آخر 10 مشاركات
أكتبُ تاريخي .. أنا انثى ! (2) *مميزة ومكتملة * .. سلسلة قلوب تحكي (الكاتـب : كاردينيا الغوازي - )           »          والروح اذا جرحت (2) * مميزة ومكتملة * .. سلسلة في الميزان (الكاتـب : um soso - )           »          كوب العدالة (الكاتـب : اسفة - )           »          خلف الظلال - للكاتبة المبدعة*emanaa * نوفيلا زائرة *مكتملة&الروابط* (الكاتـب : Just Faith - )           »          الإغراء الممنوع (171) للكاتبة Jennie Lucas الجزء 1 سلسلة إغراء فالكونيرى..كاملة+روابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          في غُمرة الوَجد و الجوى «ج١ سلسلة صولة في أتون الجوى»بقلم فاتن نبيه (الكاتـب : فاتن نبيه - )           »          قصر لا أنساه - مارغريت مايلز- عبير الجديدة -(عدد ممتاز ) (الكاتـب : Just Faith - )           »          سجل هنا حضورك اليومي (الكاتـب : فراس الاصيل - )           »          79 - قسوة وغفران - شريف شوقى (الكاتـب : MooNy87 - )           »          1 - من أجلك - نبيل فاروق (الكاتـب : حنا - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة ضمن سلاسل (وحي الاعضاء)

Like Tree137Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 29-03-20, 09:50 PM   #1041

شوشو 1234
 
الصورة الرمزية شوشو 1234

? العضوٌ??? » 411586
?  التسِجيلٌ » Nov 2017
? مشَارَ?اتْي » 384
?  نُقآطِيْ » شوشو 1234 is on a distinguished road
افتراضي


الله يبارك فيك ويسعدك منتظره الخاتمة جدا ومتلهفه لها كل فترة اشيك على الرواية انتظرها 🌚
وشكرا لك وبالتوفيق🌹❤🤍


شوشو 1234 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 29-03-20, 11:16 PM   #1042

Mini-2012

? العضوٌ??? » 456252
?  التسِجيلٌ » Oct 2019
? مشَارَ?اتْي » 1,977
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Lebanon
?  نُقآطِيْ » Mini-2012 is on a distinguished road
¬» مشروبك   water
¬» اشجع ahli
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

يانتظار الخاتمة على أحر من جمر

Mini-2012 غير متواجد حالياً  
التوقيع
ﺎﻟﻠﻬﻢ ﺻﻞّ ﻭﺳﻠﻢ ﻋﻠﻰ ﻧﺒﻴﻨﺎ ﻣﺤﻤﺪ
رد مع اقتباس
قديم 29-03-20, 11:16 PM   #1043

Mini-2012

? العضوٌ??? » 456252
?  التسِجيلٌ » Oct 2019
? مشَارَ?اتْي » 1,977
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Lebanon
?  نُقآطِيْ » Mini-2012 is on a distinguished road
¬» مشروبك   water
¬» اشجع ahli
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

تذكير📢📢📢📢📢📢
🌹سوره الملك 🌹

﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)🌸الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)🌸 الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)🌸 ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)🌸 وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) 🌸وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6)🌸 إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7)🌸 تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)🌸 قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)🌸 وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10)🌸 فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)🌸 إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)🌸 وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13)🌸 أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)🌸 هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)🌸 أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)🌸 أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17)🌸 وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)🌸 أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)🌸 أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)🌸 أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)🌸 أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)🌸 قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23)🌸 قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)🌸 وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)🌸 قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)🌸 فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)🌸 قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28)🌸 قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29)🌸 قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)🌸﴾”


🍃💕🍃 أذكار النوم 🍃💕🍃
((بِاسْمِكَ رَبِّي وَضَعْتُ جَنْبِي، وَبِكَ أَرْفَعُهُ، فَإِن أَمْسَكْتَ نَفْسِي فارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا، بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ))
((اللَّهُمَّ إِنَّكَ خَلَقْتَ نَفْسِي وَأَنْتَ تَوَفَّاهَا، لَكَ مَمَاتُهَا وَمَحْياهَا، إِنْ أَحْيَيْتَهَا فَاحْفَظْهَا، وَإِنْ أَمَتَّهَا فَاغْفِرْ لَهَا. اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ العَافِيَةَ))
((اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبَّ الأَرْضِ، وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَالْفُرْقَانِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ. اللَّهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَلَيسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأَغْنِنَا مِنَ الْفَقْرِ))

((اللَّهُمَّ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطانِ وَشِرْكِهِ، وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءاً، أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ))
((اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْت


Mini-2012 غير متواجد حالياً  
التوقيع
ﺎﻟﻠﻬﻢ ﺻﻞّ ﻭﺳﻠﻢ ﻋﻠﻰ ﻧﺒﻴﻨﺎ ﻣﺤﻤﺪ
رد مع اقتباس
قديم 30-03-20, 11:00 PM   #1044

mansou

? العضوٌ??? » 397343
?  التسِجيلٌ » Apr 2017
? مشَارَ?اتْي » 3,018
?  مُ?إني » عند احبابي
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
?  نُقآطِيْ » mansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond repute
?? ??? ~
«ربّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَاغْسِلْ حَوْبَتي، وَأجِبْ دَعْوَتي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي.»
افتراضي

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته

mansou غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 31-03-20, 07:14 AM   #1045

**منى لطيفي (نصر الدين )**

مشرفةوكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وبطلة اتقابلنا فين ؟

 
الصورة الرمزية **منى لطيفي (نصر الدين )**

? العضوٌ??? » 375200
?  التسِجيلٌ » Jun 2016
? مشَارَ?اتْي » 4,633
?  نُقآطِيْ » **منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الثالث والعشرون


شروط الامر بالمعروف والنهي عن المنكرلابد ان تكون رفيقا فيما تأمر رفيقا فيما تنهى.... عمر عبد الكافي.



**اليوم التالي**
**مدينة الجبل**
**منزل آل عيسى **

أغلقت باب غرفتها بهدوء ورفعت رأسها تلمح هيئة ابنة خالتها الشقية تزم شفتيها، مقطبة حاجبيها، تتلصص بنظراتها الحذرة.
تقدمت بهدوء تتأمل وقوفها على أطراف أصابعها بينما تلصق كفيها بحافة الجدار عند منعطف الطرقة المؤدية للدرج.
جاورتها ومالت لتتفقد ما تنظر إليه ثم عادت لتعتدل، مكتفة ذراعيها بضجر طرد الحيرة من على وجهها، تنتظرها لتشعر بها لكن عبث وحين يئست من ذلك مدت كفها تلمس ظهرها بخفة انتفضت لها بقوة يحمر وجهها وتتسع مقلتيها للحظة قبل أن تدرك هويتها لتزفر براحة غمرتها، تقول بنبرة لم يغادرها اللهاث بعد.
(يا إلهي! أرعبتِ قلبي يا آية...)
ارتفها حاجبي آية بدهشة ساخرة، ترد.
(من تتلصصين عليه قد اختفى منذ مدة من على الدرج ...)
أراحت همسة ظهرها الصغير على الجدار خلفها بينما تقبض على موضع قلبها، تعقب بهيام مضحك.
(يا إلهي أنه رائع!... وعطره! مميز في كل شيء.... عطره فرنسي أصلي! ...)
ثم صمتت حين ضيقت آية مقلتيها بشك بعد أن كانت تتأمل قدها الرشيق والأقرب للنحافة بمنامتها الزهرية التي لا تشبه مناماتها هي الطفولية في شيء، وشعرها الطويل الأسود ذو الخصلات الناعمة.
(كيف عرفت أن عطره فرنسي أصلي؟)
أعادت همسة ذراعيها خلف ظهرها، رافعة دقنها بينما ترميها بنظرات مستخفة متعمدة، أعلمت آية بأنها تكذب.
(إنه شيء معروف... العطر فواح وذو رائحة مميزة جذابة... تبقى في أي مكان يكون فيه حتى بعد مغادرته بمدة طويلة...)
عضت آية شفتها السفلى بطريقتها الخاصة حين تفكر بعمق وكلما زادت حيرتها كلما التهمت الشفة وقد تصل بأسنانها العلوية الى منتصف المنطقة بينها وبين حافة الدقن.
(ما بك؟)
استطردت همسة بارتباك، ترف بجفنيها مرات عدة فرفعت آية سبابتها، تشير الى وجهها، هاتفة باتهام.
(أنت تكذبين... كيف علمت بنوع عطره؟)
ثم شهقت بصدمة، تخفي فمها بكفها قبل أن تتخصر به، تكمل بتقرير.
(دخلتِ غرفته وبحثتِ بين أغراضه؟)
تحركت همسة بخوف لتمسك بذراعيها، ترد برجاء استولى على قسماتها الجميلة الصغيرة.
(لا ... أقسم لك... رافقت شقيقته سارة لتجلب له غرضا ما فلمحت قنينة العطر فوق المنضدة الصغيرة جوار السرير... وحين بحثت عن اسمه في الشبكة العنكبوتية عرفت أنه عطر فرنسي أصلي....)
تكومت ملامح آية باستهجان واضح ونفضتها عنها فابتعدت بينما الأولى عادت لتحط بكفيها على جانبي خصرها الممتلئ ككامل جسدها الأطول قامة بقليل عن همسة، الناظرة إليها بترقب وجل.
(متى ستكفين عن أفعالك الصبيانية هذه؟)
مططت همسة شفتيها بانزعاج، ترد.
(من تتصرف بصبيانية؟... أنا التي تحب من بعيد أم أنت التي لازلت تراقبينني وكأننا أطفال صغار لتبلغي والديك بأي شيء تعُدينه عيبا...)
تحفز جسد آية كما عبست بملامحها الشبيهة بوالدها إبراهيم باستثناء عينيها البنيتين كوالدتها، تجيب بتأنيب.
(كان ذلك حين كنا صغارا... ولا أبلغهما سوى بما هو خطير... أما الآن....)
اقتربت منها بتحفزها ذاك فتشنجت ملامح همسة بحذر، تغمغم بوجل.
(م... ماذا؟)
رفعت آية دقنها بظفر لمعت به مقلتيها ثم جذبت أطراف كنزتها الصوفية الخضراء قبل أن تمسد عليها وهي تستطرد بتهديد مبطن.
(لست في حاجة إلى مساعدة إن أردت إجبارك على ضبط لجام جموحك....)
لوت همسة جانب فمها بضيق فابتسمت الأخرى بمكر، تكمل.
(من لا يتقي ربه يرهن رقبته عند غيره... تذكري قول عمي اسماعيل يا ابنة عمي وخالتي؟...)
زفرت همسة، تهز جسدها بحنق فطارت خصلتها السوداء الناعمة استجابة له.
(لا أعلم لما أنت غاضبة بهذا الشكل؟... أنا لم أفعل شيئا ثم هو لا يراني أبدا مهما فعلت....)
تأملتها آية قليلا ثم أسقطت ذراعيها إلى جانبيها، تمنحها ردا لطيفا يخفي بين طياته تأنيبا وتحذيرا على حد سواء.
(الحياة تجارب تسمو بك درجة درجة نحو الأعلى أو تدنو بك درجة درجة نحو الهاوية... لا وجود لسمو مفاجئ ولا لهاوية مفاجئة... كل طريق يُقطع خطوة خطوة...أما هو فيراك طفلة...)
استدارت لتتجاوزها نحو السلم فهتفت همسة باستياء ساخر طفولي.
(كفي عن ترديد كلام الكبار... فأنت أيضا طفلة...)
لم تتوقف بينما تهز كتفيها بخفة، تجيب.
(نحن أطفال... ومهمة الأطفال التعلم من كلام الكبار... وليس التظاهر بأننا كبار... غيري ملابسك فإن لمحك عمي عيسى تتجولين بالمنامة سيعاقبك... يكفي أنك لم تتحجبي بعد ستثيرين جنونه ...)
طرفت بمقلتيها نحو طرحة آية بنفس لون الكنزة وتنورتها حتى اختفت أسفل الدرج فتأففت مجددا بينما تعود أدراجها، تغمغم باستياء.
(لماذا أغطي شعري وهو أجمل ما أملكه؟.. ثم أنا صغيرة على الحجاب... عمتي تغريد تؤكد لي ذلك دائما... )
انحسرت خطواتها جوار باب غرفتها من الداخل، ترمق الفراغ بعدم رضى من قولها السابق وقد اكتشفت التناقض مع رغباتها فعادت تهمس بتبرم.
(لست صغيرة جدا... يعني!... أنا كبيرة لأحِب وأحَب لكن صغيرة على الحجاب وكل تلك الفروض ...)
رفعت رأسها وعدلت من كتفيها راضية على استنتاجها وأسرعت لترتدي ملابسها، تشكر ربها بكون اليوم عطلة مدرسية وستتمكن من مراقبة ابن عم والدها الوسيم طوال الوقت.

............

**وادي الحقول**

*منزل جرير*

لم تتحرك من على سريرها وقد اشتد بها الغثيان، كلما ظنت أنها تتحسن يعود الدوار ليغمرها بغثيان أشد يوهن جسدها فلا تقوى على النهوض من مكانها ولا حتى الدخول للمطبخ، حائرة في ما ستفعله كي تعِد وجبة العشاء أم تعتذر من زوجها كما فعلت وقت الغداء رغم أنه طلب منها ملازمة السرير وهو سيتصرف.
شعرت بالامتنان لكنها أبدا لم تأكل مما صنعه ليس أنه سيء لكنها تعاف كل الطعام وما إن يصل الى جوفها حتى يعود بشكل مؤلم.
بلعت ريقها مجددا تلجم به أحشائها عن الانقباض ونظرت الى الهاتف المجاور لها تستغرب عدم رد والدتها عن مكالماتها طوال اليوم، تفقدت التطبيقات فلم تجد أي رسالة من شقيقتها فداعبت شاشة الهاتف بأصابعها، تطلب رقمها وشغلت مكبر الصوت.
(السلام عليكم ورحمة الله.... )
(عليكم السلام... كيف حالك صفاء؟... وكيف حال الجميع؟)
التقطت الارتباك يتخلل نبرة صوتها فقاطعت ردها المجامل بسؤال مباشر.
(لماذا لا ترد علي أمي؟... هاتفتها كثيرا ولم ترد....)
صمتت صفاء قليلا قبل أن تزفر باستسلام، تجيب.
(إنها غاضبة منك... لا تريد الرد عليك)
تأكدت لها ظنونها واعتدلت لتجلس، تسألها بحيرة.
(لماذا ؟... )
زفرت صفاء مجددا، ترد بقنوط.
(تعلمين أنها أصيبت بدوار يوم أمس بسبب السكري... وقد طلبت مني إخبارك....)
(وتحدثت معها أيضا واطمأننت بأنها بخير...ما الذي استجد؟)
بنبرة بدت لتقوى مترددة أو كأنها تنطق رغما عنها غير واثقة بما تقوله.
(لم تهتمي وقد مر اليوم بأكمله ولم تسألي عنها...لقد ظنت أنك ستأتين لزيارتها... )
أسدلت تقوى جفنيها بتعب، تلغي خاصية المكبر حين وصلها صوت حركة، تتوقع عودة زوجها.
(قضيت اليوم بأكمله فوق السرير نائمة... يشتد بي الغثيان فلا أستطيع الوقوف... مرريها لي....)
(لا تريد... دعيها الآن وكلميها لاحقا...)
عبست تقوى بشدة، تسأل بضيق.
(أين والدي؟)
(لم يعد من صلاة المغرب بعد...)
أنهت المكالمة في نفس اللحظة التي دخل فيها جرير الى غرفتهما، يحدق بقيامها المتعثر من على السرير، تستدير إليه بوجه شاحب مرهق.
(لما قمتِ؟... هل أكلت شيئا اليوم؟)
أومأت سلبا بينما تعتصر جفنيها تعبا وتمد يدها لتسحب عباءتها من فوق المشجب تحت أنظار جرير المترقبة.
(ذكر الطعام يثير غثياني ...)
(ماذا تفعلين؟)
دست نفسها داخل العباءة، تجيبه برجاء.
(خذني لبيت والدي بالسيارة ... لا أستطيع المشي...)
تفاجأ، يرد بريبة.
(رأيت والدك قبل قليل في المسجد لم يبدو عليه أن هناك خطب ما؟)
بلعت ريقها مرات متتالية، تفكر بانزعاج ثم مسحت على وجهها، تنطق بنبرة مكتومة.
(أمي مريضة وأريد لاطمئنان عليها .... لن نتأخر...)
هز رأسه واستل مفتاح السيارة من على المنضدة ثم أمسك ذراعها لتستند عليه، يشفق على حالها.
)حسنا!.... لكن يجب أن تأكلي شيئا ما.... ستسببين لنفسك فقر الدم...)
لم تجبه سوى بإمائه واجمة فصمت هو الآخر، يمنحها الهدوء.
أوقف السيارة جوار البيت ثم طلب منها.
) انزلي أنت... سأصف السيارة عند مدخل الشارع كي لا أغلق الزقاق على المارة....)
أومأت، تطيعه وترجلت من السيارة.
دقت الجرس وانتظرت قليلا تملأ صدرها بالهواء النقي علّه يهدئ من ثورة أحشائها حتى فتحت صفاء التي لم تتفاجأ بحضورها، تبتسم لها بهدوء قبل أن تعبس بقلق، تمسك بذراعها.
)أنت شاحبة!)
)أين أمي؟)
رافقتها إلى غرفة الجلوس حيث والديها ونبيل الذي قام يستقبلها بحرارة، تبعه والده يتفحص وجهها بقلق مشفق.
)أنت مريضة!....اجلسي ابنتي وارتاحي!)
ابتسمت له بوهن وتجاوزته نحو أمها المتبرمة بملامحها العابسة، حاولت تقبيلها فابتعدت تلومها.
)الآن تذكرتِ أن لك أما... )
مطط الحاج محمد فمه بعدم رضى وصفاء مع نبيل يراقبان بصمت بينما تقوى ترتمي جوارها بتعب، تفسر لها بهدوء.
)حين هاتفتك ليلة أمس ظننت أنك بخير... وطوال اليوم قضيته نائمة بسبب الغثيان...)
رفعت دقنها، ترد بغضب طفولي، مثير للاستفزاز.
)لو كنت تهتمين بي حقا لكلمتني صباحا لتطمئني علي... لكنك جاحدة... كلكم جاحدون... أفنيت صحتي وحياتي عليكم... وحين كبرتم تكبرتم!... )
)يا صفية اهدئي!... انظري إلى وجهها الشاحب إنها مريضة....)
تدخل زوجها مهادنا، لكنها أبت النظر إليها، تجيبه بنبرتها النزقة المختلطة ببحة البكاء.
)انه حظي التعس! ... كل من أعرفهم أنجبوا أبناء صالحين يرضونهم بببرهم واهتمامهم وتفوقهم في كل شيء... إلا أنا ابتلاني الله بجاحدين فشلة!....)
ارتفعا حاجبي صفاء بتعبير متبلد ونبيل يمسد خلف رأسه باسما بسخرية بينما والدهم لم يكن منتبها حينها سوى على تقوى التي لمعت مقلتيها بدموع حبيسة فعلم أن وضعها الحساس المهيج لهرموناتها لن يكون في صالحها لتتقبل نوبات والدتها كما تعودت أن تفعل.
همّ بالتدخل مجددا لكن جرير قاطعهم، يلقي السلام فانتفضت صفية وكأنها لم تكن تشتكي قبل قليل، ترحب به بحبور.
)عليكم السلام .... مرحبا بصهرنا العزيز ... كيف حالك؟... تفضل اجلس!)
ولج الغرفة بعد أن نزع حذائه، عينيه على التي اقترب منها والدها ومالت على كتفه تلقائيا برأسها، تغمض عينيها على دموع يعرف جيدا أنها تلجمها.
)سأعد لكم شيئا تأكلونه في الحال...)
رفع يده ليمنعها وقد همت بالانصراف من الغرفة.
)لا داعي يا خالة..)
لكنها أقسمت بأغلظ الأيمان أنهما لن يغادرا حتى يتناولا العشاء ثم وجهت أمرها لصفاء.
)تعالي لتساعديني... )
ثم نظرت نحو تقوى، تكمل بإشفاق صادق وكأنها لم تكن غاضبة منها قبل قليل.
)وأنت تسطحي وارتاحي... إياك والنهوض! ... سأعد لك شرابا ساخنا يهدئ من روع أحشائك ....)
فتحت تقوى عينيها لترمقها بنظرة خالية من أي تعبير ثم انتقلت بعينيها نحوه لتتأكد من سمعه لما سبق وقد وجد فيه جوابا لما كان يحيره لكنها رفضت مواساته، تخبره بأنها لم تكن تحبذ معرفته بينما تعيد غلق عينيها وتبلع احباطها، مكتفية بالإصغاء لحديث والدها، مستسلمة للمساته الحانية على رأسها.
)اتفقت مع عمك... سنقيم العرس بعد شهر إن شاء الله عسى أن يدفأ الجو...)
هذا موضوع آخر تفاجأت به ولم يكن لديها أي دافع لتناقش أحدا حوله، موقفها لم يتغير وتظن أن صفاء تقترف خطأ بقرارها لكنها أوهن من أن تجادل أو تناقش ومع أنها تعلم شخصية صفاء المتذبذبة، لكنها حرة في حياتها ولتقرر ما تريده!
التقط جرير لمحة الضيق من على وجهها الشاحب تماما كما فعل أول مرة علمت فيه عن موافقة أختها على ابن عمه وهذا يسبب له بعض الانزعاج داخل قلبه، حبه لابن عمه وخوفه في نفس الوقت من أن يفسد الأمور يؤرقه، ويدعو الله أن لا يخيب رجائه في نجاح زواجهما.
)أعلم يا حاج... مؤنس أخبرني ...بارك الله له ولصفاء... وتمم زواجهما بخير.. )
)نبيل!)
كانت تلك والدته تنادي عليه فقام ينصرف بعدما كان يتابع الحديث ببسمة مجاملة ومع أن جرير لاحظ جدالا ما يحدث في المطبخ تلاه خروج نبيل العاصف إلا أنه تجاهل الأمر وظل يتبادل مع الحاج الذي بدى عليه هو الآخر الوجوم، حديثا متنوعا بينما يفكر أن العلاقة بين الخالة صفية وأولادها ليست كما كان يظن.
بعد ساعتين تنفس براحة ونهض من مكانه بعد أن وضع كأس الشاي فوق المائدة، يقول بامتنان.
) بَارك الله لَكم فِيمَا رَزَقكم، وشملكم برحمته الواسعة... نستأذن منكم...)
نهضوا جميعهم حتى تقوى التي كانت متسطحة، رافضة الأكل سوى ما احتسته من المشروب الدافئ الذي شعرت بعده بتحسن طفيف.
)إن كنت تعبة لا تقومي واقضي الليلة هنا!....)
اقترحت والدتها بإشفاق رفضته تقوى بينما تتحامل على نفسها لتجاور زوجها الذي راقب الخالة كيف اقتربت منها لتضمها إليها بحنو تربت على رأسها ثم قبلتها لتبعدها قليلا كي تتفقد وجهها، تكمل بقلق صادق بالغ.
)لا تقومي من على السرير غدا ... ان شاء الله سأجلب لك الطعام وأنظف البيت...)
لوت تقوى شفتيها ببسمة وهنة، واجمة، تغمغم بكلمات ممتنة ثم ضمت والدها وصفاء قبل أن تنسحب رفقة جرير المستغرب، يشعر بحلقة مفقودة تحول بينه وبين فهم ما يحدث، ملاحظا وجومها الذي لم يفارقها بعد صلاتها ولا حين اندست قربه تضم نفسها إليه، تتشبث به بقوة وإصرار غريبين.
……………….
**اليوم التالي**
**مدينة الجبل**
**منزل آل عيسى **

