة باسمه !
همستها الخافتة لم تحرك فيه ساكناً بطبيعة الحال فتنحنحت لترفع صوتها بعض الشيء وهي تعاود التربيت على كتفه ...
لم تزل تفعلها حتى هب من نومه فجأة ليتطلع إليها بقلق هاتفاً بصوت متحشرج:
_رانيا ...حصل إيه؟!
رمقته بنظرة مشفقة وهي تدرك أثر الضغوط التي يواجهها عليه ...
ربما لو كانا قد تعرضا لموقف كهذا في وقت آخر لسبقته ابتسامته العابثة ومزاحه الذي يثير خجلها !
لهذا ابتسمت ابتسامة واهنة وهي تقول بنبرتها الرقيقة:
_قلقت عليك...موبايلك مقفول...جيت أطمن!

عاد برأسه إلى الوراء مطلقاً آهة توجع قبل أن يتناول هاتفه ليقلبه بين يديه قائلاً بضيق:
_فصل شحن...معلش...اتلبخت ونسيت أشحنه!
قالها ثم انهمك في توصيل هاتفه بالشاحن المجاور فترددت قليلاً قبل أن تمد أناملها لتمسك كفه قائلة:
_شكلك تعبان قوي...ارجع نام...مش مهم نروح مشاويرنا النهارده.

نظر إليها نظرة طويلة حملت كل مشاعره ...
حزنه...قلقه.. عجزه ...كل هذا الذي حاول تجاهله الآن كي لا يثقل عليها !!
صمت طويلاً ونظراته ترتاح على ضفاف عينيها شيئاً فشيئاً...
ابتسامة صغيرة بدأت تلقي ظلالها على ملامحه ...
قبل أن يهمس لها أخيراً:
_بصيلي كويس ...شايفة دي؟!
قالها مشيراً لشفتيه ثم احتضن كفها براحتيه مردفاً:
_انتِ الوحيدة اللي ممكن تخليني أبتسم كده دلوقت وسط كل اللي أنا فيه !
التمعت عيناها بعاطفتها لتتلعثم حروفها كالعادة مع قولها:
_كلامك ده بيحسسني بالذنب أكتر..أنا حاسة إني مابعملش حاجة...مش قادرة أساعدك في ظروفك دي .
_خلليكي جنبي بس...دي أكبر مساعدة ...مش طالب منك أكتر من كده !
والحرارة التي نطقها بها كانت تشع صدقاً ودفئاً زاد ارتباكها الخجول...
حتى قبل أن يميل على كفها بين راحتيه بقبلة عميقة جعلتها تسحب كفها بسرعة ...
قبل أن تهب واقفة لتهتف باضطراب:
_طيب ياللا نخرج ...يامن لو عرف إني جيت لك هنا وكمان قعدت في أوضتك لوحدنا هيقلب الدنيا!
ضحك لارتباكها الواضح وهو يقوم بدوره ليقول لها مشاكساً:
_أنا اللي هابلغ عنك...هاقولله صحيت لقيتها في سريري...أنا مش عارف البنات جرى لها إيه ؟! كل راجل يشوفوه عايزين يخدشوا حياءه كده ؟!
ثم خبطها بخفة على رأسها مردفاً:
_معندكيش إخوات ولاد!
_أشرف!
هتفت بها باعتراض ووجنتاها تحترقان تماماً بخجلها بينما تبتعد عنه وسط ضحكاته التي تعالى صوتها تحت مسامع والدته حيث كانت تراقبهما خلسة بارتياح ...
قبل أن تدخل الغرفة لتهتف به باستنكار حنون:
_قلت إيه كسفت البنت قوي كده ؟! أنا عارفاك قليل الأدب!!
وكأنما عاد إليه حزنه الذي كان قد تناساه بدخول والدته ليسألها بقلق:
_عاملة إيه دلوقت يا ماما ؟! المُسكّن الجديد عمل حاجة؟!
_زي الفل يا حبيبي ...سيبك مني و شوف عروستك...هاخدها تشرب حاجة على بال ما تغير هدومك !
قالتها وهي تجذب رانيا المرتبكة من ذراعها لتغادر معها الغرفة حيث بقيتا تتحدثان لبضع دقائق قبل أن تنضم إليهما نشوى شقيقته.
وأخيراً لحق بهن أشرف ليصطحب رانيا للخارج تحت نظراتهما المتفحصة باهتمام لهما ...
وكيف لا ؟!
و"أشرف" هو كل ما تبقى لهما من سند الدنيا!!

_بنت حلال بشكل...هي دي اللي هتريح أخوكِ!
قالتها والدته عقب خروجهما لترد نشوى باستهانة:
_بيتهيألك...رانيا بشخصيتها الضعيفة دي مش هتكون أكتر من حِمل جديد على كتفه...أشرف محتاج ست قوية تشيل معاه...تفهم هو محتاج إيه من غير ما يطلبه ...تسنده وتقف جنبه !
تنهدت المرأة بحرارة ثم جذبت ابنتها بين ذراعيها لتقول لها بحكمة:
_ساعات كتير قوة الست بتكون في ضعفها...المهم إنها تعرف توازن بينهم وتشوف علاقتها بجوزها محتاجة إيه...يمكن رانيا تبان ضعيفة ومهزوزة وما بتقدرش تاخد قرار لوحدها...لكن الامتحان الحقيقي وقت الجد ...ساعتها يبان إذا كان ده صحيح واللا مجرد "قشرة" من بره تظهر من تحتها قوتها وقت ما تحتاجها!
========
كان حلم عمري اللي لقيته...
كان كل شيء اتمنيته...
حبيتها كده زي ما هيّ...
ضحكتها مش ضحكة عادية...
توصفها تلاقيها ...مايتحكيش عليها!!!

انطلقت الكلمات مع ألحانها المميزة في سيارته عندما التفت نحوها ليسألها بحنين فاح في نبراته:
_فاكرة الأغنية دي؟!
عادت بظهرها للوراء مغمضة عينيها بشرود مع ابتسامة حنين صاحبت قولها:
_كنا في فرح بنت طنط جارتنا ...وقتها كنت أنت لسه في ثانوي...أول مرة كنت أشوفك بشنب...ساعتها حسيت إننا كبرنا خلاص ما عدناش عيال ...ساعة ما الأغنية دي اشتغلت لقيتك بتبصلي قوي وبتغنيها بشفايفك من غير صوت ...قلبي قعد يدق زي المجنونة...
_جيت أسلم عليكي بالإيد مارضيتيش ووشك احمر.
_وانت وشوشتني وانت متنرفز إن الفستان ضيق ماالبسوش تاني.
_عنيكي دمعوا وسبتي الفرح بدري وروحتي .
_وانت صحيت من بدري تستناني ع السلم لحد ما جه معاد المدرسة ...بفتح الباب لقيتك قصادي!
_عمري ما هنسى نظرة عينينا وقتها ...كانت أجمل من أي اعتراف...وأقوى من أي وعد !

كان كلاهما يكمل الحديث لصاحبه وكأنهما يريان بنفس العين ...
يشعران بنفس القلب ...
يهمسان بنفس لغة الحب!!
لهذا فتحت عينيها أخيراً قائلة بنعومتها التي لا تتكلفها:
_انت ما ادتنيش فرصة أحلم...كل حلم كنت بتحققهولي قبل ما أتمناه .
_ومش هابطل أعمل كده لآخر يوم في عمري!
قالها وهو يضغط كفها بقوة رفيقة فابتسمت وهي تغرقه بنظراتها العاشقة الفقيرة للكلمات ....
قبل أن يلتفت نحوها بقوله:
_حددي مشاويرنا بالترتيب عشان ما ننساش حاجة...آه...وماتنسيش تعملي قائمة بأسماء المعازيم عشان ما نتزنقش في حجم القاعة.
فاستخرجت من حقيبتها ورقة تناولتها لتقول وهي تنظر فيها:
_داليا كتبت لي الحاجات اللي فاضلة...ويامن اللي هيحدد موضوع المعازيم .
رمقها بنظرة جانبية ضائقة رغم تفهمه ل-طبيعتها المتواكلة- لتواصل هي حديثها المرتبك :
_هنعدي الأول نشوف الستاير...وبعدين السجاد ...لأنهم قريبين من بعض...ولو فضل وقت ممكن نشوف النجف.
كانت تتحدث وهي تقرأ من الورقة باضطراب فبدت ك"كتكوت مبتلّ" كاد يغرق في شبر ماء!
فابتسم مشفقاً عليها من ارتباكها ليقول مطمئناً:
_ما تقلقيش...أنا معاكي لحد ما نخلص كل حاجة براحتنا...على أقل من مهلك!
التفتت نحوه بنظرة امتنان طويلة لم تفارقها طوال رحلتهما التي بدت لها ممتعة رغم كل شيء...
ذاك العالم "البكر" الذي سترسم هي كل خطوطه...
بداية من رجلها الذي اختارته...
ومروراً بهذه الدوامة اللذيذة من التفاصيل الصغيرة ...
سجاد...مفروشات...ستائر...أجهز� �...أثاث...ملابس...
وانتهاءً بحلمها الأعظم الذي هو بحجم عمرها كله ...
ثوب الزفاف لليلة العمر!
لهذا ما كادت تنتهي من آخر محل زاراه معاً حتى توقفت مكانها لتقول له بصوت مرهق:
_كفاية عليك كده ...هاتصل بداليا تجيلي ...فاضل مشوار واحد لجورج الترزي...بروفة الفستان!
فالتمعت عيناه بلهفة أنسته التعب مع هتافه :
_معقول خلصه بالسرعة دي ؟! هاموت وأشوفه!
_ما ينفعش نروح سوا ...بيقولوا فال وحش لما العريس يشوف عروسته بالفستان قبل الفرح !
قالتها باستنكار واهٍ يناسب طبيعتها الخانعة ليجيبها بنبرة حازمة:
_لو متخيلة إني ممكن أخللي حد غيري يروح معاكي تبقي غلطانة...
ثم تلونت عيناه بطيف عاطفته وهو يحتضن أناملها بكفه بقوة مردفاً:
_اللي حلم بيكِ وإنتِ لابساه أكتر مني يشوفك بيه قبلي!
هزمها الحنان المتملك في عبارته لتجد نفسها تطيعه كالعادة !

وبعدها بدقائق كانت تقف أمامه بثوبها الذي اختارته شديد البساطة مناسباً لملامحها الهادئة...
تطريزه المنمق بحبيبات اللؤلؤ الصغيرة زادته رقة إلى رقته خاصة مع طرحته المسدلة التي امتدت بطوله بل أطول بقليل ...
لتشكل خلفها ما يشبه ذيلاً من ورود "الدانتيل" و"اللؤلؤ"!
_"أوفر" قوي مش كده ؟! حاسة إن الناس هتضحك عليا عشان طرحته طويلة قوي ...
قالتها وهي تفرك كفيها بتوتر وعيناها تتحاشيان لقاء عينيه بخجلها المعتاد لتردف :
_داليا اللي اختارت الطرحة كده ...ممكن نغيّر...
_شششش!
تمتم بها وهو يتقدم منها ليمسك كتفيها فيجبرها على النظر إليه مع همسه:
_احنا ما تفقناش على كده!
اتسعت عيناها بجزع وقد ظنت الثوب لم يعجبه ...فابتسم ليردف بصوت متهدج :
_ما اتفقناش تكوني جميلة كده...تجنني كده !
عضت شفتها بخجل وسط أنفاسها المتلاحقة لتعاود الهروب من نظراته الحارة مع استطراده الدافئ:
_ارفعي راسك وافرحي معايا من غير خوف ...انتِ الحقيقة اللي أجمل من الحلم ...
ثم تنهد ليردف ببعض الأسى:
_والضحكة "العزيزة" وسط أيام الحزن!
=========
_بقوللك...لو فاضي النهارده ننزل بعد العيادة نلف شوية وناكل ال...البتاع ده اللي كان عاجبك!
قالها يامن لصديقه مدعياً اللامبالاة ليوافقه الأخير وهو يرد مرحباً:
_أوبا سينابون !! أي اقتراح فيه أكل أنا راشق معاك .
أغلق الاتصال وهو يعود بظهره للوراء ليستند على كرسي مكتبه .
حسناً...هو يعترف أنه يفعلها هذه المرة طوعاً كي... يطمئن عليها!

فمنذ تلك الليلة التي تركها فيها في تلك المنطقة الجبلية وهي اختفت تماماً من محيط عالمه فلم يعد يراها ...
تراها استجابت لتهديده ويأست من ملاحقته؟!
أم أن أحدهم قد آذاها تلك الليلة ...ربما تبعها ذاك الوغد الذي كان يتشاجر معها؟!
وغد؟!
ولماذا يكون هو الوغد؟!
ألم يفترض -هو- قبلاً أنها هي الآثمة ؟!
أم أن انهيارها الباكي تلك الليلة أمامه زعزع هذا المعتقد؟!
زفر بقوة عند الخاطر الأخير ثم غمغم بسخط محدثاً نفسه:
_اطلعي من دماغي بقى يا شيخة!!

قالها ثم ضغط زراً خاصاً أمامه ليطلب من مساعدته إدخال أول مريض وكأنه يحاول الهروب من تفكيره فيها ...وقد كان!!
مرت به الساعات كعهدها سريعة في عمله الذي يعشقه ولا ينكر أنه كان يتوقع مع كل مرة يفتح فيها الباب ليدخل منه أحدهم أن تكون هي ...
لكن توقعاته باءت بالفشل لهذا ازداد مزاجه عصبيةً وهو يغادر العيادة نحو المطعم الخاص بها...

ورغم أن المكان لم يتغير كثيراً عن زيارته السابقة لكنه شعر بالاختلاف في نفسه هو ...
ذاك المزيج الغريب من الرهبة والتوجس ...وإن لم يخلُ من متعةٍ خفية لم يدرك سرها !!
لهذا ما كاد صديقه يصل حتى قرر أن يصارحه بكل ما يشغل باله ...ليختم حديثه بقوله:
_هتجنن يا مروان...مش فاهم هي عارفة عني كل حاجة ازاي...وعايزة مني إيه أصلاً.
صمت صديقه لحظات مفكراً قبل أن يقول بتعجب:
_كأنك بتتكلم عن واحدة تانية غير جيسي اللي نعرفها ...دي مناخيرها دايماً في السما ...وبعدين انت قلت انها ولا مرة حاولت تكلمك ...مش يمكن فعلا مجرد صدف!!
هز رأسه نفياً مكابراً ليقول ببعض الحدة:
_هي حتى ما أنكرتش لما واجهتها .
_وانت شاغل بالك ليه؟! عاجباك؟!
قالها صديقه وهو يتفحص ملامحه باهتمام فتجهم وجهه وهو يجيبه بنفس الحدة:
_انت عارف كويس اني ماليش في الليلة دي...واشتريت دماغي من سكة الستات دي كلها !
هز صديقه رأسه بعدم اقتناع فزفر بقوة ليشيح بوجهه مردفاً:
_كل الحكاية اني موسوس زي ما بيقولوا ...مبحبش يبقى فيه حاجة تخصني ومش فاهمها .
_سبحان الله ...الدنيا دي غريبة جداً...انا اعرف ناس هيموتوا عليها وانت خايف منها وبتقول بتجري وراك ؟!
قالها صديقه ببعض المرح كي يحاول أن يصرفه عن هذا المزاج الكئيب لكن يامن عاد يسأله بجدية:
_تعرف اتطلقت ليه؟!
هز رفيقه رأسه نفياً وهو يجيبه :
_محدش عارف بالظبط...كلها إشاعات وانت عارف الناس ما بتصدق ...بس طليقها كل شوية يعمللها مشاكل ...لدرجة إنها لجأت للبوليس آخر مرة ...بس الحيوان ده واضح انه ما حرمش بدليل اللي انت قلته من شوية...أنا متأكد إن هو اللي كان بيتخانق معاها قدام المول من وصفك .
_وليه ما يكونش "الحيوان" ده هو صاحب الحق؟! والهانم "البريئة" هي اللي ظالماه؟!
قالها بسخريته السوداء كعادته لكن صديقه عاد يقول مؤكداً:
_أنا أعرف جيسي من زمان...من أيام ما كانت بتلعب تنس في النادي ...محدش عرفها وقرب منها وما حبهاش...ما اصدقش عنها حاجة وحشة أبداً.
_هو ده الفرق بيني وبينك...انت على نياتك وبتتخدع في الناس ...
قالها يامن بنفس النبرة المتهكمة ....ليرد صديقه بإشفاق:
_وانت بتضيع حلاوة الحاجة اللي بين ايديك بالشك والوساوس...صدقني الدنيا أبسط من كده ...
ثم صمت لحظة ليردف بتردد وكأنه يخشى مسّ جرح صديقه القديم:
_صوابعك مش زي بعضها يا يامن!
عقد يامن حاجبيه وهو يفهم ما يرمي إليه صديقه فاستشاط غضباً وهو يهتف بانفعال:
_لا ! زي بعضها ...وكفاية كلام في الموضوع ده !
لم يكد يتم عبارته حتى وصل النادل بما طلباه ليضع الصينية أمامهما فبادر صديقه بسؤال النادل:
_مدام ياسمين موجودة؟! كنت عايزة أهنيها على الديكورات الجديدة للمحل!
فابتسم الرجل ليقول بنبرة مهذبة:
_موجودة يا فندم هابلغها حاضر!
قالها ثم غادرهما فالتفت صديقه نحوه ليغمغم برفق:
_كده اطمنا عليها ...
ثم غمزه ليردف مازحاً:
_مش انت جايبنا هنا عشان كده؟!

لكنه لم يستجب لمزاحه وهو يطالع قطعة "السينابون" أمامه بشرود ...
شكلها "الحلزوني"يذكره بمتاهات حياته التي عاش يتخبط فيها حتى وصل إلى ما وصل إليه ...
يلومونه على شكوكه ووساوسه ولا يدرون أن هذا هو درعه الأخير كي لا يُخدع مرة أخرى ...
فقد تعلم بأسوأ طريقة أن جروح القلوب لا تندمل بل تبقى ندوبها بشعة المظهر تذكرنا بما خسرناه وتحذرنا من السقوط في فخ جديد!


_أنا سديت نفسك واللا إيه؟!
قالها صديقه بمرح تشوبه لكنة اعتذار فالتفت نحوه يامن بابتسامة
واهنة... قبل أن يربت على كتفه ليقول بامتنان:
_انت عارف ان انت صاحبي الوحيد اللي مستحمل جناني ده؟!
فضحك صديقه ليعيد الحوار نحو نفس الجهة:
_لو كنت صادق في كلامك اللي قلته من شوية عن جيسي يبقى فيه أمل تلاقي حد غيري يستحملك.
_ليه بتقول جيسي دي؟! اسمها ياسمين .
قالها بفظاظته المعهودة فانفجر صديقه بالضحك وهو يخبط كفيه معاً قائلاً بين ضحكاته:
_أهه لسه ما بدأناش وغيران عليها ...دي هتشوف أيام كحلي!!
_غيرة إيه بس يا بني آدم انت؟! الحكاية ...
انقطعت عبارته عندما رآها من بعيد تتقدم نحوهما بخطواتها الرشيقة وعيناها ترمقانه بنفس النظرة اللائمة التي لا يفهمها ...
كانت ترتدي "سالوبيت" من الجينز مع قميص أصفر وحجاب قصير لفته بطريقة "سبانيش" الشهيرة بلون أزرق غامق مع حذاء رياضي أصفر!
ومع قامتها الضئيلة بدت له كمراهقة تتلمس طريقها نحو المدرسة ...
لا يزال عاجزاً عن تصديق أنها امرأة خاضت أي تجارب !

رائحة عطرها "الملونة" تعاود غزو حواسه مع اقترابها أكثر ...
كيف يمكن أن تثير ضيقه بكل هذه القوة ...
ومع هذا يريدها أن تقترب أكثر ...
أكثر ...
ربما لو تذكر أين رآها من قبل لاستطاع حل لغزها الذي يعكر صفوه !!

_إزيك يا مروان؟! قالولي إنك عايز تبارك لي!
قالتها وهي تتجاهله تماماً موجهة حديثها لصديقه الذي وقف ليقول لها بمرح ودود:
_بجد بفرح قوي بنجاحك...مطعمك بقى أشهر مطعم سينابون في البلد ...طول عمرك بتعرفي توصللي للي انتي عايزاه من أيام بطولات التنس.
رفع يامن حاجباه بغرور يجيد ادعاءه وهو يحافظ على جلسته المستقيمة متجاهلاً إياها كما فعلت هي ...
لكنه اختلس نظرة واحدة لوجهها الذي بدا له الآن شديد الحيوية بعيداً تماماً عن ذاك الذي رآها به تلك الليلة الأخيرة...
خاصة مع قولها الواثق وبنبرة ذات مغزى شعر بها يامن:
_شكراً...معاك حق...مفيش حلم مستحيل ...احنا اللي ساعات بنزهق بسرعة وبنسيب احلامنا تضيع من ايدينا!
ثم التفتت نحو يامن لتردف بمزيج من عتب وكبرياء:
_أنا شايفة الدكتور شرفنا هنا تاني ...مبسوطة ان المطعم عجبه !
قالتها ولم تنتظر رده بل غادرتهما بخطواتهما الواثقة لتعود وتختفي خلف ذاك الباب هناك تاركة إياه يغلي بين غيظه من طريقتها وفوضى ظنونه التي تنهشه...
من تكون هذه المرأة؟!

لكن أفكاره انقطعت برنين هاتفه الذي تناوله لينعقد حاجباه بشدة وهو يتعرف إلى هوية المتصل...أو بالأدق المتصلة!!!
وميض الشاشة المتكرر يتزامن مع ذكرياته السيئة معها ...قبل أن يتمتم من بين أسنانه:
_سيلين؟! ودي إيه اللي فكرها بيا دي دلوقت؟!
=======
_أسوان إيه دي اللي عايزة تروحيها لوحدك أسبوع؟! انتي اتجننتي؟!
هتف بها باستنكار وهو يواجه داليا التي عبست ملامحها مع ردها:
_مين قال لوحدي؟! دي رحلة تبع النادي وكل صاحباتي رايحين...
ثم صبغت صوتها ببعض الدلال لتردف:
_ولو قلقان عليا ممكن تيجي معايا!
لكنه عاد يصيح بنفس اللهجة المستنكرة:
_آه ....أسيب عيادتي ومصالحي والف وراكي في كل حتة شوية ؟!
دمعت عيناها وهي ترمقه بنظرة عاتبة فتفحصتهما نبيلة ببصرها قبل أن تقول لابنة شقيقتها ببعض الحزم:
_روحي اتغدي دلوقتي يا داليا ...وسيبيني مع يامن شوية.
أصدرت زفرة حانقة وهي تلوح بذراعها لتغمغم وهي تنصرف بخطوات مندفعة:
_إيه الخنقة دي؟! كل حاجة غلط ...كل حاجة ما تنفعش...عيشة تزهق!
_بتبرطمي بتقولي إيه يا هانم؟!
هتف بها بخشونته المعهودة وهو يكاد يلحق بها لكن والدته جذبته من ذراعه لتجلس وتجلسه جوارها قائلة بنبرتها القوية:
_اهدا عليها يا يامن ...مش كده ...البنت ما غلطتش !
فالتفت نحوها ليهتف بحدة مبالغ فيها:
_عايزاني أسيبها تسافر لوحدها ؟! مابتسمعيش عن اللي بيحصل اليومين دول؟!
ابتسمت وهي تتعلق بذراعه قائلة:
_طب إيه رأيك نسافر كلنا معاها ...أنا كمان نفسي أغير جو!
_لأ!
وجد نفسه يقولها باندفاع لتطرق بعدها برأسها للحظات سبقت قولها وقد خالط كبرياءها الكثير من الأسى :
_مفيش فايدة...هتفضل كاره ظهورنا سوا قدام الناس...كل مرة لازم تحصل مشكلة عشان توافق .
كز على أسنانه بغضب مكتوم وهو يود لو ينكر استنتاجها لكنه لم يستطع ...
هل ستفهمه لو قال لها أنه يود لو يصطحبها لكل مكان متنعماً بجنة حنانها التي افتقدها في سنوات كان أحوج ما يكون إليها ...
لكنه في نفس الوقت يخجل من تواجده معها !
لا ..ليس خجلاً فقط ...بل غضب وسخط وغيظ و...غيرة؟!
إنه بالكاد يتقبل خروجه معها للتسوق بين الحين والآخر والذي ينتهي غالباً بمشاجرة نتيجة مزاجه المشحون ...
كل عبارات المجاملة التي تلاحقها أينما ذهبت من معجبيها تلهب رجولته بالسياط ...
تذكره بعهد أبيه القديم ...

_ابعد عنها أد ما تقدر يا ابني ...كانت غلطتي يوم ما خدت واحدة مش من توبي ...غلطة بدفع تمنها لحد دلوقت وشكلي هافضل ادفعه عمري كله ...بس المهم عندي إنك ما تشيلش الحمل اللي مالكش ذنب فيه .

تنهد بحرارة عند الذكرى الأخيرة ليدعو لأبيه بالرحمة سراً قبل أن يرفع عينيه إليها...
ليفاجأ بلمعة الدموع في عينيها والتي جعلته يزفر بقوة قبل أن يهتف بضيق:
_ولازمته إيه العياط دلوقت؟! كل حاجة لازم تقلبيها دراما كده ؟!
أشاحت بوجهها دون رد وقد أنذرت ملامحها بانهيار قريب جعله يخشى العاقبة كالمرة السابقة ...
فتنهد بحرارة ثم قال بنبرة لانت نوعاً:
_خلاص بقى...الحكاية مش مستاهلة ...انتي عارفة ظروف شغلي.
لكنها ظلت مشيحة بوجهها لترد بنبرة مستعطفة:
_انت بتتلكك...ممكن تسيب العيادة للدكتور اللي معاك زي ما بتعمل في أجازاتك...لكن انت اللي مش عايز تقرب مني...مُصرّ تحسسني دايماً إني بعيد .
مط شفتيه بضيق للحظات ليفاجئها بقوله في استسلام غريب على طبعه العنيد:
_خلاص...أنا موافق...أنا كمان محتاج أغير جو!
قالها ثم قام من جوارها ليتوجه نحو الشرفة القريبة التي استند على سورها وهو يتابع مدخل البناية بشرود حيث تجمع بعض الأطفال يلعبون الكرة ...
فابتسم بشرود وهو يتذكر قبساً من طفولته البعيدة انتهى أيضاً بتحذير أبيه..

العب معاهم بس اوعى تقول لحد أمك تبقى مين...هيخلوك تريقتهم في الرايحة والجاية...
أنا خرجت بيك من بلدنا وجيت هنا عشان أحميك من كلام الناس...ما تضيعش تعبي يا ابني!

_مالك يا يامن؟! بقى لك كام يوم مش عاجبني؟!
قالتها نبيلة بنبرتها ذات الكبرياء والتي خالطها الآن بعض القلق فالتفت نحوها بوجه اعتادت جموده ...
لكنه كان ينبض الآن بألم استنفر -أمومتها- فأردفت بحنان:
_اللي تاعبك انك دايما بتكتم جواك ...احكيلي ايه اللي مغيرك .

كانت شبه واثقة أنه لن يصرح لها بشيء كعهده لهذا توقعت صمته الطويل بعدها ...
لكنها لم تتوقع أن يبوح بهذا حقاً :
_سيلين اتصلت بيا من كام يوم .
_سيلين مراتك؟!
_طليقتي !
هتف بها بحدة وملامحه تعود لاشتعالها فأشارت له بكفيها لتهدئه مدركةً حساسيته من هذا الأمر ...قبل أن تعاود سؤالها باهتمام:
_كانت عايزة إيه؟!
بدا على وجهه التردد للحظات قبل أن يلقي قنبلته:
_حامل في التاسع!
شهقت بعنف ليردف هو بتهكم غاضب:
_بتقول إنه ابني وعايزة ترجعلي بالحجة دي...فاكرة إنها هتلوي دراعي..نازلة مصر بعد أسبوعين وعايزاني أكون في شرف استقبالها .
_وهتعمل إيه؟!
سألته بقلق ولازالت المفاجأة مسيطرة عليها ...
هي -مثله- لا تريده أن يعود لتلك المرأة ...
ليس فقط لأجل أفعالها السابقة الشنيعة معه ...
لكن لأنها هي تريده هنا معها ...في بلده !
لقد ظنت بعد سفره أنه لن يعود هنا أبداً ورغم أنها لم تقلها له صراحة...
لكنها شعرت أن روحها ردت إليها عندما عاد منذ بضعة أشهر مقرراً استقراره الأخير هنا بعد غربة طالت لسنتين !!
والآن ...ماذا سيحدث بعد هذه المفاجأة غير المتوقعة ؟!
هل سيتركها من جديد؟!
_أتأكد منين إنه ابني بعد اللي حصل؟! واحدة زي دي ممكن تعمل أي حاجة عشان توصل للي في دماغها !! وحتى لو اتأكدت هاسيبهولها مش عايزه!
انتشلتها عباراته الساخطة من شرودها فانعقد حاجباها وهي تغمغم بارتباك:
_معقول؟!..هتسيب ابنك ؟!
ضحكته الساخرة المكتومة كانت كرصاصة عتاب في صدر أمومتها...
تذكرها ب"ماضيها القديم"!!
فازدردت ريقها بتوتر بينما أشاح هو بوجهه عنها ليقول بفظاظة:
_مش هاعيد مأساة أبويا تاني...حتى لو طلع ابني خلليها تشيل مسئوليته ...مش عايز حاجة تفكرني بيها ...اتفاقي معاها كان واضح م البداية ...جواز مصلحة ...هي اللي خانت اتفاقنا!
أطرقت برأسها وهي تشعر بالخزي في موقفها هذا ...
هي تعلم أنه الآن لا يرى في طليقته إلا صورتها هي ..
صورة المرأة التي تضحي بأي شيء لأجل مصلحتها خاصة بعدما فعلته به في غربته ...
لهذا صمتت طويلاً قبل أن تسأله بصوت خفيض:
_وناوي تعمل إيه؟!
_هاطفشها!
هتف بها بخشونة وهو يخبط بقبضته على سور الشرفة بعنف قبل أن يردف بعينين مشتعلتين بالغضب:
_لازم تتأكد إن ما بقالهاش مكان في حياتي ...ولا هيكون ...ومش هتصدق غير لما تشوف بعنيها!
=======

Menna Hegazy likes this.

سمية سيمو غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-04-20, 10:09 PM   #1503

سمية سيمو


? العضوٌ??? » 396977
?  التسِجيلٌ » Apr 2017
? مشَارَ?اتْي » 4,356
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
?  نُقآطِيْ » سمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك action
?? ??? ~
keep smiling
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي



(القطعة الرابعة)
*********

استيقظ على صوت منبهه صباحاً فابتسم وهو يقوم من فراشه ليمتع عينيه بهذا المنظر البديع للنيل والذي ظهر من خلف النافذة العريضة لغرفته حيث تسير بهم الباخرة الضخمة من أسوان إلى الأقصر ...
لقد رأى العديد من المظاهر الطبيعية في انجلترا وبعض الدول التي زارها على فترات متباعدة مع زوجته السابقة سيلين خلال عامي زواجهما ...لكنه لا ينكر أن مشهد النيل بشاطئيه هذا يقع في قلبه موقعاً لا يماثله سواه ...
ربما لأنه يرمز ل"العودة للجذور" !

هذا المعنى الذي افتقده طوال عمره حيث عاش في غربة عما يفترض أن يكون له الأساس والمنبع!
هو الذي حرم من أمه ...ومن قريته ...ثم من أبيه ...
ليعيش بعدها غربة لا تنتهي ختمها بغربة حقيقية في لندن قبل أن يتلقى صفعة القدر الأخيرة ليعود إلى وطنه محملاً بخيباته !

تنهد بحرارة وهو ينفض عنه غطاءه ليقوم من فراشه حيث ذهب ليغتسل ويؤدي صلاته ...
تناول هاتفه ليتصل بأمه كي يوقظها لكن محاولته باءت بالفشل بعد سهرها الطويل هي وداليا ليلة أمس ...
فخرج لتناول إفطاره في مطعم الفندق وحده ...
وهناك تسربت إلى أنفه رائحة "القرفة" من مكان ما ...
فارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة وصورةٌ بعينها تتجمع في ذاكرته...
"امرأة الفوضى"!
مطاردته المجهولة التي أثارت الشغب في وطنه الهادئ ...
وألقت حجر غموضها لتحرك مياه حياته الساكنة !
هنا تلفت حوله وهو يراهن نفسه على خاطر مجنون ...أنها هنا!!
ورغم عبثية الافتراض لكنه عاهد نفسه إن وجدها أن يمضي فيما ينتويه ...
امرأة مثلها بتألقها وذكائها ...واهتمامها الغريب بملاحقته ....هي ما يحتاجه هو تماماً الآن كي ينفذ "خطته"!
كان قد أنهى إفطاره فقام ليتوجه نحو سطح الباخرة ...
بضع خطواتٍ لم يزد عليها قبل أن يلمحها هناك واقفةً تستند بذراعيها على ذاك السياج ...
ورغم أنها كانت تعطيه ظهرها لكنه تعرف إلى قامتها القصيرة المميزة ،وأناقتها البسيطة التي صار يميز تفاصيلها بعشقها الواضح للألوان.
اتسعت عيناه وهو يقترب بخطواته أكثر يتنازعه شعوران ...
أحدهما ب-الرضا- عن اهتمام واحدة مثلها به وهو ما يعزز غروره الذكوري بشدة ...
والآخر ب-الضيق- المبهم الطبيعي من سبب ما تفعله !
كان الآن يقف خلفها تماماً فتحرك خطوة ليجاورها قبل أن يقول دون أي مقدمات:
_كنت متأكد إني هاشوفك هنا !
التفتت نحوه بحدة وقد بدت مندهشة لأول لحظة قبل أن تعود ببصرها للأمام قائلة ببرود اتشح بالحزن:
_اعتبر نفسك ما شفتنيش!
_مش عايزة تقوليلي انتِ عايزة مني إيه ؟!
قالها وهو يتأمل جانب وجهها حيث أضفى ضوء الشمس على عينيها ظلالاً ذهبية كانت لتجعلها فاتنة في عيني أي رجل آخر إلا هو ...
هو الذي يبدو أنه قد أصيب بعقدة من "الشقراوات"!
لكن هذا لم يمنع ذاك الشرر الخفي الذي سرى منها إليه وهو يرى الشجن الذي لون ملامحها مع إجابتها:
_قلتلك قبل كده...ما عدتش عايزة منك حاجة !

قالتها وهي تتناول من حقيبتها منديلاً معقماً مما يستعمل في تطهير الأسطح مسحت به السياج أمامه وكأنها تعلم عن طبيعته الوسواسية بشأن النظافة ....
فعاد ينظر إليها بمزيج من ضيق ورضا قبل أن يستند على السياج مغمغماً:
_امال بتجري ورايا في كل مكان ليه؟!
_ما عنديش إجابة !
قالتها ثم استدارت لتغادر لكنها ما كادت تعطيه ظهرها حتى استوقفها بقوله:
_تتجوزيني؟!
تجمدت مكانها للحظات قبل أن تلتفت بوجهها نحوه قائلة بترقب:
_لولا إني عارفاك كويس كنت قلت إنك بتهزر!
_أنا فعلاً ما بهزرش!

قالها بجدية تامة وهو يشيح ببصره عنها قائلاً بنبرة عملية:
_طالما عارفة عني كل حاجة يبقى أكيد تعرفي إني كنت متجوز واحدة انجليزية من أصول مصرية ...جوازنا كان مجرد صفقة متبادلة وانتهى قبل ما أرجع مصر بتفاصيل مش حابب أقولها ...دلوقت ظهرت من جديد وبتقول إنها حامل وعايزة ترجع لي ...
_فأنت عايز تتهرب من مسئولية ابنك ...وتثبت لها إن بقى عندك حياة تانية عشان تقطع أملها فيك !
أكملت له عبارته بنبرة شبه ساخرة وإن حملت الكثير من المرارة فالتفت نحوها ليهتف بحدته المعهودة:
_أنا مش بهرب من مسئوليته....أنا عايزها هي تشيلها ...أنا أكتر واحد عرف يعني إيه ابن يتحرم من أمه !

بدا وكأنه شعر بالندم على عبارته الأخيرة التي تفوه بها دون قصد ...
خاصة عندما لمح عينيها تلتمعان بإشفاق زاد من غضبه أكثر ليردف بنفس الحدة:
_أنا محدش يلوي دراعي ...ورجوعي لها ده من رابع المستحيلات...
_وليه ما تقوللهاش ده ببساطة من غير لعبة الجواز دي؟!
سألته بحيرة حقيقية فعاد ببصره للأمام قائلاً باقتضاب:
_لازم تيجي منها هي ...لها قريب ماسك مركز مهم هنا...ممكن تؤذيني هنا زي ما آذتني هناك.
رمقته بنظرة متفحصة طويلة وعبارته الأخيرة تفسر لها سبب عودته من غربته...
ثم قالت بنبرتها الهادئة التي تغيظه من فرط ما تشعره أنها تفهمه:
_انت حابب ترد لها ضربة كرامتك...تيجي تلاقيك متجوز وبدأت حياة جديدة بعد ما رميتها ورا ظهرك...وفي نفس الوقت تفقد أملها فيك من غير ما تأذيك...برافو...خطة ذكية...بس نسيت حاجتين ...
التفت نحوها بنظرة متسائلة فابتسمت وهي تستدير نحوه لتعقد ساعديها أمام صدرها قائلة بسخرية لائمة:
_الأولى...ابنك...تفتكر واحد بتركيبتك النفسية هيستحمل يتربى بعيد عنه؟!

عقد حاجبيه بضيق وهو يراها تضغط على ذاك الجزء الذي يحاول تناسيه منذ سمع الخبر ...
هو يتشبث ب-بقايا شك- أنه ليس له ...
وحتى لو كان ابنه ...لن يقبل أن يعود لسيلين مهما كان الثمن ...
قد يراعي ابنه عن بُعد أويسافر لرؤيته مرة كل عام ...
وربما عندما يكبر قليلاً يجلبه هنا ليعيش معه !
هكذا كان يخدع نفسه ليلهيها عن وحش ( أنانيته وشكوكه) الذي يحكم سيطرته الآن على قراراته...
لكنها هي لم تغفل عن هذا لهذا شاب ابتسامتها الكثير من المرارة مع استطرادها:
_والثانية...أنا ...مين قاللك إني هوافق؟!
هنا كان دوره ليبتسم ابتسامة شاحبة بينما يتفحص ملامحها قائلاً:
_معرفش...حاجة جوايا بتأكد لي إنك هتوافقي ...خصوصاً إنه مش جواز على طول ...كام شهر بس لحد ما سيلين تيأس وترجع بلدها وتشيلني من دماغها ....
ثم صمت للحظات وقد شعر بأن يقينه في موافقتها على عرضه السخي هذا قد بدأ يتبدد...
ليقول بتردد:
_انتِ كمان من مصلحتك تتجوزيني لفترة...عشان تخلصي من طليقك ومشاكله!
فاقتربت منه خطوة ولازالت تعقد ساعديها لتقول بنبرتها الغريبة التي تمزج غموضها بتحديها:
_تفتكر لو كنت عايزة أتجوز لمجرد الجواز كنت هاغلب؟!
كز على أسنانه بضيق لم يظهر على ملامحه التي تعمد صبغها ببروده وهو يتذكر ما قاله صديقه عنها ...فيما استطردت هي بنفس النبرة:
_لو عايزة أتجوز ...هلاقي ألف عرض أحسن من عرضك المزيف ده !
ظل صامتاً يرمقها بنظرة ضائقة وهو يدرك منطقية ما تقول قبل أن يطرق برأسه ليقول باقتضاب:
_أعتبر ده رفض؟!

اقتربت منه خطوة أخرى فشعر بدقات قلبه تتعثر وذاك الشعور -المهيب- بداخله نحوها يتضخم ...
شعورٌ هو مزيجٌ من إجلال لهالة غموضها وهذه ال"كاريزما" التي تحيطها ...
مع خوف طبيعي لشخص بوساوسه وظنونه ...
فرفع عينيه إليها بنظرة عميقة متفحصة وكأنه يود قراءة دواخلها ...
لتفاجئه بقولها:
_هو سؤال واحد وبعدها هاقوللك موافقة واللا لأ!
عقد حاجبيه بترقب منتظراً فأخذت نفساً عميقاً وهي تتفحصه بدورها مردفة:
_واحد زيك شكاك وموسوس...ازاي يآمن يتجوز واحدة زيي مطلقة وفضايح طليقها بتطاردها في كل حتة ...
ثم عادت تبتسم ساخرة لتستطرد وكأنها تقرأ أفكاره:
_دماغك مش بتودي وتجيب وتقول لنفسك أكيد أخلاقها وحشة ...أكيد طليقها مش هيعمل كده من غير سبب...دي واحدة عايشة لوحدها بعيد عن أهلها ...يعني مالهاش ظابط ولا رابط؟!

كانت عيناه تتسعان بصدمة مع كل كلمة تنطقها وكأنها تقرأ أفكاره حقاً ...
قبل أن تتحول دهشته لغضب حقيقي وهو يشعر أنه قد ضاق ذرعاً بوضعهما الغريب هذا الذي يفرض عليه جهلاً تاماً بها في مقابل معرفتها الواضحة به !!
لهذا لوح بذراعه هاتفاً بفظاظته المعهودة:
_لأنه مش جواز بجد ...دي مجرد لعبة...ومش هلاقي واحدة مجنونة زيك ترضى تهاودني في حاجة زي دي...
أطرقت برأسها وكأنها كانت تتوقع إجابته مع استطراده بنفس اللهجة:
_ولأني أعرف كويس ازاي أسيطر على الست اللي هتشيل اسمي الكام شهر دول ...
تحركت لتبتعد عنه بضع خطوات وهي تعطيه ظهرها فبدت له شبه إجابة بالرفض ...
هنا تقدم هنا -هو- خطوة منها ليزفر بقوة قائلاً:
_ولأني سألت عليكِ كويس وكل الناس بتشكر فيكِ رغم كلام طليقك !
صمتٌ قصير سادهما بعد عبارته الأخيرة قبل أن تقول ولازالت تعطيه ظهرها:
_موافقة...بس بشرطين!
عقد حاجبيه بشدة وهو يتقدم منها أكثر ليواجهها بعينين متربصتين لكنها أطرقت برأسها لتقول بنبرتها القوية:
_مش عايزة أعرف سبت سيلين ليه...بس انت كمان ما تسألنيش عن تفاصيل علاقتي بطليقي ...
صمت لحظات مفكراً قبل أن يقول باقتضاب:
_ماشي...والتاني؟!
رفعت رأسها لتشيح بوجهها عنه قائلة بنبرة ارتجفت حروفها:
_جوازنا مش هيكون حقيقي ...انت عايزها لعبة...يبقى تفضل لعبة وبس...قدام الناس متجوزين...بس بيننا وبين بعض أغراب...أعتقد فاهم قصدي!

ازداد انعقاد حاجبيه وشرطها الأخير هذا يزيد ارتباكه ...
صحيحٌ أنه لم يرغبها ك-امرأة- منذ رآها ...
لكن أن تشترط -هي- هذا فقد شعر به -نوعاً ما- مهيناً!
ما قصة هذه المرأة بالضبط؟!
لماذا وافقته على عرضه المجنون هذا؟!
تحبه؟!
لماذا؟! وكيف؟! ومنذ متى؟!
ومادامت كذلك فلماذا تشترط هذا الشيء الأخير بهذه الصرامة وكأنها تنفر منه؟!
لكنه لا يملك الآن متسعاً للبحث عن أجوبة ...
الوقت يمر بسرعة ويريد تنظيم هذه "الكذبة" قبل وصول سيلين.
لهذا مد لها كفه فجأة قائلاً:
_موافق!

لكنها ظلت تنظر لكفه الممدود نظرة طويلة لم يفهمها قبل أن تدمع عيناها فجأة دون سبب !
صمتها البائس هذا يربكه لكنه يجذبه لهوّتها السحيقة أكثر ...
فارتجفت شفتاه وهو يشعر بالحرج من تطلع البعض لهما وقد امتنعت هي عن مصافحته ...
لكن الغريب أنه لم يشعر بالإهانة من تصرفها ...
بل ...بالإشفاق!
أجل هذا الألم الذي شق أخاديده القاسية وسط نعومة ملامحها أنبأه أنها عانت كثيراً...
وتعاني الآن أكثر!
لهذا أعاد كفه جواره ببطء قبل أن يتنحنح ليستعيد صوته خشونته مع سؤاله:
_مش عايزة تقوليلي اتقابلنا فين قبل كده ؟!

عضت على شفتها بقوة وهي تخفض بصرها عنه لتهمس بنبرتها الذبيحة بين ألم وغموض:
_هاقوللك ليلة جوازنا ...
ثم رفعت رأسها بابتسامة شاحبة وهي تتحاشى نظراته لتردف:
_هاحكيلك حكاية عروسة البحر ...اللي مابقتش عروسة ...بس مش قادرة تعيش غير في البحر.
======
_دكتور ياسر ...صباح الخير!
_داليا؟! انتِ هنا؟!
قالها لها الرجل مندهشاً وهو يلتقيها مصادفةً مع الفوج أمام معبد "الكرنك" فضحكت بدلال لتجيبه:
_صدفة هايلة!
كانت تعلم أنها كاذبة وأنها في الحقيقة لم تصر على هذه الرحلة إلا لعلمها بأنه هو الآخر سيذهب ...
محاولة أخرى من محاولاتها اللانهائية لجذب انتباهه والتي لايزال الرجل غافلاً عنها فقد ابتسم ليقول مجاملاً:
_فعلاً...بس ما اعتقدش هتتبسطي هنا...المكان ده للعواجيز اللي زينا ...انتم بتحبوا التنطيط والهيصة.
_حضرتك مش عجوز أبداً...
قالتها بلهجة تعمدت رفع إيقاع دلالها لتردف وعيناها تغزوان عينيه بجرأة :
_أنا كمان تفكيري أكبر من سني بكتير ...يعني لايقين جداً على بعض!
بدت الصدمة على وجه الرجل الذي لم يفهم عبارتها لأول وهلة فتلعثمت لتردف بارتباك مدروس:
_أقصد أنا والمكان ده لايقين على بعض.
ويبدو أن الرجل كان من حسن النية بمكان إذ فهم عبارتها كما هي فاتسعت ابتسامته وهو يسير جوارها مشيراً للتماثيل العظيمة جواره بينما يقول:
_بفرح جداً لما بلاقي حد في سنك ده بالعقلية دي ...البلد دي مش هتقوم إلا لما ولادها يقروا تاريخها ويفهموه...بيقولوا التاريخ بيعيد نفسه وده حقيقي بس للي يقراه صح ...ويفهم اللي قبله سبقوا ليه ويقلدهم ...احنا شعب عظيم بس ناقصنا...
ابتسمت بإعجاب حقيقي جعلها تشرد عن بقية حديثه مكتفية بالتحديق فيه وهي تسير جواره ...
مجرد سيرهما هكذا كان يمنحها لذة خاصة من "قبس ملكيّته" التي ترجوها !!
خصلات شعره التي بدأ المشيب يغازلها كانت تقرع باب قلبها بصوت خاص...
رصانته التي تمنح كلماته مذاقاً مميزاً مهما كان الموضوع الذي يتحدث عنه...
حنانه الذي كان يطل واضحاً عبر لفتات بسيطة رأت الآن إحداها عندما أعطاها مظلته الشمسية قائلاً :
_الشمس بدأت تشد حيلها ...خدي انتِ دي!
تناولتها منه شاكرة ثم اقتربت منه أكثر لتقول بضحكة عابثة:
_ممكن تكفينا إحنا الاثنين!
ضحك الرجل وهو يبتعد عفوياً مع قوله:
_لا ما تشغليش بالك بيّ...أنا واخد على الشمس...
ثم حدق فيها بنظرة طويلة قبل أن يردف بتعجب:
_انتِ اتحجبتِ؟! ما أخدتش بالي إلا دلوقت!
تجمدت ملامحها وهي تشعر بالضيق فوجود يامن معها هنا في الرحلة يجعلها تلتزم رغماً عنها بحجابها الذي يبدو لها في هذا الطقس قطعة من الجحيم ...
لهذا زفرت بضيق حقيقي لتجيبه :
_لا مش حجاب...بس أخدت برد وخفت الدور يشد عليّ.

_ألف سلامة عليكِ!
والإجابة جاءتها من خلفها ...من آخر شخص تود رؤيته الآن !!!
أجل ...بالضبط!!
زوجة الدكتور التي بدت وكأنها ظهرت فجأة لتتأبط ذراع زوجها موجدةً لنفسها مكاناً بينهما بينما تردف بنبرة ذات مغزى:
_شفتك على الباخرة بس ما صدقتش عنيّا...قلت مش معقول الصدفة دي...
ثم ضحكت لتلتفت لزوجها قائلة:
_تخيل تبقى كابس على نفسهم في الجامعة وفي الرحلات كمان .
رفع الرجل كفيه باستسلام فاحمر وجه داليا غيظاً وهي ترد ببرود مستفز:
_احنا نحب نشوف دكتور ياسر في أي مكان وأي وقت!

التمعت عينا المرأة بغضب عجز عن تحمله حلمها المعهود وقد شعرت أن هذه الفتاة تتجاوز كل الحدود حقاً ...
لكنها تمالكت نفسها كي لا تجعل زوجها ينتبه للأمر خاصةً وهي تثق به تمام الثقة ...
لهذا ضيقت عينيها بوعيد مستتر ثم ابتسمت ابتسامة قاسية وهي تسألها:
_فين عيلتك يا داليا...معقول جاية هنا لوحدك؟!
شحبت ملامح داليا وقد راودها هاجس ما أن تخبر هذه المرأة يامن عن أي شيء يخص علاقتها بأستاذها ...
يامن الذي تدرك أن طبيعته الوسواسية مفرطة الشكوك قد تجعله يحرمها تماماً من الجامعة لو علم شيئاً عن هذا ...
هذا الشحوب الذي قرأته المرأة بوضوح وهي تمد أناملها فيما بدا كحركة رقيقة لتعدل لداليا وشاح رأسها لكنها في الحقيقة كانت تحمل لها رسالة خاصة وشت بها كلماتها:
_لو اتقابلنا تاني أحب نتعرف عليهم...وبالمناسبة عندي وصفة هايلة ل"البرد" هتخلليه ما يعتبش ناحيتك... نهائي!

كزت داليا على أسنانها بغيظ مكتوم بينما تومئ برأسها عندما قال ياسر الذي لايزال غارقاً بحسن نيته:
_خدي كلامها ثقة يا داليا ...وصفاتها مضمونة !
ابتسمت المرأة بثقة وهي تمنحها نظرة خاصة جعلتها تتوقف عن السير جوارهما لتقول بوجوم:
_حاسة إني صدعت من الشمس ...هارجع أنا .
قالتها ولم تنتظر رداً بل اندفعت بخطواتها المهرولة نحو الحافلة التي تنتظرهم هناك حيث قبعت في مكانها تنتظر تحركها بوفدها والغيظ يكاد يحرق أعصابها ...
لهذا ما كادت تختلي بنفسها في غرفتها على الباخرة حتى تناولت هاتفها لتتصل بهيثم الذي بادرها بقوله :
_داليا...وحشتيني قوي!
نزعت عنها وشاحها بقوة غضبها لتزفر بقوة جعلته يسألها بقلق:
_مالك يا حبيبتي؟! انتِ كويسة؟!
قلقه الحنون نجح في تخفيف بعض ضيقها فتنهدت بعمق لتجيبه:
_زهقانة جداً يا هيثم...ياريتك جيت معايا .
لم ترَ ابتسامته لكنها شعرت بها مع قوله بصوت دافئ:
_معنديش مانع آخد أول طيارة وأجيلك...بس ابن خالتك هنعمل فيه إيه؟!
خلعت قميصها لتنظر لنفسها عبر مرآتها قائلة بنزق:
_معاك حق...عشان كده ما رضيتش أخلليك تيجي معايا ...
ثم ضحكت بعصبية لتردف:
_كل حاجة هنا مملة ...بس الفندق هنا عامل "جلابية بارتي" الليلة دي ...حفلة رقص شرقي للصبح...بفكر ...
_هاقتلك يا داليا!!
هتف بها بحدة مقاطعاً عبارتها فضحكت ضحكة طويلة مستمتعة بغيرته قبل أن تقول بصوت عاد إليه مرحه:
_ما تقلقش يا "روميو"...الشاويش يامن هنا عامل الواجب ...مابخرجش من الأوضة إلا بحجابي!
لم يصلها منه رد سوى ذبذبات غضبه اللامرئية عبر الهاتف فابتسمت ابتسامة حقيقية لتستفز صمته بقولها المرح:
_الشبَكة فيها عيب واللا القطة أكلت لسانك ؟!
لكنه ظل صامتاً للحظات أخرى جعلتها تقول بتردد:
_هيثم ...ما بتتكلمش ليه؟!
_عشان معندكيش دم...أنا هنا هاموت عليكِ وحضرتك ما بتفكريش ...
_هتموت عليّ؟!
قاطعت بهمسها الدافئ عبارته التي داعبت وتراً حساساً بقلبها....
فزفر زفرة حارقة قبل أن يغلق الاتصال بعنف دون أن يجيبها.
ظلت تتطلع للشاشة بشرود وهي تشعر بنفس الحيرة تمزقها ...
ماذا تريد ؟!
لو كانت تريد مجرد حب فهيثم يمنحه لها بسخاء...
لكنها تشعر أنها لا تكتفي بهذا ...هي تريد عالماً بأكمله ...
عالماً تكون هي نجمته !!
لن تنسى أبداً ذاك اليوم الذي رأت فيه بيللا على شاشة التلفاز وهم يسلمونها ذاك التاج المتلألئ في حفل كبير منذ سنوات ...
صيحات الحضور...تصفيقهم...عيونهم التي لم تفارق جسدها ...
هذه هي النجومية الحقة التي تبتغيها ...
لماذا تكتفي من القلوب بواحد مادام يمكنها كسبها كلها؟!

طالما كانت تشعر في قرارة نفسها أن خالتها حمقاء لأنها تركت كل هذا وراءها ...
لهذا تعذرها حالياً في محاولاتها للحفاظ على مكانها تحت الأضواء وإن اعتزلت التمثيل ...
حياة المرأة الحقيقية ليست في زوج يسجنها أو بيت تخنقها جدرانه...
حياتها في هواء تتنفسه حرة بلا قيود !
هكذا حدثت نفسها وهي تتفحص جسدها عبر المرآة بإعجاب قبل أن تتناول هاتفها لتبحث عن رسالة من "عاشقها المجهول" بفضول يزداد يوماً بعد يوم ...
لكنها لم تجد شيئاً !!
ولا تدري لماذا زادها هذا إحباطاً بعد ما حدث مع زوجة أستاذها فزفرت بحنق قبل أن تتجه نحو نافذة غرفتها المطلة على النيل لتفتحها غير آبهة بجسدها المكشوف ولا شعرها الذي انسدل على كتفيها ...
غافلة عن زوجة ياسر التي وقفت على شاطئ النيل المقابل للباخرة ترمقها بنظرات متفحصة غير راضية...
قبل أن تزفر بحنق لتتناول هاتفها كي تجري اتصالاً فتحته بقولها:
_انسى اللي في دماغك خالص...البنت دي مش هتنفعك...شوف غيرها أحسن !
======
_انتِ كويسة؟!
هتف بها يامن وهو يصعد معها ذاك الممشى الذي يقودهم نحو مقبرة فرعونية ما ...
والذي كان يرتفع تدريجياً مع صعودهم حتى يعادل ارتفاع بضعة طوابق عند آخره ...
ورغم اعتراضه على صعودها لكن أمه العنيدة أصرت على هذا فاضطر لمرافقتها ...
_جدا!! ياااااه...إزاي ما جتش هنا قبل كده ؟! المكان ...يجنن!
كانت تلهث مع عباراتها وهي تتشبث بأحد كفيها في سياج السور الجانبي للممشى بينما كفها الآخر يستقر في راحته ...
حركة بسيطة لكنها كانت تعني لها الكثير!!!
كادت تتعثر في خطوتها الأخيرة لتفاجأ به يضمها إليه بذراعه في حركة سريعة حادة ...
رفعت عينيها إليه لتجد القلق الممتزج بعاطفته في عينيه والذي داراه بقوله الخشن:
_كفاية كده ...انت مش قادرة تاخدي نفسك.
لكنها ابتسمت وهي تقول بإصرار عبر صوتها اللاهث:
_مش هارجع بعد كل ده ...لو خايف عليّ خلليك ساندني كده !
أشاح بوجهه في ضيق وهو يعاود الصعود معها بينما يضمها إليه بقوة حيث كانت هي في أسعد حالاتها وهي تشعر بنفسها بهذا القرب منه ...
هو يستنكف أن يمنحها ضمّةً كهذه في إطار "عاطفة"...
لكنه لا يتردد لحظة في فعلها في إطار "دفاعه الحمائي" عنها ...
وكأنه يتعامل معها فقط بنبل خلق دافناً مشاعره الحقيقية خلف هذا القناع الصلب!!
لقد ورث ابنها نصيبه بالعدل منها ومن أبيه !!!
طبيعته ممزقة بين "قسوة" عبد الرحيم حمدي التي جعلتها تلفظ حياتها معه بأسرها حتى ولو كان الثمن ابنها الذي حرمها منه ...
وبين "كبريائها" هي الذي جعلها تفضل طموحها ونجاحها عن كل ما عداه !!
فلماذا تلومه ؟!

_مش دي بيللا؟!
هتفت بها إحداهن وهي تهرع نحوها لتردف بانبهار:
_مش ممكن .. مش مصدقة عنيا...أنا ممكن أتصور معاكِ؟!
ابتسمت نبيلة بفخر وهي تعدل وضع قبعتها على رأسها فيما هتف يامن بغلظة للمرأة :
_انتِ مش شايفة اليافتة هناك ؟! ممنوع التصوير!!
بهتت المرأة لفظاظة لهجته فيما اتسعت ابتسامة نبيلة وهي تقول مرحبة:
_مفيش مشكلة ...ممكن نبعد عن هنا ونتصور ...
_هتنزلي كل ده تاني؟!
هتف بها يامن بسخط والعرق يتصبب على جبينه فرفعت نبيلة رأسها لتقول بلهجة تمثيلية:
_عادي...جمهوري له حق عليّ برضه!

قالتها وهي تعاود النزول مع المرأة التي لم تكف عن الثرثرة معها معلنة انبهارها ب"مجدها القديم"...
فيما رمقهما هو بنظرة مشتعلة ثم تمتم ببضع كلمات ساخطة قبل أن ينتبه لتلك التي وقفت هناك بعيداً ببنيتها الضئيلة التي تميزها حتى وسط هذه الجموع ...
ورغم أنها كانت ترتدي نظارة شمسية لكنه شعر بنظراتها مصوبة نحوه باهتمام قبل أن تطرق برأسها صامتة مكتفية بموقعها البعيد ...
عقد حاجبيه وهو يعود ببصره نحو أمه التي انشغلت عنه تماماً بالتقاط الصور مع بعض المعجبين الذين انضموا للمرأة هناك ...
قبل أن يعود ليبحث عن مطاردته الغامضة لكنه وجدها قد اختفت تماماً ....
======
_صباح الخير يا "دودة"!
قالتها هانيا بنبرة صبغتها بمرحها وغادة تفتح لها باب الشقة المقابل لها والتي انتقلت إليها بالأمس فقط بعد إلحاح هانيا الشديد ...
فابتسمت غادة بوهن مع صوتها المتحشرج:
_لسه فاكرة الاسم ده ؟!
كانت هانيا تحمل صينية العشاء الذي أعدته لها حيث دخلت لتضعها على المائدة الصغيرة هناك لتقول بنفس النبرة:
_أيام الكلية كنا مسميينك "دودة" وبيفتكرونا بندلعك ...ما يعرفوش انك كنتِ دودة قراءة ...ما اعرفش كنت بتقراي كل الكتب دي ازاي وامتى!
كانت تحاول جذبها للحديث بأي طريقة كي تعيد لها الحياة بعد صدمتها الأخيرة ...
لكن غادة المتشحة بسواد "الظاهر" و "الباطن" كانت متفحمة الروح حد الاحتراق !!
كلماتها كانت تخرج مختنقة ذبيحة وكأنها تجاهد فقط كي تتنفس:
_ما كانش قدامي حل وقتها غير إني أهرب للخيال ...ولما جيت أعيش الواقع الدنيا استكترته عليّ!
انتهت عبارتها بزخة من دموعها كعادتها طوال الأيام السابقة فتقدمت منها هانيا لتحتضنها بقوة هامسة:
_وبعدين يا غادة ؟! مش قلنا إنه امتحان وهنعديه ؟! ربنا ما بيعملش حاجة وحشة !
_ربنا ما بيعملش حاجة وحشة بس احنا اللي وحشين ...شفتي أمي رمتني ازاي؟! صعبان عليّ نفسي قوي يا هانيا ... ليه أحمد اللي يموت ويوجع قلبي وقلب أبوه وعيلته كلها عليه ؟! ليه ما متش أنا علي الأقل ما كانش حد هيتوجع!!
انهيارها الذابل أوجع قلب صديقتها التي رفعت وجهها نحوها لتقول بقوة تدرك أنها تحتاجها:
_أكيد ربنا سبحانه وتعالى له حكمة في كده...مين فينا عارف بكرة شايل إيه ؟! كل يوم في حياتنا فرصة لبداية جديدة لو استغلليناها صح ...
هزت غادة رأسها بألم فربتت هانيا على كتفها لتردف بعتاب حنون:
_تفتكري لو أحمد الله يرحمه كان عايش كان هيرضى باللي بتعمليه في نفسك ده ؟!
_مش قادرة أنساه ...كل يوم بصحى بس على أمل إني أحصّله ...أنا ما عشتش غير معاه ...ومت برضه معاه !

لم تكن كلماتها مجرد حديث بل كانت دعوة يتمناها قلبها في كل وقت منذ ذاك الحادث ...
هذا العذاب الذي تعيشه كان أكبر من تحملها ...بل من إدراكها!!
طفلةٌ كانت تعلو بها أرجوحة الحلم حتى وصلت بها حدود السماء قبل أن تسقط...فجأة لترتطم بوحل الحقيقة!!!
الأمس قاسٍ واليوم أقسى...والغد...؟!
الغد مجرد رقم في عداد العمر الذي لا تدري كيف سيمر!!

وأمامها كانت هانيا تراقب انهيارها بعجز وهي لا تدري ماذا تفعل ...
غادة بطبيعتها شديدة الهشاشة...طبيعتها الواهنة لا تؤازرها في صد أي اعتداء ...ربما لهذا السبب تجرأ عليها زوج والدتها قديماً مستغلاً ضعفها خاصة وهو يعلم أنها بلا سند !
لكنها لن تجعلها تستسلم لطبيعتها هذه طويلاً...
هذه الحياة قاسيةٌ حقاً على ضعاف الروح ...جيادها الجامحة تدهس زهور ربيعهم!!

لهذا تناولت من جوارها منديلاً ورقياً أعطته لغادة مع قولها :
_امسحي دموعك واستغفري ...بكرة لما تفتكري الأيام دي هتحمدي ربنا وتقولي إن الفرج بييجي دايماً بعد الضيق .
_ونعم بالله !
قالتها غادة وهي تمسح دموعها محاولة التماسك فجذبتها هانيا من كفها لتجلسها على المائدة هاتفة بحزم:
_طول اليوم ما أكلتيش حاجة ...مش هامشي من هنا غير لما تخلصي كل ده !
اعتراضاتها الواهية لم تجعل هانيا تستسلم وهي تطعمها بيديها قسراً حتى اطمأنت لاستسلامها لها فابتسمت وهي تقول مداعبة:
_مش ناقص غير أقوللك..."هم يا جمل" و "القطر داخل فين "!!
حنانها الصادق مس قلب غادة التي كانت بالكاد تعي كل هذا فعادت الدموع لعينيها لكن هانيا هتفت بها زاجرة:
_لو عيطتِ تاني هاحبسك في أوضة الفيران!

هنا ارتسمت على شفتيها ابتسامة كتمتها بأناملها فتنهدت هانيا بحرارة لتعاود القول بجدية:
_ساعديني يا غادة ...مش هاقدر أخرجك من كل ده لوحدي ...أرجوكِ !
فمسحت دموعها من جديد لتعود لتناول طعامها ....وحدها هذه المرة !
======
كان ينتظرها على سطح الباخرة بعد الفجر بقليل وعيناه تجوبان المكان حوله بحذره المعهود خشية أن يراه هنا أحد يعرفه...
لهذا تعمد أن يكون لقاؤهما في هذا الوقت المبكر جداً قبل استيقاظ الجميع...
هو لم يخبر أمه وقريباته بعد بما ينتويه ...
ربما لأنه لا يزال يشعر بالكثير من التردد ...
الشيء الوحيد الذي يجعله راغباً في هذه الزيجة هو نظرة التشفي التي يود أن تملأ عينيه عندما تأتيه سيلين هنا بقدميها لتجده قد تزوج سواها ...
بل إنه يفكر لو يمعن في إذلالها فيخبرها -كاذباً- باستعداده لأن تكون زوجته الثانية مع يقينه أنها أبداً لن تقبل!
ستكون صفعته "الثانية" لها بعد صفعة طلاقهما في "لندن"!
فهو رجل لا ينسى ثأره أبداً وما فعلته به هناك لم يكن ليدعه يمر حتى وهو واثقٌ أنها لم تفعله إلا لأجل أنها تحبه!
تحبه؟!
وهل تعرف "النساء" الحب؟!
نعم...يعرفنه...
يعرفن "حب التملك"..."حب الاستحواذ".."حب الغريزة".."حب الشهرة"...حب"أنفسهن" !!

هنا ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة حملت الكثير من المرارة فتحرك ليستند بساعديه على سياج الباخرة الذي لم ينسَ مسحه بمنديل معقم كما فعلت -هي-المرة السابقة!