)بما أنك تحب المكان بهذا الشكل وتشتاق إليه... لم لا تعود الى وطنك؟... كفاك غربة يا أخي...)
ترك صلاح الدين تأمل سيقان النبات المتسلق، المنتشر حول سور المنزل من نوع الياسمين الأزرق، لينظر إلى وجه أخيه نوح، قائلا بحزن التحم بقسمات وجهه الذي غادره التعب السابق بعد انتظام أيام حياته أكثر.
)لم أفعلها في حياة أبي رحمه الله لأفعلها الآن وبعد وفاة بلقيس... كل ما يهمني أن أجمع أبنائي تحت جناحي وأبعدهم عن أي خطر...)
ابتسم نوح بسخرية وعدل قلنسوة جلبابه الشتوي السميك، يجيب وهو يتناول كأس الشاي من على المائدة المخصصة للحديقة حيث نصبوا أعمدة حديدية، مسقفة بالقصب، عليها نبات الكرمة والتي بدأت تظهر على سيقانها بعض الأوراق الخضراء الصغيرة جدا تنذر وبشكل مبكر أن فصل الربيع يقترب.
)أبنائك أكثر عرضة للأخطار في الغربة عن هنا.... على الأقل...)
ارتشف القليل من الشاي، يستدرك أمام نظرات أخيه المترقبة.
)هنا لديهم عائلة... معارف... لن يكونوا لحالهم... )
فكر صلاح الدين بهَمّ غامت به مقلتيه، يجيبه بنبرة فاترة.
)أنا خائف عليهم يا أخي... أشعر بالخطر يحوم حولهم…. لا أعلم ماذا أفعل أو كيف أحميهم؟ ... )
)جيد أنك تعبر عن مخاوفك يا عمي!...)
كان ذلك إسماعيل الذي مر ليسلم على عميه في طريقه للمغادرة الى عمله، يكمل بهدوء وبسمة محبة.
)من الطبيعي أن يتضاعف خوفك على أولادك بعد الذي حصل…. تخشى حادثا مماثلا لا قدر الله أو أي سوء يصيب أحد أبنائك....)
أسدل جفنيه باستياء ونوح يرمق اسماعيل بتشجيع ليكمل فجلس الأخير بعد أن فتح أزرار معطفه الكشمير، يسترسل بمؤازرة.
)هنا أو هناك يا عمي الله هو الحافظ والأقدار نافذة.... لا تجعل من الحادث عقدة تنزع منك الأمان ولذة الاستمتاع بحياتك مع أولادك... أعلم أن سبب وفاة السيدة بلقيس رحمها الله أمر جلل وقد منح حياتك وأبنائك هزة مزلزلة وموجعة.... لكن الحقيقة أن موعد وفاتها لم يكن ليتغير ولو اختلف السبب... آجالنا محددة منذ الأزل لن نستقدمها دقيقة ولن نستأخرها... لذا كلما أسرعت باسترجاع هدوء نفسك واستقرارها كلما عدت إلى يقينك بالله وبأقداره... وكلما عشت حياتك مطمئن البال...)
)ونعم بالله يا بني... نعم بالله... كلما أخشاه أن تعود تلك المرأة أو أن تنجح بأذية يوسف أو احدى ابنتي انتقاما ... شقيقتها فعلتها وقتلت زوجتي بدماء باردة.... فكيف أطمئن وتلك المرأة خارج أسوار السجن؟)
تنفس إسماعيل بعمق، يفكر في المعضلة التي تؤرقهم جميعا، تلك المرأة التي تزوجها الخواجي قد تكون كشقيقتها أو ألعن! وجميعهم قلقون حول سلامة يوسف بل وجميع أفراد أسرة عمه.
)لا تقلق يا أخي....)
تدخل شقيقه مهادنا رغم انزعاجه هو الآخر وتوجسه.
)إبراهيم وباقي الشباب يراقبونها... أخبرني يونس بنفسه أنها تحت أنظاره...وأنت أعلم بيونس... رغم عدم تقبلنا في البداية لما تعلمه من أخينا يونس... لكنه أثبت صلاحه واستغل الفرصة التي منحت له... والحقيقة أن مهاراته الخاصة مطلوبة في مثل هذه الظروف... )
عبست ملامح صلاح الدين ، يجيب بضيق.
)إنها امرأة سحّارة يا أخي... ستكيد لهم وتفلت من بين أيديهم... وكل ما يلزمها لحظة واحدة جوار أي من أبنائي لتقضي عليه ...)
)والله لو كانت جنيا أزرقا أو حتى أسود يا عمي... لن تفلت من قبضتي...)
ارتفعت الأعناق الى الذي انضم إليهم، يسحب كفيه من داخل جيبي كنزته القطنية ذات القلنسوة بحافة دائرية، يصب الشاي مضيفا بينما يرمقهم بنظرات ثاقبة، مصممة.
)أعلم أين هي وماذا تفعل في هذه اللحظة بالذات! ... ولولا ضمائر إخوتي الرقيقة تحديدا كبيرنا وطبيب المجانين هنا!... لكنت أرسلت إليها بمن يلقنها درسا ستختفي بعده وبشكل حقيقي هذه المرة...)
مطط إسماعيل فمه ببسمة باردة من على كرسيه، بادله إياها بمثلها، يرتشف الشاي بتلذذ مستفز.
)وأنا لازلت متفقا معك...)
تدخل عيسى رافعا إصبع سبابته والجميع بملابس الخروج وكان آخر من انضم إليهم ابراهيم الذي هتف بحزم.
)ألم تتأخروا عن أشغالكم؟)
انحنى قليلا ليقبل كتف عمه نوح ثم صلاح الدين الذي ربت على ذراعه بحب يكنه له من صميم قلبه، يرى فيه والده الحاج إبراهيم رحمه الله، متحسرا على الأيام التي ضيعها بعيدا عن حضن والده الدافئ.
)موضوع تلك المرأة أغلقناه ولن نتحدث فيه مجددا ... أنت وأبنائك في أمان بإذن الله يا عمي... لا تشغل نفسك.... )
هز المعني رأسه بامتنان وقد سكنت مخاوفه قليلا، يؤكد لنفسه بأن الله هو الحافظ.
هم يونس بالانصراف مع بسمته الباردة والملازمة لوجهه بملامحه الحادة حين التفتوا جميعهم إلى يوسف المسرع نحوهم، يهتف بوجه مكفهر.
)يجب أن أعود إلى البلدة.... )
نهض والده وعمه يصغيان لبقية حديثه الغاضب والهاتف لا يزال رهين قبضته.
)الضابط هشام كلمني حالا... لقد وجدوا هاتف والدتي... ويقول أنهم اكتشفوا سبب قتل شيراز لأمي... كما أصدروا قرارا بالقبض على أختها.... ورفض اطلاعي على باقي التفاصيل...)
رمق إبراهيم برجاء صامت، فهز رأسه بتفهم يستل الهاتف من جيب معطفه بينما والده يحدثه بحزم.
)سأرافقك!)
)لا يا أبي... البنات!)
رد يوسف برفض لكن والده قاطعه بحزم.
)سنذهب جميعا ... ومن هناك نعود إلى بيتنا ...سلا يجب أن تلحق بدراستها...)
)سنجهز أنفسنا إذن لنسافر جميعا...)
قرر نوح فتدخل يونس بينما يعيد هاتفه الى جيب سرواله.
)سأوصلكم...)
كان ابراهيم قد انتهى من مكالمته هو الآخر، يقول بانزعاج ينتابه حيال قضية زوجة عمه.
)يبدو أن السيدة بلقيس قامت بتسجيل مقطع مصور للقاتلة وأختها وهما تتحدثان في مصائب داخل المشفى... المهم هنا أنه أصبح لديهم إثبات على أن زوجة الخواجي شرعت فعلا في قتل زوجها.... كما أنها والخواجي كانت لديهما نية بدعم القاتلة في عملية فتح الكنوز بالسحر... )
تجمد الجميع لبرهة قبل أن يقول يوسف ببرود وهو يستدير عائدا نحو المنزل.
)سنغادر حالا!...)
تبعه والده وعمه فتحدث ابراهيم بينما ينتظر ليودعهم برفقة اسماعيل وعيسى.
)كن حذرا يا يونس!... لن نستطيع السفر مجددا للمدينة... فخذ حذرك وراقب يوسف جيدا... لا أريد ان يتهور... قد يفقد رزانته بسبب الحزن والغضب…(
هز رأسه بتفهم صامت ثم استدار نحو عيسى الساهم بضيق تجلى على ملامحه المتشنجة، انبسط ثغره بمكر مرح ومال قرب أذنه، يهمس له ساخرا.
)أنت سعيد لأن يوسف سيغادر؟... عيب عليك يا أخي... انه ابن عمك!…(
جعد عيسى أنفه ودقنه بامتعاض، يجيبه بنفس الهمس الساخر.
)أنا أحب يوسف.... لكنني طبعا مرتاح لمغادرته قبل أن أعلق ابنتي المجنونة من قفاها... فاغرب عن وجهي!)
أطرق يونس برأسه، يلجم ضحكته بجبروت بينما ابراهيم مستغرق بحديث جِدي مع إسماعيل أما داخلا فقد استنفرن النسوة، مستغربات من قرار الرجال المفاجئ فلم يكن منهن سوى الرضوخ ومساعدة سارة وسلا في توضيب أمتعتهن.
)تعالي يا همسة ... ألن تضميني؟)
نادتها سارة ببسمة مشفقة على صدمتها التي لم يستطع وجهها البريء إخفاءها جراء قرار أخيها المفاجئ ومنذ تلك اللحظة وهي تلتصق بوالدتها رواح، تزم شفتيها برفض شمل مقلتيها عن ذرف الدموع اللامعة على ضفافها.
حثتها رواح بحنو تمنحها دفعة خفيفة تحت أنظار بقية النسوة الباسمات بيأس من تصرفاتها الصبيانية فتقدمت وضمت سارة التي قبلتها بقوة، تخبرها بحب تكنه لها دونا عن البقية، ربما لأنها ترى فيها شقاوتها واندفاعها السابق إلا أن مجرد نظرة واحدة الى صديقتها وقريبتها آية تختفي أي ذرة خوف عليها من طيشها ناهيك عن بقية أفراد العائلة، لا تنكر أنها تشعر ببعض الغيرة حيال حظوتها بعائلة كبيرة ومحبة.
)يجب أن تأتي لزيارتنا .... سأشتاق إليك.... بل جميعكم من فضلكم... تعالوا لزيارتنا...)
تفقدت الوجوه الباسمة بتأثر، يجبنها بكلمات لطيفة ثم سلمت على كل واحدة منهن على حدة كما فعلت شقيقتها أولهن زوجة إبراهيم الحنونة بطيبة زائدة وزوجة إسماعيل الرسمية صاحبة الكلمة المدروسة ثم زوجة عيسى البشوشة المرحة طوال الوقت وأخيرا زوجة يونس ذات البسمة الخجولة.
)بلغوا سلامنا لتغريد وزوجها حين تعود من السفر... استودعناكم الله... )
هتف السيد صلاح الدين قبل أن ينحني ليستقل سيارة يونس لينطلقوا الى وجهتهم.
………….

**بعد خمس ساعات**

رفض السيد نوح البقاء في البيت وأصر على مرافقة أخيه وأبنائه الى المركز حيث بلغوهم أنهم يحجزون فيه رواند للتحقيق وحيث تنتظرهم مفاجأة لم تكن على بالهم!
اتسعت مقلهم من داخل السيارة، يحدقون بكم الحشود القابعة أمام مدخل المركز، نساء ورجالا جميعهم من أهل بلدة وادي الحقول.
)ماذا يحدث؟)
سألت سلا بفاه مفغر فلم تجد ردا سوى من أختها التي ردت هي الأخرى بصدمة.
)أهل البلدة...)
صف يونس السيارة وما إن ترجل يوسف ووالده حتى اسرع إليهم أهل البلدة، يهتفون بمؤازرة.
)علمنا بما حدث .. وتلك المجرمة ستنال عقابها... نحن معكم وفي ظهركم... وستدفع ثمن فعلتها... كما دفعت أختها القاتلة الثمن...)
بصدمة لم تغادره بعد يهز رأسه، مصافحا أيدي الناس حتى لمح أصدقائه يلوحون له جوار سيارة جرير فترك والده وسط الحشد وتسلل نحوهم.
)حمد لله على السلامة...)
هتف مؤنس باسما بسخريته المعهودة ثم أشار الى الناس، يستدرك.
)لقد تحولت الى قضية رأي عام أو لنقل رأي وادي الحقول ... كي لا تفلت بأي طريقة كانت...)
عبس جرير بغضب، يصافح يوسف ويؤنب ابن عمه.
)أخبرتك أن ما فعلته ليس له داع لأنها وقعت قانونيا ولن تستطيع استغلال أي علاقات... فالجميع سيتنصل من أي شبهة قد تجمعه بساحرة قاتلة...)
صافح يوسف فواز وبهيج ثم محسن ونبيه الذي رمقه بخجل وتردد تجاهله الأول ليسأل مؤنس بريبة.
)ماذا فعلت تحديدا؟)
رفع جرير هاتفه ولمس شاشته قبل أن يريه صفحة مؤنس على موقع التواصل حيث قرأ المنشور ثم رفع رأسه إليه، يسأله مجددا بحيرة.
)كيف علمت؟)
هز كتفيه وابتسم بتهكم.
)هل تظن أن عائلة آل عيسى من تحظى بالنفوذ فقط؟ ...اعذرني إن فاجأتك...)
هز يوسف رأسه بيأس ثم التفت إلى عميه الذين يشيران له قرب مدخل المركز، يجاورهما يونس فاستأذن ليلحق بهم غافلا عن النظرات المتبادلة بين نبيه وسلا التي ظلت داخل السيارة من بعيد، كلاهما يشكو ما يعتريه للآخر بصمت ولا نظرات سارة المحققة بداية فيما يحدث قبل أن يلفت انتباهها وقفة محسن بين نبيه وبهيج.

داخل المركز، وسط الرواق القريب من مكتب التحقيق، يجتمع عميه مع رجل أمن يعرفانه يتحدثون في تفاصيل القضية غير بعيد عنهم يقف يوسف رفقة هشام ويونس المنصت بصمت وتركيز.
)هذا ما حدث... تحققنا من صحة المقطع وأثبتنا بأنه سجل بالفعل بهاتف السيدة بلقيس.... كان الحديث بين الأختين حول جرائم بشعة... الشروع في قتل الخواجي رحمه الله... واعتراف بقتل الأطفال أثناء فتح الكنوز بالسحر....لن تفلت منها كل واحدة من القضايا ستؤدي بها إلى سجن مؤبد...)
احمر وجه يوسف غضبا وتأهبت فرائسه مع خروجها من المكتب، يرميها بسهام قاتلة.
ما إن لمحته حتى أظلمت مقلتيها بحقد أسود، كانت على يقين بأنه من سلط عليها المراقبة غير تلك التي تخص الشرطة والتي هربت منها بسهولة وحين ظنت أنها في مأمن عن الجميع صعقت بالشرطة تلقي عليها القبض في عقر الشقة التي آوت إليها في مدينةٍ أقصى الشمال.
رفعت دقنها تعض شفتها حتى أدمتها، هيئتها أنيقة وكأنها لم تتعرض لتحقيق مطول بعد ساعات من السفر لم تنل فيهم دقيقة راحة واحدة، معطفها القصير الأسود كأحشائها وتنورتها بلون زرقة عينيها لم يتجعدا أو يتأثرا بجلوسها الطويل سواء داخل سيارة الشرطة ولا داخل غرفة التحقيق ولأنها كانت على يقين بأنه أول من سيحضر ليشمت بها ويعلمها بمن حقق النصر في النهاية لم تكن لتفلت الفرصة من يدها كما أفلتت حقيبة يدها تحت أمر الشرطة لكن بعد أن استلت منها ما يهمها.
تنفست بعمق وتقدمت الشرطي الذي أشار لها، عينيها الحاقدتين على خاصته الغاضبة، تقترب منه خطوة خطوة، وقبل أن تتجاوزه سحبت يدها بما جهزته سابقا وأخفته ببراعة ثم صوبته نحو هدفها بتصميم مجنون بينما بسمة النصر والتشفي تتألق على شفتيها.
……………..

***بعد يومين ***
**منزل أهل نبيه**

)حاضر!! أنا قادمة!!)
تركت المطبخ وأسرعت تفتح الباب لتتجمد كليا تحت أنظار الجدة جوهرة المرحة.
)كيف حالك بنيتي!)
أمالت نهيلة رأسها مفغرة فمها ببلاهة نفضتها عن وعيها حين استدركت الجدة ببسمة ماكرة يشوبها الكثير من اللطف.
)انتظرت زيارتك وحين تأخرتِ جئت أنا.... هل سنقف هنا طويلا؟)
تحركت أخيرا لتسحب كفها تقبل ظهره كما يفعل الجمع في البلدة مع الكبار احتراما لهم، تجيب بتوتر اعتراها ولم تستطع إخفاءه، قلبها يخفق بقوة وركبتيها ترتخيان بوهن أصابهما فجأة.
)تفضلي يا جدة جوهرة... أنرت بيتنا بزيارتك...)
أمسكت بذقنها لترمقها بحنو، البسمة الحانية لا تفارق وجهها بينما مقلتيها تلمعان بمرح محبب.
)لقد أرسلت في طلب شقيقتك الكبرى... لأن لدي ما أخبركما به... ألم تصل بعد؟)
همت بالرد مرتبكة تفرك كلا كفيها بشدة فقاطعهما صوت فتح الباب ودخول المذكورة، تبتسم بترقب وفضول فضحته تقاسيمها المتشنجة قليلا رغم ما استقبلت به الجدة من انشراح وترحيب.
)مرحبا بالجدة جوهرة... أنرت بيتنا بزيارتك... )
قبلت ظهر كفها هي الأخرى فربتت الجدة على رأس المرأة الأكبر من نهيلة بخمسة عشرة عاما، ترد بمودة بينما ترافقهما نحو غرفة الجلوس.
)النور نوركم يا ابنتي... كيف حالك وأهل بيتك؟...)
)كل شيء بخير الحمد لله... تفضلي بالجلوس يا جدة جوهرة... نهيلة! الشاي حالا!)
استدارت نهيلة تنوي الفرار من أمامهما علّها تتمالك نفسها وتتخلص من الخوف والحماس اللذان اكتسحاها مرة واحدة فلم تعد قادرة على التركيز على شيء لكن الجدة أوقفتها ثم ضمت كتفيها لتجلس وتُجلسها قربها على أرائك الغرفة ذوات أفرشة تقليدية من خامة القطيفة الكريمية اللون محفورة بورود كبيرة جميلة حمراء.
)لا ...ليس قبل أن أخبركما بما أتيت من أجله....)
جلست شقيقتها وقد غلبها الفضول، تنصت بتمعن لبقية حديث الجدة بينما تقبض على كف نهيلة بين يديها.
(لن أطيل عليكما.... جئت لأسأل نهيلة إن كانت تقبل بأن تكون عروس حفيدي؟)
شعرت برعشة كفي نهيلة التي بدأت تصبب عرقا تحت طرحتها الصوفية رغم برودة الجو، فشدت عليها بين كفيها بحزم لطيف وشقيقتها تبتسم بدهشة، تجيب باستفسار.
)هل تقصدين بهيج؟)
ضحكت الجدة، تقول ببشاشة ونهيلة تطرق برأسها خجلا وفرارا من نظرات شقيقتها المتفحصة.
)بلى... فنبيل لازال في سنته الجامعية الأولى ولا يستطيع تحمل مسؤولية أسرة بعد.... أما بهيج فما شاء الله وحفظه من كل سوء... يملك شهادة وصنعة ما إن عاد إليها فتح الله عليه.... لذا حين طلب مني أن أخطب له الفتاة التي اختارها فاتحت والده وطلبت منه أن يتريث حتى آخذ الموافقة الأكيدة من نهيلة....)
استدارت الى المعنية المطرقة برأسها ثم رفعته، تستدرك برجاء.
)ما رأيك يا بنيتي؟... هل تقبلين أن تكوني عروس حفيدي؟....)
بللت نهيلة شفتيها، وجنتيها المكتنزتين محمرتان بشدة أضحكت شقيقتها التي تدخلت، تجيب بود.
)يكفي أنك جدته يا جدة جوهرة.... لا أحد يستطيع ردك أبدا...)
رمقتها بلوم لم يخلو من التأثر ثم عادت لضم كتفي نهيلة الساكنة كالأموات، أفكارها تدور حول كلمات زُرعت في صميم قلبها فيتردد صدها بين جنبات خيالها.
)تستطيع ردي إن هي رفضت طبعا.... ما رأيك يا ابنتي؟... ولا تستحي مني.... لا شيء سيتغير لو رفضت... الزواج أساسه القبول والرضى... وهو في النهاية من أقدار الله ...فلا تخجلي إن كنت رافضة...)
لم تظهر الجدة خوفها من رفض الفتاة المتوترة لكن الحكمة تغلب العاطفة لديها ولا يجب ان تضغط عليها، تمنحها الحرية الكاملة لاتخاذ القرار رغم أن شيئا ما في قرارة نفسها ينبئها بأنها تكن مشاعر لحفيدها.
)تحدثي يا نهيلة ما بك؟... تحولت لثمرة طماطم حمراء جامدة...)
عقبت شقيقتها بضحكة مرحة فابتسمت نهيلة بخجل، تهمس بنبرة بحت بسبب حالتها المتوترة.
)لست رافضة...)
قهقهت شقيقتها والجدة تبتسم براحة لمعت بها أنظارها فسحبتها تقبل وجنتيها قبل أن تنتفض بين يديها، قائلة بارتباك.
)سأحضر الشاي...)
فرت من أمامهما، تلوذ بالمطبخ حيث قبضت على صدرها تهمس بحماس تملك من أحشائها.
)لقد وافقت!... وافقت!... وافقت!...)
شهقت بقوة وتخصرت، تقر بعبوس تائه.
)وافقت على الأشقر الطاووس ... أنا لا أحب الألوان... لمَ وافقت؟)
أما في الغرفة فتحول الحديث الى جدية لم تخلو من اللطف والمودة.
)أسألي والدك عن موعد يناسبه لأعود برفقة عائلة حفيدي ... وأسال الله أن يتمم الزيجة على خير... )
هزت رأسها تؤمن على دعاء الجدة التي قطبت تلقائيا حين التقط أنفها رائحة الحبة السوداء، تستفسر منها بقلق.
)هل عاد شيء مما كان الى بيتكم من جديد؟)
توترت المرأة غير راغبة في تأكيد ظنونها فيؤثر ذلك على زيجة أختها، ترد بنبرة شابها بعض التردد.
)والدي يحب تحصين البيت باستمرار... فيبخره بالحبة السوداء أثناء ترتيله لسورة البقرة...)
رسمت الجدة بسمة مجاملة على ثغرها، تدعو لهم بنية خالصة.
)شملكم الله بحفظه ورعايته...)
)آمين .... أين الشاي يا نهيلة!)
هتفت شقيقتها تستعجلها فأسرعت المعنية بحمل الصينية التي جهزتها لتوها. تنفست بقوة مرات عدة، تناظر انعكاسها المرتبك على بلور خزانة المواعين قبل أن تقرر العود إليهما.
................

**مسجد "جامع السلام "**

داخل القاعة الكبيرة حيث الملاذ للعباد، يلوذون به من مشاق حياتهم، يلتمسون فيه راحة البال وجلاء الهموم، يبتهلون إلى الأحد الصمد، يتوجهون إليه بقلوبهم قبل أطرافهم، يلقون عند باب رحمته أعبائهم الثقيلة ومسائلهم المختلفة والمتعددة برجاء لا ينضب وحسن ظن لا يليق سوى بأكرم الأكرمين.
)جزاك الله خيرا يا فقيهنا سالم... أنت خير عون لي...)
هتف الرجل وسط جماعة من الناس منتشرة هنا وهناك، منهم من يتلو القرآن ومن يذكر الله أو واقفا بين يدي الله في انتظار آذان صلاة العصر، قبل أن ينظر نحو محسن المتوسط كالعادة لأصدقائه قرب المحراب، يكمل بلوم متشدق.
)لماذا صعّبت علي الفتوى يا فقيه محسن؟ ... ها هو الفقيه سالم قد شرح لي المسألة ويسرها علي... الرسول عليه الصلاة والسلام أوصى بالتيسير على المسلمين لا التعسير...)
ارتفع حاجب جرير الأيسر بدهشة متعجبة وهو العالم بمسألة ذلك الرجل حاله حال أغلب أصدقائهما المنصتين بصمت لرد محسن الهادئ كالعادة.
)أجبتك بما وفقني ربي إليه.... والفقيه سالم أجابك بما وفقه الله إليه .. وأنت حر في اختيار من تريد الأخذ بفتواه...)
صمت الرجل يعبس بتفكير ضائق وسالم يمرر خرزات السبحة بين أصابعه بينما يراقب بحذر الرجل الذي قرر ما ينفعه حين عاد إلى سالم، يطلب منه بتملق سمج.
)هلا شرّفتني بقبول دعوتي الليلة إلى بيتي لتناول العشاء؟ .... سأكون سعيدا إن زرت بيتي لتلاوة القرآن... فتحل البركة بين جدرانه...)
ابتسم الرجل بحبور نافخا أوداجه، يرد بأنفة.
)وهل لمثلك ترد دعوة؟... سآتي بإذن الله.... هل سيحضر نسيبك نائب رئيس البلدية المؤقت؟)
هز الرجل رأسه هو الآخر بفخر، يرد بنبرة عالية بعض الشيء.
)أجل سيحضر... ولقد تحدث عنك وعن سمعتك الجيدة بين الناس... وأن اسمك يتداول بين المسؤولين مؤخرا وبكثرة... هل هناك شيء ما تخفيه عنا يا فقيه؟... أخبرنا وسندعو لك بالتوفيق والسداد...)
صدرُ سالم في انتفاخ متواصل، ملامحه المدعية للتواضع تطرف بنظرات خاطفة نحو محسن بينما يجيبه بنفس نبرته المرتفعة نوعا ما.
)لم أفهم الى ماذا ترنو إليه... لكن خير... بعون الله خير...)
نطق مؤنس من بين فكيه المطبقين حنقا.
)ليسكته أحدكم قبل ان أفعل أنا...)
رفع جرير حاجبه مهددا.
)ستجلس مكانك ولا تفضحنا... هذا بيت الله وإن فقد غيرنا تعظيم حرمته فنحن نقدسها...)
ابتسم محسن بإعجاب فتدخل بهيج، يعقب بحيرة.
)لكن فتوى ذلك الرجل خاطئة يا محسن... كيف تسمح له؟)
التفّت حوله النظرات بترقب لرده الذي لم يتأخر، بسمته لا تغادر ثغره المتحرك طوال الوقت بذكر خالقه.
)الرجل قد جاءني أولا... فسّرت له جميع جوانب ما سألني عنه... كونه ذهب لغيري وصدّقه لا شأن لي به... ما وجب علي من نصيحة وتعليم قدمتهما له مخلصا لرب رحيم... والرجل يتحمل مسؤولية خياره كما يتحمل الفقيه الذي أفتاه مسؤولية فتواه ومن عمل بها... هل سأجادل سالم فيما يعرفه جيدا؟ ... فلقد تعلمناه من نفس المعلم ونفس المكان... ونيته لا يعلمها سوى الله... أعلم أنكم تتساءلون عن سر صمتي أمام تجاوزات يلاحظها الصغير قبل الكبير... لكن في الحقيقة أنا لم أصمت... بل ألقي دروسا وخُطبا كل يوم..... فلا يليق الرد كجدال كرّهه الرسول صلى الله عليه وسلم بل ووعد عباد الله ببيت في ربض الجنة لمن ترك الجدال ولو كان محقا... وبالتأكيد لن أتشاجر مع فقيه دين درس مثلي علم الشرع وتحمل مسؤولية العمل به وتعليمه للناس!.... فمن أنا لأظن بكوني أفضل منه أو أعلم منه؟.... ما أتيقن بأنه خطأ أنشر حقيقته بين الناس... غير ذلك الله هو المحاسب...)
صمت قليلا ثم استرسل بحزن، رأسه مرتفع قليلا وجفنيه مسدلين.
)الجدال والشجار بين فقهاء الدين وعلمائه لا يجر علينا سوى الويلات والوبال ... بسبب ذلك فقد الناس احترامهم لأعلام الدين فتاه الشباب عن طريقهم المستقيم ... من يفترض بنا احترامهم لا أقصد تمجيدهم فلا يُمجد إلا الله... لكن يجب أن نحترم كل كبير سواء في السن أو العلم أو المقام... والله ورسوله صلى الله عليه وسلم نهيا عن الجدال والشجار والغيبة والسب والشتم والسخرية بين الناس فما بالكم بفقهاء الدين! ... لأن ذلك كله يجلب الخراب على الأمة ... وها نحن وصلنا لزمان فقد فيه الناس احترامهم لبعضهم إلا ما رحم ربي... إذا رأيتُ خطئا ما صدر عن فقيه مثلي أو أفضل مني أنصحه سرا ... تقبّل ذلك كان بها لم يفعل هو المسؤول أمام خالقه... وأنا عليّ نشر الحق دون المساس بالناس مهما كانت أغلاطهم... فجميعنا نخطئ ... والله الحيي الستير....)
)قلبك الطيب يا محسن سيجلطني يوما ما...)
كان ذلك رد مؤنس لكن على غير عادته لم يكن ساخرا فهزوا رؤوسهم بيأس سوى نبيه الناظر الى يوسف بشرود، يستعيد حوارهما ذلك اليوم بعد أن انتهى الهرج والمرج داخل المركز بسبب فعلة تلك المرأة المجرمة.
لن ينسى أبدا إحساسه حين انتزع من سهوه ذلك اليوم يتأمل ساكنة قلبه الثائر بين ضلوعه على ركض الناس يتدافعون ليلجوا المركز فلم يستدر نحو أصدقائه حتى وجدهم يركضون أيضا آخرهم فواز الذي أشار له بأن يمسك يد محسن ويبقيا مكانها.
احتدت أنفاسه حينها واستنفرت حواسه مع ترجل الفتاتين من السيارة تتسللان بين الحشود فعبس بغم كاد يؤدي بعقله وكلما هم بالركض خلفهما تذكر ذراع محسن فينظر إليه ليلجمه القلق البالغ والمرتسم على وجهه بقلة حيلة مثيرة للرأفة.
والله أعلم بما ألم بصدره من مشقة حتى عاد فواز وبهيج ليقُصا عليهما ما حدث أو ما الذي كان سيحدث من جريمة قتل أخرى كاد يوسف أن يكون ضحيتها لولا رحمة الله ثم ابن عمه الحذر والذي تدخل في الوقت المناسب ليقبض على رسغ تلك المرأة وينزع منها شفرة حادة كانت تنوي نحر عنقه بها.
حينها شعر بجسده ينتفض صدمة ورعب على حياة صديقه وأضحى يتمنى حقا مغادرته الى الغربة ليبتعد عن أي خطر يحوم حوله ولم يتردد في إبلاغه بأمنيته تلك مساءا وهما مجتمعين في رحبة المسجد فانزوى به يوسف مستغربا وهو الذي كان دائما يلومه على رحيله وغيابه المستمر ليزداد يقينه من مدى حب أصدقائه له.
رمقه بتأثر ثم أخبره بما كان يريد أن يبلغه به منذ أول يوم اعترف له بمشاعره نحو شقيقته لكن الظروف لم تساعده.
**ركز وافهم ما سأقوله لك... لو كنت طلبت أختي للزواج... لم أكن أبدا لأمانع... أنت تعرفني جيدا... بالنسبة لي نبيه هو صديقي المقرب والذي أحبه كما أحب أهلي ... نبيه بالنسبة لي رجل محترم وصالح ... أمين وفي وصادق... ومثل هذه الأوصاف التي أتمناها في من سيتزوجان بشقيقتاي... كي يطمئن بالي عليهما.. لذا حبا بك وبها... طلبت منها أن تمنح نفسها وقتا للتفكير والتأكد من مشاعرها... سنة أو سنتين... ليس بسبب الحمق الذي تظنه ولن أخوض فيه ... لكنه نفس الشي الذي كنتُ لأطلبه منها كائنا من كان العريس.... وها أنا ذا أطلب منك أنت الآخر... فكر جيدا وامنح نفسك الوقت.. سنة سنتين الى أن تنضج أختي أكثر... وان تأكدتما من مشاعركما.. أنا ليس لدي أي مانع... بل سأكون سعيدا جدا بنسبك يا صديقي...)
لحظات رُدت إليه فيها روحه لتنعش صدره بعد أن ضاق بها وبخافقه المغتم، لم يقدر سوى على التبسم ببهجة غمرت أحشائه حتى فاضت به فضم صديقه إليه بحب وعرفان تضخم به قلبه ولكم ساعده موقف صديقه باستعادة هدوئه ورزانته، ليستوعب حديثه كاملا ويقتنع به، فساكنة قلبه فعلا صغيرة ويجب أن يمنحها وقتا طويلا لتنضج وترى إن كانت حقا ستبادله مشاعره الفياضة.
)هل ستأتي يا فقيه محسن؟ ...)
أجفل نبيه على الرجل الذي استقام قبالتهم يُهل عليهم بوقفته الفخورة قبل أن ينظر الى شفتي محسن الباسمتين بلطف، تتحركان برد واضح وبسيط.
)البركة في الفقيه سالم... سامحني يا حاج.. لا أقوى على السهر...بارك الله فيك...)
غمغم الرجل برد مقتضب، ملامحه تفضح رضاه عن رفض محسن فتدخل مؤنس بتهكمه المعهود.
)هل ترفض ما لذ وطاب من الولائم يا فقيه؟.... سيحسبونك مجنونا ويغلقون عليك خلف أسوار مشفى المجانين....)
ضحك محسن بهدوء ثم رد عليه بمرح.
)إن شاء الله في حفل عرسك يا صاحبي...سنتناول ما لذ وطاب.... العقبى للبقية بإذن الله...)
بمزاج رائق تحدث مؤنس بينما يربع قدميه ليحرك كفيه كما يشاء بعد أن كان يضم بهما ركبتيه.
)ان شاء الله يا فقيه... ادعي لي بالتوفيق... ولهذا الأشقر بموافقة العروس عليه ...)
ضحكوا وتبسم نبيه، يحذره من التمادي بعينيه فلم يرى محسن وهو يميل على يوسف المجاور له.
)أعلم بأن الظروف غير مناسبة... لكنني ملزم بسؤالك إن كنت لازلت على رغبتك.... لا تسئ فهمي.... سمعت أمي بالأمس تخبر والدي عن صديقة لها تلمح حول شقيقتي وابنها... ولأمنع أي خطبة جديدة يجب أن أتأكد منك أولا!)
آلمه قلبه يشعر به ينقبض بوجعٍ دفع بلسانه ليؤكد أمرا كان قد قرر سابقا تأجيله إلى موعد غير محدد، ينشد السلام الروحي لنفسه، القرار الحازم لحيرته لكن مجرد ظن بفقدانها هز جميع قناعاته وأفكاره.
قد يكون غير متأكد من خطوة الزواج بعد وغير متأكد من قرار العودة الى الغربة برفقة أسرته أو العكس، البقاء في وادي الحقول! ... لكن شيئا واحدا تأكد منه حالا أنه ليس مستعدا لفقدانها أبدا ومهما كلفه الأمر!
)بالتأكيد يا محسن... لكن أنت أعلم بالظروف...)
قاطعه محسن بنبرة مطمئنة، مهادنة نشرت السرور عبر ظلمة أحشائه فأزهرت بنور وضّاح، جددت آماله في مستقبل مشرق.
)أعلم يا صاحبي... لا تقلق وأبشر...)
........
يتبع

noor elhuda likes this.


التعديل الأخير تم بواسطة **منى لطيفي (نصر الدين )** ; 20-04-20 الساعة 12:57 AM
**منى لطيفي (نصر الدين )** غير متواجد حالياً  
التوقيع
لاإله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
رد مع اقتباس
قديم 31-03-20, 07:16 AM   #1046

**منى لطيفي (نصر الدين )**

مشرفةوكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وبطلة اتقابلنا فين ؟

 
الصورة الرمزية **منى لطيفي (نصر الدين )**

? العضوٌ??? » 375200
?  التسِجيلٌ » Jun 2016
? مشَارَ?اتْي » 4,633
?  نُقآطِيْ » **منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute
افتراضي

**منزل أهل نبيه**

انتهت الزيارة على خير ورافقتا الجدة جوهرة إلى الباب تودعانها بكلمات مجاملة وقبل أن تغلق نهيلة الباب لتتنفس الصعداء ظهر وجه سلا المتشنج بخجل وتردد.
)مرحبا يا سلا.... كيف حالك عزيزتي؟)
كانت تلك شقيقتها، ترحب بها بينما تدفعها بخفة لتدخل، مستدركة ببسمة مبتهجة.
)سأطل على بيتي يا نهيلة .. حين يعود والدي كلميني ... السلام عليكم ...)
رمشت نهيلة حين أغلقت أختها الباب ثم التفتت الى التي تسمرت مكانها تحاول التحدث بعد أن غابت عنها لأيام كثيرة لم تتوصلا فيه ولا لمرة واحدة كل منهما تنأى بنفسها عن الأخرى، تفكر في ما يؤرقها.
)أنا... لقد... كنت...)
وفجأة انقضت عليها نهيلة توجهها نحو الأريكتين في صحن الدار، تهتف بحماس متوتر.
)تعالي لأخبرك بالذي حدث.... بهيج أهداني من فضة والدته... وكتب لي كلمات غريبة ... وجدته اليوم جاءت لتخطبني له... قلبي سينفجر يا سلا... لقد منحتها موافقة مبدئية ... بل لساني الذي تحرك بدون إذن مني ووافق... أنا لا أحب الألوان أعشق لون الفضة....رمادي يعني أسود وأبيض أكره غيرهما...)
لاحظت بسمة سلا المتأملة فصمتت قبل أن تستفسر بريبة.
(هل تسخرين مني؟)
سارعت سلا، ترد بنفي.
)لا!!... أنا فقط مستغربة … ومندهشة... لم يسبق لك أن لمحت لبهيج أو أي شيء يخصه...)
لوحت نهيلة بكفيها عابسة بحنق.
)ألم تسمعيني؟... شعره أصفر وعينيه زرقاوين... إنه فخور يضوي ... تحوم حوله الفتيات الجميلات...)
غمزتها سلا، تعقب بمرح أنساها حرجها وتوترها السابق.
)لكنه اختارك أنت يا جميل... وأهداك من فضة والدته...)
زمت نهيلة شفتيها كما كتفت ذارعيها، تقول بتحذير.
)أشم رائحة السخرية من كلامك يا ابنة آل عيسى...)
بللت شفتيها دون أن تفقد بسمتها، ترد بينما تمسد ركبتها اليمنى فوق قماش الجينز الأسود.
)فقط أقر بما هو واقع... لقد اختارك أنت من بين الفتيات الجميلات.... وكونه يهديك من مجوهرات والدته فهو بالتأكيد يحبك بصدق... )
غامت مقلتا نهيلة بتفكير شارد وسلا تكمل بنبرة عادية.
)لا ألتقي ببهيج كثيرا مؤخرا… والمرتين التين مررت فيهما بمحله لم ألمحه في قسم العرض فتوقعت وجوده في مشغله... الشباب يمرون بمرحلة اللهو ثم يستقرون بعد ذلك ...)
همست نهيلة بوجوم غمرها حين تذكرت ماضيه وملاحقة الفتيات له.
)لقد كان يسايرهن ولا يرد واحدة منهم... وليتهن من الإنس فقط...)
)ماذا قلت؟... لم أسمعك...)
)ها!)
رفت بجفنيها ترد ببلاهة قبل أن تستطرد مغيرة الموضوع بعد أن انتبهت الى ما تفوهت به.
)دعك مني الآن وأخبريني قرارك بخصوصك وأخي؟)
تنهدت سلا بفتور، ترخي ظهرها على مسند الأريكة، ترد بحزن.
)فكرت جيدا وقررت العمل بنصيحة أخي...)
رمقتها نهيلة بحيرة تنتظر تتمة حديثها.
)سأمنح نفسي وقتا لأتجاوز محنتي...)
رفعت كفها، تكمل بتفسير لما تفكر فيه.
)لست مترددة بسبب وضع شقيقك كما تحسبان كلاكما... بل بسبب محنتي... لا أريد لأي تشوش أن يصيب أفكاري بتلجلج وحين أقرر إن شاء الله سأكون قد استوعبت ما حدث... وأصبحت أكثر هدوءا ويقينا من قراري ... لذا اقترح أخي نفس الشيء على أخيك ووافق....)
هزت رأسها، تعقب.
)حسنا لقد استعاد أخي هدوئه واتزانه منذ عودتكم لذا فكرت أن لأخيك علاقة بذلك.... لا بأس!... نصيحة أخيك صائبة... أسال الله أن يوفقكما لما هو فيه صلاح لكما...)
أمّنت سلا برجاء صادق ثم تبسمت بمكر تسألها.
)أخبريني بالتفاصيل... متى أحببته؟)
فعادت لعبوسها الطفولي، تجيب بحنق وهي تكتف ذراعيها.
)لا أحبه!)
ارتفعا حاجبي سلا، تتساءل بذهول.
)وكيف توافقين عليه وأنت لا تحبينه؟)
تركت نهيلة الأريكة المقابلة لتجاورها، تلتصق بها وتشرح لها بنبرة هامسة ونظرات وجلة.
)لا أعلم كيف؟... كل ما يخصه من تفاصيل تثير حنقي لكنها تشغل عقلي طوال الوقت... أكره ألوانه الملفتة للنظر لكنها مسجلة هنا كصور يعرضها علي عقلي كل لحظة يعذبني بها...)
كانت قد أشارت لعقلها ثم لقلبها وهي تكمل أمام نظرات سلا المصدومة وفمها المفتوح رغم البسمة المرحة المتألقة عليه.
)فيستجيب له قلبي الغبي بدقات مسرعة تتعبني وتجعلني ألهث من التعب... لا أفهم حقا ماذا بي؟... وكله بسببه ذلك الفخور بنفسه...)
تحدثت سلا تقول من بين ضحكاتها المتقطعة.
)يا إلهي! أنت مغرمة يا نهيلة!...)
ضيقت المعنية عينيها بشك فأومأت سلا مؤكدة.
)بلى.. أنت تحبينه… تحبين بهيج يا نهيلة! .. ما يحدث معك هو الحب...)
مسحت على شفتيها بلسانها، تجيب بينما تقطب جبينها برفض.
)لكنني أكره الألوان...)
لازالت سلا تضحك بينما تخبرها بحقيقة مشاعرها.
)أنت تكرهين وسامته لأنها تجذب إليه العيون المعجبة ...أما هو فتحبين تفاصيله يا نهيلة!.. لذا تملأ خيالك وتؤرق قلبك...)
)ليس وسيما لتلك الدرجة!)
هتفت بسخرية ممتعضة.
)بل وسيم يا نهيلة!)
ردت سلا ثم عضت شفتها السفلى بمكر من الغيرة التي نضحت بها مقلتي صديقتها، تسألها بحاجب مرفوع.
)وسيم ها؟... )
هزت سلا رأسها تكتم ضحكة إن انفجرت من صميم جوفها لن تتوقف أبدا وستزيد من غضب التي هزت كتفيها تقر بتبرم.
)حسنا انه وسيم... فخور يضوي ... وأنا على ما يبدو أحبه و ليكن الله في عوني .. )
لم تفلح في تمالك نفسها أكثر وانفجرت ضاحكة أمام نظرات نهيلة الحانقة ونظرات شقيقها الذي انحسرت قدميه على عتبة المدخل يراقبها بانبهار لم يستطع إخفائه.
انحسرت ضحكتها ما إن لمحت طيفه فأدارت نهيلة رأسها إليه لتغيم مقلتيها بإشفاق تدعو الله أن يحظى بأمنيته الوحيدة فلم يسبق لها أن شهدت رغبة أخيها في شيء خلال سنوات حياتها الماضية، لطالما كان كتوما في كل تعابيره، باردا في انطوائه على نفسه عكس ما تراه الآن من حياة تنتعش به أوردته فتلمع به صفحتي عينيه الفاضحتين لمدى عشقه لتلك الفتاة.
نهضت تنوي ادعاء أي مبرر لتمنحهما فرصة الحديث لكن سلا قامت هي الأخرى، تسبقها بالقول المرتبك.
)نهيلة!... جئت لكي أودعك فأنا راحلة الليلة...)
)حقا!)
هتفت نهيلة بإجفال ما لبثت أن طردته ففي النهاية الفتاة يجب أن تعود لدراستها.
)يجب أن أعود لدراستي قبل امتحانات النصف الأول من السنة... )
هزت نهيلة رأسها بتفهم والوجوم يتسلل إلى صدرها، مؤازرة مع شقيقها الذي نظرت إليه، ترميه بعطف وإشفاق من بسمته الهادئة، تظنه لا يعلم برحيلها.
)حسنا!... انتظري سأجلب لك ما وعدتك به!)
هزت سلا رأسها واللون الأحمر يغطي صفحة وجهها الصغير واستدارت نحو المتسمر مكانه، ترمقه بارتباك أنعش صدره فلم يتحرك عن جموده فقط يكتفي بتأملها قدر ما تمنحه الفرصة فقد ارتاح ضميره الآن بعد أن صرح بما يكنه لها لأخيها ولم يعد يشعر بالخزي والخجل من نفسه كلما جذبته إليها دون وعيه.
*سأرحل الليلة!*
حركت كفيها المرتعشتين بينما خافقها الذي يؤكد مشاعرها يكاد يتوقف من فرط سرعته.
*أعلم!*
ارتد رأسها بتفهم ودست كفيها داخل جيبي سترتها المبطنة، تراقب بقية حركاته، يرمقها باحتواء حان ومتفهم.
*لم يسبق لي أن أخبرتك بصفة مباشرة... لكن هذه الفرصة اعتبرها إشارة من الله... لذا سأخبرك بما لدي بعدها ستكون لك كامل الحرية في اتخاذ قرارك...*
ازدردت ريقها، تعتصر كفيها المستورين عنه حتى ابيضا من شدة توترها تحت أنظاره المحتضنة لها برقة تذهلها وفي نفس الوقت تؤثر على رزانة تفكيرها.
*أنا أحبك...*
تلكأ قليلا على إشارة تعني الكلمة حيث بسط راحة كفه قبالتها وضم الإصبعين الوسطى والبنصر، يبتسم باستمتاع غريب عليه ثم أعاد الحركات المشكلة لتعبيره الصادق وكأنه يتذوق ثم يستلذ بقولها.
*أنا أحبك وأرغب بالزواج منك.... الوقت الذي أقترح علي يوسف منحه لنفسي لم أوافق عليه من أجلي... مشاعري صادقة وأنا واثق منها كما لم أفعل من قبل في حياتي... لكنني وافقت بل ورحبت بالاقتراح من أجلك... فلم أكن أحلم من قبل حتى بالأمل في مستقبل قد يجمعنا...*
لمحت الألم يشوه معالم حبه لها على ملامحه فأسرعت تسحب كفيها من مخبأيهما.
*لا تفكر في ذلك... لأنه خطأ... أحتاج للوقت لأنضج أكثر وأستوعب محنتي ... وعلى الأقل أنهي سنتي الجامعية الأولى.... ربما بعدها نكتفي بخطبة حتى أنهي باقي السنتين... لا أعلم!... لكن لا تفكر أنك أقل مني أو تلك الترهات...*
لم تعي بأن كلماتها تعبر عن موافقة مبدئية وتعد تصريحا خجولا عن حبها له سوى حين التقطت لمعة عينيه وتأهب جسده فتراجعت خطوة، تنكمش على نفسها خجلا.
*كوني بخير ولا تشغلي بالك بأي شيء آخر.... أنا أحبك وسأنتظر قرارك طيلة ما تبقى من حياتي... حتى وإن لم تكوني لي... سأظل أنتظر ....*
التوت قسماتها بألم انبثق من صميم يأس قلبه لينتقل إليها معتصرا قلبها العاشق له ولكل ما يصدر عنه، يخصه بها.
)آسفة... تأخرت!)
عادت نهيلة بحقيبة يد محلية الصنع وقدمتها لها، تخبرها بوجوم استولى عليها رغم البسمة على ثغرها الزهري.
)وضعت لك فيها بعض منتوجات البلدة... قناني زيوت صغيرة أحكمت إغلاقها جيدا ....لابأس إن وضعتها بين ملابسك...)
ألقت بحزام الحقيبة على كتفها ثم ضمتها فتمسكت بها نهيلة، تستدرك بنبرة متحشرجة.
)لا تغيبي عني كما فعلت الأيام الماضية... هاتفيني حين تصلين بالسلامة... صوة وصورة... اعتني بنفسك جيدا...)
دمعت عيناهما فمسحت سلا خاصتها، تبتسم بألم.
)ان شاء الله... وأنت أيضا... اعتني بنفسك... وإن أردت حضوري لحفل عرسك أجلوه الى العطلة الصيفية ... )
عبست، تزم شفتيها بالحنق الطفولي المصاحب دائما لأي ذكرى تخص بهيج.
)رغما عنه سيوافق وإلا فليحمل ألوانه المضوية ويبحث عن فتاة أخرى....)
قطب نبيه بحيرة وهما تخفيان عنه شفتيهما كي لا يفهم ما يقال بينهما.
)لا تقولي ذلك يا فتاة.. أنت مغرمة به وستتألمين لو ذهب لأخرى غيرك...)
تبرمت بملامحها استهجانا فضحكت سلا مما أذهل نبيه من تحولها السريع بين الحزن والمرح لكنهما لم تمنحانه الفرصة ليفهم، استدارت إليه وأشارت له بتحية مرتبكة خجولة ثم همت بالرحيل وقبل أن تتجاوز الباب لوت عنقها بخفة لتنظر إليه مرة أخرى فلمحته ينزع الوشاح الصوفي الأخضر الذي يلفه حول عنقه في فصل الشتاء دوما، ليعطيه لها مشيرا الى فتحة عنق معطفها المفتوحة.
(احتفظي به يا سلا ... إنه من صنع يدي أمي رحمها الله... وهو غالي على قلبه جدا...)
دمعت عيناها بتأثر بليغ، ورفعت الوشاح تلفه حول عنقها ثم دست أنفها به تشتم شذى عطره الخاص، غافلة عن ما فعلته به حركتها تلك مما دفع به ليستدير مغادرا بخطوات واسعة، يلوذ بغرفته.
ضحكت نهيلة، تستدرك بمرح متناقض مع الدموع المنهمرة على خديها المكتنزين.
)شبابنا يقدسون أمهاتهم... الآن تأكدت من أن الفخور صاحب المصابيح الملونة يحبني بصدق....)
(كم عدد الألقاب التي تنعتين به المسكين يا نهيلة؟... احترميه قليلا...)
ضمت نهيلة شفتيها بعبوس تحركهما الى كلا الجانبين ثم حثتها على الخروج، تدعي طردها وتأنيبها.
)المسكين!... الفخور مسكين!... نستغفر الله يا أختي... هيا في أمان الله... )
هزت رأسها يأسا وتقدمت خطوات قبل أن تتوقف حين نادتها جوار الباب الخارجي.
)سلا!)
استدارت إليها فقبلت راحة كفها قبل تنفخ فوقها، تكمل بحزن.
)استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه...)
أمّنت بخفوت ورفعت راحة كفها ترسل لها قبلتها هي الأخرى ثم غادرت تجر أذيال كئابتها، تشعر بقلبها يتخلى عنها ولم تجد بدا من تركه هناك رهينا لديه، يسألها العهد فتمنحه الوعد، الوعد بالعودة، بالوفاء، بالحب.
…………..

**ليلا .... المطار...**

يضم كتفيه بحزم حان، محاصرا مقلتيه بخاصته، يرجوه الطاعة فلولا مصلحة صغيرتيه ما تركه خلفه أبدا وبعد ما حدث أضحى فراقهما كطعنة مخلب سام ينهش قلبه بشراسة بين ضلوعه، يتلظى بعذاب الفقدان.
)اعتني بنفسك ولا تتأخر عنا...)
رفع احدى كفيه الى جانب وجهه يربت عليه بحنو بينما يكمل وصاياه.
)تحدث مع الفقيه عبد العليم... واتفق معهم على العطلة الصيفية.. حينها نستطيع إن شاء الله العودة جميعا.... أطمئن على أسرة خال والدتك ثم عد إلينا... )
لمح التردد على وجه ابنه فاستدرك بحنو.
)لفترة حتى أطمئن عليك... نظم أيامك بين هنا وهناك... فعملك أيضا يستوجب زيارة مكتبك من حين لآخر... تمر الأيام بإذن الله... ولكل حادث حديث...)
ابتسم له أخيرا بامتنان ثم قال وهو يضم كف والده المحتضن لجانب وجهه.
)إن شاء الله... اعتني بهما... لا تلتهي بعملك عنهما من فضلك...)
سقط ذراعاه الى جانبيه وقد اسود وجهه بهَم وغم، تؤلمه الذكريات وشيطانه لا يذكره سوى بما ساء منها.
أنب يوسف نفسه بينما يقبض على كفيه، يشد عليهما بحرارة.
)لقد كنت لنا دائما نعم الأب يا والدي...)
رمقه بعدم يقين فهز رأسه مؤكدا على قوله.
)بلى يا أبي... وما قصدته بطلبي أنهما الآن في حاجة مضاعفة إليك وإلى مراعاتك... فهمتني؟)
ارتخت ملامحه ببعض الراحة وضمه مرة أخرى قبل أن يستدير سامحا لصغيرتيه لتتأبطا ذراعيه، مغادرين نحو قاعة الانتظار الخاصة برحلتهم.
شيعهم يوسف بنظرات حزينة لا تخلو من القلق ثم لوح لهم حين استداروا إليه قبل أن يعبروا عتبة الغرفة.
تنهد بفتور وعاد أدراجه حيث ينتظره جرير الذي تطوع لتوصيلهم إلى المطار، رأسه يضج بأفكار كثيرة من بينها وشاح صديقه الأخضر المطوق لعنق شقيقته.
……………

**بعد يومين**
** منزل أهل فواز**

حملت الصينية وألقت نظرة خاطفة نحو ساعة المطبخ قبل أن تغادره نحو غرفة الجلوس حيث بادرتها حماتها المستلقية تجاورها أختها.
(اذهبي يا حفيظة... حتى لا تتأخري مساء...)
وضعت الصينية على المائدة قرب صحن الحلوى فتدخلت خالة زوجها، تقول ببشاشة.
(بهيج أيضا سيتزوج...)
نظرت إليها حفيظة بدهشة فرحة فضحكت الأخرى، تكمل بمرح.
(الخالة جوهرة زارتنا أول أمس وبلغت زوجي باختيار حفيدها ... وأنها ستزور بيت أهل العروس كي تتأكد من موافقتها قبل تحديد موعد لخطبة رسمية.... أحزرا من تكون؟)
(من تكون يا خالتي؟)
تلاعبت بحاجبيها قبل ان تتفاجأ بأختها، ترد بثقة.
(نهيلة...)
(هل أخبرك فواز؟)
سألتها شقيقتها فردت الحاجة بعبوس طفيف.
(ليس من شيمه التحدث فيما يخص أسرار أصدقائه أو غيرهم ... لاحظت ذلك من اهتمام الحاجة جوهرة بالفتاة أثناء عزاء الخواجي...)
ضحكت حفيظة ببهجة لاتزال على استغرابها من اختيار بهيج.
(هيا يا حفيظة ولا تتأخري!)
هزت رأسها تعقب بينما تهم بالمغادرة.
(سأحاول ذلك... لأن زينة اعتذرت بسبب الحمى التي أصابت والدتها... وتقوى تعبة بسبب الحمل... لذا لم يبقى سواي وصفاء لنشرف على نساء الجمعية كي نوجههن لما نريده في العرس من حلوى وأقمشة مطرزة... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته)
انصرفت بينما تدس نفسها داخل معطفها الطويل وتغلق أزراره فقالت خالة زوجها موجهة الحديث لشقيقتها.
(كنت أظن أنها ستعلم من والدتها... ألن تضعوا حدا لهذه المقاطعة يا أختي؟... لم أعهدك بهذه القسوة!)
رمتها بنظرات محذرة بينما تمرر حبات السبحة بين أصابعها، تذكر الله فتنهدت الأخرى لا تستسلم.
(لا تصدقي الشائعات يا أختي... ليست سحارة كما يقال... وها أنت ترين ابنتها نعم الكنة... بسيطة ومطيعة... يسعدها القليل فقط ...)
لولا ذلك ما كانت قبلت بها في بيتها مهما حدث، فكرت الحاجة تعترف لنفسها بصلاح الفتاة وطيبتها حتى أنها تعودت عليها وبدأت تحبها كبناتها وترجو الله لها ولولدها الذرية الصالحة في القريب العاجل.
(على عكس تلك القاتلتين!... الحمد الله أنهما لطالما كانتا بعيدتين عن العائلة ... لولا ذلك لتأثرت سمعتنا بسببهما ... أحمد الله أن والدتهما أخذتهما إلى المدينة بعد اختفاء زوجها... مع أن زواج رواند من الخواجي أعادها الى البلدة... لكن زوجي أبدا لم يتقبلهما يوما ولقد كان محقا.... )
(أستغفر الله ... أستغفر الله... اشربي الشاي واسكتي يا أختي!... أجرنا الله من كل سوء وشملنا بستره...)
مططت شفتيها بتبرم ثم انشغلت بصب الشاي بينما الحاجة تتساءل إن كانت صفية ستسمح لنوال بدخول بيتها مجددا أم سترفض كما تناقلت بعض النسوة فيما بينهن من ملاحظات استغربنها، منها القطيعة الغير معلنة بين الجارتين والقريبتين والمعروفتين بصحبتهما الحميمية سابقا، نوال وصفية.
................
**منزل زينة**

تتوالى الدموع على وجنتيها دون توقف كما لا تتوقف كفيها عن فحص جسد والدتها الراقد بسكون غريب، والدها يبحلق بصدمة مشفقة، يشعر بما يحدث ولا يستطيع التحدث فيؤكد لها مخاوفها ليكتفي بالصمت، يفعل ما يبرع به منذ أن أصاب العجز جسده العليل، يراقب وفقط!
)أمي... ردي علي!... ما بك؟... يا إلهي! لم لا يرد علي أحد!)
ألقت بالهاتف على الأرض بعد أن يئست من رد أحد أبناء عمومتها وهرولت لتلتقط عباءة تندس داخلها وتلف طرحتها حول رأسها كيفما اتفق بينما لسانها يبرطم بكلمات غير مترابطة.
)أبي... أمي... سأرى من في بيت عمي... أو جرير.. لنجلب الطبيب.. أو المشفى... سأعود حالا!)
ركضت تسابق أنفاسها اللاهثة وحين ظل لوحده مع رفيقة دربه وشريكة حياته، بسط كفه ليلمس جانب وجهها الشاحب، يهمس بنبرة باكية وقد سمح أخيرا لدموعه بأن تتحرر من سجنها.
)لماذا تركتني يا حبيبتي!... ألم نتفق على الرحيل سوية؟... كيف تفعلينها وتتركيني لحالي أتعذب لفراقك... صغيرتنا أكثر حاجة إليك مني... افتحي عينيك يا رفيقة دربي... لا تتركيها مع رجل عاجز لن يفيدها بشيء... يا الله!... رحمتك يا الله!)
أما هي فقد أسرعت لبيت عمها حين لم يجبها أحد في بيت جرير، تضرب بابها الخارجي ولا يقابلها سوى الصمت فتتساءل إن كانت زوجة عمها عند احدى بناتها.
)السلام عليكم....)
انتفضت تستدير فتوترت متراجعة خطوة الى الخلف، عينيها تزيغان بخوف وتيه صعّد من شعور الريبة الذي اعتراه حين لمحها من سيارته تعدو نحو بيت عمها فتوقف يغلبه فضوله وقلقه حيال حالتها المريبة تلك.
)هل أنت بخير؟)
نظرت خلفه الى السيارة فتمالكت نفسها وبلعت ريقها تهتف برجاء.
)من فضلك ساعدني ... لا أعلم ما بها والدتي... وكما ترى لم أجد أحدا من عائلتي... أنا..)
تمسك بطرفي العباءة، تشد عليهما بقوة فرفع كفيه يحاول تهدئتها.
)هل أحضر طبيا أم ننقلها الى المشفى؟)
حركت رأسها بلا معنى، تفكر في عجز والدتها فردت عليه.
)نحضر الطبيب أولا... لنذهب إلى المركز...)
)لا داعي لقدومك... ظلي جوارها وسأحضر الطبيب...)
رمقته بنظرات ضائعة غير متأكدة فأعاد حديثه مجددا وبحزم.
)اعتني بها وأنا سأحضر الطبيب بسرعة... هيا!)
(حسنا حسنا!...أنت محق...لا تتأخر من فضلك...)
قفزت تركض مجددا نحو بيت أهلها كما أسرع هشام الى سيارته متوجها الى المركز بينما لا يكف عن طلب رقم أبناء عمومتها.
وجهها المتشنج، عينيها الضائعتين لا تغادران خياله المثار كعاصفة رملية مفاجئة.