_صباح الخير!
همستها الناعمة جواره جعلته يلتفت نحوها ليتفحص ملامحها مدركاً توترها الذي فضحته هالات سوداء أحاطت بعينيها العسليتين ...
نظراتها العاتبة تعود لغزوها الكاسح لعينيه لكنه يهرب من غموضهما بقوله :
_شكلك ما لحقتيش تنامي...بس أنا قصدت إننا نتقابل في الوقت ده بالذات عشان ...
_محدش يشوفنا سوا قبل ما نحط النقط على الحروف!
قاطعت بها عبارته ليزداد غيظه وهو يراها "تستعرض عضلات" فهمها العميق له ...
فانعقد حاجباه بشدة وقد كاد يرميها بواحدة من عبارات سخريته اللاذعة لولا ارتجافة جسدها الخفيفة التي جعلتها تضم شالها الخفيف عليها لتبدو له في هذه اللحظة أكثر هشاشة وضعفاً من أي مرة قد رآها من قبل !
لهذا تنحنح بخشونة ليشيح بوجهه عنها قائلاً:
_تعالي ننزل البوفيه ...الجو هنا برد فعلاً.

لكنها تحركت لتستند على السياج جواره في رفض واضح لدعوته ...
عيناها شردتا في خيوط الشمس الواهنة التي تكافح لشق طريقها عبر الظلمة ...
لتقول له بنبرتها القوية المعارضة تماماً لما يبدو عليه مظهرها الآن:
_قول اللي عندك...أنا سامعاك!
رمقها بنظرة متفحصة أخرى قبل أن يشرد بدوره في الفضاء أمامه مع قوله:
_المفروض بكرة نوصل ...هفاتح عيلتي في الموضوع عشان نتجوز بأسرع وقت...طبعاً محدش هيعرف تفاصيل اللي بيننا غيرنا احنا وبس...عايز الكل يشوفنا مبسوطين مع بعض...ودورك هيبان اكتر لما توصل سيلين...
ثم التفت نحوها ليسألها :
_انتِ بقى ليكِ طلبات معينة؟!
دمعت عيناها قليلاً مع نظراتها التي حافظت على شرودها وكأنها في عالم آخر ...لتهمس بصوت متهدج:
_عايزة فرح كبير ...زحمة...زحمة قوي ...فستان فيه كل ألوان الطيف .

ورغم أن حديثها بهذه النبرة الغريبة لامسه دون أن يعرف السبب لكن طبيعته -السوداء- غلبته مع قوله الساخر:
_فستان ملون؟! هي مصر اتغيرت قوي كده ؟! آخر معلوماتي إنه كان بيبقى أبيض!!
لم يبدُ على ملامحها الشاردة أنها حتى قد سمعته ...
عيناها العسليتان كانتا تطاردان خيوط الشمس بنفس الشغف مع استطرادها الشارد:
_وبيت نعيش فيه لوحدنا ...أنا وانت بس!

ردته عبارتها الأخيرة لطبيعته "الموسوسة" فعاد يرمقها بنظرات متفحصة ضائقة ...
ورغم أنه كان قد قرر فعلاً أن يسكنا وحدهما في بيته المنفصل عن بيت أمه لكنه وجد نفسه يقول بلهجته الخشنة:
_يعني لو قلتلك هنعيش مع أمي وبنات خالتي هترفضي؟!
هنا فقط أفاقت من شرودها لتنظر إليه نظرة عميقة لم يفهمها كالعادة قبل أن تبتسم ابتسامة شاحبة مع قولها:
_انت اللي سألتني عن طلباتي ...ومع ذلك أنا قلتلك من المرة اللي فاتت إني موافقة على أي حاجة .

_ليه؟!
هتف بها بغيظ حاد وغموضها هذا يكاد يحرقه ...
ربما لو كان هو رجلاً آخر غيره لاستجاب لزهوة غروره باستسلامها هذا له ...
لرأى في عينيها هذه العاطفة التي لا تحتاج لتأويل !!
هذه العاطفة التي كانت تكفي كجواب قاطع لسؤاله السابق حتى مع صمتها الذي أصرت عليه بعدها ...
لكن عينيه المتشككتين لم تبصرا وسط كل هذا سوى فضوله الذي يتشوق لإشباعه ...لهذا أحب استفزازها بقوله:
_مالهاش لازمة قصة الفرح دي ...بلاش منها!
_ده أكتر طلب أنا مصرة عليه !

قالتها بمزيج غريب من عناد ورجاء جعله يشيح بوجهه وهو يلعن نفسه سراً !!!
ما الذي ورطه مع مخبولة كهذه ؟!
يريد أن يهرب من أفعى كسيلين فيلجأ لمختلة كهذه ؟!
مختلة ؟!
الغريب أن قلبه لا يشعر نحوها بهذا الشك الذي يؤججه عقله ...
قلبه ؟!
ومنذ متى يثق هو بقلبه ؟!
وهل كبّه على وجهه في جحيم خسرانه من قبل إلا حصاد قلبه هذا؟!!
زفر بقوة عند خاطره الأخير قبل أن يشيح بوجهه ليتحرك بضع خطوات مبتعداً عنها ...
فالتفتت نحوه ترمقه بنظرات صامتة قبل أن تسأله :
_خايف من إيه ؟! اللعبة دي اقتراحك...وخيوطها كلها في إيدك...وقت ما تحتاج تنهيها هتخلص بكلمة ...هتخسر إيه أكتر من اللي خسرته؟!
استدار نحوها بحدة وقد زاد حديثها غيظه ليهتف بها :
_كويس قوي إنك فاهمة كده...جوازنا ممكن بالنسبة لي لعبة...بس بالنسبة لك هيبقى سجن ...لو عارفاني كويس زي ما بتقولي يبقى أكيد هتبقي فاهمة شكل حياتك معايا هيبقى إزاي .
أومأت برأسها لتقول له بنبرتها التي مزجت غموضها بألمها:
_في كل الحالات أنا برضه مش هاخرج خسرانة !
ثم أخذت نفساً عميقاً تتمالك به نفسها لتردف وهي تبتعد بنظراتها عنه :
_بابا هيوصل مصر بعد بكرة...أنا بلغته بحكاية جوازنا .

ظهرت الصدمة على وجهه وهو يراها تتحدث بهذه البساطة !!
أي أب هذا الذي تبلغه ابنته بخبر زواجها المرتقب بهذه السهولة وكأنها اشترت ثوباً جديداً ؟!!
لكن .. لماذا العجب؟!
ألم يتقبل الأب الغائب أن تعيش ابنته بمفردها هنا تاركاً لها حياتها تعيشها دون رقيب؟!
تراه تخلى عنها كما فعلت نبيلة ؟!
أم أن ابنته ال"مخبولة" هذه هي التي قد غلبته بشذوذ طباعها؟!!
هذا السؤال الذي أجابته هي بقولها :
_احنا شبه بعض قوي في الجزئية دي...بابا اتجوز واحدة تانية غير أمي وسابنا وسافر ...عاش حياته هناك وبنى العالم بتاعه بعيد عننا ...بس أمي ما لبستش دور الضحية مكسورة الجناح ...ربتني إزاي أعتمد على نفسي ...عشت يتيمة وأبويا على وش الدنيا ...بس أنا ما عملتش زيك ...
ثم التفتت نحوه لتردف وعيناها في عينيه:
_أنا ترجمت كل ده لنقط قوة...كل ما كان بيوحشني كنت بفتح لنفسي مجال جديد أنجح فيه ...دراسة...رياضة...شغل ...كل نجاح كنت بحققه كنت بحسه تعويض لنفسي عن اللي ناقصها ...لحد ما وصلت لنقطة معينة حسيت إني خلاص ما عدتش عايزاه!!!
كانت وتيرة صوتها تعلو تدريجياً مع قولها حتى وصلت لعبارتها الأخيرة التي دمعت معها عيناها لتصمت فجأة...
ثم انخفض صوتها مع استطرادها:
_لكن لما أمي ماتت...ساعتها بس حسيت إن كل ده كان مجرد مُسكّن مش علاج ...و إني حقيقي محتاجاه !

لامست عبارتها قلبه حد الوجع ...
وكيف لا ؟!
وهي تشاطره جرحه القديم ؟!!
لهذا تحرك نحوها هذه الخطوات التي ابتعدها وكأنما أرضاه أن يكشف بعض هذا الغموض الذي حولها ...
لكنها حافظت على إطراقة رأسها وهي تكمل حديثها:
_وفعلاً رجع لي وقتها ...بس أنا اللي ما قدرتش أرجع له...يمكن تفهمت دوافعه ...طموحه...انشغاله...وحتى جوازه التاني...كل ده تفهمته حاولت أديله عذر فيه...بس غصب عني ما قدرتش أخرج بره الدايرة اللي هو حطنا فيها ...

ثم رفعت رأسها إليه بابتسامة بدت شديدة التكلف مع دموعها التي ملأت عينيها دون أن تسقط:
_هو تقبل فكرة استقلالي بحياتي هنا...زي ما أنا تقبلت فكرة نجاحه هناك ...هو واثق فيا...زي ما أنا واثقة إني لو احتجته هيجيلي ...بس ...
صمتت بعدها للحظة شعر فيها أنها تبتلع غصة مرارتها لتردف بصوت متحشرج:
_بس أنا مش عايزة أحتاج له!

وعند عبارتها الأخيرة سقطت دموعها التي حبستها طويلاً فاختلجت عضلة فكه وهو يقبض كفيه جواره !!!
كل دمعة من دموعها كان يعرفها !!!
تشبه دموعاً وجد في عينيه يوماً مثلها !!!
وإن لم يملك وقتها شجاعة أن يترك لها حرية السقوط!

لكنها مسحت دموعها بسرعة ثم تنفست بعمق لتلوح بذراعيها قائلة:
_وآديني أهه فعلاً مش محتاجة له ولا لأي حد ...كل حاجة عُزتها...كل حلم حلمته ..كل طريق مشيته...وصلت لهم... ولوحدي!

اتسعت عيناه بمزيج من صدمة وانبهار وهو ينظر لوجهها هذه اللحظة...
ملامحها التي طالما كان يراها طفولية الآن تنبض بقوة غريبة تكاد تزلزله هو مكانه !!
عبارتها السابقة رغم عموم معناها لكن قلبه استشعر فيها شيئاً يخصه هو ...
تراه كان يوماً حلماً من أحلامها؟!

انقطعت أفكاره بحركة بسيطة عندما أطاح الهواء بشالها ليسقط تحت قدميها ...
انحنت لتلتقطه لكن أنامله سبقتها قبل أن يعيده لكتفيها بحركة زادت ارتجافتها ...
عيناها العسليتان تقابلان عينيه بذات اللون ...
فما أشد التشابه...وما أكبر الاختلاف!!

_صباح الخير يا ياسمين.
الهتاف جاء من خلفه يقطع عليهما سحر اللحظة خاصة مع حدة لهجته فالتفت يامن نحو الرجل الذي تهللت أساريره عندما تعرف إليه ليصافحه بقوله:
_دكتور يامن ...فرصة سعيدة جداً.
صافحه يامن بضيق وقد أثار حفيظته أن يراهما أحدهما هنا ...
ويبدو أن الرجل قد لاحظ ضيقه خاصة مع شحوب وجه ياسمين فغمغم بما يشبه الاعتذار:
_أنا آسف للمقاطعة...بس حسيت ياسمين متوترة وما كنتش أعرف لسه هي واقفة مع مين...خفت يكون حد بيضايقها .
عقد يامن حاجبيه بضيق لم يملكه لكن ياسمين تمالكت نفسها لتقول بابتسامة مفتعلة :
_شكراً يا دكتور ...يامن دكتور الأسنان بتاعي واتقابلنا هنا صدفة!
أومأ الرجل برأسه وهو يثرثر ببضع كلمات عن عدم توقعه لصعود أحدهم هنا في هذا الوقت باستثنائه هو العاشق لمشهد الشروق...
لكن كليهما كان غائباً في شروده الذي انقطع بمغادرة الرجل لهما والذي شعر بالحرج تقريباً فترك لهما ظهر الباخرة كله ليعود للأسفل...

_تعرفيه منين؟!
غمغم بها يامن من بين أسنانه وهو يجذب ذراعها بحدة لم يقصدها فأشاحت بوجهها في ارتباك مع سؤالها:
_وانت تعرفه منين؟!
_أعرفه منين؟! هو حد خارب بيتي غيره؟! ده دكتور التجميل اللي أمي مضيعة عليه كل فلوسها ...السؤال بقا حضرتك تعرفيه منين؟!

هتف بها بحدة تقبلتها وهي تزدرد ريقها بتوتر احتل ملامحها وجعله يردف بانفعال أكبر:
_وليه ييجي مخصوص خايف أكون بضايقك ؟!
لم يكن الرجل في سن يسمح له بالغيرة فقد كان في عمر والدها لهذا كان سؤاله يحمل الفضول أكثر ...
فصمتت ياسمين قليلاً قبل أن تقول له باقتضاب:
_ممكن تسأله !
قالتها ثم اندفعت بخطوات سريعة لتغادره ولغة جسدها تفضح شعوراً
بالخوف لم تفوته عيناه الثاقبتان ...
لهذا ما كادت الفرصة تسنح له حتى التقى ذاك الطبيب الذي منحه إجابة لم تخطر له على بال ...
الرجل علاقته بها مهنية لأبعد حد فقد سبق وأجرى لها عملية تجميلية رفض أن يفصح عن كينونتها زاعماً أنها أسرار عمل!!
======


Menna Hegazy likes this.

سمية سيمو غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-04-20, 10:18 PM   #1504

سمية سيمو


? العضوٌ??? » 396977
?  التسِجيلٌ » Apr 2017
? مشَارَ?اتْي » 4,356
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
?  نُقآطِيْ » سمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك action
?? ??? ~
keep smiling
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

القطعة الخامسة
**********
_حمداً لله على السلامة يا بابا!
قالتها ياسمين وهي ترتمي بين ذراعيه في شقتها التي استقبلته فيها عقب عودته .
وجدي ذو الفقار!
نموذج عظيم من أولئك الذين تفخر ب"عصاميّتهم" !
ربما هو لم يبدأ من الصفر تماماً لكن ما حققه في عمره هذا يعتبر إنجازاً كبيراً ...
الثمن؟!
ومن يسأل عن الثمن في خضم الصراع المحموم نحو المال والنجاح ؟!
_ما اتغيرتيش يا "سمسمة"!
صوته الخشن الحنون الذي احترق بمزيج من الذنب واللوم يصل أذنيها معبقاً برائحة الذكرى!
"لفظة تدليله"هذه كانت يوماً تحمل لها أمان العالم كله !!
واليوم لا تزيد في أذنيها عن كونها "مجرد مجاملة"!!
مجاملة ردت عليها بتمتمتها الخافتة وسط ابتسامتها بينما ترفع عينيها إليه:
_بالعكس ...اتغيرت يا بابا ...اتغيرت كتير!
رمقها بنظرة طويلة متفحصة لكنها هربت من لقاء نظراته وهي تغلق الباب خلفه لتهتف بمرح مصطنع:
_شنطة واحدة بس؟! فين هدايا العروسة ؟!

لكن تكلّفها هذا لم يخفَ عليه وهو يضمها إليه بذراعه ليسير جوارها حتى جلس معها على أحد الأرائك ليتمعن في ملامحها أكثر بقوله الرصين:
_ما هو ده اللي جابني على ملا وشي...إيه موضوع "العروسة" ده بقا؟!

خفضت بصرها عنه للحظات تستدعي قوتها التي لا تنقصها ها هنا ...
إن لم تدافع عن زواجها بيامن ...فعمّ تفعل إذن؟!
لهذا رفعت إليه عينيها أخيراً لتقول بابتسامة لم تفارقها:
_زي ما بلغتك في التليفون...عريس محترم...دكتور ...من عيلة كويسة...جوازة لقطة !
_لقطة؟!
قالها رافعاً حاجبيه باستهجان قبل أن يعدل وضع نظارته على أنفه مردفاً وهو يضغط حروف كلماته:
_يامن عبد الرحيم حمدي...أبوه فلاح وأمه ممثلة إغراء....أبوه طلقها وعاش بيه هنا بعد ما هرب بيه من بلدهم عشان كلام الناس...وبعد ما مات رجع لأمه اللي كان ليها فضيحة مشهورة مع منتج زمان ...و اللي لسه عايشة في الدور وكل يوم والتاني صورها في الحفلات مغرقة الدنيا ...هو ده الوسط اللي عايزة تدخلي برجليكِ فيه؟!
شبكت أناملها بقوة وكأنما تستدعي كل قوتها لتقول بثبات:
_احنا ما بنورثش ذنوب أهالينا.
همهمة ساخرة كانت جوابه تلاها قوله بنفس النبرة:
_ماشي...نيجي للدكتور "اللقطة"...أول فضيحة ليه كانت في النادي مع واحدة خلته مسخرة أصحابها...بعدها سافر انجلترا اتجوز واحدة هناك وسابها برضه بفضيحة ومشاكل...رجع هنا فتح عيادة مع واحد زميله وشكله بيجهز للفضيحة الثالثة مع واحدة ساذجة فاكراه "لقطة"!!
_بابا!!
هتفت بها باعتراض وهي تنتفض واقفة مكانها لتردف بتماسك:
_أولاً بحييك إنك قدرت تجمع كل المعلومات دي في الوقت القصير ده ...ثانياً كل ده أنا عارفاه و أكتر منه كمان ...
ثم أشاحت بوجهها مستطردة:
_لا أنا ساذجة ولا يامن وحش ...كل اللي مرّ بيه كان نتيجة ظروف !
_مفيش فايدة في عنادك اللي مضيعك ده ؟! برضه ما بتسمعيش الكلام؟!
هتف بها بحدة وهو يقف بدوره ليقابلها بنظراته الساخطة والتي أطفأتها عبارتها المرتجفة:
_سمعت كلامك المرة اللي فاتت ...كانت إيه النتيجة؟!
بدت كلماتها وكأنما أسقطت بألمها دلواً بارداً على غضبه فتجمدت ملامحه للحظات قبل أن يقول لها بنبرة أكثر رفقاً:
_وعشان كده بالذات ...كنت فاكرك هتفكري ألف مرة قبل ما تعيدي التجربة....
ثم أحاط كتفيها بكفيه لينظر لعينيها مردفاً:
_أنا غلطت مرة في اختياري ما تغلطيش انتِ كمان...كل تجربة هتتحسب عليكِ !
دمعت عيناها دون رد فقبل جبينها ثم ضمها إليه ليردف بحزم:
_"الولد " ده مش مناسب ليكِ أبداً .

ابتسمت رغماً عنها وهي تراه يلقب يامن ب"الولد"!!
ترى هل سيحتفظ برأيه هذا عندما يرى هذا "الولد" جوارها بجسده الضخم وملامحه الخشنة ؟!
لكن ابتسامتها تخللها نوعٌ من الحنين وهي ترى أباها بعين خيالها يمسك كفها ليسلمها عروساً إليه ...
الحلم الذي عاش بداخلها سنوات يوشك أن يكون حقيقة!!
لا يا غافلة!!
الحلم لن يتحقق كما تتصورين ...بل سيظل حبيس قضبان قلبك الأحمق!
الزواج لعبة...والعروس مزيفة...والعريس حبيب بثياب سجان!
_خدي فرصة وفكري يا بنتي...ارجعي معايا ماليزيا تغيري جو و تقرري على مهلك .
وكأنما ردته عبارتها لخيارها الذي لن تحيد عنه ...لهذا رفعت عينيها إليه بقولها الحاسم رغم رقة لكنتها:
_قراري خدته ومش هاغيره يا بابا .

كسا الضيق ملامحه التي فاضت بقلقه لكنه عجز عن قول المزيد ...
هو يعلم الكثيرعن عناد ابنته تماماً كما يعلم أنه لن يمكنه إقناعها بعكس اختيارها ...
ليس فقط لأجل شعوره القديم بالذنب نحوها منذ تركها ووالدتها ليسافر ويبني نفسه بعيداً ...
لكن لأجل ذنبه الحديث كذلك والذي لم تبرد دماؤه بعد!
أجل هو الذي اختار لها زوجها السابق والذي أذاقها الويلات حتى تم الطلاق ...
ورغم أنها رفضت بعنادها العتيق ذكر أي تفاصيل له لكنه يشعر أن ما كسره ذاك الزواج بابنته أكبر من أن يلتئم بهذه السرعة !
لهذا تنهد أخيراً بحرارة ثم رفع ذقنها نحوه ليقول لها بصدق وجد صداه في صدرها:
_يمكن أكون سقطت حقي فيكِ كأب يوم ما اتخليت عنك زمان ...ويمكن تكوني لسه محملاني ذنب جوازك الأولاني ...بس صدقيني الندم اللي جوايا أكبر من إنك تتخيليه .
فازدادت كثافة الدموع في عينيها وكعادتها -أمامه هو بالذات- وجدت نفسها تتبرأ من ضعفها كله !!
اصطنعت ابتسامة وهي تبتعد عنه لتلوح بذراعيها قائلة بمرح متكلف:
_مالوش لازمة إحساسك ده يا بابا...أنا كويسة جداً...كل الناس هنا بيحسدوني على نجاحي في كل حاجة...المفروض تبقى مطمن عليّ...وصدقني بعد جوازي من يامن هتطمن عليّ أكتر !

حدس الأب بداخله كان يخبره أن كل هذا مجرد مكابرة لكنه كان يعلم أن طبيعتها الكتومة- خاصة معه -لن تجعلها تبدي المزيد ...
لهذا زفر بقوة مشيحاً بوجهه لكنها استمرت في تظاهرها البارع وهي تهتف له بنفس المرح المصطنع:
_ودلوقتِ تقعد تستريح على ما أحضر لنا الأكل ...عاملة لك منيو مصري أصيل أكيد اشتقتله ...
ثم غمزته لتردف :
_بس الحلو طبعاً...سينابون!
ارتسمت على شفتيه ابتسامة شاحبة ثم عاد يضمها إليه بقوة مستمتعاً بتشبثها الواهن به ...
والذي لم يدم أكثر من بضع ثوانٍ قبل أن تتفلت من بين ذراعيه فيما بدا كهروب لتهرع نحو المطبخ الذي توارت خلف بابه لتكتم شهقات بكائها!!

لو كانت الأمور تسير بصورة طبيعية لما تركت حضن والدها الآن...
لتشبثت به أكثر وأكثر تشكو إليه خوفها من الغد...لكنها لا تستطيع !
هي تجاوزت عن فعلته...تفهمت دوافعه...لكنها ...لم تسامحه!
هذا الجدار الذي ارتفع بينهما يوماً بعد يوم كلما يوشك أن ينقض أقامته رواسب الماضي!
هي تشعر بندمه وألمه ورغبته في تعويضها عما كان ...لكنها لا تملك للصفح سبيلاً..لهذا لن تسمح لنفسها بالضعف أمامه!
نحن نعرّي أحزاننا فقط أمام أولئك الذين صفت صورتهم في مرايا قلوبنا ...أما من تعكرت صورهم فضعفنا أمامهم...عورة!
والعورات تسترها أقنعة قوتنا الزائفة!
لهذا شهقت عدة شهقات متتالية تحاول السيطرة على انفعالاتها قبل أن تحين منها التفاتة نحو "حلواها" المفضلة هناك ...
والتي برعت في صنعها لأنها تعشقها ..
ليس فقط كونها لذيذة المذاق ...بل هي فلسفتها الخاصة أن البشر جميعاً يشبهونها !
دوائر متداخلة تبدأ من مركز عميق وتظل تدور حلزونياً مع مدارات القدر ...
قد تخدع غيرك بمظهر "دائرتك الخارجية" لكنه كلما اقترب سيرى منك أكثر مما تخفيه ...
يمكن أن تكون محظوظاً حقاً بمن يعبر كل هذه الدوائر ليصل للمركز فيرى عمق حقيقتك دون "رتوش" إضافية ...وقد تبقى طوال عمرك أسير ما يرونه من زيف دوائرك!
"سينابون"...
هكذا نحن...مزيج من مذاق "القرفة" اللاذع و"الصوص" الحُلو والعجين "المتخمر" بماء "الماضي"!
=======
_وبعدين يا رامز؟! صاحبة مراتك هتفضل هنا كتير؟!
قالتها والدته باستياء واضح وهي تستقبله في شقتها قبل صعوده لشقته فزفر بضيق لتردف:
_أنا عارفة إن ظروفها صعبة...ربنا يكون في عونها ...لكن أخوك ممكن يرجع من السفر في أي وقت ويحتاج شقته ...أنا لحد دلوقت قلبي مش مطاوعني أقولله إن حد غيره سكن فيها .
مرر أصابعه بين خصلات شعره وهو يهز رأسه ليقول لها برفق:
_ما تكبريش الموضوع يا ماما ...الشقة كده كده كانت مقفولة على الفاضي ...وكلها كام يوم بس لحد ما نطمن عليها وندور لها على سكن تاني ...
ثم عاد يزفر ليردف بأسى:
_غادة أصلاً مش طايقاني...من ساعة ما فاقت من اللي حصللها وهي مش قادرة تبص في وشي ...بصراحة معها حق!
عقدت والدته حاجبيها هاتفةً باستنكار:
_ليه إن شاء الله ؟! هو انت مش كنت راكب معاه وهو اللي نصيبه جه كده ؟!
_غصب عنها يا ماما...اللي حصل جه فجأة ولسه تفكيرها مشوش!
قالها مهدئاً فأشاحت المرأة بوجهها في عدم رضا بينما قام هو ليقبل رأسها مردفاً:
_ما تقلقيش يا ست الكل...ربنا يجعل بيتك دايماً مفتوح لكل اللي محتاج له .
ابتسمت بحنان مع حركته هذه قبل أن تنتقل عيناها للكيس الصغير الذي يحمله فمصمصت شفتيها لتقول باستهجان:
_هدية للدكتورة؟!
ضحك لغيرتها ثم غمزها ليقول مازحاً:
_وفيها إيه ؟! الحاج الله يرحمه ياما غرقك هدايا من دي ...لو ناسية أفكرك!
_عيب يا ولد !! هو الجواز علمك قلة الأدب؟!
قالتها باستياء مصطنع تداري خجلها فضحك ليجيبها بتفاخر :
_الحق يتقال أنا قليل الأدب طول عمري!

ضحكت المرأة بحنان وقد نجح في استرضائها كعادته بقبلة لكفها قبل أن يغادرها نحو شقته التي كانت خالية من زوجته كالعادة!!
تنهد بضيق وهو يتردد بين طرق باب شقة غادة المقابل أو انتظارها هنا ...
لكنه فضل الخيار الثاني ...
ليس فقط كونه يدرك ضيق غادة من رؤيته لكن لأنه أحب أن يعد لزوجته مفاجأة ..
لهذا بدل ملابسه بسرعة ليرتدي مئزره الحريري الذي كان هديتها ثم تناول زجاجة عطر خاصة جعلها فقط لها هي ...عندما تكون بين ذراعيه ..ليكون عبقها مرادفاً لسحر امتلاكها...
أغلق الأضواء كلها إلا من إضاءة جانبية خافتة بلونها الأرجواني المفضل ...والذي صار يمثل له شغفه الخاص بها...
جو ساحر لم يكن ينقصه سوى الموسيقا الهادئة التي أضاف لمستها
الأخيرة بلحن أجنبي كلاسيكي هادئ .

فتحت الباب لتدلف إلى الداخل فعقدت حاجبيها لوهلة من المفاجأة قبل أن تفتح الأنوار كلها فجأة بهتافها الجزع:
_رامز ...معقول كده ؟! انت ما بتفكرش خالص؟!
ثم هرعت نحو جهاز تشغيل الموسيقا توقفها لتردف بعتاب حاد:
_هي دي الأصول؟! ده لو واحد جاره عنده ميت ما بيعملش كده فمابالك وانت السبب في الكارثة دي أصلاً؟!

عقد حاجبيه بغضب كتمه بزمّة شفتيه لكن ملامحه لانت قليلاً مع أثر بكائها على وجنتيها فزفر بقوة ليمسك كتفيها قائلاً بعتاب:
_وبعدين يا هانيا ؟! انتِ مش شايفة إنك مزوداها ؟!
أشاحت بوجهها في ضيق فأردف بنفس النبرة:
_أنا ما غلطتش لما حبيت أخرج مراتي من الحالة الكئيبة اللي هي فيها ...كل حاجة طلبتيها عشان صاحبتك عملتها ...بس مش المفروض إننا نموت نفسنا بالحياة .
عضت شفتها بقوة بتلك الحركة التي يدرك أنها تكتم بها انفعالها فتنهد بحرارة ثم رفع ذقنها إليه ليهمس لها بدفء:
_أنا أكتر واحد فاهم إزاي بتحاربي عشان تبيني لها القوة اللي هي محتاجاها وفي نفس الوقت من جواكِ هتموتي من الحزن عليها ...كل اللي بطلبه منك إنك تسمحيلي أساعدك في الحرب دي!

ارتجفت شفتاها بقوة وعيناها تتشبثان بعينيه...
تعتذران...تشرحان...تشكوان...و� �تلقفان!
أجل...تتلقفان عطايا عشقه السخية التي طوقتها بحنان لا تحتاج إلا لمثله في هذه اللحظة!
بينما كان هو يفهم كل تناقضاتها هذه ...بل ويعشقها!!
لو حسب تاريخ النساء في حياته ب"العدد" لكان ترتيبها الحقيقي
مخذلاً لها حقاً ...لكنه يحسبه معها ب"قيمة" يدرك أنه لم تبلغها سواها !!
كل تفصيلة بسيطة منها تبهره...تسحره...وكأنه لم يرَ امرأة من قبلها قط !!
ربما هي طبيعتها العفوية المختلفة تماماً عن غنج النساء اللائي عرفهن من قبل ...
حتى وإن تغلفت بالجفاف الذي يقارب الجمود هذا !!
لهذا طاف على وجهها بقبلاته هامساً لها :
_الليلة دي تسيبيلي نفسك خالص...هافضل وراكِ لحد ما تشيلي الوش الخشب ده وتعبري عن نفسك زي الليلة اللي قلتي لي فيها إنك بتحبيني!
_أنا ما قلتش!

هتفت بها باندفاع استغربته من نفسها قبله !!
اندفاع قد يراه البعض سخافة...غلظة...أو حماقة في موقف كهذا...
لكنها كانت تراه "خط دفاع"!!
خوفها العتيق من الوقوع في الحب زادت ضراوته بكابوس غادة الحي الذي تشاركها إياه كل يوم ...
الحب هو ما يجعلنا نتعذب لأنه يحكم قبضته على قلوبنا فيفقدنا السيطرة عليها ...لولاه لصارت حياتنا مجموعة من الفرص تقتنصها عقولنا بذكاء أو تفقدها ب"روح رياضية"...

لكنه الحب -يا غافلة- إذا تملّك أهلك...
وإذا تجلّى تخلّى ...وإذا عاهد غدر !

_ما قلتيهاش بلسانك...بس أنا سمعتها ...بقلبي!
همس بها بصبر غريب على طباعها الجافة هذه ...ربما هذا ما جعل صوتها يرق كثيراً وهي تقول له متحاشية النظر لعينيه:
_اعذرني يا رامز...أعصابي تعبانة ومابقتش عارفة بقول إيه !
ابتسم بحنان وهو ينزع عنها حجاب رأسها لينثر شعرها حولها بحركة مداعبة رسمت ابتسامة واهنة على شفتيها ثم أحاط خصرها بذراعه ليجذبها نحو المائدة التي استقرت عليها "هديتها" ...
رمقته بنظرة متسائلة فرفع حاجبيه مشاكساً لتتناول هي الكيس فتفتحه وتخرج محتواه الذي جعل الخيبة ترتسم على ملامحها مع قولها العابس:
_انت عارف إني مابحبش قمصان النوم ...وخصوصاً اللي بالشكل ده !!

كان يتوقع ردة فعلها هذه خاصة أنها لم تكن المرة الأولى التي تفاجئه فيها بهذا التصريح !
أجل "العريس حسن الحظ" اكتشف بعد زواجه منها أنها تكره الظهور
بملابس مكشوفة ولو أمامه هو...
حتى علاقتهما الخاصة تصر أن تكون في الظلام !!
في البداية كان يقنع نفسه أنه مجرد خجل لكنه الآن يدرك أن الأمر قد يحمل أكثر من هذا !!
وأمامه كانت هي غارقة في شرودها والموقف يحملها لذكرى بعيدة طفت الآن على السطح ...

_أختك دي مش هتجيبها لبر ...أنا ما كنتش عارف أوريهم وشي النهارده في المصلحة ...كلهم بيتغامزوا عليّ!!
هتف بها والدها الموظف البسيط الذي عاد لتوه من عمله فاحمرت والدتها خجلاً وهي تقول له بعجز:
_أعمل إيه بس؟! أنا مش عارفة ...الجيران من ساعة الفيلم ما نزل وهم بيلقحوا عليّ الكلام في الرايحة والجاية...نبيلة ما كانتش كده ...الله يجازي ولاد الحرام اللي جروها للسكة دي !
كانت وقتها مراهقة صغيرة السن بالكاد تفهم ما يقال لكن الحديث دفعها لأن تسأل إحدى صديقاتها عن ذاك الفيلم الجديد الذي كانا يتحدثان عنه لتجيبها صديقتها إنه "فيلم إغراء"!
لم تفهم اللفظة في البداية لكن صديقتها عرضت عليها أن تدعوها لبيتها خلسة في غياب والديها كي تشاهدانه معاً على جهاز "الفيديو" الذي لم يكن منتشراً كثيراً في البيوت المصرية وقتها .
استجابت لدعوة صديقتها الجريئة يدفعها فضول سن المراهقة ذاك وليتها لم تفعل!!
مشهد نبيلة "الفاضح" في الفيلم لم يغادر مخيلتها منذ تلك اللحظة...
قميص نومها الأخضر المكشوف الذي يظهر أكثر مما يبدي ...ماكياجها الصارخ ...تعبيرات وجهها الرقيعة...لمسات الممثل المقرفة لها جعلتها وقتها تفرغ ما ببطنها تحت نظرات صديقتها الساخرة مع قولها:
_هتبهدلي السجادة ...إيه ؟! أول مرة تشوفي المناظر دي؟!
نظراتها الزائغة منحت صديقتها الجواب فضحكت لتغمزها قائلة:
_خالتك دي محظوظة...بتمثل قدام (.....) مرة واحدة ...عارفة كام ست في مصر بتحسدها على المشهد العظيم ده ؟!
_تحسدها؟! تحسدها على القرف ده ؟!
هتفت بها بصوت لاهث وهي تشيح بوجهها قسراً عن الشاشة لتجيبها صديقتها باستهجان:
_بلاش تقفيل الدماغ ده ...ده فن هادف بيناقش قضية مهمة !
_هادف؟!
سؤالها الحائر ختم هذه المناقشة غير المجدية عندما تناولت من صديقتها منشفة لتجثو على ركبتيها كي تنظف الفوضى التي أحدثتها هناك بالمكان ...
لكن من "ينظف" ذاكرتها من ذاك المشهد الذي بقي حاضراً في مخيلتها يستدعيه كل موقف مشابه ...؟!!
العُري...العيب...الفضيحة...غض� � والدها...خزي والدتها...
وأخيراً صدمتها هي!!


صدمة لم تستطع -كما يبدو- تجاوزها أو حتى مناقشتها مع أي أحد !!
_ممكن أعرف السبب؟!
قالها رامز بضيق لم يستطع كتمه مما استفزها أكثر لتهتف بحدة:
_جرى إيه يا رامز؟! ما تكبر مخك ده شوية؟! الجواز مش شمع وورد وقمصان نوم وكلام فارغ عن حب الأغاني ...الجواز مسئولية ...اتنين اختاروا يعيشوا حياتهم سوا ويقبلوا بعض زي ما همّ ...وأنا قبلتك بكل عيوبك وميزاتك ...انت كمان لازم تقبلني كده !
_هانيا...انتِ خايفة تحبيني؟!
سألها بمزيج من حيرة وضيق فزفرت بسخط لتلوح بذراعيها مجيبة:
_مفيش فايدة...هنفضل نلف ونرجع لنفس الموضوع ...تحبيني وأحبك؟!
رامز من فضلك أنا طريقة الكلام دي بتعصبني...جو المشاعر والمراهقين ده مش بتاعي ...كبرت عليه وياريت تكبر انت كمان !!
عبارتها الأخيرة قضت على آخر حدود صبره لهذه الليلة فابتعد عنها لتشتعل ملامحه بغضب للحظات قبل أن يقول ببرود قاسٍ:
_لو رديت عليكِ هزعلّك ...كفاية كده الليلة دي...تصبحي على خير يا دكتورة .
قالها ثم ابتعد عنها بخطوات سريعة ليصفق باب غرفتهما خلفه بعنف تاركة إياها خلفه غارقة في صراع مشاعرها ...
=======
_العصير يا يامن !
قالتها داليا بدلالها المغالي كالعادة وهي تمد له يدها بكوب العصير في بيت والدته...حيث يجتمع بهن كعادته يوم الخميس الذي خصصه لهن فقط كي يقضي لهن حوائجهن ويستمع لما جدّ من أمورهن معوضاً غيابه طوال الأسبوع .
كاد يتناول منها الكوب لكنها سحبته فجأة لترتشف منه رشفة قبل أن تعيده إليه بقولها المرح:
_عشان تجري ورايا!
عقد حاجبيه ببعض الحرج متجاوزاً دعابتها ليضع الكوب أمامه دون أن يمسه فابتسمت نبيلة بتفهم لتقول لابنة شقيقتها:
_انتِ نسيتِ واللا إيه؟! ...يامن ما بيشربش مكان حد!
مطت داليا شفتيها باستياء لتغمغم :
_وسوسة فظيعة!
لكزتها رانيا في خاصرتها لتصمت فهزت رأسها لها بحركة مغيظة قبل أن تتناول الملعقة والتي ما كادت تصل لفمها حتى ظهر على وجهها
الاستياء مع قولها:
_إيه القرف ده ؟! الشغالة باينها كبرت و خرّفت !!

عادت رانيا تلكزها في خاصرتها لكنها لم تفهم لهذا سبباً إلا عندما غمغمت نبيلة بحرج نال من كبريائها:
_أنا طبخت النهارده عشان يامن بيحب "المسقعة" وما أكلش هنا من زمان.
اتسعت عينا داليا قليلاً وكأنما استكثرت على خالتها هذه اللمحة الحنون لتجد في نفسها الرغبة في السخرية بقولها:
_دي مش مسقعة يا بيللا...أكرم لك تخترعي اسم تاني للبتاعة الغريبة دي!

والأمر هذه المرة جعل رانيا لا تكتفي بلكزها بل دهست قدمها بقوة جعلتها تصرخ وهي تلتفت نحوها لتهتف بنزقها المعهود :
_هو اللي يقول الحق في البلد دي يكفر يعني؟!! أيوة
الأكل وحش ...مش لازم تكون النجمة يعني شاطرة في كل حاجة !!
_داليا!!
هتف بها يامن زاجراً وهو يخبط بقبضته على المائدة فتأففت داليا ثم ابتلعت لسانها مضطرة لتكتفي بإطراقها الصامت ...
فيما قالت رانيا بحرج:
_حلوة جداً يا خالتو تسلم إيدك ...بس أنا مش هاقدر آكل ...حضرتك عارفة عاملة دايت عشان الفرح .
نقلت نبيلة بصرها بينهم بحرج وقد تبينت لتوها مدى سوء الطعام خاصة عندما غمغمت هانيا هي الأخرى:
_اعذريني أنا كمان يا خالتو...اتغديت مع غادة قبل ما آجي!
ضحكت داليا ضحكة مكتومة أخرسها يامن في لحظتها بنظرة زاجرة قبل أن يبدأ هو بتناول طعامه:
_بسم الله !
رمقته نبيلة بنظرة امتنان وهي تتفحص ملامحه بحنان جائع لعاطفته ...
ورغم أنه لم يمتدح الطعام لكنها كانت تشعر أنه يتناوله فقط مجاملةً لها ...والحقيقة أنه كان كذلك!!
رغم أن المذاق في حلقه كان من السوء بمكان لكنه كان مطعماً بنكهة أخرى من ماضيه ...


نكهة اشتياق لوجبة تصنعها "أم" تنتظره !!
وهنا تذكّر شطائر "الإفطار" التي كان يصنعها له والده علي عجل والتي كان محتواها ثابتاً لا يتغير ...
"الغداء البارد" على الدوام والذي كان ينتظره بائساً مثله على طاولة المطبخ ...و"العشاء" ثقيل الظل الذي قلما كان يتناوله.
لكنه عندما كان يدعوه أحد أصدقائه في منزله على طعام كان يدرك بحق معنى "لمّة العائلة" ...
صوت صليل الملاعق ودويّ الأطباق وإلحاح "امرأة" تعبت في صنع كل هذه الأصناف ولن تهدأ حتى يلتهموها عن آخرها ...
تربيت كفها على كتفه مع جملة تكاد جميعهن ترددها بنفس الحنان الممتزج بالحزم :
(والأكل ده مين هياكله؟! مش هاتقوم غير لما تخلصه كله)...
كل هذه المظاهر التي كانت تشتد حدتها على نفسه خاصةً في رمضان
والأعياد ...
كم تمنى أماً يراقبها وهي تطبخ لحم الأضحية نهار عيد
الأضحى ...
أو يسهر جوارها يتأملها وهي "تنقش" كحك عيد الفطر...
تنزع أنوية التمر لتصنع "الخشاف" في رمضان...تحشو "القطائف"
بالمكسرات ...تسقي الحلوى ب"العسل"...وتحتمل حرارة الجو لتقف أمام الموقد كي تعد له وجبة "دافئة"...
دافئة!!
هذه الكلمة التي ظلت طويلاً غريبة على قاموسه البارد ويبدو أنها ستظل !
تفاصيل بسيطة كهذه صنعت ب"جدار رجولته" فجوة كبيرة أحدثتها "امرأة" ويأبى الاعتراف أنه لن تسُدّها إلا "امرأة" كذلك!!


لهذا التوت شفتاه رغماً عنه بابتسامة واهنة لم يقرأها سوى قلب نبيلة التي بادرته بقولها:
_خير يا يامن...كنت بتقول عايزنا النهارده في موضوع مهم.
تنحنح بخشونة ثم مسح فمه بمحرمة ورقية ليتجاهل السؤال مؤقتاً وهو يقول لرانيا:
_مش ناقصك أي حاجة قبل الفرح ؟!
هزت رأسها نفياً بامتنان فتوهج الحنان في نظراته رغم خشونة لهجته:
_لو عايزة أي حاجة قولي ...ما تتكسفيش!
احمرت وجنتاها بارتباك كعادتها فابتسم ليردف بنبرة أكثر رفقاً:
_شهر العسل هدية مني...شوفي عايزة تسافري فين وأنا تحت أمرك .
شكرته بكلمات مرتبكة فيما أطلقت داليا صفيراً عالياً لتهتف بشقاوتها المرحة:
_يااااا سيدي ...اللي علي علي يا عم !
لكن يامن رمقها بنظرة حازمة ناسبت قوله:
_خلصي دراستك وليكِ عليّ يوم ما تتجوزي هدية زيها .
مطت داليا شفتيها باستياء وعبارته تشعرها أنه لا يفكر فيها على النحو الذي ترتضيه ...
ورغم أنها كانت كارهة لموضوع الزواج لكن فكرة أنها لا تعجبه هي ما كانت تؤرقها !!
هي تعشق الشعور أنها الأنثى الوحيدة في هذا العالم التي تستحق
الاهتمام من الجميع ...
ومعاملة يامن -الأخوية- لها شوكة في خاصرة أنوثتها!!
لكنه قطع أفكارها عندما وجه حديثه لهانيا بنفس النبرة التي مزجت الحنان بالقلق:
_وانتِ أخبارك إيه يا هانيا؟! وشك مرهق جداً !
_لا أبداً...انت عارف الشغل والبيت ...وكمان غادة !
قالتها بنبرتها الجادة والتي حملت الكثير من الحزن فانعقد حاجباه وهو يشبك كفيه أمامه ليقول لها بسخط:
_أنا مش عارف انتِ بتفكري إزاي!! انتِ اللي بقول عليكِ عاقلة تجيبي ست غريبة بظروفها دي .. تآمنيها على جوزك وتعيشيها معاكِ في نفس البيت؟!

لكنها لم تشعر بالدهشة من حديثه فهو نفس الكلام الذي تقرعها به حماتها كل يوم منذ حادث وفاة أحمد زوج غادة ...
والذي ترد عليه بنفس الدفاع:
_بلاش بقا النظرة الظالمة للأرملة والمطلقة إنها "غولة" مستنية تخطف أي راجل ...حرام كده...وبعدين غادة مش غريبة...غادة دي أختي .
_مش أختك يا دكتورة ...مادام مش من أمك وأبوكِ تبقى مش أختك...وحتى لو أختك ما تآمنيهاش على جوزك ...الخيانة ما بتجيش غير من القريب!
هتف بها بحدة متوقعة من شخص بطباعه فتنهدت بحرارة لتجيبه بنبرة أكثر رفقاً:
_أنا عارفة إنك خايف عليّ يا يامن بس صدقني الموضوع المرة دي ما يتشافش بالنظرة دي.
لكن حديثها زاد غضبه الحمائي لها ليجعله يهتف بانفعال:
_اسمعي الكلام...الطيبة الزيادة هبل ...ما عادش فيه خير في الزمان ده !

هنا أخذت نفساً عميقاً ثم ابتسمت لتقوم من مكانها وتتوجه نحوه لتجلس على الكرسي الخالي جواره قبل أن تواجهه بنظرتها العميقة التي حملت امتنانها مع قولها:
_مين قال كده ؟! انت أكبر دليل إن الزمان ده كله خير ...وجودك هنا وسطنا ...إيدك اللي مدتها لينا كلنا عشان مانغرقش بعد وفاة بابا وماما ...قلبك اللي سايعنا كلنا بمشاكلنا وطلباتنا اللي ما بتخلصش ...انت اللي علمتني إن الإنسان بيتكتب له عمر جديد مع كل واحد بيساعده ...مش كده ؟!

ابتسمت نبيلة وعيناها تدمعان مع كلمات هانيا التي لم تستطع هي قولها له يوماً رغم أنها تملأ قلبها وشعورها ...
بينما ابتلع هو غصة وجدها في حلقه ليشيح بوجهه قائلاً :
_برضه خللي بالك!
فابتسمت هانيا وعيناها تغزوان ملامحه بعاطفتها الأخوية نحوه وقد أدركت أنها أصابت هدفاً بقلبه .
_ما قلتلناش إيه الموضوع المهم اللي كنت عايز تتكلم فيه!
سألته داليا باهتمام فعاد بظهره للوراء صامتاً للحظات قبل أن يفجر قنبلته:
_هاتجوز الأسبوع ده !
_إيييييييييه!!!
والصيحة الرباعية انطلقت منهن جميعاً في ذات الوقت بمشاعر متباينة حملتها كل منهن ...
رانيا بطبيعتها الخانعة كانت أكثرهن تقبلاً للخبر فتمتمت بمباركة خافتة تنتظر منه المزيد من المعلومات ...
بينما كانت داليا أكثرهن حدة عندما هبت من مقعدها لتهتف بانفعال:
_هتتجوز الأسبوع ده وجاي تقوللنا تحصيل حاصل يعني ؟!...مبروك يا عريس!!
قالتها وهي تخبط بكفيها بحركة عصبية على المائدة قبل أن تهرول بخطوات مندفعة نحو غرفتها التي صفقت بابها خلفها بعنف ...
فيما بدت الصدمة قليلاً على وجه نبيلة مع الكثير من القلق الذي حمله تساؤلها:
_هترجع لسيلين؟!
_لأ...دي واحدة تانية اتعرفت عليها وعجبتني فقررت أتجوزها ...يمكن يطلع حظي حلو المرة دي!
قالها بنبرة سخريته السوداء التي تحمل من المرارة أكثر مما تحمله من التهكم ...
لكن نبيلة غمغمت بشك:
_اتعرفت عليها وعجبتك وقررت تتجوزها في أسبوع؟!
_أي اعتراض؟!
رفع حاجبيه متحدياً مع عبارته فابتلعت نبيلة بقية تساؤلاتها ليغلبها كبرياؤها أيضاً هذه المرة فيجبرها على احترام الحاجز الذي وضعه بينهما ... حيث قامت من مكانها لتقول له ببرود مصطنع:
_مبروك يا دكتور ...ربنا يسعدك !
نقلت هانيا بصرها بينهما متفحصة حتى غادرتهما خالتها لغرفتها ثم التفتت نحوه بتساؤلها الحذر:
_إيه الموضوع يا يامن؟! ما تقنعنيش إن شخصية زي شخصيتك هتاخد قرار كبير زي ده في كام يوم !!
زفر يامن زفرة مشتعلة دون رد فعادت تقول بقلق:
_انت مش حمل جرح جديد ...ليه اتسرعت كده ؟!
_ما عادش حد هيقدر يجرحني!!

هتف بها بحدة أوجعت قلبها ...وكيف لا؟!
وقد نقلت لها نزيف روحه الصامت !!
هذا هو يامن الذي تعرفه والذي تبقى نيران حزنه خامدة تحت قشرة بركان خامل من سخريته !
لهذا هزت رأسها وهي تعاود قولها الصبور على عناده:
_طب بلاش انت ...هي !..مش خايف تكون اتسرعت وتجرحها ؟!
اتسعت عيناه قليلاً وكأنما لم يخطر على باله هذا السؤال من قبل عن ياسمين ...
لكنه أشاح بوجهه مطبقاً شفتيه بقوة كي يعلن إنهاء الحوار ...
فتنهدت بحرارة لتقوم من مكانها قائلة بحزم:
_مش هاقولك مبروك غير لما أحس إنك بجد مبسوط ...غير كده هافضل أدعيلك تلاقي الراحة اللي بتدور عليها !
قالتها ثم غادرته تلاحقها نظراته الشاردة في عبارتها ...
ترى هل يجد مثله الراحة يوماً؟!
========
_هيتجوز يا رانيا ! دلوقت عقدته اتفكت ونفسه اتفتحت على الجواز؟! ما أنا كنت قدامه!
_ششششش! هتفضحينا يا مجنونة!
همست بها رانيا وهي تضع كفها على فم شقيقتها التي أزاحته بحركة عصبية لتردف بنفس الانفعال:
_نفسي أشوفها بنت اللذينا دي ...و ديني لأوريها أيام أسود من وشها ...إزاي عرفت توقعه ؟! إزااااي؟!
ضحكت رانيا رغماً عنها فقذفتها داليا بالوسادة التي نالها كفها صارخة بغيظ:
_بتضحكي على إيه ؟! بوزّع نكت أنا؟!
فكتمت ضحكاتها لتتوجه نحوها ثم أجلستها بين ذراعيها على الفراش لتقول لها برفق:
_يامن عمره ما شافك ولا هيشوفك بالصورة دي ...يامن بيعاملنا زي بناته مش زي إخواته كمان...
تأففت داليا بصوت مسموع وهي تعقد ساعديها أمام صدرها لتلتمع الدموع في عينيها فأردفت شقيقتها باعتزاز:
_انتِ كمان تستاهلي حد يبدأ بيكِ طريقه...يامن مع معزّته عندي بس هيتعب أي واحدة يرتبط بيها ..
_ومين قالك عايزاه يرتبط بيّ؟!
هتفت بها داليا بغيظ فانعقد حاجبا شقيقتها بتساؤل بينما هي تردف:
_أنا بس ...كنت عايزاه...مش عارفة...مش هتفهميني!!

رمقتها رانيا بنظرة حائرة وهي عاجزة عن فهم تفكيرها الغريب وسط كلماتها المرتبكة هذه ...
لكن رنين هاتفها باسم أشرف قاطع أفكارها ...كانت تضع له صورة كخلفية للجهاز ولم تكد داليا تراها حتى شهقت بفزع هاتفة:
_وده ماله ده كمان ؟! عمل في شعره ليه كده ؟!
_ششششش....حلقه عشان خاطر مامته !
أجابتها رانيا وهي تتأهب للرد عليه بينما داليا تواصل ثرثرتها المتهكمة:
_فاكر نفسه أحمد حلمي في ألف مبروك؟!!..ناقص يروح يجيب لها تيمو من الديلر ...ما حبكتش حركة الجدعنة دي يعني إلا قبل فرحه ...هتتصوروا إزاي كده ؟!
أخرستها رانيا بحركة كفها على شفتيها قبل أن تبتعد بالهاتف نحو الشرفة لتفتح الاتصال بقولها :
_أهلاً يا حبيبي...روّحت واللا لسة؟!
صوته الضائق وصلها عبر الهاتف رغم محاولته التظاهر بالعكس:
_ورايا مشوار كده هاخللصه وأروح ...المهم انتِ عاملة إيه؟!
ابتسمت وهي تسرد له أخبار يومها كالعادة لتنتهي بخبر زواج يامن الذي علقت عليه بقولها:
_أنا مش صعبان عليا غير الغلبانة اللي هيختارها ...دي هيبقى لها أربع حماوات مش حما واحدة !!
ضحكته القصيرة وصلتها متوترة مع قوله:
_وانتِ حاسبة نفسك فيهم ليه ؟!
_منا هابقى الحما الحنينة اللي بتطبطب لما الثلاثة التانيين يستلموها!
قالتها ببراءتها العذبة فضحك ضحكة طويلة سبقت قوله المرح:
_ما تقلقيش عليها ...هي أصلاً لو استحملت ابن خالتك هيبقى الباقي بالنسبة لها لعب عيال!
_يامن طيب والله ...هو بس طبعه صعب شوية!
_شوية؟!
_شويتين ...ثلاثة.. كده يعني!!!
عاد يضحك لارتباكها الذي يغلف كل حديثها حتى دعاباتها قبل أن يتنهد بحرارة موجعة جعلتها تسأله :
_مالك يا حبيبي؟! صوتك مش عاجبني!
صمت طويلاً حتى ظنت أنه سيحكي لها لكنه اكتفى بقوله المقتضب:
_ما تشغليش بالك ...ما تفكريش غير إن فرحنا قرب وبس!

سكتت مجبورة وهي تود لو تجيد التخفيف عنه في ظروفه لكنها لم تعرف السبيل لهذا... فاكتفت بسؤالها المتردد:
_طنط كويسة؟!
_ادعيلها يا رانيا...ادعيلنا كلنا!!
صوته المثقل بهمومه أوجعها فرفعت عينيها للسماء بدعاء صامت قبل أن تسمعه ينهي معها الاتصال على وعد بآخر قريب.

وفي سيارته كان هو يرمق الهاتف بنظرة غريبة قبل أن يتحرك نحو بقعة منعزلة توقف فيها قبل أن يرفع زجاج سيارته المعتم كي يخفيه عن
الأنظار...
تناول حقيبة صغيرة من خلفه فتحها ليستخرج منها قميصاً رثاً ارتداه على عجل ثم وضع طاقية رأس أخفت الكثير من ملامحه خاصة عندما تناول شارباً ولحية مستعارة ثبتهما جيداً قبل أن يغادر السيارة نحو إحدى الحافلات العامة التي استقلها...
وبعد قليل ترجل منها في المكان المنشود ليتوجه نحو تلك المنطقة الشعبية ...وبالتحديد نحو بيت هناك بعينه ...طرقه بخفة لتفتحه له إحداهنّ...
امرأة ثلاثينية بجمال فقير لو كان يمكننا وصم الجمال بالفقر !
ملامحها بائسة لكنها بشت نوعاً عندما رأته قبل أن تتلفت خلفه سامحة له بالدخول ...وما كاد يفعل حتى بادرته بقولها:
_لسه مصمم؟!
_ما قداميش حل تاني!
قالها بحزم قلق فتحسست بطنها بحركة غريزية جعلته يقول مطمئناً:
_ما تخافيش...أنا عند وعدي!
وكأنما كفاها هذا الوعد فمنحته ابتسامة راضية قبل أن تسحب وشاحاً غطت به رأسها قائلة:
_طب ياللا بينا!
وكأنما تذكرت شيئاً جعلها تلتفت نحوه لتهمس برجاء:
_ما بلاش !
التمعت عيناه بصرامة قلما تصيب من طبعه الحنون فتنهدت باستسلام لتفتح الباب وتخرج جواره نحو وجهتهما التي لا تدري هل ستعود منها سالمة أم لا....
========
دخل شقته في منتصف الليل تماماً كعادته كل ليلة ...
مواعيده منضبطة كالساعة...تفاصيل يومه تكاد تتكرر بحذافيرها كل أربع وعشرين ساعة ...
فالتغيير يصيبه بنوع من التوتر ...وحده النظام يمنح حياته مذاق الأمان!
خلع حذاءه ليتوجه نحو الأريكة الجانبية هناك ليجلس عليها فارداً ذراعيه على ظهرها دون أن ينسى إزاحة الوسائد الخلفية متفحصاً بشك فيما خلفها كعادته الوسواسية !!
حدق في السقف بشرود وهو يشعر بقبضة خانقة تعتصره...
مواجهته لعائلته بخبر زواجه الوشيك أسقطت ما بقي من تردده ...ولم يبقَ له سوى حصاد النتائج ...
هو يشعر أنه قد تسرع كثيراً بهذا الأمر لكنه لن يسمح للأفعى سيلين أن تنال منه من جديد .
تظن أن طفلها المنتظر هو ورقتها الرابحة فلتنتظر إذن حتى تصل لتدرك أنها قد تأخرت كثيراً وأن حياته قد بدأت من جديد مع ياسمين ...
ياسمين؟!
اسمها الرقيق استجلب لشفتيه -ابتسامة مطمئنة- لم يدرك مبعثها ...
ربما هو شعوره بعاطفتها الخفية نحوه...ربما لاستسلامها الغريب لكل ما يطلبه ...وربما -وهو الغريب- إحساسه بأنها تراقبه ل"تحميه"!!
تحميه؟!
رغم هزلية الفكرة ظاهرياً لكن هذا ما كان يصل قلبه بوضوح لم تسمح له وساوس شكه بالاستمرار أكثر ...
لماذا طلقها زوجها؟! هجرها أبوها؟! هل حافظت على نفسها طوال هذا الوقت؟! ماذا تريد منه بالضبط؟! والأهم ...ما حقيقة عملية التجميل التي أجرتها هذه ؟! ألهذا لا يذكرها ؟! هل تغير شكلها إلى هذا الحد؟!
لا !
شكلها لم يتغير كثيراً منذ سنوات فقد حصل بطريقته الخاصة على مجموعة من الصور لها في مراحل مختلفة ولايزال لا يذكر أين لقيها
بالضبط ...
ولا لماذا يشعر بنفحة عابرة من الضيق كلما أمعن التدقيق في ملامحها .
رنين هاتفه يعلن عن وصول رسالة ...

_نمت ؟!

ابتسامته المطمئنة خاصتها تعاود قهر وساوسه فيرد على رسالتها باقتضابه السخيف:
_لا.
_بابا وصل مصر...شوف تحب تعمل إيه .
_مفيش داعي لتأجيل...بعد بكرة مناسب؟!
_مناسب...تصبح على خير.
زفر بحدة مع رسالتها الأخيرة والضيق الخانق في صدره يمنعه أن يرد على رسالتها ولو بكلمة مجاملة !
ضيقٌ جعله يحل أزرار سترته بسرعة ليقذفها بجانبه بحركة فوضوية لا تناسب طبعه المهووس بالنظام !
لكن الصوت الغريب الذي أحدثه ارتطامها بجانب الأريكة جعله ينتبه لما يحتويه جيبها والذي استخرجه الآن ...
علبة أنيقة تحمل خاتماً مرصعاً بجواهر حملت كل ألوان الطيف !
هديته التي اختارها ب"ذوقها" هي الخاص كي تناسب ثوبها الغريب الذي تريد ارتداءه...
ورغم أن حكاية الزواج هذه كلها لا تعدو كونها مجرد تمثيل ...لكنه يحب أن يهتم بالتفاصيل كلها كما ينبغي!
تنهد بحرارة وهو يغلق العلبة ليعاود وضعها في جيب سترته قبل أن تنتابه ذكرى أول هدية أهداها لامرأة في حياته ...
"بسنت"
جرحه القديم الذي نسيه تماماً أو هكذا يظن إلا عندما تجتاحه ذكرى كهذه ...

وقتها كان شاباً في أوائل العشرينات من عمره ...توفي والده وعادت له أمه ليتسلم مسئولية قريباته...ووسط كل هذه الضغوط ظهرت له "السندريللا" كما كانوا يسمونها في شلة النادي وقتها ...
ذاك النادي الفخم الذي انضم إليه بعد وفاة والده في محاولة منه لتجربة كل ما كان ممنوعاً عليه ...من كان يخبره إن تصريح دخوله لذاك النادي وقتها سيكون تذكرة دخوله لعالم العشق الذي حذره منه أبوه؟!
عالمٌ انسحبت إليه خطاه الساذجة ليجد نفسه يحلق شاربه الذي كان
والده يصر على رؤيته به منذ بلغ مبلغ الرجال ...
خطوة تلتها خطوة لجذب انتباه "السندريللا" بداية من السيارة حديثة الطراز التي اشتراها ومروراً بثيابه التي غير ذوقها بأسره...وانتهاء باعترافه لها برغبته في الزواج منها.

كز على أسنانه بغضب عند الخاطر الأخير وكأنما الذكرى لاتزال تؤلمه ...
عامٌ بأسره عاشه مخدوعاً بوهمها ...بركان مشاعره الخامد الذي حبسه بصدره طوال هذه السنوات انفجر فجأة ليغرقه بحممه ...
لماذا هي بالذات؟!جمالها؟! رقتها؟! أناقتها؟! ثراؤها؟!
أتصدقون أنه عشقها ...ل"عُنقها"؟!!!
ذاك العنق الناعم الطويل الذي ينتهي بشامة وردية على تجويف كتفها والتي تشبه تماماً مثيلتها لدى ...نبيلة!!!!
لقد عاش عمره يحلم بامتلاك حب أمه ولما لم يجده بحث عن امتلاكه في أنثى تشبهها ولو بمجرد "شامة"!
تفكير سطحي؟!
حقاً ! لكنه كان ما يملأ روحه وقتها على أي حال !!
سذاجته وقلة خبرته جعلته يقع في شباك تلك الغادرة ...وعمق احتياجه للعاطفة جعلته يفرغ مكنون روحه تحت قدميها ...حتى صفعه الغدر أول صفعة !!
"السندريللا" لم تكن سوى ساحرة ماكرة أغوته ليكون سخرية رفقائها ...
ومن أصلح من "ابن النجمة" كي يكون لعبتهم في الخفاء؟!!
كل تفاصيله السرية التي لم يبح لأحد بها في حياته سواها كانت نوادر ليلية يسلون بها سهراتهم...
حتى اعترافه لها بالحب والذي اشترطت له هي مشهداً تمثيلياً معيناً اكتشف بعدها أنه كان هناك من يقوم بتصويره لتكون "الكوميديا" كاملة "صوتاً وصورة"!!
صدمته؟! لوعته؟! جرح كرامته؟!
كل هذا لم يكن شيئاً أمام "شعور النبذ" الذي عاشه من جديد ...وكأنما نبذته "أمه" مرتين!!
لهذا لم يشعر بنفسه يومها وهو ينقض عليها وسط أصدقائها ليصفعها صفعة أدمت شفتيها كما أدمت قلبه ...
ولولا بقايا من تعقل وتدخل رجال أمن النادي وقتها لربما كان قد أزهق روحها بين يديه !!

_نمت؟!
هاتفه يعلن وصول رسالتها من جديد وكأنما جاءت لتنتشله من عواصف ذكرياته ...فالتوت شفتاه بشبه ابتسامة وهو يراقب هاتفه للحظات قبل أن يرد لها رسالتها هذه المرة:
_تصبحي على خير!
كتبها ثم عاد برأسه للوراء مسترخياً قبل أن ينتفض مكانه فجأة وهو يتذكر أخيراً أين رآها من قبل ...
اللعنة !!!
ويلٌ لها لو كان ما يدور بباله صحيحاً ...ويلٌ لها!!!!
========



سمية سيمو غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-04-20, 10:21 PM   #1505

سمية سيمو


? العضوٌ??? » 396977
?  التسِجيلٌ » Apr 2017
? مشَارَ?اتْي » 4,356
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
?  نُقآطِيْ » سمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك action
?? ??? ~
keep smiling
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي


القطعة السادسة
***********

_صاحبة بسنت؟! انت متأكد؟!
هتف بها مروان صديقه بدهشة وهو يجلس جواره على أحد أجهزة صالة الألعاب الرياضية حيث يجريان تمارينهما اليومية ...
ليجيبه وحركة ذراعيه العصبية على الجهاز تفضح غضبه:
_امبارح بس افتكرتها ...شفتها مرة أو اتنين معاها في النادي !
عقد مروان حاجبيه وهو يتحرك بسرعة على المشاية الرياضية التي وقف عليها ليقول بصوت لاهث:
_طب فهمني بالراحة كده دماغك فيها إيه !
_معرفش..المصيبة إني معرفش!
هتف بها بحنق وعروق جبهته تنفر انفعالاً ليرد صديقه بحذر:
_معاد جوازكم بكرة...هتكمل واللا هتلغي؟!
زفر بقوة وهو يقوم من على الجهاز ليمسح عرقه في منشفة قريبة فاستطرد مروان بنفس الحذر:
_لو عايز رأيي...كونها كانت صاحبة بسنت ده مش معناه إنها كانت زيها ...ممكن ده بس يفسر هي عارفة عنك كل حاجة إزاي ...
_وعايزة مني إيه دلوقت؟!
هتف بها بحدة وهو يلقي المنشفة جواره ليلوح بذراعيه مستطرداً:
_مطاردتها ليّ...تصرفاتها المجنونة...كل ده مالوش معنى إلا إنها بتلعب معايا لعبة دنيئة زي اللي لعبتها صاحبتها زمان ...
ظهر الاعتراض على وجه صديقه لكنه لم يبالِ وهو يقبض كفه أمام وجهه ليردف متوعداً:
_لو كده أقسم بالله لأطلع عليها القديم والجديد ...واللي ما عرفتش أعمله زمان هعمله دلوقت!
توقف مروان عن الجري ليغادر الجهاز بدوره ثم أخذ نفساً عميقاً ليواجهه بقوله :
_خلليني أشوف الصورة بطريقة تانية بعيد عن شكوكك دي...اللي أنا
لاحظته إنها ما حاولتش تعترض طريقك ولولا دقة ملاحظتك يمكن ما كنتش خدت بالك منها...حتى عرض الجواز ده انت صاحب فكرته مش هي...كل اللي كانت بتعمله إنها كانت بتراقبك من بعيد ...
_قصدك إيه؟!
صمت مروان طويلاً ليجيبه بعدها بثقة:
_بتحبك!
همهمة ساخرة كانت جواب يامن الوحيد لكن مروان استطرد بهدوء:
_معرفش ليه وازاي ولا من امتى بس الحكاية ما تتفهمش غير كده ...ياسمين مش محتاجة تلعب أو تتسلى ولا شخصيتها اللي أعرفها بتاعة لف ودوران ...واحدة ناجحة مستقلة بحياتها ...جميلة وألف من يتمناها ...غنية...لو عايزة تسافر كل يوم بلد مش هتغلب...ومع ذلك ما بتفكرش غير في شغلها وبس...يعني تركيبة بعيدة خالص عن بسنت دي!