**في نفس اللحظات.... شارع السلام**

**محل بهيج**
رفع الستارة وتجاوزها الى قسم العرض، يمسح يديه بمنشفة، مقررا الاستراحة قليلا قبل أن يجهز نفسه لصلاة العصر.
تعبيران لا يفارقان ملامحه في شجار دائم لمن له الغلبة، أحدهما حين يتذكر فعلة ابنتي عمه فيزداد خجلا وخزيا غير قادر بعد على مواجهة يوسف بحوار صريح ومباشر على ما حدث فيلهج قلبه بالحمد والشكر أن هداه الله إلى التوبة وأنقذه من هاوية مآلها الجحيم سواء في الدنيا أو الآخرة والأمر الآخر والمناقض كليا موافقة نهيلة على الزواج به، موافقة مبدئية بلغت بها جدته تَم على إثرها تحديد موعد لخطبة رسمية.
شعوران متناقضان يتعاقبان عليه كل حين فيعبس بكآبة وغم ثم يبتسم ببلاهة تغمره البهجة والاستبشار والشيء الوحيد المشترك في كلا الحالتين هو حمده وشكره المستمر الله على كرمه ورحمته الواسعة.
وجد نفسه جوار المدخل، يتنفس بعمق متأملا المارة بينما يبتسم بتسلية حين تذكر اختفاءها وغيابها عن المحل، متخيلا لون خديها المكتنزين والذان لابد قد تحولا الآن الى ثمرة طماطم ناضجة.
مال بجانب جسده على حافة المدخل شاردا بنظراته التي توقفت على المرأة التي دخلت محل فواز فأعتدل يزم شفتيه بضيق، يتقدم خطوتين غاضبين قبل أن يلمح طيفا سمّره مكانه ليتأكد من صاحبته.
بلل شفتيه بتوتر ومسد على كنزة عمله الملطخة وفكر بسرعة ليدس كفيه داخل جيبي سرواله الجينز، يدعي الانتظار مبتسما بود.
)مرحبا بابنة العمة التي لم أراها منذ مدة...)
أقبلت عليه باسمة بمرحها السابق، ترد.
)وأنت لم تزرني ولا مرة واحدة ... مع أن زوجي صديقك المقرب... أي منا يستحق اللوم؟)
طعنة تلقاها ضميره الذي يعاني من صحوة قاهرة، لكنه تمالك نفسه، يخبرها بنفس النبرة الودودة بينما يسحب هاتفه من جيب سرواله .
)أنا... غلبتي كالعادة... سأقوم بزيارتك مستقبلا مع عروسي ... ألم تصلك الأخبار بعد؟...)
اتسعت بسمتها تلوح بكفها الصغير في حين تضم الآخر حول خصرها، تجيبه بفرح صادق.
)مبارك عليك... لم أتوقع العروس... لكنها فتاة جيدة...)
قطب بهيج مجيبا بحيرة بعد أن داعب شاشة هاتفه، يشير لها داعيا الى داخل المحل.
)زوجك أخبرني بنفس الشيء ولم أفهم الصراحة... تعالي اشرحي لي قصدكما الذي يبدو أنكما تتشاركانه .... ولأعطيك هدية تأخر موعدها جدا...)
تبعته رغم رفضها، ترمي محل زوجها بنظرة متلهفة توقفت وسط مساحة العرض الصغيرة، ظهرها للمدخل ووجها لمن عاد من خلف الستارة، يحمل صندوقا صغيرا من الفخار ذو بوابة من الفضة المرصعة بأحجار حمراء لامعة.
قدمه لها وعينيه تطرفان كل حين إلى نقطة ما خلفها في الشارع.
)هذه هديتك ... وتفضلي اشرحي لي...)
ضحكت مبهورة بهديتها، تتفقدها بدقة وإعجاب ثم فتحت بوابتها الصغيرة وهي تقول بحبور.
)إنها هدية رائعة يا بهيج... أنت بارع ما شاء الله.... بارك الله لك في صنعة يدك...)
أغلقتها محتفظة بها بين كفيها بحرص، تستطرد.
)قصدي فيما يخص نهيلة... أنك كنت عابثا تلاحقك الجميلات ولا تبخل عليهن بالغزل...)
حافظ بهيج على بسمته الهادئة على عكس ما تموج به أحشائه من رفض واستحقار لما مضى من حياته.
)ونهيلة لا تشبه الفتيات اللواتي كن يلحقن بك دوما...)
بطريقة ما قولها الأخير غير من مزاجه ولمعت مقلتيه بإعجاب بينما يجيبها.
)بالتأكيد ليست مثلهن... ما كانت نهيلة لتلاحق أحدا حتى لو اضطرت لقتل نفسها...)
ضحك بجذل وحب استولى على قسمات وجهه كما خفقات صدره، يكمل أمام نظرات حفيظة المتأرجحة بين الذهول والتأثر .
)لولا قبولها المبدئي الذي بلغتني يه جدتي لتأكدت من كرهها لي.... لكن يبدو أنهم محقين ووالدتي رحمها الله كانت تعشقني وتدعو لي من صميم قلبها بالسعادة.... ثم إن كنت تلمحين بكونها غير جميلة...)
عبس محذرا فرفعت كفها الحرة، تستنكر.
)من قال ذلك؟... نهيلة جميلة بالطبع... ومك..)
كانت ستمزح كما تفعل معه من قبل وباقي شباب العائلة أو زملائها في الدراسة لكنها تداركت نفسها تستغفر وقد تفاجأت من أفكارها كم تغيرت وأضحت تحذرها من الخطوط الحمراء والحدود.
)أقصد أنها جميلة الروح والملامح... بارك الله لكما وعليكما... عن إذنك..)
أضافت بنبرة هادئة فهز رأسه بتفهم وودعها ثم استدار ليغير ملابسه، منتظرا مغادرة حفيظة لمحل زوجها كي ينفرد به قبل آذان صلاة العصر.
…………

**منزل أهل زينة**
رافق الطبيب الى الباب حيث ظهر جرير خلفه مؤنس وبقية أهله، يتوافدون واحدا تلوى الآخر فبادره الأول متسائلا بقلق.
)كيف هي زوجة عمي؟)
تشنجت ملامح هشام، يجيبه وصورتها بين ذراعي والدها تنتحب بحرقة بعد أن أكد لهم الطبيب الأمر المحتوم لا تفارق ذهنه، متجاهلا صدمته بما لاحظه في غرفة النوم بما يؤكد له أنها لا تراعي والديها نهارا فقط لكن ليلا أيضا والسرير المنفرد الإضافي يشهد على ذلك.
لقد كانت صادقة ولم تكن مستعدة للزواج!
منحت حياتها لوالديها بتفان صادق وحب غير مشروط وانهيارها الآن أكبر دليل على عشقها الخالص لوالديها.
)عظم الله أجركم يا جرير...)
مسح المعني على وجهه، يغمغم بحزن.
)إنا لله وإنا إليه راجعون.... اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيرا منها...)
أمسك بذراعه، يستدرك بشكر.
(شكرا لك يا هشام... كنت في الحقل ولم أسمع رنين الهاتف بسبب الجرار... ومؤنس كان في عمله وبقية أبناء عمي أيضا... زوجتي كانت في زيارة لبيت والدها تساعدهم في الاستعدادات للعرس الذي يقترب موعده... وكذلك زوجة عمي مع بناتها كن في المدينة يتسوقن...)
هز هشام رأسه محرجا، يجيب بود.
(لا بأس إنها أقدار... والحمد لله أنني مررت من هنا لأقل صديقي الذي يسكن جواركم... رحم الله الفقيدة... أنا مضطر للرحيل سأعود إن شاء الله لصلاة الجنازة.....عن إذنك)
صافح مؤنس وبقية الرجال وترك البيت الذي عج بالناس، يفر من صوت نحيبها المكتوم وملامحها الغائرة بحزن وصدمة عميقة.
..............

**محل فواز**
ما إن تأكد من رحيل حفيظة حتى أسرع الى صديقه وأغلق الباب خلفه دون أن يدير قفله، يهتف بجفاء.
(ماذا كانت تفعل تلك المرأة عندك يا فواز؟)
أجفل فواز للحظة قبل أن يلوي شفته بسخرية، يجيب.
(آه! لقد نسيت أنك تحولت لشيخٍ صالح...)
ضغط بهيج على شفتيه ونزع سترته الزرقاء يلقي بها على سطح الحاجز الزجاجي، يهتف بغضب.
(كف عن ذلك يا فواز! ... فقط توقف!... أعترف أنني كنت لك صاحب سوء وها أنا ذا أحاول الإصلاح فلمَ أنت هكذا؟)
بسط ذراعيه مشيرا إليه فلوى فواز شفتيه بنفس التهكم المقيت.
(لم يتغير في شيئ وكنت أعجبك سابقا؟... )
زفر بهيج بقنوط ضجر بينما الآخر يكمل من خلف الحاجز الذي يستند عليه بمرفقيه.
(والآن أصبحت تفضلهم علي....)
فغر بهيج شفتيه بذهول قبل أن يقترب منه قائلا باستنكار.
(هل تغار يا فواز؟... يا إلهي !... لقد ظننت أنك نسيت هذا التصرف الطفولي؟... لماذا عدت إليه؟... ما هي مشكلتك معي؟... وما الخطأ في التقرب من بقية صحبتنا.... لطالما كنتَ معهم وأنا بعيد.... لم يسبق لي أن اعترضت!)
تحفز فواز، يجيبه بعبوس.
(بلى كنت تغار... لذلك كنت تلتصق بي طوال الوقت... وعلى عكسك لم أبتعد عنك يوما .. دائما تجدني قربك حين تطلب مني أي شيء....)
وجم بهيج، يعقب بفتور.
(لقد كنتُ ملتصقا بك منذ الصغر إن كنت نسيت يا فواز!... مذ وعيت على نفسي وأنا أصاحبك...ألحق بك إلى أي مكان أتمنى لو أحظى بما لديك... أُمٌّ تعشقك وتفسدك دلالا .. إخوة أكبر منك يحيطون بك من كل جهة... تمنيت ما لديك لكن لم أتمنى أبدا أن تفقده... وكنت أستغرب جدا من غيرتك وانزعاجك حين يختصني أحد بموقف رحيم بدافع الشفقة على اليتيم الذي لم يرى والدته....لكنني سريعا ما نسيت ذلك حين تهت عن طريقي وابتعدت عن الجميع ...)
أطرق برأسه قليلا، يبلع مرارة الخزي ثم استدرك بوجوم.
(حتى أنت حاولتُ الابتعاد عنك...)
(ولم أسمح لك... ألا يخبرك ذلك بشيء؟)
قاطعه فواز بلوم، فرد عليه بضيق.
(ليتك لم تفعل.... ليتك ابتعدتَ عني!... لكن رغم ذلك أجد صعوبة في تصديق حسن نيتك يا فواز!)
ارتد رأسه دهشة وبلع ريقه، يرمقه بريبة وبهيج يضيف بسخرية مريرة.
(لست أبلها يا فواز كما كانوا يلقبونني... وكنت أرى جيدا في عينيك رضى غريب كلما تأكدت من ضياعي وبعدي عن الله... وكأن ذلك يبرر لك زلاتك... ويؤكد لك أن هناك من هو أسوء منك.... مع أنك لم تكن تعرف شيئا عن أكبر ذنوبي.. الذي حتما لم يكن فاحشة الزنى...)
اتسعت مقلتا فواز بإجفال أكثر منه صدمة وكأنه لا يصدق صدور قول مماثل من فم بهيج الذي جعد دقنه بتعبير آسف مخزي.
(ما كنت أتظاهر به من لهو مع الفتيات لم يصل أبدا الى الحد الذي تجاوزته مرات عدة.... كان مجرد استدراج مخزي لك... أمهد لك الطريق وأنت تعبره بكل بساطة .. فلقد كنت مستعدا وفي أغلب الأحيان لم أكن في حاجة إلى منحك الدفعة اللازمة... )
هز كتفيه باستخفاف، يكمل كارها كلما يتفوه به.
(لم أكن أبلها يا صديقي... قد تكون لي نفس أسبابك لتبرير ضياعي لكن الدافع الحقيقي كان....)
ترك فواز الحاجز والتف حوله ليمسك بياقة قميصه، يهزه بغضب.
(ماذا كان؟...أكمل!)
(هل ستصدقني إن أخبرتك؟)
سأله برجاء وملامحه تغيم بهم ثقيل فأرخى يديه عن قميصه يجيبه باستياء.
(تحدث! وأنا سأقرر!)
نظر إلى مقلتيه، يخبره الحقيقة التي يتجاهلها البشر، لاهين لاهثين خلف السراب.
(لأعقد الصفقات مع الشياطين من الجن.. كان لابد من تقديم القرابين ... يطلبون مني وأنا أنفذ ... وأنت كنت تحافظ على صلاة الفجر فيصعب عليهم اللهو بك... لكنك كنت أقرب أصدقائنا إلى الهاوية... إذ أنك تدعي ما لست عليه... وتختلي بحرمات الله فتنتهكها دون حياء من الله...)
(توقف!!)
استدار عنه فواز، يعتصر جفنيه بقوة بينما يقبض على جانبي رأسه بكلا كفيه.
(أنت من سأل فتحمل الجواب!)
صمت فواز قليلا ثم نظر إليه مسقطا ذراعيه إلى جانبيه، يفضي بما آلت به أفكاره.
( استدرجتني بعدها قمت بعقد سحر لي أنت وعمتك لتزوجني حفيظة... أليس كذلك؟)
تأفف بهيج، يجيب برفض.
(لم يعد يهم...)
هم بالابتعاد لكن بهيج أمسك به يهتف بعصبية اهتز لها جسده بجلبابه البني الأنيق.
(بل مهم... أريد تفسيرا لما عشته معها من عذاب... أريد الحقيقة...)
نفضه بهيج، مجيبا بحنق.
(بلى .. لقد دسست لك سحرا في الماء... كما عقدت هي سحرا لتزوجك ابنتها... لكن إياك أن تلومها فهي فتاة طيبة لم تكن تعلم عن أغلب ما تفعله والدتها... وإياك أن تعفي نفسك مما يحدث لك من مصائب... فأنت المسؤول أولا وآخرا.... )
تشنجت ملامح فواز، يستشيط غضبا من التهم التي يتعذب منذ مدة باكتشافها غير مستعد بعد للاعتراف ببشاعته أمام نفسه ولا أمام غيره.
(وما أدراني؟... قد تكون هي الأخرى مثل والدتها ومثلك... ومثل عمك المجرم وابنتيه القاتلتين... ربما لولا تدخلك وعمتك لم أكن لأتزوج منها!... ربما لولا حقارتك معي لكنت اخترت أخرى أحظى معها بعلاقة زوجية طبيعية!... رب....)
انحسرت الكلمات في جوفه مع استدارة جسده ليجدها أمامه تمسك بحافة الباب بعد أن دفعته بروية قبل لحظات وجيزة سمعت فيها آخر حديثهما الذي صعق إدراكها بضربة قاسية لم تتوفق بعد لاستيعابها.
جحظت مقلتاه مبحلقا بصدمة وقد استعاد كلماته القاسية والتي ألقاها بلا حساب ولا تفكير بينما بهيج يقطب بحيرة تحولت إلى ذهول فتجمد هو الآخر مكانه يرجو الله السلامة.
(ن...سيت... حقيبتي....)
عقدت جبينها وارتد راسها الى الخلف وكأنها الآن استوعبت ما قيل فتراجعت دون كلمة إضافية، وانطلقت تعدو دون وعي نحن وجهة غير معلومة.
.............



انتهى الفصل أستغفر الله العظيم لي ولكم.

noor elhuda likes this.


التعديل الأخير تم بواسطة **منى لطيفي (نصر الدين )** ; 20-04-20 الساعة 02:28 AM
**منى لطيفي (نصر الدين )** غير متواجد حالياً  
التوقيع
لاإله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
رد مع اقتباس
قديم 31-03-20, 12:38 PM   #1047

**منى لطيفي (نصر الدين )**

مشرفةوكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وبطلة اتقابلنا فين ؟

 
الصورة الرمزية **منى لطيفي (نصر الدين )**

? العضوٌ??? » 375200
?  التسِجيلٌ » Jun 2016
? مشَارَ?اتْي » 4,633
?  نُقآطِيْ » **منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الرابع والعشرون

الموت لا ينتظر توبتك... تب ثم انتظر الموت... عمر عبد الكافي.


(لله الأمر من قبل ومن بعد... لله الأمر من قبل ومن بعد... أعوذ بالله من الشيطان الرجيم... يلهو بالناس ويوسوس لهم بما ينفعه في خلق الفتن والشحناء والقطيعة بينهم... وللأسف يستجيبون له بكل بساطة لأنه لم يفعل سوى استغلال نقاط ضعفهم.... الله المستعان...)
يقولها محسن بنبرة آسفة، مشفقة لمن يجلس أمامه في زاويتهم الخاصة بعد صلاة العصر التي لحق منها ركعة أخيرة برفقة بهيج الرافض لتركه منذ أن خرجا من المحل خلف حفيظة يلهثان خوفا وانزعاجا مما حدث إلى أن ولجت بيت الحاج محمد فتوقفا يتناظران بحيرة وترقب انتهى بزفرة ناقمة من فواز، يستدير متوجها نحو المسجد يتبعه بهيج الذي تفاجأ بسحبه لمحسن بعد الصلاة نحو الرحبة، يقص عليه ما حدث بكلمات مختلطة فيها شكوى ممن ظلمه وأخرى غير مباشرة من نفسه.
(لقد كنت عصبيا ناقما يا محسن... ولم أكن أتوقع إطلاقا بأنها ستشهد على ما تفوهت به....)
هزة رأس أخرى صدرت عن محسن يعبر بها عن أسفه، قائلا بحزن.
(وأكثر ما يستغله الشيطان الغضب... لذا كان وصية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن لا نغضب مؤكدا عليها ثلاثا... )
ضم فواز ذراعيه يثني عليهما جسده في جلوسه المتشنج، يطرق برأسه بؤسا بينما يعقب.
(لقد ظلموني ....غضبت من صديقي يا محسن... لم أتوقع منه الغدر... و)
ضغط على شفتيه حين التقط زفرة بهيج المتسمر مكانه، على بعد مسافة قصيرة عنهما، يوليهما ظهره يدعي النظر نحو الحقول بينما أذنيه معهما بحرص.
بنبرة مشفقة وعطوفة تحدث محسن، يحاول مساعدته على فهم أخطائه.
(الظلم يا صاحبي يحده تلاتة أطراف ...)
رفع فواز رأسه بحيرة مضطربة، يصغي لبقية حديث محسن ذو النغمة الهادئة المنخفضة.
( الظالم والمظلوم... والله الذي يمنع الظلم أو يسمح بوقوعه حسب مشيئته تعالى.... والله عز وجل ليس بظلام للعبيد... ولا يظلم مثقال ذرة... فإذا وقع على العبد ظلم ما... وجب عليه أولا مراجعة نفسه وإعادة حساباته مع خالقه ... وقبل أن يقتص لنفسه من الظالم... يقتص لنفسه من نفسه على تقصيرها أولا...)
(هل تعني أنني أستحق ما لحق بي؟... )
سأله بتحفز عصبي فارتخت ملامح محسن وحرك كفيه باحثا عن ركبته ليربت عليها بخفة، يجيبه.
(هذه الحقيقة لا تنفي ذنب الظالم وما ينتظره من عقاب إن لم يتب ويستغفر ويرد المظالم بالطريقة التي ترضي المظلوم وتدفع به إلى الصفح...)
تلكأ قليلا ثم استرسل بوجوم.
(يا صاحبي حين خلقك ربي خيّرك وأنت اخترت حمل الأمانة... وقطعت أمامه عهدا على نفسك أنك على قدر الأمانة... ثم منحك الحرية ومعها تأتي المسؤولية والامتحان قبل الحساب... )
قاطعه فواز باستياء تصلبت له ملامح وجهه.
(لكن أقدار الله تسيرنا رغما عنا يا محسن...)
ابتسم محسن بحزن، يقول.
(ما بك يا فواز؟... لقد تعلمنا على يدي نفس المعلم... وأنت تعلم كيف تسير أقدار الله ... فلابد أن تكون مقهورة ككل شيء خلقه الله... لكنه عز وجل حقق وعده لنا ومدّنا بالحرية لنختار ونحن نخضع لامتحانه... )
مسح فواز على وجهه مصدرا همهمة أقرب لزمجرة مكتومة، يعترف بقول محسن الذي لا يزيده سوى غضبا من نفسه التي فضحته كما لا يريد أن يكون.
(لكن أنا لم أفهم حينها ولا أفهم الآن يا محسن... ما هو الامتحان وماهي الحرية؟...)
كان ذلك بهيج الذي استدار، مقررا النزوح عن صمته بعد أن مس محسن عمق حيرةٍ لطالما استغلتها شياطينه ليغرروا أو يضلوا او حتى يستفزوه بها.
رفع محسن رأسه بعينيه الدائرتين وسط بياضهما، يجيبه بتأنيب أراده حقا حازما في تلك اللحظة لكن طبعه الحاني غلبه نحو أصدقائه، يحمد الله أنه عافاه وحفظه من ضلال لا يجلب سوى العذاب والكرب على المبتلى به.
(لأنك لم تكن تنصت يا بهيج ... شقاوتك ولهوك غلباك وبعده تمردك شغلك عن حسن الإصغاء...)
زفر بهيج بقنوط وتقدم ليهوي جواره من الجهة الأخرى، محافظا على صمته المناقض للغل الذي يموج به صدره.
(الامتحان يبدأ في اللحظة التي يكون فيها الإنسان نطفة في رحم أمه ... كل ما ليس للإنسان يد فيه فهو امتحان الله لعبده... والديه... أهله.. خلقته... وبحسب اختياراته ما إن يقف على حد بلوغه تقع باقي الأقدار وكل شيء خاضع لمشيئة الله... لو اتقى الله في كل قراراته وعاش حياته كما يرضي خالقه رزقه الرضى والقناعة اللذان هما سر السعادة الدنيوية ...معها الحكمة وهي خير كثير... أما لو عاش وفقا لهواه فسيظل في ضنك وتيه وعذاب نفسي وبدني لأنه يخالف السير المنطقي للكون الخاضع لخالقه ... حسب اختياراتك تُسيّر أقدراك وبإذن من الله... هل فهمتها الآن يا بهيج؟)
يطرق برأسه، متأملا أرضية الرحبة بنفس الصمت المقيت فيتحدث محسن يطالبه برد.
(هل تحتاج لشرح أكثر يا صاحبي؟)
رفع رأسه ليلمح نظرات فواز الجافة فتحدث بكدر.
(لا داعي يا محسن.. فما مضى من أيام حياتي عكفت على إثبات تلك الحقيقة فصلا بفصل... لقد كنت بالفعل أبلها لأتأخر كل هذا الوقت حتى أفهم...)
تبسم محسن بشجن، يجيب بإشفاق.
(احمد الله أنك فهمت واستسلمت قبل انتهاء مدة امتحانك... فهناك من فات عليه أوان الفهم أو فهم فعلا لكنه تكبر وخسر خسرانا مبينا... الله المستعان...)
كان بهيج لازال يبادل صديقه نظرات الغضب واللوم حتى استسلم الأول بعد زفرة طويلة، ينفس بها عن بعض لهيب أحشائه.
(لقد تبت الى ربي يا فواز... وها أنا ذا أطلب منك السماح... لكن لا تنكر ميلك لاختيار حفيظة ونيتك بالزواج حينها... ذنبي حيالك يختلف عن كونك تزوجت من حفيظة... فعلى الأقل ذلك يسمى زواجا وحلالا... فسامحني ودعنا نفكر كيف ستقنع زوجتك أنك لم تقصد ما قلته... إن شئت أقسم لك على كتاب الله داخل بيته ومحسن يشهد علينا... حفيظة ليست كأمها ولا مثلي وعمي وابنتيه ... هي فتاة طيبة بسيطة تأثرت بصداقة تقوى ولأنها كانت تمضي أغلب الوقت في بيتهم حرصت عمتي على إخفاء ما تقوم به عنها.... قد تكون فهمت مع نضجها ومرور السنوات لكنها أنكرت ذلك وتجاهلته... بل دائما ما لاحظت انها تخاف وترتعب من السيرة...لا تظلمها يا فواز!... )
تنهد فواز بقنوط، يتخلل خصلات لحيته بنظرات واجمة، شريدة.
(لا تخرب بيتك بيديك تسدي خدمة أخرى للشيطان... إن كرهت منها طبعا فبالتأكيد ستحب منها آخر... والإنسان ضعيف يخطئ ويصيب ...)
تسللت كلمات محسن عبر أذنيه، يتساءل تلقائيا عن الطبع الذي كرهه في حفيظة فلم يجده!
بغض النظر عن صدمته في البداية وما عاشاه لكن منذ أن عفى الله عنهما واستقامت علاقتهما الزوجية وتقربا من بعض لم يرى منها سوءا بل حفرت لنفسها مكانا في قلبه وخياله بقسمات وجهها النحيفة وبسمتها الشقية.
(قُم بارك الله فيك... ابحث عن زوجتك وخذها الى بيتك.. وفي غرفتكما صالحها واصبر على دلال أو عناد إذا صدر منها.. فجرح الأنثى غائر... لذا كانت الوصية النبوية رفقا بالقوارير...)
نهض فواز بتثاقل، يمسح على لحيته مرارا وتكرارا، لم يكن ينقصه سوى خراب علاقته الزوجية لتعود حياته الى الفوضى السابقة.
(فواز!)
تجمد مكانه يشعر به خلفه قريبا، فرد من بين كفيه.
(ليس الآن يا بهيج ... ليس الآن!)
(أين أنتم يا شباب؟... حان الوقت!)
كان ذلك مؤنس الذي ذكرهم بوفاة زوجة عمه، فقرر اتباع الجنازة أولا وقضاء الواجب نحو صديقيه.
.....
**قبل قليل**

تسير على غير هدى حتى أنها لا تعلم كيف حملتها قدميها المرتعشتين ككل شيء فيها إلى بيت الحاج محمد، بلعت ريقها ودفعت الباب الموارب بينما تفكر أن الطبيعي بأن تأخذها أطرافها إلى بيت أبيها، لكن متى كان ذلك البيت يشكل أي شيء بالنسبة لها سوى الوحدة والخوف؟
رفعت دقنها تعبئ رئتيها ببعض الهواء غير قادرة على التفكير، انتشر التبلد بسرعة خارقة ليجمد خلايا دماغها فتقدمت كقنبلة موقوتة ستنفجر في وجه أول من يسحب فتيلها.
(حفيظة ... أتيت أخيرا!)
بادرتها تقوى مفارقة الكرسي الذي لازمته بتعب منذ أن أتاهم خبرة وفاة والدة زينة فتلفتت الأولى بشرود لم يفارق مقلتيها الغائمتين بكدر مظلم.
(غادر الجميع... وكنت انتظرك مع أمي...)
لمحت صفية تظهر خلف باب المطبخ بجلباب الخروج، تلقي بأحد طرفي وشاحها على كتفها فقطبت بحيرة ضائعة مشوبة بسهو مريب.
اقتربت منها تقوى بتوجس تمكن منها حيال ملامح صديقتها، تربت على ذراعها بينما تكمل بأسى اختلط بالتعب على ملامح وجهها.
(والدة زينة توفها الله.... والجميع هناك... هيا ب...)
انحسرت الكلمات في جوف تقوى تنظر خلف حفيظة التي شعرت في عمق إدراكها الشارد بنظرة الذهول المصاحب للضيق مع شهقة خافتة عبرت بين شفتي صفية المفتوحتين، لتعلم بحدسها أن القادمة لم تكن سوى والدتها وبردة فعل تلقائية استدارت وكأنها تعلم يقينا من ستجد في وجهها.
(حفيظة!)
نطقتها نوال ببسمة متأملة بعد أن كانت قادمة بوجه مكفهر، تنوي مشاجرة صفية باندفاع من غضب جم اجتاح أعصابها المنفلتة على إثر حديث عابر بين نسوة التقت بهن، يسألنها سر مقاطعة جارتها وصديقتها لها وحين فنّدت ذلك وأنكرته لم تتوانى احداهن على ذكر الدليل الدامغ بكونها غائبة عن التجهيزات المقامة على قدم وساق في بيت الحاج محمد من أجل عرس صفاء، لم يسعفها عقلها المجفل حينها بدفاع مناسب مما أكد للنسوة قبالتها توقعاتهن، يتبسمن بمكر وخبث أضرم نار الغيظ عبر أحشائها.
(أنت هنا؟)
خطوتين إضافيتين مع تلك الكلمتين كان كل ما يجب لسحب فتيل القنبلة و.....
(لا!... لست هنا... ولا هناك... ولا في أي مكان آخر!)
بدت نبرة حفيظة الجامدة مكانها عميقة الى حد الموت فلم تستطع تقوى التحرك هي الأخرى ولا والدتها، تراقبان الوضع بترقب متوجس.
عقدت نوال جبينها بعدم فهم سوى ظنها بكون ابنتها لاتزال غاضبة منها إلا أن الحقيقة التي ستعرفها جيدا بعد لحظات أبعد ما يكون عن غضبٍ تغلي به الأحشاء حد الانفجار كبركان نشيط يدمر كل ما حوله في سبيل لفظ الحمم السوداء خارجا.
(هناك في بيتك الذي سلبت ملكيته بأسحارك لم أكن فيه يوما سوى ظلا وحيدا بائسا .... وهنا أيضا لم أكن!)
بسطت ذراعيها تدور برأسها دورة كاملة، تؤكد على حفظها لزوايا البيت الذي احتضنها أغلب مراحلها العمرية.
(لم أستطع أن أكون مع أنني أحببت كل لحظة أمضيتها فيه... بين جدرانه شعرت بالفرح... بالحياة... بالأنس... لكنني كنت أعلم أنه شيء مؤقت... كنت أعلم أنك ستملين من التسكع خارجا تم تعودين للبحث عني كي نعود الى بيتك ليس لشيء فقط لكوني ابنتك وجزء مهم من مظهرك الزائف الذي تحافظين عليه أمام الناس... )
بللت تقوى شفتيها والقلق يضاعف من وهن جسدها، صديقتها ليست على ما يرام، نبرتها لا توحي بغضب أو ضيق أو حتى استياء بل انخفاض بارد مخيف ويأس مرعب.
(وحين ظننت أنني سأكون أخيرا في بيت ما....)
أشارت لنفسها، تكمل بنظرات زائغة.
(أنا .... أكون فيه أنا!... بما أحبه فعلا وما أركن إليه... بما يشعرني بالسلام... بالأنس... اكتشفت أنه صعب لكن لم أفقد الأمل... وقمت بكل ما يلزم لأكون هناك... وفقط حين بدأت أشعر بأنني نجحت... سكن قلبي وبدأ شعور بالاستقرار يغمره باستحياء... سُحِب البساط من تحت قدماي مجددا وعلى حين غفلة من أحلامي ... من أمنياتي...من سذاجة قلبي الغبي!...)
هزت رأسها مرات عدة بتمهل كما خطت نحوها لتقف أمامها، ترمقها بنفس الشرود الزائغ بينما تضيف.
(اكتشفت أنني لم أكن في ذلك البيت كما توهمت... والسبب مجددا أنت!...)
رفعت حاجباها وضمت ذراعيها حول خصرها، تدفع عنها البرودة المنتشرة عبر جسدها المرتعش.
(تخيلي!... بعد أن ضحيت بك في سبيل أن أكون هناك... اكتشف بأن كل شيء اضمحل سواك... أماني ... استقراري ... سعادتي... كل شيء مجرد وهم سراب... ولا حقيقة واقعة سواك مع البؤس والوحدة والدمار!...)
تراجعت صفية لتسند جسدها النحيف بالجدار قرب مدخل المطبخ، تحدق بنوال المصدومة قبالة هيئة ابنتها الغريبة دون أي بادرة للتحرك برد فعل إن لم يُحسب جيدا قد يؤتي بما لا يحمد عقباه.
(ماذا أفعل لأتخلص منك؟... أنت لعنة!... )
غطت والدتها فمها، دواخلها تتهاوى كلما تلقت منها طعنة لم تتخيل يوما أن تؤثر فيها بتلك الطريقة البشعة.
حركت حفيظة رأسها الى كلا الجانبين دون دموع لطالما كانت سهلة الانفجار من منبعها، فقط شحوب جامد كقناع ملتحم بقسمات شاردة، ضائعة أعماق يأسها.
(الجميع يعرف من تكونين... تعرفين كيف تحدث الأمور في البلدة... يجاملون بعضهم البعض ويتظاهرون بالود ومراعاة القرابة... لكن الجميع يتحدثون خلف الظهر... ولا يخفى عنهم أي شيء أكثر من سنة واحدة... فكيف بأعوام طويلة!... حتى أخي فر مهاجرا بسببك... أفيقي من غفلتك وتوقفي عن تصديق نفسك بأنك مَخْفِية ولا أحد يعلم عن كفرك!...)
بلعت نوال ريقها، مقلتيها ذواتا كحل أسود تتسعان أكثر فأكثر مع كل كلمة تنطقها ابنتها بكل هدوء بارد، مخيف.
(هل صدمتك الكلمة؟... أم أن صدمتك ممن تواجهك بها؟... إذن افتحي أذنيك جيدا واسمعيها .... أنت كافرة! ... كافرة بالله! ...اتفقت مع الشيطان الذي غواك بسلطة واهية... فبِعت نفسك له وقبلها خالقك... وها أنا ذا أكبر إخفاقاتك يا.... أمي!)
ارتد رأس نوال الى الخلف من شدة وقع الحديث على قلبها بينما حفيظة كانت بعيدة جدا عن إدراكٍ لما عدى الجمود المتلبس لعقلها والذي لا يمنحها سوى حلا وحيدا تتشبث به حد الموت، أذية والدتها، مصدر شقائها الأبدي.
(بذلتِ كل مجهوداتك القيمة وبعت دنياك وآخرتك في سبيل ماذا؟... أن أحصل على زوج غني ومكانة عالية وسط عائلة ميسورة وذات أصل كريم.... احزري ماذا يا والدتي؟...)
هزت كتفيها وأسقطت ذراعيها الى جانبيها، تكمل بسخرية أطاحت بجدار من جدران الحالة المُخيفة التي كانت عليها قبل قليل.
(العائلة الميسورة الكريمة تحتفظ بي شفقة ...لا يريدون الابتلاء بأذى قد يلحق سمعتي إن هم تخلصوا مني كما يتخلصون من القمامة منذ أول ليلة شرفتُ فيها بيتهم بمقدمي المشؤوم .. والزوج الغني يعض أصابعه ندما كل يوم على زواجه من عروس مسكونة بشيطان لعين... عروس ملعونة ابنة عائلة سحرة ملعونين... يتساءل كل حين عن براءتها من لعنتهم كما يتساءل إن كان سيحظى بمن هي أفضل منها لو فقط اهتمت أمها السحارة بشؤونها ولم تسحر له وتدفع بأعز أصدقائه ليساعدها ...)
توالت الشهقات من فم صفية وتقوى كلتاهما في بحث مضني عن مسند قوي يتحمل ثقل جسديهما، كلتاهما ترتعشان من وقع ما يحدث أمامهما، صفية لا تعول على ابنتها بسبب تعب الحمل والأخيرة تدعو الله أن لا تقع والدتها فهي لا تتحمل المواقف المشابهة وغالبا ما ستقع في أي لحظة فما كان منها سوى أن أرسلت رسالة عبر هاتفها لترفع رأسها مجفلة على ضحك حفيظة الهستيري، تنفض كفيها ببعضهما من بين هذرها المثير للخوف.
(فواز علم بكل شيء.... بعد كل هذا العناء... وقع ما يحدث عادة وانكشف له الأمر ... سنرى الآن ماذا ستفعلين حين يطلقني وأعود إليك بفضيحة مدوية!... )
تقهقه بقوة جرحت حنجرتها وكفيها على بطنها دون أن تتوقف عن الحديث بنبرة بُحّت من شدة ضحكها الغير طبيعي.
(دعينا نرى سلطانك المزيف وعفاريتك الفشلة...)
ثم توقفت عن الضحك مرة واحدة لتكمل بشراسة احتلت ملامحها بنفس السرعة التي تتوالى بها التعابير على صفحة وجهها الشاحب.
(بما أنك بعت روحك وآخرتك للشيطان... لما لا تُقدمي جسدك قربانا لهم حرقا أو شنقا وتخلصينا من وجودك الملعون إلى الأبد!...)
لم تتحمل نوال فمدت ذراعيها تقبض بهما على كتفيها، تأمرها بجزع.
(أصمتي!... أصمتي!)
عادت حفيظة للضحك بهستيريا مرعبة فلم تتحمل صفية أكثر واستسلمت للهوة المظلمة، تسحبها إلى عالم اللاوعي.
نهضت تقوى من على الكرسي الذي كانت تتراجع نحوه حتى تهاوت عليه في وقت ما، تركض نحو والدتها تربت على وجهها ثم تعود لتتفقد حفيظة الغارقة في انهيارها بين ذراعي نوال.
(ماذا يحدث هنا؟)
هتف الحاج محمد المصاحب لابنه نبيل، متفاجئين بالمشهد المرعب.
(أبي أسرع أشعر بتعب فظيع...)
هرول الحاج وابنه الى صفية فجلست تقوى على الأرض، تشير إلى نبيل بنبرة حازمة.
(أبعد حفيظة عن أمها.. واسحبها لتجلس على ذلك الكرسي... أسرع!..)
كان والدها قد دخل الى المطبخ يجلب بعضا من الماء بينما نبيل يسرع نحو حفيظة يفعل ما طلبته منه تقوى لكن الأخير ما إن لمس ذراعها حتى انتفضت مستديرة إليه بأعين متسعة ورأسها يرتد الى الخلف متقدما باقي أطراف جسدها لولا سرعة بديهة نبيل الذي تلقفها في آخر لحظة قبل أن تصل الى الأرض.
في تلك اللحظة بالذات دخلت الجدة جوهرة برفقة صفاء بعد أن انتظرتا كثيرا في بيت زينة فأعادهما القلق، مدركتين لصعوبة تأخر تقوى عن صديقتها في مصابها الأليم إلا لو كان لسبب قوي ودون وقت كاف للاستيعاب أسرعت كل واحدة منهما تساعد في ما تستطيعه بعد هتاف الحاج محمد الجزع قرب ابنته التي يبدو أنها هي الأخرى قد استسلمت لتعب جسدها فأرخت رأسها على الجدار خلفها مغمضة عينيها وسط بشرة وجهها المُبيضة إرهاقا.
(نبيل اتصل بالمركز ليرسل لنا سيارة إسعاف حالا!...)
..،....
**بعد ساعات.... المركز الطبي**

ترجلت من السيارة لاهثة تقدم عكازها لتركز عليه بثقل جسدها متجاهلة باب السيارة الذي أغلقه فواز بعد أن نزل هو الآخر بسرعة.
كان لابد أن يعرف حين لمح تسلل الحاج محمد وابنه من الجنازة على غير عادتهما بأن هناك حدث جلل له علاقة بأهله أو بيته حيث توجد زوجته المصدومة، لكنه تمهل وبقي من أجل صديقيه ولم يكد ينتهى الدفن حتى اهتز هاتفه برقم والدته تبلغه بأن زوجته أغمي عليها وتم أخذها الى المركز الطبي للبلدة.
(حاجة أمينة!)
رفعت رأسها على إثر نداء الجدة جوهرة فتوجهت إليها رأسا، تسألها بقلق.
)ماذا حدث يا حاجة؟... )
تخلصت من ذراع ولدها الذي كان يحاول إسنادها لتمسك بكف الجدة التي رمقت فواز بنظرات غامضة، ترد بهدوء.
)أغمي على حفيظة لكنها بخير الآن لا تقلقا.... الجميع بخير الحمد لله...)
كان فواز على وشك السؤال لكن اقتحام جرير للرواق هو الآخر بخطواته الواسعة، شغلته ملتفتا إليه يستقبل صياحه القلق.
(أين تقوى؟.. ماذا حدث يا جدتي؟)
تبسمت له بإشفاق، تهدئ من روعه.
)الحمد الله... الجميع بخير... ولقد كنا في انتظاركم كي نغادر المركز...)
)ما بها تقوى؟)
تدخلت الحاجة أمينة غير مطمئنة لنظرات الجدة لابنها فتؤكد لها احساسها حين أشارت لهما نحو غرفة ما.
)اذهبا لتلك الغرفة... الحاج مع صفاء ونبيل هناك أيضا لأن ابنتي أغمي عليها كذلك....)
ذهلت الملامح بتوجس فضحكت الجدة تهون الأمر عليهم رغم ما اعتراها من خوف لم يفارقها بعد.
)يبدو أنه اليوم العالمي لفقدان الوعي... أخبرا نبيل ليستدعي الطبيب واسالاه ما تريدانه... عن إذنكما أريد التحد مع الحاجة قليلا...)
نظر فواز الى والدته بتردد فأومأت له وانصرف يلحق بجرير الذي غلب خوفه على زوجته حس الريبة لديه.
)ماذا هناك يا حاجة؟)
بادرتها والدة فواز بجدية عبّرت من خلالها عن توقعها لمشكلة ما، فمسدت الجدة على عبائها المشابهة لخاصة محدثتها مع اختلاف اللون، تفكر في ما أخبرته به ابنتها صفية لتقرر التدخل ولعب دور حازم كان لابد لوالدتها أن تقوم به لكن للأسف، استسلامها للشيطان وهوى نفسها أعماها عن دورها المهم في حياة ابنتها لذا نظرت إلى الحاجة أمينة وبدأت حديثها الجدي.
في إحدى غرف المركز المعدودة اجتمعت أسرة الحاج محمد المحتل لحافة السرير جوار زوجته الغافية بعد مدها بالدواء ليتوازن معدل الضغط والسكر في دمها، مستسلمة لنوم عميق عادة ما يسحب إليه وعيها المرهق بعد كل نوبة عصبية أو خوف يحدها قرب قدميها نبيل الذي حاول تدليلها بتدليك رجليها كما تحب إلى أن غفت بينما صفاء وتقوى التي كانت أول من استيقظ، تجاوران حفيظة على سريرها، تتأملان نظراتها الشاردة نحو البعيد بصمت حزين بعد عدة محاولات منهما ليستدرجاها إلى حديث عابر.
)السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...)
التفتت تقوى بلهفة تتلقف نظرات زوجها اللهوفة بدورها فقامت من مكانها تستقبل تفقده لوجهها الذي لم يغادره الشحوب كليا وجسدها طرفا بطرف.
)كيف حالك؟.... )
لم يستطع ملامستها لكنه كان قريبا جدا منها، يصغي لردها المرتجف.
)الحمد لله أنا بخير اطمئن...)
نظرت خلفه فتذكر أنه لم يسلم على الحاج ونبيل فاستدار ليجد صديقه هو الآخر متجمد مكانه يحدق بزوجته الغارقة في شرودها، ليتساءل عن ما فاته!
)حمدا لله على سلامة الجميع يا حاج...نبيل من فضلك استدعي الطبيب...)
تحدث جرير بمودة ساحبا معه فواز، يوقظه من غفلته فصافحاه وتبادلا معه بضع أحاديث في انتظار الطبيب الذي انضم إليهم بعد برهة.
)السيدة تقوى تعاني من ضعف جسدي راجع لسوء التغذية... وهذا عادة ما يحدث للحامل بسبب الغثيان والاستفراغ اليومي... لذا طلبت منها تحليل دم جديد لنطمئن على معدلات الحديد والكالسيوم.... عموما هي تحاج للتغذية متوازنة مع بعض المقويات التي سأحددها ان شاء الله بعد رؤية نتائج التحاليل...أما الجنين فوضعه جيد الحمد لله... بالنسبة للسيدة حفيظة...)
تلكأ للحظة خطف فيها نظرة قلقة نحوها ثم عاد لينظر الى زوجها، يكمل بنفس النبرة الهادئة الرسمية، المسموعة للجميع.
)السيدة تحتاج لراحة نفسية ... يبدو أنها عانت من انهيار عصبي... وذلك ليس جيدا لوضعها الصحي... بنيتها ضعيفة ومع بداية الحمل ف...)
)حمل؟)
قاطعه فواز ذاهلا و غافلا عن انتفاضة جسد حفيظة أخيرا وكأنها عادت الى الحياة لتوها.
تراجعت تقوى لتضم كتفيها حين اعتدلت لتجلس، تصغي بترقب ولهفة حارقة، دقات قلبها تكاد تصم آذانها فتتكوم ملامحها التعبة انزعاجا، تقتلها الرغبة لسماع حديث الطبيب الذي تبسم برسمية وهو يجيب.
)شككت في الأمر فقمت بفحصها بالسونار بعد السيدة تقوى ... والسيدة حامل في أسبوعها السادس... طلبت منها تحليل دم هي الأخرى وسأنتظر النتائج.... يمكنكم المغادرة وانتبهوا لصحتهما ... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته....)
استدار الطبيب ثم توقف جوار الحاج، يبادله حديثا وديا قبل مغادرته للغرفة ودخول الحاجة أمينة تتبعها الجدة جوهرة.
تعلقت عينيها المتسعتين بالهواء حيث كان الطبيب بعد قليل، لم يخبرها حين فحصها بالسونار فقط سألها بضعة أسئلة كانت أضعف من أن تجيبه فقط تومئ بحركات خاملة.
رباه! إنها تحمل جنينا بين أحشائها!
حامل بطفل من لحمها ودمها ومن فواز!
عند تلك الفكرة رفّت بجفنيها مرتين قبل أن تلتقط نظراته المهتمة والمركزة عليها فاستعاد دهنها نبرته العصبية ودون وعي منها هزت رأسها لتنفض عنها الذكرى البشعة تحصر تفكيرها حول نبرة الطبيب، حامل في أسبوعها السادس، حامل!
)حفيظة!)
قامت تقوى تفسح المجال للحاجة التي تفحصت قسمات حفيظة الشاحبة بإشفاق حانٍ قبل أن تجذب رأسها بروية تضمه الى صدرها اللاهث.
تصلبت أطراف حفيظة للحظات قليلة، لم تستطع مقاومة الدفئ النابع من المرأة التي يربطها بها الآن أكثر من مجرد نسب والدليل يسبح بين جنبات رحمها فانفجرت باكية بحرقة.
)اهدئي... شششش!... لا بأس!... كل شيء بخير!.. تذكري طفلك!... اهدئي!)
تشبثت بها متمالكة نفسها فعلمت الحاجة أن ذلك الطفل كما أبهجها مَقدمه سيكون مصدر فرح لوالدته وورقتها الرابحة للمحافظة على زواجها من ابنها الذي ستعيد تربيته مجددا، لأنها على ما يبدو كلما ظنت أنها فلحت في تقويم ما كانت السبب في اعوجاجه اكتشفت العكس!
أبعدت حفيظة عن صدرها، تخبرها بلطف مختلط بحزم بينما تحدق بعينيها المحمرتين والغارقتين بدموعهما .
)هيا لنعد الى البيت وهناك سنحل كل شيء بإذن الله...)
بللت حفيظة شفتيها، تنكمش على نفسها ترددا وارتباكا لكن الحاجة لم تسمح لها، ترفع دقنها بلطف لتطلب منها.
)ثقي بي... هل سبق وخذلتك من قبل؟)
رمشت مرات عدة، هي بالفعل لم تخذلها منذ أن دخلت بيتها كعروس.
تنهدت بوهن ثم تحركت لتغادر السرير فنهضت هي الأخرى تهتف في ابنها قبل أن يصل لزوجته وقد سحبه القلق ليسندها.
)لا شأن لك بها!... )
تفجأ فواز وتراجع للخلف خطوتين، يكتم حرجه وسط نظرات من حوله.
)ماذا حدث؟)
همس جرير لزوجته فرمقته بصمت ذات معنى وهز رأسه بتفهم، ناظرا للحاجة أمينة التي استدركت بجفاء بينما تمسك بذراع حفيظة المطرقة برأسها، رافضة التواصل معه بأي طريقة.
)سنسند بعضنا... هيا بنا!)
توقفت قبالة سرير صفية تُحدِّث الحاج محمد الذي وقف هو الآخر منذ مدة متابعا ما يحدث برضى ورجاء في الله بأن يرحم الفتاة التي لطالما اعتبرها كابنته تقوى، مشفقا عليها من أب وأم غير مسؤولين البتة.
)شفاها الله وعفاها يا حاج.. حمدا لله على السلامة...)
)سلمك الله من كل شر يا حاجة... حفيظة! اعتني بنفسك يا ابنتي... ولا تنسي أن بيتي مفتوح لك فلا تغيبي عنا...)
تبسمت حفيظة بتأثر سالت له دموعها، تهز رأسها بصمت لتشعر بضغطة حماتها على ذراعها فاستجابت لها وغادرتا يلحق بهما فواز المرتاب من جفاء نظرات ونبرة والدته وكأنها تعلم ما حدث!