هز يامن رأسه بحيرة وكلام صديقه يزيد ارتباكه بشأنها ...
هو يكاد يجن منذ الأمس بعدما تذكر أين رآها ...
وساوسه بشأنها تكاد تمزق رأسه خاصة مع ما يثيره طليقها حولها من شائعات ...
لكنه يعود ليتذكر لقاءاته معها ...حزن عينيها الصادق...
عتاب نظراتها الدافئة...دموعها التي حملت له معاناة تشبه معاناته...
تلك اللحظة التي التقت فيها عيناهما ليشعر برجفة جسدها التي وجدت صداها في قلبه ...
لو استجاب لظنون عقله لأطاح بكل هذا وراء ظهره ...لكنه لا يستطيع!
هي فتحت بداخله باباً شديد القدم يكاد صريره يصم أذنيه ...
أزاحت الغبار عن صندوق ذكرياته لتمس بقعة خفية بين أضلعه لا يدري كنهها...
وإن كان يدرك أثرها!

_ما عادش فيه وقت للتردد ...هتعمل إيه؟!
سأله مروان مخرجاً إياه من دوامة ظنونه فزفر بقوة ليجيبه:
_ممكن يكون معاك حق...ما عادش فيها رجوع...سيلين على وصول ومعنديش وقت ولا بديل ...
ثم قست نظراته أكثر وهو يردف :
_خللينا نشوف قصتها إيه بتاعة "السينابون" دي!
=========
_مين الواد اللي هناك ده ؟! أول مرة أشوفه !
هتف بها الرجل الأنيق الذي لا تلائم ثيابه المكان في ذاك المخزن المنعزل ليجيبه مساعده باستخفاف:
_معرفة البت سيدة ...ثالث مرة ييجي معاها!
_ثالث مرة ييجي معاها ؟! جرى إيه يا شلبي؟! هي فسحة؟!
هتف بها الرجل باستنكار وهو يتابع تصرفات ذاك الشاب هناك بتوجس ليجيبه صاحبه مهدئاً:
_اطمن يا باشا ...محدش يعرف حاجة عن الليلة...كله في الكتمان!
صمت قليلاً يتفحص الشاب بثيابه الرثة وحركاته التي فضحت قلة خبرته فيما يفعله ليقول بتوجس:
_برضه مش مطمن ...أشرف بيه لو وصله حاجة عن اللي بيحصل كلنا هنروح ورا الشمس .
_أشرف مين يا باشا ؟! تلاقي العريس غرقان في التحضير للعسل ...وهي دي فرصتنا .
هتف بها مساعده من بين أسنانه الصفراء وهو يغمزه بمكر فزفر بقوة ليرد:
_برضه مش مطمن ...خد بالك ...في شغلانتنا دي الغلطة بفورة !

وفي مكانه كان ذاك الشاب يتابع نقل بعض الصناديق من مكانها عندما سمع همسها القلق جواره:
_صدقتني؟!
رمق المرأة جواره بنظرة زاجرة فابتعدت عنه لتهتف بصوت مسموع:
_ياللا يا رضا...مش هنقعد هنا طول الليل!
_هي السهرة الليلة دي مع رضا واللا إيه؟!
هتف بها أحد الرجال الذي فرغ مما يفعله ليتوجه نحوهما بنظرات قميئة شحبت لها ملامح سيدة التي هتفت في وجه الرجل:
_مالكش دعوة بيّ...خليك في حالك!
لكن الرجل واصل اقترابه البطئ منهما فتوتر جسد الشاب الذي ترك الصندوق من يده ليواجه ذاك البغيض بقوله :
_مش قالتلك خليك في حالك؟!
اكتست ملامح الرجل بالشراسة وهو يتوقف مكانه فجأة قبل أن تلتوي شفتاه بابتسامة تهديد غادر بعدها المخرن دون كلمة واحدة ...
فخبطت المرأة على صدرها لتتمتم بخوف:
_استر يارب ...مش هيعديهالنا!
لكن الشاب اقترب منها ليهمس وهو يتلفت حوله بحذر:
_ما تخافيش...الجبان اللي زي ده ما يضربش اللي يقف له ...يضرب اللي يخاف منه بس!
صرخت ملامحها بعدم الاقتناع وهي تعدل وضع وشاحها على رأسها لتهمس له بجزع:
_طب ياللا بينا من هنا ...كفاية كده النهاردة!
زفر بقنوط وهو يشعر بعدم الرضا عن نتيجة ما يفعله إلى الآن ...
لكنه اضطر للاستسلام لرغبتها فنفض كفيه بقوة ليغادر معها المخزن نحو بيتها في تلك المنطقة الشعبية والذي توقف أمام بابه ليقول لها مطمئناً:
_مش فاضل غير كام يوم بس ...وبعدها هنخلص كلنا من الورطة دي !
رفعت رأسها للسماء فيما يشبه الدعاء وهي تتحسس بطنها بأناملها
فأومأ لها برأسه مطمئناً ثم عدل وضع طاقيته على رأسه ليغادرها بخطوات سريعة ...
ولم يكد يبتعد لذاك المكان المنعزل هناك حتى ظهرت من العدم قبضة قوية أحاطت بكتفه لتدير جسده نحو صاحبها ...
_ده تذكار بسيط عشان يفكرك ما تمدش إيدك لحاجة غيرك!
العبارة بالكاد تصل أذنيه ليدرك معناها قبل أن يشعر بالنصل الحاد يشق لحم وجهه !!!
======
ارتجفت أناملها الممسكة بمفتاح شقتها وهي تحاول كبح دموعها بصعوبة ...
كانت المرة الأولى التي تزور فيها المكان بعد رحيله ...
لقد ظنت أنها صارت من القوة بمكان كي تجتاز موقفاً كهذا لكنها الآن تدرك أنها مخطئة .
أخذت نفساً عميقاً تتمالك به نفسها قبل أن تفتح الباب لتدخل ...
المكان هو المكان فماذا فقد ؟!
بل ...ماذا بقى؟!
هنا لم تستطع منع دموعها التي انهمرت على خديها بغزارة وهي تنهار مكانها على أحد الكراسي ...

_بحبك قوي.
_اشمعنا!
_عشان نظيفة قوي من جوه...رغم الشقاوة والعفرتة اللي مالية وشك بس جواكِ قلب عمره ما يخون !

آهاتها العالية تتصاعد رغماً عنها ...رائحة "الفراولة" الملتصقة بدبها القطني تعاود غزو مخيلتها متزامنة مع ذكرياتها المريعة ...

_غادة تعالي أوريكِ لقيت إيه تحت "البِنش" في الفصل!
بصوت زميلها في المدرسة تسمعها لترد بتردد:
_بس ده معاد المرواح ...محدش فوق دلوقت!
لكنه يجذبها من كفها ليهتف لها بجرأة:
_يا بنتي تعالي هو أنا هاكلك؟! كلهم فوق مستنيينك عشان نكمل فرجة على الاكتشاف!
تطيعه قسراً بطبيعتها التي لا تجيد الدفاع ناهيكم عن الهجوم...
لتصعد معه الدرج نحو الفصل الذي دخلاه معاً لتجده يجذبها تحت أحد المقاعد الدراسية هاتفاً:
_بصي لقيت إيه؟!
تحني رأسها لتحاول البحث عما يقصده مع قولها المرتبك :
_مش شايفة حاجة!
_أنا بقى شايف... قمر!
تشهق بعنف وهي تدرك سذاجة الفخ الذي وقعت فيه بينما أنامله تمتد لسحاب تنورتها الكحلية القصيرة ...
تحاول منعه بمقاومة واهية وهي لا تدري ماذا تفعل في موقف كهذا يواجهها لأول مرة بينما يحكم هو سيطرة قوته العضلية عليها بقوله الحقير:
_ما تتشنجيش كده...ما هو لما واحدة تلبس "جيبة " زي دي يبقى بتقول تعالوا اعملوا فيّ كده !
تكاد تصرخ لكن أنامله تكتم صرختها وغزوه الغاشم يجتاحها أكثر...
_انتوا بتعملوا إيه؟!
الصرخة الهادرة تقطع الصمت المختلط بأنّاتها فلا تدري هل جاءت منجية أم مهلكة !!
أجل فالمعلم الذي ضبطهما لتوه لم ينتظر ليسألها عن حقيقة الوضع ...
هي في نظره "قليلة الأدب معدومة التربية" بينما زميلها الوغد مجرد فتى طائش "يتسلى"!
هي التي أغرته بشعرها المكشوف وثيابها القصيرة وهو "فقط" لبى النداء!
هي "الجانية"و"الخطيئة" وهو مجرد "مفعول به"!
كانت هذه أول خبرة سيئة تلقتها في عمرها لتصمها ب"العار" الذي لم تفهم وقتها ذنبها فيه سوى "عجزها" عن اتخاذ موقف!
أمها؟!
لم تستطع إخبارها!
خشيت أن تحرق ساعدها بالملعقة التي تسخنها على الموقد!
"طريقة عبقرية" للتعذيب لا تدري من أين أتت بها لكنها كانت فعالة كما يبدو ...وكيف لا؟!
وقد جعلت منها ذاك الكائن الخانع الذي لا يملك لضرّه رداً ولا دفعاً ؟!!
لهذا كتمت عنها الأمر ليكون رد الفعل الوحيد الذي اتخذته هو "الحجاب"!
ألم يزعموا أنه هو ما سيحميها؟!
كذبوا !
ها هي ذي بعد هذه الواقعة بأمد طويل تدلف لداخل بيتها بتنورتها الطويلة حتى كعبيها...حجابها يغطي رأسها وهي تحتضن كتبها ب"حركة" وجدتها رقيقة كما تفعل رفيقاتها ...
ومن جديد تهاجمها القبضة "الذكورية" لتشدها نحو ذاك الجزء المخفيّ من قاع السلم ...
عيناها تتسعان بفرع وهي تميز الجسد الفارع ل"ابن الجيران" الذي يفاجئها بقوله وهو يشير بعينيه الغائمتين نحو كتبها التي تحتضنها:
_ياريتني كنت أنا.
الصدمة تخرسها فيظن صمتها رضا ليردف بنظرات ذئبية:
_وريني كده مخبية إيه تحت الحجاب!
هنا تجد القدرة أخيراً لتصرخ وهي ترى أنامله تمتد لوشاحها فيكتم صرختها بكفه هامساً بنبرته القميئة:
_هتعملي فيها مؤدبة؟! فاكرة حجابك ده هيخلليكِ خضرة الشريفة مثلاً؟! مشيتك فاضحاكي واللا ضحكتك...

_إيه القرف ده ؟!
هتاف حاد ينقذها من جديد بلسان إحدى جاراتها هذه المرة ...
والتي خلصتها من يد الشاب لتهتف بها ناهرة:
_أمك ماعرفتش تربيكِ...هتلاقي وقت لإيه واللا لإيه وهي كل همها رضا "المحروس" جوزها!
جسدها يختض بقوة والمرأة مستمرة في هتافاتها الساخطة بينما يهرب الشاب لأعلى تاركاً لها "حصاد الفضيحة" وحدها!
هي دوماً الملومة...هي السبب...
هي"المنحلة" التي تنتظر الفرصة ليفتح باب "المجون" كي تدخله!
وتلك المرة لم تستطع إخفاء الأمر عن أمها ...
و"الملعقة" الساخنة تركت أثرها على بشرتها وعلى "قلبها" قبلها!
وقتها قضت ليلتها تحتضن دبها القطني وتشكو إليه وحدتها ...
تبني بيتاً من "المكعبات" الملونة وتتمنى لو كان لها ملجأ مثله يحميها من شرور الناس ...
لتفاجأ بباب غرفتها يفتح ليدخل منه زوج أمها بعدما حكت له والدتها عما حدث ...
وكأنها نبهته وقتها أن "الصغيرة" كبرت..."الثمرة" أينعت وحان وقت قطافها!
انتهاكه "الحذر" لها لا يجد لديها مقاومة كالعادة ...بينما الرجل يهذي بحديث لا تكاد تعي منه سوى كلمته قبل مغادرته غرفتها والتي هتف بها بصوت عالٍ وكأنه يبرر لأمها بالخارج خلوته بها لتربيتها...
"الفاجرة" !
ليلتها لم تذق النوم ليلة واحدة ...يملأها شعور رهيب ب"الدنس"...
لهذا قررت بعدها خلع حجابها نهائياً!
هي سيئة حتماً ولهذا يفعل بها الجميع هذا ...
ليس من المعقول أنهم هم المخطئون وهي وحدها الضحية بينهم...
هي"ملوثة" ب-شيء ما- لا تدري حقيقته لكنه موجود ...
هم يرونه وإن كانت هي لا تراه !!

وقد ظل هذا شعورها حتى قابلت أحمد ...
وحده من وصفها بهذا الوصف الذي لا تدري كيف شعر بحاجتها إليه ..
"نظيفة"!
هذا الوصف الذي توجها بعده ب"إكليل الحب"ليدخل بها ظافرة مملكة الهوى ...
تلك التي تم نفيها الآن خارج حدود أسوارها !!

عيناها ترتفعان للسماء بنظرات زائغة ...هل يعاقبها الله على ذنب لا تعرفه ؟!
هل هي "ملوثة" حقاً لهذا حرمها القدر عطايا الحب بعدما ذاقت حلاوتها؟!
بالتأكيد هي كذلك...
لو كانت أقوى مما هي عليه لاستطاعت رد كل يد امتدت عليها ...
لو كان شرفها غالياً لديها لتنمرت للدفاع عنه ...
وما الذي دافعت عنه في حياتها كلها؟!
هي عاشت عمرها كله تحت مظلة "جعلوه فانجعل"!
تربية والدتها المهملة لعواطفها -والمغلفة بصرامتها القاسية- جعلت منها ذاك الصنم الذي لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً...
وظهور أحمد في حياتها كان طوق النجاة الذي تشبثت به بكل قوتها ...
والآن فقدته...لتغرق!

_مساء الخير!
العبارة الخافتة انتزعتها من شرودها فالتفتت نحو مصدرها وهي تمسح دموعها لتقول بصوت متحشرج:
_مساء النور يا حاج !
قالتها وهي تميز صاحب الxxxx الذي أجر منه أحمد هذه الشقة بصورة مؤقتة والذي تقدم منها ليغمغم بعبارات تعزية تقليدية سبقت قوله بحرج:
_أنا عارف إن الوقت مش مناسب ...بس كنت عايز أعرف لو هتفضلوا مأجرين الشقة واللا هتسيبوها؟!
اتسعت عيناها بصدمة وهي تنتبه لتوها لهذا الأمر ...
هي لن تستطيع دفع الإيجار الباهظ للشقة وكذلك والد أحمد لن تستطيع إرهاقه بمبلغ كهذا شهرياً !
والحل؟!
هل ستتنازل عن شقة أحمد التي حملت لها أجمل ذكريات عمرها ؟!
للأسف...ليس هناك حل آخر!
فلتفقدها مع ما فقدته !
وعند الخاطر الأخير عادت دموعها تسيل من جديد ليهتف الرجل بارتباك:
_لا حول ولا قوة إلا بالله ...اعذريني يا بنتي ...أنا بس كنت عايز ألحق أوضب أموري وما صدقت إنك رجعتِ هنا بعد اللي حصل!

فهزت رأسها وهي تجد بعض القوة لتقوم من مكانها ...
عيناها تجوبان المكان وكأنها تودعه قبل أن تعود ببصرها للرجل قائلة بصوت مختنق:
_هنفضيها في أقرب وقت!
لم تكن تعلم من تقصد بالضبط بكلمة "نفضيها" هذه !
ضمير الجمع هذا من بقي ليمثله ؟!
للأسف لم يعد لديها سوى هانيا ووالد أحمد الذي دكت الصدمة ما بقي من صحته !
لهذا لملمت أشلاء خسارتها لتغادر المكان نحو بيت رامز الذي لازالت تسكن شقة أخيه ، لا تدري بأي صفة لكنها لا تملك الآن خياراً آخر ...

_رحتِ فين يا غادة من غير ما تقوليلي؟!
هتفت بها هانيا بقلق وهي تنتظرها في الشقة لتندفع نحوها بقوة فتعانقها هاتفة بين دموعها:
_عايزة أشتغل يا هانيا...ساعديني ألاقي أي شغل ...هاموت لو فضلت كده!
=======
جلس في سيارته التي أصرت هي على تزيينها بزهور حملت كل ألوان الطيف ...
"تقليعة سخيفة" كثوبها الذي اختارته بنفس الألوان ...
والذي خرجت به الآن من محل "الكوافير" لتبهره بمظهرها ال...!!
سخيف؟!
هل ظن هكذا حقاً؟!
عيناه المغرمتان بالتفاصيل كانتا تتلكآن على كل شبر منها ترتشفان سحره ببطء...
وجهها الذي تألق بزينة خفيفة لم تمحُ كسرة الحزن الخفية في عينيها رغم الابتسامة الرقيقة التي تشبثت بها ...
حجاب رأسها بلونه الأبيض والذي تزين بتاج من الزهور الملونة بألوان الطيف والتي احتلت طبقات ثوبها الأبيض كذلك في تناغم مثير ...
حذاؤها الأنيق بكعبه العالي الذي سيحمد له تقريبه للطول بينهما وسيوره البيضاء الرقيقة التي أحاطت بكاحلها ...
وقد اكتفت من مجوهراتها بخاتمه الذي يحمل نفس الألوان والذي أرسله إليها صباحاً دون أي تمهيد !
كان والدها أول من ترجل من سيارته ليتوجه نحوها حيث قبل رأسها ليهمس في أذنها بحديث لم يسمعه وإن أثار ضيقه بطبيعته الكارهة لكل ما يغيب عن إدراكه ...

_مش هتنزل لعروستك يا دكتور؟!
قالتها نبيلة التي تحتل المقعد الأمامي من سيارته بجوار مروان الذي كان يتولى القيادة والذي التفت ليامن بنظرة ذات مغزى جعلته يزفر بقوة قبل أن يترجل من السيارة ليتوجه نحوها ...
عيناها التقت بعينيه للحظة...
لحظة واحدة تألقت فيها نظراتها كملايين النجوم الصغيرة ...
قبل أن تحيد بعينيها عنه بسرعة وكأنها تهرب من لقاء نظراتهما !
أمسك والدها كفها ليتحرك نحوه ثم سلمه له في حركة تقليدية فتناوله لتروعه انقباضة أناملها التي تكورت فجأة وكأنها تنفر منه !
هذه الحركة البسيطة التي جعلته يعقد حاجبيه وهو يقبض على أناملها أكثر قبل أن يتحرك بها نحو سيارته التي اتجهت نحو قاعة الزفاف ...
عبارة مجاملة تقليدية قالتها نبيلة في السيارة قبل أن تلتفت نحوها
لتقول بدهشة:
_احنا اتقابلنا قبل كده !
كانت تحاول سحب كفها من يامن الذي تشبث به بعناد أكبر لكنها اصطنعت ابتسامة لتجيبها برقة:
_أيوة...في حفلة (....) اللي كنتِ نجمتها كالعادة!
ارتفع حاجبا نبيلة بمزيج من إعجاب ودهشة مع لهجة الإكبار التي كانت تحدثها بها لترد عليها بعبارة مجاملة وهي تعود ببصرها للأمام...
فالتوت شفتا يامن بابتسامة ساخرة وهو يميل على أذن ياسمين بهمسه :
_برافو...واضح إنك بتعرفي تلعبي على كل الحبال!

ورغم الإهانة الخفية التي حملتها عبارته لكنها أطرقت برأسها دون رد لتحافظ على صمتها طوال الطريق ...
السيارة تتوقف أخيراً أمام باب القاعة ليترجلا منها ...
طريق طويل مزدان بالمشاعل والزهور ينتهي بمدخل القاعة ...
موسيقا تقليدية لأغنية شهيرة اتفق على استعمالها في الأعراس هذه
الأيام لكن كليهما لم يبدُ مكترثاً بها وقد غرق تماماً في شروده ...
لازال يتشبث بكفها المنقبض الذي يثير استفزازه بحركته "النافرة"...
ولم يكن هو بالرجل الذي يترك ثأر "استفزازه "!
لهذا لم يمر الكثير من الوقت حتى جذبها دون أن يستأذنها قائلاً:
_ياللا نرقص!
فازداد تشنج كفها مع همسها وهي تقف قبالته :
_أرجوك...بلاش!
رفضها -رغم نبرة الرجاء فيه- يزيد استفزازه ليميل على أذنها هامساً
بنبرته الخشنة:
_اتفاقنا نحافظ على منظرنا من بره...وأظن الفرح كان فكرتك انتِ!

ارتجف جسدها ارتجافة ملحوظة لعينيه الثاقبتين لكنه أحاط خصرها بكفيه ليبدأ معها الرقص على تلك النغمات الهادئة ...
أنفاسها تتلاحق وهي تقترب منه رغماً عنها ...

وبدلاً من أن تسند كفيها على صدره كما اتفق وجدها تشبكهما معاً وهي تغمض عينيها بقوة ...
شفتاها ترتجفان وقد بدأت قطرات العرق في احتلال جبينها الوضاء!
هنا فقط غلبه شعوره بالندم وهو يقرأ بحدسه أنها قد تذكرت شيئاً يخص زواجها السابق...
لهذا طفت طبيعته "الحمائية" على سطح انفعالاته ليهمس لها بنبرة أكثر رفقاً وإن حافظت على جفائها:
_الرقصة دي وبس عشان شكلنا قدام الناس...ما تتوتريش كده !
لكنها ظلت مغمضة عينيها للحظات وكأنها تقاوم انفعالاً عاصفاً بداخلها قبل أن تفتحهما أخيراً لتتحاشى النظر نحوه بالتشاغل في مراقبة المدعوين ...

وجوارهما كان أشرف ورانيا يشاركانهما الرقص على الحلبة وسؤالها القلق بنبرتها المرتبكة يبادره:
_مش هتقوللي إيه اللي عمل في وشك كده ؟!
ابتسامته المطمئنة تربت على وجنة مخاوفها ليجيبها ببساطة :
_وقعت على وشي في أوضتي واتخبطت في شنطة سفر كانت مركونة...
عقدت حاجبيها بشك فاغتصب ضحكة مرحة ليردف :
_بس ما تقوليش لحد على العريس اللي بيضرب لخمة وهو لسه في أوضته ...امال يوم فرحه هيعمل إيه؟!
لكن مرحه المصطنع هذه المرة لم يقنعها فغمغمت وهي تحاول مواكبة خطواته الراقصة:
_حاسة إنك مخبي عليّ حاجة يا أشرف.
لكنه ضمها إليه برفق وهو يربت على ظهرها ليتنهد بحرارة فضحت كامن مشاعره التي لم يدارِها هذه المرة ...
فحمل صوته ثقل همه وهو يهمس بها :
_حاسس ان الحمل تقل عليّ قوي !
كانت المرة الأولى التي يشكو إليها بهذه الطريقة ...
ويبدو أنها ستكون الأخيرة فقد أخذ بعدها نفساً عميقاً ليردف وقد عاد لصوته حنانه:
_بس ما تشغليش بالك انت...كل حاجة هتبقى زي ما حلمنا وأحسن !
ربما لو كانت أنثى أخرى مكانها لما تركته حتى تبينت منه تفاصيل أكثر ...
لكن طبيعتها الخانعة المتواكلة رضيت منه بهذا الاقتضاب وكأنها تخاف أن يفتح لها بوْحه باباً لن تستطيع الولوج فيه ...
لهذا اكتفت بصمتها القلق وهي تدعو الله سراً أن يصلح له كل أموره .

وعلى مائدة قريبة جلست نبيلة مع ابنتي شقيقتها الأخريين لتقول لهما بنبرتها ذات الكبرياء:
_كويس إنه لحق يحجز قاعة فخمة زي دي بسرعة كده...أكيد عرفوا إنه ابني عشان كده وافقوا!
تبادلت هانيا وداليا نظرات ذات مغزى قبل أن تهتف الأخيرة سليطة اللسان:
_يامن ما بيحبش يقول إنه يعرفك أساساً!
_مش هتبطلي الدبش اللي بتحدفيه ده ؟!
هتفت بها هانيا زاجرة لتلتفت نحوها داليا بهتافها النزق:
_وأنا بكدب يعني؟! وبعدين محموقة ليه كده ؟! مش طبيعة البيه ابن
خالتك اللي معيشنا في سجن ووساوس ودلوقت جاي يتجوز واحدة في كام يوم لا نعرف لها أصل ولا فصل...ده حتى ذوقها بلدي زيها...ده فستان عروسة ده ؟!
زفرت نبيلة بحنق لتقف مكانها هاتفة باستياء:
_أنا رايحة أظبط الميكاب ...القعدة شكلها هتقلب بقلة أدب!
قالتها ثم غادرتهما بخطوات لم تفقد رشاقتها تحت الأضواء فالتفتت هانيا لشقيقتها بقولها العاتب:
_هو لسانك ده ما عليهوش فرامل ؟! لازم تزعلي خالتك في ليلة زي دي؟!

أشاحت داليا بوجهها وهي تشعر بالسخط من كل شئ ...
ومن نفسها قبلاً!
لقد كذبت بشأن ياسمين!
هي تشعر بالغيرة من ذوقها المميز في اختيار ثوبها...من فتنتها الطبيعية التي لا تحتاج لزينة...من حجابها الذي تبدو فخورة به لا سجينة له مثلها ...من عناق يامن لها الآن وهمسه الذي تتخيل حرارته في أذنيها ...
من احتواء أبيها لها وهو يسلم كفها ليامن بينما عيناه تنبضان بالقلق عليها ...هذا الشعور الذي لن تجرب مثله قط !!

انقطعت أفكارها عندما شعرت باهتزاز هاتفها في حقيبة يدها الصغيرة فقامت لتبتعد به تاركةً هانيا وحدها ...
_يارب يطلع هيثم...عايزة أفضفض معاه !
لكنه لم يكن اتصالاً بل رسالة !
رسالة من عاشقها المجهول الذي كادت تنسى أمره بعدما توقف عن إرسال رسائله منذ عدة أيام ...

(لا تخفضي جبينك أبداً...لا تحزني...لا تغاري...لو لم تكوني أنتِ عروس الحفل فتذكري أن هناك رجلاً لا يرى قلبه غيرك عروساً...قوليها لنفسك عشر مرات وابتسمي بعدها عشر بسمات وغنّي بعدها عشر أغنيات واذكريني بعدها ولا يهم العدد!)

تلفتت حولها بدهشة وهي تعيد قراءة الرسالة بأسلوبه المميز مرة بعد مرة ..
هو هنا!
لن يكتب مثل هذه الرسالة إلا لو كان موجوداً هنا !
فمن تراه يكون؟!

وعلى المائدة جلست هانيا وحدها تداعب هاتفها بأناملها بقلق ...رامز لم يأتِ ولم يتصل بها ...هي تعلم أنه غاضب منها منذ تلك الليلة التي رفضت فيها هديته "الفاضحة" ، ورغم أنه يجيب لها مطالبها المعتادة لكن حاجزاً بارداً يرتفع بينهما يوماً بعد يوم .
تفتقده ؟!
كثيراً ...كثيراً جداً...وكم يحنقها هذا الشعور!
يستل منها سيف قوتها ليهوي به تحت قدمي مشاعر لا تريد الاعتراف بها!
لكنه في نفس الوقت ينبت لها جنات بقطوف دانية فهل من العقل أن تبتعد؟!
ومع تساؤلها الأخير حسمت أمرها لتتصل به لكنها ما كادت تفعل حتى تذكرت أن غادة قد ذهبت لزيارة قبر زوجها المتوفى ولم يكن من الصعب استنتاج كيف هي حالتها الآن ...
وبمقارنة عاجلة بين "المهم" و"الأهم" اختارت الاتصال بغادة كي تطمئن عليها ولما فعلت أنهت الاتصال لتجري الآخر الذي لم يعد له قيمة مع سماعها لصوته خلفها:
_يعني تليفونك سليم !
التفتت نحوه بدهشة مشوبة بالرضا لتهتف بنبرتها الآمرة :
_اتأخرت كده ليه ؟! روح سلم على يامن واعتذر له الفرح قرب يخلص!
فالتوت شفتاه بابتسامة عاتبة وهو يفك زرار بدلته ليجلس جوارها متجاهلاً نصف عبارتها الثاني كي يرد على الأول:
_كويس قوي إنك لاحظتِ إني اتأخرت ...كنتِ مستنية كام يوم عشان تفتكري تتصلي تطمني عليّ زي ما اطمنتِ على صاحبتك ؟!
ورغم شعورها بالخزي مما قاله لكن أخذتها العزة بالإثم لتهتف به :
_جرى أيه يا رامز؟! ما عادش ناقص غير إنك تغير من صاحبتي كمان ؟!
رمقها بنظرة طويلة عاتبة فتنهدت بعمق لتشيح بوجهها مردفة:
_كنت لسه هاتصل بيك...صدق أو ما تصدقش بس هي دي الحقيقة !
_ليه؟!
_ليه إيه؟!
_كنتِ هتتصلي بيّ ليه؟!
التفتت نحوه لتجيبه وهي لا تفهم السؤال:
_عشان قلقت عليك لما اتأخرت ...أنا مش فاهمة انت عايز إيه !
_عايز أسمعها ...عايزك تقوليها!
قالها وهو يتناول كفها ولازالت عيناه تحاصرانها بنظراتهما العاتبة والتي لم تكن شيئاً أمام ما تفوه به بعدها:
_اتأخرت عشان كنت بجيبلك ده !
قالها ثم ترك كفها لبضع لحظات استخرج فيها من جيبه خاتماً بسيطاً وضعه في بنصرها ليردف بنبرة مرحة لم تخفِ بقايا عتابه:
_زي النهارده من سنة شفتك أول مرة...واخترت أدخل برجليّ القفص علشان خاطر عيونك...كان ممكن أفضل زعلان والذكرى تتوه في الخناقة بس ماقدرتش ...ممكن أصالحك الليلة دي ونكمل خصامنا بكرة عادي!

ابتسمت رغماً عنها وعيناها تلتمعان بشمس عاطفة تحدت كل ظلمات مخاوفها وحذرها ...
فرفع كفها لشفتيه يقبله هامساً بنبرة تحدّ لذيذة:
_رامز ما بيزهقش...هافضل وراكِ لحد ما تحبيني بالطريقة اللي أنا عايزها ...
ثم خبط جبينها بجبهته بخفة مردفاً:
_الأيام بيننا يا دكتورة !
_رامز ...الناس هتقول علينا إيه ؟!
غمغمت بها بخجل نال من صرامة لهجتها المعهودة فقهقه ضاحكاً ليغيظها بقوله :
_ماتقلقيش ...أنا صلحت غلطتي واتجوزتك من زمان !
عادت تبتسم من جديد وهي تهز رأسها بلا معنى فتنهد ليقول فجأة دون مقدمات:
_ليه ما تتعلميش من صاحبتك؟! مش شايفة كانت بتحب أحمد إزاي؟! دي مش قادرة تعيش من غيره...هتموت نفسها عشا...

قطع عبارته عندما لمح عينيها تتسعان مع حديثه ...تنبضان بألم حقيقي...تصرخان بجزع كاد يسمع صداه ...حتى قبل أن تتمتم :
_وعشان كده مش عايزة !
انفرجت شفتاه وعيناه تتسعان هو الآخر بإدراك لكنها لم تمنحه الفرصة عندما وقفت مكانها لتقول بصوت متحشرج:
_هاشوف خالتو فين .
راقب انصرافها بنظرات ضائقة وهو يشعر بمزيج غريب من المشاعر ...
الآن فقط يتفهم "عقدة الفقد" التي جعلتها تهاب تعلق العشق ...
هذه العقدة التي بدأت بخسارتها والديها ويبدو أن مصاب غادة زاد من ضراوة هذه "الفوبيا" لديها...
لكن...ألا تبالغ قليلاً في هذا؟!
هي ليست أول امرأة تفقد والديها والموت يحصد كل يوم عزيزاً فلماذا تظلمه بنظرتها المعقدة هذه ؟!
زفر بقوة عند الخاطر الأخير ورغماً عنه وجد هاجساً ما يحتل ذهنه بقوة...
ترى لو كانت غادة هي التي أهداها زوجها قميص النوم ذاك اليوم أو هذا الخاتم الذي تعب في انتقائه الليلة كيف كانت لتكون ردة فعلها؟!!
وبدأت المقارنة .....!
=======
وصلت بهما سيارة العرس لبيته الخاص لتتوقف أمام حديقته ...
وبينما ترجل وجدي من سيارته التي توقفت خلفهما ليتوجه نحوهما بخطوات فضحت لهفة قلقه ، اكتفت نبيلة بمباركة متعجرفة دون أن تغادر مكانها في سيارتهما ...

_مبروك يا "سمسمة"...مش محتاج أفكرك باللي قلناه !
قالها وهو يضمها إليه بقوة وكأنه يطارد آخر بقايا "أبوته" معها فابتسمت بتماسكها المعهود لترفع عينيها إليه بقولها:
_ما تقلقش ...انت عارف بنتك ما يتخافش عليها!
التمعت عيناه بحنان متشح بالذنب قبل أن تقسو نظراته نوعاً وهو
يتوجه ليامن بقوله:
_مبروك يا دكتور...مش هاوصيك على ياسمين .
صافحه يامن ببروده الظاهر الذي لم يتكلف فيه وداً فمال الرجل على أذنه ليهمس له بنبرة حملت بعض التهديد:
_لو مش هتشيلها في عنيك...عندي اللي يحطها فوق راسه !
انعقد حاجبا يامن بغضب جعل ياسمين تتوتر نوعاً مكانها وهي لا تدري ما الذي قاله له والدها لكن ابتسامة باردة شقت غيوم هذا الغضب ليقول يامن أخيراً بنبرة من كظم غيظه:
_أنا وهي متفقين على كل حاجة...وأنا عن نفسي مش هاخلف اتفاقي!
عقد وجدي حاجبيه وقد بدت له العبارة غريبة غامضة ...
فيما ظهر بعض الألم على وجه ياسمين التي فهمتها كما أرادها يامن تماماً!!
مجرد اتفاق محدود الأجل!!

هذا هو عمر "الحلم" الذي قبلت تقاضيه...
الحلم الذي سقت بذوره طوال هذه السنوات حتى كادت ترى بعينيها أول أزهاره ..
أو لم تكوني تعلمين يا صغيرة أن الزهور قصيرة العمر؟!

لهذا أخذت نفساً عميقاً لتتدارك الوضع ثم ابتسمت لتقول لوالدها مطمئنة:
_يامن معاه حق ...احنا متفاهمين جداً ...ما تقلقش!
رمقهما الرجل بنظرة قلقة أخيرة قبل أن يومئ برأسه ليقبل ابنته تاركاً إياها لزوجها الذي تأبطت ذراعه لتدلف معه إلى داخل البيت ...
"معركتها الأقوى" التي توشك أن تبدأها ...
بل بدأتها حقاً الآن عندما لم يطق هو صبراً بعدما صفق الباب خلفه بقوة فضحت غضبه ليلتفت نحوها قائلاً من بين أسنانه:
_ودلوقت معاد الحقيقة اللي وعدتِ بيها!

تشبثت أناملها بقماش ثوبها الملون وكأنما تستمد منها دعماً وهمياً من بقايا "الحلم"...
نظراتها تتعلق بما ظهر من بيت عاشت طويلاً تتمنى مشاركته معه ...
ذوقه "الأسود" المميز للمكان بأرائكه الجلدية الأنيقة وطرازه الحديث
الأنيق مع طلاء الجدران ناصع البياض ...
الجدران التي خلت من اللوحات تماماً ك"حياته" التي تعرفها وقد خلت تماماً من "الزينة"!

_ضروري دلوقت؟!
قالتها وهي تدرك عبثية السؤال مع شخصية "موسوسة" مثله تكاد تحترق بفضولها وشكوكها ليجيبها الإجابة المتوقعة:
_حالاً!!
التفتت نحوه لتتفحص ملامحه ببعض الدهشة وقد انتبهت لقسوة حديثة تخصها هي لم تكن في عينيه الحبيبتين من قبل ...لتسأله بتمعن:
_مالك ؟! شكلك زعلان مني .
_واضح إن الحلوة فاهماني قوي!
غيظه الساخر كسا كلماته وجعلها تتنهد بعمق لتشيح بوجهها فاستطرد بغضب أكبر :
_ممكن أقصر أنا عليكِ الطريق وأقوللك افتكرت شفتك فين .

رفرفت رموشها للحظات وكأنما اهتز تماسكها للحظة...
لحظة واحدة سبقت قولها وهي تقترب منه أكثر بينما يردف بنفس الغضب :
_صاحبة الحيّة هتكون إيه غير حية زيها؟! يا ترى هدفك إيه من اللي بتعمليه ؟! فيلم جديد زي فيلم صاحبتك زمان ؟!
دمعت عيناها رغماً عنها وصوته العالي في هذه اللحظة بالذات يبدو أكثر قسوة بكثير مما توقعت ...
لكن دموعها لم تزده إلا جنوناً ووساوس ظنونه ترسم له أبشع السيناريوهات ...
قبضته تمتد لتجذب ذراعها نحوه مع استطراده العاصف:
_انطقي خلاص اللعب بقى على المكشوف ...أنا عرفت كل حاجة!
_مهما عرفت ...ما عرفتش حاجة !

المرارة التي صبغت حروفها ممتزجة بنزف دموعها الحبيسة بعينيها كانت ل"وسواسه" بالمرصاد !
أنفاسها التي تلاحقت وهي منه بهذا القرب ...
جسدها الذي ارتجف رغم محاولتها الواهية للتظاهر بالقوة ...
كل هذا أطفأ حرائق "غضبه" وإن بقي "رماد" الشكوك يحاصر عينيه المتفحصتين لها ...

_تحب أبدأ منين؟!
واللهجة التي نطقتها بها جعلته رغماً عنه يخفف ضغطه على ذراعها وإن لم يستطع أن يبعدها أكثر ...
الآن فقط يفهم سر إحساسه المتناقض نحوها ب"الألفة" و"النفور"!

بينما غامت عيناها بشرود وهي تردف:
_أول مرة شفتك كنت بقرأ في رواية في النادي ...البطل فيها لمس حاجة جوايا وكنت منفعلة جداً لأن المؤلف خلاه خسر كل حاجة...برفع عيني لقيتك قاعد على الترابيزة قدامي...كأنك نسخة منه ...نفس التوتر...نفس الوحدة ...عنيك اللي بتلف وتدور في المكان كأنك حاسس بالغربة...ستايل لبسك الغريب عن اللي في سنك وقتها ...
ثم التوت شفتاها بابتسامة مع قولها:
_حتى نفس الشنب من غير ذقن !

انعقد حاجباه بشدة وهو يحاول تذكر هذا الذي تحكي عنه ...
بينما عادت هي لشرودها بقولها:
_الشنب اللي حلقته بعدها بفترة بسيطة ...غيرت فيها كل حاجة في شكلك ...لكن فضلت صورتك في عيني هي هي اللي شفتها أول مرة ..
الانسان الوحيد اللي حاسس بالغربة...ولأني وقتها كنت شبهك قوي حسيت إني مشدودة ليك...حاولت أكلمك وأتعرف عليك أكتر لكن كل مرة كان كسوفي بيمنعني ...ولما اتجرأت كان الوقت فات ...

ازدرد ريقه بتوتر ولازال ينظر إليها بشك ...
بينما أطرقت هي برأسها لتكمل:

_بسنت ظهرت في الصورة...أي طفل صغير كان هيلاحظ حبك المهووس بيها ...مشيك وراها ...عنيك اللي بتلمع لما بتبص لها ...غيرتك المجنونة لما كنت بتشوفها واقفة مع حد ...مكانش صعب عليّ أعرف إنك بتحبها ...

انزاحت أنامله عن ذراعها دون وعي وهو يود لو يرى عينيها في هذه اللحظة بالذات ...وكأنما قرأت شعوره عندما عاودت رفع رأسها إليه بقولها:
_الطبيعي وقتها كان إني أبعد لكن أنا مع قلبي عمري ما كنت طبيعية...ولأني عارفة بسنت كويس كنت متأكدة إن عمركم ما هتكمللوا مع بعض...عشان كده بدل ما أبعد قربت منها أكتر ...مكانش صعب أبقى واحدة من شلتها ...بس اللي كان صعب بجد هو حبك ليها اللي عشت تفاصيله يوم بيوم ...

ارتعش صوتها في عبارتها الأخيرة فعادت تطرق برأسها أمام عينيه المصدومتين باعترافاتها:
_كل حاجة كنت بعرفها عنك كانت بتقربني منك أكتر ...كل إحساس كنت بتوصفه كان جوايا زيه...إحساسك باليتم ومامتك لسه عايشة كان هو نفس إحساسي مع بابا...شعورك بالغربة وسط الناس اللي بتحاول تتغلب عليه كأنك كنت بتتكلم عني...غصب عني بقيت زي المجنونة بتابع تفاصيلك منها وأحفظها ...بتحب إيه..بتكره إيه...حتى المكان المهجور اللي قلت لها إنك بتحب تروحه لوحدك لما بتبقى زعلان لقيتني
بدور عليه عشان أروحه زيك ...كل كلمة حب قلتهالها ...كل وعد وعدته لها ....كل موقف رجولة عشته معها...كل حاجة رمتها هي تحت رجليها أنا...أنا اللي كنت بحلم بيها !


اختنق صوتها في عبارتها الأخيرة فضم قبضته بقوة جواره للحظات محترماً صمتها قبل أن يرفع ذقنها نحوه بنظرة فقدت غضبها وإن بقيت تحوم حولها الشكوك ...
لكنها بدت وكأنما استنفذت رصيد قوتها كله فتحركت لتعطيه ظهرها قائلة:
_القلم اللي ضربته لها في النادي كان نفسي أضربه لها أنا ...كتير كان بيبقى نفسي أجيلك وأحذرك منها ...لكن كنت أجبن من إني أواجهك...وكمان كان عندي شوية أمل إنها تبطل غباء وتقدر قيمتك...يمكن ما تصدقنيش بس حقيقي مكنتش أتمنى لك جرح زي اللي اتجرحته منها .

ورغم أن جزءاً عميقاً بداخله كان يصدقها ...
لكن وسواس ظنونه جعله يهتف بسخريته السوداء:
_عايزة تفهميني إنك بتحبيني طول السنين دي ؟! امال اتجوزتِ ليه؟!

_ما اتجوزتش غير لما انت سافرت واتجوزت هناك !
قالتها ولازالت تعطيه ظهرها فتحرك ليقف قبالتها هاتفاً بنفس النبرة المتهكمة :
_وأظن هتقوليلي اتطلقتِ لما أنا طلقت مراتي ورجعت؟!
احتضنت جسدها بساعديها وهي تهرب من عينيه بقولها:
_لا ...اتطلقت من قبلها ...وما تسألنيش عن تفاصيل ...أعتقد ده كان اتفاقنا!
همهمة ساخرة كانت جواب عبارتها مع هتافه الذي فضح انفعاله:
_والمفروض أصدق قصة الحب الأفلاطوني العظيمة دي؟!
_لا...مش هتصدقها!
قالتها وهي تقترب منه خطوة لتردف بنبرتها الخبيرة به :
_عمرك ما هتصدق إن في الوقت اللي فقدت فيه ثقتك بكل الستات وبكل الناس ...كان فيه واحدة في الظل حياتها كلها مرتبطة بيك...هتفضل شاكك إن فيه لعبة في الموضوع وإني أكيد بخطط لحاجة...هتراقبني في كل حركة وممكن ما تخلنيش أخرج من البيت ...وبمجرد ما تطمن إنك خلصت من طليقتك هتنهي الجوازة دي .

ربما كان حديثها بهذه النبرة الواثقة عنه ليزيد غيظه في أي وقت آخر ...
لكنه الآن كان يشعر بالكثير من الارتباك ...
هذه الحرارة التي تشع صدقاً بين حروفها تلفحه بشعور لا يريد تصديقه...
لا يريد أن "يؤمن" به...بل ولا يريد أن يمنحه "الأمان"!
لهذا زفر بقوة ليهتف:
_ومادام عارفة كده ...قبلتِ تتجوزيني ليه؟!
_عشان أخف منك يا يامن...أنا مريضة بيك!


هتفت بها فجأة بانفعال مشابه لأول مرة يراها به !!
عيناها تبوحان بألم نال من حيويتها المعهودة فذبلت معه ملامحها بينما تلوح بذراعيها مردفة :
_أنا مش عارفة أعيش حياتي من غير ما اطمن عليك كأنك ابني اللي ما خلفتوش ...يمكن هوسي بيك ده عشان كنت حلم بعيد...
ثم عضت على شفتها لتردف بخيبة :
_يمكن لو قربت منك أكتشف إني كنت غلطانة...يمكن ألاقي إنك ما تستحقش عمري اللي عطلته عشانك.

قالتها ثم توجهت بخطوات سريعة نحو غرفتها التي خصصها له في الطابق الأرضي ...
فوقف مكانه للحظات مبهوتاً وكأنما لا يصدق كل هذا الذي سمعه...
حديث "دقائق" روى له حكاية عمرها "سنوات"...
حكاية لا يصدقها ولا يريد أن يصدقها ...
لكن كيف يفعل؟!
وحديثها قد تغلغل داخل روحه ليمس تلك "الندبة" القديمة التي يخفيها عن العالمين ؟!

_استني!
هتف بها بنفس الحدة قبل أن يندفع بدوره نحوها ليستوقفها عند باب الغرفة بسؤاله:
_امبارح واحنا بنشتري الدبل مارضيتيش نشتري لي دبلة...وقلتِ إنك لبستيني دبلتي من زمان ...عايزة أعرف كان قصدك إيه؟!
تنهدت بحرارة ثم أغمضت عينيها لتجيبه بصوت منهك:
_الليلة اللي اتهجمت فيها على بسنت في النادي خرجت وراك...كنت قلقانة عليك ومتأكدة إنك هتعمل حاجة عكس طبيعتك...يتهيالي انت فاكر رحت فين ليلتها ...لما اتأخرت قلقت عليك ودخلت المكان لقيتك سكران وبتهلوس ...مااعرفش ازاي قدرت أقنعك إنك تخرج معايا...روحتك لشقتك المفروشة اللي كنت قاعد فيها وقتها قبل ما تاخد البيت ده ...والبواب ساعدني أطلعك فوق ...ليلتها وأنا راكبة معاك العربية راسك مالت على الكرسي ونمت...وقتها ما قدرتش أمنع نفسي إني أقلع دبلتي الفضة اللي كنت كاتبة عليها أول حرف من اسمك...ما دخلتش غير في صباعك الصغير...كان كفاية عليّ وقتها أحس إني كنت جنبك وقت ما احتجتني...حتى لو هتصحى مش فاكر أي حاجة !

كانت عيناه تتسعان بذهول مع كل كلمة تحكيها ...
هو يذكر تلك الليلة جيداً ...
يذكر كيف دفعه يأسه ووحدته لذاك الملهى الليلي الذي تناول فيه الخمر لأول وآخر مرة في حياته...
لكنه لا يذكر رؤيتها هناك !
هو استيقظ صبيحة تلك الليلة ليجد نفسه في فراشه وقد أخبره البواب القديم أن امرأة ما هي التي صحبته إلى هنا ...
وقتها تصورها إحدى فتيات الليل اللاتي تعثر بهن هناك ...
لكن ما أثار دهشته تلك الدبلة الفضية التي وجدها في خنصره والتي خلعها ساعتها باشمئزاز لكن طبيعته "الوسواسية" جعلته يحتفظ بها في صندوق متعلقاته الخاص لعله يجد لها نفعاً وقتاً ما !

_كفاية كده النهارده...أنا تعبت...تصبح على خير!
همست بها بإعياء وهي تتجاوزه لتدخل الغرفة التي أغلقت بابها خلفها...
ولا تعلم أنها فتحت له بعدها أبواب ذكريات لم يكن يظنها ستعود لتقهره بكل هذا العنفوان ...

قدماه تقودانه نحو غرفته بالأعلى حيث خلع عنه بدلة العرس ليتوجه نحو خزانة ملابسه التي فتحها ليستخرج منها صندوق متعلقاته الخاص والذي ظل يبحث به حتى وجدها هناك منزوية في الركن...
دبلة فضية بسيطة الهيئة نقش عليها حرف الياء بطريقتها المميزة التي تثني طرفه لتصنع شكل القلب الشهير والذي وجده من قبل مطرزاً على مفارش مطعمها ...
دبلة ظلت قابعة هنا لسنوات شاهدة على ما تزعم هي أنه حب !
حب تريد الشفاء منه ويريد هو ....
هو؟؟؟!
ماذا يريد؟!
تأوه بخفوت وهو يقرب الدبلة من عينيه أكثر وكأنه يحاول بها قهر وساوس شكه...
نفسه تراوده أن يعاود ارتداءها في خنصره ...
حركة بسيطة لا تساوي شيئاً لكنها قد تحمل لها -لو صدقت- اعتذراً عن غفلته عنها طوال هذه السنوات...

لكنه وجد نفسه يعيدها مكانها ليغلق الصندوق بعنف معيداً إياه مكانه !
_جرى إيه يا يامن؟! لسه ما اتعلمتش ؟! كلهم شبه بعض ...اوعى تصدق وتتخدع تاني ...اوعى!!

نصيحته الصارمة لنفسه أعادت لملمة ما بعثرته كلماتها من شظايا روحه ...
فزفر بقوة ليبدل ملابسه مرتدياً منامته السوداء قبل أن يتوجه إلى فراشه الذي استلقى عليه شارداً لساعات حتى أذن الفجر ...
استغفر وقتها بخفوت ثم قام لتأدية صلاته ...
قبل أن تنتابه رغبة خفية في الاطمئنان عليها ...
خطواته تقوده نحو غرفتها التي توقف قليلاً أمامها بتردد قبل أن يفتح بابها بحذر شديد ...
فتحة ضيقة كشفت له جسدها النائم بسلام لكن هذا لم يكن ما أثار دهشته ...
بل هذه "البالونات" الملونة العديدة التي ملأت بها الغرفة حولها لتمنحها مظهراً حيوياً بعيداً تماماً عن طبيعته هو القاتمة ...
هنا لم يستطع منع ابتسامة حنون شقت طريقها وسط عبوس وجهه ...
قبل أن يغلق الباب من جديد بنفس الحذر!
==========



سمية سيمو غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-04-20, 10:25 PM   #1506

سمية سيمو


? العضوٌ??? » 396977
?  التسِجيلٌ » Apr 2017
? مشَارَ?اتْي » 4,356
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
?  نُقآطِيْ » سمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك action
?? ??? ~
keep smiling
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

القطعة السابعة
*************

فتح عينيه ظهراً ليتلفت حوله بدهشة لا يكاد يصدق أحداث ليلته الفائتة...
نظر في ساعة هاتفه ثم عقد حاجبيه بضيق ...إنها المرة الأولى التي يتأخر فيها في الاستيقاظ هكذا ...شيء عادي لكنه مربك لشخص مثله !
لهذا انتفض من فراشه ليتوجه نحو الحمام المرفق بغرفته ...
طقوسه اليومية كالعادة لا تتغير ...
ابتداء من تهذيب لحيته بدقة ...مروراً باستحمامه على مرتين ...إحداهما بنوع خاص من الصابون المطهر...وانتهاء بغسيل أسنانه بضع مرات مع استعمال الخيط الطبي !
هبط الدرج بخطوات سريعة نحو غرفتها لكنه سمع صوت حركتها في المطبخ فتوجه إليه ...
عيناه تضيقان بتفحص وهو يتابع ما تفعله بينما هي غافلة عنه...
شعرها الذي يراه لأول مرة ...لم يكن شديد الكثافة كشعره لكنه كان مميزاً بحيويته حتى مع قصره ...
ورغم أنفته من لونه الأشقر لكن به شيئاً مميزاً جعله يحب رؤيته وهو يحيط بوجهها هكذا ...
ملامحها كانت تبدو مرتاحة منهمكة فيما تفعله باهتمام ذكره بنفسه عندما يعمل ...

تفاصيل جسدها الضئيل فقير الأنوثة كانت مخفية داخل منامتها الواسعة طويلة الأكمام بلون أصفر هادئ...
وجوارها تنبعث موسيقا مبهجة بلحن غربي لا يعرفه ولا يريد أن يفعل ...
فالموسيقا في عرفه شرقية الكينونة شرقية السحر شرقية
الأثر مهما استمع لسواها ...

_صباح الخير!
قالتها بابتسامة هادئة وهي تنتبه إليه أخيراً ...
ابتسامة وجدها تنتقل إليه عفوياً وهو يرد لها تحيتها قبل أن تسأله باهتمام دافئ:
_نمت كويس؟!

تباً لهذا الحنان الصادق الذي يشعر به بين حروفها !!
إلى هذه اللحظة لا يكاد يتصور حجم هذه العاطفة التي ظلت تكنها له طوال هذه السنوات ...
لكنه لن ينجذب لصراع شكوكه هذا من جديد ...
اتفاقهما كان واضحاً من البداية ...مجرد صفقة زواج.. ولن تزل قدماه في معارك جانبية مهما كان!
لهذا ارتسمت على شفتيه ابتسامته الساخرة كالعادة مع قوله وهو يشبك ساعديه أمام صدره:
_مش هنام كويس ليه ؟! بيتي وسريري اللي بنام عليهم كل يوم ...المفروض أسألك انتِ السؤال ده !

ورغم سخافة لهجته لكنها ابتسمت وهي تقول بنفس الحنان الخبير بثغراته:
_أراهن إنك فضلت سهران طول الليل تفكر في اللي قلته.

_العيشة في لندن علمتني إني ما أشغلش بالي بكل حاجة...الأهم
فالمهم.
قالها كاذباً وهو يتحرك ليفتح باب الثلاجة عندما سمع صوتها خلفه:
_لسه بتحب القهوة سادة قبل الفطار؟!

التفت نحوها بحدة وسؤالها البسيط يصيبه بسهم ارتباك لم يخطئه!
هو "رجل التفاصيل" الذي اعتاد الاهتمام بدقائق كل من حوله ..
لكنه لم يصادف يوماً من يهتم لتفاصيله هو!
هذا الشعور الغريب الذي جعل جسده يتوتر قليلاً خاصة مع استطرادها ببساطة :
_ما بحبش القهوة بس اتعلمت طريقتها مظبوط ...يارب تعجبك !

قالتها وهي تشير له نحو مائدة المطبخ المستديرة أمام نافذته المطلة على حديقة البيت حيث أعدت الفطور ...
أغلق باب الثلاجة خلفه وكأنه نسي لماذا فتحها من الأصل ليجلس على أحد كرسيّي المائدة متجاهلاً قولها مع سؤاله:
_فين بقية الكراسي ؟!
_طلعتهم بره...مش محتاجين غير اتنين بس ...ليه نضيق المكان؟!


أجابته بنفس الابتسامة البسيطة وهي تجلس على الكرسي قبالته فانعقد حاجباه بفظاظة لم يقصدها ليهتف:
_ما بحبش أغير نظام أي حاجة في بيتي .
_عارفة ...بس أنا كمان ما بعرفش أشتغل في مكان زحمة...سيبلي المطبخ بس أتصرف فيه براحتي!

كاد يهتف بها معترضاً بحدته المعهودة لكن شيئاً ما بداخله جعله يقبل التنازل هذه المرة ...
شيئاً كافأته هي بابتسامتها الرائقة وهي تتحاشى النظر نحوه بقولها :
_دوق القهوة وقل رأيك...الوش كده مظبوط؟!
تناول الفنجان الصغير أمامه ليرتشف منه رشفة سبقت قوله المقتضب:
_كويسة!
لكنها لم تبدُ مستاءة من فظاظته بل بدأت في صنع شطيرتها قائلة:
_أنا بقى ما بحبش القهوة أبداً...بعشق الحاجات المسكرة...المربى والشيكولاتة إدمان ...عشان كده بحافظ على أسناني موت ...لو سبت نفسي هتلاقيني مقيمة عندك في العيادة!

لهجتها كانت شديدة الحيوية بعيدة تماماً عن الشجن المغلف بالمرارة الذي كساها ليلة أمس ...مما دفعه لتفحصها قبل أن يقول :
_اللي يشوفك امبارح ما يشوفكيش النهارده!
لم يكد يتفوه بها حتى انتبه لفظاظتها مما أشعره ببعض الندم الذي جعله يردف:
_واضح إنك مزاجية قوي!

لكنها تنهدت بحرارة لتجيبه ولازالت لا تنظر نحوه:
_أنا اتعودت أبص لنص الكوباية المليان...آخد من الدنيا اللي تديهولي وأنا راضية ...أعيش الحلم للآخر بعيون مفتوحة...لو كنت سلمت للخسارة كان الحزن قتلني من زمان ...ليلة امبارح أنا مسكت حلمي بإيدي حتى ولو كان في نظرك مجرد تمثيل.

مست عبارتها قلبه كما لم يفعل به حديث من قبل !

مزيج القوة والوهن الذي يحيط بها هذا يربكه ...يجعله غير قادر على السيطرة على إحساسه نحوها ...

هو اعتاد أن يرى للمرأة وجهاً واحداً يعاملها على أساسه ...
إما "قوة" تستوجب منه الحزم كما فعل مع سيلين و نبيلة أحياناً...
وإما "ضعفاً " يستنفر احتواءه وحمائيته كعهده مع بنات خالته ...
لكن هذه المرأة أمامه تذهله بصفات لم يصدق يوماً أن تجتمع في امرأة !
تعترف بحبها دون تحفظ لكنها تخبره أنها راضية بالانسحاب في أي وقت!
تخفي عنه مرارة حزنها التي يقرأها في عينيها وتتشبث بابتسامة لم يرَ في حياته أنقى منها !
هذه المرأة إما ممثلة قديرة وإما ملاكٌ لم تلوثه قسوة بشر!

_إيه حكايتك مع البالونات؟!
سألها وهو يتذكر ليلة الأمس فاتسعت ابتسامتها وهي تتشاغل عنه بصنع شطيرتها مجيبة:

_عادة قديمة علمتهالي ماما الله يرحمها ...لما كانت تشوفني زعلانة كانت تقعد جنبي تنفخ لي بلالين كتير ملونة تملا لي بها المكان وتقوللي إن سعادتنا احنا اللي بنعملها...نصيحة فادتني كتير ...قوي.
لم تخفَ عليه حشرجة صوتها في عبارتها الأخيرة فازداد توتره وهو يعاود ارتشاف قهوته تاركاً لها مساحتها الخاصة مع الذكريات التي شعر بغزوها لمخيلتها ...
قبل أن يسمعها تردف بشرود:
_ماما اتوفت في فترة صعبة جداً عليّ...وقتها كنت انت سافرت وسمعت إنك مش ناوي ترجع...فجأة حسيت إن الدنيا فضيت حواليا..حتى بعد ما بابا رجع ...ساعتها جربت إحساس الغربة اللي انت كنت عايش فيه ...الأماكن هي هي...والناس هم هم بس انت اللي ناقصك حاجة مش عارفها ...جزء جواك اتغير ومش قادر ترجعه...يمكن ده اللي خلاني وافقت اتجوز...
انقطعت عبارتها فجأة وهي تغمض عينيها بألم لم يخفَ على عينيه الثاقبتين وكأن هذه الذكرى بالذات تبقى مرارتها عصيّة على نسيان امرأة بقوتها !
لهذا لم يتعجب عندما عاودت فتح عينيها بعدها بثوانٍ لتغير الموضوع وهي تشيح بوجهها نحو النافذة بقولها :
_الجنينة بتاعتك حلوة قوي...الحاجة الوحيدة الملونة وسط سواد البيت كله !
استجاب لرغبتها في تغيير الموضوع فتنحنح ليرد :
_أول حاجة اشترطتها في البيت هنا...أبويا الله يرحمه كان دايماً يقول بيت من غير زرع مافيهوش روح!
_الحاج عبد الرحيم كان عنده ذوق عالي!

قالتها ضاحكة ببساطة انتقلت منها إليه ليبتسم بحنين مغمغماً:
_الله يرحمه كان كل حاجة عنده بحساب!
التمعت نظراتها بعاطفتها وقد التقت عيناها بعينيه أخيراً -لأول مرة- منذ بدأ الحوار ...
لقاءٌ قصير لكنه كان مفعماً بمشاعر متباينة من كليهما ...
عشقها الهادر في عينيها لم يكن يحتاج لتأويل ...
لكن "شكّه الحائر" في عينيه كان يعدها بالأسوأ ...
لهذا كانت هي أول من قطعت هذا اللقاء بين عينيهما بقولها مطرقة الرأس من جديد:
_احنا من بره عكس بعض في كل حاجة تقريباً...رغم اننا نشبه بعض قوي من جوه...الحاجة الوحيدة اللي بتفضح الشبه ده هي عنينا...تفتكر صدفة إنهم يكونوا نفس اللون؟!

اتسعت عيناه قليلاً من ملاحظتها ثم ابتسم ابتسامة شاحبة ليتجاوز عن هذا بقوله:
_ماما والبنات جايين يزورونا النهارده بالليل بعد العيادة .
_هتروح العيادة النهارده؟!

سؤالها كان للتقرير أقرب منه للاستفهام...
ومن مثلها يتفهم حرصه على ثوابت عاداته ؟!
لهذا أومأ برأسه ليغمغم بما يشبه الاعتذار:
_الفترة اللي فاتت غبت عنها كتير...ما بحبش اللخبطة.
لكنها ابتسمت بتفهم لترد:
_مفيش مشكلة...أنا كمان هروح المطعم!

ظهر بعض الضيق على ملامحه فاتسعت ابتسامتها وهي ترتكز على ساعديها لتقول بنفس التفهم:
_لو مش عايزني أروح معنديش مانع...فيه أكتر من حد يحل محلي...بس الحقيقة وجودي هناك بيفرق معايا ...بحس إني بتنفس وسط حاجة بحبها وناجحة فيها .

هنا كان دور -التنازل الثاني- الذي لم يدرِ كيف منحه لها بهذه البساطة رغم سلطان وساوسه ليجد نفسه يقول باقتضاب:
_ماشي!
_كده فتحت نفسي...أفطر بقى بمزاج!
قالتها بنبرتها الحيوية وهي تبدأ في تناول شطيرتها فارتسمت على شفتيه ابتسامة حانية وهو يراقبها باستمتاع هزم -مؤقتاً- وساوسه بشأنها ...
ورغم غرابة موقفهما الذي لا يعرف أحداً قد عاشه من قبل ...
لكنه يشعر معها بألفة غريبة وكأنه يعرفها منذ زمن ...
"عروس البحر"،"عاشقة البالونات"،"امرأة الفوضى"
آه من سحر "ألقابها" على رجل مثله لم يعد يعترف سوى باللون الأسود ولم يبقَ لديه إيمانٌ بالأساطير!
========
_شغل إيه اللي أجيبه لصاحبتك معايا؟! انتِ فاكراني مدير الشركة؟!
قالها رامز باستنكار على الهاتف وهو يجلس في مكتبه بالشركة ...
ويبدو أن الرد الذي تلقاه من هانيا زاد غيظه ليهتف:
_يوووووه نفس الاسطوانة مابتزهقيش ؟!...كل شوية تقوليلي أنا السبب في اللي حصل لها!

صمت قليلاً بعدها يستمع قبل أن يهتف بنفاد صبر:
_اقفلي دلوقت يا هانيا ...مش فاضي...لما أرجع نتفاهم!

قالها ثم أغلق الاتصال ببعض العنف وهو يشعر بالحنق ...
صحيحٌ أنه يريد -وبشدة- مساعدة البائسة غادة التي تتدهور حالتها يوماً بعد يوم ...
لكنه لا يحب هذا الانغماس الكامل لها في حياتهما التي ما عادت تخلو منها ...
هي تشاركهما الطعام والإقامة...بل ومؤخراً تصر هانيا أن تشاركهما النزهات كي تخفف عنها ...
ورغم أن والدته نبهتها أكثر من مرة أنها غير راضية عن وجود غادة في نفس البيت ولا عن اندماجها المبالغ فيه هذا بينهما ...
لكن هانيا "العنيدة" لم تزددْ بهذه النصيحة إلا عناداً ...
وها هي ذي تطلب منه أن يبحث لها عن وظيفة معه ...
هذا ما كان ينقصه!!
هو لا يضيق بغادة نفسها ...على العكس هو يحترمها كثيراً ويشفق عليها ...
لكنه صار يكره هذه المقارنة العفوية التي يجريها عقله بينها وبين زوجته كلما اجتمعتا معه في مكان ...

رقتها الفطرية أمام خشونة هانيا و شخصيتها المحبة للسيطرة على
الأمور..