.....
يتبع



التعديل الأخير تم بواسطة **منى لطيفي (نصر الدين )** ; 20-04-20 الساعة 03:49 AM
**منى لطيفي (نصر الدين )** غير متواجد حالياً  
التوقيع
لاإله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
رد مع اقتباس
قديم 31-03-20, 12:40 PM   #1048

**منى لطيفي (نصر الدين )**

مشرفةوكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وبطلة اتقابلنا فين ؟

 
الصورة الرمزية **منى لطيفي (نصر الدين )**

? العضوٌ??? » 375200
?  التسِجيلٌ » Jun 2016
? مشَارَ?اتْي » 4,633
?  نُقآطِيْ » **منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute
افتراضي

*ساعات متأخرة من الليل .... منزل زينة*

(لم أستطع القدوم إلا بعد اطمئناني على والدتي ... سامحيني يا زينة...)
ربتت زينة على ركبة تقوى، ترد بحزن والدموع لا تفارق عينيها القاتمتين.
(الحمد لله على سلامتكن... ادعو الله أن تكون حفيظة بخير.. الحمقاء غفلت عن حملها كعادتها لا تهتم بصحتها...)
بلعت تقوى قلقها البالغ على صديقتها واكتفت بإيماءة صغيرة قبل أن تتجاوز الموضوع الذي لم تروي لزينة عن جميع تفاصيله، تقول بحنو وهي تمسح دموعها السائلة على وجنتيها الحمراوين.
(لا تبكي يا زينة... انه أجلها رحمها الله... ولكل واحد منا أجله... ادعي لها وتصدقي واحتسبي ....)
هزت رأسها وعدلت وشاحها الرمادي ترمي بطرفيه على كتفيها، تعقب بحزن.
(أنا خائفة يا تقوى... كلما نظرت الى أبي وفراغ مكانها جواره يرتعد قلبي خوفا... ماذا إن تركني هو الآخر؟... لقد اشتد تعبه بعد أن أخذوها من جواره ....أرى نظرة الحزن والحسرة ...الخجل من عجزه يقتله ويتمنى لو كان هو من راح مكان أمي....)
أطبقت على فمها، تكتم نشيجها الموجع فضمتها تقوى تشاركها دموع الحزن، تواسيها بكلمات حانية.
(إنا لله وإنا إليه راجعون... اصبري واحتسبي يا زينة... الله رحمن رحيم... اصبري يا حبيبتي...)
ابتعدت عنها لتمسح وجهها، تجيب بشجن.
(ونعم بالله... ونعم بالله....)
(تقوى!)
ناداها جرير الذي طلّ عليهما قرب عتبة غرفة الجلوس، يكمل باعتذار لابنة عمه.
(لولا تعبها لاقترحت عليها المبيت معك... لكن!)
نهضت زينة برفقة تقوى تتقدمان نحوه بينما تجيبه الأولى بتفهم.
(شكرا لكما... لكن لم أكن لأقبل لأنني لن أترك والدي الليلة... وسأنام جواره...)
صمتت مجفلة، تستغرب وجود الضابط هشام في الحديقة برفقة مؤنس ويوسف وقد ظنت أنه رحل مع آخر من غادر منزلهم قبل قليل.
(تماسكي يا زينة ... عمي يحتاجك قوية ... انهيارك سيزيد من تعبه...)
عينيها وأذنيها مع جرير لكن شيئا ما يحيط بقلبها يضغط عليه يخبرها بأن هناك من ينظر إليها، يحاصرها وفي الأخير استسلمت وحادت بأنظارها نحوه وسرعان ما فرت من لمعة عينيه المترصدتين، تودع ابن عمها وزوجته عائدة إلى غرفة والديها حيث ملاذها الآمن، ترافقها دقات قلبها النافرة.
(شكرا لك يا هشام... أتعبناك... )
بادره جرير بلطف وتقوى تتجاوز تجمعهم بهدوء نحو بيتهما المجاور فرد عليه بواجهة رسمية يدرأ بها خيبة مفاجئة له انبثقت من صميم أحشائه وهو الذي سعد بتجمع مؤنس ويوسف في انتظار جرير ليسألاه عن صحة زوجته وحماته بعد ما سمعوه كبقية أهل البلدة، لكنها سريعا ما فرت من أمامه دون أن يطمئن عليها بعد انهيارها في أوقات سابقة مؤكدا لنفسه أن ما يعتريه مجرد عاطفة إنسانية نحو فتاة كانت زميلة ودودة ومحترمة في الثانوية وابنة بلدته.
(العفو... إنه واجب يا جرير... كيف حال زوجتك ووالدتها؟)
دس جرير كفيه داخل جيبي سرواله، يرد بنبرة عادية.
(بخير ... الحمد لله... وزوجة فواز كذلك... كل شيء بخير...)
(حسنا أنا سأغادر... عظم الله أجركم.. تصبحون على خير)
لوح لهم مغادرا فاستوقفه يوسف، متسائلا بعبوس طغى عليه لنفوره مما سيسأل عنه.
(هل هناك جديد؟)
توقف هشام وتمطط رافعا ذراعيه الى الأعلى فارتفعت سترته الجلدية السوداء من تحتها كنزته بنفس اللون هي الأخرى على حدود حزام سرواله الجينز فتشدق مؤنس ساخرا.
(كف عن استعراض طولك وقدك الرشيق...فأنت ضابط وسيكون من العار إن فقدت لياقتك البدنية...)
كان هشام على وشك الرد بسخرية مماثلة وقد التوت شفتيه بمكر لكن حركة خاطفة لمحها بطرف مقلتيه الثاقبتين في احدى نوافذ المنزل أربكته فاضطربت نبضات قلبه بطريقة أزعجته بشكل غريب لذا أسقط ذراعيه واعتدل، يرد باقتضاب وهو يغادر.
(لا شيء جديد سوى انتظار موعد المحاكمة... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.....)
(حسنا يا جماعة أنا مضطر للمغادرة....)
تحدث جرير فرافقاه مغلقين البوابة الخارجية، يتقدمهم مؤنس الذي طرح سؤاله بحيرة.
(كيف حال زوجة فواز؟... )
ابتسم جرير بهدوء، يرد.
(فواز ينتظر مولودا... )
(حقا!)
هتف مؤنس بدهشة ثم عقب بمزاح ابتسموا على إثره.
(ليس عدلا!... حقا!... يجب أن تنتظراننا كي ننجب في وقت واحد....)
(أنت مجنون!)
صرح جرير ساخرا، يلوح لهما وهو يدخل بيته فتحدث مؤنس مستديرا نحو بيت أهله القريب ويوسف يسلك طريقه نحو البيت الذي كان للخواجي والآن عاد لأصحابه الحقيقين.
(يجب أن نسرع يا يوسف... لا يجب أن نسمح لهما بالتفاخر علينا...)
........
**منزل أهل فواز**

(ماذا تريد؟)
هتفت والدته أمام غرفتها التي أغلقت بابها لتوليه ظهرها، ترمقه بتهديد صريح قابله بتردد وارتباك مستاء.
(لماذا تعامليني هكذا يا أمي؟... أريد الاطمئنان عليها...)
رفعت دقنها، تجيب بجفاء وتوبيخ.
(وهل تجرؤ؟)
قطب بانزعاج بينما هي تكمل بضيق.
(متى ستنضج وتتصرف كالرجال؟... متى ستحسب للكلمة ألف حساب قبل أن تنطق بها؟...)
(ما!...)
قاطعته، تسترسل بغضب.
(كيف سولت لك نفسك... تخبرها بأنك تعض أصابعك ندما على الزواج منها؟ ... وبقية ذلك الحديث المخزي!... هل أنت طفل صغير؟.. ها!... ألم أخيرك واخترت بنفسك!)
لكزته بطرف عكازها فحاول الرد لكنها رفعته في وجهه مهددة.
(ولا تلم السحر أمامي لأنني أقسم بالله سأفعل ما لم أفعله في حياتي .. و أكسر رأسك الحجر بعكازي هذا ...بيتي دائما محصن بحفظ الله ... أتلو سورة البقرة وما تيسر من القرآن يوميا في بيتي... فلا مأوى للشياطين به.. لذلك كان الجني لا يستطيع البقاء كثيرا في جسد حفيظة ويتعذب بما يفعله فيفر سريعا قبل أن يُحرق... وأنت بنفسك اخترت هنا من أردتها زوجة لك...فلا تلم السحر... ثم تعال وأخبرني!...)
أمسكت بطرف لحيته الطويلة تجذبه الى مستوى طولها، تستدرك بامتعاض بينما هو يتشنج من الألم.
(ألم تعاشرها كفاية لتعلم أنها فتاة بسيطة طيبة سهلة المعشر؟... لقد رأيتها في عينيك اللئيمتين هاتين مرات عدة... نظرة الرضى كلما وقعتا عليها... لكنك كما لم أرد التصديق من قبل ... مدلل لا تعلم ما تريده حقا فتدمر كل شيء جميل تملكه....)
أفلتت لحيته فتراجع الى الخلف يمسد عليها بألم، يدافع عن نفسه.
(لم أقصد ما قلته ... )
رفعت حاجبها فهتف مؤكدا.
(أقسم بالله ... كنت أنفس عن غضبي من غدر صديقي مستاء من مساعدته لعمته ضدي.. لم أكن أعلم أنها ستسمعني... ظننت أنها ذهبت لبيت الحاج محمد كما أخبرتني... أنا!)
لم تتغير نظاراتها المستاءة فتنهد بتعب، يستدرك بنبرة مهزومة.
(أعلم أنني أفسدت الأمر... لماذا أخفيتم عني ما حدث مع والدتها؟... بهيج أخبرني...)
تخصرت الحاجة بذراعها الأيسر بعد أن أسندت جسدها بحافة الجدار قربها، تعقب بسخرية حانقة.
(وهل أخبرك بأنها اختارتك على والدتها وتبرأت منها مقابل استمرار زواجها منك؟.... هل أخبرك صديقك بأنها رفضت خطة والدتها للضغط علينا تهددنا بكشف عدم إتمام زواجكما لتلقي باللوم عليك وفضحك وسط البلدة؟...نفت ذلك أمامي وشقيقك الأكبر وأكدت على أن زواجكما قد اكتمل!... سترت سركما وحافظت عليه من أجلك....)
قفز حاجبيه صدمة فبسطت شفتيها ببسمة باردة، تهز رأسها بينما تضيف.
(تسألني لما لم نخبرك؟... خشية ما فعلته اليوم.... لأنك مجرد طفل بعباءة رجل ....)
(أمي!)
هتف مستنكرا بطفولية فزمت شفتيها، تستدرك بينما تستقيم في وقفتها.
(تؤلمك حقيقة أنك مجرد طفل مدلل؟... إذن أرح قلبي المتعب وانضج!... فأنا أشعر بأنني لم أنجب سواك من كثرة مشاكلك.. لنا الله !... لنا الله!)
استدارت لتدخل الى الغرفة فناداها بعبوس ضائق.
(أمي!)
تجمدت كفها على مقبض الباب توليه ظهرها، رافضة النظر إليه ولم يعد استعطافه يضعف قلبها نحوه.
(لن ترى طيفها حتى تثبت لي بأنك نضجت.. وإياك أن تكسر كلمتي... حينها سأختارها هي!... فإن كنت أنت غالي على قلبي!... هناك من هو أغلى منك الآن... ابنك المنتظر!... فانضج من أجله على الأقل!...)
فتحت الباب وعبرت العتبة ثم أغلقته في وجهه المكفهر وتبسمت بمكر أنعش بعضا من خلايا صدر حفيظة فارتسمت على شفتيها بسمة واجمة.
لا تنكر أن ما سمعته قبل قليل من دفاعه خفف القليل مما يثقل أحشائها من أوجاع، على الأقل يهتم ليدافع ويقلق وهذا بالنسبة لها كاف ليكون نقطة بعيدة تتشبث بها أملا من أجل ابنها وأولاد آخرين ترى فيهم حلمها بالأنس، بالعزوة وبالانتماء، أبناء من لحمها ودمها تعتني بهم، تهتم لهم وتربي فيهم ما لم تجده بين جدران بيت عائلتها، الحنان، الحب، العاطفة والتآزر.
(نامي يا ابنتي... لا تفكري في شيء... اذكري الله حتى تغفى عينك...)
مسدت على جبينها تهادنها بالقول فغامت مقلتيها بتأثر، تتساءل لما لا تكون والدتها مثل هذه المرأة؟
مسحت على شفتيها تلجم أفكارها من التمادي مجددا نحو منطقة ميؤوسة منها، تومئ بطاعة واستدارت على جانبها الأيمن تذكر الله بخفوت بينما تسدل جفنيها، متجاهلة شوقها لاستلقائها على صدره كل ليلة حتى تغفو.
استلقت الحاجة جوارها وأطفأت النور، تفكر في قول الجدة جوهرة التي بدت لها غاضبة كما لم تكن يوما، تذكرها بزوجة بكريها الأولى التي قتلت نفسها وسط بيتهم وبأن لديها فتيات لتتقي الله فيهم وتعظ ولدها حول تحمل مسؤولية الأمانة ثم في النهاية حذرتها بأنها لن تتوانى عن أخذ حفيظة الى بيتها المفتوح لجميع نسوة البلدة وهي كفيلة برعايتها وفعل ما فشلت به والدتها.
تنهدت بتعب تطرف إليها بنظرة سريعة ثم أرخت عنقها تغمض عينيها بعد أن وكلت أمورها لخالقها فهو أقدر عليها.

.....،

**اليوم التالي ... مساء**
**منزل أهل زينة**

(هل أنت بخير؟)
بسطت زينة ذراعها نحو الأرائك في غرفة الجلوس، تدعو صديقتيها التان استجابتا لها ببسمة شاكرة.
(الحمد لله... فضلت المجيء مساء وفكرت أن البيت سيخلو من المعزين... )
ردت حفيظة باعتذار فتدخلت تقوى التي تركت غرفة الضيوف ما إن لمحت حفيظة تتجاوز عتبة الباب الداخلي.
(لم يبقى سوى القليل....)
هزت حفيظة رأسها بتفهم في نفس اللحظة التي نادت فيها احدى النساء على زينة كي يودعنها فاستأذنت منهما.
التفتت تقوى الى صديقتها تشد على كفيها بحنو، تستفسر منها بقلق.
(كيف حالك الآن؟... لم أخبر زينة سوى أنه أغمي عليك بسبب الحمل...)
لانت ملامحها، تشكرها بلطف.
(شكرا لك... أنا بخير الحمد الله...)
تفحصت تقوى وجهها، تبحث عن حقيقة ادعائها فرفعت راحتيها تخفي بهما وجهها المحمر خجلا، مستدركة بنبرة محرجة.
(رباه! لا أعلم كيف فقدت زمام نفسي... أتذكر كل كلمة تفوهت بها..)
(شششش!... لا بأس! )
حاولت تقوى تهدئتها لكن ملامح حفيظة تشنجت، تستطرد بقنوط دمعت له مقلتيها.
(لقد أردت أذيتها يا تقوى... في تلك اللحظة بالذات شعرت بأنها وحش يقتات على سعادتي فيدمرها... لم أرى فيها أمي أبدا... رباه! ... الى ماذا تحولني؟... لم أعرف نفسي يا تقوى!... لقد.. )
(أفهمك!.. لا بأس!... حافظي على صحتك وجنينك... حاولي التحدث مع زوجك بهدوء... إن كان ما قاله بدافع الغضب أو العصبية... امنحيه فرصة ليشرح لك...)
أرخت ظهرها على الوسادة، تهز رأسها بينما تجيب بجمود.
(لقد حاول بالفعل... وبرر لوالدته ليلة أمس وصباح اليوم .. وعند الغداء أيضا... لكن الخالة أمينة مصرة... سأمكث معها في غرفتها حتى تقرر أنني بخير... ولن تسمح له برؤيتي إلا إن طلبت منها بنفسي ..)
ابتسمت مع آخر كلماتها فتبسمت تقوى بدورها، تقول بإعجاب.
(لطالما سمعت عن حكمة الحاجة أمينة ... تستحقين حماة مثلها ... أصلح الله شأنك حبيبتي...)
(آمين)
همست بها حفيظة وسؤال يتأرج بين نظراتها، قرأته تقوى بوضوح فردت بصراحة.
(لا أعلم..)
هزت حفيظة رأسها بصمت شارد أثار شفقة صديقتها لكنها حقا لا تعلم متى أو ما حل بوالدتها، سألت باقي أفراد أسرتها لكنهم مثلها جميعهم لم ينتبهوا لها في خضم توترهم وانشغالهم.
(لقد عدت...)
انضمت إليهما زينة بين يديها صينية الضيافة، وضعتها فوق المائدة وجلست قربهما.
(كيف حالك يا زينة؟)
سألتها حفيظة باهتمام فزمت شفتيها تضغطهما ثم قالت بقلة حيلة.
(الحمد لله... لا مفر من أقدار الله... لكل أجل كتاب...)
(وصحة والدك؟)
التوت شفتيها بحزن ترد وهي تصب الشاي .
(أفضل من أمس ... يبدو أنني وهو نحاول التماسك من أجل بعضنا ... الحمد لله على كل حال..)
وضعت لكل واحدة منهما كأسا أمامها، تستدرك بمزاح اختلط بحزن عينيها.
(إذن كلتاكما ستنجبان قريبا... ما شاء الله... بارك الله لكما... أنا متشوقة وجدا سعيدة من أجلكما...)
تناظرت تقوى وحفيظة بإشفاق حاولتا مداراته عنها بالثرثرة في مواضيع مختلفة ومبهجة.
.........
**بعد أسبوعين**
*البلد الأجنبي**
**المؤسسة التعليمية لذوي الاحتياجات الخاصة **
جمّدت ذراعيها في الهواء معيدة إياهما بينما تلوم نفسها على حركتها التلقائية، حامدة الله أن نيكول لن ترى فعلتها فهي مثلها تنفر من أي حركة أو كلمة تشعرها بشفقة أحد ما نحوها.
(ألم تملي بعد؟)
سألت نيكول بعد أن استقرت على الكرسي المعتاد وسط حديقة المؤسسة في انتظار زوجها فكان الرد من سارة ضربة كتف كمعاتبة شقية معها ضحكة مرحة مصاحبة لكلمات مازحة.
(لن أدعك تفوزين برهانك .. أريحي قلبك..)
(لااااا!)
هتفت بها نيكول بدهشة، تستدرك بضحكة حرجة طُبعت على ملامح وجهها الدائري الممتلئ قليلا.
(كيف علمتِ؟)
مدت سارة كفيها لتنزع خاصتي نيكول من على خذيها، ترد بمرح.
(كنت أشك في ذلك وأنت الآن أكدت لي...هيا أخبريني! .. مع من كان الرهان؟.. زوجك أو صديقك الأستاذ...)
أصدرت نيكول صيحة نزقة تلعن غباءها فضحكت سارة ملئ شدقيها ووضعت قدما على أخرى، ترتدي جينز أسود ضيق عليه كنزة بيضاء مستورة بمعطف من نفس اللون طويل الى الركبتين من خامة الجبردين أما صديقتها الحانقة فترتدي معطف من الكشمير الرمادي الرفيع الى نصف فخديها وسروال جينز أزرق ضيق.
(أخبريني هيا!...)
بعثرت سارة خصلاتها السوداء حول كتفيها تستنشق الهواء العليل، مستمتعة بأشعة الشمس الدافئة الفارضة لنفسها على استحياء بين نسمات البرد الرافضة للرحيل بعد.
(حسنا كشفتني ... مع الأستاذ سامويل...)
مددت سارة شفتيها تضغطهما لبعضهما ثم قالت بنبرة هادئة غادرها المرح .
(لن أرحل نيكول... قررت أن أنهي دورتي كاملة.. ولن أغادر حتى أتقن لغة القافة... والإشارة... والإشارة باللمس... فلا تتعبي نفسك... لدي هدف الآن!... وهذا ممممم)
أمالت رأسها وضيقت مقلتيها، تفكر بينما بسمة ساحرة تتألق على شفتيها.
(ماذا!)
أيقظتها نيكول من شرودها فتعمقت البسمة بسحرها الجذاب لتشمل كامل وجهها، تجيب بنبرة رائقة مع هزة كتف.
(منعش... من الجميل أن يكون لدى المرء هدف... يحي الدماء في العروق ويجعلك تتأمل بمستقبل مشرق وجميل...)
التفتت إلى نيكول التي اقتربت منها، تعقب بمزاح.
(هل تحبين يا فتاة؟)
تأملت سارة وجه نيكول التي تخيلتها حسب صوتها ذو البحة المفخمة نوعا ما بصورة مختلفة تماما عن حقيقتها الأجمل وبدت لها أكثر واقعية وهي تشهد على حبها المتبادل بينها وبين زوجها الوسيم هو الآخر على فكرة!
(لماذا يجب أن يكون حبا؟)
سألتها سارة دون أن تكف عن تأمل قسمات وجهها فردت الأخرى بنفس مرحها.
(لا أعلم... هل هو حقا حب!)
حركت سارة رأسها بينما تجعد دقنها، مجيبة بمكر.
(أجل... حب!...)
بوجه يشع حماسا في ما عدى مقلتيها الضائعتين في مسعاهما، رفعت رأسها باستفسار فاستدركت سارة بنفس المكر رغم وجوم عبر صلب قلبها من مرأى ضياع وجهة عينيها الجميلتين.
(حب نفسي... وعائلتي... وأنت يا صديقتي... )
ضحكت حين التوت ملامحها بإحباط فضربت كتفها بخفة، تكمل بشقاوة.
(ألا يستحق ذلك الحب كل شيء؟..... )
(بلى ... لكن ظننت!... حسنا لا تكترثي!)
زمت سارة شفتيها، ترمقها بغموض ثم تنهدت تقول.
(لا يا نيكول... لن يحدث ما تسعين إليه... وكنت سأطلب منك التوقف حين تأكدت اليوم...)
عضت نيكول شفتها السفلى بحرج وذنب ثم طلبت منها برجاء.
(هو معجب بك منذ أول أيامك هنا... لم يخبرني بنفسه لكن زوجي ماتيو فعل... تعلمين أنهما صديقين مقربين... )
صمتت تنتظر تعقيبا وحين لم تسمعه استدركت، تكمل بتردد وبعض الحذر.
(أعلم أن العديد من الناس يظنون بأن غياب بعض الحواس يعتبر نقصانا أو عيبا...)
بترت حديثها حين زفرت سارة بقنوط، تقاطعها بلوم لمسته في نغمة لهجتها الضائقة.
(لن أكذب عليك نيكول... كنت لأفكر هكذا قبل ما حدث لي... لكن الآن!... لا! ...لست غبية ...تجربة واحدة تكفيني لأتعلم حقيقة الحياة...)
عادت بسمة الأمل لتشق ثغر نيكول وهي تحاول مجددا.
(إذن لما لا تقبلين الخروج مع الأستاذ سامويل بضع مرات .. من يدري ماذا سيحدث؟... امنحيه الفرصة سارة!)
انفجرت سارة ضاحكة فقطبت نيكول بحيرة، تستفسر .
(ما المضحك الآن في ما قلته؟)
ربتت على فخدها معتذرة، تجيب.
(أيضا هذا كنت لأفعله قبلا مع شاب وسيم وبكامل حواسه ... لكن الآن!.... بالتأكيد لا أستطيع حتى لو كان كما سبق وذكرت... شابا وسيما يتمتع بكل حواسه... وغنيا أيضا.... لا أستطيع؟)
تعمقت الحيرة بين قسمات الفتاة، تسألها مجددا بفضول.
(إذن! هناك شخص محدد؟...)
غامت أنظار سارة بشرود عابر ثم ردت بجدية لم تخلو من اللطف.
(ولو!... ليس هذا السبب... نيكول يا عزيزتي تنسين بأنني مسلمة ولا يجوز لي الاقتران بشخص ليس مسلما... هذا أولا... وحتى إن كان مسلما لا يجوز لي مواعدته كما تجري العادة هنا هذا تانيا... ديننا لا يعترف سوى بخطبة معلنة مؤطرة بحدود واسعة كعدم الاختلاء وعدم اللمس .... يليه الزواج ... وهذا الذي يحل فيه كل شيء بين الزوجين...)
(عدم اللمس حتى في الخطوبة؟... وكيف تكون الخطوبة بدون لمس وتبادل للقبل؟...)
انفجرت سارة مجددا بالضحك حتى ارتد عنقها الى الخلف ثم قالت من بين أنفاسها المتقطعة.
(يا إلهي!... أتمنى أن يسمعك أخي يوسف أو بابا... أو ما...ما...)
تلكأت تزدرد ريقها فرفعت نيكول كفها، تلتمس طريقها نحو وجهها حتى وجدته وربتت عليه بحنو وتعاطف.
(فهمت!... أنتم كخالتي ماريا... هي مسيحية متزمتة... لا تعترف بأي علاقة بين الرجل والمرأة سوى الزواج... حتى الخطبة مع أنها يقام لها حفل كبير في الكنيسة... أذكر ابنتها الكبرى ظلت تراقبها وتجالسها وخطيبها الى أن أقاموا حفل العرس .... وإلى الآن لا تمرر فرصة لتُعبر عن سخطها حول ما يحدث من تحرر فاسق حسب وجهة نظرها... وكل من يقيم علاقة خارج إطار الزواج بالنسبة لها عاهر....)
ضحكت ثم مالت نحوها وكأنها تسرها بخبر خطير.
(لقد أخفيت عليها علاقتي بماتيو قبل الزواج... من حسن حظها أنني انتقائية ولم أفقد عذريتي في مرحلة مراهقتي كأغلب صديقاتي... ثم بعدها أصبت في الحادث فشغلتني الدوامة السوداء حتى أخرجني منها ماتيو وعلمني كيف أعيش من جديد....)
تنهدت بحالمية فابتسمت سارة بتأثر، تقول.
(هنيئا لكما...لا أظن عمتك متزمتة ... هي فقط تحاول إرضاء ربها بتطبيق شريعتها...)
مسدت نيكول على رأسها بحيرة، تستفسر.
(لكن إذا كنت كما تقولين تحاولين إرضاء ربك... لماذا لا ترتدين كما ترتدي المسلمات؟... يغطين شعرهن وأخريات حتى وجوههن؟ ...)
سكنت سارة، تفكر فحركت نيكول كفها بعد أن كانت أعادته الى حجرها تضعه على ركبتها، تستدرك باعتذار.
(لم أقصد التطفل أو ازعاجك...)
(لا... أنت لم تزعجيني ... كما أنك محقة... نحن لا نطيع جميع أوامر الله... نتقاعس والتبريرات لا تنتهي... تبريرات واهية ... لذا لن أبرر لك... فأنا أفكر في الأمر كثيرا مؤخرا...)
أطرقت سارة برأسها، تتأمل كفيها المحشورين بين ركبتيها، تصغي الى رد صديقتها.
(حسنا نحن أيضا نعتبر أنفسنا مسيحين... لكن كما أخبرتك قبل قليل.. خالتي أكثر من يلتزم بالشرائع في عائلتي... ونحن نتهمها بالتزمت والتعقيد...وكثيرا ما خلق الاختلاف بينها وبين باقي أفراد عائلتي مشاحنات ومشاجرات لا تنتهي... وفي النهاية ابتعدت وقليلا ما تزور العائلة... في المناسبات فقط...)
شردت سارة تحرك رأسها بهزات خفيفة رتيبة إلى أن أجفلت على صوت نيكول.
(آه!.. لقد أتيت!...)
رفعت رأسها لتستقبل بسمة ماتيو الودية مع تحية من رأسه ردتها بإيماءة مشابهة ثم قامت لتودعها وقبل أن ترحل التفتت إليها تناديها بالشقاوة المشتركة بينهما.
(سارة!... نسيت أن أخبرك... أنا حامل!)
(ماذا!)
هتفت ببلاهة وزوج نيكول يحرك كفيه مع كفي زوجته، يخبرها ما بدى أنه عن ردة فعل سارة لأنها ضحكت بتسلية ثم لوحت، تكمل قبل أن تختفي مع زوجها.
(سعيدة بأنني فاجأتك... إلى اللقاء!)
رمشت سارة مرات عدة ثم أغلقت فمها تعقب بعبوس مستنكر تحول الى بسمة مبتهجة.
(سأعاقبك لإخفائك الأمر عني... المجنونة حامل... يا إلهي)
..................
**مساء .... منزل أهل نهيلة**