طبيعتها العاطفية التي تظهر في أقل اللمسات أمام طبيعة هانيا الجافة الكارهة للتعبير عن مشاعرها بالكلمات ...
أنوثتها الطاغية حتى وسط السواد الذي ترتديه أمام ترفع زوجته عن هذه "الشكليات الفارغة"!
زفر بقوة عند الخاطر الأخير وهو يشعر بخطورة أفكاره التي تسحبه لجرف شديد الانحدار لا يريد السقوط فيه ...
عندما سمع هتافها أمامه:
_متنرفز ليه ؟! المدام مزعلاك ؟!
عاد يزفر بحنق وهو ينظر لزميلته في المكتب والتي يبدو أنها سمعت حواره مع زوجته فهتف بحدة:
_يارا...خليكِ في حالك ...أنا مش ناقص!
لكن حدته لم تمنع اقترابها بخطوات متغنجة من مكتبه لتميل عليه بجذعها قائلة بدلال:
_وعشان كده جتلك...ماوحشكش الذي مضى؟!
انتهت عبارتها بغمزة لعوب فأشاح بوجهه بينما هي تستغل كل أسلحة أنوثتها لتغويه:
_واضح إن الدكتورة مضايقاك...تيجي نخرج النهارده سوا ووعد أنسيك الزعل كله .
فهب واقفاً ليهتف بها بانفعال:

_ما تصطاديش في المية العكرة ...اللي بيننا كان مجرد "ترويش" وراح لحاله...أنا دلوقت متجوز وبحب مراتي!
لكن إصراره لم يزدها إلا عناداً وعيناها تتشبثان بعينيه مع همسها المغوي:
_انت عارف كويس إنت كنت عندي إيه ...ولسه شعوري ما اتغيرش ...صدقني حاولت بس ما قدرتش!
أبعد عينيه عنها وهو يشعر بانفعالاته تكاد تخرجه عن شعوره ...بل خرج فعلاً عندما سمع عبارتها بعدها:
_مستعدة أكون زوجة تانية... وفي السر كمان !
_انتِ اتجننتِ؟! إزاي تفكري تعرضي عليّ حاجة زي دي أصلاً؟!
هتف بها بحنق وهو يبتعد عنها بضع خطوات قبل أن ينتبه لارتفاع صوته الذي أجفلها لتنكمش مكانها ...
فزفر بقوة ليعطيها ظهره مردفاً بصوت أكثر انخفاضاً:
_اخرجي دلوقت يا يارا وأنا هانسى اللي قلتيه دلوقت ...هاعتبر نفسي ما سمعتش حاجة !
لكنه شعر باقترابها منه مع همسها الحار:
_بس أنا مش قادرة أنسى يا رامز ...أنا عارفة إنك ما وعدتنيش زمان بحاجة بس أنا فعلاً حبيتك !
خبط قبضته في الجدار أمامه بقوة محاولاً كتم انفعاله وهو يكز على أسنانه مكتفياً بالصمت ...
ليسمع صوت ارتطام شيء معدني بزجاج مكتبه والذي جعله يلتفت نحوه عندما سمعها تردف:
_لو غيرت رأيك مفتاح شقتي أهه !
اتسعت عيناه باستنكار مصدوم بينما هي تغلق سحاب حقيبتها لترمقه بنظرة عاصفة سبقت مغادرتها المهرولة للمكان ...

_يا مجنونة!! هي حصلت كده؟!
غمغم بها بذهول وهو لا يصدق جرأة حركتها الأخيرة !
لكنه عاد يفكر أنها لم تتجرأ لمحادثته هكذا بعد زواجه إلا بعدما سمعت شجاره مع هانيا ...
وكأنها كانت تنتظر الفرصة لتعاود الالتفاف حوله !
هز رأسه بحنق وهو يتناول المفتاح الذي تركته ليلقيه في سلة المهملات جواره قبل أن يأخذ نفساً عميقاً ليفكر ...
ويبدو أنه قد أخذ قراراً ما بعدها فقد التمعت عيناه بتحدٍّ ليهمس لنفسه:
_ماشي يا دكتورة...لما نشوف آخرتها معاكِ !
قالها ثم عدل وضع ملابسه ليتجه بخطوات ثابتة نحو مكتب مديره الذي خرج منه بعد دقائق ومعه "شبه موافقة"...
على ماذا؟!
على عمل غادة هنا في وظيفة بسيطة بالشركة !!
========
_ما لبستيش الفستان اللي جابتهولك نبيلة هدية ليه ؟!
سألها بدهشة وهو يراها تخرج من غرفتها قبل موعد وصول الجميع بقليل ...
ترتدي ثوباً طويلاً بكُمّين متسعين ينتهيان بإسورتين ضيقتين بلون أزرق فاتح ...

ورغم أن هذا التصميم منح جسدها الضئيل بعض الحجم الخادع لكنه يعلم أن أمه ستضيق كثيراً برفضها ارتداء هديتها ...
_مابحبش ألبس حاجة عريانة!
قالتها مفسرة وعيناها تحيدان عن عينيه المتفحصتين فانعقد حاجباه ببعض التفهم وهو يسترجع تصميم الثوب الذي أهدته لها أمه ...
فضيحة!!
هذا هو الوصف المبسط له مع قماشه الشفاف وتصميمه الكاشف ...
ورغم أن جزءاً من "شغفه الرجوليّ" كان يتمنى رؤيتها به لكنه شعر
بالكثير من الارتياح الذي لم يفهم سببه لما فعلته...
هذا الارتياح الذي حولته وساوسه للكثير من الشكوك وهو يسترجع ما ذكره دكتور التجميل ذاك اليوم ...
ألهذا علاقة برفضها ارتداء الملابس العارية حتى هنا في بيته؟!
هل جسدها مشوه مثلاً؟!!
والخاطر الأخير أصابه بالكثير من الارتباك والضيق فزفر بقوة لتردف هي بسرعة:
_أرجوك ما تتضايقش...أنا ما أقصدش أبان قليلة الذوق بس ...دي طبيعتي من زمان !
ظل يرمقها بنظرة متفحصة ضائقة عندما رن الجرس ليعلن وصولهن .

استقبالٌ دافئ كفلته ياسمين بابتسامتها الرائقة ومرحها المعهود الذي شاركتها فيه رانيا على استحياء ...
بينما حافظت هانيا على تحفظها المعهود ...

أما داليا فقد رمقتها بنظرة حقود وهي تلاحظ عيني يامن اللتين لم تفارقانها حتى عندما غادرت نحو المطبخ لتحضر لهن طبق الفاكهة الذي عادت به لتضعه أمامهن قبل أن تشرع في تقطيع ثمرة تفاح ليامن ...

حركة عادية لكنها مسته بدفئها وهو يشعر باهتمامها في شيء بسيط كهذا !
عيناه تلتمعان لمعة خاطفة غفلت هي عنها وهي منهمكة في تقطيع شرائح التفاح لكن داليا انتبهت لها جيداً لتهتف بنبرة مغتاظة:
_ما تتعبيش نفسك...يامن موسوس ما بيحبش حد يمد إيده في أكله !
فاتسعت عيناها بإدراك قبل أن تغمغم له معتذرة:
_ما خدتش بالي.
لكنه رمق داليا بنظرة ضائقة ليرد عليها -عملياً -وهو يأخذ الطبق من زوجته ليتناول إحدى شرائح التفاح !
مطت داليا شفتيها باستياء قبل أن تعاود هجومها السخيف:
_ما لبستيش فستان بيللا ليه؟! مش عاجبك ذوقها؟! واللا مش لايق عليكِ؟!

كانت ضربة موفقة منها حيث كسا السخط وجه بيللا التي نظرت لياسمين تنتظر إجابتها لكن الرد وصلها من يامن الذي قال بصرامة:
_أنا اللي ماخليتهاش تلبسه...ما بحبش مراتي تلبس مكشوف حتى لو قدام ستات .
_سيلين كانت بتلبس أسوأ من كده وكانت مراتك برضه!
هتفت بها داليا بتحدٍّ غير قابلة للخسارة في موقف كهذا ليرد هو بنفس الصرامة:
_ده من أسباب إني طلقتها!
_طب خدي بالك بقى ...يامن شكله بيزهق بسرعة !
قالتها مخاطبة ياسمين التي احمر وجهها بانفعال وقد عجزت عن الرد مما جرأ داليا لتردف بنفس النبرة المتحدية:
_بالمناسبة ...شفت رامي طليقك النهارده في النادي...الظاهر الرجالة كلهم بيزهقوا بسرعة!

لم يغفل هو عن ارتجافة شفتيها عندما ذكرت داليا الاسم فمد أنامله ليمسك كفها جواره ...
انقبضت أناملها بتلك الحركة "النافرة" التي يبغضها لكنه لم يستسلم ...
بل أبقى كفها بقبضته بينما يمسد ظاهره بإبهامه وهو يرمق داليا بنظرة مشتعلة قائلاً:
_هم بيعلموكِ في الكلية قلة الأدب واللا قلة الذوق؟! لما تقعدي في بيت تحترمي صاحبته !

شحب وجه داليا التي وجدت الجميع ينظرون إليها بغضب فانكمشت مكانها مجبورة وقد شعرت لتوها أنها تجاوزت الحدود لتتمتم :
_ما قصدتش حاجة !
كاد يامن يقذفها بعبارة زاجرة أخرى لولا أن شعر بارتخاء قبضتها في أنامله تدريجياً حتى استسلمت له تماماً...
هذه الحركة التي كان لها أثر غريب على نفسه لم يدرك مبعثه...لكنه أعجبه !
لهذا حافظ على تمسيد ظاهر كفها بإبهامه للحظات حتى شعر باستكانة أناملها المتشنجة والتي حافظ على احتضانها طوال تناولهم العشاء ...
لماذا؟!
حفاظاً على صورة زواجهما الخادعة ...وماذا أيضاً؟!
ردعاً لداليا كي تكف عن مضايقتها ...
لا ...لا تخدع نفسك يا رجل!
هي استنفرت حميتك لأجلها ...لم تعد المطاردة الغامضة التي تثير وساوسك ...بل العاشقة الصامتة التي تشبع طول اشتياقك لعاطفة !
لا...خطأ!
هل ستلدغ من هذا الجحر من جديد ؟!
تحبك أو لا تحبك هذه مشكلتها هي ...ابقَ أنت في صومعتك فلم يعد في القلب متسع لجرح آخر!

_فرحك امتى يا رانيا؟!
قاطعت بسؤالها الودود أفكاره فانتبه إليها عندما أجابتها ابنة
خالته بود :
_بعد أسبوعين.
_لو احتجتِ حاجة أنا تحت أمرك ...أنا متأكدة إنك هتكوني أجمل عروسة .
ابتسمت رانيا بارتباكها المعهود فيما انتقلت ياسمين لحماتها لتقول بنفس النبرة الودود:
_نجمتنا ما بتاكلش ليه ؟! تعرفي إن حضرتك أجمل بكتير من الصور ؟!..من يوم ما قابلتك في الحفلة وأنا بتمنى لما أكبر أفضل محتفظة بحيويتي زيك!

التوت شفتا يامن بابتسامة راضية وهو يراها تسمع أمه ما تود سماعه تماماً ...
لهذا لم يتعجب عندما بشت لها نبيلة وقد تناست تماماً قصة الثوب الذي لم ترتدِه لترد بكبرياء لم يخلُ من رضا:
_انتِ فعلاً زيي...من النوع اللي ما يبانش عليه سن أبداً!
ضحكت ياسمين ضحكتها الصافية وهي تلتفت نحو هانيا بقولها:
_دكتورة هانيا كمان مش بتاكل...اوعي تكون رسالة الماجستير بتاعتك عن السمنة وبتطبقي هنا !

ضحكت هانيا لمحاولتها الواضحة لفتح باب حوار معها والذي امتد لبضع دقائق قبل أن تقطعه داليا بقولها النزق:
_وأنا مش هتطمني إني باكل...ولا مش فارقة معاكِ؟!
عاد يامن يرمق داليا بنظرة زاجرة لكن ياسمين كظمت غيظها لترد ببشاشة:
_ودي تيجي برضه؟! أنا بس سايبة آخر العنقود للآخر عشان ندلعها براحتنا!
ابتلعت داليا لسانها وهي ترى نفسها قد عجزت عن استفزازها بينما تبادلت هانيا ونبيلة نظرات راضية وهما تلاحظان كف يامن الذي لم يترك كف زوجته حتى وهو يتناول الطعام...
ملاحظة بسيطة لكنها تعني الكثير لرجل مثله !
======
لم يكد يغلق الباب خلفهن حتى تنفس الصعداء ليلتفت نحوها بقوله :
_عدّت على خير!
قالها ولا يزال يشعر بالرضا من استكانة أناملها في كفه الذي ظل محتضناً كفها إلى الآن ...
هل حسد نفسه؟!
يبدو هذا ...فها هي ذي تسحب يدها منه بارتباك غافلة عن أفكاره لتسأله باهتمام:
_كنت قلقان من إيه؟!
تجاهل ملحوظته الأخيرة ليجيبها باقتضاب:
_عيلتي صعبة...كل واحدة فيهم دماغ شكل ...كان يهمني كلهم يصدقوا إننا مبسوطين سوا ...لو هم صدقوا سيلين هتصدق!
فارتسمت على شفتيها ابتسامة شاحبة لتطرق برأسها قائلة:
_أول مرة أبقى محتارة في حاجة تخصك...يا ترى كنت صح لما طاوعتك على فكرتك دي؟!
_هترجعي في كلامك؟!
هتف بها بحدة ووساوس ظنونه تعاود نسج خيالاتها في رأسه لكنها تنهدت بحرارة لتجيبه:
_لا ...بس خايفة إنت تندم .
_ما تخافيش...في دي بالذات مش هاندم!
قالها بحزم غاضب فأشاحت بوجهها لتتوجه نحو غرفتها قائلة بنبرة ضائقة:
_تصبح على خير!
لكنه زفر بقوة وهو يستوقفها بسؤاله:
_انتِ مستنية إيه من الجوازة دي؟! ممكن أعرف؟!

ظلت واقفة مكانها للحظات تعطيه ظهرها وكأن السؤال فاجأها لكن الحقيقة أنه لم يكن كذلك ...
فقد كانت تفهم أن طبيعته الوسواسية لن تقبل العشق تفسيراً لما تفعله ...لهذا آثرت الصمت بينما هو يقترب ليواجهها بقوله:
_مابحبش أوعد حد بحاجة وماأوفيش بيها...وأنا عمري ما هاثق في ست أكمل معاها حياتي .

لا يدري لماذا يقول لها هذا الآن!
وهل يقولها لها حقاً أم ل-نفسه- ؟!
هل خشي أن يلج هذا الباب من جديد ؟!
هل خشي أن يصدق مشاعرها الصارخة نحوه ؟!
هل خشي خذلانه لها أم يخشى خذلانها له ؟!
لكن الغريب أنها تفهمت عبارته تماماً رغم الألم الذي افترش عينيها العاشقتين ...
فارتسمت على شفتيها ابتسامة باهتة وهي تتحاشى النظر نحوه قائلة:
_وإيه الجديد؟! ما تخافش أنا فاكرة اتفاقنا كويس!

عقد حاجبيه بضيق وهو يراها تبتعد بعد عبارتها وكأنه ود لو يستبقيها ...
الحنان المتراقص في عينيها يلوح له بالكأس الممتلئ وهو الظمآن الذي أرهقه التعب ...
لكنه لا يستطيع الاقتراب ...
قدماه مغروزتان في بحر من رمال متحركة تكاد تبتلعه ...
رمال اسمها "الشك"!!
وعند خاطره الأخير تنهد بحرارة لتقع عيناه على طبق الفاكهة التي قطعتها له ...
اقترب منه والابتسامة تشق طريقها نحو شفتيه ...
ورغم أن لون التفاح كان قد تغير قليلاً بعد هذه المدة وما كان هو ليأكله في حالته هذه في الظروف العادية ...
لكنه ضبط نفسه متلبساً بإمساك ما بقي من شرائحه ليتناولها ببطء مستمتع ...
قطعته...صرخة!!!!

صرختها العالية التي جعلته لا يدرك كيف ترك ما في يده فجأة ليكون بعد ثوانٍ في غرفتها ...
_فيه إيه؟!
هتف بها بسرعة قبل أن ينتبه للطائر الصغير الذي يرفرف مذعوراً بين جدران الغرفة والذي يبدو أنه قد دخل من نافذة غرفتها المطلة على الحديقة ...
وقف للحظات مرتبكاً لا يدري كيف يقنعه بالخروج لكن الطائر خرج من تلقاء نفسه بعد عدة محاولات للدوران في الغرفة !
ولم يكد يخرج حتى أغلق هو النافذة خلفه ليهتف بها بسخريته المعهودة:
_وعاملالي رومانسية وسينابون وبلالين وحركات ...وفي الآخر خايفة من عصفورة ؟!

ابتسمت لتكون ابتسامتها مع تورد وجنتيها المنفعلتين في هذه اللحظة سهماً جديداً من سهامها الصائبة نحو قلبه ...
ذاك الذي لم يرد الاعتراف به وهو يشيح بوجهه فتوجهت نحو الفراش لتجلس عليه قائلة بحرج:
_آسفة لو خضيتك...غصب عني صرخت لما لقيتها !
لكنه تجاهل اعتذارها و-مشاعره قبله-ليهتف باستنكار:
_ودي إيه بقى؟!
قالها وهو يتقدم بدوره نحو فراشها بينما يشير لحلقة دائرية كبيرة علقتها في السقف وقد تداخلت بها الكثير من الخيوط المتشابكة بينما تدلت منها بعض الحلي المعدنية والقليل من الريش!
فضحكت وهي تجيبه ببساطة بينما ترفع غطاءها عليها :
_معقول ما تعرفهاش ؟! دي مكسرة الدنيا من ساعة ما ظهرت في المسلسل التركي...مسّاكة أحلام ...
dream catcher
ابتسم ساخراً ليفاجئها بأن قفز فجأة فوق السرير ليمد ذراعيه فينتزعها من مكانها بينما يهتف :
_وعلقتيها إزاي دي يا "نخلة"؟!

أصدرت صيحة استنكار عالية لم يدرِ هل كانت لانتزاعه تميمتها أم لسخريته من قصر قامتها ...
لكنه لم يكترث وقتها على أي حال!
فقط ألقى ما بيده بعيداً قبل أن يجثو على ركبتيه علي السرير جوارها ملتقطاً نظراتها الساخطة بقوله:
_ما بحبش التقاليع !
عقدت حاجبيها بضيق وهي تهتف بنبرتها الحيوية:
_دي ثقافة هندية ...الخيوط المتشابكة جوه الحلقة دي بتحبس الكوابيس جواها لحد ما ييجي نور الشمس ويمحيها خالص...والريش والزينة اللي جنبه بتجذب الأحلام الحلوة ...اعتبرها رسالة للعقل الباطن عشان اللي بيخافوا يناموا لوحدهم زيي!
ورغم وميض الإعجاب الذي طغا على نظراته لكنه عاد يهتف بنفس الخشونة:
_هندي وتركي ؟! ماشاء الله !!لا يا حلوة ماليش فيه ...لو خايفة قولي
الأذكار قبل ما تنامي ...
أشاحت بوجهها في ضيق فاستطرد بنبرة أكثر رفقاً خالطها بعض المكر:
_ولو على النوم لوحدك ما حدش غصبك...ممكن اسمح لك تطلعي تنامي فوق معايا في أوضتي!
احمر وجهها خجلاً ليمنح جمالها لذة خاصة مع تلك الابتسامة التي لونت شفتيها مصاحبة لهمسها الخفيض:
_لأ خلاص...حافظة الأذكار هاقولها!

ظل ينظر إليها للحظات مأخوذاً لينتبه أنها لازالت تهرب من لقاء عينيه فتنحنح بخشونة ليغادر الفراش منزلاً قدميه إلى الأرض مع قوله :
_الوقت اتأخر جداً...ما اتعودتش أسهر كده ...تصبحي على خير!
قالها ثم توجه نحو باب الغرفة ليتوقف قليلاً هناك قبل أن يسألها بتردد:
_تحبي أصحيكِ تصلي معايا الفجر؟!
_ياريت!

قالتها بنبرتها التي عادت إليها حيويتها بعد ابتعاده ليدرك كم يثير قربه منها ارتباكها ...
هذا الإدراك الذي لا يدري هل يثير ضيقه أم فخره ..
لكنه أومأ لها برأسه على أي حال ليغادر ويغلق الباب خلفه ...
=======
شعر بالأرق وهو يتقلب على فراشه بعد عمل يوم شاق حاول فيه تجاهل التفكير فيها ...
لا يدري كيف ولا متى أربكت كل حياته هكذا ليجدها تحتل عقله ...
قهوتها الصباحية يشعر وكأنه يشربها منذ زمن وليس منذ ثلاثة أيام فقط...
ثرثرتها اللذيذة بنبرتها الحيوية التي تجيد بها التعبير عن حماستها تجاه كل ما تعتقده ...
طعامه الذي تعده بنفسها رغم التزامها بالعمل في مطعمها والذي تختار له كل يوم أصنافاً مختلفة ...
وعندما أخبرها بفظاظته الساخرة أنها تفعلها "استعراضاً" لعضلاتها في مهارة الطهي أجابته ببساطة رغم ألم عينيها:

(عايزة ألحق أدوّقك كل أكلة بعرف أعملها قبل ما نسيب بعض)

هذه العبارة التي ظلت تتردد بداخله فلا يدري هل منحته بعض الطمأنينة وهو الخائف من "تورطه" بها أكثر...
أم وخزت قلبه بضيق لم يعرف سببه ...وإن فسره بأنه كره أن يسبب لها هذا الألم الذي "تدعيه"!
تدعيه؟!
وهل هي حقاً تدعيه؟!
تنهد بحيرة عند الهاجس الأخير والصراع بين قلبه المصدق لها وسلطان وساوسه يزداد ضراوة ...
لا يكاد يصدق أن امرأة قد تعشق بهذه الصورة المتفانية ودون أي غاية !!

انقطعت أفكاره وهو يشعر برأسه يكاد ينفجر من ألم الصداع فغادر فراشه وقد قرر النزول للمطبخ كي يتناول فنجاناً من القهوة .
قهوة؟!
في مثل هذا الوقت؟!
نعم ..."الكافيين" فقد تأثيره المنبه لديه من فرط ما يتناوله حالياً حتى أنه قد يستسلم تماماً للنوم بعد تناوله له ...
لكن يبقى ارتباطه -الشرطي- به لتخفيف ألم الصداع!
لهذا غادر الفراش نحو المطبخ الذي توقف فجأة أمام بابه وهو يراها تجلس على أحد مقعديه تعطيه ظهرها وتنحني بجسدها على شئ ما !!
عقد حاجبيه بشك وهو يقترب منها بحذر ليتبين ما تفعله ...
قبل أن يرتفع حاجباه بدهشة مع هتافه فجأة:
_من البرطمان؟!

شهقت بعنف للمفاجأة وهي تقف كالمذنبة بالجرم المشهود والذي لم يكن سوى "برطمان الشيكولاتة الكريمية" الذي أتت على أكثر من نصفه
بالملعقة التي كانت في يدها والتي لوحت بها الآن بارتباك مع قولها:
_قلت لك إني مدمنة شيكولاتة ...مبعرفش آكلها غير كده !

ارتفع حاجباه بحنان لم يستطع منعه وهو يراها قد لوثت أرنبة أنفها وزاوية شفتيها ب"جريمتها" التي وجدت أثرها في قلبه !
بشرتها النقية وملامحها "الطفولية" التي تلطخت بالشيكولاتة لم تكن تمت بصلة للمشاعر التي ألهبتها الآن "أنوثتها" في صدره ...
هذه التي حاول تجاهلها وهو يتنحنح بخشونة كعهده عندما يرتبك ليعطيها ظهره قائلاً:
_هاعمللي قهوة !
_مابتعجبكش بتاعتي؟!

قالتها بضيق وهي تضع ما بيدها على المائدة قبل أن تتحرك لتقترب منه ....
ورغم أنه كره أن يسبب لها هذا الضيق لكنه غمغم بنبرته الخشنة :
_مابحبش حد يعمللي حاجة ...بحب أعتمد على نفسي أكتر !
قالها وهو يتناول علبة البن التي سحبتها هي منه بتصميم لتواجهه بقولها:
_بس أنا بحب أعملهالك ...والحاجة الوحيدة اللي هتمنعني إنك تقول إنها مش بتعجبك ...قلها وهارجع أوضتي حالاً !

عقد ساعديه أمام صدره وهو يستمتع بمواجهة عينيها التي تعجز عن فعلها أغلب الأوقات ولا يعرف السبب ...
هي دوماً تحدثه وهي مطرقة الرأس أو حائرة النظرات في كل شيء حوله عداه هو !
وهذه اللحظات القليلة التي تنسى فيها حذرها هذا تستحق أن "يقتنصها" بمهارة ...تماماً كما الآن !!


لهذا التمعت عيناه بنظرة ظافرة وهو يقول لها بنفس الفظاظة الساخرة:
_مفيش فرق بين قهوة والتانية...كلهم نفس الطعم...لو مصرة تعمليها اعمليها!
فابتسمت وهي تهز رأسها وكأن خشونة الرد لم تعنِ شيئاً لديها قبل أن تشرع في إعداد قهوته ...
بينما تحرك هو ليجلس على مقعد المائدة متأملاً "برطمان الشيكولاتة" ليقول:
_مابحبش الشيكولاتة !
_حد ما يحبش الشيكولاتة؟! هتفضل غريب في كل حاجة حتى في ذوقك في الأكل!
قالتها وهي تضع ما بيدها على الموقد لتردف بنفس الحماسة:
_لو دقتها سادة كده من البرطمان هتدمنها زيي...جربها كده !
لكن عينيه التمعتا ببريق عابث وهو يستند بساعديه على المائدة قائلاً:
_جربي انتِ القهوة السادة وأنا أجرب النوتيللا!
التوت شفتاها باشمئزاز جعله يبتسم لكنها أغلقت الموقد لتصب القهوة في الفنجان قائلة بتردد:
_ماشي...أجرب!
قالتها ثم شرعت في إعداد فنجان آخر مدركة وسوسته من أن يشرب أحدهم مكانه ...
قبل أن تتحرك بالفنجانين لتضعهما على المائدة بينما عيناه تلتمعان أكثر بقوله المشاكس:
_مش هتستحمليها !

لكن عينيها تألقتا بالتحدي وهي ترفع الفنجان نحو شفتيها لترتشف منه رشفة بسيطة انقلبت لها شفتاها باشمئزاز جعله يضحك هاتفاً:
_لا انتِ بتخمي...راعي ضميرك واشربي بجد !

لم تفوت عيناه نظرتها العاشقة التي تعلقت بضحكته...
قبل أن تحيد ببصرها عنه كالعادة وهي تعاود نيل رشفة أخرى لتردف بعدها بلهجة انتصار:
_دورك يا دوك...
ثم تناولت برطمان النوتيللا لتقربه منه مردفة بمرح:
_اتفضل !
لكنه وقف مكانه ليتحرك نحوها مزيحاً البرطمان بعيداً قبل أن ينظر لعينيها قائلاً بنبرة وجدتها غريبة:
_هادوقها بطريقتي!

عقدت حاجبيها بحيرة تحولت لشهقة عنيفة وهي تشعر بشفتيه على زاوية فمها تطاردان ما لطخته الشيكولاتة هناك!

انتفض جسدها بقوة وهي تبتعد خطوة جعلتها تتعثر في الكرسي المجاور ليتلقفها ذراعاه ...
عيناه تطاردان "صيدها الثمين" في لقاء عينيها اللتين كان يختلط عشقهما الآن مع خوف أثار ضيقه ....وألم لم يدرِ مبعثه!
هل أفزعتها حركته إلى هذا الحد ؟!
أم هو "نفورها الغريب" من ملامسته والذي لا يعرف سببه؟!
هل يعتذر عما فعله ؟!
أم يستجيب لكبريائه ويتجاهل الأمر؟!
لكنها لم تمنحه الفرصة عندما تمتمت بكلمات لم يتبينها وهي تحتضن جسدها بذراعيها محاولة احتواء ارتجافته قبل أن تغادر المكان بخطوات مندفعة نحو غرفتها ...
تاركةً إياه خلفها لا يفهم شيئاً عن غموضها الذي يحتله يوماً بعد يوم ...
لكنه لم يغفل عن إحساسه "الخاطف" بلذة اقترابها الذي يود لو يجربه من جديد !
=======
ابتسمت وهي تعد له الإفطار في المطبخ ...
كانت تحفظ طقوسه المعتادة ليوم الجمعة ...
صوت المذياع العالي والمنضبط على إذاعة القرآن الكريم بصوت الشيخ يتلو سورة الكهف ...
جلبابه الأسود الذي يناقض طبيعة الناس عامة في ارتدائه أبيض هذا اليوم ...
لحيته التي يهذبها باهتمام وتكاد تصيبها هي بأزمة قلبية من فرط ما تزيد وسامته !
لكن قبل كل هذا ...
جولةٌ قصيرة في الحديقة الصغيرة المحيطة بالبيت كي يهتم بزهوره وشجيراته بنفسه !
اتسعت ابتسامتها وهي تراقبه خلسة عبر شباك المطبخ المطل على الحديقة ...
قبل أن تتسع عيناها بجزع وهي تراه يتعثر في أحد قوالب الطوب ذات الحواف المدببة التي تستخدم كسور يفصل كل حوض زهور عما يجاوره
والذي جرح قدمه كما يبدو ليسيل منه الدم!
شهقت بعنف وهي تترك ما بيدها لتهرول نحو باب البيت الذي دخل هو منه يتحرك على قدمه السليمة متحاشياً الأخرى لتهتف بقلق:
_إيه اللي حصل ؟! أجيب دكتور؟!

ورغم سعادته الخفية بهذا القلق المشتعل في عينيها لكن طبيعته الخشنة غلبته وهو يرد بتهكم:
_لا ...اطلبي الاسعاف...أنا ممكن ماأعيشّ لحد ما الدكتور ييجي!
لكن ملامحها القلقة لم تستجب لدعابته بل تقدمت منه لتحتضن خصره بساعديها مسندةً إياه بينما هو يتقدم للداخل ...
فابتسم وهو يرى جسده الضخم يكاد يبتلع بنيتها النحيفة القصيرة ليقول بنفس النبرة المتهكمة :
_والمفروض إنك بتعملي إيه؟! انتِ فاكرة إنك هاتقدري تسنديني؟!
_مش مهم أقدر...المهم أعملها!
قالتها بعزم عاتب وهي تتشبث به فتراقص الإعجاب على ابتسامته وهو يتشبث بها أكثر محاولاً أن يعتمد على نفسه أكثر من اعتماده عليها ...
حتى تهاوى أخيراً على الأريكة المقابلة فتركته قائلة بسرعة:
_دقيقة واحدة هاجيب الحاجة من جوة !
أسند رأسه على الأريكة يراقبها بعينين مسبلتين وهي تتحرك بسرعة فخفق قلبه تأثراً بهذه اللهفة التي يدرك أنها لا تتصنعها !
خاصةً عندما تقدمت منه أخيراً لتجلس على ركبتيها على الأرض رافعةً قدمه المصاب لتمسح عنه الدم قبل أن تشرع في تعقيم جرحه البسيط .
كانت تفعلها بأنامل مرتجفة بينما جسدها ينتفض مع خيطين من الدموع سالا على وجنتيها ...
فازداد خفقات قلبه جنوناً وهو يسأل نفسه ...
منذ متى دلله أحدهم هكذا ؟!
لقد اعتاد اهتمام بنات خالته وأمه -مؤخراً- لكن التدليل الملهوف هذا شيء آخر !
ورغم أن جزءاً من طبيعته الخارجية الخشنة كانت تأنف من هذا ...
لكن جزءاً آخر دفيناً هناك في أعمق أعماق روحه كان يطالب بالمزيد !
يتيمٌ باكٍ يسكن بين ضلوعه صامتاً لا يكاد يتنفس ،لكنه وسط فيض "أمومتها" هذه يكاد يصرخ !
لهذا لم يشعر بنفسه وهو يمد لها يده بعدما انتهت ليجذبها فيجلسها على ساقه السليمة تحت نظراتها المفعمة بعاطفتها ...
والتي زادتها دموعها صدقاً مع همسها المتهدج:
_ممكن تقول عليا مجنونة عشان بعيط...بس أنا قلبي خفيف جداً قصاد منظر الدم!

قالتها ثم تحركت لتتناول محرمة ورقية من على المائدة المقابلة لكنه ظنها ستقوم ...
ليفاجأ هو -قبلها- بتمسك ذراعيه الشديد بها!
التقت عيناهما في حديث طويل ليمتزج "بحر عسله" مع "نهر عسلها"...
فيتجدد شعوره بحاجته الماسة إليها ...
والتي يحاول قمع ثورتها بوجدانه بأي صورة !
كان يتوقع نفورها من ملامسته كعهدها لكن يبدو أن قلقها عليه جعلها تغفل عن إدراك خطورة اقترابهما بهذا الوضع ...

مد أنامله أخيراً يمسح ما بقي من دموعها على وجنتيها برفق أذهلها وزاد ارتجافتها خاصة مع همسه :
_نفسي أعرف انتِ ليه بتحبيني قوي كده ؟!
كلماته حملت من الحيرة أضعاف ما حملت من امتنانه وعاطفته وحاجته ...
لتجيبه دونما تفكير:
_عمري ما سألت نفسي السؤال ده !
لهذا لم يتمالك نفسه وهو يقترب بوجهه من وجهها ليجد نفسه يهمس دون وعي:
_اوعي تبطلي تحبيني!

ورغم ظاهر نبرته الآمرة لكن قلبها الخبير به قرأ فيها رجاءه وحيرته ...
وتخبطه الذي تفهمه هي أكثر من سواها !
فهمست له بخفوت دافئ:
_حتى لو حاولت ...مش هاقدر!

قالتها غافلةً عن تأثير كلمات كهذه في رجل ب"تاريخه"!
ذاك الذي أدركته لاحقاً عندما شعرت بشفتيه تقصران الطريق بينهما لتمنحاها "هديتها الأولى"!!
وكأنما مستها نسمة باردة أنستها الزمان والمكان فيما عدا مذاق قربه الذي تجربه لأول مرة بهذه الحرارة وبهذا الشغف...
ظلت مغمضة عينيها للحظة واحدة شعرت فيها وكأن الزمان عاد بها سنوات للوراء ...
ضفيرتها الطويلة تتطاير خلفها ...
وكتابها الذي تختفي خلفه خلسة تراقبه بين يديها ...
والحلم الوردي تتطاير فراشاته حولها ...
قبل أن تحترق جناحاتها كاملة!!
وعند الخاطر الأخير وجدت نفسها تفتح عينيها فجأة لتدفعه ببعض العنف تحت نظراته المندهشة ...

لكنها لم تكن في موقف يسمح بتبرير أو شرح ...
فقد اندفعت نحو غرفتها لتغلق بابها خلفها بقوة قاطعةً عليه طريق التساؤل!
ظل جالساً مكانه للحظات مذهولاً قبل أن يزفر بضيق...
ضيقٍ هزمته أخيراً...ابتسامة!
أجل ...ابتسامة واهنة توجت شفتيه وهو يستعيد مذاقها "الملون" على أرصفته "السوداء"!
ذاك المذاق الذي يخشى إدمانه ويكاد يورثه الجنون!
لهذا تحرك أخيراً ليقوم متوجهاً نحو غرفتها التي طرق بابها وهو يقول بنبرة عالية لم تخلُ من عبث:
_هاتسيبيني أطلع لوحدي من غير ما تسنديني؟!
ظل الصمت جوابه للحظات قصيرة قبل أن تفتح الباب أخيراً لتقول بصرامة خجول:
_هاسندك بس تبقى مؤدب!

ضحك بانطلاق وهو يراها تصدق نفسها بأنها حقاً تساعده ...
فاتسعت عيناها بلهفة ونظراتها تلتهم رنين ضحكته التي تسمعها صافية هكذا لأول مرة ...
قبل أن تقول له بصوتها الدافئ:
_بحبك لما بتكابر وتخبي زعلك ورا ضحكة كدابة...بحس ساعتها إنك قوي جداً...بس بحبك أكتر لما بتضحك بجد...أيوة...الضحكة اللي بتخللي عنيك تلمع دي ....يتهيألي محدش هيقدر يفرق بين الضحكتين دول زيي ولا يفهمك زي ما أنا فاهماك .

قالتها وهي تشير بسبابتها نحو وجهه فتنهد بحرارة وهو يقترب منها ليهمس :
_ما هو لو عايزاني أفضل مؤدب...لازم تبطلي كلامك ده ...
احمرت وجنتاها بخجل وهي تشيح بوجهها بينما يردف هو بنبرة عاد إليها عبثها:
_الأدب في الحالات دي ...قلة أدب!
======
_سلامة وشك يا أشرف بيه!
قالها الموظف الجديد المسئول عن التوريدات في المصنع ،
والذي وقف أمام مكتبه يريه أحدث ملفات عمله فالتفت نحوه أشرف بشك قائلاً:
_معلش...حاجة بسيطة!
لكن الرجل رمق وجهه بنظرة متفحصة قبل أن يقول بحذر:
_أظن كانت محتاجة تتخيط عشان ما تسيبش أثر!
فكز أشرف على أسنانه قائلاً:
_لا...جرح هايف مسيره يلم...ماتشغلش بالك...المهم عرفني أخبار الطلبيات الجديدة إيه !
اعتدل الرجل بجسده يعطيه التفاصيل التي طلبها تحت نظرات أشرف الغامضة المتشحة بالشك ليقول أخيراً:
_ما تقلقش يا فندم ...هنحاول نظبط مواعيد وصولها قبل معاد الفرح عشان يكون بالك مرتاح...ألف مبروك!

فهز أشرف رأسه ليرد بفتور قبل أن يصرفه ليغادر ...
هنا عاد يتحسس جرح وجهه ثم تناول هاتفه ليتصل بها وما إن فتح
الاتصال حتى سمع نحيبها المرتفع:
_أنا السبب...كان يتقطع لساني قبل ما أقوللك...سامحني يا بيه!
فزفر بقوة ليقول لها مهدئاً:
_ما حصلش حاجة يا سيدة ...أنا كويس ...المشكلة إن الجرح اللي في وشي ممكن يكون حرق شخصيتي ...دلوقت ممكن يشكوا فيّ بسهولة عشان كده ماعادش ينفع آجي هناك تاني .
_وهتعمل إيه؟!
_مش عارف...لو اختفيت دلوقت هيتأكدوا إنه كنت أنا ...وساعتها هيأذوكِ انتِ وهياخدوا حذرهم ...
_يالهوي ...يا لهوي!
قاطعت ب"ولولتها" الباكية حديثه فعاد يهتف مطمئناً :
_هلاقي حل ما تقلقيش ...هتصرف!

_أنا مش خايفة على نفسي...أنا خايفة على اللي في بطني ...هو مالوش ذنب في غلطة أبوه...إن شالله يخلليك يا أشرف بيه اتصرف بسرعة !
تنهد بضيق وهو يغلق الاتصال بعدما حاول تهدئتها بوعود لا يدري هل سيمكنه الوفاء بها أم لا ...
لقد زلت قدمه في بئر عميق لا يعرف له آخراً من أول ولا يعرف كيف يتصرف !
هل سيغرق المركب أخيراً؟!
المصيبة أنه لن يغرق به وحده ...أمه ...شقيقته ..ابنتها...و...رانيا!!!

طرقات الباب أخرجته من أفكاره البائسة ليعقبها دخول مساعده الذي رمقه بنظرة مشفقة ليجلس قبالته قائلاً:
_مالك يا ابني؟! شايل الهم كده ليه يا عريس؟!
فتنهد بحرارة وقد شعر بحاجته لمن يفرغ له مكنون صدره لهذا رفع عينيه إلى الرجل قائلاً:
_هاحكيلك يا عمي...ماانا مش هلاقي حد أكتر منك أثق فيه !
ظهر الترقب على وجه الرجل الذي تحول إشفاقه لهلع مع التفاصيل التي كان يرويها أشرف ...
والتي كانت تعني كارثة حقيقية في الطريق!
=======



سمية سيمو غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-04-20, 10:32 PM   #1507

سمية سيمو


? العضوٌ??? » 396977
?  التسِجيلٌ » Apr 2017
? مشَارَ?اتْي » 4,356
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
?  نُقآطِيْ » سمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك action
?? ??? ~
keep smiling
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

القطعة الثامنة
***********
_أول مرة أشوفك بتاكلي كتير كده !
هتف بها هيثم بدهشة وهو يجلس معها في أحد المطاعم حيث فاجأته برغبتها في تناول الغداء معه بعيداً عن الجامعة ...
كانت ترتدي سروالاً أبيضا شديد الضيق مع قميص وردي ملفت فتحت أول وثاني أزراره بينما تركت شعرها دون حجاب كعهدها عند اطمئنانها لعدم وجود يامن ...
فبدت ملفتة جداً خاصة مع فتنتها الطبيعية التي جذبت لهما أنظار رواد المطعم عندما تعمدت إمالة رأسها بدلال لتجيبه:
_جرى إيه يا روميو ؟! هتعد عليّ الأكل من دلوقت ...امال لو وافقت واتجوزنا هتعمل إيه؟!
_ماتهزريش في الموضوع ده يا داليا ...مابحبش تستخفي بمشاعري كده .
قالها بضيق حقيقي وهو يشيح بوجهه متوقعاً منها محاولة جديدة لمشاكسته ...

لكنه فوجئ بصمتها التام بعدها ليلتفت نحوها فيجدها مطرقة برأسها بذاك المظهر البائس الذي يستنفر عاطفته نحوها....
زفر بقوة ليميل على المائدة قائلاً :
_احكي يا آخرة صبري ...مالك ؟!
لكنها ظلت مطرقة برأسها فأردف بنبرة أكثر رفقاً:
_أنا عارف إنك بتفشي غلك في الأكل ...وإنك خارجة
باللبس "الأوفر" ده النهارده عشان تغطي على حاجة معينة مزعلاكِ ...قولي بقا ...
ثم خبط ساعدها بكشكول محاضراتها ليستطرد :
_اتكلمي بقا هتلاقي حد غيري يستحمل رغيك ؟!
رفعت إليه عينيها أخيراً بابتسامة شاحبة ثم أزاحت طبقها بعيداً لتقول بنبرة بائسة:
_مخنوقة قوي يا هيثم ...من ساعة يامن ما اتجوز وأنا حاسة إن فيه حاجة غلط .
فهز رأسه ليقول مستنكراً:
_ياشيخة أنا قلت هتبقي مبسوطة إن الكتمة هتخف شوية لما ينشغل عنكم بمراته .
لكنها أشاحت بوجهها لتكمل اعترافها :
_بالعكس...أنا حاسة إنه "اتاخد" مني ...زي ماما وبابا الله يرحمهم...
ثم عادت إليه بملامح متنمرة لتردف بغيظ:
_معرفش البتاعة اللي اتجوزها دي فيها إيه عشان تعجبه كده .
فضحك ليجيبها مطيباً خاطرها:
_ولا فيها أي حاجة ...عادية جداً ...دي شبه لعب الأطفال.
هنا عقدت حاجبيها بشك لتسأله :
_وانت عرفت شكلها منين ؟!
حك رأسه بحرج للحظة ثم تنحنح ليجيبها :
_بصراحة ماقدرتش أقاوم أشوفك ليلتها ...عديت على القاعة بصيت بصة بسرعة من غير ماقوللك ...
ثم غمزها ليردف:
_كنتِ قمر كالعادة !

لكنها لم تستجب لمغازلته بل عادت تشرد من جديد لتقول بأسى:
_محدش بقا حاسس بيّ خالص...نبيلة دايماً مشغولة...رانيا بتجهز لفرحها ...وهانيا ملبوخة ببيتها...حتى يامن اللي كان بييجي يطمن علينا كل يوم شكله هينسانا...أول امبارح كان أول خميس كان يعدي علينا من غير ما يجتمع بينا كالعادة .
_مش عريس يا بنتي؟! عايزاه يسيب مراته أول كام يوم جواز وييجي يقعد وسطكم ...ده حتى يبقى شكله وحش !
نطق عبارته الأخيرة بشكل من المرح فابتسمت ليتنهد
قائلاً بجدية تامة:
_انتِ محتاجة تشغلي وقتك يا داليا ...انتِ مش ناقصك أي حاجة ...عندك كل حاجة أي بنت تتمناها ...جمال ...فلوس ..حرية ...وأنا!
قال كلمته الأخيرة مشيراً لصدره بفخر مصطنع فضحكت بانطلاق لتهز رأسها قائلة بدلال:
_مفيش فايدة يا روميو...هنلف نلف ونرجع لغرامياتك ....
ثم عادت لتتناول طعامها حيث غرست الشوكة في إحدى شرائح البطاطس المقلية لتقربها من فمه مردفة بنفس
الدلال:
_بطل كلام وكل أحسن ...مش...
انقطعت عبارتها عندما اصطدمت عيناها بعيني المرأة التي دخلت المطعم لتوها ...
والتي تراوحت نظراتها بين استياء واستنكار وهي تراها تطعم هيثم بهذه الطريقة الفجة !
احمر وجه داليا انفعالاً وهي ترى زوجة أستاذها تتقدم منهما لتتوقف أمامها قائلة بنبرتها التي صارت تكرهها:
_ازيك يا داليا؟! شايفاكِ أحسن المرة دي وبتقضي وقت لطيف.

رفع إليها هيثم عينيه بنظرات ضائقة ليقوم واقفاً وقد تعرف إلى هويتها ليقول بنبرة مهذبة:
_إزيك يا دكتورة ؟!
ردت المرأة تحيته باقتضاب بينما بقيت داليا جالسة مكانها وكأنما استنكفت أن تقف لتخاطب المرأة بقولها:
_أنا الحمدلله كويسة...وعلى طول بقضي وقت لطيف.
قالتها بتحدٍّ زاد شعورها بالاكتئاب من حدته لكن المرأة رمقتها بنظرة غامضة قبل أن تغادرها لمنضدة قريبة...
وما كادت تبتعد حتى عاود هيثم الجلوس ليقول لها عاتباً:
_انتِ بتعامليها كده ليه ؟! مش خايفة تقول لجوزها ويستقصدنا السنة دي في الامتحانات ؟!

لكن داليا رفعت أحد حاجبيها لترد بانفعال:
_هي اللي المفروض تخاف على جوزها مني مش أنا اللي أخاف منها !
اتسعت عيناه بصدمة من حديثها لتستدرك هي بارتباك:
_أقصد ...إنه...دكتور ياسر حقاني ...وأكيد مش هيستقصدنا عشان كلمتين سمعتهم.
التمع الشك في نظراته وهو يزداد يقيناً من فكرته السابقة عن مشاعرها الخفية نحو أستاذها ...
ليقول أخيراً بغضب مكتوم:
_ما تلعبيش بالنار يا داليا ...لحد دلوقت أنا فاهم الطفلة الدلوعة اللي جواكِ اللي عايزة تلفت نظر كل اللي حواليها ...لكن الموضوع لو زاد عن كده هيقلب عليكِ وهتخسري أكتر ما انتِ متوقعة .
ورغم أن حديثه كان مصيباً إلى حد كبير لكن مزاجها السئ ووجود تلك المرأة أجج طبيعتها المشتعلة أكثر لتهتف به بانفعال:
_بقوللك إيه يا هيثم ...دور "ست الناظرة" ده بيعصبني ...أنا كده ...عاجبك كده عاجبك ...مش عاجبك امشي...

ثم هبت واقفة لتتناول حقيبتها مردفة بنفس الانفعال:
_واللا أقوللك...أنا اللي هامشي!
قالتها ثم غادرت المكان بخطوات مندفعة غافلة عن المائدة القريبة منهما ...
والتي جلس عليها رجلان قال أحدهما لصاحبه بينما يمشط جسدها بنظراته:
_أهي دي البنت اللي قلت لك عليها .
التفت نحوها صاحبه بدوره ليبدو الاستحسان على
ملامحه وهو يرد بنبرة ماكرة:
_تستاهل... بس دي سكتها إيه ؟!
فابتسم صاحبه وهو يعود بظهره للوراء ليجيبه بثقة رغم غموض لهجته:
_سهلة ! سكتها سهلة ...قوي!
======
_إيه الشياكة دي ؟!
هتف بها رامز بإعجاب تعمد رفع إيقاعه مخاطباً غادة وهو يخرج إليها من غرفته ...
حيث جلست مع هانيا تنتظر أن يصطحبها في أول يوم عمل لهما معاً ...
وبينما لم تلتفت هانيا لمغازلته شبه الصريحة لصديقتها ...
خفضت غادة بصرها بارتباك لتتمتم بكلمات مبهمة وقد عجزت عن الرد عليه ...
فتقدم هو ليهتف بنفس النبرة التي حملت المرح مع الكثير من الإعجاب:
_فطرتِ واللا تفطري معايا في الشغل؟!
رمقته هانيا -الغافلة- بنظرة امتنان وهي تراه يحسن معاملة صديقتها أخيراً لتجيبه هي:
_مش راضية تفطر ...الله يخليك يا رامز خد بالك منها هناك .

نظر إليها بغيظ لم يستطع كبحه وهو يرى بشائر خطته تبوء بالفشل ...
هو يتعمد أن يزيد من اهتمامه المفتعل بغادة كي يجعل "لوح الثلج" هذه تشعر بالغيرة لعلها تتوقف عن إقحامها المبالغ فيه لها في حياتهما ...
لكن يبدو أنه ينقش على الماء!!

_ياللا بينا!
هتف بها يواري خيبته وهو يصطحب غادة التي تبعته باستسلام لتهبط معه الدرج ...
عندما فتح باب شقة والدته التي خرجت منها لتتهلل
ملامحها عندما رأت ابنها قبل أن تتجهم فجأة مع رؤية غادة لتهتف باستنكار:
_انتو رايحين فين سوا كده ع الصبح؟!

احمرت وجنتا غادة بحرج وهي تدرك من "سوء خبرتها" ما تظنه المرأة بها ...
هذه النظرة في عينيها تعرفها ...
وصمها بها الكثيرون قبلها وتنتظر الآن الأسوأ!
لاريب أن الأم تخشى على ابنها من الأرملة اللعوب التي تسللت لبيته كالأفعى لتلتف حوله وتخطفه من صديقتها ...
لكن لماذا تلومها؟!
هكذا يراها الجميع ...لطخة مدنسة تلوث أي مكان تذهب إليه !

لهذا اكتفت بإطراقها الخانع كالعادة تتلقى سهام القدر بصمت بينما قال رامز وهو يغمز والدته خلسة:
_صباح الفل يا ست الكل...مش تباركي لغادة...جبت لها شغل معايا في الشركة .
_كمان؟!
هتفت بها المرأة باستنكار فتنحنح رامز بحرج وهو يكاد يتوسل أمه بنظراته كي لا تحرج غادة أكثر ...
فتمالكت المرأة نفسها لتقول بفتور:
_مبروك .
ردت غادة بنفس الخنوع وهي لاتزال مطرقة برأسها فهتف رامز بسرعة ليتدارك الموقف:
_معلش يا ماما عشان متأخرين ...سلام دلوقت.
قالها وهو يقبل جبينها بخفة ليستأنف هبوط الدرج تتبعه غادة التي كانت تشعر أن نظرات المرأة تكاد تخترق ظهرها ...
الموقف يسبب لها الكثير من الحرج لكنها لا تجد البديل!
لم تكن تتوقع وهي تطلب من هانيا البحث لها عن عمل أن تجعلها تعمل مع رامز الذي يسبب لها وجوده الكثير من الحرج ...
شعورها نحوه يتذبذب بين "شبه كراهية" لا تملك يداً فيها وعقلها يصور لها أنه كان سبب حرمانها من زوجها وحياتها كلها ، وبين "امتنان حقيقي" لرجل وقف جوارها في أزمتها بكل ما يملك .

لهذا ما كادت تصل معه لسيارته التي فتح لها بابها بحركة أنيقة حتى دمعت عيناها وهي تهمس له بصوت متحشرج:
_شكراً .

وفي النافذة وقفت هانيا تراقبهما وشعور "مستحدث"
بالضيق يعرف طريقه إليها..
وخزةٌ وجدتها في صدرها وهي ترى غادة تركب جواره سيارته في المكان الذي تحتله هي دوماً ...
وخزة لم ترد تفسيرها بأنها غيرة بل وأدت هذا الشعور في مهده وهي تهز رأسها لتخاطب نفسها بقولها:
_جرى إيه يا هانيا هتتهزي ليه؟! هتعملي زي المتخلفين اللي في الرايحة والجاية بيحذروكي من صاحبتك؟! انتِ عارفة كويس قيمتك عند جوزك وواثقة في صاحبتك اللي محتاجاكِ...بلاش تخذليها زي ما كل الناس خذلوها .

وفي السيارة جلست غادة مطرقة الرأس وقد شبكت أصابعها ترمق دبلتها التي لاتزال هناك بنظرة حسرة لم تعد تفارقها ...
تشعر بالخوف من هذا العمل الجديد الذي لا تعرف ماذا سيكون مصيرها فيه ...
تتوجس من مجتمع ينتظر أي هفوة منها كي يرجمها
بالحجارة ...
والمصيبة أنها لا تنتظر حتى هذه الهفوة كي تعنف نفسها ...
بل ترجم نفسها في كل وقت على ذنب لا تعرفه وإن كانت تشعر به يدنسها ...
ذنب عاقبتها عليه السماء "كما تظن" بحرمانها من سعادتها!

_ساكتة ليه؟!
سألها رامز بمرح خالطه الكثير من الإشفاق وهو يرى حالها البائس لتجيبه بصمت طويل لم تستطع قطعه ...
فأردف بنبرة متشحة بالذنب:
_انتِ لسه زعلانة مني؟! محملاني ذنب أحمد الله يرحمه؟!
كان هذا ما يملأ صدرها حقاً نحوه رغم ما يخالطه من شعور بالامتنان لوقوفه جوارها بعدها ...

لهذا تنحنحت بخفوت لتتجاهل سؤاله قائلة دون أن ترفع وجهها وقد أحيا حديثه عن أحمد مرارة الذكرى:
_انت آخر واحد شفته قبل الحادثة...قل لي إيه آخر كلمة قالها...آخر حاجة عملها...كان فرحان...كان...
تحشرج صوتها الخافت لتنقطع عبارتها فجأة ببكاء صامت لم يهتز به جسدها الذي اعتاد دموعها ...
فتنهد رامز بحرارة وهو لا يدري بماذا يجيبها وقد ساءه هذا الانهيار غير المبشر في أول يوم عمل...
قبل أن يختلس نظرة جانبية نحوها ليكتنفه شعور غريب أورثه المزيد من الضيق...
هذه المرأة كارثة حقيقية ليس فقط لأجل هالتها الأنثوية التي يستشعرها خبير بالنساء مثله ...
لكن لأجل هذا الضعف الكامن فيها الذي يستنفر "حمية" أي رجل -شريف- للدفاع عنها ...
و"شهية" أي ذكر -غير شريف- للاستحواذ عليها!
آه لو كان هناك "خلّاطٌ " ما يضربهما فيه هي وصديقتها "الفولاذية" زوجته لنحصل على امرأتين سويتين في النهاية؟!
ورغم هزلية الفكرة لكنه شعر بها الحل الوحيد لمشكلتهما معاً ...
لكنه للأسف غير متاح!

لهذا تنهد بحرارة ليجيبها وهو يحاول التركيز في الطريق:
_مش عارف أقوللك واللا لأ...بس إنتِ كنت آخر كلمة على لسانه...الحقيقة إنه ما بطلش كلام عنك طول الطريق...الله يرحمه.

شهقاتها الباكية بعدها زادت الأمر سوءاً فشعر بالندم على ما تفوه به ...
لكنه عاد يلتفت نحوها ليقول ببعض الحزم:
_غادة...اسمعيني كويس...أنا ممكن أقعد جنبك أسمعك بتعيطي لبكرة وأصبرك بكلمتين ...بس ده مش حل ...أنا مش بلومك على حزنك بالعكس ...لكن النهارده أول يوم شغل ليكِ...وأول درس لازم تتعلميه إنك تفصلي بين حياتك الخاصة وشغلك ...
ثم أوقف السيارة فجأة ليردف:
_لو مقتنعة بكلامي نكمل...لو مش مقتنعة ألف وأرجعك البيت.
رفعت إليه عينين مترددتين غارقتين بضعفهما فازدرد ريقه بتوتر وعيناه تنسحبان رغماً عنه لخصلات شعرها المصبوغة بلون أحمر داكن مثير يُظهر مع سواد ثيابها بياض بشرتها الناصع...

عجباً...هل صبغته حديثاً؟!
أم هو الذي لم ينتبه للونه هذا من قبل ؟!
لماذا لا تصبغه هانيا هكذا سيكون عليها أكثر ملاءمة خاصة مع لون بشرتها القمحي الذي يعشقه ...
فقط لو ترتدى معه قميصاً حريرياً بلون ذهبي ستكون...!
تنحنح بخفة وهو يدرك إلى أي حد جامح بلغت به أفكاره ليردع نفسه بقوله الساخر سراً:
_ريح نفسك ...الدكتورة بتاعتنا أشرف من الشرف مابتلبسش قمصان نوم ولا بتروح ل"كوافير"...آه...وبتطفي النور!

_خلاص ...ماشي!
قاطعت بها أفكاره فالتفت نحوها قائلاً بارتباك:
_ماشي إيه؟!
_نروح الشغل!
غمغمت بها بنبرتها الوديعة المتهالكة و...المهلكة!
فأشاح بوجهه ليعيد تشغيل السيارة منطلقاً بها بينما هي تمسح دموعها محاولة التماسك ...

هذا العمل فرصة لها الآن كي تعاود حياتها معتمدة على نفسها ...
فرصة ستسعى ألا تضيعها مهما حدث ...
هذا ما حاولت تذكير نفسها به طوال اليوم وهي تحرص على تناسي آلامها الخاصة ...
لكن أي اقتراب ذكوري من محيطها كان يصيبها
بالارتباك ...
كل نظرة من زملائها كانت ترى فيها سجناً...و"محرقة"!

كان يُهيأ إليها أن نظراتهم التي "أشعلتها" ثيابها السوداء الواشية بوضعها الضعيف "تنطفئ" فجأة عندما تنحدر نحو "دبلة" أحمد في إصبعها ...
أحمد لايزال يحميها ميتاً كما كان يحميها حياً!

وجع الفكرة الأخيرة كان يستجلب الدموع لعينيها لكنها تعود لتتذكر نصيحة رامز فتمنحها بعض التماسك .

وفي غرفة مكتبه كان هو يحاول التركيز في عمله مع أفكاره التي شغلته بشأنها ...
"الأرملة الفاتنة ذات الشعر النبيذي" صارت حديث الشركة منذ الصباح ...
حتى العامل العجوز الذي يحضر له القهوة سأله عنها بفم تساقطت أسنانه مشيراً إليها بوصفه "حتة القشطة"!
وهو يعرف كيف ستسير الأمور هاهنا...
ومع شخصية ضعيفة متحفظة كغادة لن يكون أمامها إلا ترك العمل أو الاستعانة بحارس شخصي.
"بودي جارد"!
ربما هذا هو الدور الذي اختارته لها زوجته المصون لهذا تعمدت أن تجعل صديقتها تعمل معه هنا!
الدور الذي أداه بجدارة وهو يغادر معها الشركة آخر النهار ليصطحبها معه في سيارته نحو البيت وقد بدأ يشعر أن ثقل صحبتها أشد عليه كثيراً مما كان يتوقع ...
كانت هانيا تنتظرهما في شقتها كما توقع كي تطمئن على غادة فتركهما لثرثرتهما ...
توجه نحو غرفته ليبدل ملابسه ولازال ذهنه مشغولاً بأفكاره...
عندما شعر بلمستها الخفيفة على كتفه فالتفت نحوها...
_شكراً يا رامز.

قالتها هانيا مبتسمة قبل أن تستطيل على أطراف أصابعها لتقبل وجنته مردفة بامتنان:
_غادة أحسن كتير ...ماتتصورش الشغل ده هيفرق في نفسيتها إزاي.
هز رأسه بلا معنى وهو يقول بعتاب ساخر:
_يعني الدكتورة راضية عني؟!
فاتسعت ابتسامتها وهي تحيط كتفيه بكفيها قائلة بتحفظها المعهود:
_انت راجل بجد...وأنا فخورة إني مراتك.
_طب زودي حتة صغيرة...وأوعدك أشيلها في المونتاج!
قالها متهكماً من جفاف عبارتها فضحكت ضحكة صافية وعيناها تمنحانه سحر العاطفة المتدفق الذي جفت عنه كلماتها ...
قبل أن تتنهد بحرارة لتسند جبينها على كتفه قائلة بنبرة اعتذار شابت قوة نبرتها المعتادة:
_عشان منتكلمش في الموضوع ده تاني...وعشان تفهمني كويس لازم تفهم إن الحب عندي مالوش علاقة بالكلام ولا باللبس ولا دلع البنات...الحب عندي مسئولية ...مسئولية زي مسئولية اخواتي اللي شلتها مع يامن بعد وفاة بابا وماما...زي مسئولية دراستي اللي اتحملتها لغاية ما بقيت معيدة في الجامعة...
ثم رفعت إليه عينيها لتردف بنبرة أقوى:
_وزي مسئولية جوازنا اللي هاشيلها عشان ينجح بجد ونبقى سعدا سوا.
والصدق الحار في كلماتها انتقل إليه ليثلج صدره ...
فضمها إليه بقوة ليتخلل شعرها بأنامله مقرباً وجهها نحوه مع محاولته الأخيرة لاختراق حصون تحفظها هذا:
_والمسئولية دي لازم تشيليها بوش "الشاويش عطية" ده ؟! ما ينفعش تحسسيني شوية إنك ست ؟! ما ورثتيش جينات خالتك ليه ؟!

كان يقولها مازحاً ولا يدري أنه قد داس على الجرح القديم ...
لهذا اتسعت عيناه بإدراك عندما تنمرت ملامحها مع هتافها المنفعل:
_خالتي ؟! وصلت لإيه خالتي؟! جمال وشياكة وشهرة وأنوثة بتحسدها عليها أي ست لحد دلوقت في سنها ده ...لكن خسرت إيه في المقابل ؟! عايزني أبقى زيها ؟! عمري ما هابقى زيها ...عارف ليه ؟! لأني أكتر واحدة شاهدة هي دفعت تمن شكله إيه عشان كل ده .

عقد حاجبيه بقوة وهو يشعر أنه يقترب أكثر من صندوق ذكرياتها الأسود ...
ورغم تطرف أفكارها الشديد لكنه الآن قد بدأ يعذرها فيه ...
هي تحاول قدر استطاعتها الابتعاد عن صورة "بيللا" النجمة بكل تفاصيلها الصالح منها والطالح ...
ربما لهذا السبب تحاول وأد أنوثتها بهذا المظهر الجديّ الذي تتخذه حياتها كلها ...والبعيد تماماً عن طبيعتها العاطفية التي يستشعرها !
هذا الإدراك الذي جعله يشعر بالكثير من الارتياح ...
لكنه لم يجعله يعدل عن خطته !
هانيا يجب أن تتغير!
ستحبه بطريقته وتتنازل عن كل هذه الحواجز التي تختبئ خلفها ...
وهو وضع قدمه على أول الطريق ولن يبرح حتى يبلغ!
======
_اتأخرت ليه ؟! الماتش بدأ من بدري.
هتفت بها ياسمين وهي تنتظره أمام التلفاز عقب عودته من الخارج
فتحفزت ملامحه وهو يسألها بينما يتابع المباراة:
_إيه الأخبار؟!
_محدش لسه جاب جون بس اللعب حلو!
ابتسم وهو يجلس جوارها ليقول بفظاظته الساخرة بينما عيناه معلقتان بالتلفاز:
_خلليكِ في المطبخ يا حلوة...الستات مابتفهمش في الكورة!

لكنها أشارت نحو الشاشة لتقول بحماستها الحيوية:
_ده كلام الرجالة العنصريين اللي زيك...شايف محمد
صلاح ده مثلاً؟! أراهنك في خلال سنة هيكون له مستقبل عظيم .

رمقها بنظرة جانبية ساخرة لتلتفت نحوه متسائلة :
_اشمعنا في الكورة بتتفرج على فرق أجنبية ؟! مع إني لاحظت إن ذوقك شرقي في كل حاجة ...
_لا أنا في الكورة راشق في أي حاجة...كان حلم حياتي من صغري أطلع لاعب كورة بس ...أوووو...جووووووون!!!!
ضحكت بمرح وهو يقاطع عبارته بتصفيقة تبعها صفير طويل جعلها تواصل ضحكاتها المستمتعة بلا انقطاع ...
متلذذة بهذا الوجه الحماسي منه البعيد تماماً عن قناع سخريته الفظة في غالب أوقاته ...
حتى ولو لأجل لعبة!

بينما تظاهر هو بمتابعة المباراة لكن تركيزه كان مشتتاً بنظراتها المصوبة نحوه ...
حنان عاطفتها التي تغدقها عليه بسخاء لايزال يربكه ...
يخشى إدمانه لكنه يتلذذ بارتشافه قطرة قطرة ...
أناني؟!
هكذا يظن نفسه معها لهذا يلومه ضميره كثيراً لكنه يخرسه بزعمه أنه لا يطلب منها شيئاً...
هو يتظاهر بالصلابة أمام فيض عشقها الذي يجرف في تياره كل سدود وساوسه بشأنها ...
ولازال يصبر نفسه أن كل هذا مجرد عرض مؤقت ستنتهي صلاحيته بانتهاء مشكلته مع سيلين...

_هاحضر لك العشا وآجي نشوف الشوط الثاني.
قالتها وهي تقوم من مكانها عقب انتهاء شوط المباراة
الأول ليتابعها ببصره خلسة باستمتاع ...
منامتها الوردية شديدة الأنثوية رغم تصميمها المتحفظ الذي لا يبدي تفاصيل جسدها لكنه يفسح المجال للخيال مع حزام خصرها الضيق ...
الخيال الذي لم يكن ينقص رجلاً مثله على أي حال !
هو يزعم أنه "رجل التفاصيل" الذي تستهويه دقائق
الأمور ...
فكيف يغفل عن طلاء أظافرها الرقيق الذي حمل لون منامتها ؟!
وذاك الخف المنزليّ الذي تزينت مقدمته بالفرو الأنيق مع حبات اللؤلؤ الصغيرة لتبدو من خلفه أصابعها المنمنمة بمظهرها الشهيّ الذي لا يدري لماذا يثيره إلى هذا الحد !
عيناه تواصلان مراقبتهما الخفية لها ملاحظاً أنها لا تكاد تهتم بتصفيف شعرها ...ولولا نعومته الطبيعية لكان مظهرها كارثياً!
غريب!
هي تتركه دوماً حراً دون رباط بما يناسب طوله القصير لكنها لا تهتم به اهتمامها ببقية تفاصيل جمالها ...
يقولون إن الشعر الطويل لا يلائم القصيرات لكنه يود لو يرى شعرها هذا طويلاً كما يذكرها قديماً بجديلة ذهبية ثرية خلف ظهرها ...
جديلتها التي كانت غريبة على مظهر رفيقاتها في ذاك الوقت ...
ربما لهذا يذكرها جيداً ...

انقطعت أفكاره بتثاؤب طويل وهو يشعر بجفنيه
يتثاقلان فمال على جانبه ليرقد على الأريكة مسنداً رأسه على الوسادة التي كانت تحتلها هي منذ قليل ...
والتي علق بها عطرها "الملون" الذي طالما أثار حيرته ...
والآن يثير بداخله إحساساً آخر لا يدري كنهه ...
إحساس ب"الأمان"!
أمان؟!
من الطبيعي أن يكون الرجل "أمان" المرأة...
لكن الغريب أنه معها هي يشعر بالأمر منعكساً...

هو الذي يحتاج حبها ومع هذا يزعم فيه زهداً...
وهي التي تعطي وتعطي ...ولا تريد التوقف!

أخذته أفكاره بين يقظة ونوم غلبه أخيراً ليعود إليه إدراكه مع شعوره
بالغطاء الذي لامس جسده ...
أبقى عينيه مغلقتين وهو يشعر بها تقترب منه ...
تنحني عليه لبضع ثوانٍ مرت عليه في ترقبه كدهر ...
قبل أن يشعر بملمس شفتيها على جبينه في قبلة خاطفة لم تستغرق ثانية واحدة !
ثانية واحدة أشعلت به الاشتياق لمذاقها الذي يذكره كحلم بعيد ...
حلم ابتعد الآن مع ابتعادها وهي تغلق التلفاز والأضواء كي لا تزعج نومه!
صوت باب غرفتها يغلق فيفتح عينيه اللتين طار منهما النوم تماماً ...
الآن فقط يعترف أنه عاجز عن صد هجومها العاطفي...
وكيف يفعل؟!

وحبها يتشح بغلالة رقيقة من "أمومة" يهفو إليها "اليتيم" المنزوي بين أضلعه ...
أجل ...هذا حب "أم" وليس حب "امرأة" ....
ومن مثله يدرك الفارق؟!
لكن ...ماذا بعد؟!
هي "القوية" بعشقها ...وهو "الضعيف" بخوفه ...فكيف يلتقيان؟!
======
عاد من عمله مبكراً الليلة على غير عادته ...لماذا؟!
لو حسب الأمور بعقله لقال إن طبيعته "الوسواسية" جعلته يرغب في استكشاف حياتها في بيته في غيابه ...
لكنه لو استمع لهمس حواسه الخفيّ لأدرك أنه لا يريد مراقبتها شكاً بل...شغفاً!
أجل...
هي صارت هوسه الجديد بعدما زلزلت كل أركان عالمه وأشعلت الثورات في أوطان طالما ظنها خانعة !!
لهذا ركن سيارته بعيداً عن باب البيت الخارجي الذي فتحه ببطء حذر كي لا يحدث صوتاً ثم أغلقه خلفه بنفس الحذر ...
قبل أن يعبره بخطوات حذرة ليدور في الحديقة المحيطة به حتى توقف على بعد مناسب من نافذة المطبخ المطلة على الحديقة ...
المطبخ الذي يعلم أنها تقضي فيه أغلب أوقاتها بحكم عشقها للطهي...
المهارة التي يعترف لها بها بكل اقتدار!
أسند ظهره لجدار النافذة يتمالك أنفاسه المتسارعة وهو يشعر
بالمغامرة ...
جزء من ضميره يؤنبه لكنه يخرسه بزعمه أن لا ضير في مراقبة زوجته !
مال برأسه بحذر يحاول استكشاف ما يجري بالداخل قبل أن تتسع عيناه بصدمة وهو يميز جسدها الضئيل هناك تعطيه ظهرها منهمكة
بالطبخ !
جسدها الذي يراه لأول مرة بهذا الوضوح في منامة شديدة القصر ...
جزءها العلوي بحمالتيه الرفيعتين ينحسر كثيراً حتى يكاد يبدي ظهرها كله ...

بينما بدا جزءها السفلي بلا فائدة تقريباً مع قصره الشديد الذي التحم مع ضيقه ليصنعا معاً كارثة لعيني أي رجل!
هل جسدها مشوه كما كان يظن؟!
ضاقت عيناه بتفحص وهو يمعن في اقترابه الحذر لكنه لم يتبين أي تشوه !!
لكن ...مهلاً !
هناك تلك الندبة داكنة اللون قرب كتفها...
وهل تستحق وحدها كل هذا التحفظ الذي تفرضه هي على ملابسها؟!!
انقطعت أفكاره عندما استدارت فجأة فكتم أنفاسه وهو يبتعد برأسه ...
قبل أن يعود ببصره بحذر ليتفحص جسدها من الأمام مستغلاً انشغالها بما تفعله !
انفرجت شفتاه باستجابة حسية لما يراه لكن هذا لم يكن ما يؤرقه ...
بل سبب نفورها من الملابس المكشوفة!
لقد كان يظنها مشوهة الجسد أو ناقصة الأنوثة لكن ما يراه الآن يخالف كل توقعاته ...
هذه المرأة لو أرادت خطف الأبصار فستفعلها دونما جهد يذكر!
هل من المفترض أن يسعده هذا؟!
أن يجعله يشعر بالفخر وهو يرى هذه الفتنة المتجسدة تزعم أنها تعشقه هو دون مقابل؟!
لا!
العجيب أن رؤيته لها هكذا لم تؤجج في صدره سوى المزيد من الوساوس والشكوك ...
كيف ظن أن إدخال امرأة كهذه في حياته سيكون بتلك السهولة التي توقعها؟!
كيف وهي ببساطتها هذه إعصار غموض يجتاحه دونما رحمة؟!
تبدو وكأنها تعطيه بسخاء دونما مقابل والحقيقة أنها تحتله كله في كل دقيقة تمر عليهما معاً!!

لهذا كز على أسنانه بقوة كاتماً مشاعره قبل أن يعود بخطوات متمهلة نحو باب البيت الداخلي الذي فتحه بنفس الحذر ليتوجه نحو المطبخ ...

_السلام عليكم!

لم يكن يتوقع أن يثير الموقف عاصفة الهلع التي اجتاحتها ...
شهقتها العنيفة وهي تغطي جسدها بذراعيها للحظة واحدة قبل أن تفعل أغرب شيء توقع أن تفعله !!!
لقد اندفعت نحوه بسرعة لتلصق راحتيها بعينيه هاتفة بانفعال:
_اوعى تبص ...أرجوك!
ظلت تكررها بانفعال بدا له هستيرياً قبل أن يغلبها البكاء الذي لم يفهم له هو داعياً في موقف كهذا!
ربما كان سيتفهم لو كان شعورها خجلاً...مفاجأة من وجوده ...
لكن هذه الرهبة الخانقة حد البكاء غريبة حقاً!
_اهدي خلاص مش هابص!
قالها وهو يحاول التربيت على ذراعيها مهدئاً ولازالت راحتاها تغطيان عينيه لكنها ابتعدت عن مرمى ذراعيه بذاك النفور الذي يثير جنونه مع هتافها الباكي:
_هارجع أوضتي بس احلف إنك مش هاتبص ...احلف !
ربما في موقف آخر كان ليعتبر كل هذا مجرد دلال أنثوي متمنّع يستحق السخرية وبعض ال...جرأة!

لكنه يشعر الآن بحق أنها لا تدعي كل هذا ...وكيف تفعل؟!
وهو يكاد يسمع دقات قلبها الهادرة تعوي وسط كل هذا البكاء!!
لهذا ازدرد ريقه بتوتر ليهتف لها مهدئاً:
_والله هافضل مغمض لحد ما تروحي أوضتك...اهدي بقا!
صمتت للحظات وكأنها تتردد قبل أن ترفع كفيها عن عينيه ليبرّ هو بقسمه بينما هي تهرول نحو غرفتها التي أغلقت بابها خلفها بسرعة !
ورغم يقينه من أنها ابتعدت لكنه ظل مغمضاً عينيه على صورتها الأخيرة التي رآها ...
ليس فقط كونها أجمل وأشهى صورة رآها فيها ...
لكنها تلك "الحمية" التي أثارها فيه بكاؤها المذعور هذا!
انهيارها هذا الذي لم يشهده من قبل مع شخصية حيوية مثلها إلا....
إلا تلك الليلة التي تشاجرت فيها مع طليقها لتنتهي بعزلتها في مكانهما المفضل!!
تباً!!
يبدو أن ذاك الوغد فقط هو من يطفئ شعلة توهجها التي شهد عليها هو نفسه في تلك الفترة القصيرة التي عرفها فيها...
يجب أن يفهم تفاصيل ما كان وما يكون ...بل وما سيكون !!
اتفاقهما؟!
فلتذهب كل الاتفاقات للجحيم ...سيصاب بالجنون لو لم يحط بكل التفاصيل كالعادة!!
لهذا زفر بقوة ثم توجه نحو غرفتها التي طرق بابها منتظراً إذنها
بالدخول ...
ولم يكد يفعلها حتى وجدها جالسة على فراشها وقد ارتدت إحدى مناماتها الطويلة كالعادة ...
تحتضن ركبتيها بذراعيها وتخفي وجهها الباكي بينهما !
تقدم منها بقلب وجد صدى وجعها بداخله ليجلس جوارها على طرف الفراش ثم تنحنح بخشونة قائلاً:
_آسف عشان دخلت فجأة من غير ما أقوللك!
_أنا اللي آسفة...أنا اللي مش طبيعية!

قالتها بغمغمة باكية دون أن تغير وضعها فتنهد بحيرة ...
قبل أن يحسم أمره ليقترب منها أكثر ...
ثم ضمها إليه بذراع واحدة !

وكما توقع تماماً انتفضت مكانها بنفس النفور الذي يثير غيظه لكنه احتكر نظراتها الخائفة بفيض عينيه الذي مزج حنانه بقوته مع همسه:
_لو فاهماني كويس زي ما بتقولي هاتعرفي إني عمري ما هأذيكِ أو أعمل حاجة غصب عنك ...أنا بس عايزك تهدي...اهدي!
أغمضت عينيها بقوة بعدها وجسدها يستكين تدريجياً بينما أحد ذراعيه يضمها وبالآخر يربت على وجنتها...
حتى استكان رأسها على كتفه ولازالت شهقات بكائها تصم أذنيه ...
كم يود الآن لو تفك ارتباط ساعديها هذا لتتشبث به هو ...
لكنها لم تفعلها ...
وكأنها تأبى إلا أن تستمد قوتها من نفسها فحسب!

ظل يربت على وجنتها برفق صابراً حتى هدأت حدة بكائها فتنهد بارتياح ...
قبل أن تتوغل أنامله بين خصلات شعرها مع همسه الذي يبدو خشناً لكن كليهما كان يدرك ما يختفي وراءه:
_قصيتِ شعرك ليه ؟! أنا فاكر إنه كان طويل قوي ...يمكن عشان كده ما افتكرتكيش بسهولة.
قالها متوهماً أنه يغير الموضوع كي يصرفها عما يزعجها ...
لهذا تعجب عندما عاد جسدها لتشنجه بينما تجيبه بانفعال حار:
_عشان كرهته!...كرهته زي ما كرهت جسمي وكرهت إنه يبان !

نظر إليها مبهوتاً وهو يحاول التقاط نظراتها في هذه اللحظة لكنها كانت تخفي وجهها باستماتة في كتفه ...
يكاد يستصرخها بالبوح عما تخفيه لكنه كره -استغلال ضعفها- في هذه اللحظة ...

فاكتفى بتشديد ضمة ذراعيه لها تاركاً لها حرية الابتعاد متى شاءت !
ذاك الذي اختارته بعد بضع دقائق نسجها الصمت الصارخ بالمشاعر بينهما ...
قبل أن ترفع إليه عينيها أخيراً فهمس لها بنفس النبرة الخشنة:
_ممكن أرد لك حاجة ادتيهالي امبارح!

عقدت حاجبيها بتساؤل حائر لكنه لم يمنحها الفرصة للتفكير عندما مال على جبينها بقبلة ناعمة قصيرة كتلك التي منحتها له بالأمس ...
اتسعت عيناها بصدمة وهي تدرك أنه كان متيقظاً عندما فعلتها ...
هذا الإدراك الذي جعلها تذوب خجلاً لكن لم تكن لوجنتيها أن تحمرا أكثر فقد كانتا محترقتين تماماً بانفعالاتهما ...
لهذا ابتعدت مجفلة أخيراً لتغادر الفراش وهي تغمغم بارتباك:
_هاقوم أغسل وشي!
فقام ليقف قبالتها جاذباً ساعدها نحوه مع تساؤله :
_هتعيطي تاني؟!
عضت على شفتها بقوة وهي تطرق برأسها للحظات قبل أن تستجمع قوتها لتعاود رفع رأسها وهي تمسح وجهها ...
وبنفس القوة الحيوية التي يعرفها فيها رسمت على شفتيها ابتسامة شاحبة وهي تهز رأسها في جواب
بالنفي ...
قبل أن تغادره نحو الحمام الصغير المرفق بغرفتها ....
لازالت قوتها تبهره!
لا ...ليست قوتها فقط ...بل مزيج الضعف والتحدي الذي يشعر أنها تواجه به حياتها ...
لقد تعلم في عمره القصير أن تجاهلنا المبالغ فيه لأحزاننا يُكوّن حولنا قشرة واهية تجعلنا ننهار بسهولة عند أول ضغط إضافي...
ويبدو أنها هي الأخرى وعت هذا الدرس جيداً ...
هي لا تتجاهل حزنها ...لا تغض الطرف عنه...بل تعيشه ببساطة ...تواجهه...تبكي وتعطي قلبها حقه في التأثر ...لكنها تنهض بعد كل هذا من عثرتها بابتسامة قوية كهذه التي رسمتها على وجهها في النهاية !

تنهد بعمق وهو يشعر أنه يتورط بها أكثر قبل أن تحين منه التفاتة لحاسوبها المحمول هناك ...
فتردد للحظة قبل أن يغلبه سلطان وساوسه ليجد نفسه يقترب منه ليفتحه...
فيجد...صورته!
أجل...صورة قديمة له لا يدري من أين أتت بها !

ارتسمت على شفتيه ابتسامة واهنة وهو يشعر بالحنين كعهدنا مع صورنا القديمة...
صحيح أنه كان أنحف بدناً وأقل وسامة مما هو عليه الآن ...
لكن شيئاً ما في ابتسامته كان يمنحه شكلاً أجمل...
شيئاً من "براءة" نالت منها قسوة ظروفه التي لطمته بها
الأيام بعدها !
اتسعت ابتسامته وهو يلمح ملفاً كاملاً يحمل اسمه ...
فتحه ليجد العديد من صوره في تلك الفترة ...
مروراً بالعديد من الصور له قبل سفره لانجلترا ...
وانتهاء بصور حديثة له في رحلة الأقصر !
هذه المرأة مهووسة به حقاً!
لكن ما لفت نظره هو تلك الصورة التي وجدها لكليهما والتي يوقن أنها ليست حقيقية ...
صورة لهما معاً وهو يحتضنها بقوة !!
هو لم يكن معها بهذا الوضع أبداً حتى ليلة زفافهما!
زفافهما؟!
أين صور زفافهما؟!
لماذا لا تحتفظ بها في هذا الملف؟!
انقطعت أفكاره عندما وقع بصره على كيس البالونات جواره على الكومود...
فالتمعت عيناه بعبث وهو ينتوي أن يعد لها مفاجأة!
=========
فتحت باب الحمام لتخرج قبل أن تشهق بدهشة وهي تجد عدداً من البالونات الملونة جواره على الفراش بينما وجهه محمر وهو ينفخ واحدة أخرى!
ضحكت ببساطة تميزها وهي تقترب منه لتهتف بدهشة لم تخلُ من لمحة سعادة:
_بتعمل إيه؟!
انتهى مما يفعله ليربط البالون بخيط رفيع كي يضعه جوار صحبته
مكملاً لها مجموعة الألوان مع قوله الساخر:
_بنفخ بلالين! الله يسامحك ...بقى دي آخرة دكتور محترم زيي!
عادت ضحكتها تصدح جواره بسعادة يدرك الآن أنها حقيقية تماماً ...

عسل عينيها يلتمع ببريق أمل محا بريق الدموع التي
ملأته قبلاً وهي تجلس جواره على طرف الفراش لترفع البالونات واحدة تلو الأخرى فتطيرها لأعلى تاركة لها حرية السقوط حولها ...
قبل أن تلتفت له بهمسها الدافئ:
_شكراً يا يامن...متعرفش حركة بسيطة زي دي تساوي عندي إيه!
فاقترب بوجهه منها ليسألها بجدية:
_عايزة تشكريني بجد؟!
همهمتها المترقبة كانت الجواب فتناول حاسوبها المحمول ليدير شاشته نحوها قائلاً:
_يبقى جاوبيني...كل الصور بتاعتي عارفها ...إلا دي...فوتوشوب صح؟!
بدا على وجهها الارتباك للحظة قبل أن تطرق برأسها كطفلة مذنبة ...
لكنه رفع ذقنها نحوه ليهمس بحزم حنون:
_هتقوليلي وحالاً!
_ومش هتقول عليّ مجنونة بيك؟!
_وأنا لسه هاقول!

هتف بها مشاكساً ليزداد احمرار وجنتيها اللذيذ مع إجابتها :
_دي صورة قديمة ليك كنت بتحضن بنت صغيرة في النادي وقعت على رجلها وكانت بتعيط...ماتعرفش وقتها حسيت أد إيه انت حنين ...لقطت الصورة وكنت كل شوية أتفرج عليها لحد وقت قريب كنت حاسة فيه إني لوحدي ...
ارتفع حاجباه بتأثر وهو يدرك البقية قبل حتى أن تكملها :
_لقيتني بشيل صورة البنت وبحط صورتي!
كانت تهمس بها بمنتهى الخفوت وهي تتحاشى لقاء نظراته بينما تتلاعب أصابعها بحركة عصبية ...
أصابعها التي شبكها الآن بأصابعه وهو يسألها فجأة دون مقدمات :
_أنا كنت سبب من أسباب طلاقك؟! أنا عارف إننا اتفقنا ما نخوضش في تفاصيل ...قولي آه أو لا!
أغمضت عينيها بقوة ثم سحبت أناملها منه لتشيح بوجهها قائلة:
_ممكن أرضي غرورك وأقوللك آه...بس الحقيقة ...لا!

ثم رفعت رأسها لتردف بنبرة أقوى:
_أنا مابخونش يا يامن...لما اتجوزت كنت خدت قراري إني هارمي الماضي كله ورا ظهري...ربنا عالم إن أنا وقتها ما كنتش حتى بحاول أفكر فيك ...اعتبرتك حلم قصير صحيت منه ...حتى صورك خبيتها في "الفولدر" ده وما فتحتهاش تاني غير لما اتطلقت.

كم يود الآن لو ينعتها بالكذب!
لو يخبرها أنه لا توجد امرأة في هذه الدنيا بهذه المثالية!
لو يصرخ بها أنه لا يصدق حرفاً مما تزعمه !!
هذا أهون عليه بكثير من هذا الشعور الحارق الذي يعصف بقلبه الآن...
لكن المصيبة الحقيقية أنه يصدقها!
كل كلمة...بل كل حرف يغادر شفتيها إلى قلبه مباشرة دون حواجز !

_بتبص لي كده ليه ؟! مش مصدقني!
همست بها بتفهم وهي تعود ببصرها نحوه مدركة طبيعته المتشككة...
فرمقها بنظرة طويلة قبل أن يقوم ليقف قبالتها
متجاهلاً سؤالها الذي لا يريد إجابته...
_جعان!

ارتفع حاجباها بدهشة للحظة قبل أن تهتف بلهفة حانية:
_يا خبر! حالاً !
قالتها وهي تهرول لتغادر الغرفة بخطواتها شبه الراكضة التي تجعلها أقرب لطفلة عابثة ...
فتأوه بخفوت وهو يراقبها بمشاعر لم يعد يدرك ماهيتها لكنه قرر تجاهلها....
لحق بها إلى المطبخ ليجدها تعد المائدة بسرعة وما إن لمحته حتى هتفت :
_عارفة إنك مش بتحب الأكل سخن قوي ولا بارد ...نص نص...شوف كده مناسب؟!
قالتها وهي تتناول بالشوكة قطعة لحم وضعتها بين شفتيه ليجيبها باستحسان:
_جداً!

ابتسمت بفخر وكأنه قد منحها بإجابته المقتضبة شهادة تقدير لتشير بكفها نحو الطعام هاتفة:

_محشي ورق عنب..كرنب...كوسة...برنجان...فل� �ل...شوربة لسان عصفور...طاجن بامية باللحمة...وسلطات!
_ذنبي في رقبتك...كل اللي يشوفني يقوللي تخنت بعد الجواز...شكلي هحتاج كورس مكثف في الجيم عشان أنزل الكام كيلو اللي زدتهم!
قالها بلهجته الساخرة التي تعرفها بينما يجلس مكانه ...
فابتسمت وهي تسحب كرسيها لتجلس أمامه هاتفة:
_أعتبر دي شهادة منك بطعامة أكلي؟!
_مش محتاجة شهادتي...واضح إنك واخدة موضوع الأكل ده هواية مش مجرد طبيخ وخلاص...
ثم تنحنح بحرج ليردف:
_بس للأسف أنا ماليش في المحشي خالص...طول عمري مش بستلطفه !

ظهرت الخيبة على ملامحها لتقول بما يشبه الاعتذار:
_معقول؟! ماكنتش أعرف!
_ممكن أجرب المرة دي!
قالها وقد ساءته الخيبة التي كست وجهها فتهللت
ملامحها لتنسى حذرها المعهود بخصوص طباعه الوسواسية ....
فتناوله بأصابعها أحد أصابع المحشي التي قربتها من شفتيه هاتفة بحماس:
_أيوة كده جربه حرام أنا تعبت فيه!
هنا التمعت عيناه بحنان غريب وشعوره ب"أمومتها" نحوه يعود يغزوه...
هو لم يعرف امرأة في حياته تعبت لأجل أن تعد له -هو وحده- طعاماً!
لكن علامَ العجب؟!
هذه المرأة لم يعد شيء ما فيها يدهشه!
وكأنما خلقت لتضرب "ثوابته" في مقتل وتقصف كل معتقداته بينما تمنحه بكل سخاء ما عاش عمره محروماً منه ...
لهذا أمسك معصمها يقرب أصابعها الممسكة بالطعام من شفتيه فيتناوله بتلذذ مستمتعاً بمذاقه...
وبنظراتها العاشقة المرتبكة قبله!!

هذا الارتباك "اللذيذ" الذي أصر أن يزيده وهو يلعق أصابعها بخفة مدغدغاً بحركة لطيفة مع همسه العابث:
_انتِ عارفة إنه من السُنّة إن الواحد يلعق أصابعه بعد
الأكل!
_صوابعه مش صوابع اللي معاه !
غمغمت بها بحروف شبه ذائبة وهي تسحب أناملها منه فجأة ...
فضحك ضحكة طويلة جعلتها تغمض عينيها بحنان لتسأله:
_عجبك؟!
_لو كل مرة هاكله كده ...معنديش مانع!

ارتفع حاجباها بدهشة غلبت ارتباكها وهو يعاود الإمساك بمعصمها ليوجهه نحو الطعام ...
فترددت قليلاً قبل أن تعيد الكرّة وهي تتحاشى النظر نحوه ...
لتسأله بارتباك خجول:
_غريبة! داليا كانت بتقول إنك مش بتحب حد يمد إيده في أكلك.
رفع حاجبيه بدهشة للحظة وكأنه تنبه الآن فقط لصحة ما تقول ...
قبل أن يهز رأسه ليغمغم بمواربة:
_أكيد لكل قاعدة استثناء!
_صحيح؟!
همست بها بأمل أشرق في ملامحها واستجلب ابتسامة حنون لشفتيه بينما عيناهما تتعانقان بنظرات ليست
كالنظرات...
كلاهما في هذه اللحظة كان يتشبث بما يتسرب من حديث تفضحه عينا صاحبه دونما حذر...
بينما يقاوم كي لا تخونه عيناه هو!!
قلبها كان يخفق بقوة وهي تشعر بحنانه الذي طالما لمسته من بعيد يخصها هي الآن به...
وقلبه كان يحاول التحرر من سجون شكوكه التي تزويه بعيداً عن شمس عاطفتها ...

وبين هذا وذاك دار حديث العيون الذي قطعه هو أولاً بمحاولة هروبه من هذا الاعتداء العاطفي الغاشم على حصونه بقوله :
_سيلين هتوصل مصر بكرة أو بعده بالكتير!
توقفت أناملها عما تفعله للحظة قبل أن تعاود إطعامه بنفس الطريقة لتسأله وقد عادت العيون لغربتها:
_عايزنا نعمل إيه؟!
_هنسافر!
قالها بحزم وهو يمضغ الطعام بشرود ليردف:
_المفروض إننا عرسان وطبيعي نكون مسافرين نقضي شهر العسل ...ده اللي لازم هي تفهمه ...ولو عايزة تكلمني تستناني لما أرجع.
صمتت طويلاً تراقب شروده بعينيها الخبيرتين به ...
رغم ما توقن به من حنان طباعه الأصيل لكنها تدرك كذلك أن قسوته لن تقل عنه عمقاً...
قسوته التي لا تدري ماذا فعلت سيلين كي تستحقها بهذا الشكل الذي قد يدفعه للتخلي عن ابنه ...

_حبيتها؟!
سألته وهي تعاود الهرب من نظراته بالتشاغل بالطعام ليجيبها بنبرته الخشنة التي عادت إليها قوتها:
_لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين...الحب ده لعب عيال اديته مرة لواحدة ماتستاهلش ومعنديش استعداد أقع فيه تاني...

لم يكد يتفوه بها حتى انتبه لفظاظة ما قاله خاصة مع إطراقة اليأس التي نالها منها ...
لكنه لم يفكر في التراجع!
هو لم يخطئ فيما قاله ...ولا يريد أن يعلقها ب"قشة" غرام لن يمنحه لها !
هو آمن مادام على البر ...فما يلجئه ل"موج" المخاطرة؟!

لهذا أردف بنفس الخشونة:
_جوازنا كان اتفاق هي خانته...ومش ذنبي إنها فاكرة إننا ممكن نرجع تاني.
ظلت صامتة بعدها مطرقة الرأس لا تعقب فشعر بالضيق الذي جعله يسألها:
_تحبي تسافري فين؟!
_مش هتفرق.
قالتها وهي تعاود رفع رأسها بابتسامة مصطنعة نالت من حيويتها المعهودة فتنحنح كعادته ليسألها :
_مفيش مكان معين تحبي تروحيه؟!
هزت رأسها نفياً قبل أن تشحب ملامحها وقد بدت وكأنها تذكرت شيئاً جعلها تقول بارتباك:
_بلاش شرم والغردقة .
انعقد حاجباه وهو يفطن لسبب رفضها لهذين المكانين
بالذات ...
ورغماً عنه تسلل إليه شعور يجربه معها لأول مرة بهذه الصورة ...
شعور "الغيرة"!
ليست الغيرة عن "حب" بل عن رغبة في "التملك" وخوف من الفقد ...
هذا الذي جعله يسألها بنبرة فضحته:
_كان بياخدك هناك ؟!
كان لايزال ممسكاً بمعصمها الذي سحبته منه أخيراً لتتجاهل سؤاله وهي تقوم لتقول بتماسك مصطنع:
_اعذرني مش هاقدر أسهر أكتر من كده...دماغي مصدع ومحتاجة أنام ...تصبح على خير!


ازداد انعقاد حاجبيه وهو يراها تفر من أمامه لتعود لغرفتها ساحبةً من الهواء نكهة خاصة صارت تميزها لديه ...
نكهة يريدها...يحتاجها...يشتاقها ...
لكنه...يقاومها بكل ما أوتي من قوة !
لهذا زفر بقوة وهو ينظر إلى الطعام الذي أعدته والذي فقد مذاقه بمجرد ابتعادها ...
قبل أن يقوم ليدخل ما تبقى في الثلاجة محاولاً التشاغل عن التفكير عنها بأي شيء...
لكنه وجد خطواته تقوده لغرفتها بعد دقائق ...
أصابعه تطرق الباب بخفة مع قوله :
_نمتِ؟!
والإجابة تصله بعدها بقليل عن قريب جداً ليدرك أنها الآن خلف الباب تماماً:
_لسه.
_هتنامي وسط البالونات؟!
يسألها وابتسامته العابثة تعاود التراقص على شفتيه فتجيبه دون أن تفتح:
_آه.
لم يرَ ابتسامتها لكنه شعر بها في نبرتها ليعاود سؤالها ولايزال الباب -اللعين- يفصل بينهما:
_هتعيطي تاني؟!
_لأ.
نبرته الخشنة يتخللها بعض الحنان وهو يمر بأصابعه على الباب المغلق وكأنه يسترجع مذاق قربها ليقول أخيراً:
_تصبحي على خير.
_وانت من أهله.
يوماً ما ستخبره أنها في مصادفة قدرية كانت تتلمس الباب في نفس اللحظة بنفس الشغف ...
هو طريق سبقته هي فيه بآلاف الخطوات لكن يبدو... أنه سيلحق بها!
=======
طرق باب غرفة أمه برفق ليدخل قائلاً بحنانه المعهود:
_إزيك يا ست الكل ؟! أخبارنا إيه النهارده ؟!
فابتسمت المرأة الصابرة رغم شحوب ملامحها لتقول برضا:
_الحمدلله يا حبيبي ...انت عامل إيه ؟! ناقصك حاجة قبل الفرح؟!
هز رأسه نفياً وهو يتقدم منها ليقبل كفها قائلاً :
_ناقصني رضاكِ .
_راضية عنك يا حبيبي ليوم الدين ...رانيا عاملة إيه؟!
سألته بحنان ليجيبها وهو يجلس جوارها على الفراش غائب الذهن بينما هي مستمرة في أسئلتها التي تسألها كل يوم تقريباً ويجيبها هو بنفس الصبر مدركاً قلقها الخفي عليه ...
أسئلتها التي انتهت كالعادة بسؤالها الأخير:
_متأكد إنك مش مخبي عني حاجة يا حبيبي؟!
فيجيبها كالعادة بما يريحها:
_أبداً يا حبيبتي ...كله تمام وتحت السيطرة !
بقليل من المرح يقولها وهو ينهض من جوارها ليردف بنفس النبرة الخادعة:
_أقوم أنا بقا عشان مقتول من التعب...تصبحي على خير .
دعواتها الحارة تلاحق خطواته بينما يغادر الغرفة ليغلقها بابها خلفه قبل أن يتوقف لدقائق يستمع لأنّاتها المتوجعة التي يعلم أنها تخفيها عندما يكونون جوارها ...
زفر بضيق وهو يرفع رأسه لأعلى قبل أن يتوجه للغرفة الثانية التي كانت تحتلها شقيقته وابنتها ...
كان الباب مفتوحاً ليتبين على الإضاءة الخافتة مشهدهما وهما نائمتان متعانقتان ...
فارتسمت على شفتيه ابتسامة مرتجفة وهو يدعو الله أن يعينه على هذا الحمل ...
وأخيراً حملته قدماه لغرفته حيث استلقى على فراشه دون أن يجد القدرة حتى على تبديل ملابسه ...
قلبه يخفق بقلق ما عاد يفارقه والأفكار تتصارع في رأسه بجنون ...
لقد حكى لمساعده في المكتب عن كل ما يؤرقه ونصحه الرجل بالتريث في الأمر لأنه ليس هيناً ...
كما أنه استحسن موقفه بعدم إبلاغ الشرطة ليس فقط
لأنه لا يملك دليلاً واضحاً لكن لأن هذا سيؤثر على سمعة مصنعه الخاص بلعب الأطفال ...
من هذا الذي سيأمن أن يتعامل معه لو اكتشف أن في
الأمر شبهة تهريب مواد مخدرة؟!
هو الآن يعتمد أنها المرة الأولى لهم كما أخبرته سيدة ...
ربما لو أحبط محاولتهم وحده سراً بمعرفة الرأس المدبر ،يستطيع تدارك الأمر دون فضيحة تمس سمعة شركته !
هو يشك في المهندس الجديد المسئول عن الطلبيات ومساعده وعده بالتحري عن الأمر بأسرع وقت لهذا ترك له هذه المهمة فهو لا يملك الخبرة ولا الصلات العامة التي تمكنه من هذا .

انقطعت أفكاره برنين هاتفه فانعقد حاحباه بشدة وهو يرى اسم سيدة ...
وما إن فتح الاتصال حتى سمع صوتها يستغيث بحذر:
_الحقني يا أشرف بيه!
انتفض مكانه وهو يسألها بهلع عما يحدث لكنها غمغمت ببضع كلمات لم يتبينها قبل أن يسمع صوت ارتطام مكتوم تبعه انغلاق الخط!
اتسعت عيناه برعب وهو يغادر غرفته ليخرج نحو سيارته بسرعة غير آبه بشيء إلا هذه المسكينة التي وعدها بحمايتها هي وطفلها الذي غرر بها والده بعقد زواج عرفي .
والده الذي كان يعمل لديه في المصنع قبل أن يختفي تماماً بعدما علمت هي منه عن حقيقة ما تورط به.
لهذا لم تجد لها ملجأ سواه كي يساعدها في إيقاف هذا المخطط وإيجاد أبا طفلها كي يعترف ببنوته ...
صحيحٌ أنها ترددت في البداية خوفاً من أن ينالها ورجلها الأذى ...
لكنها لم تجد بديلاً آخر!
ترى ماذا حدث لها ؟!
هل آذوها؟!
انطلق بالسيارة كالمجنون يعبر الطرقات غير مكترث بتغيير هيئته ككل مرة ليتوجه نحو بيتها ...
ركن السيارة قريباً ثم ترجل ليهرول نحو باب بيتها الذي لم يكن يحتاج لجهد كبير كي يميزه...
فأمامه اصطف جمع غفير من أهل الحي الذين تعالت أصواتهم ليميز الخبر وسط هذه الجلبة...
_سيدة اتقتلت!
======
كاد ينتهي مما يفعله بحديقة البيت عندما شعر بخطواتها خلفه تهتف بلهجتها الحيوية:
_صباح الخير ...صحيت بدري ليه النها...!
قطعت عبارتها بصيحة استحسان عالية وهي تقترب منه لا تكاد تصدق عينيها من هذا الجمال أمامها ...
فهناك على الأرض تراصت بضعة إطارات سيارات كان قد أعاد طلاءها بألوان الطيف ثم جعلها تربة مناسبة ليغرس فيها نبتات بزهور ملونة جعلت مظهرها ساحراً...
ليس هذا فحسب ...
بل إنه صنع من أحدهم أرجوحة ثبتها بسلسلة معدنية في غصن شجرة ضخمة بعد طلائه هو الآخر بتلك الألوان الصاخبة !

_عجبوكِ؟!
لم يكن هناك جدوى من سؤاله فلأول مرة في حياته يفهم معنى أن تدمع عينا المرء فرحاً!
أجل...وجهها كله في هذه اللحظة كان صورة مجسدة للسعادة ...
حتى قبل أن تجد القدرة على النطق لتهتف أخيراً بانفعال:
_أنا مش مصدقة عينيّ...معقول الجمال ده ؟!
قالتها وهي تندفع نحوه لتمطره بنظراتها العاشقة مع استطرادها:
_عملتها عشاني؟!
ازدرد ريقه بتوتر وهو يحيد بعينيه عنها لا يجد جواباً...
سعادتها المشرقة في عينيها هذه تربكه !
بقدر ما تمنحه الرضا عن نفسه وهو يحاول إبهاجها بأي طريقة خاصة بعد ليلة الأمس ...
بقدر ما تثير سخطه وهو يرى نفسه يتورط بها أكثر ...
هو ما عاد يفهم نفسه ...ولا ماذا يريد ...
لكن الشيء الوحيد الذي يثق به أنه يريدها دوماً بهذه الفرحة التي تكاد تصرخ في ملامحها بعيداً عن صورتها المنهارة بالأمس ...
لهذا تنحنح بخشونة ليرد عليها بقوله الجاف كعادته:
_محدش غيرنا ساكن هنا ...وأكيد مش هاعمل الألوان دي لنفسي .

ورغم فظاظة الرد لكن من مثلها يفهم ما يخفيه خلف كلمات كهذه ؟!
لهذا ابتسمت بامتنان وهي تقترب منه أكثر هامسة:
_طول عمري أقول إن الهدية نفسها مش مهمة...المهم اللي قدامك يتعب عشان يوصل للي ممكن يسعدك ...أنا مبسوطة قوي عشان فهمت ذوقي وإن حاجة زي دي ممكن تفرحني .

لا يزال هجومها العاطفي هذا يدك حصون عناده لكنه هو الآخر لا يزال يتشبث بها ليقول ملوحاً بذراعه وهو يشير
للإطارات كي يتصنع عدم الاكتراث:
_كانوا مركونين من غير لازمة قلت أستفيد منهم .
فتحولت ابتسامتها لضحكة صافية وهي تقول له بمرح:
_برضه عملتهم عشاني ...وبرضه هافرح بيهم ...وهاشكرك .
كتم ابتسامته وهو يشيح بوجهه عندما تقدمت هي من
الأرجوحة تحاول الصعود إليها لتلتفت نحوه هاتفة بنفس المرح:
_بس ما عملتش حساب "النخلة" ...فاتت عليك دي!

قالتها مشيرة لقصر قامتها الذي طالما يعيّرها به مطلقاً عليها ذاك اللقب الساخر ..."النخلة"!
لكنه فاجأها عندما رفعها فجأة من خصرها ليجعلها تستقر مكانها على الأرجوحة تحت صرخاتها القصيرة المرحة قبل أن يقول بمكر :
_ومين قالك إنها مش مقصودة ؟! عشان ماتطلعيش من غير إذني!
ضحكت ضحكة عالية وهي تؤرجح ساقيها في الهواء بينما تمسك السلسلة المعدنية بذراعيها لتسأله بمرح ماكر:
_جبته لنفسك ...أنا زي العيال بشبط بسرعة....هتلاقيني كل شوية بقوللك تعال ركبني هنا !
فضحك بدوره وهو يؤرجحها قائلاً:
_حافظي بس على وزن الريشة ده...كيلو واحد زيادة والغصن هياخدك ويقع!
_بطّل سخافة يا دوك...طريقتك الناشفة دي مش هتضيع حلاوة اللي عملته النهارده !
ردت بمرح بين أنفاسها اللاهثة من فرط شعورها بالسعادة ثم كفت عن تحريك ساقيها مكتفية بدفعه هو لها ...
قبل أن تسند جبينها على ظاهر كفها الممسك بالأرجوحة لتقول وقد أغمضت عينيها باستمتاع:
_عارف امتى كانت آخر مرة فرحت فيها كده ؟! من زماااان ...قوي!

رفع حاجبيه بحنان ومشهد خصلات شعرها الذهبية المتطايرة في الهواء يكاد يذهب بعقله ...
كيف ظن يوماً أنه يكره لونه هذا ؟!
كيف يظلمها ويساوي بين شقرة شعرها وأي امرأة أخرى؟!
هل يعقل أن يتغير ذوقه هكذا في بضعة أيام ؟!
أم أن التغيير نابعٌ من نفسه هو؟!

_اوعدني تفضل دايماً كده .
انتشلته بها من أفكاره فالتفت نحوها بنظرة متسائلة لتردف:
_اوعدني تفضل روحك حلوة كده ...بالنقاء ده ...والحنان اللي بتغرق بيه كل اللي يخصوك مهما حاولت تداريه بصورة خشنة مش شبهك .

اتسعت عيناه بتأثر ليس فقط من سحر كلماتها التي وصفت -على قلتها -صراعاً يعيشه مع نفسه كل يوم ...
لكن لأنها بدت له ك"وصية وداع"!
إنها تصر دوماً ولو في أشد لحظاتهما صفاء أن تذكره بأنها راحلة ...
ولا يدري هل تفعلها استجداء لوعد منه بألا يسمح لها ...
أم هي تفهمه إلى هذا الحد الذي تدرك معه أنه لا يريد التورط بها أكثر؟!
لهذا أطرق برأسه صامتاً وهو مستمرٌ في أرجحتها بسرعة معقولة حتى سمع صوتها المرح يهتف به:
_كفاية عليّ كده النهارده عشان ما أطمعش...ياللا نفطر !

ابتسم ابتسامة واهنة وهو يوقف الأرجوحة لينزلها ...
كفاه يتشبثان بخصرها فتسند راحتيها على كتفه براحة فقدت نفورها القديم ...
عيناه تشكوان لعينيها هذا الشتات الذي يحياه بداخله فتجيبه عيناها ألا تخف...أنا معك!

هو الذي طالما ظن حب المرأة خديعة وحنانها سراباً ووفاءها معجزة ...
الآن يجد معها كل هذا مع وعد مطلق بعدم النفاد !

_ممكن أطلب منك حاجة بجملة الدلع النهارده ؟!
قالتها بنفس النبرة المرحة وهي تقطع لقاء عينيهما هذا بينما تبتعد بجسدها لتردف :
_ممكن نفطر هنا في الجنينة ؟!
عقد حاجبيه بضيق توقعته ليجيبها:
_مابحبش أغير عاداتي...بحب كل حاجة تمشي بنظامي .
فتنهدت باستسلام لتتحرك مبتعدة مع قولها:
_ماشي!
لكنه لحق بها بعد بضع خطوات وقد ساءه أن يرفض طلباً بسيطاً كهذا ليغمغم بفتور:
_لو النهارده بس ممكن.
تهللت أساريرها بفرحة طاغية لتتعلق بعنقه هاتفة بمرح :
_بجد؟! شكراً يا طيب!
قالتها واستدارت لتعود للداخل كي تعد للأمر لكنه جذبها من مرفقها ليقول باستنكار مشاكس:
_شكراً يا طيب؟!! بس كده ؟! ..ده أنا بعت مبادئي عشانك !

فضحكت بخجل وهي تتجاهل مغزى عبارته لتهتف بحماستها المتألقة:
_دلوقت تشكرني لما تشوف الجو اللي هاعمله .
قالتها ثم تملصت من ذراعه لتعدو بخفة نحو باب البيت بينما وقف هو يراقبها بابتسامة شاردة ...
هي لم تعد تنفر كما السابق من لمساته لها ...
لكنه يشعر كذلك أنها لا ترحب بها !
وكأنما هناك حاجز تحاول تخطيه بحبها القوي له فتنجح مرة...وتفشل مرات!
هو يكاد يكون واثقاً أن لزوجها السابق دوراً في الأمر خاصة مع أمر الجراحة التجميلية الذي يعرفه وتلك الندبة التي رآها بالأمس ...
تراه كان يضربها؟!

اقشعر جسده للفكرة وطبيعته "الحمائية" تسيطر عليه فلا يكاد يتصور كيف يؤذي رجل امرأة رقيقة كهذه ...
لكن وسواس ظنونه لايزال له بالمرصاد ...
حقاً...لن يفعل بها رجل عاقل هذا دونما سبب...
فما هو؟!
ولماذا ترفض هي الحديث عن الأمر بهذا التكتم الشديد ؟!
زفر بضيق عند الخاطر الأخير وهو يلعن طبيعته هذه التي تمنعه العيش بسلام ...
لكن ...هل يبغض هذا في نفسه حقاً ...أم يعتبره خط دفاعه الأخير كي لا يُخدع من جديد ...

انقطعت أفكاره عندما رآها من بعيد تعود بمفرش جلدي كبير ذي مربعات صغيرة ملونة ساعدها في بسطه على الحشائش ...
قبل أن يعاونها في نقل أطباق الطعام من المطبخ إلى هنا وحوارهما يتذبذب بين مرح ومشاكسة ...

ولم يكادا ينتهيان من الطعام حتى تنهدت بارتياح ليفاجأ بها تستلقى على ظهرها تماماً فاردة ذراعيها جوارها وهي تتطلع للسماء بنظرة ملؤها السعادة ...
فلم يشعر بابتسامته التي كست شفتيه وهو يتحرك ليستلقي جوارها تماماً متطلعاً مثلها للسماء التي امتلأت بسحبها البيضاء في هذا الوقت من الصباح ...
ظلا صامتين قليلاً قبل أن تقول هي دون أن تنظر إليه :
_عارف؟! فيه مشهد مشهور قوي في الأفلام الأجنبي لما بيبصوا للسما وكل واحد يتخيل هو شايف إيه في السحاب .
فمط شفتيه بضيق وهو يقول بشرود:
_مابحبش أي حاجة أجنبي ...بس معنديش مشكلة ألعب معاكِ اللعبة دي .
اتسعت ابتسامتها وهي تشير بإصبعها نحو السماء لتقول بمرح:
_شايف دي؟! شبه ملاك له جناحين وبيعزف على آلة موسيقية...
_أنا شايفها طفل حاطط ايده على خده وبيعيط .
لكن حديثه لم يحبطها بل قالت وهي تشير لغيمة بيضاء أخرى:
_ودي شبه عروسة البحر .
_تمساح.
ضحكت بانطلاق من المقارنة لتشير لأخرى هاتفة:
_سلم طالع لفوق!
_أنا شايفه نازل لتحت !
فالتفتت نحوه بنظرة عاتبة لم تخلُ من تفهم ليقوم هو من رقاده فيشرف عليها من علوّ مردفاً بينما يتأمل ملامحها العذبة:
_وده الفرق بيني وبينك ...أنا ماشي بنظارة سودا بنقل سوادها لكل حاجة عيني تشوفها لكن انتِ...

ثم امتدت أنامله تزيح خصلات شعرها الثائرة من على
ملامحها ليتحسس ملامح وجهها بنعومة مردفاً بنبرة تعجبها في نفسه قبلها:
_انتِ جميلة قوي ...لدرجة إنك بتخللي كل حاجة حواليكِ جميلة زيك ...حتى أنا !

اتسعت عيناها بدهشة وكأنها لا تصدق أنه يقول لها هي هذا ...
قبل أن تنفرج شفتاها ولا تجد عليه رداً إلا همسها باسمه!

المسافة بين وجهيهما تقصر فيتقاتل "الحب"و"الخوف"على عسل عينيها اللتين أغمضتهما أخيراً وكأنما ملت هذا الصراع فتركت حسمه له ...
هو الذي تمنى استجابتها في هذه اللحظة كما لم يفعل من قبل ...
أن يشعر بحبها شيء وأن تنصهر به في لقاء كهذا شيء آخر ...
شفتاه تتراقصان على شفتيها رقصة حذرة لم تلبث أن تحولت لأخرى شغوف يتعالى إيقاعها متزامناً مع خفقات قلبه ...
رقصة انتهت فجأة كما بدأت فجأة...
أنهتها دمعتها!
مذاقها المالح الذي امتزج على شفتيه بمذاق ألم لم يدرك سببه وإن أدرك حجمه ...


لهذا تمالك نفسه بصعوبة ليبتعد بوجهه عنها ماسحاً دمعتها مع همسه :
_أنا آسف!

عمّ يعتذر؟!
عن نقضه اتفاقه معها الذي يزداد ثقله على قلبه يوماً بعد يوم ؟!
عن أنانيته في رغبته أن ينهل من بئر عطائها السخي هذا لآخر قطرة دون أن يكترث بجفافه بعده ؟!
عن وساوس ظنونه التي لاتزال تلبسها أبشع الأقنعة ؟!
أم عما هو أبعد من هذا ...
عن غفلته عنها طوال هذه السنوات بينما هي غارقة في فيض عاطفة يائسة أسلمتها لزواج بائس مزق روحها كما يبدو ؟!
الاعتذار يبدو هاهنا صفراً كبيراً على اليسار ...
وليس أقسى على قلب رجل مثله اعتاد العطاء أن يجد كفه -معها هي بالذات- خاوية !!


لكنها فتحت عينيها أخيراً لتقرأ كل ما عجز عن قوله في صفحة عينين لا تكذبان على خبيرة به مثلها ...
لهذا نهضت حيويتها -كالعنقاء- من رماد ألمها لتشيح بوجهها للحظات هي فقط ما احتاجته لتستعيد طبيعتها المقاتلة ...
قبل أن تعود إليه ببصرها لتغير الموضوع بقولها:
_انت عارف إن القعدة على الأرض بتخرج الطاقة السلبية من الجسم عشان كده بحبها قوي.
ابتسم بإعجاب وهو يعتدل بجلسته ليسمح لها هي
الأخرى بهذا لتردف بنفس النبرة المتماسكة وكأن الدموع لم تملأ عينيها منذ دقائق:
_تحب نعمل جلسة يوجا سوا؟!
اتسعت ابتسامته وطبيعته الساخرة تعاود احتلال نبراته:
_هنبدأ شغل الدجل والشعوذة والكلام الفاضي بقا!
لكنها هزت رأسها بتحدٍّ لتشير بسبابتها في وجهه هاتفة:
_جرب المرة دي بس ...أتحداك هاتفرق!
تنهد باستسلام عندما رآها تستخرج هاتفها من جيبها
لتتلاعب به أناملها للحظات قبل أن تنبعث منه موسيقا هادئة يتخللها صوت هدير أمواج وزقزقة عصافير ...
وضعته على الأرض جوارها ثم قالت له :
_اقعد زيي كده وغمض عنيك !
جلس القرفصاء يقلدها بينما يفرد ذراعيه بوضع اليوجا الشهير وقد قرر مجاراتها في اللعبة مهادنة ...
قبل أن يصله صوتها:
_خذ نفس عميق ...طلعه ببطء!
كاد يبتسم ساخراً لكنه أكمل المهادنة لتردف هي بنفس النبرة الحالمة:
_فكر في أكتر مكان بتحبه...في أكتر حاجة بتحبها ...

هنا عقد حاجبيه بشدة وكأن الأمر كان مفاجئاً له !!
أكثر مكان يحبه؟!
أكثر شيء يحبه ؟!
العجيب أن السؤالين رغم بساطتهما أوجدا تجويفاً عميقاً بصدره ...
هو لا يملك أي مكان تجمعه به ذكريات جيدة ...
ماضيه الممزق بين أمومة مفقودة وأبوة صارمة يلطخ كل الأماكن بكآبة لا يريد تذكرها ...
وبعدها لم تكن رحلة حياته سوى مجموعة من العثرات ...
لكن ...مهلاً!
هناك مكانٌ يحمل له ذكرى طيبة رغم قصر عهده بها ...
قريته!
بالتحديد ...بيت عمه الذي صدق يوم قال له بعد وفاة أبيه أنه لن يغلق في وجهه أبداً ...
لماذا هو بالذات؟!
ربما لأنه يرمز بالنسبة إليه ل"العودة للجذور"!
للحياة الطبيعية التي كانت ستنتظره لو لم تتخلّ عنه أمه ويضطر أبيه للهرب به إلى المدينة مصوراً له أمومتها كعار ...
لو لم تنبذه نبيلة...لما عانى صرامة أبيه التي ولدها خوفه عليه ...لما تمرد على كل ثوابته بعد موته ليصير لعبة في يد حقيرة كبسنت...وربما لما ترك بلده لآخر كي يذوق عذاب الخيانة من جديد ...
لهذا يصور له خياله دوماً قريته "الفردوس المفقود" الذي لفظه ليكتوي بعده بنيران الجحيم !

_انت بتبتسم...سرحان بقى لك خمس دقايق بحالهم ...احنا كده ماشيين صح!
همسها الرقيق جواره يجعله يفتح عينيه لتمتزج صورتها مع الصوت المسجل لزقزقة العصافير وموج البحر .
ما هذا السحر الذي تملك روحه ذرة ذرة؟!
هو يشعر أنه قد انفصل عن واقعه هذه الخمس دقائق التي تحكي عنها ...
فلم يعد يرى يامن الطبيب بلحيته المهذبة وطبيعته الساخرة السوداء ...
بل يرى نفسه طفلاً يعدو حافي القدمين بين الحقول ...
الشمس تلوح بشرته فلا يبالي سوى بالعدو خلف رفاقه حتى ينهاروا جميعاً جالسين على كومة قش قبل أن تمتد أناملهم ل"كيزان الذرة" الساخنة جوار فرن طيني جلست أمامه امرأة تبتسم بحنان وحجابها الأسود يناقض بياض قلبها وضحكتها ...

_يامن ...انت كويس؟!
همست بها بقلق وهي تشاهد ملامحه التي ارتخت ارتخاء عجيباً مع شروده الواضح فالتفت نحوها ليهمس بارتياح :
_جداً...

ثم ضحك ليداعب لحيته بحركة تدرك أنه يداري بها خجله ليردف:
_اليوجا دي شكلها بجد واللا إيه؟!
_سرحت في إيه؟!
قالتها بلهفة وهي تغير وضعها لتجلس على ركبتيها أمامه فتراقص حاجباه بلمحة مشاكسة جعلتها تهتف برجاء طفولي:
_عشان خاطري يا يامن ...قوللي!
_عايزة تعرفي ليه؟!
_مبحبش يبقى فيه حاجة عنك مش عارفاها !

بمنتهى العفوية نطقتها وكأنها تملك الحق فيما تريده!
ربما في ظروف غير هذه لكان نصيبها عبارة ساخرة وحركة مراوغة ...
لكنه الآن يجد نفسه يحيط وجنتيها بكفيه ليخبرها بما كان يثير شروده ...
كانت عيناها تتسعان مع كل تفصيلة يحكيها عن قريته وشعوره بها ...
تلك الزيارات الخاطفة التي كان يصطحبها فيها أبوه لقريتهم والتي كانت تترك أثرها في نفسه ...
والآن تترك أثرها في نفسها كذلك ...
لماذا؟!
هي أجابت السؤال عندما ردت عليه أخيراً بقولها:
_دي أول حاجة عنك أعرفها منك انت....انت اللي تقولهالي .
فابتسم وأنامله تربت على وجنتيها لتبتسم هي الأخرى بينما تردف بنبرة ذات مغزى:
_كنت بتسألني امبارح عايزة نسافر فين!
=======


سمية سيمو غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-04-20, 10:51 PM   #1508

سمية سيمو


? العضوٌ??? » 396977
?  التسِجيلٌ » Apr 2017
? مشَارَ?اتْي » 4,356
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
?  نُقآطِيْ » سمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك action
?? ??? ~
keep smiling
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي


القطعة التاسعة
**********

_برضه بتذاكري؟!
سألها رامز بمرح لم يخفِ ضيقه وهو يدخل عليها غرفة المعيشة ليجدها ناثرة أوراقها حولها وقد ارتدت نظارتها وعقصت شعرها خلف رأسها لترد دون أن ترفع نظرها إليه:
_خمس دقايق بس يا رامز وأكون معاك.
هز رأسه وهو يجلس على الأريكة متابعاً ملامحها الجميلة التي انهمكت فيما تفعله ...
قبل أن يقول بنفس النبرة:
_مين كان يقول إن هييجي يوم أغير عليكِ فيه من شوية ورق؟!
رفعت إليه رأسها مبتسمة وقد مستها عبارته لتقول بشبه اعتذار:
_شوية الورق دول هم طريقي عشان أكمل رسم صورة نفسي اللي أنا عايزاها ...ترضى تحب واحدة ناقصة ؟!
_غلَبتيني!
قالها ضاحكاً ثم نظر إليها نظرة عميقة مردفاً:
_بس انتِ مش ناقصة أبداً...بالعكس فيكِ حاجة بتخلليني دايماً مشدود ليكي...أنا عرفت بنات كتير قبل الجواز ...ومع ذلك عمري ما حسيت مع أي واحدة باللي حسيته معاكِ.
تغيرت ملامح وجهها فجأة مع هتافها المصدوم:
_بنات كتير؟! انت عمرك ما قلت لي حاجة زي كده .
_انتِ ما سألتيش!
قالها وهو يهز كتفيه ببساطة مردفاً:
_وأنا كمان ما سألتكيش.
_بس أنا عمري ما حبيت حد قبلك.
ابتسم لاعترافها الحار الذي خرج من شفتيها رغماً عنها ثم اقترب منها بجلسته لينظر لعينيها قائلاً:
_ودي أجمل حاجة فيكِ!
لكنها أشاحت بوجهها بضيق فضحته ملامحها مع عبارتها:
_ما كانتش دي أبداً صورتك في عيني...أنا ما اتجوزتكش عشان شكلك أو مركزك...أنا اتجوزتك عشان أخلاقك...حسيتك صورة من بابا الله يرحمه .
فاقترب منها أكثر لينزع عنها نظارتها ثم رفع ذقنها إليه ليهمس لها بصدق:
_ده كان ماضي وراح لحاله ...والدليل إني بحكيلك عليه دلوقت ببساطة ...قلبي خلاص دخلتيه انت وقفلت الباب وراكِ.
ورغم شعورها بصدق حديثه لكن ذاك الخوف الذي احتل قلبها جعلها تقول بنبرة جافة:
_إخلاصك ده ليك مش لي...لأني لو حسيت للحظة إنك بتخونني ولو بمجرد مشاعر أنا هاخرج من حياتك من غير تردد .
_ممممم...من غير ما تسأليني عن السبب؟!
_الخيانة مالهاش مبرر ...طلقة غدر ماينفعش ترجع مسدسها تاني ...عرفت ليه أنا ما بنجرفش ورا مشاعري ؟!..عشان في لحظة زي دي قلبي ما يتكسرش.
قالتها بانفعال هادر جعله يهز رأسه بضيق والحوار ينسحب منه لوجهة أخرى غير التي قصدها ...
لقد تعمد ذكر هذا الأمر أمامها كي يختبر غيرتها وحبها فإذا بها تصدمه بهذه العدوانية الصارخة !
لهذا ابتعد عنها ليعاود مناولتها نظارتها دون كلمات قبل أن يتحرك ليشغل الشاشة أمامه ثم تناول أحد ذراعي اللعب ب"البلاي ستيشن"ليضع سماعات خاصة في أذنيه تحجب عنها وعنه الصوت!
رمقته بنظرة طويلة حانقة ثم عادت لأوراقها تحاول التركيز فيما تفعله لكن ...هيهات!
حديثه هذا بدا وكأنه قد هدم صرحاً بداخلها كانت قد أقامته له !
لقد كانت تثق به ثقة عمياء فكيف الآن تفعل مع ماضيه الذي اعترف به ؟!
المرء لا يتخلص من خصاله بسهولة ...فهل انتهى حقاً عهده مع العبث بالنساء؟!
تأففت بضجر وهي تخلع عنها نظارتها لتختلس نظرات ساخطة نحوه لكنه تجاهلها تماماً وهو ينهمك بكليته في اللعب والاهتزاز بجسده يميناً ويساراً في استجابة لقواعد اللعبة أمامه...
كادت تغادر المكان وتعود لغرفتها متجاهلة إياه هي الأخرى لكن شعوراً ما بداخلها منعها ...
أجل..."خوف الفقد" الذي عاشت سجينة رهابه عمرها كله !
هذا الخوف الذي كان يجعلها تبتعد دوماً عن سلطان المشاعر مكتفية بدورانها الحر حول أسوارها ...
وهو نفسه الآن الذي يجعلها تود الاقتراب منه كي تحمي ما صار حقاً لها !
لهذا نزعت عنها نظارتها بعنف ثم قامت لتتوجه نحوه حيث نزعت السماعات عن أذنيه لتسأله بلهجة جافة :
_كانوا كام واحدة؟!
كتم ابتسامته بصعوبة وهو يتظاهر بالانهماك في اللعب قائلاً بلامبالاة :
_مش فاكر ....كله كان "ترويش" يعني!
_أيوة كنت ب"تروش" لغاية فين؟!

هتفت بها بحدة أسعدته كثيراً وهو يراها تنزع عنها قناعها الجليدي لكنه استمر في تظاهره باللامبالاة مما جعلها تهتف بحدة أكبر:
_رد عليّ يا رامز وسيب اللي في إيدك.
ولم تكد تهتف بها حتى شعرت به يجذبها فجأة ليجلسها بين ساقيه ملتقطاً نظراتها الغاضبة بأخرى عابثة ناسبت همسه جوار أذنها:
_العبي معايا دور "بلاي ستيشن"...واهي فرصة تستدرجيني وأقوللك كل حاجة من غير ما أحس.

دق قلبها بانفعال وبروده العابث هذا يثيرها أكثر بمشاعر صاخبة تتأرجح بين غضب وحب وترقب ورهبة...
هذا المزيج الذي فهمه هو كاملاً فابتسم بمكر وهو يشدد ضغط ذراعيه حولها مردفاً:
_هه؟! نلعب؟!
أطرقت برأسها محاولة السيطرة على انفعالاتها كي لا تبدو ضعيفة أمامه فاتسعت ابتسامته وهو يناولها الذراع البلاستيكي الآخر للعبة ...
تنهدت بحرارة وهي تستجيب لمطلبه...
لم تكن المرة الأولى التي يلعبان فيها بهذا الوضع وكثيراً ما كانت تغلبه فيها ..لكنها الآن تشعر أنها مشتتة خاصة عندما مد أنامله ليفك عقدة شعرها ثم أسدله على ظهرها أمامه قائلاً بعبثه الماكر:
_كحكة الدكتورة مش مخلياني أشوف كويس.
رمقته بنظرة جانبية مختلسة وهي تحاول التركيز في اللعب قائلة:
_ما قلتليش كانوا كام واحدة...وإيه حكايتهم؟
صمته الطويل كان جوابه فالتفتت نحوه لتقول بتحفز:
_ما بتردش ليه؟!
_هتصدقيني لو قلتلك مش فاكر؟!
همس بها وهو يقترب بعينيه من عينيها ليردف بنبرة دافئة:
_هتصدقيني لو قلتلك إن دورهم بس كان إني أعرف قيمتك لما أقابلك وأتأكد إنك انتِ بس حبيبتي؟!
كان يزداد اقتراباً بوجهه مع كل كلمة ينطقها حتى تلاصقت شفتاه ببشرتها مع كلمته الأخيرة ليتبعها بقبلاته التي نثرها على وجهها بحرارة ألهبتها لكنها تمسكت بعنادها محاولة الابتعاد بوجهها عنه هامسة بصوت متحشرج:
_رامز ...بطل طريقتك دي ...أنا عايزة...
_انتِ عايزة إثبات إني ماحبتش ولا هاحب غيرك...وأنا هاثبتلك!
_رامز!

انقطعت همسة اعتراضها منصهرة في لهيب عاطفته الذي وجدت نفسها تستجيب له هذه المرة بأقوى ما وجدته في نفسها يوماً ...
وكأنها تتشبث حقاً بملكيتها له ...وكأنها تغالب خوفها من فقده ...
بينما كان هو منتشياً بإحساسه بأثر "غيرتها" عليها...!
ذاك الذي بدا واضحاً في استجابتها بمزيج من الاشتعال والذوبان !
لقد بدأت خطته معها تؤتي ثمارها وها هو ذا يجنيها بحرارة مشاعر لم يختبرها معها من قبل ...
وها هو ذا ظنه يتأكد عندما صدح رنين هاتفها بنغمة خاصة جعلتها لغادة ...
ربما في ظروف أخرى كانت لتنتفض تاركة إياه كي تهرع إليها كما فعلتها مراراً من قبل ...
لكنها الآن تتشبث به منغمسة معه في عاطفة يدرك كم تحاول الهروب منها لكنه لن يسمح لها ...
ليس وقد ذاق لذة احتراقها كالسكر تحت لهيب عشقه !
==========
وقفت تطالع وجهها في المرآة بضيق وتلك الحبوب الصغيرة التي ملأت وجهها تثير حنقها أكثر ...والتي تعلم أنها نتاج حالتها النفسية السيئة.
تناولت قلم الكحل خاصتها لتبدأ في وضع زينتها لكنها ألقته بضجر مع هتافها الساخط:
_مش لازم النهارده ...هتفرق في إيه ؟!
زفرة حارة تبعت عبارتها وهي تتجه نحو خزانة ملابسها لتستخرج قميصاً أسود يلائم مزاجها لكن عينيها اصطدمتا بتلك الحقيبة هناك في زاوية الخزانة ...
دمعت عيناها وهي تستخرجها لتفتح سحابها قبل أن تستخرج ما بها ...
ثوبٌ طفوليّ بطراز قديم أبيض اللون بزهور صغيرة قرمزية مع قبعة بنفس اللون وحذاء صغير بداخله جورب أبيض ...
آخر ثوب اشتراه له والداها للعيد لكنها لم ترتده أبداً!
ظلت تحتفظ به بعد وفاتهما في تلك الحقيبة مع آلة "هارمونيكا" موسيقية اعتادت العزف عليها مع والدها ...
تعرفون هذه الدموع التي تمتزج بابتسامة حنين ؟!
هذه ما كانت تملأ عينيها الآن وهي تتحسس الأشياء بأنامل مرتجفة ...
هي لا تدري ما الذي يدفعها لاستجلاب ذكرياتها البائسة الآن ...
ربما هي حالة الاكتئاب التي تسيطر عليها مؤخراً وهي تشعر بوحدة تكاد تخنقها ...
رانيا منشغلة بترتيبات عرسها ...ويامن هو الآخر بعروسه...هانيا دخلت دوامة المذاكرة من جديد ...
ونبيلة لاتزال غائبة حاضرة لا تفكر سوى في نفسها فحسب...
هيثم غاضبٌ منها منذ آخر لقاء لهما في المطعم وقد انقطع عن الرد على مكالماتها ...
حتى عاشقها الغامض اكتفى برسالة واحدة مبهمة بالأمس:

(لا تبحثي عن الشمس بين الجحور)!

هذه الوحدة تكاد تصيبها بالجنون ...تجعلها تشعر أنها بلا قيمة...
آآآه...كم تريد التكلم...بل الصراخ بملء فيها ...
أنا هنا !! ألا ترونني؟!
لكن قناع تمردها وعنادها يخفي كل هذا خلف أفعالها الطائشة والتي كان آخرها زيارة لذاك الملهى الليلي بالأمس !!!!
حتى الآن لا تصدق أنها تجرأت على فعلها ...لكن شعورها بتدفق "الأدرينالين" في عروقها مع المغامرة أكسبها نشوة لحظية أنستها الخوف ...
رقصت كثيراً حتى كادت تسقط...بل إنها كادت تتذوق بعض النبيذ ...لكنها تراجعت في آخر لحظة إذ خشيت أن يتأثر وعيها وهي هناك وحدها ...
تعرض لها بعضهم أكثر من مرة وقد ظنوا بها سوءاً لكنها لم تكن بعاجزة عن التصدي لهم حتى عادت للبيت زاعمة أنها كانت تتلقى دروساً هامة مع صديقاتها في بيت إحداهن!
مخاطرة لم تكن لتجرؤ عليها لولا غياب يامن !
الغريب أنها الآن لا ترغب في تكرار الأمر ...ذهبت نشوة المغامرة وعاد الملل يحتل روحها ...
الملل الذي تحاول قتله كل يوم دون جدوى!
وعند خاطرها الأخير زفرت بحنق ثم أعادت تذكاراتها مكانها قبل أن ترتدي ثيابها بإهمال ليس من عادتها ...
ولم يمضِ الكثير من الوقت حتى كانت في ساحة الكلية تجلس على إحدى درجات السلم تعبث بهاتفها في ضجر ...
حاولت بعض رفيقاتها محادثتها لكنها كانت في غنى عن نفاقهن الذي تدرك ما خلفه من غيرة ...