(ولماذا تركتهم واتصلت بي؟)
عبست نهيلة أمام شاشة اللوحة الإلكترونية الموضوعة على الطاولة الخاصة بأشغالها اليدوية في غرفتها، تجيب بخجل احتقن له وجهها ذو الملامح البشوشة المكتنزة والمحببة الى كل من يعرفها.
(وماذا سأفعل بعد؟...أنهيت واجبات الضيافة...)
لمحت وجه سلا المتفاجئ فتوقعت قولها الذي لم يتأخر.
(أنت العروس التي يتم خطبتها حاليا... لما لست معهم؟... أنا لا أفهم... ولماذا تأنقت إن كنت لن تحضري اجتماههن؟...)
نظرت نهيلة الى هيئتها في الفستان التقليدي بلون المرمر بإضافات خاصة من ابتكارها بعد أن أحضرته من عند الخياطة، ألقت عليه سحرها الخاص بالفضة فعلقت وورودا صغيرة صنعتها بيديها من الفضة على طول حزامها كما قامت بتعليقات على حافتي الكتفين وأطراف الكمين ولم تنسى تعليق بعضها على طرفي الوشاح وكانت النتيجة خلابة.
(دخلت الى غرفة الجلوس حيث الجدة جوهرة والخالة صفية مع شقيقاتي وزوجات أشقائي بالإضافة الى زوجة والد العريس.... لم أتحمل الظرافة التي وقعت عليهن من السماء فجأة فانسحبت....)
همت سلا بالتحدث فقاطعتها نهيلة تغير الموضوع.
(ماذا قلتِ عن سارة؟... كنت مشغولة في المطبخ اليوم... وهذا ما تذكرته واتصلت بك من أجله ...)
لوحت سلا بكفيها حماسا فقطبت نهيلة استغرابا.
(لن تصدقي ما سأخبرك به!)
جعدت دقنها، ترد بحذر.
(حسنا سنرى.. ماذا هناك؟)
اتسعت مقلتا سلا بدهشة لم تغادرها.
(كنت مع أبي في غرفة الجلوس حين عادت سارة من الخارج محملة بأكياس التسوق ... فتحتها أمامنا وسحبت خمارات بألوان داكنة مختلفة وبعض الأزياء التركية الواسعة الخاصة بالمحجبات..... ثم أخبرتنا بكل بساطة أنها ستتحجب...)
تدله فك نهيلة بذهول قبل أن تبلع ريقها، معقبة بتهكم.
(لقد تفاجأت بالفعل....)
قاطعتها رافعة سبابتها، تستدرك بقية المفاجأة.
(رغم ذهول أبي بقرارها لكنه بدى راضيا وكان على وشك تهنئتها وتشجيعها ... لولا تتمة حديثها الذي عكر مزاج والدي وقلب عقلي صدمة بسببها.... )
حبست نهيلة أنفاسها من شدة الفضول قبل أن تشهق مصدومة هي الأخرى.
(قالت أنها ستبدأ بالحجاب مع أنها تفكر في تغطية وجهها كله...)
ثم أشارت لنهيلة من خلف الشاشة المستطيلة، تهتف بظفر مرح.
(هذا كان رد فعلي!... )
هزت نهيلة كتفيها، تفسر..
(صدمتي ليست استنكارا انما عدم تصديق بأن سارة قد تقرر قرارا عظيما كذاك ...)
تهدلا كتفا سلا، تجيب ببعض العبوس القلق.
(أبي لم يوافق لأنه يخشى عليها...تعلمين كيف هي الأوضاع هنا!.. يتعرضون للمسلمين خصوصا الملتزمين.... هذا غير كون تغطية الوجه ممنوعة من الأساس في كثير من الأماكن هنا...)
هزت نهيلة رأسها بتفهم، تعقب.
(يبدو أن الموجة اجتاحت البلدان الإسلامية مند مدة... وأضحى تغطية الوجه مخيفا وغطاءا للمجرمين وبلا بلا بلا.. وهناك من يخططون فعلا لمنعه في بعض دولهم... أما المضايقات فحدث ولا حرج....)
تلكأت نهيلة قليلا ثم سألتها بغموض.
(لكن أنت ما رأيك؟)
أشارت سلا لنفسها باستفسار قبل أن تهز كتفيها، تجيب.
(هي حرة... كما كل شخص حر ...إن أرادت تغطية نفسها بالكامل عن قناعة فهي حرة... لكنني لا أستطيع منع شعور الخوف عليها مثل أبي... إنها شقيقتي ومن الطبيعي أن أقلق عليها...)
(وهل تظنين حقا أنها مقتنعة؟...)
مططت سلا ملامح وجهها، ترد بيقين.
(سارة جريئة ولا تفعل سوى ما هي مقتنعة به وهذا ما كان يوقعها في المشاكل سابقا...ما إن تقرر شيئا تندفع إليه بكل قوتها وإيمان مبهر... لذا أنا متأكدة بأنها مقتنعة ولن يهدأ لها بال حتى تنفذ قناعتها...)
فهزت نهيلة رأسها مؤكدة.
(على العموم الحرية لا تتجزأ كما يسمحون بالعري لا شأن لهم بمن يريد ستر نفسه... وكل تلك الحجج مجرد هراء... بالله عليك من يريد أن يتنكر لا يحتاج لخمار يضعه على وجهه وجسده... طبقة واحدة من أصباغ الزينة التي تفننوا في اختراعها وتُطمس معالم الوجه كليا.... لم يعد الإنسان في حاجة لعملية جراحية كي يغير من خلق الله... نرى بعض الوجوه فنسأل الله السلامة ... لم نعد نعرف من الرجل ومن المرأة!...)
ضحكت نهيلة بانشراح خفف من توترها السابق، تكمل بسخرية.
(أصبحت أستصعب التفريق بين الفنانات والمشهورات كلهن متشابهات ومن يقلدهن أيضا ... وكأنهن تم انتاجهن من نفس المصنع... يا الله! ... وكم الأصباغ والكريمات! ... حاولت مرة إرغام نفسي على مشاهدة مقطع الى آخره وكل ما استنتجه بعد كم الملل الذي شعرت به أن وضع الزينة حاليا كرسم لوحة فنية زيتية من الأساس... لا أظن بأن فان غوخ أو دافنتشي كانا يستغرقان كل ذلك الوقت ولا كم الأصباغ المخيف في رسم لوحاتهم ....)
ثم ضحكت بيأس مجددا، تشاركها سلا.
(حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من النمص والوصل فتحول إلى حلق كامل للحاجبين والوشم مكانه والوصل تعدى الشعر الى الرموش... كلما تأكد الشيطان من تطبيع الانس على أمر محرم انتقل إلى مرحلة أخرى ألعن... يا الله نسألك الحكمة والسلامة!...)
هدأت ضحكات نهيلة ومسحت جوانب عينيها بينما تقول سلا بامتعاض.
(لو يعلمون مما تصنع أغلب مواد التجميل الفاخرة منها فما بالك بالرديئة المنتشرة!... كان ذلك سبب إعراضي عن وضع مواد التجميل واكتفائي بالمواد الطبيعية.. وكثيرا ما كانت ماما تحاول إقناعي ببعضها... رحمها الله ماما... كانت تحب وضع الزينة وأنا كنت أحذرها من آثارها على المدى الطويل وكان بابا وأخي يغازلانها بكونها طبيعيا ملكة جمال ولا تحتاج للأصباغ... وكم كان يسعدها ذلك...)
طغى الوجوم على وجه ولهجة سلا فغيرت نهيلة الموضوع مجددا.
(وماذا كانت نتيجة حوار سارة مع والدك؟)
حققت هدفها حين ردت بملامح عادت إلى دهشتها.
(فزع بابا واتصل بيوسف الذي قام بتهدئته .... وبعد حديث طويل اتفقوا على أن تتحجب أولا وتدع أمر تغطية الوجه لوقت لاحق...ولقد استغربت من سرعة موافقة سارة على الاقتراح ... فأختي حين تتخذ قرارا وتتحمس له لا يستطيع أحدا إقناعها بالعدول عنه... لدي إحساس خاص بها منذ عودتنا الى هنا وحين ركزت عليها جيدا زاد توجسي...لكن لا أعلم بماهيته بعد!...)
ضيقت نهيلة عينيها، تستفسر بفضول.
(أي إحساس؟)
هزت كتفيها بصمت فعادت تطرح سؤالا آخر.
(وأنت يا سلا... متى ستغطين شعرك الجميل هذا؟... وتغيرين سراويلك الضيقة؟ ... أراهن على أن عبوس أخي المفاجئ بعد بسماته الغريبة التي أعرف يقينا أنها تخصك بسبب تذكره لهيئتك في ملابسك الضيقة فيتخيل كيف ينظرون إليك هناك.... لماذا تعذبين أخي يا فتاة؟)
قالتها نهيلة بطريقة فكاهية جعلت سلا تبتسم بخجل مرح، ترد بهدوء.
(لا أعلم... لم أفكر في الأمر... مع أن أخي وأبي كثيرا ما كانا يلفتان نظري ... لا أدري... لا أملك مبررا...)
زفرت بضجر فقالت نهيلة، تدعي الامتعاض.
(لن أدّعي بأن أغلب من ترتدينه هنا بسبب الالتزام .. وأنا منهن حين تحجبت في صغري كان بأمر من شقيقاتي الكبيرات وأنا كنت أقلدهن وكبرت على أنه عادة تخص النساء في بلدتنا...لكن مع نضوجي اكتشفت أنه أمر من الله للنساء... كأمره لنا بالحفاظ على عفتنا ...أنت محقة ليس لديك مبرر... فقط يلزمك دافع...)
نطقت آخر حديثها بنظرات ماكرة قبل أن ترفع رأسها لمن دخل، يشير إليها بأن تلحق به.
تجمدت قدماه حين لمح اللوحة الإلكترونية لكنه عاد يشير لها بأن تسرع فلوحت لسلا تعتذر منها وأغلقت الاتصال لتتقدم بوجه يتحول الى لون قرمزي وأنفاس تتلاحق بسرعة، مواكبة لخفقات قلبها العاشق.
تلكأت على عتبة المخرج نحو فناء الدار حيث ينتظر بهيج على واحدة من الأريكتين فأشار لها نبيه بنفاذ صبر.
تنفست بعمق ثم مشت بتعثر حتى جلست على الأريكة الأخرى بعيدا عنه، تطرق برأسها حياء.
تغلب بهيج على انبهاره من هيئتها الجذابة، يبتسم بهدوء لخجلها فنظر نحو نبيه الذي أشار له قبل أن يبتعد عنهما قليلا، يوليهما ظهره منشغلا بتفقد وريقات شجرة الزيتون.
(لماذا تهربين مني؟)
رفعت رأسها باستنكار فاتسعت بسمته الماكرة لتتحفز ملامحها، ترد بخفوت لكن حازم.
(لم أفعل!)
هذا ما كان يريده أن يستفز ملامحها المتحفزة فيحظى بمشاهدة كاملة لجميع وجهها.
للحظته تلك لا يصدق أنها وافقت عليه وهو في بيت أهلها يخطبها بشكل رسمي لازال يخشى من كونه مجرد حلم كاستدراج لتصديقه قبل أن يستيقظ على واقع الماضي الفظيع ليتألم أضعافا مضاعفة حين يكتشف أنها حلم لم ولن يناله.
(تسللين دخولا وخروجا من المحل... لماذا يا ترى؟)
عبست تزفر بخفوت فبلل شفتيه، يستدرك بجذل.
(شكرا لك...)
قطبت بحيرة احتلتها فجأة، ترمقه باستفسار تحول الى إدراك وخجل مع رده التلقائي الصادق.
(لأنك وافقت... شككت للحظة أنك تكرهينني...)
(لازلت أكره الألوان....)
نطقت دون وعي فارتفعا حاجبيه ونظر إلى كنزته الزرقاء بلون عينيه من الصوف الرقيق الناعم وسرواله الأسود الجينز ثم استفسر منها بفضول.
(لا تناسبني الألوان؟)
انغلقت ملامحها أكثر، تفكر بأنها مناسبة جدا وتلك هي المشكلة لكنها صمتت تنظر الى كل شيء سواه.
شرد فيها لبرهة، يعبر عن إعجابه.
(فستانك جميل...)
طنين! طنين يصم آذانها مع ارتفاع لدرجة الحرارة فجأة لتشعل من لهيب أحشائها.
بلعت ريقها وأحنت رأسها، تخفي حالتها المضطربة بينما هو يكمل بخفوت مؤثر.
(تلك الإضافات الخاصة بك ... خلابة مثلك تماما...)
انتفضت واقفة فرفع رأسه إليها، مستفسرا بذهول.
(ما بك ؟)
تبلل شفتيها ثم تبلع ريقها تباعا، تفرك كفيها بارتباك فضح تأثرها وخجلها فتجيب بتقطع.
(س... أذهب.)
(لم نكمل حديثنا بعد!)
برجاء طلب منها فنظرت الى أخيها المستغرق في ما يفعله ثم زفرت بعمق تتمالك نفسها وعادت لتحتل مكانها دون أن تنظر إليه.
بلهفة لا يشبع من تأملها بعينيه المحاصرتين لكل تفاصيلها، قرر بهيج التحدث فيما يهمه، ينتقي كلمات لا تزيد من وجع قلبه المثقل بذنوب الماضي.
(طلبت لقائك من أجل أمر يهمني لتعلمي كل شيء قبل أن تقرري الموافقة النهائية...)
شعرت بنبرة مختلفة في صوته عن المرح السابق فنظرت إليه أخيرا، تبحث عن ألمه الناضح به حروف كلماته ووجدته هناك قابع بخبث، يتسلى على حساب معالم الندم ويتغدى على شعور الخزي والهوان.
(أعلم أنك على علم بما.... أعني... أنت ونبيه انتبهتما إلى...)
أشفقت عليه فتدخلت بحزم، تريحه من الإحراج.
(كما أعلم أنك توقفت... وعدت الى ما كنت عليه قبل ذلك...)
افترقت شفتاه عن بعضهما بشرود سحبه إليها، يتملى ملامحها المصممة، تمده بالعون على الثبات وتذكره بما كان عليه في ماض أجمل أبعد من ماض أقرب يثير في نفسه الخزي والنفور.
(بل أصبحت أفضل من كل ماضي بمراحله المختلفة... الحمد لله ولا أنوي العودة مهما كلفني الأمر بإذن الله...)
هزت رأسها بتفهم ورضى ثم سألته بحيرة.
(إذن ما الذي يؤرقك!)
انبسطت شفتاه ببسمة حزينة، يجيبها برجاء خفي.
(تعلمين أن ترك ذلك العالم يكون له توابع ... فهل أنت قادرة على ذلك؟)
علمت قصده وتذكرت والدتها لكنها أومأت، تقول بحس ظرافتها المعتاد رغم جدية النبرة.
(الشياطين وعالم الجن بأكمله... آخر ما يؤرقني فيما يخص علاقتنا...)
لمعت عينيه ببريق خطف دقات نافرة من وسط صدرها الضائق بأنفاسه فتنهدت مرهقة من موجة الإثارة تلك بينما هو يسألها مؤكدا على ما أشعل نيران الشوق عبر جنبات أحشائه.
(وما الذي يؤرقك فيما يخص علاقتنا؟...)
أنبت غباءها على ما تفوهت به ثم قالت بجبين مقطب ومن بين فكين متصلبين.
(أنت؟)
(أنا؟)
وجه سبابته اليمنى نحو صدره، يستفسر بدهشة.
(لماذا؟)
مسدت على جبينها بتوتر ولم تجد بُدا من إخباره بما تخشاه حقا لكنها لم تستطع قول الكثير.
(أنت تلفت الأنظار كثيرا...)
تجمد قليلا، يرمقها ببلادة لحظية قبل ان تنفرج قسمات وجهه وتتسع بسمته لتشمل وجهه، يجيب بمكر مازح.
(تقصدين أنني وسيم؟)
تأففت تهم بالوقوف فمنعها بإشارة من كفه ونظرة معاتبة، يستدرك ضاحكا بهدوء.
(حسنا أعتذر!... لكن حقا لا أعلم كيف أجيبك على ذلك؟... سوى بأنني بكل ما في لم ولا أرى سواك ....)
أطرقت برأسها خجلا، قلبها المنفعل تأثرا يتعب صدرها وهو لا يرحمها.
(على فكرة!... الآن وقد قبلت طلبي ...)
سحب القطعة الملحقة بهديته وناولها إياها، يكمل بملامح مسرورة وكأنه ملك الدنيا بمشارقها ومغاربها.
(حين تشرفين بيتنا سيكون الصندوق ملكا لك بأكمله...)
أمسكت بالقطعة على شكل دبوس سميك ذو رأس صغير مزخرف، تقول بينما تفر من حميمية نبرته البحة.
(بخصوص ذلك... العرس سيقام في العطلة الصيفية ان شاء الله....)
..............
**منزل الفقيه عبد العليم**

يراهن على أن وجنتيه قد احمرتا ولابد ذلك ما يثير بسمة المرح على ثغر الفقيه الناظر إليه ببشاشة وحنو.
(كنت أود أن يحضر معي باقي أفراد عائلتي لكنكم أعلم بالظروف لذا جلبت خالي عبد الله لأطلب كريمتكم للزواج... وإن وافقتم ان شاء الله نحدد موعدا للعرس في العطلة الصيفية... )
نظر الى خاله عبد الله الذي أومأ له مشجعا فتحدث الفقيه بينما محسن يكتفي بالصمت باسما هو الآخر.
(أصلح الله الأحوال بني... ونحن يشرفنا طلبك وقد أخبرنا محسن به قبلا... ويسعدني بأن أبلغك...)
تلكأ قليلا على بسمته البشوشة فبلع يوسف ريقه بترقب تحول الى راحة ودقات قلب نافرة بابتهاج حين أكمل الفقيه حديثه.
(بموافقتنا... بارك الله لنا ولكم... وتمم الزواج على خير...)
تدخل خاله مباركا هو الآخر بسرور صادق، يشعر به نحو ابن من صلبه حقا، داعيا الله بأن يعود ابنه علوان سالما معافى.
(مبارك عليك يا يوسف... سعيد بنسبك يا صاحبي)
همس بها محسن ببهجة فربت يوسف على ركبته، يرد بتأثر.
(بارك الله فيك صديقي... السعادة كلها من نصيبي...)
هم بطلب شيء ما ثم تراجع فقطب محسن يشعر به، مستفسرا بحيرة.
(لمَ تراجعت يا يوسف؟... تريد قول شيء ما؟)
لمس أسفل دقنه بظهر كفه ثم قال بتردد احمر له وجهه مجددا.
(هل يمكنني التحدث مع ...)
لم ينطق باسمها فاتسعت بسمة محسن وقام يسحبه معه، هاتفا باعتذار لطيف.
(عن اذنكما سنعود بعد قليل إن شاء الله...)
رافقه يوسف متأبطا ذراعه لا يعلم حقا من يقود الآخر حتى انحسرت خطوات محسن، فتوقف بدوره.
(حياء!... أمي!)
ظهرتا قرب باب غرفة الجلوس، والدته ببسمة فرحة لم يخطئها وهي برأس مطرق حياءا.
(مرحبا بني!... هل تحتجان لشيء؟)
(يوسف يرغب بالتحد مع حياء... )
ضحكت والدته بجذل، تشير له الى غرفة الجلوس.
(تفضل بني... إنه بيتك... تفضل!)
خطى بحرج ونزع حذائه، يلحق بها بينما تجلس على احدى أرائك الغرفة حيث لمح دفاتر وأدوات فوق المائدة الدائرية المتوسطة لسجاد تقليدي بألوان متداخلة.
التقط تكومها على نفسها، ترتدي ما بدى له بدلة رياضية بسترة طويلة إلى كاحليها بلونين أخضر وأبيض ووشاح أخضر طويل، يكاد يبلع نصفها العلوي بأكمله.
تبسم وقرر الجلوس قبالتها تفصل بينهما المائدة الدائرية.
تجاهل حديث محسن مع والدته قرب مدخل الغرفة وبادرها بنبرة لطيفة.
(حسنا لا أعرف كيف أبدا الحديث... وغالبا أشعر كما تشعرين تماما...)
نظرت إليه فأشار الى وجهه مما دفع بها للضحك بخفوت، تغطي فمها بطرف وشاحها.
عبس بادعاء، يمازحها.
(هل تضحكين علي آنسة حياء؟... لأن وجهي يحمر كالفتيات!..)
انتظر تصديقها لكنها فاجأته حين رمقته بعتاب تزم شفتيها، فكان أول فكرة استنتجها حولها أنها مثله قد تكون حيية لكنها أبدا لا تتردد في التعبير عن ردود أفعالها.
(إذن كيف نبدأ حديثنا آنسة حياء؟)
تنفست بعمق تهدئ من نبضات قلبها المتعاقبة واستدعت واجهتها الرسمية والتي تعلمت كيف تثقنها بسبب عملها، تُسِر قلبها بوعد خاص به لتمنحه كل ما يصبو إليه من مشاعر دافئة طويلا ما طمرتها منذ طفولتها، خوفا من أن تعلق نفسها بأمل واهي إن استسلمت له ولم يتحقق يتحول إلى وبال معذب لبراءة نبضاتها.
الليلة! حين تأوي الى سريرها وبعد أن تحمد الله مجددا في سجودها، ستمنح قلبها كل المساحة ليحتفل بنصره الكبير.
(بما يريحك سيد يوسف....)
ضحك فأسدلت جفنيها رحمة بقلبها من وسامته المتضاعفة أثناء ضحكه.
(ماذا لو بدأنا بحذف الألقاب... حياء!)
أمالت رأسها، تبتسم بحياء فنطق بهمس دون وعي.
(حياء تبتسم بحياء... )
رفت بجفنيها ونظرت إليه بسرعة كما فرت منه مرة أخرى فتنحنح يجلي حلقه، ينفض عنه غيمة العاطفة الوردية التي تلفهما.
(كنت أريد أن أسمع موافقتك بنفسي... وأخبرك بما سبق وأخبرت به محسن... )
صمت ينتظرها فبللت شفتيها تحمر بشدة لكنها أومأت بصمت فأكمل حديثه وعينيه لا تطيعانه بترك ملامحها، يتعلق بها بشكل غريب على نفسه، لم يسبق له أن تعلق بملامح فتاة أو حتى يعيد النظر إليها مرتين.
(سنعقد قراننا عندما تجهز أوراقنا.... لكي أباشر معاملات استخراج أوراق السفر والإقامة الخاصة بك في البلد الأجنبي....)
أومأت بتفهم ثم قالت بينما تخفي كفيها تحت وشاحها.
(محسن بلغني بأنك لست معترضا على عملي!...)
رفع كفه مؤكدا لها بوعد صادق، نضحت به مقلتيه المظلمتين بمشاعر قوية لم تستطع تحملها فتفر من النظر إليه كل حين.
(لا تقلقي... عملك يتعلق برغبتك الحرة ... إن شئت تركه لا مانع لدي وإن شئت الاستمرار أيضا لا مانع لدي... سنرتب للسفر حسب عطلك أما إذا كان لسبب طارئ حدث أثناء عملك أسافر لوحدي...ان شاء الله... )
تمتمت بمشيئة الله، تزم شفتيها بتوتر أربكه فيهمس لنفسه بأن ينهض من مكانه! وبأن ما أراده قد قاله!
لكن شيئا ما يسحبه إليها بقوة، ليتأكد بأن قراره بالزواج منها كان القرار الوحيد المناسب لقلبه وعقله وجميع قناعاته.
رن الهاتف فانتفض جسده مجفلا ليكتشف قدر سهوه بها، سحب هاتفه يتطلع الى شاشته باستياء تحول الى ريبة.
(عليكم السلام يا هشام... )
قطب بحيرة بالغة، يصغي إليه قبل أن يهتز قائما بطريقة فاجأت حياء التي نهضت هي الأخرى تحدق بملامحه المصدومة كما فعلت والدتها ومحسن قربها، يطرق سمعه بحذر وحرص.
(رواند ماذا!)
........

انتهى الفصل 24 أستغفر الله العظيم لي ولكم



التعديل الأخير تم بواسطة **منى لطيفي (نصر الدين )** ; 20-04-20 الساعة 04:36 AM
**منى لطيفي (نصر الدين )** غير متواجد حالياً  
التوقيع
لاإله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
رد مع اقتباس
قديم 31-03-20, 12:49 PM   #1049

**منى لطيفي (نصر الدين )**

مشرفةوكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وبطلة اتقابلنا فين ؟

 
الصورة الرمزية **منى لطيفي (نصر الدين )**

? العضوٌ??? » 375200
?  التسِجيلٌ » Jun 2016
? مشَارَ?اتْي » 4,633
?  نُقآطِيْ » **منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الخامس والعشرون


**بعد شهور مضت**
**مسجد جامع السلام**

أخفى جرير بسمته، جالسا قرب ابن عمه على السور القصير المحيط برحبة المسجد، يسأله بهدوء بينما ينظر إلى الهاتف بين يديه.
(إقترب موعد عرسك ولازلت غاضبا من تأجيله كل هذه المدة.. هل سنعيد الحديث كل مرة؟.... لقد أجلوه إحتراما لوفاة زوجة عمك وتعب عمك الذي ظننا أنه سيلحق بزوجته لا قدر الله ...)
إلتوى جانب خده بسخرية، يجيب دون أن يحيد بأنظاره عن الهاتف بين يديه.
)توفي أربعة أشخاص خلال الشهور الماضية ... إنها سنة الحياة ... البعض يقضون نحبهم وآخرون يولدون .. فلما نؤجل العرس كل هذه المدة؟)
أصدر جرير صوتا من بين شفتيه ينم على ضجره فإستدرك حانقا بينما يغلق هاتفه ليستدير إليه.
(ثم أنا لا أفهم سر تهربها من أي لقاء بيننا ... لقد تزوجنا رسميا وعُقد قراننا .... وهذا يعني أنها زوجتي وإن أردنا إسقاط الحفل من الحسابات لفعلنا ولجلبتها لبيتنا وقد جهزت الطابق الثاني كله ليكون لنا... لكنها تتهرب من مجرد أي لقاء حتى الخاص بإقتناء مستلزماتها كعروس.... حتى إختيار أثاث غرفة النوم تركته لي...)
هز جرير كتفيه، يحاول التبرير.
(تقوى أيضا تركت لي أمر أثاث غرفة النوم...)
عبس بوجه، معقبا برفض.
)تقوى لم تكن زوجتك إلا قبل العرس بيومين ... كما كنت تعلم ذوقها.. أنا لا أعرف شيئا عنها ... وحين أسألها يكون ردها افعل ما تراه مناسبا...)
قطب جرير، يرمقه بحيرة جعلته يتنهد ماسحا على وجهه يعترف بمزاجه العكر، لكنه حقا يستغرب من بعض تصرفاتها.
)أشعر وكأنها لا تكثرت يا جرير... لا أعلم وكأنني من يشتعل حماسا لحالي ...)
(لو كانت غير موافقة يا مؤنس لرفضت مباشرة... الحاج محمد يعشق بناته ويستحيل على أحد إجبارهن على ما لا يردنه... أنت تضخم الأمور وتنسى أنها فتاة... والفتيات يستحين عادة... حين يغيب الحياء حينها يجب أن تقلق لا العكس... )
ضم شفتيه، يفكر فأضاف جرير ببعض الإمتعاض.
(وها هي قد وافقت لتصحبك الى المدينة من أجل إقتناء خاتم الزواج... )
تذكر فلوح بكفه، يرد بضيق.
)وطلبت من زوجتك مرافقتنا ... كأنني سآكلها لو بقينا لوحدنا...)
على إمتعاضه أجابه جرير في حين يرمقه بطرف عينيه.
)هل تمانع صحبتي وزوجتي لك يا ناكر الجميل؟... لم أكن موافقا على فكرة وأخشى على زوجتي وهي في شهر حملها الأخيرة... سأهاتف تقوى ونتراجع...)
هم بسحب الهاتف فأمسك به مؤنس، ينطق من بين فكيه المطبقين.
)لا أنكر شيئا!... ومعروفك يا إبن عمي فوق رأسي لن أنساه لك ولشقيقة زوجتي الغالية... إتفقتم علي لا محالة!)
همس بتبرم فكتم جرير بسمته وبهيج يتدخل متهكما بمرح.
)أرخي وجهك يا مؤنس فأنت من سيفتتح موسم الأعراس يا صاح...)
ارتد رأس مؤنس إلى الخلف، يزفر برفض ساخر.
)عينيك الزرقاوين يا بهيج... ارحمني ولا تفسد ما تبقى ...)
ضحكوا جميعا من بينهم فواز الذي كان قبل قليل يخصه محسن بحديث خافت.
)أمي ترفض بتعنت مثير للغيظ... وهي تطيعها ... لا أكاد أراها وأنا مكبل بوعدي لوالدتي لا أريد لها خيبة جديدة نحوي...)
حينها لمح جانب فك محسن يتشنج بإنبساط يخفيه مؤازرا فمطط شفتيه مصغيا لحديثه الخافت.
)تحمل يا فواز... ثمار الصبر ذوات حلاوة فريدة... )
عبس بشدة، يهمس له بما يؤرقه ويذره ضعيفا أمام شهوته فتوسوس له نفسه العودة لغيه القديم ولو لمرة واحدة وقد إستجاب يوما لضعفه وأعاد التطبيقات على هاتفه لكن الأمر لم يرُقه وظل يتلوى بتأنيب ضميره الذي يبدو أنه أضحى أقوى عن ذي قبل فلم يتحمل كثيرا ليعود الى حذفهم مجددا.
ربت محسن على ركبته مثنيا عليه رغم خوفه الباطن.
)الحمد لله... ثبتك الله وزادك من فضله... فقط لا تستسلم... النفس عبارة عن إسفنجة تحوي داخلها أكثر ما تتعرض له... فإن كان خيرا من ذكر الله والعمل الصالح تكون لك بعون الله سندا حين الضعف ووسوسة الشيطان ..أما لو كان العكس نسأل لله السلامة تكون عليك عبئا تجرك إلى الهاوية .... )
هز فواز رأسه ممتنا، يغمغم بحمد الله فعاد محسن ليربت على ركبته، ينصحه بينما يسر نية للتحدث مع شقيقه الكبير فقد حان وقت لم شمله بزوجته والفراق بينهما في حالة فواز لن يكون في صالحه.
)حاول إسترضاء زوجتك فترضى والدتك بإذن الله...)
أومأ بتفهم ضائق ولمح نبيه المستغرق في حديث جاد مع يوسف، يشير الى محسن وكأنه يحثه على التحدث إليه فإستدار، يخبره.
)أوشكت على إنهاء معاملات الإرث أخيرا يا محسن... ولقد كنتَ محقا رواند لم ترث شيئا من أملاك جدي رحمه الله ... لأنهم أثبتوا شروعها في قتله... وعليه إقتصرت التركة بين خالي عبد الله وبيننا ... إستغرقت المسألة وقتا طويلا بسبب من توفى أولا من أجل الحقوق... لكن أوشكنا على إنهاء الأمر و الحمد لله...)
ما لبثت ملامحه أن تحولت لإستياء مع إسترساله.
)ما تركه جدي من مال نقدي سنتبرع به خوفا من الحرام الذي إختلط بحلاله... ولم نستبقي سوى الأملاك الع قا رية المعروفة كملك للعائلة.... )
تدخل بهيج، يخفي إحراجه ونفوره من أي شيء يذكره بما مضى.
(وأبي رفض نصيبه من أموال رواند... وهو على رأيه يا يوسف ضموها لما تريدون التبرع به...)
هز رأسه بتفهم ليعقب فواز بسخرية عبس لها بهيج يتأفف داخليا من نقمة صديقه عليه، لم تشفع له الشهور الماضية للنسيان وربما موقف أهل بيته ما يجعله نزقا وغير متقبل للصفح بعد.
(وماذا عن عمتك؟... هل لها نفس الرأي؟)
مطط بهيج شفتيه ولم يتخلى عن عبوسه، قائلا بهدوء.
(خالتي لا تقبل رؤية أحد... ووضعها مؤخرا أصبح مثيرا للقلق... وبما أننا نعلم جيدا مصدر أموال رواند فالجميع يتبرأ منها ....)
(اسألوا عنها يا بهيج... هي رحمكم فلا تغفلوا عنها... )
أطرق فواز برأسه ومحسن يكمل باستفسار.
(وماذا ستفعلون بالأموال يا يوسف؟)
مسد المعني لحيته ثم نظر الى نبيه الذي تبسم له بجذل أثر عليه فتبسم هو الآخر، مجيبا.
(أختي سارة مصرة على تخصيص مبلغ لبناء أقسام لذوي الاحتياجات الخاصة في المدرسة الابتدائية والإعدادية والثانوية لوادي الحقول ... كنا قد جهزنا ميزانية لتوفير وسيلة نقل لهم نحو المؤسسات الخاصة في المدينة السياحية لكن مع توفر مبالغ ضخمة الآن فلما لا نستغلها فيما هو أفضل ويسهل الحياة على الناس هنا؟... كما إقترحت أيضا تخصيص مبلغ لتنظيف المقبرة بإستمرار وتوظيف عاملين آخرين يساعدان العامل المكلف بها للحراسة ليلا ....)
لاقى الحديث إستحسانهم فعقب مؤنس بسخريته المعهودة.
(يبدو أن السحر والرشاوي تجارة مربحة...)
وجم يوسف فجأة وشحبت سحنته مما دفع بجرير ليلكز مؤنس الذي تأفف من نظراته المؤنبة كباقي أصدقائه الملتزمين للصمت بإستثناء محسن الهاتف بتحذير ملتاع.
(بل كلها خسارة... وها أنتم ترون بأنفسكم نتيجة الحرب مع الله ورسوله ... نسأل الله السلامة... الحرام حرام.. مهما غيروا من إسمه... وحرفوا معانيه... يبقى حراما لا يجلب على صاحبه سوى الوبال ... نسأل الله العافية...)
أمّنوا على دعائه فقال يوسف ببعض الشجن.
(تأثرنا جميعا بما حدث لا شك... لكن سارة تغيرت جذريا ... أضحت أكثر حكمة ومراعاة رغم سنها الصغير...)
(رب ضارة نافعة كما يقال... )
عقب بهيج بوجوم، يستطرد بحزن التقطوه جميعا ليقع في قلب فواز ببعض الشفقة والرأفة.
(لا يشعر بالبلاء إلا من تلبّس به يحيطه من كل جانب... يكبله بسلاسل من حديد ... وجب على كل من سلمه الله من بلاء أن يحمده ويشكر فضله ليل نهار... فهو في نعمة كبيرة...)
إستقام مؤنس بعد أن تفقد هاتفه، يشير لجرير.
(أعتذر منكم ... لدي موعد إن أجل لأي سبب كان مجددا سأفقد عقلي...)
إنتشر المرح بينهم كالنسيم القادم من بين جنان الحقول، يكسر من حدة أشعة الشمس الصيفية، لأول مرة ومنذ سنين طويلة يتسم الطقس لوادي الحقول بالإعتدال صيفا بعد أن تعود الناس على حرارته الخانقة.
.....................