_هاي!
الصوت الأنثوي أمامها جعلها ترفع عينيها إليها ...فتاة عشرينية من زميلاتها هنا تذكر وجهها لكنها لا تعرفها شخصياً ...مدت إليها كفها مصافحة لتقول بنبرة ودود:
_كويس إني لقيتك لوحدك ...بقى لي فترة عايزة أكلمك ومترددة.
رمقتها داليا بنظرة متشككة فابتسمت الفتاة ببشاشة مردفة :
_أنا ريماس...خالي معتز الشريف لو تسمعي عنه .
عقدت داليا حاجبيها وهي تتبين اسم المخرج الذي تحكي عنه والذي تصدر فيلمه السابق قائمة السينما الموسم السابق كما كانت تقول بيللا ...
لهذا قالت للفتاة بتعجب منتظرة ما ستدلي به:
_أهلا بيكي.
فاتسعت ابتسامة الفتاة الودود مع قولها وهي تجلس جوارها :
_خالو محتاج وجه جديد خالص للفيلم الجاي ...ولما عرفت إنك قريبة النجمة العظيمة بيللا قلت بس ...العيلة دي جيناتها فنية ...إيه رأيك؟!

اتسعت عينا داليا بصدمة فلم تتوقع يوماً عرضاً كهذا!
سينما؟! تمثيل؟! شهرة؟!
هل ستكون نجمة حقاً مثل بيللا؟!
وقتها لن تشكو الوحدة أبداً ...سيكون حولها العشرات بل المئات ممن يودون صحبتها ...
ستكون "قِبلة العيون والقلوب" كما كانت تحلم دوماً...
يالله !!
هل تأتي الفرصة بسهولة هكذا؟!
لكن...يامن!!!
انطفأ انبهارها فجأة وهي تتبين استحالة موافقته على أمر كهذا ...
فأشاحت بوجهها لتقول بضيق لم تملكه:
_شكراً للعرض ده ...لكن للأسف الموضوع ده مرفوض عندنا .
ظهر الأسف على وجه الفتاة التي وقفت مكانها لتقول بنبرة مهذبة:
_خسارة...كنت شايفاكي جداً في الدور ده ...
ثم مدت يدها في حقيبتها لتستخرج بطاقة ورقية ناولتها لها مردفة:
_ده كارت خالو ...لو غيرتِ رأيك.
تناولت منها البطاقة لتغادرها الفتاة بنظرة آسفة فزفرت بقنوط وهي تضعها في جيبها ...
وعندما حانت منها التفاتة نحو تلك الشجرة هناك وجدت هيثم واقفاً يضاحك زميلتهما شوشو بصوت عالٍ متجاهلاً إياها بينما الأخيرة ترمقها بنظرات متشفية...
هنا تجمعت الدموع في عينيها وهي تشعر بأنها مجرد خاسرة كبيرة !
رغبة عارمة في البكاء وحدها انتابتها فهبت واقفة لتتوجه بخطوات سريعة نحو أحد تلك الأروقة الجانبية التي تخلو عادة من المارة حيث أعطت وجهها للحائط سامحة لدموعها بالانهمار...
كان جسدها يرتجف بانفعالها خاصة مع حزنها لتلك الفرصة الأخيرة -العظيمة -التي خسرتها ببساطة...
كم تشعر الآن بالقهر ...بالعجز حتى عن فهم نفسها وماذا تريد ...

_بطّلي عياط .
انتفضت وهي تلتفت خلفها لتجده واقفاً خلفها وملامحه العاتبة لم تبخل بحنانه المعهود عليها ...
ربما في ظروف أخرى غير هذه كانت لترد بمكابرة...كانت لتتجاهله كما تجاهلها ...كانت لتفعل أي شيء غير ما فعلته الآن ...
فقد ارتمت فجأة على صدره وهي تخفي وجهها بين كفيها مغمغمة بانهيار:
_ماتعملش كده تاني يا هيثم...أنا ماليش حد غيرك أكلمه .
ظهرت الصدمة على ملامحه وهو لا يدري ماذا يفعل ...!!!
صحيحٌ أنها لم تكن المرة الأولى التي يشهد بها انهيارها بهذه الطريقة لكنها كانت كذلك بالنسبة لتقارب خطير كهذا ...
ورغم أن عقله كان يدق كل نواقيس الخطر لكن قلبه العاشق جعله لم يملك إلا احتضانها مع تربيته على ظهرها برفق قبل أن ينتبه لذاك الجرح العميق على ذراعها فهتف بقلق:
_إيه الجرح ده يا داليا؟!
_لعبة بلعبها ع الموبايل!
اتسعت عيناه بصدمة مع إجابتها بلا مبالاة يائسة وهو ينتبه لطبيعة تلك الألعاب التي تستغل الحالة النفسية السيئة للاعبيها كي تطلب منهم تنفيذ مثل هذه الأوامر العجيبة والتي رصد انتهاء الكثير منها بحالات انتحار !
لهذا هتف بها بجزع:
_هي حصلت كده ؟! انتِ...
_متزعقش ...أرجوك متزعقش ...أنا مش ناقصة .
تمتمت بها بانهيار ولازالت تخفي وجهها بين صدره فزفر بقوة وهو يعاود التربيت على ظهرها وقد أدرك أن حالتها تزداد سوءاً...

_إيه اللي بيحصل ده ؟!
انتفضا مكانهما والهتاف السابق يبدو وكأنه بعث من الفراغ حولهما ...
لكن هذا لم يكن أسوأ ما في الأمر بل ...هوية صاحبته !!
أجل...زوجة الدكتور ياسر والتي كانت ملامحها تفضح غضباً هادراً بعيداً تماماً عن تعقلها المعهود ...
خاصة وهي تجذب داليا بعنف من ذراعها لتردف بحدة قاسية:
_أنا من زمان عارفة إنك مش مظبوطة...لكن يوصل بيكِ الاستهتار إنك تعملي كده في قلب الجامعة ! أنا مش مصدقة بجاحتك.
كان جسد داليا يختض برعبها وهي تدرك المصيبة التي وقعت فيها والتي ستنتهي حتماً بفضيحة...
فيما تمالك هيثم نفسه ليهتف بانفعال :
_أرجوكِ يا دكتورة...هي مالهاش ذنب أنا اللي ...
_انت كمان حيوان وقليل الأدب ...دي مش أول مرة أشوفكم فيها مع بعض بتصرف متجاوز ...انتم الاتنين لازم معاكم إجراء شديد .
هتفت بها بانفعال وهي تهز جسد داليا بعنف بينما الأخيرة تبكي بحرقة ليظهر الدكتور ياسر في الصورة أخيراً وهو يسأل زوجته بدهشة:
_في إيه ؟! ماسكاها كده ليه؟!
تجمدت ملامح داليا برعب وهي تشعر بساقيها يتخاذلان تحتها بينما ترمق المرأة بنظرات راجية ...
المرأة التي انفرجت شفتاها وكأنها على وشك الصراخ بفضيحتها من جديد لكنها عادت تطبقهما بقوة ليسأل ياسر هيثم بتشكك:
_داليا بتعيط ليه ؟! عملت لها حاجة ؟!
أطرق هيثم برأسه وهو لا يجد رداً فيما تمالكت زوجة الدكتور جأشها لتقول مخاطبة داليا:
_امشي دلوقت .
قالتها وهي تنفض ذراعها من يدها بعنف قبل أن تلتفت لزوجها مردفة :
_الحق انت محاضرتك ...ده موضوع تافه .
تردد الرجل قليلاً قبل أن يقرر غض الطرف الآن والاستفسار منها فيما بعد فغادرهم بخطوات متعجلة فيما غمغمت زوجته مخاطبة هيثم:
_أنا مارضيتش أفضحكم قدام الدكتور ...بس لو اللي حصل ده اتكرر تاني أنا هاسعى إني أفصلكم انتم الاتنين من الكلية خالص.
ولم تكد تنتهي من عبارتها حتى رمقت داليا بنظرة مزدرية لكن الأخيرة كانت غائبة تماماً عن وعيها بانهيارها الباكي ...
فجذبها هيثم من مرفقها برفق ليسير جوارها مغادرين المكان تلاحقهما نظرات المرأة الغاضبة ...
والتي تناولت هاتفها لتنظر لشاشته بحسرة متمتمة:
_يعني ما لقيتش غير البنت دي يا مروان؟!
=========
_انتِ هتسافري كده ؟!
هتف بها يامن بسخط وهو يتطلع لثيابها التي استعدت بها للسفر إلى قريته فعاودت النظر لنفسها في المرآة قبل أن تغمغم بدهشة:
_ماله شكلي؟! ده أنا حتى مكبرة الطرحة عشان تغطي أكتر.
_ولو الطرحة طارت ...الشعب يعيش!!
هتف بها بنفس السخط وهو يقترب منها ليرفع حافة وشاحها الرقيق الذي بدا تحته قميصها الضيق ...لكنها ابتسمت بتفهم وهي تقول له بنبرتها الرقيقة :
_حاضر ...هاغير هدومي... ثانية واحدة .
زفر بضيق لم يعلم سببه وهو يعطيها ظهره بينما هرولت هي نحو غرفتها لتعود إليه بثوب أكثر اتساعاً أخفى معالم جسدها كاملة وزاده حجابها العريض ستراً لتهتف وهي تتقدم نحوه بترقب:
_كده كويس؟! أنا عارفة إن هناك مش زي هنا ...ومش حابة يكون شكلي ملفت.
التفت نحوها ليتفحص شكلها بنفس الضيق قبل أن يقترب منها أكثر ليمد أنامله نحو منابت شعرها التي بدت من مقدمة حجابها فيدخل ما ظهر منها تحته بحركة عصبية ثم جذب حافة الوشاح نفسها للأمام كي تغطي جبينها أكثر بغيظ بدا لها مضحكاً ...
فابتسمت وهي مستسلمة تماماً لحركاته لتقول أخيراً بهدوء:
_براحتك خالص...مش هنخرج من هنا إلا وانت راضي عن شكلي ...أنا عارفة إن الموضوع ده فارق معاك خصوصاً هناك .
ورغم هدوء نبرتها لكنه هتف بانفعال لا مبرر له:
_أنا عارف أول ما نحط رجلنا هناك كل العيون هتبقى عليكِ.
_وده مضايقك ؟!
قالتها بعينين ملتمعتين وضحكتها الحيوية تتبعها فأشاح بوجهه دون رد لتستمر هي في الضحك للحظات سبقت قوله المغتاظ:
_بتضحكي ليه ؟!
فتنهدت بحرارة لتطرق برأسها قائلة بصوت خفيض:
_تعرف لو حكمت غيرتي عليك زي ما بتعمل كده ...ماكنتش خليتك تخرج من البيت ولا خليت أي واحدة تلمحك بس بطرف عينيها .

كعادتها كلما تفصح عن أحد اعترافاتها بحبه تخفض صوتها حد الهمس وتتحاشى لقاء عينيه ...
هذا التصرف الذي يغيظه كثيراً لكنه لا يملك أن يطلب منها أكثر ...
ليس وهو -إلى الآن- غير قادر على منحها أي شيء في المقابل ...ولا حتى مجرد الوعد !
هذا الشعور الذي زاد ضيق صدره ليجعله يهتف بفظاظته المعهودة:
_مين قالك إني غيران؟! أنا بس بحاول أحافظ على صورتنا هناك .
_مممم...طب عيني في عينك كده ؟!
هتفت بها بمرح عاد يكسو صوتها وهي ترفع إليه عينيها وكأنها لم تكترث بجفاف عبارته...
نظراته الحائرة تتشبث بحبال عشق تلقيها له روحها في كل لحظة ...
وكل لحظة معها عمرٌ من عشق !

_كل اللي يعرفني من قريب بيقول إني مجنونة جداً في حكاية الغيرة دي ...بغير جداً على اللي بحبهم...لكن معاك انت اتعلمت ألجمها من زمان ...يمكن لأني عمري ما حسيت إنك من حقي!

لازالت تخفض بصرها عنه بينما همساتها شديدة الخفوت تخترقه كسهام من نار تذيب جبال جليده ...
إلى متى سيصمد أمام غزو غرامها هذا ؟!
شعوره بالضعف نحوها يكاد يخنقه مع أن كل ذرة في جسده تناشده الاستسلام ...
لهذا زفر بقوة متجاهلاً عبارتها التي لا يعرف -صدقاً- لها رداً ...
ثم رفع ذقنها إليه ليقول بلهجته الخشنة التي لا تشي بما في صدره:
_آسف لو تصرفاتي النهارده حادة شوية...بصراحة قلقان من الزيارة دي .
_انت خايف ...وأنا كمان خايفة ...

قالتها بابتسامة متفهمة لتشرد ببصرها مردفة:
_انت خايف تقابل هناك الوحش اللي عشت عمرك بتهرب منه ...ماضيك وذكرياتك بخصوص مامتك...بس صدقني أول ما تحط رجليك هناك هتكتشف إنك كنت بتبالغ ...الناس دلوقت مش هتشوف ابن النجمة ولا حتى ابن عبد الرحيم حمدي...الناس هتشوف دكتور يامن الناجح وبس..اسمك اللي تعبت عشان تعمله وجه الأوان إنك تفرح بتعبك ده.

رمقها بنظرة طويلة متفحصة وهو يشعر بحديثها يرمم صدعاً ما بداخله ...
كيف تفهمه إلى هذه الدرجة ؟!
بل ...ولماذا لا تفعل؟!
وهي "توأم روحه" في معاناتهما التي تشاركا فيها قدراً ...
هي لا تتكلم عنه فحسب هي تتكلم عن نفسها كذلك!
ولما طال شرودها أمامه تنحنح بخفة ليدير وجهها نحوه بخفة متسائلاً:
_وانتِ خايفة من إيه؟!
أغمضت عينيها بألم لتتنهد هامسة:
_مش مهم.
_هتقولي!

بنبرته- الآمرة الراجية -التي لا يجيدها مثله نطقها لتعطيه هي ظهرها صامتة للحظات قبل أن تجيب:
_أنا اتجوزتك عشان أكسر الصنم اللي عملتهولك جوايا...كنت بقول لنفسي إن الحكاية كلها مجرد إن الممنوع مرغوب...وإني لما هاقرب منك هاشوف كل العيوب اللي ماكنتش شايفاها ...أنا قربت قوي عشان أقدر أبعد قوي ...بس...
صمتت بعدها قليلاً لتطرق برأسها فتحرك ليقف قبالتها متسائلاً بحذر:
_بس إيه؟!
تصنعت ابتسامة باهتة وهي ترفع وجهها نحوه لتقول ببعض المرح:
_كل يوم بتأكد إن قلبي "ذوقه حلو" ...ولأول مرة مابقاش عارفة دي حاجة حلوة واللا حاجة وحشة .

ارتفع حاجباه بتأثر من هذه البساطة الدافئة التي تعبر بها عن مشاعرها ...
ليته يستطيع الإفصاح عن إحساسه بهذه الطلاقة ...ليته يملك جرأة بوحها عما يعتمل في صدره ...
لهذا اقترب منها أكثر ليحيط كتفيها بكفيه بقوة حنون بينما نظراته تخونه قسراً أمام عينيها الخبيرتين به وإن بقي لسانه على ولائه الخشن له:
_مش عارف أقوللك إيه .
_اوعدني ما تكسرنيش...أنا ممكن أستحمل إنك تسيبني وأفضل طول عمري بحبك من بعيد لبعيد ...بس مش هسامحك لو كسرتني...لو خلتني في يوم أكرهك .

انقبض قلبه بوجع كعهده كلما أتت على سيرة الفراق هذه...لكنه أرجأ التفكير في هذه النقطة ليعاود سؤالها بينما كفاه يقربانها منه أكثر لا شعورياً:
_وإيه اللي ممكن يخلليكِ تكرهيني؟!
انفلتت منها آهة خافتة قبل أن تسند جبينها إلى كتفه هامسة :
_إنك تطفيني...أنا عمري مااتطفيت...لا بُعد بابا ...ولا وفاة ماما...ولا حتى طلاقي قدروا يطفوني...دايماً جوايا روح بتعافر ..بتقومني على رجلي كل ما أقع...لو روحي دي اتطفت هموت بالحياة.

ابتسم رغماً عنه بعاطفة لم يجد لها مسمى وهو يجدها تتحدث هكذا بمنتهى القوة...وبمنتهى الضعف!
شعوره أنها تستند الآن -طوعاً- إلى كتفه بعد نفورها القديم من اقترابه منها ملأه بشيء من الفخر ...
الفخر الذي تضاءل سريعاً وهو يراها تبتعد عنه وكأنها تنتزع نفسها انتزاعاً من بين ذراعيه لتهتف بمرح يوقن أنها الآن تدعيه:
_كفاية كده رغي عشان نلحق القطر.

لسانه بدا وكأنه التصق بسقف حلقه طوال الطريق بعدها حتى استقر بهما في القطار المتجه لقريته حيث ينتظره عمه بلهفة ظهرت واضحة في صوته على الهاتف وهو يحدثه كل بضع دقائق ليتأكد منه أنه في الطريق...
هذه اللهفة التي وجدت صداها في صدره ليشعر بدفء لم يكتنفه منذ عهد بعيد ...
لهذا أغمض عينيه على كرسيه في القطار تتلقفه ذكرياته بين حلوها ومرها فلم يشعر بنفسه إلا وقد غفا رغماً عنه لوقت لم يعلمه ...
حتى إذا استيقظ فجأة وقعت عيناه على الكرسيين المقابلين لهما في القطار واللذين شغلهما رجلٌ وامرأته يبدوان في عقدهما الرابع أو الخامس...
لكن هذا لم يكن ما أثار انتباهه بل وضعهما الذي اختلف تماماً عن وضعه هو وياسمين ...
فأمامه كانت المرأة مستسلمة تماماً للنوم وقد أسندت رأسها على كتف زوجها الذي أسند رأسه فوقه بينما يمسك بكفها وقد راح في النوم هو الآخر!
ربما في وقت آخر كان ليسخر في نفسه من هذا التصرف الصبياني الذي لا يليق بسنهما لكنه الآن يجد نفسه يراقبهما بمزيج من انبهار وتحسر ...
قبل أن تحيد عيناه لتلك النائمة بجواره والتي أسندت رأسها على كرسيها في عكس اتجاهه وكأنما تخشى أن يسقط رأسها على كتفه ولو سهواً في نومها!
ترى هل يمتد بهما العمر كهذين أمامه ليعيش معها حياة طبيعية متنعماً بهذا الحب الذي -تزعمه-؟!
أم أن دخولها حياته مجرد عاصفة ممطرة سيعود بعدها العمر لجديبه وقفره؟!
وعند خاطره الأخير لم يملك نفسه وهو يمد أنامله ليحتضن كفها الضئيل ...بينما يحرك ذراعه الآخر ليضم رأسها لكتفه برفق...
تململت وهي تفتح عينيها فجأة لترمقه بنظرة متسائلة بينما تحاول سحب كفها منه بارتباك اعتاده لكنه تشبث بيدها هامساً بحزم رفيق:
_عنيكي تعبانة...كملي نوم.
ترددت قليلاً وهي تسبل جفنيها بإرهاق لكنه مسد ظاهر كفها بإبهامه مردفاً:
_الطريق لسه طويل ...حاولي تنامي على أد ما تقدري.
تيبس جسده للحظات مترقباً ردة فعلها ليعود بعدها لارتخائه وهو يشعر برأسها يعود ليستكين على كتفه ..
ابتسم ابتسامة واهنة وهو يراقب ملامحها من علو بعدما انتظمت أنفاسها معلنة عودتها للنوم ...
أهدابها الكثيفة القصيرة التي التمع لونها في ضوء الشمس المنعكس من النافذة...أنفها الدقيق ...شفتاها الرقيقتان...وأخيراً أناملها المنمنمة التي استقرت في راحته ...
كل ما فيها دقيق ضئيل عدا قلبها الذي تضخم بحبه للحياة !

هنا حانت منه التفاتة نحو خاتمه "الملون" الذي كان هدية زفافهما والذي استقر في بنصرها الأيمن ...
الأيمن؟! ألا يفترض أن يكون في الأيسر؟!
نظراته تنسحب نحو بنصرها الأيسر الذي تركته دون خواتم ...ترى لماذا ؟!
عقله يصور له عدداً من الأسباب لكنه تخير منها ما يرضي غروره ...
إنها لا تريد وضع خاتمه في إصبع سبقه إليه خاتم رجل غيره!
ويبدو أن هذا التفسير أبهجه كثيراً ليجد نفسه يضمها لكتفه بحرص أكبر بينما عيناه تعودان للرجل والمرأة أمامه لكن..بنظرة راضية هذه المرة...
قبل أن يتنهد بارتياح وهو يسند رأسه إلى رأسها مرتشفاً إحساسه المستحدث معها ...
ب"الأمان"!
=======
_عجبتك الأوضة؟!
هتف بها متسائلاً وهو يستقر معها أخيراً في الغرفة التي خصصها لهما عمه في الطابق العلوي من بيته ...
غرفة رحبة لا تقل رحابة عن استقباله الحافل لهما وكأنه لقي ابنه الغائب منذ زمان ...هذا الاستقبال الذي رأت أثره واضحاً على وجه يامن الذي التمع بفرحة حقيقية غلبت قلقه الذي كان.
_عجبتني بس؟! دي مدهشة!

قالتها بحماستها الحيوية وهي تتفحص الغرفة الواسعة بأثاثها الأنيق رغم قدم طرازه...
لقد ظنت أنها ستجد بيت عمه أحد بيوت الفلاحين البسيطة التي تراها على التلفاز ، لكن البيت المكون من طابقين واسعين وتطل خلفيته على مساحة شاسعة من الحقول كان أجمل كثيراً مما تخيلت ...
لهذا اندفعت نحو النافذة الخشبية الكبيرة لتفتحها قبل أن تأخذ نفساً عميقاً وهي تملأ عينيها من اللوحة الرائعة أمامها حيث التحمت خضرة الأرض مع زرقة السماء على مد البصر ...
_فيه أجمل من كده ؟! أبسط وأجمل مكان رحته في حياتي!
غمغمت بها برضا حقيقي فتقدم نحوها ليضمها بذراع واحدة إلى كتفه وهو ينظر مثلها لما أمامه قائلاً بشرود:
_كنت فاكر إني هلاقي كل حاجة اتغيرت ...لكن بالعكس...كله زي ما هو ...
ثم أشار لساقية قديمة هناك في جانب قصيّ مردفاً بابتسامة حالمة :
_كنت بحب الساقية دي قوي ...بالليل كنت بشوفها بيت العفاريت أقعد أبص لها من بعيد وأنا خايف ولما كنت أصحى الفجر كنت أفضل أحدفها بالطوب كأني بطردهم منها...وأفضل أقرب منها بالراحة لحد ما ألمح نور الشمس بيلمع فوقها وأفتكر إني صحيح هزمت العفاريت .
ضحكت بانطلاق وهي تلتفت نحو جانب وجهه الذي تألق بشعور الحنين لتقول بنبرتها المرحة :
_خلاص ...يبقى نتغدى هناك النهارده ...نستأذن عمك ونسيبنا من جو الرسميات ده ونفرش على الأرض جنب الساقية .
_تموتي انتِ في قعدة الأرض.
قالها بنبرة حانية حملت الكثير من المرح وهو يلتفت نحوها برأسه لتضحك ضحكة رائقة سبقت همسها الدافئ:
_وبموت في أي حاجة تقربني منك .

التمعت عيناه ببريق خاطف كعهده كلما عبرت عن عشقها الجارف له لكنه لم يجد رداً سوى أن يضمها إلى كتفه أكثر متجاهلاً ذبذبات جسدها النافرة ...
هنا اتسعت عيناه قليلاً بترقب فحركته الأخيرة جعلت ياقة ثوبها الواسعة تنحسر تحت حجابها لتبدو منها ندبة كتفها التي يبدو أنها تثير حفيظتها والآن تثير جنونه!
لكنها كانت غافلة عن هذا بشرودها في الفضاء أمامها وهي تقول :
_بس تعرف رغم إني بحب دايماً قعدة الأرض لكن مش كل مكان يشبه التاني...مثلاً قعدتي على الأرض قدام سرير ماما الله يرحمها وأنا بحكيلها أخبار يومي غير قعدتي على الأرض في أوضتي لوحدي...قعدتي على رمل البحر غير قعدتي على جنينة بيتك...كل أرض بيبقى لها إحساس تاني وكلام مختلف...

كان بالكاد ينتبه لكلماتها وعيناه تختلسان النظر لندبتها المستفزة هناك...
وسط بياض بشرتها الناصع تبدو هي هناك كوصمة داكنة لم تنل من جسدها فحسب بل من روحها كذلك...
ليجد نفسه يضمها إليه بقوة أكبر بينما يسألها فجأة:
_ليه كنتِ بتيجي ورايا في كل مكان أروحه رغم إنك ماكنتيش بتحاولي تكلميني؟!
فأطرقت برأسها لتغمغم بنبرتها الدافئة:
_مش بس عشان أطمن عليك...لكن عشان كمان كنت بدور على نفسي القديمة...فيه ناس غصب عنك بياخدوا جزء من تاريخك...ماضيك الحلو بتلاقيه مرسوم على جبينهم...لما بشوفك بحس إن عمري ماعداش وإني لسه بنوتة بضفيرة طويلة مستخبية ورا كتاب وبتبص عليك وهي مكسوفة...
ثم تحشرج صوتها رغماً عنها مع استطرادها:
_وكأن مفيش حاجة فيّ اتغيرت ولا اتكسرت!
الحزن الذي اعتصر عبارتها الأخيرة زلزل قلبه بطبيعته الحمائية كالعادة مدركاً ما تقصده بماضيها البائس فهتف بحدة لم يقصدها:
_عمل فيكِ إيه؟!
انتفضت فجأة للسؤال لتشحب ملامحها بينما لم يشعر بنفسه وهو يكاد يعتصرها بين ذراعيه مردفاً بنبرة أكثر حدة :
_ليه مش عايزة تقوليلي؟! اشمعنا دي بتخبيها عني؟!

فاضت عيناها بالدموع مع ارتجافة شفتيها وهي تحاول التملص من ذراعيه لكنه لم يفلتها بل كاد يخفيها في صدره وهو يعتصرها بين ذراعيه أكثر وعيناه تتشبثان أكثر بندبتها التي لا تزال تتحداه بمشهدها الصارخ هناك ...
لهذا أغمض عينيه بقوة وهو يغطيها بنفسه بوشاحها الذي شد طرفه ليستر ماظهر منها بينما كانت هي غافلة تماماً عن كل هذا ...
حتى رفعت إليه عينيها أخيراً لتهمس له بصوت مختنق:
_عشان أنا مش عايزة افتكر وعشان انت مش هتصدق...لو حكيتلك هتقول إني بحاول أصعب عليك واني بدات خطة مقصودة عشان أعلقك بيّ ...طبيعتك الشكاكة لحد دلوقت مش مصدقاني ...مالوش لازمة نقلب في ماضي مش هينفع حد .

عقد حاجبيه بشدة وهو يشعر من جديد بالعجز أمامها ...وكيف لا؟! وهي تفهمه بهذه الدرجة؟!
ماذا عساه الآن يفعل؟!
هل يخبرها -كاذباً- أنه يصدقها...يثق بها...يأمن لكل ما ترويه ؟!
أم يكتفي منها بهذا الذي تمنحه بسخاء ودون مقابل ؟!

_الغدا جاهز يا دكتور.
هتاف الخادمة من الخارج قطع أفكاره فتنهد بحرارة وهو يبعدها عنه ليشيح بوجهه قائلاً :
_لو تعبانة ممكن تستريحي شوية ونأجل الغدا.
لكنها صمتت مطرقة لبضع لحظات ثم تمالكت نفسها لتقول بمرح مصطنع:
_بتهزر؟! ده أنا هاموت والحق الغدا هناك عند الساقية قبل الشمس ما تغيب ...ماتخافش مش هاعمل ضيفة ...هانزل وأساعدهم ننقل الحاجة هناك ...مراة عمك ست سكرة ومش هترفض لي طلب .

قالتها لتختفي من أمام عينيه سريعاً كي تنفذ ما قالته تلاحقها نظراته التي ما عاد يملك تعلقها بها ...
قبل أن يزفر بقوة وعيناه تنسحبان من جديد نحو النافذة لتستريح ظنونه قليلاً على واحة من ذكريات ماض بعيد ...
وأخيراً ترتسم على شفتيه ابتسامة حقيقية وهو يميز قامتها الضئيلة هناك جوار الساقية القديمة تلوح له بكفها بانتصار وقد بدت وكأنها نجحت في إقناعهم بتناول الطعام هناك ...على الأرض!
======
_عجبك الأكل يا عروسة؟!
قالتها زوجة عمه بلكنتها المحببة وهي ترمق ياسمين بنظرات إعجاب واضحة فابتسمت الأخيرة بود لتقول بنبرتها الحماسية كالعادة:
_هو فيه أحلى من كده ؟! عمري ما أكلت بنفس مفتوحة زي النهارده !

كان الأربعة يفترشون مفرشاً عريضاً على الأرض جوار الساقية القديمة وقد أخذت الشمس رحلتها للغروب صابغة السماء بتلك الألوان الدافئة المحببة ، وقد بدأت أسراب الطيور رحلتها للعودة بمشهد جمع بين الشجن والسكينة ...
هذا الذي ملأه هو بشعور خاص وهو يشعر وكأنما تغتسل روحه بكل هذه البساطة والصفاء اللذين افتقدهما منذ عهد بعيد ...
ابتسامته تتسع على شفتيه وهو يستمع لثرثرتها -الحيوية- مع زوجة عمه وكأنما يعرفان بعضهما منذ عهد بعيد ...
هذه الثرثرة التي تدخل فيها ليقول بنبرته المرحة التي حملت الكثير من الفخر:
_ما تتغروش بشكلها الخواجاتي ده ...ياسمين طباخة ممتازة وفاتحة مطعم كبير في القاهرة.
أصدرت زوجة عمه صيحة استحسان وهي تربت على كتف ياسمين التي التفتت نحوه بنظرة امتنان وقد سرّها حقاً أن يمتدحها هكذا بينهم ...
ربما كانت هذه إحدى ميزاته التي اكتشفتها فيه بمعاشرته...أنه مهما كان بينهما يرفع قدرها دوماً أمام الآخرين ...
ميزة خاصة لا تتوافر لدى الكثير من الرجال !
ويبدو أن الخاطر الأخير قد حمل لها ذكرى بائسة من ماضيها فقد تغيرت ملامحها فجأة بعدها لتطرق برأسها في حركة لم تخفَ عليه ...
لكن عمه تناول دفة الحديث بقوله :
_ما أكلتش حاجة يا دكتور ...قسماً عظماً مافي حاجة راجعة من الأكل ده !
هتف بها بلكنته القروية وهو يضع له قطعة من "بطة مشوية" مع زوج من الحمام المحمر في طبقه بيده العارية فاتسعت عينا ياسمين بترقب وهي تراه يتناول الطعام دون تحفظ توقعته مع طبيعته الوسواسية !
وما كادوا ينتهون من الطعام حتى هتفت زوجة عمه وهي تنهض بخفة لا تتناسب مع ثقل وزنها:
_شاي الخمسينة وقت العصاري ...كان مزاج عندك زمان يا دكتور ...فاكر؟!

ضحك يامن بخفة وهو يشعر بود حقيقي نحو المرأة التي لم تنسَ هذا رغم مضيّ كل هذه السنوات ليكمل له عمه الفكرة بقوله وهو يربت على كتفه:
_انت عارف إن ربنا ما أرادش لنا الخلفة ...طول السنين دي وأنا بتمنى ترجع هنا لأرضك وناسك...أبوك الله يرحمه كان له تفكير تاني...ياما غلبت أفهمه إن اللي بيعمله كان غلط ...لكن هو كان دماغه ناشفة...والظاهر إنك ورثت ده منه .
_الله يرحمه !
تمتم بها يامن باقتضاب وهو يطرق برأسه لتهتف زوجة عمه وهي تعاون الخادمة في جمع بقايا الطعام:
_مالوش لازمة الكلام ده دلوقت يا حاج...الدكتور شكله تعبان من السفر والمهم أنه رجع يزورنا...ده احنا الفرحة مش سايعانا والله .
_ما بلاش "الدكتور" دي يا عمة...هو أنا هاكبر عليكم واللا إيه؟!
قالها يامن بابتسامة حنون فربت عمه على كتفه ليقول بفخر أبوي:
_لو ماكناش نفرح واحنا بنتباهى بيك ...هنفرح بمين؟!

التمعت عينا يامن بعاطفة التقطتها عينا ياسمين بخبرتها به لتبتسم بحنان وهي تشعر بأن هذه الزيارة قد آتت ثمارها حقاً...
خاصة عندما أردف عمه بنفس الفخر:
_ولاد أعمامك كلهم عايزين يسلموا عليك...بس أنا أجلتها لبكرة بإذن الله عشان تكون ارتحت...حاكم دول هيصدعوك ...أنا عارفهم!

ضحك يامن ببشاشة وهو يرد عليه بما يليق بينما ظلت ياسمين تتابع حديثه مع عمه وزوجته بعينين راضيتين حتى تناولوا جميعاً الشاي بنكهته المحببة ...لينتهي الحوار بسؤال عمه الذي بدا عارضاً:
_وإزاي الست والدتك ؟! صحتها كويسة؟!
تغيرت ملامح يامن الراضية لأخرى متحفزة وكأنما يحاول أن يفهم ما يقصده عمه من سؤاله لكن ياسمين التقطت طرف الحوار لتجيب هي بذكاء:
_الحمدلله يا عمي...من ده على ده ...حضرتك عارف مفيش حاجة بتفضل على حالها .
ابتسم الرجل بفطنة متفهماً جوابها المحايد ليعود مخاطباً يامن بقوله:
_مراتك شكلها "بنت أصول" ...ربنا يبارك لكم.

ظلت ملامح يامن على تحفزها لبعض الوقت قبل أن تلين رويداً رويداً مع انسحاب الحوار لجوانب أخرى حرصت ياسمين أن تجعلها أكثر مرحاً ...
قبل أن تلكز زوجة عمه رجلها بحركة ذات مغزى جعلته يقوم من مجلسه قائلاً بنفس النبرة الودود:
_نسيبكم تاخدوا راحتكم شوية على ما نخلص أنا والحاجة شوية شغل جوه!
اتسعت ابتسامة ياسمين وهي تراقب انصرافهما شاعرة لهما بالامتنان لهذه الخلوة لها معه في مكانه المفضل وفي هذا الجو الدافئ ...
قبل أن تعود ببصرها نحوه لتقول بحنان :
_أكلت على الأرض ومن غير تحفظاتك كالعادة...مش ملاحظ إنك بتنسى كل وسوستك لما بتحكّم قلبك وبس؟!
اتسعت عيناه للحظة من ملاحظتها قبل أن يبتسم وهو يقترب بجلسته منها بينما هي تستطرد بنفس النبرة:
_هو ده الفرق بيننا ...انت عيان ب"عقلك" وأنا عيانة ب"قلبي"...لو بطلت تفكر زيادة هترتاح وأنا كمان لو ...

انفرجت ابتسامته وهو يضع سبابته على شفتيها مقاطعاً وكأنما لم يعجبه ما ستنطق به ثم فاجأها بأن ألقى رأسه على حجرها وهو يمدد جسده أمامه باسترخاء تام صاحب آهة عميقة !
_تعبان؟!
تمتمت بها بقلق حان ليجيبها :
_بالعكس...مرتااااح جداً.

همس بها مغمض العينين وهو يشبك ساعديه على صدره فتلفتت حولها تتأكد من خلو المكان ثم امتدت أناملها تداعب خصلات شعره التي يحرص أن يطيلها دوماً بما يمنحه مظهراً عابثاً هو أبعد ما يكون عنه ...
لتهمس له بعاطفتها التي تصبغ كل كلماتها بلون خاص بها:
_شفت بقى إن خوفك من الزيارة مكانش في محله ؟! ساعات كتير بنلاقي نفسنا بنهرب من حاجات لو ادينالها الفرصة هنلاقي فيها فرحتنا .
أصدر همهمة راضية ولازال مغمضاً عينيه ليرد بشرود:
_تعرفي؟! مش عايز أفتح عيني...عايز الزمن يقف هنا...تفضل نفس الصورة في بالي ما تتغيرش...الساقية...الزرع...لو? ? السما...ضحكة عمي...طعم الشاي...و...انتِ!
هيئ إليه أنه قد سمع صوت خفقات قلبها الراضية بما يقول وإن حافظت على صمتها بينما أصابعها تعزف لحن عشقها الخاص بين خصلات شعره ليردف بعد صمت قصير:
_آخر مرة جيت هنا كان من زمان قوي ...زيارة "صدّ ردّ" زي ما كان الحاج بيسميها...كنت فاكر إنهم نسوا كل حاجة عن نبيلة ...لكن يومها سمعت مراة عمي بتقولله : إحنا هنموت على حتة عيل وناس ترمي ضناها وتروح تجري ورا المسخرة ...ماخدتش بالها إني سمعتها ويمكن أنا كمان حاولت أنساها ...مش عارف إيه اللي فكرني دلوقت !
مدت كفها الحر لتضعه على ساعديه المتشابكين على صدره هامسة:
_عارف إيه مشكلتك ؟! إنك ردمت على النار من غير ما تطفيها ...ليه ما حاولتش تقرب لوالدتك ...تعاتبها...تفهم منها سبب اللي عملته ...مش هاقوللك عشان تسامحها بس على الأقل تفهمها .
فابتسم ساخراً دون أن يفتح عينيه مع قوله:
_أعاتبها ؟! العتاب بيكون لحد قريب وأنا عمري ما حسيتها قريبة ...زمان وأنا صغير لما كنت بشوفها في التلفزيون وجنبي حد كنت بقلب بسرعة وكأني عامل عملة...بس لما كنت ببقى لوحدي ...
صمت طويلاً بعدها حتى ظنته لن يكمل عبارته لكنه استطرد بنبرة متثاقلة:
_كنت بحضن الشاشة على صورتها ...أتخيلها بتكلمني أنا...بتضحكلي أنا...لكن ثواني وكان بيظهر حد تاني في الكادر قدامها يفوقني ...كأنه بيقوللي انت مش مهم...مش موجود ...لحد ما بطلت أتفرج عليها حتى في السر...لكن اللي حواليا مابطلوش يجيبوا سيرتها...عارفة يعني إيه أبقى في ثانوي وألاقي زمايلي بيتكلموا على صورها وأخبار آخر مشاهدها ؟! وقتها كان بيبقى نفسي أتخانق معاهم وأقطع كل صورها اللي في إيديهم ...بس كنت بخاف حد يحس ولو من بعيد إني أعرفها ...وإنها أمي.
دمعت عيناها عاجزة عن الرد بينما عاد هو يبتسم بنفس السخرية السوداء مردفاً:
_تعرفي السؤال الوحيد اللي نفسي أسأله لها إيه؟! يا ترى إيه الثمن اللي أخدته هي وكان يستاهل تعمل فينا كلنا كده ؟! أبويا لحد ما مات كان بيحبها ...ماقالهاش بلسانه اللي كان بيلعنها كل ما تيجي سيرتها لكن كنت بشوفها في عنيه اللي ماكسرهاش غيرها هي...

ابتلعت غصة دموعها بصعوبة وهي تخشى مقاطعته بأي شيء يفسد عليه صفاء بوحه هذا الذي أكمله بنفس الحسرة الساخرة:
_ومع ذلك لما ظهرت تاني في حياتي ماقدرتش أطردها منها...لا قدرت أبعد ولا قدرت أقرب ...لا عرفت أبقى ابن عبد الرحيم الفلاح أبو دم حامي ...ولا الدكتور المتحضر اللي كمل دراسته في انجلترا واتجوز هناك...ولسه برقص على الحبل مستنيه يتقطع يمكن ساعتها أرسى على بر.
هنا شدت بكفها على ساعده بقوة لتهمس له بحرارة :
_ياريتني ساعتها كنت معاك .
فتح عينيه أخيراً ليلتقط نظراتها الصارخة الآن بمشاعرها مع استطرادها:
_ماقدرش أقوللك إني عندي الحل لكل مشاكلك...لكن اللي أقدر أوعدك بيه إني هاكون جنبك لما تحتاجني...في أي وقت ومهما حصل بيننا...سواء كنت معاك أو لا...عايزاك تعرف إني بحبك أكتر من أي حاجة ومن أي حد .

اللهفة الحارة التي كانت تتحدث بها حملت صدقها لقلبه بأقوى ما يكون فعاد يغمض عينيه بتأثر أساءت هي فهمه لتردف بصوت مرتجف:
_عارفة إنك لسه مش عايز تصدقني...زي ما أنا عارفة إني ممكن أخرج من حياتك في أي لحظة...بس لو ماعملتش حاجة أكتر من إني أخلليك تصدق إني بحبك بجد...إني أرجع لك إيمانك بنفسك وبالناس ..أهزم وساوسك...وأبقى الحاجة الوحيدة اللي انت ما بتشكش فيها صدقني كفاية عليّ .

صمت صاخب بالمشاعر سادهما بعدها قبل أن يفك ارتباط ساعديه على صدره ليحتضن كفها وهو يفتح عينيه سامحاً لنظراته بقول ما عجز عنه لسانه ...
هذا الذي وصلها صادقاً لتجيبه بابتسامة عاد إليها مرحها وهي تقول بنبرتها الحيوية:
_على خدك رمش واقع...اتمنى أمنية ولو قلت هو فين يبقى هتتحقق!
ضحك بخفة لهذه الدعابة المشهورة وقد قرر الاستجابة لها ثم أشار بسبابته نحو وجنته اليمنى قائلاً:
_هنا؟!
_صح...قل لي بقى اتمنيت إيه؟!
رمقها بنظرة عميقة ثم تهرب من الإجابة بقوله المراوغ والذي حمل بعض المرح:
_أنا بتكلم من الصبح ...قولي انتِ بتتمني إيه ...الميكروفون مع حضرتك!
_ممممم...طول عمري نفسي ألعب كرة سلة بس ...احم...طولي ك"نخلة" ما سمحش!
ضحك ضحكة صافية وهو يرفع عينيه إليها ليقول مشاكساً:
_آدي أول أمنية طلعت مستحيلة...اللي بعده!
ابتسمت بشرود وأناملها تعاود العبث بخصلات شعره :
_عايزة أتبنى طفل.
انتفض فجأة من رقاده بما أجفلها ليسألها بدهشة:
_وليه تتبنيه؟!انتِ عندك مشكلة في الموضوع ده ؟!
_حاجة زي كده .

قالتها مطرقة برأسها وقد انطفأت ملامحها فجأة فعادت شكوكه توسوس له بشأنها ...
ألهذا طلقها زوجها ؟! هل اكتشف مثلاً أنها كانت تعلم قبل الزواج وخدعته بإخفاء الأمر عنه ؟!
نعم...هذا هو السبب المنطقي الذي يجعل أي رجل يفقد صوابه ليعامل امرأة كهذه بتلك القسوة؟!
هنا اجتاحه غضبٌ هادر وهو يعتدل بجسده في مواجهتها ...
غضبٌ منها ...ولأجلها!
جزء منه يشفق على حرمانها من عاطفة كهذه ...لكن الجزء الغالب بطبيعته الوسواسية جعلته يغضب لنفسه أكثر:
_وليه ما قلتليش قبل كده ؟!
_هتفرق في إيه؟! أظن حاجة زي دي مش هتأثر على خطتك مع سيلين.
قالتها بنفس النبرة المنطفئة ولازالت مطرقة برأسها ...
انهزامها الغريب هذا عن طبيعتها المتألقة زاد غضبه أكثر فأمسك ذراعها ليقول بحدة مكتومة:
_برضه كان من حقي أعرف ...عشان..

قطع عبارته وقد عجز عن إيجاد رد منطقي لكنها تحررت من ذراعه ثم نفضت ثوبها لتقوم واقفة ثم تحركت لتعطيه ظهرها قائلة بنفس النبرة :
_عشان إيه ؟! هتفرق إيه ؟! دوري في حياتك انت اخترته وأنا وافقت عليه ...يمكن لو كنت عرضته عليّ في أي فترة من حياتي غير دي كنت رفضته ...ويمكن بعدين أندم عشان رضيت بيه...لكن القدر اختار الوقت المناسب عشان أقدر أدخل حياتك من غير مااتحمل فوق طاقتي.
ازداد انعقاد حاجبيه للحظات ثم وقف بدوره ليقترب منها وهو يبحث عن كلمات تصلح للرد ...
لكنها استدارت نحوه لتتلفت حولها قائلة بصوت خفيض:
_ياللا نمشي الدنيا ضلمت...المكان بقى يخوف .

زفر بقوة وهو يشعر أن عبارتها تبطن أكثر مما تظهر ...
قبل أن يسير جوارها صامتاً وهو يشعر أنه يدور معها في دوامة لم يعد يفهمها ولم يعد يأمن مكرها ...
دوامة تبتلعه بشعور يأبى تصديقه ...لكنه يخطف بصره وقلبه بنور تشتاقه ظلمات روحه ...
لهذا مد أنامله يتناول كفها بقوة كانت هي تحتاجها في هذه اللحظة وما كاد يشعر بتشبث كفها بيده حتى تنهد بحرارة وهو يرفع رأسه للسماء التي اختنقت بظلمتها لولا نجمة بعيدة بدت وكأنها تناديه ...
أنا وسط الظلام دليلك...فلا تضيعني!
=========




سمية سيمو غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-04-20, 10:56 PM   #1509

سمية سيمو


? العضوٌ??? » 396977
?  التسِجيلٌ » Apr 2017
? مشَارَ?اتْي » 4,356
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
?  نُقآطِيْ » سمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك action
?? ??? ~
keep smiling
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي


القطعة العاشرة
========

_ملهاش حل تاني يا داليا ...لازم أتقدم وأخطبك عشان نقطع لسان أي حد !
هتف بها هيثم على الهاتف ليتحول فيض دموعها المقهورة لشراسة عنيدة مع هتافها:
_انت بتقول إيه ؟! حتى انت يا هيثم هتستغل الفرصة عشان تدبسني؟!
_أدبسك؟!
هتف بها باستنكار ليردف بغضب لم تره فيه قبلاً:
_هو ده إحساسك للي بيننا يا داليا؟! هو ده ردك على حبي ليكِ طول السنين دي؟!
_يووووه...مش وقت عواطف يا هيثم!!
صرخت بها بنفاد صبر وهي تشعر بأنها محاصرة بين قضبان غير مرئية ...
قلبها يخبرها أن الموقف الذي رأته فيه زوجة ياسر لن يمر مرور الكرام ...
قد ينتهي بفضيحة تضيع مستقبلها كله !
تباً...تباً ...تباً!!!!
أي غباء هذا الذي تلبسها كي تقدم على فعلة كهذه؟!
إنها لم تفكر حتى في فعل هذا يوماً ولا حتى في أقصى أحلامها تجاوزاً !!
تعانقه هكذا فجأة دون مقدمات ؟!
وفي الجامعة؟!
يبدو أنها فقدت عقلها حقاً!!

_صح...مش وقت عواطف...وقت قرار يا داليا.
قالها هيثم أخيراً بنبرة حملت كل غضبه وقلقه ويأسه ...ليردف بعد صمت قصير:
_اسمعي بقا آخر كلام عندي ...يا اما توافقي على خطوبتنا يا اما تنسيني خالص!
اتسعت عيناها بخوف حقيقي وهي تشعر بأنه يعني ما يقول حقاً هذه المرة ...
لتغمغم بصوت مختنق:
_كده يا هيثم؟! هتسيبني وأنت أقرب صاحب ليا؟!
_أنا مش صاحبك يا داليا...أنا بحبك ...وماعدتش قادر أستحمل جنانك أكتر من كده !
صرخ بها بجنون جعلها تدرك أنه قد فقد السيطرة على نفسه مثلها فصمتت تحاول تمالك شتات روحها لتقول بنبرة مشتتة:
_افهمني يا هيثم...أنا...
_انتِ أنانية...مش عايزة تشوفي غير نفسك وبس...عايزة تبقي مركز الكون والكل يلفوا حواليكي...ليه تكتفي بي لوحدي لما ممكن يبقى حواليكِ كل يوم عاشق جديد ...عايشة دور الضحية المنبوذة ومستنية الكل يطبطب عليكِ ويحسسك إنك ملكة ...واللي زيك لو مافاقش هيقع على جدور رقبته !

كان يلهث في عبارته الأخيرة وصوت صراخه الهادر يكاد يصم أذنيها ...
فانسابت دموعها على وجهها بضعف لم يتفق وعبارتها القوية بعدها:
_وإيه يجبرك على حب واحدة زيي وحشة كده ؟! ابعد !
صمت قليلاً بعدها وكأنما يشعر بثقل القرار على صدره ليقول أخيراً بنبرة قاطعة :
_هابعد يا داليا ...أوعدك أدّ ما قربت هابعد !

ظلت للحظات لا تستوعب هذا الذي قيل قبل أن تنتبه لصوت الهاتف الرتيب عقب انتهاء المكالمة!
هل سيتخلى عنها هيثم حقاً؟!
ورغم الكبرياء الذي كانت تتحدث به إليه لكن خوفاً -طفولياً- بأعماقها جعلها تعاود الاتصال به ليكون رده إغلاق هاتفه تماماً!!
انهارت بعدها في بكاء هستيري وهي تشعر بالوحدة تتملكها أكثر ...
حاولت الاتصال بيامن لعلها تستمد من محادثته أماناً يصبرها لكن شبكة الهاتف في قريته كانت ضعيفة فلم تنل ما أرادت ...
تحركت لتغادر غرفتها حيث غرفة رانيا لتجدها خالية...
حتى غرفة نبيلة الموصدة كادت تطرقها لتتحدث معها بأي شيء يلهيها عن مصابها لكن صوت ضحكات العالية من الداخل أنبأها أنها في محادثة هاتفية معتادة مع أحد زملاء "مجدها القديم"!!
رجعت لغرفتها خالية الوفاض ...وبتشبث طفولي عادت تهاتف هيثم لكن الهاتف المغلق حمل لها الخسارة هذه المرة بنكهة النهاية !!
هنا شعرت بتذبذب الهاتف في أناملها مع صوت رسالة فخفق قلبها بقوة وهي تتوقع رسالة من عاشقها المجهول ...
أجل...الآن بالضبط...تحتاج هذا الدعم ...!

لتتراخى أناملها فجأة على الجهاز وهي تقرأ رسالته التي لم تحوِ سوى كلمة واحدة ...
كلمة واحدة كأنما انتقلت من فراغ روحها لشاشة هاتفها ...
ولا تدري ما الذي قصده بها ...

_(خسارة)!

ظلت ترمق الشاشة بذهول وهي تود لو ترد هذه المرة فقط على رسالته ...
لو تسأله عمن هو...عما يريد ...وعما يقصده ...
لكن اليأس الذي ملأها جعلها تلقي الهاتف جانباً لتتطلع لصورتها في المرآة بقنوط ...
دموعها تتساقط ببطء تنعي شعور الضياع الذي يملؤها ...
لكن...لا!
لن تستسلم لهذا الوهن!
لن تترك حياتها فريسة لغيرها يسوقها كالدابة كيفما يشاء!!
ستضع إصبعها في عين كل من يفكر إجهاض طموحها ...
ستكون نجمة الغد التي تهفو إليها جميع العيون ...
ومن تركها اليوم سيرجو لاحقاً فرصة تقربه منها !!
وبهذا الخاطر الأخير رفعت وجها مبتسماً نحو مرآتها ثم مسحت دموعها قبل أن تغسل وجهها لتتم زينته في أبهى صورة...
ستذهب للملهى الليلي كما فعلت من قبل لعل الرقص يفرغ شحناتها الغاضبة هذه ...
لكنها ما كادت تتم ارتداء ملابسها لتتناول حقيبتها إذا بأناملها تصطدم
بالبطاقة الورقية التي سقطت عليها من السماء كفرصة ذهبية لولا قيود واقعها السخيفة!
هنا التمعت عيناها بتصميم وهي تقرأ الاسم المكتوب عليها
(معتز الشريف)!
ماذا لو .....؟؟!!!!
========
_أروع فوتوسيشن عملناه يا فندم!
قالها مدير الاستوديو لهما بينما رانيا تطالع الصور بفرحة حقيقية هاتفة :
_تجنن يا أشرف ...شفت الجمال؟!
أومأ برأسه بشرود وهو يكاد لا يرى شيئاً...
منذ مقتل "سيدة" وهو يرى الحياة بمنظار أسود ...يعيش يومه بتفاصيل لا يعيها بينما ذهنه مكبلٌ بمخاوفه ...
لقد خذلها...وعدها بالحماية مع طفلها ولم ينتبه إلى أن اللعبة أكبر منه
طالما وصلوا إلى سيدة فلابد أنهم قد عرفوا عن الأمر ...فهل يمثل هو الدور القادم ؟!
لو كان الأمر يتعلق به وحده ربما لما اهتم ...لكن ما يدريه أن ينال الأذى أقرب الناس لقلبه ؟!

_أشرف! معقول مش سامعني؟!
هتفت بها رانيا بقلق فالتفت نحوها من شروده قائلاً:
_معلش يا رانيا ...سرحت شوية .
انقبض قلبها بجزع وهي ترى الحزن المسيطر على ملامحه لهذا ما كادا يغادران الاستوديو ليستقلا سيارته حتى قالت :
_مالك يا حبيبي؟!
تردد قليلاً قبل أن يقول لها بصوت مختنق:
_هو ينفع نأجل الفرح؟!
اتسعت عيناها بصدمة قبل أن تمتزج كلماتها بدموعها:
_نأجل الفرح؟! قبل المعاد بكام يوم ؟! ليه يا أشرف؟!
انفرجت شفتاه وكأنه على وشك الاعتراف لها بما يؤرقه لكنه أشاح بوجهه صامتاً لتسأله بصوت باك:
_فيه إيه ؟! أشرف أنا خايفة...أرجوك قل لي مالك؟!
كانت دموعها البائسة حملاً جديداً على كاهله لم يكن ليحتمله ...
لهذا أخذ نفساً عميقاً يتمالك نفسه ثم التفت نحوها ليربت على كفها
قائلاً:
_زي ما قلتلك قبل كده ... خايف على صحتك .

كانت تشعر أنه يكذب ...عيناه تنزفان بوجع لا تفهمه...لقد اعتادت نظرة الحزن فيهما بعد مرض والدته لكن الخوف الذي ينهشهما الآن هذا حديث العهد بهما ...
_لو بتحبني خللينا نتجوز في أقرب وقت ...أنا محتاجة أكون جنبك .
قالتها بنبرتها الخانعة فارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة سبقت آهة عميقة قبل أن يرفع كفها لشفتيه بقبلة عميقة هامساً :
_صدقيني مش أكتر ما أنا محتاج لك .
حدجته بنظرة حائرة فاتسعت ابتسامته وهو يمسح دموعها ليقول متصنعاً المرح :
_أنا آسف عشان خليتك تعيطي...تسمحيلي أصلح غلطتي؟!
أمالت رأسها بتساؤل فقام بتشغيل السيارة قائلاً بنفس المرح المصطنع:
_خللينا ننسى إننا كبرنا ونفرغ توترنا ده ...تعالي نروح الملاهي!
ابتسمت وهي تربت على ساعده قائلة بامتنان:
_حبيبي يا أشرف ...دايماً بتقرا أفكاري ...امبارح بالذات كنت هاطلبها منك ...بس قلت هتبقى مشغول .
_عمري كله ليكِ .
همس بها صادقاً قبل أن يحاول التظاهر بالتركيز في الطريق بينما لايزال عقله مشبعاً بهواجسه ...
لكنه حاول حقيقة أن يتناسى قلقه معها في مدينة الألعاب التي دخلاها معاً ...
ضحكاتها المرحة كانت خير دواء له وهو يستعيد معها ذكريات طفولتهما ...خاصة عندما أصرت على القفز فوق "الترامبولين" الضخم هناك ...
لم يستطع منع ضحكاته وهو يقول مذكراً إياها:
_فاكرة لما بابا الله يرحمه غير لنا المراتب القطن لاسفنج ...وقعدت تتنططي عليها لحد ما كسرتِ "السّوستة""؟!
ضحكت بدورها وهي تجذبه من كفه نحوها قائلة :
_ياااه ...فاكراه كويس ...كل واحد فينا مسك سرير يتنطط عليه لحد ما مامتك جريت ورانا بعصاية المقشة وطلعنا نستخبى على السطح.
ابتسم بحنين جارف وهو يتذكر ما تحكي عنه ثم تركها لتذهب هناك حيث وقف مكتفياً بمراقبتها ...
قبل أن يستخرج هاتفه ليقوم بتصوير فيديو لها وهي تتقافز هكذا كطفلة هانئة ...
لكنه ما كاد يفتح الهاتف حتى طالعته رسالة من رقم مجهول :

(اللي حصل لسيدة ممكن يحصل لناس تانيين ...ماتحضرش عفريت مش هتعرف تصرفه)
=========
جلست تؤدي عملها الذي أوشكت على انهائه وهي تشعر بالكثير من
الارتياح ...
عملها هنا كان عطية السماء لامرأة في ظروفها ...وسيكون أول ما تفعله عندما تستقر ظروفها أن تعود لسكنى شقة أحمد ...
صحيحٌ أن الإيجار سيلتهم قرابة ثلاثة أرباع الراتب لكن لا بأس...
يكفيها أنها ستعود لشعورها بالأمان في عالمه ولو لم يكن هو فيه !
وعند خاطرها الأخير ارتسمت على شفتيها ابتسامة آسرة جعلت أحد
زملائها في المكتب يقول لها بود :
_أول مرة أعرف إن شغلنا فيه حاجة تضحك!
رفعت إليه عينين مرتابتين زادهما ضعفهما جاذبية وهي تتمتم مرتبكة بكلمات بلا معنى فابتسم مردفاً:
_انت متعرفيش إنك جيتيلي نجدة من السما...الموظف اللي كان هنا قبلك كان عليه بوز ...يا سااااتر ...تكشيرته كانت بتلزق في وشي أنا اليوم كله .
ارتجفت شفتاها بابتسامة مجاملة جعلت الرجل يتمادى بقوله بينما يتفحص ملامحها بجرأة:
_لكن انتِ ابتسامتك بتنور الدنيا.
تراجعت ابتسامتها وهي تطرق برأسها مشبكة أناملها تحت المكتب بخوف صار مبالغاً فيه ...
جبينها يتعرق عرقاً خفيفاً ومشاهد بعينها تخترق ذهنها من ماضيها البائس بينما الرجل مستمرٌ فيما يظنها -بصَمتها- راضية عنه :
_الحزن مابيرجعش اللي راح ...انتِ لسه صغيرة وجميلة والحياة كلها قدامك.
قالها بنبرة مواساة مصطنعة وعيناه تنسحبان لما ظهر من رقبتها وجيدها خلف ياقة قميصها المفتوح محاولاً إكمال باقي الصورة من خياله لتتوهج عيناه ببريق أجفلها وهي ترفع عينيها إليه ...
هي تعرف هذه النظرة جيداً ...
نظرة تجردها من ثيابها...من أمانها...بل من آدميتها !
نظرة تشل أطرافها ...تجمد لسانها ...تنكمش لها روحها بضعف من لايملك إلا الاستسلام !

_ياللا يا غادة !
هتف بها رامز وهو يدخل إلى المكتب ملاحظاً نظرات زميلهما إليها فتغضنت ملامح وجهه بضيق عندما لاحظ ضعفها المعهود الذي يثير غيظه ...
تنحنح الرجل بخفة وهو يقوم مصافحاً رامز الذي لم يستطع إخفاء ضيقه بينما قامت غادة لتتناول حقيبتها قبل أن تغادر المكتب خلف رامز منطفئة الملامح منعقدة اللسان .
وفي طريقهما إلى البيت كان يختلس هو نظرات مشفقة نحوها وهو لا يدري سبباً ل"سلبيتها" هذه !
لقد سمع حوارها مع زميلها كاملاً وقد توقع في أي لحظة أن تزجره بأي كلمة...لولا ثقته في أخلاقها لظنها راضية عن ذاك الغزل!

_سكتّي له ليه؟!
سألها فجأة وهو يلاحظ إطراقها البائس مع ارتجاف أناملها فرفعت إليه عينين عاجزتين مذعورتين وكأنها تتوقع أن يتهمها مثل الجميع في شرفها لتجد نفسها تتمتم مدافعة:
_هو اللي كان...قصدي ...أنا مابعرفش أرد لما...
انقطعت عبارتها وعيناها تمتلئان فجأة بالدموع فانعقد حاجباه وهو لا يفهم ما بها ...
الأمر لا يتعدى مغازلة بسيطة كان بإمكانها إيقاف صاحبها عند حده في وقتها ولا تستحق كل هذا الذعر الذي يرتجف له جسدها ...
كاد يعاود سؤالها عن الأمر لكنه خشي أن يزداد انهيارها فأطبق شفتيه مؤثراً الصمت .

وفي شقتهما كانت هانيا منهمكة في مذاكرتها عندما سمعت رنين جرس الباب فقامت لتفتحه حيث طالعها وجه حماتها ترمقها بنظرات مستاءة ...

_أهلاً يا طنط ...اتفضلي!
قالتها بود يخفي حقيقة ضيقها من مقاطعة أحدهم لها وتضييعه وقتها الذي بالكاد يكفي مذاكرتها ...
لكن المرأة ولجت للداخل وهي ترمقها بنظرات متفحصة من أعلى
لأسفل ثم تنهدت بضيق لتجذبها من كفها نحو أريكة قريبة حيث جلستا لتبادرها المرأة بقولها :
_انتِ عارفة إن ده معاد رجوع جوزك من الشغل؟!
عقدت هانيا حاجبيها وهي تحاول فهم ما ترمي إليه حماتها التي استطردت بنبرة عاتبة:
_ورق مذاكرتك مفروش على السفرة بدل الأكل اللي المفروض ييجي
يلاقيه سخن...وشك مجهد وعنيكي تعبانة بدل ما ييجي يلاقيكي مستريحة ومستنياه...وإيه اللي انتِ لابساه ده ؟!
مطت هانيا شفتيها باستياء وهي تشعر بالحرج ...
منذ طفولتها وهي لا تحترم كثيراً أن ترتدي المنامة كاملة...!
تلتقط أقرب ما تقع عليه أناملها من قطع حتى ولو لم تكونا متناسقتين ...حتى إن نبيلة كانت تداعبها دوماً بقولها (نفسي مرة أشوفك لابسة بجامة على بعضها)!
هكذا كان حالها الآن وهي ترتدي قميص منامة طويل أخضر اللون على سروال منامة أخرى بلون أزرق فاقع لتزيد عقصة شعرها مع نظارتها الطبية من مظهرها الفوضوي .
لكن المرأة ربتت على كتفها لتقول بنبرتها العاتبة:
_فيه حاجات الست لازم تاخد بالها منها ...عشان جوزها غصب عنه عنيه ما تروحش بره .
مطت هانيا شفتيها باستياء وهي تتوقع ما تلمح إليه حماتها ...ستعود من جديد للحديث عن ضيقها من وجود غادة بالمنزل وخوفها على رامز منها ...
تباً...ألا يفكر العالم كله إلا بهذه الطريقة؟!
ألا يفهم هؤلاء قدسية لمفهوم الصداقة ...دعنا من الصداقة...ألا يفهمون قدسية لمعاونة امرأة مثلها في محنة ؟!
كادت ترد بكل ما يجيش بصدرها لكنها آثرت السلم كي تمر الأمور على خير ...
فاستطردت حماتها ناصحة:
_يابنتي دي أسعد وأروق أيام حياتك...لو مكنتيش تدلعي فيها نفسك هتعملي كده امتى؟! الحقي اهتمي بروحك شوية قبل ما يجيلك ولد
ياخد كل وقتك.
_اطمني يا طنط...ما بفكرش في الموضوع ده دلوقت.

كي تكون صادقة مع نفسها هي قالت هذا كي ترد على -ما رأته - إهانة لها ...أجل...كانت تعلم مدى اشتياق المرأة بطبيعة الحال لحفيد خاصة أن رامز هو ابنها الأكبر ...لهذا لم تتعجب ثورة المرأة التي هتفت بها :
_إيه ؟! ما بتفكريش ؟! هو ده كمان محتاج تفكير؟! اوعي تكوني بتاخدي حاجة تمنع الحمل !
_فعلاً باخد...أنا مش فاضية دلوقت .
قالتها ببرود ألجم لسان المرأة قليلاً قبل أن تهب واقفة مكانها مستأنفة ثورتها :
_لما ييجي رامز أنا هاشوف الموضوع ده معاه ...استحالة يكون موافقك على حاجة زي كده !

_لا موافقها يا ماما!
قالها رامز بحزم غاضب وهو يدخل من باب الشقة مع غادة التي بهتت
ملامحها بخوف وهي تسمع هذا الشجار فالتفتت نحوهما أمه لتهتف بنفس الثورة:
_موافقها على الجنان ده ؟! زي ما وافقتها على كل الأوضاع الغلط اللي ما ترضيش حد دي ؟!
نظراتها النارية كانت مصوبة نحو غادة التي فهمت ما ترمي إليه ...
آه ...كم تود لو تنشق الأرض وتبتلعها الآن !

_اهدي بس يا ماما ...ضغطك هايعلى زي كل مرة !
قالها رامز مهدئاً وهو يحاول التربيت على كتفها لكنها دفعته ببعض العنف هاتفة بحنق وهي تلوح بسبابتها:
_الموضوع ده بالذات مايتسكتش عليه ...
ثم رمقت غادة بنظرة ساخطة مردفة:
_كفاية اللي سكتنا عليه قبل كده !
تقدمت هانيا نحو غادة بحركة داعمة عندما غادرتهم المرأة بخطوات مندفعة يتبعها رامز ...
فالتفتت هانيا لغادة هاتفة بانفعال:
_ولا يهمك ...حقك عليّ أنا ...رانيا خلاص هتتجوز وأوضتها في بيت
خالتي هتفضى ...هتروحي هناك وهازورك كل يوم .
قالتها وهي تحتضن غادة بحمية مدافعة مربتة على ظهرها ...غادة التي كانت تشعر الآن بالمهانة كما لم تفعل من قبل ...لقد كانت تفكر جدياً
بالرحيل لكن القدر عاجلها بهذه الطريقة المهينة .

_لا هنا ولا عند خالتك...أنا هارجع شقة أحمد ...خلاص دلوقت ممكن أدفع إيجارها .
_انتِ بتهزري؟! هتدفعي إيجارها وتعيشي منين ؟!
هتفت بها هانيا باستنكار لكن غادة انخرطت فجأة في البكاء وهي تعود لشقتها المقابلة عدواً لتغلق بابها خلفها ...
وقفت هانيا مكانها مصدومة لبضع ثوانٍ من تطور الوضع المفاجئ هذا ثم تحركت لتلحق بغادة لكنها ما كادت تخرج من باب الشقة حتى فوجئت برامز أمامها يرمقها بنظرة غاضبة...
قبل أن يجذبها من ذراعها بعنف ليدخلها شقتهما ويغلق الباب .

_انت بتبص لي كده ليه ؟! ده بدل ما تعاتب مامتك على اللي قالته ؟! غادة منهارة حرام عليكم ...هي ناقصة؟!
كز على أسنانه بغضب وعيناه تقدحان الشرر للحظات قبل أن يقول لها ببرود مشتعل:
_أنا قلت قدام أمي إنك متفقة معايا عشان ما احرجكيش...بتاخدي وسيلة منع حمل من امتى؟!
زفرت بحنق ثم نفضت ذراعها منه لتقول مدافعة:
_احنا كنا متفقين قبل الجواز إني هأجل موضوع الأطفال لبعد ما اخلص رسالتي...إيه المشكلة بقا؟! مجتش فرصة أقوللك بعد ما اتجوزنا إني بدأت في اجراءاتي .
تحرك نحوها خطوة غاضباً وقد عجز عن السيطرة على غضبه ليهتف ثائراً:
_قبل الجواز أنا ماادتكيش وعد...قلتلك هانفكر ونقرر سوا ومش هنعمل حاجة غير لما نكون احنا الاتنين مقتنعين بيها ...أنا فاكر أنا قلت إيه كويس يا دكتورة !
فأشاحت بوجهها بعناد مع قولها:
_مش فارقة!
_لا فارقة ! لما تاخدي قرارك من دماغك تبقى فارقة...لما اتفاجئ بيه زي العيل الصغير قدام أمي تبقى فارقة...لما أبقى بعمل كل حاجة عشان أرضيكِ وانت مصرة تعزلي نفسك في عالم لوحدك تبقى فارقة !

هتف بها بانفعال ثم دفعها بقوة ليدخل غرفة المعيشة صافقاً بابها خلفه !
انتفضت مكانها على صوت الباب وهي تشعر ببعض الذنب ...
لكن أخذتها العزة بالإثم فدخلت غرفة نومهما هي الأخرى صافقة بابها خلفها .

وفي مكانه كان هو يكاد يغلي غيظاً وهو يشعر بغضب لم يملؤه يوماً نحوها ...
لقد تجاوزت كل حدودها هذه المرة ولا يدري كيف يعاقبها عقاباً رادعاً!
ظل يتقلب على الأريكة بعدها لساعات حيث قرر قضاء ليلته بعدما فقد الأمل في أن تعترف "الدكتورة " بخطئها وتعتذر ..
كان الليل قد انتصف فزفر بحنق وهو يشعر بالعطش الذي جعله يغادر غرفة المعيشة نحو المطبخ ...
لكنه ما كاد يمر جوار باب الشقة حتى سمع باب الشقة المقابلة الخاصة بغادة يغلق !
عقد حاجبيه بضيق وهو يظن هانيا قد ذهبت تقضي ليلتها معها لكنه عندما نظر عبر العين السحرية وجد غادة تقف وحدها مكانها حاملة حقيبة كبيرة فضحت نيتها ...
ضعيفة...حائرة ...مشتتة ...ودامعة كعادتها ...حتى أنها ظلت واقفة مكانها لدقيقة كاملة تتلفت يميناً ويساراً كطفلة ضالة !
ابتعد عن الباب قليلاً يفكر بحيرة...
هانيا ستقلب الدنيا غداً لو وجدت صديقتها قد غادرت هكذا خفية دون أن تخبرها ...
لكن لعل هذا هو الصواب!
غادة يجب أن تخرج من حياتهما حقاً ...هو لم يعد مستريحاً لهذه المقارنة التي يجريها عقله في كل لحظة بينها وبين زوجته ...
هو ساعدها بإيجاد عمل ولن يستطيع إقناع أمه بالسماح لها
بالبقاء أكثر ...كما أن وجودها هنا بعد ما صدر من أمه يعد إهانة لها ...
لماذا تبقى هنا؟! لماذا لا تعود لأهلها؟! لشقة زوجها ؟!
هذا أسلم لها وللجميع!
وبهذا الخاطر الأخير أخرس أفكاره وهو يعاود النظر عبر العين السحرية ليجدها قد اختفت ...
فازداد انعقاد حاجبيه وهو يتوجه نحو نافذة قريبة ليراها واقفة وسط الشارع الخالي في هذا الوقت ...
انقبض قلبه بحمية رجولية وهو يشعر بالخوف على امرأة هشة مثلها ...
لكن عقله كان لايزال يقنعه بأن رحيلها هو الأفضل!
صراع دام لثوانٍ قبل أن يحسمه أخيراً وهو يندفع نحو باب الشقة ليخرج إليها ...!!!

وفي فراشها انتفضت هانيا وهي تسمع صوت باب الشقة يغلق فنظرت للساعة أمامها لتتسع عيناها بدهشة ...
أين يذهب رامز في هذا الوقت؟!
نفضت عنها غطاءها لتتوجه نحو نافذة غرفتها التي فتحتها لتتجمد
ملامحها مصدومة وهي تراه واقفاً مع غادة في الطريق في هذا الوقت من الليل ومعهما...حقيبة ملابسها!!
=========
_وكما قال عنترة: سكتتُ فغرّ أعدائي السكوت...وظنوني "توت توت قطر صغنتوت"!
انفجرت ياسمين بالضحك والكلمات السابقة تنبعث من فم أحد الأطفال من أقارب يامن الذين لم يصبروا للغد كما وعدوا ليزوروهم في نفس الليلة ...
بينما هتف يامن بمرح :
_عنترة قال "توت توت قطر صغنتوت"!
فقال الصغير وهو يهز كتفيه بشقاوة طفولية محببة:
_هاكدب عليك؟! خدناها كده في المدرسة!
_مدرسة ال"كمبيوتر" اللي قاعد قدامه طول النهار!

قالتها أم الصغير شاكية فعاد يامن يبتسم بينما المرأة تداعب طفلها
الآخر والذي كان يصغر شقيقه ببضعة أعوام مردفة بنبرة وعيد لم تخل من حنان:
_اوعى تتعلم من أخوك...خللي واحد فيكم فالح.
لم يبدُ على الصغير أنه فهمها وهو يهز رأسه يمنة ويسرة قبل أن يتملص من ذراعي أمه ليتوجه نحو ياسمين رافعاً ذراعيه مع هتافه الطفولي :
_"أوبّح"!
ارتفع حاجباها بحنان غامر وهي ترفع الطفل لتضمه لصدرها بقوة قبل أن تغرقه بقبلاتها على وجهه مع عبارات تدليل ناعمة ...
خفق قلب يامن بجنون وهو يتابعهما بعينين جائعتين لعاطفة كهذه ...
هذه المرأة خلقت لتكون أماً!
رغم الانطلاقة الطفولية التي تفضحها حركاتها لكنه يشعر أنها تخفي خلفها قلباً رحيماً يشتاق لأن يمنح أكثر مما يعطي...
لم تكن المرة الأولى التي يراها فيها بهذه الحيوية والانطلاق لكنه هذه المرة كان يختبر ذاك الشعور "المقيت" بالغيرة...وكيف لا؟!
وقد استجابت -الغافلة - لجنون عاطفتها مع الصغير تدلله بقبلاتها تارة وبكلماتها تارة لتمتزج ضحكاتهما العالية بدويّ لم يجد أثره في قلبه وحده بل في قلوب الحاضرين جميعاً ...
احمرت أذناه بغضب وهو يشعر بنظرات أقاربه - خاصة رجالهم- تتعلق بها خاصة في حركتها الأخيرة عندما رفعت الصغير لتداعب بطنه بأنفها بحركات مدغدغة علا معها صوت ضحكاتهما معاً ...

هنا شعر بسهم حارق يجتاح روحه بحرارة قاتلة وهو يود لو تنشق
الأرض الآن وتبتلعها ...بل تبتلعهما معاً...فلا ينظر إليها غيره إنسٌ ولا جان !

ويبدو أن انفعالاته على وجهه كانت صارخة إلى هذا الحد الذي وصل عمه بوضوح جعله يتنحنح ليقول بنبرته الحازمة الودود:
_قوموا ارتاحوا دلوقت زمانكم تعبانين من السفر والصباح رباح.
وقف يامن حامداً لعمه تصرفه ليقف معه الرجال الذين حضروا من أقاربه مثيرين عاصفة جديدة من الترحاب الدافئ أنسته بدفئها ما كان يغمره من شعور بالضيق ...
لكنه ما كاد يختلي بها في غرفتهما حتى أغلق الباب خلفه ليهتف بحدة وهو يمسك ذراعيها ببعض العنف:
_إيه اللي كنتِ بتعمليه ده ؟! لازمته إيه الاستعراض والدلع الماسخ ده هنا ؟!
اتسعت عيناها بصدمة لوهلة محاولة تبين خطئها بينما هو يردف بنفس الغضب الذي فضح غيرته:
_ماخدتيش بالك كام عين كانت عليكِ وانتِ سايقة فيها مع الولد الصغير ؟!
عضت شفتها بإدراك ثم رفعت عينيها إليه وقد انفرجت شفتاها تهم بالرد مدافعة بمنطقية ...
لكن هذا الشعور الذي قرأته واضحاً في عينيه أربكها ...وكأنها -رغم خبرتها القديمة به- قد عجزت عن فهم حديث نظراته...
أو ربما ...فهمت لكنها لم ترد التصديق!
لهذا لم تشعر بنفسها وهي تقترب منه خطوة لتبسط كفيها على صدره هامسة لتهدئه :
_معنديش "كنترول" مع الأطفال...آسفة...ماقدرتش أمسك نفسي...

انقطعت عبارتها بين شفتيه وهو يقربها منه فجأة ليلصقها بصدره
محاولاً إطفاء نيران غيرته بنيران أخرى لا تقل عنها اشتعالاً...
هذه المرة لم يكترث لعدم استجابتها...للخوف من نفورها ...ولا لاتفاقهما -السخيف- الذي يلعن نفسه إذ وافقها عليه ...
كل ما كان يعنيه الآن أن يشعر أنها له ...له وحده !
أن يجرب لذة قربها ولاسيما لو كان بنفس الدلال الذي كانت تغدقه على الصغير ...
أنانية؟!
حسناً...هو يعترف أنها حقاً كذلك لكن لا سبيل له في مقاومة أن ينهل من بئرها هذا حتى تمام الارتواء!
هو لم يكن يوماً ضعيفاً أمام شهواته...بل على العكس طالما تفاخر بأن رايات النساء لا ترفع على أرض جسده إلا لينكسها غروره !
لكنه معها هي بالذات يشعر بالأمر مختلفاً...
هو يريدها كاملة..يريد اختبار لون عشقها -المزعوم- هذا على جدران
عالمه الأسود !
والمقابل؟!
المقابل!
هي لا تطلب شيئاً وهو لا يملك ما يعطيه ...فمن يكترث بهذا السؤال؟!

_أنا كمان آسف ...ماقدرتش أمسك نفسي!
قالها أخيراً مقلداً لكنتها بغيظ امتزج ببعض العبث وهو يبتعد بوجهه عنها واحمرار بشرتها الخجول يمنحه الكثير من الرضا ..فابتسمت وهي تشيح بوجهها متمتمة بارتباك خافت:
_انتَ مشكلة .
_وانتِ كارثة!
اتسعت ابتسامتها وهي تعود بعينيها إليه محاولة فهم ما يعنيه لكن رنين هاتفها قاطعها ...

_ده بابا .
قالتها وهي تحرر نفسها من ذراعيه لترفع الهاتف لأذنيها بارتباك لم يخفَ عليه قبل أن تفتح الاتصال لترد بنبرتها الحيوية ...
ضاقت عيناه بتفحص وهو يتأمل ملامحها التي غابت في شرود بائس رغم المرح المصطنع الذي كانت تجيب به أباها ...
ورغم أنه شعر أنه من الذوق أن يتركها وحدها كي يمنحها المزيد من الخصوصية في هذه المكالمة لكنه ضرب بهذا عرض الحائط !
فلتذهب كل أصول اللياقة للجحيم ...هذه المرأة صارت وسواسه
الأعظم ولن يهدأ حتى يحيط بكل تفاصيلها دون نقصان .

_كويسة طبعاً...ومبسوطة جداً...جداً !
ازدرد ريقه بتوتر وهو يسمعها تقولها بحرارة لا يدري هل تصطنعها أم تجتاحها ...
ورغم أن حديثها مع أبيها لم يستغرق بعدها سوى بضع دقائق لكنه شعر بضيق خفي وهو يتابع عينيها اللتين انشغلتا عنه بشرودهما قبل أن تتجمد ملامحها فجأة مع صمت قصير وكأنها سمعت ما يسوؤها !
انعقد حاجباه بترقب وهو يقترب منها خطوة بحمائيته المعهودة بعدما لمح الدموع تلتمع في عينيها مع صوتها المختنق:
_شكراً يا بابا...تعيش وتفتكر.
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يسمعها تنهي الاتصال بنفس النبرة التي عجزت عن تصنع المرح فيها أكثر فانتزع منها الهاتف ببعض العنف
متسائلاً:
_فيه إيه؟!

_مفيش...من فترة طويلة كنت بحاول أعمل لماما الله يرحمها مشروع خيري بس كانت تراخيصه متعطلة ...بابا أخيراً قدر يحلها ومتصل يفرحني خصوصاً إن معاد الذكرى السنوية لوفاتها كمان كام يوم ...
قالتها مطرقة برأسها قبل أن ترفعه بابتسامة شاحبة لتردف:
_تخيل إنه فاكر معاد وفاتها بعد السنين دي ؟!..كل سنة في نفس المعاد بيبقى حريص إنه يكلمني مش بس عشان يطمن عليّ وكمان عشان يحكيلي أد إيه هو ندمان إنه غلط في حقها ...ليه مبنعرفش قيمة الناس إلا لما بنفقدهم ؟! ليه لازم نخسر الحاجة عشان نحس بيها؟!

ربت على كتفها بكفه الحر وقد فقد كلماته معها كالعادة ...
فاتسعت ابتسامتها الشاحبة وكأنما تقهر بها حزنها مع استطرادها:
_فيه حاجات لما بتيجي متأخرة مابيبقاش لها طعم...لا القهوة بتتشرب باردة ولا الآيس كريم بيتاكل سايح...عشان كده لو فيه حاجة اتعلمتها في حياتي فهي إني أعيش كل إحساس في وقته وأديه حقه عشان لو عدى وقته هندم عليه .

صمت طويلاً بعد عبارتها شاعراً أن كلماتها تمس شيئاً دفيناً بأعماقه ...
ربما كانت مشكلته طوال عمره أنه كان يهرب من مشاعره ...
من حزنه...من يأسه...من ألمه...وحتى من فرحه !
"عايشها من عَ الوشّ" !
بهذا التعبير البسيط كان يصف حاله الذي يبتعد عن التعمق في أي شيء مكتفياً ب"النقر" على قشوره ...
فهل آن الأوان أن يعترف أنه كان مخطئاً ؟!

انقطعت أفكاره وعيناه تتعلقان بابتسامتها الشاحبة التي صارت ترتجف مع ارتجافة شفتيها في لحظة نادرة من لحظات ضعفها ...
ولو قرأ ما في خاطرها لأدرك أن قربه هذا منها يمتص منها قوتها لا العكس!
هو نفسه لايزال جبلاً آخر من جبال همومها التي وجب عليها تجاوزها حتى تصل ل"نهر الحلم" الذي تود ملأ كفيها من مائه !
الرحلة طويلة...طوييييلة...
وامرأة كهذه قد تغفر لنفسها الضعف لكنها لن تغفر السقوط!

_مش عايزة صورة حقيقية بدل الفوتوشوب؟!
همس بها بصوته الخشن وهو يشعر بارتجافة ضعفها تزداد فرفعت إليه عينيها بتساؤل لا تكاد تفهم ما يعنيه ...
قبل أن يمنحها الجواب وهو يضمها إليه بذراعه الحر بينما ذراعه الممسك بهاتفها يرتفع ليلتقط لهما صورة بهذا الوضع!

لم تكد ابتسامتها الواهنة تعود لشفتيها حتى ألقى ما بيده جانباً ليحتضنها بملء ذراعيه وكأنما يغرسها غرساً على صدره ...
قامتها الضئيلة تكاد تختفي بكاملها بينما يميل برأسه على رأسها وأنامله تربت على ظهرها بحنوّ استجلب دموعها رغماً عنها !

_أنا كويسة ...مش...
انتهت كلماتها المكابرة بشهقة بكاء عنيفة جعلته يضمها لصدره أكثر وهو لا يدري من منهما أكثر احتياجاً لهذا العناق !

كلاهما في هذه اللحظة كان يمثل صورة الآخر في مرآة الضعف والحرمان ...
صورة رسمها ماضٍ متشابه وإن تعامل معها كل منهما بطريقته !
أجل...كلاهما كان يخشى الغد...يخشى الفقد...لكنها "هي" كانت تتشبث ببقايا ثقتها في نفسها ...بينما هو لا...لم يعد يثق في أي شيء ولا أي شخص حتى نفسه !

_شكراً!
همست بها أخيراً وهي ترفع عينيها إليه بعد دقائق مرت كدهر كامل من أحاسيس...
قبل أن تبتعد بجسدها عنه في حركة كرهها لكنه لم يستطع منعها فتنحنح بخشونة ليشيح بوجهه متمتماً بكلمات بلا معنى ...
ابتسمت ابتسامة حقيقية وهي تمسح ما تبقى من دموعها لتردد الكلمة التي تغيظه:
_شكراً يا "طيب"!
ثارت ملامحه بغيظه المعهود من عبارتها هذه ليهتف:
_إيه "شكراً يا طيب " دي؟! بتكلمي أخوكِ الصغير؟!
ضحكت ضحكة رائقة وهي تبتعد أكثر لتحتضن جسدها بساعديها بينما عيناها تمطرانه عشقاً ناسب عبارتها:
_بحب أقولهالك...يمكن لأن دي أجمل حاجة فيك...حاجة مش بتبان لكل الناس ومش بيلاحظها غير اللي يقرب منك قوي ...لما بقولها ببقى حاسة إني كسبت رهاني عليك ...وإن كان معايا حق لما قفلت قلبي عليك طول السنين دي.

انفرجت شفتاه للحظة وكأنه على وشك قول شيء ما قبل أن يطبق بشفتيه بقوة وهو يشيح بوجهه ...
كل هذا كثيرٌ على تحمله !!
هذه المرأة تثير جنونه وهو لا يدري ماذا يفعل بها؟!
ليته يصدق هذا الحب الذي تزعمه ...
أو ليته يكذبه!
لكن أن يبقى هكذا يتدحرج بينهما فهو الجحيم بعينه!
لهذا حاول الهروب من هذا الحديث بأسره وهو يقول ليغير الموضوع :
_اليوم كان صعب قوي ...انتِ أكيد تعبانة وأنا كمان ...ياللا ننام .

قالها بجفاف وهو يبتعد عنها ليعطيها ظهره قبل أن ينتبه أن الغرفة بطبيعة الحال لا تحوي سوى فراش واحد ...
ذاك الذي انتبهت له هي الأخرى في نفس اللحظة فتقدمت منه لتقول بنبرتها الحيوية :
_من حسن الحظ ان السرير له مرتبتين فوق بعض ...ساعدني بس ننزل واحدة منهم ...انت عارف إني بحب نومة الأرض.
فالتفت نحوها بنظرة حادة ثم زفر بضيق وهو يتقدم نحو الفراش ليبدأ في نقل أحد "المرتبتين" إلى الأرض قبل أن تنضم هي إليه تساعده حتى انتهيا فتحركت لتحضر شيئاً ما من حقيبة سفرها تبين أنه مادة معقمة نشرت رذاذه بسرعة على كلي المرتبتين مع قولها:
_ده سبراي مطهر ومعقم عشان الدوك موسوس نظافة !

فالتوت شفتاه بابتسامة خفيفة وعيناه تنسحبان إلى حقيبة سفره التي حوت عبوة مثل عبوتها تماماً!!
جميلٌ حقاً أن تجد من يفهمك إلى هذا الحد الذي يقرأ فيه أفكارك ...
لكن الأجمل أن تقرأ أنت الآخر أفكاره ...هذا الشيء الذي كان هو عاجزاً عن فعله معها حتى الآن مع ضباب وساوسه الذي يعكر سماء أي حقيقة في حياته !!

_هاقف في البلكونة شوية.
قالها وهو يتحرك نحو شرفة الغرفة كي يمنحها حرية تبديل ملابسها ...
نظرة حنين طويلة للساقية القديمة هناك والجاثمة كشبح أسود مكانها تبدلت لنظرة رضا متدفقة وهو يتذكر مقامهما معاً سوياً منذ قليل ...
هي حقاً امرأة الألوان القادرة على صبغ الأشياء بطيفها المبهرج مهما اشتد سوادها !
لكن...هل يرغب هو حقاً في نزع الأسود من ألوانه؟!

_أنا خلصت...ممكن تغير انت كمان هدومك وأنا هافضل هنا شوية .
قالتها خلف ظهره وهي تتقدم نحو سور الشرفة فالتفت نحوها هاتفاً بحدة:
_انتِ اتجننتِ؟! هتقفي في البلكونة بشعرك كده ؟!
قالها وهو يدفعها أمامه ليغلق باب الشرفة خلفهما مردفاً بنفس الحدة:
_مايغركيش إن المكان فاضي...لو حد بس لمحك صدفة هتبقى حكاية هنا!
ابتسمت برضا من غيرته الواضحة وهي تطرق برأسها عندما تقدم هو نحو المرتبة على الأرض ليستلقي عليها قائلاً بخشونته التي ما عادت تضايقها:
_مش محتاج أغير هدومي ...هنام كده !
_أنا اللي هنام على الأرض.
هتفت بها باعتراض وهي تحاول جذبه من ذراعه لتوقفه لكنه هو الذي شدها من ذراعها ليسقطها جواره قائلاً بحزم:
_حضرتك هتنامي على السرير معززة مكرمة وأنا اللي هنام هنا ومش عايز أسمع كلمة زيادة ...
ثم التمعت عيناه ببريق عابث وهو يلاحظ اضطراب أنفاسها لقربها منه إلى هذا الحد فأردف وهو يضغط حروفه بمكر:
_لو كنتِ مصرة تنامي على الأرض معنديش مانع تيجي جنبي.
فهبت واقفة مكانها بوجنتين محمرتين لتتمتم بعتاب خجول:
_أهو الوش الوقح ده هو اللي لسه مش عارفة أستوعبه منك .

وقح؟!
هل وصفت عبارته حقاً بالوقاحة ؟!
ماذا ستقول إذن لو علمت عن خيالاته بها كل ليلة والتي يبدو أنها ستؤرقه هذه الليلة بالذات كضيف ثقيل ؟!!
شعر بحركتها على الفراش فوقه فالتفت نحوها لتنظر إليه من علو وهي ترفع عليها غطاءها قائلة :
_تصبح على خير .
ظل يتقلب مكانه لبعض الوقت بعدها متحاشياً النظر نحوها وهو يحاول التشاغل بأفكاره مع أي شيء بعيد عنها حتى سمع قولها البرئ :
_لو مش جايلك نوم...أحكيلك حكاية !

حكاية ؟!
هل هذا ما تفتق عنه ذهنها العبقري في هذه اللحظة وفي هذا الموقف ؟!
هذه المرأة إما أن تكون حقاً شديدة البراءة حد الغفلة ...
وإما أن تكون لوحاً من ثلج ؟!
وعند خاطره الأخير عاد هاجس آخر يراوده عززه شعوره بنفورها من أي تلامس بينهما ...
هل تعاني خللاً ما بهذا الشأن؟! ألهذا طلقها زوجها؟!

_يامن!
صوتها المميز يعاود اختراق هواجسه ليهزم أفكاره مؤقتاً فتنهد بحرارة وهو ينقلب على ظهره لينظر نحو السقف بشرود قائلاً:
_عمري ما حد حكالي حكاية قبل ما أنام...والدي الله يرحمه مكانش له في الحاجات دي ...كان بيشغل جنبي راديو ويسيبه مفتوح عشان يسليني ...بس أنا كنت دايماً بطفيه ...كبرت ووداني خدت على السكوت لحد ما أدمنته ...فترة قبل النوم دي بعتبرها وقتي المقدس اللي محدش عمره شاركني فيها ...حتى لما اتجوزت كان كل واحد فينا له أوضته الخاصة اللي بينام فيها لوحده .
_يعني دي أول مرة حد يقعد معاك قبل ما تنام ؟! أعتبر ده سبق حصري ليّ؟!
هتفت بها بمرحها الحيوي الذي انتقل إليه فالتفت نحوها قائلاً بنبرته العابثة:
_ما تقوليش لحد بقى أحسن تتحسدي!
صوت ضحكتها الرائقة بعدها دوى في أذنيه كأروع ما يكون قبل أن يحمل صوتها بعض الجدية :
_تعرف إنه زمان كان حلم من أحلامي إني أحكيلك حكاية قبل النوم...
ثم ضحكت بخجل لتردف:
_بتقولوا على البنات عبيطة عشان بتفكر في الحاجات دي ...بس من ساعة ما عرفت عنك كل حاجة وأنا كنت بتمنى أعيش معاك الأمومة اللي اتحرمت منها .

يالله!!
ألن تكف هذه المرأة عن إبهاره؟!
عن نشر الفوضى في عالمه الرتيب؟!
عن تكبيله بهذه البساطة الخانقة ؟!!
ماذا عساه فاعلاً بها ؟! وهل يملك أصلاً حق الاختيار؟!
هو ينحدر معها بنفس السرعة من على نفس الجرف منتظراً السقوط ...
لعلهما يلتقيان على السفح بعدما خاب لقاؤهما على القمة !!

_يامن.
_مممم.
_هاحكيلك حكاية .
_احكي يا شهر زاد ... بس قصّري مابحبش الرغي!
قالها مدعياً عدم الاكتراث وهو يغمض عينيه ليستمتع بصوتها الذي انساب في أذنيه كنهر من عسل ...
حكاية خيالية حملته لعالم سحري لم يدخله منذ زمن بعيد ليشعر وكأنما تبدلت روحه بأخرى تطوف معها في سموات بلا أسوار ...
الدقائق تمر في عدوها كثوانٍ خاطفة...
وأنفاسه تسكن أخيراً بعد طول صخب ...
لقد سمعهم يقولون يوماً إن بداخل كل رجل طفلاً ...
مقولة أغضبته وقتها لكنه الآن يشعر بها أصدق ما تكون ...
مرحباً بطفولة كهذه لو تنتهي بحكاية بصوتها ...وعناق يعلم أنه لن يناله ...على الأقل هذه الليلة !
بدأ صوتها في التثاقل مع تثاؤبها فابتسم دون أن يفتح عينيه حتى اختفى صوتها تماماً منبئاً باستسلامها للنوم سريعاً كعادتها بعكسه هو الذي يضنيه الأرق كل ليلة ....
انتظر لبعض الوقت ثم فتح عينيه ليصطدم بمرأى ذراعها الذي تدلى جوارها ليسقط قربه...
اتسعت ابتسامته وهو يقترب بجسده أكثر ثم مد أنامله ليمسك كفها المتدلي بحذر ...
رأسه يرتفع كي تلثم شفتاه خاتمه الملون في إصبعها بخفة ثم يعود مكانه شاعراً بلذة لص نال غنيمة سهلة...
لكنه لم يترك أناملها من يده بل شد عليها برفق يضمها نحو صدره قبل أن يستسلم بدوره لنوم عميق يقسم أنه لم ينعم به منذ زمن ...
========
_هنرجع بكره؟!
سألته بنبرة حملت الكثير من الخيبة وهي تسير معه في أحد الحقول القريبة من بيت عمه فزفر بضيق هو الآخر مجيباً :
_للأسف مضطرين...فرح رانيا قرب قوي ولازم ألحق أجهز اللي ناقصها .
ابتسمت وهي تلتفت نحوه لتقول بعفوية:
_طيبة قوي رانيا .
_طيبة بس ؟! دي غلبانة...أكتر واحدة بحمل همها في الثلاثة...هانيا قوية وداليا قادرة ...لكن رانيا بتغرق في شبر مية .

قالها وهو يتناول كفها ملاحظاً أنها لا تبادر أبداً بهذه الحركة رغم
استسلامها المستحدث لها ...
فعادت برأسها للأمام قائلة:
_بس اللي عرفته إن خطيبها بيموت فيها من صغرهم...الحب اللي زي ده هو الضمان الحقيقي لأمان أي ست .
ضحك ساخراً ليرد :
_الحب ده عامل زي وعود السياسيين ...بيلمع وشكله حلو ويطمن ...لكن وقت الجد بيطلع مجرد كلام.
هزت رأسها بيأس من مجادلته ثم أشارت لجسر قديم هناك لتقول بعزم:
_لا...الحب زي الجسر اللي هناك ده ...محتاجينه عشان نعدي ومانقعش في بحر حزننا .
_أديكي قلتيها ...عشان بس نعدي ..لكن محدش بيعيش عمره كله فوق جسر!
قالها بمرارة ساخرة فرفعت إليه عينيها صامتة للحظات قبل أن تهمس له بيقين:
_أنا معنديش مانع أعيش عمري كله فوقه...بس بشرط...ما يقعش بيا.
أشاح بوجهه بضيق حقيقي وهو يفهم مغزى عبارتها ...
لكنه لايزال عاجزاً عن منح أي وعود ...
أما لهذه الحيرة من نهاية؟!

_تعال هنروح هناك ...الصور عليه هتبقى تحفة.
قالتها بنبرتها الحيوية القادرة على انتزاع سعادتها من بين أنياب اليأس فضغط كفها في راحته مطرقاً برأسه وهو يتوجه بها نحو الجسر القديم الذي تآكلت بعض أجزاء من سوره لكنه بقي قوياً صامداً .
سارت معه فوقه في ذاك الوقت المتأخر من عصر اليوم حيث خلا المكان إلا منهما لتلتقط لهما بعض الصور ...
قبل أن تستند على سوره لتنظر للأفق البعيد قائلة :
_يمكن بحب قعدة الأرض بس بحب أكتر النظر للسما...بحسها شباك
لأحلامنا اللي جاية .
ابتسم وهو يستند مثلها على السور ليقول بتهكم:
_تعرفي إنك بتصعبي عليّ قوي؟! لو كنت فعلا مقتنعة بالأمل اللي
ماليكي ده تبقي غلبانة....عمرك شفتِ حد حقق كل أحلامه وسعيد في حياته ؟!
فالتفتت نحوه بنظرة عميقة لتهمس بخفوت:
_أنا دلوقت حققت أجمل حلم وأنا معاك.

اختلجت عضلة فكه فاضحة تأثره بحديثها لكن طبيعته الوسواسية كانت له بالمرصاد ...
لن يصدقها ...لن يأمن لها ...كلهن يظهرن هكذا في البداية قبل أن يتبدل جلدهن كالأفاعي.

وبهذا الخاطر الأخير زفر بقوة وهو يشيح بوجهه عنها ليلفهما بعدها صمتٌ ثقيل قطعه صوت أحد الأطفال من أقاربه والذي كان يعدو نحوهما حاملاً قطعتين كبيرتين من المثلجات ليهتف أمام ياسمين:
_بتحبي الفراولة زيي؟!
عقد يامن حاجبيه بضيق وهو يتطلع لقطعة المثلجات التي بدت يدوية الصنع دون حتى غلاف يبين مصدرها ...لكن ياسمين تناولتها ببساطة لتقول بلطف :
_طبعا...بموت فيها ...شكراً إنك افتكرتني.
ابتسم الصغير برضا وهو يناول يامن القطعة الأخرى لكنه هتف بها بخشونة:
_جايبها منين دي ؟! من تحت السلم ؟! ما تاكلش غير حاجات مغلفة ومضمونة !
قالها ثم انحنى ليلقيها جانباً بسرعة لكنه اصطدم بنظرة الصغير الخائبة عندما استقام ...
تلك النظرة التي لم تحتملها ياسمين فرفعت قطعتها نحو شفتيها لتلعق طرفها باستمتاع قائلة للصغير:
_متزعلش...أنا هاكل بتاعتي.
قالها وهي ترمق يامن بنظرة عاتبة لكنه هتف بها بحنق:
_هتاكلي آيس كريم في الجو ده ؟!
_عشان خاطره!
قالتها وهي تنحني على الصغير لتقبل رأسه بحب فما كان منه إلا أن طوق خصرها بذراعيه الصغيرين قائلاً بدفاع طفولي:
_باكل منها كل يوم ومابتعبش !
ضحكت ياسمين وهي تتابع تناول قطعتها ناظرة ليامن بتحدٍّ مغيظ فما كان منه إلا أن هتف :
_براحتكم...
ثم أعطاهما ظهره ليردف:
_أنا هاروح مع عمي مشوار قريب ...مش هتأخر ...ارجعوا انتم الدنيا بردت.
لم ينتظر موافقتها وإن شعر بضيقها ورغبتها في صحبته ...والواقع أنه هو الآخر كان يرغب بهذا ولهذا -بالضبط- منع نفسه عنه بكل قوته وهو يبتعد بخطوات سريعة عنهما وكأنه يهرب من مشاعره نحوها التي تتملكه يوماً بعد يوم ...
كانت الدقائق تمر عليه متثاقلة بعدها وهو يلعن نفسه أن تركها وحدها لهذا ما كاد ينهي الأمر الذي خرج لأجله مع عمه حتى طالبه بسرعة العودة للبيت ....

_وحشتك عروستك يا "دكتور"!
قالها عمه بمكر لم ينقص من حنان نبرته فاحمرت أذنا يامن وهو يرد ببعض الخشونة متجاهلاً عبارته:
_تعبان ...ومصدّع ...ما نمتش كويس امبارح.
لكن الرجل ربت على كتفه ليسير جواره في طريق العودة قائلاً بجدية هذه المرة:
_ناوي تكرر الزيارة ؟! واللا هترجع تهرب تاني؟!
_أهرب من إيه؟!
_من نفس اللي كان أبوك الله يرحمه بيهرب منه ؟!
قالها عمه بنبرة ذات مغزى فازداد وجه يامن انفعالاً وهو يرد بعصبية:
_محدش ضربني على إيدي عشان آجي يا عمي ...أنا جيت عشان كنت عايز كده ...وماعادش فيه حاجة تخليني عايز أهرب.
_ياريت يا ابني...ياريت تكون مصدق كده بجد .
أنهى بها الرجل كلامه ليتجاوز الحديث عن هذا الأمر بآخر أكثر مرحاً طوال الطريق حتى وصلا إلى البيت ولم يكادا يصلان حتى استقبلته زوجة عمه بقولها القلق:
_شوف مراتك مالها يا دكتور .
انعقد حاجباه بقلق وهو يسألها عن الأمر لتجيبه بحيرة :
_كانت زي الفل وقاعدة وسطينا ...مراة ابن عمك جابت الحنة عشان ترسم لها إيدها وهي كانت فرحانة ...بس أول ما كشفت ذراعها ورجليها لقينا لون وشها راح وقعدت تترعش وبعدين اتفطرت في العياط...طلعتها أوضتها وغطيتها وقعدت تتحايل عليّ أسيبها لوحدها .
فازداد انعقاد حاجبيه وهو يدرك خوفها المغالي من تكشف جسدها أمام الآخرين ...ليقول بصوت مشتت:
_هتلاقيها بس أخدت برد ...الجو قلب مرة واحدة .

قالها ثم اندفع عدواً نحو الدرج المؤدي لغرفتهما التي طرق بابها ليفاجأ بخلو الفراش منها ...
ومن الحمام القريب سمع صوت تأوهاتها فتوجه نحوه ليجدها منحنية على الحوض تمسك بطنها بألم ودموعها تغرق وجهها ...
_مالك ؟! فيه إيه؟!
هتف بها بجزع حقيقي وهو يلاحظ شحوب ملامحها فالتفتت إليه لتتمتم ببضع كلمات مطمئنة ثم عادت تنحني على نفسها قبل أن تفرغ ما ببطنها في الحوض ...
لم يشعر بنفسه وهو يقترب منها ليحتضن ظهرها بذراعيه وهو يربت على رأسها برفق حتى انتهت ...
غسل لها وجهها برفق ثم أسند جسدها شبه المتهاوي ليذهب بها إلى الفراش حيث استلقت بين أنينها المكتوم ودموعها التي أغرقت وجهها ...
انقبض قلبه خوفاً لكنه هرع إلى عمه ليطلب منه استدعاء طبيب قبل أن يعود عدواً إليها ليجلس جوارها على الفراش صامتاً...
كل عروق وجهه كانت نافرة بانفعال لكن لسانه بخل كالعادة بأي كلمة !
ولم يكد الطبيب يصل حتى هب واقفاً مكانه بتحفز وصل حدوده القصوى وهو يراه يكشف بعض ملابسها ليتفحصها قبل أن يطمئنهم بدعواه أن الأمر بسيط ولا يزيد عن كونها أكلت شيئاً ملوثاً .
ولم يكد الطبيب ينصرف بعد إعطائها حقنة خاصة لوقف القيء حتى التفت نحوها وقد هدأت ملامحها قليلاً ليرمقها بنظرة حملت غضبه المكتوم ولازال لسانه منعقداً...

_عشان مافيش فايدة فيكي...دماغك ناشفة وتصرفاتك كلها غلط ...حد ياكل ايس كريم في الجو ده ؟!
صرخ بها أخيراً بعنف أجفلها وهو يجلس جوارها فجأة على طرف الفراش فسعلت لعدة مرات قبل أن ترمقه بنظرة دافئة طويلة سبقت همسها :
_ممكن تبطل طبعك ده وتعمل الحاجة اللي نفسك دلوقت تعملها بس بتكابر؟!
ظلت ملامحه متجهمة للحظات وكأنه لم يفهمها قبل أن يميل عليها فجأة ليعتصرها بين ذراعيه وهو يدفن وجهه في تجويف عنقها ...
فابتسمت بحنان لتحتضنه بدورها مع همسها الواهن:
_انا مبسوطة قوي...اول مرة النهارده اشوف في عنيك خوفك عليا !

قالتها وهي تعني كل حروفها ...ومن يفهمه مثلها؟!
هي وحدها كانت تقرأ في صمته السابق كل ما مشاعره التي عجز عن البوح عنها ...
لهذا لم يكن عجيباً أن تشبثت به أناملها بكل قوتها بينما رفع هو رأسه إليها أخيراً بحاجبين منعقدين مع همسه الخشن:
_ليه بيحصللك كده ؟! مش حكاية آيس كريم ولا برد...مراة عمي حكتلي على اللي حصل تحت ...مش عايزة تقوليلي إيه حكاية خوفك من إن الناس تشوف جسمك ؟!
أغمضت عينيها بقوة وأصابعها المتشبثة به تتراخى تدريجياً حول ظهره لكنه لم يسمح لها بهذا الابتعاد ...
ليس وقد صار بهذا القرب...
فعاد ينحني ليضمها إليه من جديد بقوة للحظات طالت وقد قرر عدم الضغط عليها مادامت ترفض الحديث بكل هذا العزم ...
وأخيراً ابتعد عنها بجسده ليربت على وجهها برفق ففتحت عينيها بصعوبة لتهمس بخفوت:
_يامن...أنا بحبك قوي.
فارتسمت على شفتيه ابتسامة واهنة ثم عاد يميل على وجهها ليمس شفتيها مسة خفيفة بشفتيه وقد تذكر نفورها المعهود ...
قبل أن يبتعد ليقول بسخريته الخشنة:
_عرفتِ ليه بقوللك انك كارثة ؟!
أغمضت عينيها بابتسامة شاحبة فعاد يربت على وجنتيها بخفة مردفاً:
_هاقوم أنا أطمن عمي ومراته وأسيبك تستريحي ...هنأجل سفرنا لبكرة تكوني بقيتي أحسن .
_ورانيا؟!
تمتمت بها باعتراض ليرد دون تفكير:
_صحتك أهم.
عادت ابتسامتها تزين شفتيها قبل أن تستسلم لنداءات جسدها المنهك فأغمضت عينيها هانئة بشعورها المستحدث بعاطفته نحوها ...
بينما كانت عيناه تمشطان ملامحها بمزيج من قلق ولهفة و....
شعور آخر لايزال يأبى الاعتراف به !
=========
وقفت في نافذة الغرفة بعدما أتمت استعدادات الرحيل ترمق المشهد الرائع أمامها بنظرة راضية ...
ثم حانت منها التفاتة لتلك "القُلّة الفخارية" المستندة على سور النافذة فابتسمت وهي تتناولها لتشرب منها قبل أن تسمع صوته خلفها:
_انتِ هتشربي كده عادي؟! انت عارفة مين شرب منها قبلك ؟!
فالتفتت نحوه بنظرة عنيدة وهي تكمل ما تفعله قبل أن تزيحها من على فمها لتقول له بنبرتها العاشقة لكل ما تؤمن به:
_انت عارف اننا بنشرب ماء ميت ؟! التجارب اللي عملوها أثبتت إن الطاقة الحيوية للماء بتضيع كلها لما بيتحط في أزايز بلاستيك أو إزاز ...ربنا سبحانه وتعالى بيقول "خلق الإنسان من صلصال
كالفخار"...ولأن الفخار أقرب مادة لتكويننا فالماء فيه مابتتغيرش خواصه المفيدة لينا ...كمان اكتشفوا إن الأواني الفخارية بيقل تكاثر البكتيريا فيها وهي أصح مادة ممكن نستعملها للشرب .
_ما اختلفناش...بس برضه ماتشربيش مكان حد .
قالها بعناد فابتسمت وهي تعطيها له قائلة:
_بذمتك ...مش نفسك تشرب منها دلوقت؟!
أشاح بوجهه مكابراً فعلا صوت ضحكتها لتحاصره بالمزيد من كلماتها :
_مرة واحدة انسى كل قواعد "الانفيكشن كونترول" دي وعيش حياتك من غير قوانين ...صدقيني هتلاقيها أمتع.
_أفهم من الضحكة دي إنك خلاص بقيتِ كويسة النهارده ؟! متأكدة إنك ممكن تسافري؟!
قالها وهو يعود إليها ببصره متجاهلاً عبارتها فأومأت برأسها لتقول برضا:
_الحمد لله ...
لم تكد تتم عبارتها حتى اندفع بعض أطفال عائلته ليدخلوا عليهما الغرفة بجلبة شديدة قبل أن يحاصروا ياسمين بعباراتهم الصاخبة وعناقاتهم الدافئة...
ابتسم رغماً عنه بعاطفة وهو يراها تضع ما بيدها جانباً كي تتمكن من معانقة كل منهم على حدة ...
ثم خفق قلبه بقوة وهو يرى قبلاتها الحارة التي أتبعت أحضانها لهم تكاد تلهب صدره ...
عقد حاجبيه بضيق وهو يرى أثر هذا في نفسه فأشاح بوجهه محاولاً كظم غيظه وغيرته التي لا يدري لها مبرراً هاهنا ...
لكنها شعرت بحدسها بما يدور بخلده فهتفت بالصغار:
_آخر حدوتة قبل ما امشي هاحكيهالكم عند الساقية ...روحوا استنوني هناك.
هلل الأطفال بصخب ثم غادروا الغرفة بعاصفة ضاحكة ولم تكد تختلي به حتى التفتت نحوه لترمقه بنظرة مترددة طويلة...
قبل أن تفعل آخر ما توقعه منها !
أجل...لقد استطالت فجأة على أطراف قدميها لتمنحه قبلتين سريعتين على وجنتيه نقرتهما نقراً قبل أن تهمس له بمزيج من خجل ودلال:
_عشان ماتبقاش غيران.

اتسعت عيناه قليلاً وهو يشعر بحركتها البسيطة هذه تجتاحه كبركان ...
لا...ليس الأمر فقط مذاق لمستها الذي صار يؤرقه بنكهته التي تميزها ...
لكن كونه يدرك أنها تفعلها الآن مجاهدة نفسها النافرة من تلامسهما فقط لإرضائه !!
ومع هذا لم تمنحه هي الفرصة للمزيد عندما هربت من أمامه بسرعة لتخرج من الغرفة كي تلحق بالصغار تاركة إياه خلفها يكاد يشتعل بكل ما يموج في صدره من مشاعر ...

ودون وعي وجد نفسه يتجه نحو "القلة الفخارية" التي تركتها لتوها هناك يشرب منها ...
ناسياً أو متناسياً كل ما كان يزعمه من حذر وريبة !!
ولما ضبط نفسه متلبساً بهذا وجد ابتسامة غريبة تغزو شفتيه مع تحسس أنامله لوجنتيه بفخر ذكوري وجد صداه في نفسه ...
ابتسامة لم تفارقه بعدها وهو يودع عائلته بحرارة قبل أن يستقر جوارها في القطار العائد بهما ...
ابتسامة تتسع الآن كثيراً وهو يراها تمسك بهاتفها تراجع ما التقطته هناك من صور وملامحها تفضح سعادة ورضا حقيقيين جعلاه يحيط كتفيها بذراعه هامساً:
_اتبسطتِ هناك؟!
_جداً .
_أنا كمان مكنتش عايز أرجع.
قالها مطرقاً برأسه فتنهدت لتمسك كفه هامسة بيقين:
_لازم ترجع ...عندك كام باب مفتوح لازم تقفلهم قبل ما تقدر تكمل حياتك زي ما بتحب .
أومأ برأسه موافقاً ثم قال بشرود:
_كنت محتاج الرحلة دي قوي ...كأن كان فيه حاجة جوايا تايهة ولقيتها .
_أنا كمان حبيتها جداً ...لو جيت انت هنا تاني من غيري قل لهم إني حبيتهم قوي.

رفع إليها رأسه فجأة بحدة وهو لا يدري بماذا يرد ...
كعادتها تتشبث أناملها بحكم عقلها في فراق تدرك أنه آت ..
وكعادته يرخي قبضته حول حبل العشق الذي تمده له كي لا يغرق ...
هي الناجية بقلبها يطفو فوق بحر حزنها خفيفاً برقته...
وهو الهالك بين موج يداهمه مثقل القلب بأوزاره !


لهذا أشاح بوجهه عنها كعادته كلما عجز عن مواجهتها متظاهراً بالتركيز في الطريق ملثماً بصمته ...
صمته الذي ردته له بسكوتها هي الأخرى طوال الطريق حتى وصلا إلى بيته ...
فتح الباب الخارجي للبيت ثم سار جوارها نحو الداخل ليلاحظ تعلق بصرها ب"أرجوحتها يدوية الصنع" هناك ...
فابتسم بحنان جارف قائلاً:
_وحشتك المرجيحة؟!
عيناها تلتمعان بمرحها الحيوي رغم إرهاق السفر ثم تبتسم دون رد ...
وفي بضع ثوانٍ كان قد ألقى حقيبة السفر جانباً ليحملها فجأة من خصرها ثم يعدو بها نحو الشجرة التي علقت بها الأرجوحة...
ضحكاتها العالية حد الصرخات يعلو صوتها حولهما فلا يشعر بنفسه وهو يشاركها فيها قبل أن يجلسها مكانها ليؤرجحها بسرعة معقولة قائلاً بين أنفاسه اللاهثة:
_مش هتقولي حاجة ؟!
هزت رأسها بتساؤل ووجهها يشع بفرحة عاشقة ليغمزها هامساً بمكر:
_شكراً يا طيب!
ضحكت بانطلاق وهي ترفع وجهها للسماء لتبدو في عينيه كشمس أخرى سقطت على الأرض له وحده ...
"عروس البحر" التي سبحت ضد التيار لتخرج من عالمها الملون إلى
عالمه الأسود!

_كفاية ...زمانك تعبان!
همست بها وهي تلاحظ شروده الحالم فيها والذي طال لدقائق فانتبه إليها ليوقف الأرجوحة ثم اقترب منها ليحتضن وجهها بين كفيه صامتا...
لا ...لم يكن صامتاً...عيناه كانتا تحكيان الكثير ...
الكثير الذي قرأته عيناها ليمنحها أملاً جعلها تبسط كفيها على صدره هامسة بيقين :
_يامن انت مبسوط بجد !..عنيك بتلمع اللمعة اللي أنا عارفاها ...انت عارف ده عندي يساوي إيه ؟!
شفتاه ترتجفان بما بدا كابتسامة لكنها قرأته كاعتراف ...
خاصة عندما انتقلت أنامله من وجهها لخصرها كي ينزلها أمامه ...يقربها منه أكثر حد امتزاج أنفاسهما ...
دقات قلبيهما كانت تدوي هادرة لكن غيمة النظرات بينهما كانت تمطر سكينة .

_اسمع قلبك يا يامن...قلبك مصدقني...لو صدقته هابقى كسبت أكبر حرب في حياتي .
همست بها بحرارة جعلت عينيها تدمعان فمال على وجهها يقبل عينيها بحنان ارتجف له جسدها بين ذراعيه ...
قبل أن تسافر شفتاه على محيط وجهها ناثرة قبلات ليست كالقبلات ...
ربما لهذا قاومت "جحيماً" تعيشه وحدها منذ عهد بعيد ..
جحيماً تحترق به ويزداد اشتعالاً كلما لامسها ...
لكنها الآن تشعر بمطر حنانه يطفئه ...يريحها ولو قليلاً من هواجس ماضٍ أليم ...
ذراعاها يرتفعان لتتعلقا به أكثر ...تتشبث به تشبث الهاوي بحافة المنحدر ...

_بحبك...

لم تدرِ كم مرة قالتها ...
ولا هل كانت تقولها له ...لترضيه...
أم تقولها لنفسها كي تصرف عن ذهنها ماضيه!

_بحبك .

كلمة كانت تخرج من شفتيها مباشرة كسهم صائب نحو قلب يصدقها...يهفو إليها ...يقدسها ...
ويدفع فرط دقاته دقة دقة كي يعيش العمر متنعماً بها بعد كل ما لاقاه !

_بحبك...

لكنها للأسف ...كانت تصطدم بجدران عقل عنيد أرهقته وساوسه ...
فاستحق لعنة القدر التي تمثلت في رنين هاتفه بآخر اسم يود رؤيته
الآن...
سيلين!!
=======




سمية سيمو غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-04-20, 11:04 PM   #1510

سمية سيمو


? العضوٌ??? » 396977
?  التسِجيلٌ » Apr 2017
? مشَارَ?اتْي » 4,356
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
?  نُقآطِيْ » سمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond reputeسمية سيمو has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك action
?? ??? ~
keep smiling
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

القطعة الحادية عشرة
========
_هنا؟!
هتف بها يامن بضيق بينما يرد على اتصال سيلين وعيناه تحيدان نحو البوابة الخارجية ليردف بنبرة ساخرة:
_ده انتِ مراقباني بقا؟! أنا لسه راجع...حاضر...هافتح!
انقبض قلب ياسمين وهي تراه يغلق الاتصال ليتوجه نحو الباب الخارجي فجذبته برفق قائلة :
_هادخل أنا ...مش عايزة أقابلها دلوقت.
_نعم؟! بعد كل ده تقوليلي مش عايزة أقابلها؟! امال احنا كنا بنعمل كده ليه أصلاً؟!
هتف بها باستنكار وهو يتوقف مكانه فشحبت ملامحها وهي تبسط كفها على صدرها لتقول له مهدئة:
_مابحبش المفاجآت ...اديني وقت بس أجهز نفسي...المواجهة هتبقى صعبة .

زفر بقوة ثم غلبه الإشفاق على ارتباكها فأومأ برأسه موافقاً ...
لتتجه هي نحو الداخل بملامح متوترة فيما عاد هو ببصره نحو البوابة ليقف مكانه لبعض الوقت متعمداً جعلها تنتظر ...
قبل أن تلتوي شفتاه بابتسامة ساخرة وهو يعد العدة لقناعه الجديد...
سيلين لن ترحل عنه إلا بالحيلة...سيستغل كل ثغراتها ليجعلها تخرج من عالمه إلى غير رجعة...وليس هذا فحسب ...بل ويرد لها ما فعلته به هناك !
لهذا عاد يتقدم نحو الباب ليفتحه ...
ابتسامته الساخرة تتسع وهو يرى ملامحها التي يعرفها عاصفة بغضب أرضى نهم انتقامه...
ابتسامته التي ارتجفت رغماً عنه وعيناه تهبطان لبطنها البارز لتختفي تدريجياً...وقبضة باردة تعرف طريقها لقلبه...
هنا...هنا يكون من -تزعم- هي أنه ابنه !
لم يتحمل النظر أكثر وروحه غارقة في صراع بين عاطفة غريزية لم يملكها وبين وساوسه الضارية التي تنهش عقله...فأغمض عينيه بقوة مع صراخها الهستيري كعادتها بينما تدفعه بكفيها لتدخل:
_اتجوزت ؟! بالسرعة دي؟! وابننا ؟! هتسيبه؟! هتسيبني؟!
كانت كلماتها تتأرجح بين العربية التي تجيدها ولكنتها الأجنبية بحكم أصلها نصف الانجليزي ...
لكنتها التي طالما كانت تثير جنونه وهي تذكره بصراعه العتيد بين شرقية طباعه وما يفترض أن يحمله من أعباء تحضر الغرب الذي يزعمونه !
لهذا أخذ نفساً عميقاً ليبدأ في خطته قائلاً ببرود مصطنع:
_اهدي يا سيلين ...العصبية مش كويسة عشانك...أكيد طبعاً مش هتخللى عن ابني...بس كمان مش هاقدر أسيب حياتي الجديدة ...
ثم ضغط على حروف كلماته ليردف بحذر:
_لو تحبي نكمل سوا معنديش مشكلة عشان خاطر الولد ...عيشي معايا هنا ...بس مش هاطلقها .
كاد يبتسم بعدها بظفر وهو يرى ملامحها الثائرة التي كساها
الاستنكار مع هتافها:
_هنا؟! وكمان زوجة تانية؟! ليه ؟! فاكرني اتجننت عشان أقبل وضع زي ده ؟!
بسط كفيه مدعياً قلة حيلته مما دفعها لتتقدم منه محتضنة ذراعيه بكفيها مع قولها بنبرة أكثر ليناً:
_أنا عارفة إنك لسه زعلان مني عشان اللي حصل في لندن...بس صدقني عرفت غلطتي...ال"بيبي" ده هدية ربنا عشان نرجع لبعض.
كز على أسنانه بغضب مكتوم بزغ بين كلماته الباردة:
_كان بيننا اتفاق ...وخنتيه.
_ما خنتش يا يامن...لما أبقى عايزاك تبقى ليّ بكل ما فيك دي مش خيانة...ده حب!
_حب ؟! حب يخلليكِ تهدي كل اللي بنيته هناك ؟! أنا كنت هاتسجن بسببك؟!
هتف بها بغضب عجز عن التحكم به وذكريات غدرها به هناك تعاود التشكل في مخيلته ...
ربما لم تخنه بجسدها ...لكنها خانت ثقته بها...والذريعة حب؟!
فبئس الحب !!

_ندمت يا يامن ...وخصوصاً لما عرفت بخبر حملي...الأول فكرت أخبي عليك وأعيش بيه بعيد عنك لكن كل شهر كان بيكبر جوايا كنت بحس إني بقرب منك أكتر ...عشان كده كلمتك ...ما توقعتش إنك تتجوز بالسرعة دي!

نبرتها التي تحولت من غضب هستيري لحسرة نادمة لم تحرك فيه ساكناً ...هو لم يكن يراها الآن سوى صورة منسوخة...
نبيلة...بسنت...سيلين...كلهن يؤيدن يقينه أن المرأة لا تحب أحداً أكثر من نفسها ...وأن العاطفة لديها لا تساوي أكثر من ثوب ترتديه وتخلعه متى شاءت !

لهذا عاود رسم ابتسامة ساخرة على شفتيه ليقول بتفهم مصطنع:
_وأنا عشان خاطر ابني مستعد نكمل ...بس انتِ هتقبلي الوضع الجديد؟!
_مستحيل!!
صرخت بها بنبرة عادت إليها حدتها لتخبطه بقوة في صدره مردفة:
_مين دي اللي متمسك بيها كده ؟! أنا حتى ما تعبتش وأنا بسأل عنها عشان أعرف الفضايح اللي طليقها بيلاحقها بيها في كل حتة ؟! هي دي اللي ...

كفه الكبير يطبق على شفتيها بقوة يقطع بقية عبارتها وهو يقترب منها بوجهه متخلياً عن سابق عهده بمهادنتها ليقول وعيناه مشتعلتان بالغضب:
_هاقطع لسان أي حد يجيب سيرتها ...وانتِ عارفاني في الحاجات دي معنديش هزار!

دمعت عيناها بقهر وهي تشعر بالعجز يكبلها ...
لقد جاءت إلى هنا وهي تحلم بإقناعه بالعودة معها ...ظنت أن رؤيته لها تحمل طفله ستلين قلبه لكنه لايزال على عهده من العناد...
لن يسامحها على ما فعلته به هناك...ذاك الذي ندمت عليه حقاً لكن...هل يجدي الآن الندم؟!

وفي مكانها خلف الباب الداخلي الموارب كانت ياسمين تراقبهما في الحديقة بقلب مرتجف...
سيلين فاتنة حقاً...لو كانت تبدو بهذا التألق وهي حاملٌ في شهرها الأخير بهذا البطن المنتفخ فكيف تكون إذن وهي متهيأة بكامل زينتها لترضي شغف رجل أحبته؟!
أغمضت عينيها بحرقة غيرة اشتعلت بين جوانحها وذكرتها بماضيها التعس ...
فالتمعت الدموع في عينيها خاصة عندما سمعتها تصرخ بماقالته عن فضائح طليقها ...
لكن عبارة يامن الأخيرة مع نظرة عينيه كانت مفاجأة لها هي نفسها!!
مفاجأة جعلت الدموع في عينيها تتراجع لتحل محلها ابتسامة راضية...
وبعدما كانت تفكر في تأجيل هذه المواجهة وجدت في نفسها الشجاعة لتتقدم نحوهما...
الشجاعة التي كانت تتراجع تدريجياً مع كل خطوة تخطوها وعيناها معلقتان ببطن غريمتها البارز...
قلبها الذي طالما كان يخفق بالحب ...الآن تقرعه مطارق الذنب!!
كيف هاودته على فكرته في حرمان طفله من العيش بين أبيه وأمه؟!
كيف أعمتها رغبتها في تحقيق حلمها عن رؤية عذاب طفل كهذا لاذنب له؟!
عذاب عاشته هي نفسها لسنوات ولازالت تعاني تبعاته!!
خطواتها تتباطأ وهي تزداد منهما اقتراباً ليزداد تحفز يامن وهو لايتوقع خطوتها التالية...

بينما اشتعلت ملامح سيلين بالغيرة وهي تهتف باحتقار لاذع:
_هي دي؟!
هنا أحاط يامن كتفي ياسمين بذراعه ليقربها نحوه قائلاً بحزم:
_من غير غلط يا سيلين...اللي عندي قلته ...والقرار ليكِ.
_هاحرمك من ابنك ... مش هاخلليك تشوفه...هاقولله إنك سبته عشان خاطر ست تانية ... هاخلليه يكبر وهو بيكرهك لحد آخر يوم في عمره.

كانت تصرخ بها بين دموعها الهستيرية وهي تتراجع بظهرها عنهما حتى خرجت من الباب الخارجي لتختفي عن ناظريهما تماماً ...
ولم تكد تفعلها حتى تراخى ذراعه عن كتفي ياسمين ليطرق برأسه دون رد ...
لكنها كانت تفهم حقاً طبيعة الصراع الذي يحتدم الآن بنفسه !
هي تعرف كل عيوبه تماماً كما تحفظ مزاياه عن ظهر قلب ...
حلقات تدور كالمتاهات يختلف ظاهرها عن باطنها...
تعرف الكثير عن كبريائه...وساوسه...عناده...أن� �نيته...كما تعرف عن حنانه وقوة عاطفته التي تختفي وراء كل هذا!
لهذا لم تتعجب انطفاء ملامحه وهو يرفع وجهه أخيراً متحاشياً النظر إليها مع قوله بجفاف تدرك جيداً ما خلفه:
_كده ممتاز...أنا هاطلع أرتاح في أوضتي وانتِ كمان استريحي.
قالها ثم اندفع بخطوات سريعة نحو الداخل وكأنه يهرب من الموقف بأسره تلاحقه نظراتها التي امتزج فيها ندمها وخزيها وحيرتها !!
=======
_أيوة أنا ...مين معايا؟!
قالها معتز على الهاتف وهو يغمز صديقه جواره ليستمع إليها
قليلاً قبل أن يتصنع التذكر بقوله:
_آه...آنسة داليا ...افتكرت!
كتم صديقه ضحكته وهو يقترب منه بكرسيه بينما يقول معتز بنبرة شديدة التهذيب:
_أنا آسف جداً بس انتِ اتأخرتِ في الرد عليّ...الدور اتاخد للأسف!
ثم صمت قليلاً ليردف بنبرة واعدة:
_كلميني بعد شهر...ممكن أكون حددت لك دور في السيناريو الجديد.
قالها وهو يغلق الاتصال ليهتف به صاحبه بدهشة:
_كده تقفلها بسرعة...طب كنت خد وهات!

فعاد معتز بظهره للوراء وهو يقول بغرور واثق:
_غشيم! اللي زي داليا دي لو رخيت لها الحبل بسرعة تشك فيك...شكلها ذكية ومخها شغال ...لكن لو حست إنك فرصة وحلم بعيد هي اللي هتجري وراك !
_معلم ومنك نتعلم !
قالها صديقه بمرح وهو يخبط على ركبته ليجيبه بضحكات ظافرة وهو يرد بتلذذ:
_الصيد ده مزاااج ! اتفرج واتعلم!

وفي غرفتها كانت داليا ترمق هاتفها بنظرة يائسة بعد انتهاء المكالمة...
حتى المغامرة المجنونة التي كانت قد قررت القيام بها ضاربة بكل شيئ عرض الحائط قد تسربت من يدها ...
زفرت بحنق وهي تتقدم نحو فراشها لتلقي كل ما فوقه على الأرض بسخط قبل أن تعاود تفحص رسائلها وسجل مكالماتها ...
لا مكالمات من هيثم...
ولا رسائل من "العاشق الغامض"!!
تباً...!!
أطلقت صيحة غاضبة وأناملها تتجه للعبة الهاتف الالكترونية التي أدمنتها مؤخراً وتتناسب مع مزاجها السوداوي هذه الأيام ...
صحيحٌ أنها قد بدأت تشعر بالخوف من هذه الأوامر التي تطلبها ...لكن ما الضير ؟!
إنها مجرد لعبة !!

صوت طرقات خافتة على الباب قاطع ما تنتويه ...طرقات تحفظها وتميزها ...لتهتف بفرحة :
_يامن رجع!
قالتها وهي تندفع نحو باب الغرفة تفتحه لترمق وجهه المبتسم باشتياق مع قولها بدلالها المعهود:
_أخيراً افتكرتنا ...حمداً لله على السلامة.
ابتسامته الحنون كانت كفيلة بقلب مزاجها للنقيض تماما وهو يستند بكتفه على باب غرفتها قائلاً بجفافه الذي يناقض شعوره:
_مالك قلبتِ شكل المساجين كده ليه ؟! اغسلي يا بنت وشك وسرحي شعرك وتعالي اقعدي معانا بره !
_تمام ياافندم!
قالتها بمرح حقيقي وهي تشعر بحاجتها الحقيقية للثرثرة معه ...
رغم ما يمثله لها وجوده من حواجز لجموحها لكنها لا تنكر إحساس الأمان الذي يكتنفها في وجوده ...
لهذا تناست كل ما يؤرقها لتغسل وجهها وتتزين قبل أن تخرج إليه لتجده جالساً مع نبيلة التي بادرته بقولها:
_مبسوط مع عروستك؟!

أطرق برأسه دون رد لكن كلتيهما كانتا تعلمان عن هذه الحمرة الخفيفة التي تعلو أذنيه عندما يخجل أو ينفعل فتبادلتا نظرات ذات مغزى لتقول نبيلة برضا حقيقي:
_شكلها بنت كويسة!
بينما شعرت داليا بغيرة لم تملكها وهي تجلس جواره لتقول بلهفة طفولية:
_احكيلنا عملت إيه في البلد ...وحشتني قوي ووحشني الرغي معاك!
ابتسم وهو يحكي لهما باقتضاب كيف كانت زيارته ليقاطع حديثه صوت هاتف نبيلة الذي لا يكاد يتوقف عن الرنين ...
فاعتذرت منهما لتتوجه نحو غرفتها تلاحقها نظرات يامن التي لم تغب حسرتها عن داليا فهتفت به بنزقها المعهود:
_ولايهمك...خلليك معايا وكمل كلامك.
لكنه استدار نحوها بجسده ليسألها باهتمام:
_انتِ عاملة إيه؟! الامتحانات قربت ...جاهزة؟!
أومأت برأسها إيجاباً كاذبة فرمقها بنظرة قلقة قبل أن تقع عيناه على جرح ذراعها الغائر ليهتف بجزع:
_إيه ده ؟!
ارتبكت وهي تداري جرحها لتقول بتوتر:
_اتعورت عادي ...ماتقلقش ...بسيطة.

_بس ده مش جرح عادي...ده كأنه مرسوم!
قالها متشككاً فضحكت بافتعال وهي تكتف ساعديها قائلة :
_خيالك واسع يا دوك...المهم كمل لي عملت إيه في البلد .
ظل يرمقها بنظرات متشككة للحظات قبل أن يعود لسرد بعض ما حدث هناك بذهن مشتت ..
حتى عادت إليهما نبيلة لتخاطب داليا بقولها :
_تورتة الآيس كريم في المطبخ ...يامن جابها مخصوص عشانك ...قومي بقا هاتيها!
وجدتها داليا فرصة للهروب من نظراته المتشككة فهرعت نحو الداخل تلاحقها نظراته قبل أن يلتفت لأمه قائلاً :
_خللي بالك من داليا ...مش مطمن...حاسس إنها مش مظبوطة .
مطت نبيلة شفتيها باستياء وهي تلوح بكفها قائلة باستخفاف:
_بطل وسوسة بقا...البنت زي الفل .
زفر بضيق وهو يشعر أن لا جدوى من الحديث معها لكنه حقاً قلق بشأن الفتاة...يجب أن يحدث هانيا في هذا الأمر ...هي وحدها من يمكنها التقرب منها الآن مع انشغال رانيا بعرسها ...
لهذاتناول هاتفه ليتصل بها لكنه ما كاد يفعل حتى رن الهاتف باسم مروان !
فتح الاتصال بعبارة ساخرة كعادته ليستمع قليلاً إليه قبل أن ينعقد حاجباه بقوله:

_موضوع مهم ؟! للأسف مش هينفع نتقابل النهارده...خلاص لما ترجع من السفر نتفاهم!
========
جلست غادة على مكتبها تحاول التركيز فيما تفعل دون جدوى ...
منذ تركت بيت رامز تلك الليلة لتعود إلى شقة أحمد ...
ذاك القرار الذي تندم كثيراً أنها لم تأخذه منذ فترة أقرب...
صحيحٌ أن رامز لحق بها ليلتها محاولاً إعادتها بإصرار حقيقي لكنها تشعر أنها كانت حملاً ثقيلاً عليه خاصة مع تلميحات
والدته الأخيرة...
هانيا؟!
هانيا لم تحدثها منذ تلك الليلة ولا حتى هاتفياً...يبدو أنها غاضبة منها لأنها فعلت هذا دون علمها ...أو ربما تكون عالقة بمشاكلها مع حماتها هي الأخرى!
دمعت عيناها وهي ترفع عينيها نحو أناملها المتشابكة ترقب دبلة أحمد بشرود بائس لتشعر بالوحدة كما لم تشعر من قبل ...
ظلت تدير الدبلة في إصبعها ببطء مغمضة العينين وكأنها تستعيد شعورها بقربه غافلة عن خط الدموع الذي سال على وجنتها ...
لتختلط الذكرى برائحة "الفراولة" التي تمقتها وهي تذكرها بدبها القطني الذي انتزع منها ذات ليلة ...وانتزع معه الكثير !
تشعر بالغثيان والرائحة في أنفها تزداد حدة...
رباه...إنها حقيقية!!
فتحت عينيها بسرعة لتشهق بعنف وهي تجد زميلها ذاك يمد لها أنامله بعلبة من المناديل الورقية ...
هي صاحبة تلك الرائحة إذن!

انقلبت شفتاها باشمئزاز لم تستطع كبحه وهي تضع أناملها على أنفها وشفتيها بينما لم ينتبه الرجل لكل هذا وهو يقول بنبرة رقيقة:
_هو أنا كل ما هاسيبك لوحدك هاتعيطي!
اتسعت عيناها بمزيج من دهشة وذعر وهي لا تدري بماذا ترد ...
لسانها منعقد فقط عيناها ترمقانه بتلك النظرة التي يسيئ تأويلها مع ابتسامة طامعة تتأرجح على شفتيه ...ليكمل عبارته:
_خلاص ماعدتش هاسيبك!

_مساء الخير!
قالتها هانيا التي دخلت الآن المكتب لترى المشهد بعينيها الخبيرتين بصديقتها ...
فانتفضت غادة مكانها وكأنها وجدت فيها نجدتها لتهتف بحرارة:
_هانيا ...تعالي !
رمقت هانيا الرجل بنظرة زاجرة وهي تتقدم نحوهما لتنتزع علبة المناديل من يده بحركة حادة كي تلقيها في السلة القريبة قائلة بنبرة ذات مغزى:
_غادة عندها حساسية من ريحة الفراولة ...اتأكد الأول من عرضك قبل ما تقدمه!
كانت تتحدث بأسلوبها الصارم الذي يفرض احترامه على أي رجل بمزيج تحفظه مع قوته ...
فتنحنح الرجل وهو يتعرف إلى هويتها قائلاً:
_أهلاً يا دكتورة...نورتينا...أبلغ أستاذ رامز؟!
_لو عايزاه أنا هاروح له...شكراً!
قالتها بنفس النبرة فتراجع الرجل قائلاً :
_هاجيب لحضرتك حاجة تشربيها!
ظلت ترمقه بنظرتها الزاجرة حتى اختفى من المكتب فالتفتت نحو غادة التي تعلقت فجأة بعنقها وكأنما وجدت فيها طوق نجاتها ...
كادت تعنفها على ضعفها وسلبيتها التي طالما كرهتها فيها لكنها لم تجد الوقت مناسباً ولا المكان...
لهذا اكتفت بعناقها المؤازر لها صامتة بينما غادة تغمغم بنبرة راجية:
_عارفة إنك زعلانة عشان مشيت من غير ما أقوللك...بس غصب عني...مااستحملتش!

تنهدت هانيا بحرارة وهي تسترجع شعورها تلك الليلة بينما تقف في نافذة غرفتها تشاهد رامز في ظلمة الليل يقف جوارها وبينهما حقيبة ملابسها...
ولوهلة...اعتصرت تلك القبضة الباردة قلبها بغيرة طبيعية لامرأة في وضعها ...
غيرة لا تنكر أنها ازدادت اشتعالاً بعدما رواه رامز عن ماضيه !
لكنها وأدتها في مهدها وهي تأبى الاستجابة لها ...ليس الأمر فقط ثقتها في صديقتها أو زوجها ...لكنه خوفها من الاعتراف أنها في خطر!
هي وضعت قلبها منذ زمن في قصر أعلى جبال الجليد ...لن ينال منه أحد ...لن ينال منه شيء...مادامت هي بالقوة اللازمة للتصدي لضعف مشاعرها هذه !

لهذا أخذت نفساً عميقاً لتنظر لغادة هاتفة بعتاب قوي:
_حسابنا بعدين...أظن معاد الشغل خلص ...تعالي معايا .
أومأت غادة برأسها في استسلام وهي تجمع حاجياتها لتغادر معها المكان ...

_على فين يا دكتورة ؟! العصير!

قالها زميل غادة في المكتب وهو يكاد يصطدم بهما عند خروجهما لترد هانيا بصرامة:
_ما بشربوش!
ظل يرمقهما بنظرات ضائقة حتى غادرا ليغمغم أخيراً بصوت مسموع:
_أعوذ بالله...مستحملها إزاي الراجل ده ؟!
_مش دي مراة رامز؟!
انتفض وهو يسمع التساؤل جواره من يارا التي تراقص الحقد على ملامحها فالتفت نحوها مجيباً:
_أيوة...جت أخدت صاحبتها ومشيت ...بس شكلها كانت بتزعق لها...بتقول لها حسابنا بعدين !
التمعت عينا يارا بقوة وهي تكمل رسم حكاية ما في ذهنها:
_غادة بقى لها يومين ما بتروحش مع رامز كالعادة والساعي بيقول إنه عرف إنها رجعت شقة جوزها...ودلوقت مراته اللي المفروض صاحبتها جاية تزعق لها ومن غير حتى ما تعدي تشوف جوزها ...يبقى إيه؟!
تراقصت ابتسامة شيطانية على شفتي الرجل ليقول بنبرة عابثة:
_واضحة! يبقى رامز حن لأيام الشقاوة وبصراحة مراته شكلها بومة...لأ وغادة كمان بونبوناية.

ظهر الضيق على وجه يارا للحظات ثم تصنعت الضحك راضية بما يقول قبل أن تأخذ طريقها لمكتب رامز الذي استقبلها بقوله الفاتر:
_خير يا يارا!
ابتسمت بإغواء وهي تقترب منه ببطء حتى استندت براحتيها على حافة مكتبه قائلة ببطء :
_الدكتورة هانيا كانت هنا!
_هانيا مراتي؟!
قالها بدهشة وهو يقف مكانه متأهباً للمغادرة ظناً منه أنها
بالخارج لكنها اعتدلت بجسدها لتقول بتشفّ:
_ما تتعبش نفسك ...هي مشيت !
انعقد حاجباه بقوة بينما اقتربت هي منه أكثر لتهمس له بنبرة ذات مغزى:
_مشيت بعد ما زعقت لغادة وخدتها معاها...شكلك اتقفشت !
_اتقفشت؟!
هتف بها باستنكار وهو يبتعد عنها فضحكت ضحكة ماكرة لتعاود التقرب منه هامسة بغيرة واضحة:
_أنا برضه قلت مايمنعكش عنا إلا الشديد القوي!
_اخرسي يا يارا!
هتف بها بغضب بلغ مبلغه وهو يشعر بتصرف زوجته المشين يضعه في أسوأ موقف هاهنا ...
الدكتورة المحترمة تجاهلته تماماً وهي تأتي لمقر عمله كي تسحب خلفها صديقتها الخانعة التي تمارس عليها عقد تسلطها ...
صديقتها التي وضعتها هي الأخرى في موقف لا تحسد عليه وسمعتها تلوكها الألسنة...وكل هذا بسبب تصرفاتها غير المسئولة...
إلى متى سيتحمل كل هذا العبث؟!!

_هاخرس يا رامز ...بس لو أنا سكت غيري مش هايسكت...اخترت سكة مفضوحة قوي كده ليه ؟!
همست بها بمجون وظاهر عبارتها يصله كدعوة صريحة غض عنها الطرف وهو يتمالك غيظه ليعاود الجلوس على مكتبه قائلاً بأقصى ما استطاعه من برود:
_ده مكان شغل يا يارا...متخلنيش أحرجك أكتر من كده !
توهجت عيناها بغضب متوعد وهي تغادر مكتبه بخطوات مندفعة بينما هز هو رأسه ليغمغم في نفسه بحسرة لائمة:
_أعمل فيكِ إيه يا هانيا ؟! كل يوم بتبعدينا عن بعض أكتر؟!
قالها وهو يتذكر كيف تتحاشى لقاءه منذ آخر صدام بينهما تلك الليلة التي غادرت فيها غادة البيت ...
إنها حتى لم تعتذر له عن لجوئها لوسيلة لمنع الحمل دون إذنه!
كبرياؤها اللعين يجعلها تستنكف أن تبدو كمخطئة وهو لن يجد لها المبرر ككل مرة...
سيقف مكانه منتظراً فقد سأم خطواته المندفعة نحوها مقابل حبوها الممل نحوه...
حقاً...قد سأم!!
=======
_خلاص بقا يا هانيا ...صدقيني أنا مرتاحة كده أكتر!
قالتها غادة برجاء وهي تجلس مع صديقتها في أحد المطاعم فزفرت الأخيرة بضيق لتهتف بها:
_ما هو أنا ماينفعش أطمن عليكِ وانتِ لوحدك وبتغرقي في شبر مية !
_هابقى كويسة...والله هابقى أحسن!
قالتها غادة بمزيج من رجاء وامتنان فتنهدت هانيا بحرارة لتربت على كفها قائلة:
_لازم تبقي كويسة...لازم تتعلمي تصدي كل جبان يتقرب لك...سكوتك وضعفك بيتفهموا غلط !
أومأت غادة برأسها موافقة وهي عاجزة عن منحها وعداً يفوق قدراتها فآثرت الصمت الطويل الذي قطعته هانيا بسؤالها المتردد:
_رامز كان بيقوللك إيه ليلتها وانتو لوحدكم ؟!

اتسعت عينا غادة بصدمة وسؤال هانيا على بساطته يجعلها تتحسس بطحة رأسها القديمة !!!
هل تشك هانيا هي الأخرى بها؟!
هل تراها مثل الآخرين مدنسة ؟!!
حتى هي!! حتى هي!!!

وأمامها كانت هانيا تشعر ببعض الندم على هذا السؤال ...ندم ازداد عمقه وهي ترى هذه النظرة في عيني صديقتها لتفهم بخبرتها بها ما وصلها ...
لهذا تصنعت ابتسامة واهنة وهي تقول بما يشبه الاعتذار:
_أصلنا متخاصمين من يومها وكنت عايزة أعرف منك أنتِ!
_كان عايزني أطلع معاه وبيعتذر عن كلام مامته...بس لما أصريت جه ووصلني للبيت عشان يطمن .
قالتها غادة بنبرة مختنقة وهي تشعر أنها لأول مرة عاجزة عن رفع نظراتها لصديقتها ...
حدسها كأنثى يخبرها أن شيئاً ما بنظرات هانيا نحوها قد تغير ...
شيئاً لم يكن موجوداً من قبل والآن يعلن عن نفسه بوضوح في ذبذبات جسدها المتوترة أمامها ...
هذا ما كانت تخشاه!!
تلميحات والدة رامز ...غمزات زملائهما في العمل...شعورها القديم بالذنب و الانتقاص...كل هذا كان يدفعها لاعتقاد أن هانيا قد بدأت تغار على زوجها منها ...
هذا الذي كان أشد قسوة على قلبها من أن تحتمله !!
لهذا ظلت مطرقة برأسها في صمت وهي تشعر بالخزي يكلل رأسها ...
لماذا؟!
هي لا تعلم...هي فقط تشعر أنها مذنبة مادام الجميع يرونها كذلك !!

وأمامها كانت تشعر هانيا هي الأخرى بالذنب وهي تكاد تقسم على ما يدور برأس صديقتها ...
ربما لو كانتا في موقف آخر لأجادت احتواء الموقف...
لكنها حقاً تشعر الآن أن الأرض الثابتة التي كانت تقف عليها قد اهتزت!!
لا ...لا...
لن تنجرف في هذا التيار!!
مجرد شعورها هذا ضعف...ضعف لن تسمح به!!
لهذا عادت تتصنع ضحكة قصيرة وهي تقول لها بمرح مفتعل:
_طب ممكن تفيديني بخبرتك في "دلع الستات"...أصالحه إزاي مادام هو مبلط في الخط؟!
رفعت إليها غادة عينيها بنظرات حذرة وكأنها تبحث في عيني صديقتها عن مخرج من هذا الشعور المقيت الذي وصلها لترد أخيراً بابتسامة مرتجفة:

_رامز طيب وبيحبك...والنوع ده مش بيحتاج خطط...لو حس بس إنك رايحة له هتلاقيه بيجري عليكِ.
ابتسمت هانيا بامتنان حقيقي هذه المرة وهي تشعر بأنها حقاً كانت تحتاج سماع هذا لتشد على كف صديقتها قائلة برضا:
_معاكِ حق..
ثم تلفتت حولها لتردف بنبرة أكثر مرحاً:
_تصدقي فتحتِ نفسي للأكل...فاكرة زمان لما كانت تطق في دماغنا ونطلب "منيو" الحلويات كله ؟!
ابتسمت غادة بحنين وهي تتذكر ما تحكي عنه فتنهدت هانيا بارتياح وهي ترى ابتسامتها أخيراً لتسألها باهتمام:
_والد أحمد مابيتصلش بيكي؟!
_كلمني امبارح وفرح قوي إني لقيت شغل ورجعت شقة أحمد...أنا كمان فرحت قوي لما رجعت أنام على سريرنا ...إحساس تاني وأنا...
شردت هانيا ببصرها وهي تغيب عن بقية كلامها بأفكارها الخاصة...
ولأول مرة تشعر بالارتياح وغادة تحكي لها عن انغماسها هذا في ذكرى زوجها ...
ربما لو كانتا في موقف غير هذا لجعلتها تتوقف عن العيش في الذكريات كي تفيق لما بقي لها من عمر ...
لكنها الآن -بنوع من الأنانية - تريدها أن تسترسل..!!
أجل حديثها هذا الآن يطمئنها ...يمنحها نوعاً من الأمان الذي تأبى الاعتراف بسببه...
للأسف !
نقطة واحدة من "حبر" الشك قادرة على تلويث "بحر" الحب كله!!
============
فتح الباب ليدخل بيته في ميعاده المعهود إذ وجدها واقفة في المطبخ تعد له الطعام ...
ابتسم ابتسامة واهنة وهو يشعر وكأنما ....اشتاقها !
أجل ...بضع ساعات يقضيها بعيداً عنها صارت تشعره باللهفة نحو مكان شاغر لا يملؤه سوى سحر وجودها ...
صحيحٌ أنه يشعر باضطراب طباعها بعد لقائها بسيلين لكنه ليس أحمق ليدرك وقع مقابلة كهذه على أي امرأة خاصة لو كانت تحبه كما تزعم ...
ابتسامتها الدافئة قاطعت أفكاره وهي تلتفت نحوه لتقول بهدوء:
_على ما تاخد حمامك هيكون الأكل جاهز .
ضاقت عيناه بتفحص وهو يلاحظ إشاحتها بوجهها عقب عبارتها لتنهمك بعدها فيما تفعله ...
ذبذبات جسدها المتوترة تشي بانفعال مكتوم ...
تقدم منها ببطء ليضع مفاتيحه على الطاولة جوارها ثم تصنع بداية للحديث بسؤاله إياها بينما تعطيه ظهرها:
_عاملة إيه النهارده؟!
_مكرونة بالمشروم والصوص الأبيض وفاهيتا فراخ.
قالتها ببساطة دون أن تنظر نحوه ولازالت أناملها منهمكة في تقطيع بعض الخضروات ...
فابتسم بمكر وهو يحيط خصرها بكفيه من الخلف ليقترب بوجهه من أذنها قائلاً:
_عاملة إيه يعني إزيك.
ارتجافة جسدها بين ذراعيه أرضته وهي تلتفت نحوه بارتباك ظهر في حروفها واحمرار وجنتيها:
_كويسة...الحمد لله.
فاتسعت ابتسامته وهو يزيح شعرها خلف أذنها لتلفت نظره تلك الحبوب الحمراء التي تناثرت على رقبتها وذقنها واستدعت سؤاله:
_إيه الحبوب دي؟!
ابتعدت عن مرمى ذراعيه وهي تتحاشى النظر نحوه مجيبة:
_حساسية من الناموس...بشرتي ما بتستحملش .
لكنه عاد يقترب منها ليحيط كتفيها بكفيه مديراً إياها نحوه بقوله :
_فكرة إننا نسافر البلد كانت بتاعتك...استحملي بقا نتيجة قرارك.

فتهربت من نظراته لتقول بتماسك:
_ومش ندمانة...كانت رحلة كويسة...كام يوم والحساسية تروح .
شعر بضيق حقيقي وهو يحس بها بعيدة عنه بروحها رغم وجودها بين ذراعيه ...
عسل عينيها يختفي خلف غمامة باهتة بعيدة تماماً عن تألقه المعهود ...
فرفع ذقنها إليه ليسألها بحاجبين منعقدين :
_مالك؟! وما تقوليش مفيش!
خفضت بصرها عنه محاولة التهرب من نظراته المتفحصة لكنه عاد يسألها :
_كل ده من زيارة سيلين ؟!
صمتت للحظات بدت وكأنها لن تتكلم بعدها قبل أن ترفع إليه عينيها بقولها المنفعل:
_أنا مش عارفة إزاي وافقتك على حاجة زي كده ؟! إزاي أرضى إني أحرم ابنك منك زي ما أنا اتحرمت من بابا ؟! وإزاي إنت نفسك ترضى إنك تتخلى عنه بعد كل اللي شفته في حياتك ؟! لو أي حد تاني عملها ممكن أفهمه...لكن أنا وأنت يا يامن ...أنا وأنت!!

اشتعل الغضب في عينيه للحظات وكأنما مس حديثها بقعة خفية يجلدها ضميره كل حين ...
قبل أن تلين ملامحه تدريجياً مع تنهيدة حارة وهو يبتعد عنها ليتجه نحو نافذة المطبخ المطلة على الحديقة في ذاك الوقت المظلم من الليل حيث أعطاها ظهره ليقول بشرود:
_لو مفيش أمل أرجع لها ...تفتكري أحسن يبقى معاها واللا معايا ؟!
صمتت عاجزة عن الرد وهي تدرك أن عقدة ماضيه هي ما تحركه كما قال لها يوماً إنه خير من يدرك معنى أن يُحرم الطفل من أمه !
بينما صمت هو بعدها للحظة قبل أن يردف بخفوت شديد:
_ده لو كان أصلاً ابني!
شهقت بعنف وهي ترى إلى أي مدى بلغت شكوكه لتتوجه نحوه هاتفة باستنكار:
_مفيش فايدة في وسواسك ده ؟! تفتكر سيلين غبية عشان تخاطر بكذبة زي دي ممكن تتكشف باختبار بسيط ؟!

زفر بحنق وهو يلتفت نحوها ليهتف بانفعال:
_مش غبية بس مجنونة ...عايزة تفرض سيطرتها عليّ بأي شكل ...انتِ متعرفيش وصل بيها الحال لإيه هناك .

اتسعت عيناها بصدمة وهي تسمع منه تفاصيل انفصاله عنها ...

البداية كانت عندما قرر هو العودة إلى مصر والذي أصابها بضرب من الجنون ...
اتهاماتها المتغطرسة له بأنها هي من صنعت نجاحه هناك مع تهديداتها له بألا تسمح له بالعودة مهما حدث ...
وجهها الملائكي الذي طالما خدعته براءته ليفاجأ من تحته بشراسة أفعى متملكة لا ترى أي رادع فيما تود الاحتفاظ به ...
حاربته في عمله هناك حتى كادت السلطات تلقى القبض عليه لولا أن خدمته الظروف !
بل إنها هددته ب"قريبها" الذي يشغل منصباً هاماً هنا في مصر أن تؤذي بنات خالته !
جحيم حقيقي عاشه هناك لبضعة أشهر قبل أن تأتيه النجدة في حادث سير أصيبت هي فيه و استوجب إيداعها إحدى المستشفيات هناك ...
ذاك الحدث الذي هد قواها كثيراً حتى أنها توسلته بعدها أن يبقى معها معتذرة عما بدر منها لتمنحه وعداً بالتغيير ...
ساعتها أشفق على حالتها ليعود إليها عادلاً عن فكرة السفر مؤقتاً ليفاجأ بها ذات ليلة تعود إلى البيت مخمورة مع من زعمت أنه أحد أصدقائها في سابقة لم تحدث من قبل وكانت الضربة القاصمة لهذا الزواج الذي أصر على التخلص منه مهما كان الثمن .
رضوخها المؤقت له وقتها جعله يشك في وجود علاقة لها مع أحدهم لكن عودتها بذاك الطفل تجعل عقله يضع عشرات التفسيرات الأخرى التي لا يريد التوقف أمامها !

_كانت بتبقى نايمة في الأوضة اللي جنبي وبتخطط إزاي تكدب عليّ...قدامي بتبتسم وبتفكر معايا هنعمل إيه لما نرجع مصر وهي من ورايا بترتب إزاي تمنعني...ماعادش ينفع آمن ليها...الحاجة الوحيدة اللي ممكن تخلليني أهادنها هي خوفي إنها تؤذي أهلي هنا زي ما آذتني هناك ...عشان كده عايزها تزهق من المحاولة وتعرف إني خلاص بقت لي حياة جديدة...
ختم بها ما يحكيه ثم عاد ببصره للأمام فصمتت قليلاً تستوعب قبل أن تقول بصوت مبحوح:
_لو فعلا متمسكة بيك كده ...تبقى بتحبك .
ابتسامة ساخرة كانت رده لتتلوها كلماته :
_مفيش فايدة فيكِ...أنا بالنسبة لها رهان مش عايزة تخسره ...زيها زي صاحبتك القديمة بسنت...لعبة صعبان عليها تروح من ايديها ...هتشبط شوية وبعدين تزهق وتمشي ...عشان كده اتعمدت إني أبين لها إني معنديش مانع نرجع لبعض ...عنادها هيخلليها ترفض وهي فاكرة إنها بتعاقبني بحرماني من ابني .

عقدت حاجبيها بضيق من هذا التفكير العجيب ..هي لا تعرف سيلين جيداً لكنها تعرف طبيعته هو الوسواسية التي تجعله يفرط في سوء ظنه ...
لهذا أطرقت برأسها في عدم اقتناع بينما سار هو بضع خطوات ليقول بنبرة ضائقة:
_مش عايز أبقى قليل الذوق...بس فعلياً ماليش نفس آكل.
لكن عاطفتها الأمومية نحوه جعلتها تتقدم منه لتمسك كفه قائلة باعتراض:
_ماينفعش تنام كده ...كل أي حاجة ...عشان خاطري.
كاد يتشبث برأيه معانداً كعادته لكنه لم يفعل...!
ليس الأمر فقط كونه قد كره أن يخذل رجاءها ...لكنه حقاً شعر بحاجته لوجودها الآن معه...
هذا النقاء الذي كان يشع بين جنباتها ويحيطها بهالة خاصة تعيد إليه ثقته وشعوره بأن هذه الحياة لا تزال تحمل من الجمال ما يستحق أن نعيش لأجله ...
هذه الابتسامة الحنون المشفقة التي أهدتها إياه وهي تجذبه من كفه لتدفعه نحو الحوض قائلة :
_اغسل إيدك على ما أحضر الأكل .
هذه اللهفة الحارة التي كانت تزين خطواتها وهي تنتقل من مكان لآخر داخل المطبخ كي تعد المائدة في أبهى صورة...
والتي انتهت بقولها بنبرتها التي عادت إليها حيويتها:
_يارب يعجبك.
جلس مكانه وعيناه ترمقان الأطباق أمامه بنظرة غريبة ثم تناول كفها ليجلسها جواره قائلاً :
_كلّ مرة بتأكليني بإيدك...المرة دي هنعكس!

ابتسمت رغماً عنها بعاطفة أشرقت لها ملامحها وهي تراه يتناول الشوكة أمامه ليغرسها في طبق المكرونة قبل أن يقترب بها من شفتيها اللتين انفرجتا ببطء ...
لكنه لم يدخل الطعام لفمها مباشرة بل مرره برفق على شفتيها وكأنه يرسمهما ...تلاحقه نظراته الشغوف التي ارتفعت أخيراً لعينيها تعانقهما باحتياج لم يعد ينكره ...
وتخشى هي تصديقه !
لهذا خفضت بصرها عنه بخجل غلب عاطفتها فابتسم وهو يشعر معها بهذا الشعور الفريد الذي لم يجربه مع غيرها ...
شعور السكينة !
راحة غريبة تسكن حناياه وهي منه بهذا القرب ...
راحة لا تشبه مشاعره الصاخبة التي كانت لبسنت ،أو علاقته الحسية البحتة بسيلين ...
كل نظرة منها ألف يد تربت على ظهره...تحتضنه...تعبث برفق بين خصلات شعره...تدلل رجولته بهذا المزيج النادر بين عشق أنثى وحنان أم!
كل كلمة تنطقها بحرارة عشقها أو تتكتم عنها بجميل خجلها يقرأها قلبه بلغة تمنى لو تعلّمها من زمن !
اهدأ يا عقل...!
تراجعي يا ظنون ...!!
هدنة لبضع دقائق ...فقط بضع دقائق ...أعيش فيها هذا الشعور بكل جوارحي دون مقاطعة...
أنامله الحرة تمتد لخصلات شعرها القصيرة تتخللها...تلامسها بتقديس ...كأنما تحتضنها ...
فترفع إليه عينيها من جديد بخفقات مضطربة ...
نظراتها تكاد تصرخ بحديث متطرف من أقصى اليمين لأقصى اليسار...
توقف...
استمر...
توقف ...
بل استمر...استمر...استمر...
ابتسامته ترتجف على شفتيه وهو يضع ما بيده جانباً ليتلمس
ملامح وجهها بأنامله ....
فتغمض عينيها بمعاناة فضحتها ملامحها وهي تحاول تمالك ارتجافة شفتيها بضغطهما بقوة ...
ثم بشهقة خافتة سبقت هروبها السريع من أمامه إلى غرفتها دون كلمة واحدة .
عقد حاجبيه بضيق وهو يهب واقفاً مكانه بغضب أشعله حرمانه منها ...
كز على أسنانه بقوة وهو يشعر برفضها لقربه يعيد إشعال النار في وساوسه ...
ماذا خلفها ؟! ما الذي تخفيه ؟! ولماذا تنفر منه مادامت تزعم أنها تحبه إلى هذا الحد؟!
تباً لها من امرأة تجيد بعثرته...كما تجيد احتواءه!

كاد يصعد إلى غرفته مفعماً بخيبته وغضبه لكنه عاود النظر إلى طعامها الموضوع هناك بنظرة عميقة...
هو جائع...حقاً جائع...
جائع لكل ما تمنحه له بسخاء ولو ادعى العكس!
لهذا عاود الجلوس ليمد أنامله نحو الطعام بشرود...
مذاقه في فمه لم يكن يعنيه بقدر ما كانت تعنيه نكهته في قلبه !
لهذا زفر أخيراً بحنق ثم قام ليتخذ طريقه نحو غرفته...
طقوس نومه المعتادة التي بدأها بحمام من الماء البارد وأنهاها بغسيل أسنانه زادت اليوم طقساً جديداً...
هو تأملّه لدبلتها التي هي بعمر سنوات لم يعرف فيها اسم صاحبتها والتي كانت ترقد في صندوق متعلقاته فيبتسم أخيراً وهو يشعر بالراحة تعاوده تدريجياً...
يأخذ نفساً عميقاً وهو يقلبها بين أنامله ...
سيرتديها...يوماً ما سيرتديها بعدما يوسع مقاسها قليلاً...
لكن...تراها فقط هذه هي المشكلة ؟!
صيحة ضيق خافتة تنبعث من فمه وهو يعيدها مكانها ليندفع نحو فراشه فيهوي فوقه بعنف ناسب اشتعال جوارحه ...
أرقه المعتاد يراوده لوقت ما بعدها ....
ثم لم يدرِ كيف صار فجأة أمام باب غرفتها المغلق!!!!
لذة الاختلاس!
هذا كان ما يشعر به وهو يفتحه بحذر ليتسلل نحو فراشها الذي استلقى عليه جسدها النائم رافعة ذراعيها المثنيين جوار رأسها كنومة الأطفال...
ابتسامة حانية كست شفتيه وهو يقترب أكثر لتزداد حرارتها بينما يتابع ما ترتديه ...
"حساسية الناموس " هذه مفيدة حقاً!
لقد جعلتها تتخلى عن حذرها المعتاد في ارتداء مناماتها الطويلة لتستبدلها الآن بقميص قطني قصير!
بشرتها الرقيقة الناعمة التي كستها الحمرة في مناطق عدة ذكرته بفكرته -الخاصة- عنها ...
طريق طويل مبهج لا يخلو من "الحُفَر"!
هذا "الطريق" الذي سارت عليه أنامله الآن بحذر وهو يجلس جوارها على طرف الفراش بينما حاجباه ينعقدان مع إغماضه لعينيه...
شعور "لذيذ" يشبه مذاقات أطعمتها ينتابه الآن وهو يشعر وكأنما ...يتذوقها !
ورغم أنه لم يكن مراهقاً فاقداً للخبرة في شأن كهذا لكنه يشعر معها أنه كذلك!
قدسية لمساتها لا تشبه امرأة أخرى ...قدسية تنبع منها ...هي نفسها...
"امرأة الفوضى" "ساحرة الألوان" "عروس البحر"...تميمة حظ أم لعنة غدر جديدة في دفتره؟!

_يامن!
نطقتها بصوتها الناعس وهي -بالكاد- تسترد شيئاً من وعيها ...
صوتها الذي كان الآن في أذنيه يتراقص بين غواية الهمس وصراحة الصراخ ...
طالما كانت طريقة نطقها لاسمه تدهشه...!
كانت حروفها تتباطأ على لسانها لتأخذ وقتاً أطول مما تستغرقه في العادة وكأنها تعانقها قبل أن تغادر شفتيها ...
تعانقها؟! نعم...هكذا بالضبط كان شعوره الآن بكل ما يخصها ...
همسها عناق...صمتها عناق...نظراتها عناق...وإطراقتها عناق!

لهذا مد ذراعيه ليرفعها نحو صدره بضمة قوية سبقت همسه:
_كل حاجة فيكي بتحضنني...حتى اسمي جزء من اسمك...يامن وياسمين...كأن حروفك بتحضن حروفي.

لم يدرِ كيف غادرت شفتيه ولا كيف استسلم لإحساسه هذه المرة خارج سلطان عقله ...
كل ما كان يعلمه أنه يريد الانغماس تماماً في هذه الهدنة المؤقتة بين شعوره الجارف ووساوسه المشتعلة ...
غداً سيندم...سيلعن نفسه أن استسلم...سيعود لسابق فظاظته وسخريته السوداء التي يتوارى خلفها ضعفه...
لكن الآن...الآن سيستسلم فحسب!
شفتاه تنجذبان كالفَراش نحو نور بشرتها ...تحترقان مثله بلهيب لا يريده أبداً أن ينطفئ ...
نداءاتها الخافتة المندهشة باسمه تتلقاها أذنه فتتجاهل نفورها ولا تتذكر سوى أثرها !

وبين ذراعيه كانت هي شبه واعية وتأثير النوم لم يغادرها بعد ...
هذا يامن ؟!
الظلام يضفي على ملامحه ظلالاً مخيفة...
قبلاته ولمساته تكاد تحرقها ...لكن عناقه الدافئ يطمئنها...
هذا يامن؟!
قلبها يخفق بقوة وذكرياتها السوداء تعاود غزوها ...
أنامله تمتد لشعرها ...شعرها الذي قصته طوعاً كي لا يذكرها بتلك الليلة...
تلك الليلة!!
شعور قوي بالغثيان ينتابها فتعاود النداء باسمه لعله يتوقف ...

لكنه يبدو أنه لا يسمع ...
هل كلهم لا يسمعون ها هنا ؟!

الظلام يشتد في عينيها قبل أن يختفي رويداً رويداً ليحتل مكانه لهب الذكرى ...
ارتجافة جسدها تزداد فلا تكاد تميز حقيقة من خيال ...
ولسانها الذي كان يهمس باسمه وحده صار يغمغم بما بدا
كالهذيان :
_رامي...زين...يامن!
لم يميز مما قالته لأول وهلة سوى اسم زوجها الأول الذي يعرفه فاشتدت وتيرة عزفه على جسدها وهو يشعر بوحش غيرته يحكم سيطرته عليه ...
لماذا تذكر زوجها الآن ؟!
ألا تزعم أنها تحبه هو؟!
شياطين وساوسه تعاود احتلال مكانها على رقعة اللعب ...
ونداءات قلبه الراجية ترجوه الترفق...التريث...
لتحسم هي الأمر ب....صفعة!!!

صفعة لم يتلقّها وجهه فحسب ...بل تلقاها معه قلبه...وكرامته!

أناملها ترتجف وهي تتحرك عنه مبتعدة بسرعة لتضغط زر
الإضاءة...
أخيراً...لم يعد هناك ظلام !!
جسدها كله ينتفض بقوة وهي تحدق في ملامحه بعينين زائغتين...
هذا هو يامن ؟!
أخيراً...نعم...هذا هو يامن...يامن فحسب!

دموعها تسيل لتغرق وجهها كشلال بينما أحد كفيها يتشبث بزر
الإضاءة وكأنه سر حياتها...
والآخر تبسطه على صدرها محاولة تهدئة خفقاته !

لكنه لم يرَ وسط كل هذا إلا صفعتها مع همسها باسم رجلين غيره !!
عيناه تشتعلان بغضب لم يستطع التحكم فيه وهو يرمقها بنظرة قاتلة قبل أن يندفع ليخرج من الغرفة ...بل من البيت كله ...
=======
وقفت في ركنها الخاص بمطعمها تتصنع الانهماك فيما تفعله لكن ذهنها كان غائباً فيما حدث ليلة أمس ...
إلى الآن لا تصدق أن كل هذا كان حقيقياً !
لقد ظنت نفسها تعافت من هذا الجرح الذي تركه خلفه طليقها السابق لكن ها هو ذا يعود ليتفجر منه الدم من جديد بضغطة واحدة...
ومن فعلها ؟!
يامن؟!
لماذا لم يحترم اتفاقهما الذي ظنته سيستر عورة ضعفها ؟!
لماذا حملها ما لاتطيق؟!
لماذا أضاف لذكرياتها البائسة ذكرى أخرى تخصه هو ؟!
آآآه!
انفلتت منها بخفوت يناقض وقع صداها في قلبها ...
لقد صفعته بالأمس وهي تعرف جيداً ما يعنيه هذا لدى رجل مثله!
غروره سيمنعه مسامحتها وكبرياؤها سيمنعها مصارحته ...
فما الحل؟!
إنها بالكاد وجدت لنفسها رقعة خضراء على خريطته القاحلة ...
قلبها بدأ يستشعر تلك النبضات الغادرة التي يرسلها لها قلبه الخائن في غفلة منه...
عيناها صارتا تميزان نظراته الخاصة بها والتي لا تلتمع هكذا إلا لها ...
فلماذا الآن بالذات ؟! لماذا؟!

_ده ما بقاش سينابون ؟! ده بقا شوربة !
هتفت بها مساعدتها محذرة وهي ترى شرودها الذي جعلها تفرط في إغراق قطع الحلوى ب"الصوص" الحلو المخصص لها حتى أفسدته حقاً...
فأطلقت زفرة بائسة وهي تزيح الطبق جانباً لتقول لها بنفاد صبر:
_مش هاقدر أكمل النهارده...معلش...شيلي إنت بقية اليوم.
رمقتها مساعدتها بنظرة مشفقة لم تنتبه إليها وهي تتحرك لتحمل حقيبتها كي تعود لبيته ...
فتحت الباب الخارجي لتلتفت ببصرها نحو أرجوحتها الملونة هناك ...
سولت لها نفسها أن تذهب لتعتليها لكنها تذكرت أنه جعل ارتفاعها عالياً كي لا يمكنها الصعود وحدها ...
ولأول مرة في عمر حبها الطويل معه تشعر أنه قد صار يحمل دوراً في سعادة قلبها به !
أجل...طوال هذه السنوات وهي مكتفية بحبه...
تدور وحدها في حلقاتها باستقلالية تماماً...
تقرر متى تتزلج قدماها بحرية على سفوح جليده ...أو تتوقف مكانها ثابتة كي لا تسقط على ظهرها...
حبها -أحادي الطرف- كان بمثابة عالم افتراضي عاشته بكل جوارحها ..ألقمته كل خيالاتها وطموحاتها...عاشت فيه وبه وله...وحدها ...
والآن تتغير قوانينه ليتحول لحقيقة شريكها فيها هو...
هو بكل عقده ووساوسه وغروره وأنانيته و...احتياجه!
احتياجه الذي يسير نحوها متعثراً كطفل مذنب فلا تملك إلا أن تفتح له ذراعيها كأم رحيم !

تنهدت أخيراً بحرارة وهي تتوجه نحو الداخل ...
أعدت له طعام العشاء ككل ليلة رغم أنها كادت تقسم أنه لن يتناول من يديها شيئاً بعد ما كان ...
سيعودان غريبان كأن لم يلتقيا أبداً !
فقط لو كان بإمكانها أن تشرح ...
هي عجزت عن فضح ما كان حتى لوالدها عندما سألها عن سبب طلاقها ...
ظلت تردد لنفسها أنها لن تذكر كي لا تتذكر ...لكنها غفلت عن أن قشرة البركان الخامدة تخفي تحتها الكثير من النيران الهائجة تنتظر فقط ثغرة كموقف الأمس كي تنفجر بلا رادع !

شعرت بألم في معدتها فانتبهت أنها لم تأكل شيئاً منذ الصباح ...
لا شهية...لا رغبة...ولا مزاج!
لهذا توجهت نحو غرفتها لكنها ما كادت تدخلها حتى انقطع التيار الكهربي فجأة !
شهقت بفزع وذكرى الأمس تشترك مع خوفها المغالي من الظلام لتتخبط خطواتها في الظلام محاولة العثور على مصدر للضوء لكنها لم تجنِ سوى تعثرها في طرف السجادة لتسقط مكانها...
صرخت بعنف وهي تشعر بالرعب يتملكها ...

ذكرياتها الخانقة ...نقطة ضعفها الوحيدة التي كادت تنساها تعاود الآن الطفو على سطح أفكارها ...

عريس ممتاز رشحه والدها ...مميزاتٌ تجعل رفضه ضرباً من الجنون...سفر يامن للخارج وعلمها عن زواجه هناك ...وعقليةٌ محاربة كعقليتها ترفض توقف الحياة لأي سبب...كل هذا جعل موافقتها على الزواج منه أمراً محسوماً.
عروسٌ فاتنة تطل بالأبيض تتأبط ذراعه في حفل أنيق ...شقة فاخرة لا تنكر أنها استودعت فرشها كل اهتمامها الظاهر كي تشغل نفسها عما يفتقده قلبها ...وأخيراً فراش أبيض ينتظرها لتقضي ليلة العمر كما يسمونها ...
تلك الليلة التي تيقنت فيها أنها ستكرهه عمرها كله بعدما استنفذت كل رصيدها من الصراخ مع رجل لم يكن ينال لذته إلا بإيلامها!

آلام معدتها تشتد مع فيض الذكريات الذي انفجر تباعاً في مخيلتها ...
والدوار اللعين يجتاحها مع طوفان الماضي:

الوسيم الأنيق الذي كان يحسدها عليه الناس نهاراً كان ينكشف على حقيقته ب-شذوذ- طباعه ليلاً!!
ولماذا احتملت؟!
قلة خبرتها كانت تجعلها تصدق مزاعمه أن ما يفعله هو الطبيعي ولا ضير فيه ...لكنها عندما اكتشفت حقيقته القذرة ليس معها فقط بل مع غيرها واجهته برغبتها في الطلاق ...
ساعتها هادنها باعتذاراته...صدقت توسلات ندمه وهو يعدها بالتغيير ...ومع عدم رغبتها في الفشل قررت منحه الفرصة الأخيرة !

صرخة قصيرة أفلتت منها وهي تشعر بشئ ما يداعب قدميها في الظلام ...
لم تدرِ هل كان حقيقياً أم من وحي ذكرياتها التي كانت تنتهكها الآن بقسوة ضارية :

ليلتها الأخيرة معه كيف كانت ...
كيف عادت لشقتهما ليلاً لتجده في فراشهما يمارس طقوسه
-السادية - مع امرأة لا تعرفها...
جمدتها الصدمة لدقائق وقتها حتى غلبها الاشمئزاز لتفرغ ما في بطنها على الأرض قبل أن تسقط مكانها ...
لكن الغريب أنه حتى لم يتوقف عما يفعله وكأنه اعتبر مقاطعتها له غير مقبولة !
لم تدرِ كيف توقف بها الزمان بعدها ...كيف غادرت المرأة التي كانت معه...كيف أسندها هي ليوقفها وجسدها المصدوم يأبى حتى مجرد إصدار ردة فعل...
كيف دفعها بمنتهى البرود نحو الحمام القريب مع أمر حازم أن تغسل وجهها كي تفيق!

تفيق؟!!
تفيق؟!!
العجيب أنها لازالت تسأل نفسها بعد كل هذا الوقت هل أفاقت حقاً ؟!
هل وعت ما أفسده فيها ذاك الرجل؟!
هل تخلصت من آثاره الغاشمة على جسدها؟!
آآآه كيف تنسى؟!

كيف تنسى إذ خرجت بعدها من الحمام وقد ذهب جمودها لتحل محلها ثورتها العارمة وهي تسبه وتلعنه...
لكنه بقي جالساً مكانه على "الفراش المدنس" ينفث دخان سيجارته ببرود ...

_كنت عايز أتأكد إن العيب منك...انتِ اللي باردة وبتخلليني أتعصب عليكِ...انتِ اللي بتخليني أخونك مع أي واحدة تحسسني إنها ست مش ثلاجة !
وجهها كان يزداد احمراراً مع إهاناته لتجد نفسها تمد أناملها نحوه بصفعة فتحت عليها أبواب جحيمه...
شعرها الطويل الذي لم يكن وقتها قد انسدل على كتف رجل غيره كان يتقطع بين أصابعه التي كانت تشده بجنون اقتلع بعض خصلاته من مكانها...
الألم الحارق يصيبها بالدوار فلا تسمع سوى تهديده لها بأن تكون تلك هي المرة الأخيرة و....الأقسى!
وقد صدق!
سيجاره المشتعل ينغرس في كتفها...وصوت تمزق ملابسها يمتزج بمذاق الدم في فمها مع عنف ضرباته !

أصدرت أنيناً خافتاً والذكرى تتجسد بحرقتها كأنما هي حقيقة...
حتى أنها كادت تبصق الدم من فمها وهي تمد أناملها لندبة كتفها ...
دموعها تتحول لشهقات باكية وهي تعود لتتذكر...

كيف اكتمل مسلسل القهر بعدها بوعيده لها أن يفضحها بما لم يكن فيها خاصة أن زواجهما لم يستغرق بضعة أشهر...
لكنها هي الأخرى هددته بمعاقبة قانونية مع إصابات جسدها وقتها...لتنتهي المقايضة بطلاق سريع يبدو أنه قد ندم عليه فمالبث أن عاد يلاحقها في كل مكان بفضائح تمس شرفها..
لكنها لم تستسلم!
عادت لتقف على قدميها من جديد بقوة تحسد نفسها عليها...

قوة تشعر بها تتهاوى الآن وهي على أبواب تحقيق حلمها القديم بفارسها ...
يامن!

اسمه وحده وسط هذا الظلام يبزغ كقمر عنيد...ينير ليل ذكرياتها لكنه يعاود اختفاءه خلف الغيوم!

لهذا أخذت نفساً عميقاً وهي ترفع رأسها لأعلى بدعاء خافت ...
قبل أن تتحامل على نفسها لتقف مكانها ...
خطواتها المذعورة تزداد ثباتاً وهي تحاول تحسس طريقها لتتناول حقيبتها كي تستخرج هاتفها محاولة الاتصال به ...
كانت تعلم أنه لن يجيب ولم يخيب ظنها فيه...!
فاضطرت للاتصال بعيادته لتخبرها مساعدته أنه لايزال هناك.
لهذا أخذت قرارها بالذهاب إليه ...هو أفضل من انتظاره هنا في الظلام على أي حال ...
طوال الطريق وهي تشعر بالاستنزاف!!
الظلام مع ذكرياتها الخانقة يعتصر قلبها اعتصاراً...
وما ينتظرها مع يامن يخيفها أكثر!
رجلٌ بكبريائه لن يمرر لها فعلتها بالأمس...ولو فعل فلن يمكنه التجاوز عن نفورها منه !
تباً!! ماذا كانت تنتظر إذن من زيجة كهذه ؟!
أن يتحقق الحلم القديم؟!
ها هو ذا يتحقق لكنه يوشك على التحول لكابوس!

انقطعت أفكارها عندما وصلت لمقر عيادته فترجلت من سيارتها لتصعد هناك...
الباب مفتوح لكن الصالة خالية...
غرفته مضاءة لكنها مغلقة...نظرت لساعتها تتبين الوقت...لقد انتهى ميعاد الكشف...هل ينتوي قضاء ليلته هنا؟!
وقفت للحظة بتردد أمام الباب المغلق قبل أن تحسم أمرها لتفتحه أخيراً وقد قررت مفاجأته...
لكن المفاجأة كانت من نصيبها هي ...
فأمامها كان هو واقفاً وبين ذراعيه امرأة تمنحه ما تمنعت هي عنه
بالأمس ...
امرأة تحمل في أحشائها ابنه وقد عادت لتسترد حقها فيه...
ويبدو أنها قد نجحت!
أجل...سيلين!
=======
ثلاثتهم يقف مصدوماً من رهبة الموقف لكن سيلين كانت أول من تمالك نفسه لتلتمع عيناها بشراسة مع قولها بلكنتها المميزة:
_مش تخبطي قبل ما تدخلي؟!
بينما كز يامن على أسنانه بصمت كعادته وقد بدت على ملامحه أقصى علامات الغضب قبل أن يقول مخاطباً سيلين :
_ممكن تمشي دلوقت ...هاكلمك بعدين!
ابتسمت سيلين بظفر وهي تأخذ كلامه على محمل الوعد لترمق ياسمين بنظرة حقود لم ترها الأخيرة التي أذهلتها الصدمة لتغيب في شرودها مع مشهد مشابه حتى أنها لم تنتبه لمغادرة غريمتها.

ظل يامن واقفاً مكانه هو الآخر يرقب ملامحها الساكنة بشرود غرقت فيه للنخاع ...بينما كان جسدها كله يرتجف من قمة رأسها لأخمص قدميها...
فعقد حاجبيه بضيق وهو يشعر نحوها ببعض الإشفاق الذي محته تماماً ذكرى "صفعة الأمس"!!
ولما طال صمتها تنحنح بخشونة ليقول بنبرة باردة :
_خير؟! كنت جاية ليه؟!
قالها وهو يقترب منها خطوة وشعوره بالقلق يزداد مع شحوب ملامحها وزرقة شفتيها ...
القلق الذي لم يسمح له بالظهور مع سؤاله التالي:
_معها حق...انتِ اللي غلطانة... المفروض كنتِ تخبطي الأول!

_العيب منك...انتِ اللي باردة وبتخلليني أتعصب عليكِ...انتِ اللي بتخليني أخونك مع أي واحدة تحسسني إنها ست مش ثلاجة !

الذكرى -الحارقة- تمتزج في ذهنها مع -عبارته الباردة- فتتشوش الصورة في رأسها ...
الدوار يزداد ...الدوامات تتكاثر ...الأصوات تختلط...لكنها لن تستسلم...
لهذا التفتت نحوه بعينين زائغتين لتهمس بصوت مختنق :
_آسفة...كنت جاية عشان ...
قطعت عبارتها عندما تجمعت هذه الغصة في حلقها لتزداد ارتجافة جسدها فاندفع نحوها ليمسك ذراعيها هاتفاً بقلق:
_انتِ كويسة؟!
إيماءة خافتة برأسها وهي تكابر للنهاية ...لكنها عجزت عن المزيد مع سقوطها أخيراً فاقدة للوعي...
=======
_متأكدة إنك كويسة ؟! واللا نقعد الليلة دي هنا؟!
قالها وهو يسير معها مغادراً المشفى الذي أحضرها إليه منذ قليل بعدما سقطت بين ذراعيه ...
كان يود لو يسند جسدها المرتجف الذي يبدو أنه لم يستعد عافيته كاملة لكن "ذكرى الأمس" كانت لا تزال عالقة بينهما !!
بينما حافظت هي على صمتها المطرق مكتفية بهزة لرأسها فأشاح بوجهه وهو يشعر بثقل ضميره...
لماذا لم يصارحها بالحقيقة وقتها؟!
لماذا تركها حتى سقطت هكذا؟!
تباً لكبريائه الذي جعله يفضل أن يرد لها إهانة الأمس بدلاً من أن يوضح لها الصورة كاملة ...
لكن مهلاً مهلاً!!
كيف ينسى ما حدث الليلة الفائتة؟!
لو نسي ألم صفعتها فلن يغفل عن ذكرها لاسمي رجلين آخرين في أشد لحظاتهما خصوصية !
لو كان الأول هو طليقها ...فمن يكون الثاني؟!
ولماذا ذكرته وقتها بالذات ؟!
التساؤلات الأخيرة أعادت إذكاء وساوسه فعاد لصمته مقطب الحاجبين وهو يستقل معها سيارته ليقود بها نحو بيته...
الصمت الثقيل يظلهما إلا من صوت أنفاسها المضطربة جواره فيختلس نظرة جانبية نحوها من آن لآخر ...
حتى قطعت هي الصمت بقولها المتحشرج:
_من فضلك...روحني بيتي أنا.

فازداد انعقد حاجبيه وهو عالق بين قلبه ووساوسه...
قلبه الذي سقط بين ضلوعه بلوعة ماعاد ينكرها خوف فراقها...
ووساوسه التي تلقت عبارتها كتهديد !
ويبدو أن كبرياءه جعل الغلبة للأخيرة فكتم مشاعره ليقول بصوت جامد دون أن ينظر إليها:
_موافق...بس قبلها نروح للمأذون ننهي الاتفاق السخيف اللي بيننا ده .
_ماشي!
بنفس الصوت المتحشرج نطقتها ودموعها تعاود جريانها الصامت على وجنتيها فتوقف بالسيارة فجأة لتصدر صريراً مفزعاً قبل أن يلتفت نحوها ليمسك ذراعيها فيديرها نحوه هاتفاً باستنكار ساخط:
_ماشي؟! بتقولي ماشي؟!امال كل الحب اللي كنتي بتقولي عليه ده كان إيه ؟! تمثيل؟! دلوقت عايزة كل واحد يروح لحاله؟! أرجع بيتي وترجعي بيتك بالبساطة دي؟!
_بيتك ضلمة يا يامن !

غمغمت بها مغمضة العينين لتتحول دموعها الصامتة لشهقات باكية ارتجف لها جسدها من جديد ...
فدمعت عيناه عجزاً وهو لا يدري ماذا يفعل ...
كل ما فيه يستصرخه أن يتجاهل سدود "كبريائه" و"نفورها" ويحتوي كل دموعها هذه على صدره ...
لكنه لن يفعلها!
ليس بعدما كان بالأمس!
لهذا خفف ضغطه على ذراعيها تدريجياً ليزدرد ريقه قائلاً بخشونته المعهودة:
_ماينفعش أسيبك دلوقت...روحي معايا الليلة دي...وبكرة اعملي اللي انتِ عايزاه.
قالها ثم تركها لبكائها قبل أن يعاود القيادة بأنامل مرتجفة حتى إذا وصل بيته وجده مظلماً فعلاً فالتفت نحوها قائلاً :
_هاجيب الكشاف من شنطة العربية .
ترجل من السيارة ليحضر كشافاً ضوئياً ثم ذهب نحوها ليمسك بكفها المرتجف ويسير بها نحو الداخل حيث وضع الكشاف في غرفتها في مكان مناسب ليقول بنبرة جافة:
_خلليه هنا معاكِ وأنا هاشوف لي واحد تاني...
ثم تحرك بها ولازال ممسكاً كفها نحو الفراش مردفاً:
_هاسيبك براحتك...ارتاحي هنا ولو احتجت حاجة أنا قاعد بره مش هاطلع فوق .
قالها وهو يتردد في ترك كفها لكنه فعلها أخيراً كارهاً... ليدفعها برفق نحو الفراش الذي جلست عليه بإعياء فرفع عليها غطاءها ولازالت شهقات بكائها الخافتة تملأ أذنيه ...
ولما لم يعد قادراً على الاحتمال أكثر جلس فجأة على طرف الفراش لينفجر باعترافه :
_أنا اتفاجأت بيها زيك...كنت خلاص هاقفل العيادة لقيتها داخلة ...قلت كلمتين خايبين من بتوعها زي كل مرة ما توقعتش إنها تتمادى كده ...وكمان ما توقعتش إنك تدخلي في نفس اللحظة ...أنا مش مضطر أقول كده ...لو كنت عايزها أو فيه عندي رغبة واحد في المليون إني أكمل معاها ما كنتش لجأت لخطة جوازنا المزيف دي...
ثم زفر بقوة ليردف وقد عادت إليه سخريته السوداء:
_وبعدين أنا مش عارف إنتِ عاملة كل ده ليه ؟! يتهيألي بعد موقف امبارح كل واحد عرف مكانه !

لم تتوقف دموعها وكأنها لم تسمعه ...
كانت تدور في إعصار ذكرياتها العاصف ...والتي امتزجت الآن بمشهده هو مع طليقته...
ماذا عساها تصنع؟!
وهل تلومه حتى لو حنّ إلى امرأة تعطيه ما تعجز هي عنه ؟!
يقول أنه (الآن قد عرف كل منهما مكانه)!
حقاً...هي عرفت مكانها !

_ياسمين ...بطلي عياط وبصيلي!
هتف بها بنفاد صبر وهو لايدري ماذا يفعل ...
لو استجاب لرغبته الآن في عناقها فلن يسامح نفسه أبداً !
لهذا اكتفى باعتصار كفها بين أنامله بينما لايزال يهتف بنفس النبرة الجافة التي تناقض كل مشاعره الآن:
_أنا مش هاقعد طول الليل أشرح وأسمعك بتعيطي...اتفاقنا كان محدش فينا يحكي عن ماضيه ومع ذلك حكيتلك كل حاجة...عشان
مفيش حاجة تخليني أتكسف منها...بلاش تصرفات العيال دي ...لو ما فتحتيش عنيكي دلوقت واتكلمت زي الناس هاسيبك تتفلقي!

ياللرقة!!!
الغريب أنه كان ولأول مرة يكره -فظاظته- التي كان يظنها تحميه !
يكرهها وهو يشعر بالمزيد من العجز عن فعل أي شيء !
وما زاد الطين بلّة هو مصادفة عينيه لرمزها الذي تنقشه بيدها على مفارشها ووسائدها ...ذاك الذي يمثل حرف الياء بالعربية وقد انثنى طرفه ليرسم شكل القلب الشهير ...والذي أخبرته منذ أيام أنها تعنيه هو به ...
اللعنة!
أما لهذه الفوضى من آخر؟!!

زفر بحرقة وهو لايجد بداً من أن يقوم لكنه ما كاد يفعلها حتى شعر بتشبث أناملها الواهي به ..!
هذا الذي وجده كافياً ليعاود الجلوس وهو يربت على كفها بحنان يناقض جفاء أقواله...
ولم يكد يفعلها حتى فوجئ بها تنحني في جلستها لتسند رأسها على كتفه هامسة بين دموعها:
_أنا آسفة على اللي حصل امبارح...معرفش عملت كده إزاي.
وكأنما كان هذا فقط ما يحتاجه كي يتشقق قناع القسوة البارد الذي كان يرتديه...
كي يستجيب لدعوة جوارحه باحتضانها ...لغرس رأسها بين ضلوعه ...لتقبيل قمة رأسها التي نزع عنها حجابها ليتخلل شعرها بأنامله هامساً بصوت متحشرج لايزال على خشونته:
_أنا كمان آسف ...ماكنتش أعرف إني هاخوّفك كده ...
ثم ابتعد بوجهه عنها دون أن يفلتها من بين ذراعيه لينظر لعينيها بينما يمسح بأنامله الحرة بقايا دموعها لتقول هي بتشتت:
_أنا جتلك العيادة عشان النور قطع هنا...أنا بخاف من الضلمة قوي .
فالتوت شفتاه بابتسامة حانية وهو يتذكر كيف هرعت بالأمس مذعورة لضغط زر الإضاءة ...ليقول بنبرة جادة:
_خلاص...بكرة أتفق مع حد يركب هنا مولد كهربي.
ابتسمت بامتنان وهي تعاود إسناد رأسها على كتفه عندما سطعت الأضواء في الغرفة فجأة ليغشي الضوء عينيهما للحظات قبل أن يتركها
ليقف قائلاً:
_هاعمللك حاجة دافية تهديكِ عشان تعرفي تنامي.
لم ينتظر موافقتها وهو يخرج من الغرفة بعدها تاركاً إياها خلفه تحاول لملمة شتاتها دون جدوى ...
======
عاد بعد دقائق حاملاً مشروبها الدافئ مع ورقة مطوية ناولها لها قائلاً:
_دي أعشاب كاموميل ونعناع ...ده الغلاف بتاعها عشان تطمني.
فاكتست شفتاها بابتسامة واهنة وهي تتناول منه الكوب مغمغمة:
_انت اللي موسوس مش أنا...أنا واثقة فيك.
تنهد بحرارة وهو يضع ما بيده جانباً ليجلس أمامها على طرف الفراش متفحصاً ملامحها المنهكة...عينيها اللتين تورمتا من فرط البكاء ...وشفتيها المرتجفتين بانفعال ...وأخيراً خصلات شعرها التي التصقت بجبينها المتعرق والتي امتدت لها أنامله الآن ليزيحها خلف أذنيها قائلاً:
_أحسن دلوقت؟!
أومأت برأسها إيجاباً وهي ترتشف المشروب بينما عيناها تتحاشيان النظر نحوه فانتظرها صابراً حتى انتهت ثم أخذ منها الكوب ليضعه جانباً قبل أن يحيط كفيها بكفيه قائلاً :
_مش محتاج أسألك عن تفاصيل ...أنا فهمت !
رفعت إليه عينيها بنظرة مذعورة ليستطرد بأقصى ما استطاعه من ضبط النفس رغم البركان الذي كان يفور بداخله :
_كان حيوان...بيهينك ...بيضربك...بيخونك...
كانت عيناها تتسعان أكثر مع كل كلمة يضيفها ليوقن من صحة استنتاجه فأردف وهو يهز رأسه بتعجب:
_مش انتِ اللي قلتيلي إن مشكلتي مع أمي كانت إني ردمت على النار من غير ما أطفيها ؟! مش أولى كنتِ نصحتِ نفسك الأول؟!

أسبلت جفنيها وهي تشعر بالضعف يجتاحها من جديد رغماً عنها فعادت دموعها تسيل على وجنتيها ليقترب منها أكثر فيضمها إليه هامساً:
_من أول ما شفتك وأنا واثق إنك مخبية جرح كبير ...كنت بحسدك على قوتك بس كنت عارف إن فيه نقطة ضعف بتبقي جبانة قدامها...عشان كده عايزك تتكلمي...تحكي...عشانك انتِ...مش عشاني أنا...عشان تكسري حاجز الخوف اللي جواكِ من التفاصيل اللي انتِ حابساها .

عاد جسدها يرتجف بين ذراعيه وهي تشعر بأحاسيس متضاربة...
شعورٌ عميق بالإهانة...بالضآلة...بالنقص.. .ينتابها وهي تعود للغوص في ذكرياتها ...
هذا الشعور الذي لم تعرفه في حياتها كلها إلا في ذاك الموضع..
هي القوية الواثقة الضاحكة النابضة بحيوية الألوان لكنها تبقى شديدة الوهن أمام هذا النفق الأسود بأعمق أعماق روحها !
لكن يامن محق!
ربما تكون مشكلتها الحقيقية فعلاً أنها حبست تفاصيلها الخانقة داخلها فلم تطلع عليها سوى طبيب التجميل الذي سألها بطبيعة الحال عن سبب تلك الندوب التي ملأت جسدها وقتها...

غرقت في صمتها طويلاً وهي تحاول تجاوز هذا الحاجز لكنه احتمل بصبر يحسد عليه حتى بدأت بالحديث وهي تخفي وجهها في صدره...
أجل...أخيراً انزاح الحجر الثقيل عن باب مغارة الذكريات المعتمة !

كان قلبه ينتفض بغضب مع كل تفصيلة تحكيها وهو يشعر أن كبرياءها يخفي خلف ذاك -المزيد- الذي كان تخيله يزيد جنونه...
رباه!
إذا كان هذا ما جرأت على البوح به فما الذي تخفيه ؟!

حتى انتهت بذكر تفاصيل الليلة الأخيرة الكارثية والتي ما كادت تفرغ منها حتى عادت للبكاء من جديد ...
فاعتصرها بين ذراعيه هامساً بحزم:
_عيطي دلوقت زي ما انت عايزة...بس اوعديني تكون دي آخر مرة تفتكري فيها كل ده ...
ثم رفع ذقنها إليه ليردف بغضب سمح له أخيراً بالظهور:
_لو كان قدامي دلوقت كنت قتلته ...بس انتِ كمان غلطانة ...ليه سكتتي؟! ليه ماقلتيش لوالدك؟! سكوتك ده اللي جرأه عليكِ!
_سكتّ في الأول عشان كنت بعافر إني أنجح وماافشلش...عشان مابحبش أتهزم من أول مرة...كان عندي أمل مع كل اعتذاراته إنه يتغير ...وبعد الطلاق سكتّ عشان اتعودت أقوم كل مرة لوحدي...ما اشوفش في عين بابا نظرة شفقة...هو اتعود يشوفني ناجحة وقوية... وأنا اتعودت مابقاش محتاجاه.

نطقت عبارتها الأخيرة بنبرة مسته وهو يدرك مغزاها ...
هي لم تسامح أباها كما تزعم ...هي فقط تصنعت تعايشها مع ذنبه القديم !
تماماً كما لم يسامح هو أمه بل ولم يستطع حتى تصنع التعايش هذا!
صدقت يوم وصفته بأنه صورتها في المرآة...
صورتها الأضعف...الأكثر سواداً...والأشد تخبطاً!
الآن فقط يفهم سر حديثها عن مشكلتها مع الإنجاب...عن ثورة ذعرها بالأمس ...وعن نفورها من لمساته...
لكن...مهلاً !
إنها لا تنفر دوماً منه...فقط عندما تتذكر ما يربطها بماضيها!
هذا يعني أنه هناك أمل أن تتقبله يوماً!!
وهو سينتظر...هو يريد أن ينتظر...
كل ما يخصها شغف خاص بها لم تشاركها فيه امرأة سواها !

لهذا أخذ نفساً عميقاً ثم ربت على ظهرها قائلاً بحزم رفيق:
_هتنامي دلوقت...وهتنسي كل حاجة قلتيها ...فكري بس في أكتر حاجة بتحبيها.
ابتسمت بشحوب وهي تعود بظهرها للوراء لتنسل تحت الغطاء وقد شعرت بجفنيها يتثاقلان حقاً...
فابتسم رغماً عنه وهو يسألها بصوت عادت إليه مشاكسته:
_أنا ؟! مش كده ؟!
_طبعاً.
كان يسألها مداعباً كي يكسر حدة توترها لكنه لم يتوقع أن تؤثر فيه هكذا وهي ترد بسرعة دون تردد حتى وسط كل هذا!

لهذا اتسعت ابتسامته وهو يتأمل ملامحها التي عاد إليها سكونها تدريجياً وهي تستسلم للنوم أخيراً...
قبل أن يتذكر شيئاً جعله يسألها بتردد خافت:
_مين زين؟!
_زين؟؟!
_كنتِ بتقولي اسمه امبارح !
_أكيد بيتهيألك...معرفش حد اسمه كده !
همست بها بصوت متثاقل قبل أن يغلبها نعاسها فعقد حاجبيه وشكوكه تعاود حربها الضروس معه ...
لكن نظرة واحدة لملامحها الملائكية الآن كانت كفيلة أن تتراجع مؤقتاً فتنهد بعمق وهو يشعر أن هذه الليلة هي بدايته الحقيقية معها ...
لا يهم أن يقصر الطريق أو أن يطول لكنه يعترف أخيراً أنه يريد المسير فيه...
المسير...؟!
لا ..بل العدْو!
======


سمية سيمو غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:58 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.