**المدينة السياحية**

تلازم شقيقتها، تدّعي مساندتها فيكز على أسنانه غيظا، تلك الفتاة ستوقف قلبه من شدة الغيظ بسبب تصرفاتها والأسوء أنها تبدو تلقائية لا تشعر حتى بما تفعله.
فقد تجاوز سابقا إلتصاقها بشقيقتها وسحبها لها لتجاورها على المقعد الخلفي في سيارة جرير ليضطر مرغما أن يحتل المقعد الأمامي، يتحمل نظرات إبن عمه المتسلية ولم يتوقع أن تستمر في إلتصاقها بشقيقتها وهما داخل محل المجوهرات، تتفقد معها المصوغات فتسمر مكانه يضم ذراعيه إلى صدره كطفل حانق نزق.
تحرك جرير خطوتين، يقترب من زوجته وأطرق برأسه قليلا جوار أذنها، يهمس بتهكم.
(أرسلي أختك لزوجها قبل أن ينفجر من الغيظ...)
إلتفتت إليه لتتأكد من حنقه فإزدادت وجوما نابع من خوف عميق، مؤنس يجهل شخصية أختها المترددة طوال الوقت، لا تنكر محاولاتها الحثيثة مؤخرا لتدبير شؤونها بنفسها لكنها تظل خطوات صغيرة، يلجمها الكثير من الخجل والخوف.
(إذهبي لزوجك وأريه الخواتم التي نالت إعجابك....)
همست لها رغم أن رأيها في زواج أختها من مؤنس لم يتغير كثيرا، مكبلة بمخاوفها الخاصة.
رمقتها صفاء بحيرة تحولت لإدراك وترها فتلجلجت قليلا قبل أن تلمح تقوى تنفسها العميق وترددها الجلي وهي تستدير نحوه فتتأكد من جموده البادي على قسمات وجهه الحانقة.
بلعت ريقها تمسك بجانب فستانها، تواري تلبكها ثم تقدمت نحوه تبتسم بخجل يلفه الكثير من التوتر.
رمقها تسير نحوه بتعثر فتحولت العقدة على جبينه من حنق الى ترقب.
(ه... لا.... هلا أتيت لتختار معي ؟)
ضغط على شفتيه، يقارن التي أمامه بالتي أضحت تبادله الرسائل، يتساءل إن كانت ستتعود على التعاطي معه بشكل مباشر وتتغلب على ما يظنه إلى الآن خجلا.
إقترب منها وإستدارا إلى الحاجز البلوري حيث رُصّت داخله لوحات عرض الخواتم قبل أن يطرف بأنظاره نحو جرير المستغرق في حديث هامس مع زوجته المريحة لراحتي كفيها على بطنها المنتفخة، توحي بولادة وشيكة ثم أومأ للبائع كي يمنحهما بعض الوقت والخصوصية، يهمس لها بنبرة خافتة غمرها الحزم.
(حسنا صفاء هل أنت مجبورة على هذا الزواج؟)
إلتفتت إليه بسرعة آلمت عنقها حتى أنها أنّت بخفوت، تمسك بجانبه فهمس مؤنس بضيق.
(تبا!... تمهلي!)
تجمد الدم في عروقها بينما ترمقه بتبلد لحظي فدنى من وجهها، يستطرد بنبرة رققها شفقة على صدمتها الجلية.
(إهدئي!...)
إنعقد لسانها، مكتفية بتسبيل رموشها فزفر بخفوت يسترسل معاتبا.
(من حقي أن أشعر هكذا وأنت تتفادين أي لقاء بيننا ... لم نلتقي مرة واحدة منذ أن عقد قراننا قبل شهرين... وكلما طلبت منك إختيار شيء من مستلزمات زواجنا تركته لي... لماذا أشعر بأنني الوحيد المتحمس هنا؟.... ماذا يحدث يا صفاء؟)
بللت شفتيها مجددا، إرتباكها اللعين يلجم لسانها عن التعبير بما ينتفض به قلبها من رفض وإستنكار على قوله.
( إذن ما بك؟)
سألها بيقين مما قرأه على وجهها من رفض لقوله فأمالت رأسها، تجيب بإستياء معتذر.
(لا شيئ !... لا أفهم سر غضبك؟)
زم شفتيه محدقا بملامحها بتركيز أخجلها فأومأ، يستفسر منها بوضوح.
(تقولين أنك موافقة ومتحمسة مثلي لهذا الزواج؟)
هزت رأسها بسرعة وقلبها يكاد يقفز من صدرها، صدق حدسها الذي نبأها كثيرا بكونه تخطئ بالتعود على حاجز الهاتف كجدار يمَكِّنُها من حرية التعبير عن نفسها ومنحها أيضا وقتا للتفكير في ردودها ويوما ما ستواجهه ليل نهار بشكل حي ومباشر لن تنال فيه فرصا لتفكر قبل ردها، حاولت تأجيل ذلك دون وعي منها وهربت من اللقاءات بتبريرات لن تفوت رجلا بمثل ذكائه!
ذكاء يخيفها منذ أن عرف قلبها أول دقات نبضت من أجله كما تخيفها البسمة المرتسمة حالا على جانب ثغره بعموض بينما يستطرد.
(برهني لي!)
قطبت بجهل فإقترب أكثر منها مضيفا بعبث أرعد أطرافها.
(مساءا... حين تأتين برفقة عائلتك لتناول العشاء في بيتنا سأطلب منك إثباتا ... وحينها فقط سنرى...)
(كيف؟)
نطقت بإرتباك تعرق له جبينها فإتسعت بسمته العابثة، يجيبها وهو يشير إلى الحاجز الزجاجي
(ستعرفين... دعينا نختار خاتما الآن؟)
شمل المعروضات بنظرة متفقدة ثم رمقها بإستفسار.
(أيهم يعجبك أكثر؟)
لم تكن قد تخلت عن التحديق به حين عاد يسألها بجدية وكأنه لم يثر خوفها أكثر وفضولها في نفس الوقت.
بادلها النظر بهيام وكلما حقق في تقاسيم وجهها أكثر كلما تعلق بها قلبه أكثر، يجرب إحساسا لطالما سخر منه كما سخر من باقي ما يبتعد عنه نفورا أو خوفا أو حتى هيبة.
رمشت بخجل تحيد بعينيها نحو المصوغات وظلت تتفحصها بتمعن معجب، تسللت إليه الحيرة لتحوله من متعة إلى ضيق تعجز عن إختيار واحد وكل ما تفكر به.
هذا كبير لن يعجب أمي وهذا مرصع أكثر من اللازم أيضا لن يعجبها، ذاك صغير سيثير سخريتها وهذا أكبر مما ينبغي، ستجده سوقيا لابد!
(ألم يعجبك أي منهم؟)
أجفلت من أفكارها المرهِقة على تمعنه فيها، فزمت شفتيها تخفي فوضى مشاعرها، تطلب منه بلباقة لم تدّعيها.
(ما الذي يعجبك أنت؟)
ضيق مقلتيه، يكاد يقسم بأنها مستاءة من شيء ما قبل أن تتحول بسرعة رهيبة لتحدثه بطريقة لا تعرف أي أثر تركته في رجولته المنتفضة طلبا لها كما لم يحدث معه من قبل، بتلك النظرات البريئة في مكرها المزعوم وبتلك الشفتين الناطقتين بإغواء فطري لا يصدق نفسه لحد الآن كيف يقاومه ببسالة.
(حقا!... أختار لك الخاتم هو الآخر؟)
تلقت قوله كلوم فتكدرت ملامحها بضيق أزعجه ليستدرك مدافعا.
(حسنا!... بما أنك تمنحين ذوقي ثقة عمياء سأختار لك... أتمنى فقط أن لا يكون الأمر بسبب الخجل... فتندمين لاحقا وتتهميني بالتقصير ...)
قدم لها بسمته الساحرة فتبسمت بدورها تنحي ما يحزنها جانبا، تراقب إشارته للبائع كي يسحب لهما لوحة العرض التي إختارها ثم نزع الخاتم من مكانه، يقربه منها مستفسرا بمرح.
(ما رأيك؟... )
لم يهمها حقا شكله على قدر ما شعرته من راحة ففي النهاية ستخبر كل من يراه بأنه هدية زوجها لها ولن يحكم أحد على ذوقها الشخصي.
(جميل...شكرا لك)
(حقا!)
إرتفعا حاجبيه بإستغراب على ما يبدو كان في إنتظار نقاش طويل وتعدد إختيارات قبل أن يتفقا، كما يعرف عن الفتيات عموما لكن هذه تفاجئه كل حين.
أومأت بتأكيد فعقب بإستغراب لم يفارقه.
(لم ترتديه بعد كي تتأكدي!)
فغرت شفتيها، ترمقه ببلاهة ثم بسطت كفها ليدخله دون وعي بما تعنيه تلك الحركة بالنسبة له كرجل، إبتسم بعبث وقبض على كفها لأول مرة يحتويها برقة وحزم في آن واحد.
شهقت بخفوت وأرتد رأسها فإلتفتت بجزع تظن البائع في مكانه لكن مؤنس سحبها من كفها قليلا يهمس لها بعبث.
(إهدئي!)
تنفست بعمق جوفها يشتعل بسخونة محرجة وتجمدت مكانها تحدق به بينما يدخل الخاتم المكون من تلات قطع أوسطهم يحمل فصا على شكل ماسة لامعة، بروية مثيرة للإستفزاز.
إحمر وجهها بشدة وما كاد يصل الخاتم مكانه حتى جذبت كفها لكنه و بإصرار معاند، منعها وشد عليه قبل أن يرفعه ليدعي تأمل الخاتم عليه قائلا بمكر.
(إنه حقا جميل... )
ثم غمزها عابثا، يكمل.
(لكن كفك أجمل... وأنعم..)
سحبتها فتركها ضاحكا بقوة لفتت إنتباه إبن عمه الذي رمقه بحيرة واجمة قبل أن يعود مجددا لإستغراقه في حديثه الهامس مع زوجته.
(حسنا.. إتفقنا .. سنشتريه)
هتف مؤنس مشيرا للبائع الذي عاد يتبسم لهما برسمية فنزعت الخاتم تضعه أمامه ليكمل باقي إجراءات البيع مما جعل تقوى تعود هي الأخرى لحديثها مع زوجها.
)لماذا تفسر الأمور على هواك دوما؟)
نطقتها بحاجبيها المقطبين، أضحت أكثر حساسية لا تنكر، الحمل يلعب بهرموناتها، يضيق من مساحة إستيعابها ويدفعها للقنوط والحنق سريعا.
)قولي بأنك موافقة على زواجهما حالا وسأصدقك)
تحداها هامسا بخفوت جدي فتعمقت التجعيدة بين حاجبيها، ترمقه بعبوس لائم ليرفع سبابته باسما ببرود يؤكد على قوله.
)هذا ما أعنيه... ولست أفسر على هواي...)
مططت شفتيها بينما تتلمس على بطنها المنتفخة كل حين، تصغي إلى بقية حديثه الجاد.
)أنت لستِ موافقة على زيجتهما إلى الآن... يا تقوى مؤنس ليس كما تتخيلين... إنه مثلي بل أفضل مني وبما أنك وافقت علي....)
)بالتأكيد ليس مثلك وحتما ليس أفضل منك!)
قاطعته بتأهب رغم خفوت صوتها فإلتزم الصمت يفكر لوهلة هل الشعور بالسعادة لتأهبها هذا من أجله ورؤيتها له مختلفا أحق بأن يتبعه هواه أم يستجيب لحديث المنطق الذي يحث عليه شرح بعض الأمور لها!
)لا أقول هذا لأنه إبن عمي وصديقي.. بل لأنني أعرفه مثل ما أعرف نفسي... مؤنس رغم سخافة سخريته الدائمة إلا أن معدنه أصيل .. صدقيني... ما كنت لأرضى بزواجه من أختك لو كان أقل مما أخبرك به...)
تلكأ قليلا ثم تابع، يرمقها بعتاب.
)يحزنني شعورك نحوه...)
عبأت رئتيها بالهواء تشعر بتأنيبه الواجم فضمت شفتيها تدير أفكارها بين جنبات عقلها قبل أن تقول ببعض الحرج حتى أن بشرة وجهها شحبت أكثر من المعتاد وأبرزت بقع الكلف الظاهرة عليها بسبب الحمل.
)لست أرفض بسبب مؤنس ...)
منحها نظرة مشكِّكة فأومأت مؤكدة، تستطرد.
)كان ذلك في البداية بالإضافة إلى بقية الأسباب..)
ضغطت على شفتيها رفضا لما تريد قوله ثم إستدركت بإنزعاج تشنجت له ملامحها بضيق.
(صفاء ومؤنس مختلفي الطباع وهذا يقلقني... لا أعلم كيف أشرح لك!... أختي يسهل الإستحواذ عليها... شخصياتها مختلفة و..)
لجمها إستغرابه فزفرت مستاءة من كلماتها تتأمل قميصه الأبيض الذي إقتنته بنفسها له، تحاول جاهدة الشرح دون شعور بالاساءة لأختها.
(صفاء لا تحب أن توضع في موضع إتخاذ القرارات ولا أن تختار لنفسها شيئا... من يعاشرها يظنها إتكالية وهذا يدفع بمن معها ليتحكم بحياتها ... يتخذ لها قراراتها ...)
(ومؤنس في نظرك ليس أهلا لما قلته كله؟)
سألها بحذر فتأففت، تعقب بلوم.
(ها أنت تفسر على هواك مجددا..)
كان على وشك قول شيء ما لكنه توقف، يركز على شحوبها الذي يزداد مع قطرات العرق البارزة على جبينها وبين أنفها وشفتها العليا.
(ما بك تقوى؟... )
أمسكت بذراعه، ترد بألم بينما يدها الحرة تمسك بجانب بطنها.
(أشعر بوجع أسفل بطني إبتدأ قبل فجر اليوم ...)
لمحت تأهبه القلق فضغطت موضع قبضتها، تهدئ من روعه.
(لا تقلق... لا يؤلم كثيرا...)
(هل أنت متأكدة؟)
هزت رأسها قبل أن تتصلب للحظة ترف بجفنيها تحت أنظاره المحققة فيها ثم إنحنت بروية كما منحها إنتفاخ بطنها لترفع طرف عبائتها الواسعة تتفقد قماش سروالها بقلق.
(تقوى!)
همس بتوتر فإستقامت تخبره بجزع.
(جرير!... هناك شيء ما يخرج مني ولازال ... وسروالي مبلل...)
(ماذا؟)
حاوط ذراعها والخوف يعتلي ملامح وجهه بضراوة حين إستدركت، تجيب بنبرة مرتعشة.
(خذني للمشفى...حالا!)
إلتفت نحو مؤنس، يهتف بإضطراب أفزعهما فإنتفضا مسرعين إليهما.
(مؤنس!... سنذهب للمشفى...)
(هل أتصل بأبي؟)
سألت صفاء بملامح باكية فتوقفت تقوى قبالة الباب الخلفي،تشير إليها بتحذير صارم.
(لا!... سنذهب إلى المشفى أولا... وإذا قرروا أنني ألد فلنصبر حتى يحدث ثم نبلغهم بإذن الله...)
انحنت لتستقل السيارة بينما تكمل مشددة على تحذيرها.
(أحذرك يا صفاء.. أنت أعلم بأمي... لا تخبريهم بشيء...)
هزت رأسها والهلع يرافق نبضاتها، تضم كفي أختها تارة وتمسح عرقها تارة فعقب مؤنس بحيرة حين إنطلق جرير بالسيارة.
(هل أنت متأكد بأنها ستلد؟... )
إلتفت إليها ثم عاد يستطرد بنفس الإستغراب.
(النساء عادة تصرخن من الوجع حين الولادة... )
إشتد العبوس على قسمات جرير المنقبضة ونظر إلى إنعكاسها في المرآة الأمامية، مستفسرا.
(هل تتألمين؟)
تشعر بالوجع يحرق أسفل بطنها كل حين بقوة أكبر من سابقتها، لكنه مازال محتملا كالذي كان يصيبها أثناء عادتها الشهرية وما يغمرها بالوهن حقا هو ما يثقل أسفل حوضها.
(ليس كثيرا... رغم ذلك أشعر أنني سألد...)
مسحت أختها العرق المتصبب على وجهها، تبكي بجزع فرمقتها برقة، تهدئها.
(أنا بخير الحمد لله... لا تبكي!... ما يحدث أمر طبيعي... إدعي لي ولا تبكي...)
هزت رأسها تغمغم بالذكر وتدعو بتيسير الولادة لأختها.
..............

**شارع الشرفاء... معرض المصوغات الفضية **

رفعت رأسها تزفر بقنوط، القطعة السخيفة التي تعمل عليها تثير حنقها بسبب صغرها، لا تعلم كيف تهورت لتصنع مثلها كزينة لفستان خطوبتها كما لم تعلم كيف تحول الأمر إلى موضة والجميع يطالبها بأشكال مختلفة.
(حقا الواحد منا يلزمه الكثير من التفكير قبل أن يخرج بشيء ما فيقلده فئة من الناس!)
حاصرها الملل فزفرت تلقي بما في يدها تهم بالإستدارة نحو المذياع وقد أضحى ما يبثه يضاعف من إنزعاجها قبل أن تتجمد كما إنتصبت أذنيها أسفل طرحتها ذات القماش الصيفي الناعم، تلتقط نبرة صوته التي لا يخطئها قلبها قبل سمعها.
عبست بتركيز ثم حركت قدميها بخطوتين واسعتين، تتلصص من خلف باب الألومنيوم، تراقب ما يحدث بنظرات تشتعل عصبية وغيرة.
(يمكنك إنتظارها هنا!)
نطقت الفتاة المكلفة بالبيع والوله يشع من صلب عينيها الحالمتين بمن يقف أمامها، يخفي ضيقه بعد أن حملته ساقيه بأمر من قلبه ليراها متحججا بأي شيئ، لا يهمه سوى رؤيتها!
تنحنحت الفتاة، تعلل طلبها الغير لائق.
(أقصد نهيلة حين تعمل تفضل العزلة... ولا تحب الإزعاج...)
لم تكد تنهي جملتها حتى إنتفضت ورفعت إحدى يديها تربت بها على صدرها بينما الأخرى تعدل بها عوينتها الطبية، تخفي خجلها من نهيلة المعقبة بإمتعاض ساخر دفع بالبسمة لتغزو شفتي بهيج، منعشة صدره بمرآها.
(سبحان الله... كنت قد يئست من تذكيرك لما أحبه ولا أحبه كل مرة تقتحمين فيها خلوتي لأي سبب تافه...)
(ه... الأستاذ بهيج كان في إنتظارك ...)
نطقتها بتوتر بالغ ثم إستدارت، تكمل بصوت محرج.
(تفضل يا أستاذ بهيج يمكنك الدخول الآن!)
لم يدري المأسوف على عمره بأن البسمة المرتسمة على وجهه البهي والتي تخص نهيلة ستثير حنق الأخيرة التي هتفت بعصبية أرهبت الفتاة الضئيلة الحجم وزنا وطولا.
(الى أين سيتفضل الأستاذ يا هند؟...)
إرتعشت، ترد بإرتباك، توزع نظراتها بينها وبين الآخر الملتزم للصمت.
(ه... م... أقصد... أنه خطيبك... )
إنحسرت الكلمات في جوفها ونهيلة تقاطعها، ملوحة بكفها بنفس العصبية.
(ولو!... هل هو زبون لكي يدخل إلى المشغل؟...المرة السابقة حضر ليستعيد مشغولاته... والآن!)
(حممم)
تنحنح يثير إنتباهها فإلتفتت إليه مقطبة بإستفسار حانق، تتخصر بكلا كفيها على قماش الوزرة الزرقاء الخاصة بالعمل فتحدث بهدوء حذر.
(سأكون زبونا إن شئت فقط لنتحدث قليلا!)
إبتسمت هند بوله وبهيج يكمل قبالة نظرات نهيلة التي رغم نار الغيرة المشتعلة فيهما أسقطت ذراعيها إلى جانبيها، صوته يمنح خافقها سائلا منعشا يضخ به الدماء عبر أوردتها فيوهن بقية أطرافها.
(من فضلك!)
(ايييييح!)
تنهدت هند بحالمية قبل أن تهتز مجددا على وقع هتاف نهيلة الزاعق.
(هند!...لقد أنهيتُ أغلب القطع المطلوبة ... رتبيها في علبة التقديم لو سمحت!)
نطقت الكلمتين الأخيرتين بتهديد صريح من بين فكيها ففرت الفتاة من أمامهما، يلحق بها تحذيرها الصارم.
(لقد قمت بعدِّها فإياك وإضاعة إحداها....)
إختفت هند بسرعة خلف الباب الداخلي الذي واربته فظنا أنها ولمعجزة ما فكرت في منحهما خصوصية إلا أن صوت المذياع الذي علا بموسيقى أغنية عاطفية فنّدت فكرتهما تلك في لحظة واحدة لتهز نهيلة رأسها بيأس، تسأله بثبات تحاول الحفاظ عليه أمام مظهره الذي يبدو أنه قد إهتم به جيدا.
(لماذا أتيت؟)
(لأنني إشتقت إليك؟)
أجابها بنبرة أجشه، تعبر عن نظراته المشتاقة فمنحت نفسها نظرة شاملة داخل الوزرة الزرقاء الطويلة والمتسخة في أطرافها ومنطقة فوق بطنها بسبب حرفتها لتعبس بإمتعاض بينما ترد بضيق.
(أنا وأنت مخطوبين ولسنا متزوجين.. وللخطبة ضوابط لا أريد تجاوزها...)
دس إحدى يديه داخل جيب سرواله من الكتان الأسود بينما الأخرى يشير به معاتبا.
(وبسبب من هذا التأخير في عقد القران؟)
رفعت ذقنها تضغط على شفتيها حتى ظهرت حفرة صغيرة جانب خدها المكتنز جذبت إنتباهه ككل شيء فيها، يكمل بنفس المداعبة في القول.
(ولا أظن بأنني تجاوزت أي حدود.... ها نحن نتحدث في ملك عام ... ولم أخبرك سوى بأنني إشتقت إليك...)
بللت شفتيها، تضم كفيها لبعضهما، تفر من ترصد زرقاوتيه إلى تأمل كنزته الشبابية بلون مقلتيه، فإستمر يستفزها بعبث.
(لم أقترب منك ولم ألمس يديك... ولم أقل أنني...)
( إنتهينا...آآه ... أقصد!)
تراجعت خطوة تقاطعه بإرتباك مضحك فعض شفته السفلى يمنع نفسه من الضحك كما يشاء ويحب مكتفيا بتفحص خديها المحمرين بشدة.
(آل عيسى سيصلون بعون الله بعد أيام قليلة... وحينها نعقد القران إن شاء الله....)
قلص تلك المسافة، يخبرها بحزم لم يخلو من اللطف.
(سنقيم العرس حينها... لن أنتظر أكثر ... الشقة جاهزة.. على ذكر الشقة)
رحب بتغيير الموضوع، مشفقا على خجلها الذي أحال خديها لحمرة قاتمة.
(المَضْيَفَة والمطبخ جاهزين ... تركت غرفة النوم والجلوس لتختاري فرشهما على ذوقك...)
همت بالرفض، تكتم تأثرها بحديثه لكنه أسرع يسد عليها أبواب الرفض أو التهرب.
(أرسلت إليك موقع المعرض على شبكة الإنترنت... إختاري ما يعجبك وابعثي لي الصور... وأنا سأتكفل بالباقي إن شاء الله....)
حركت رأسها بخفة فظل يرمقها بشرود أجفل منه على عودة هند، تقول من بين شفتيها الباسمتين بحالمية.
( إنتهيت...)
(ونحن كذلك!)
هتفت نهيلة مع رفعة حاجب فتحرك بعد أن تنهد، يعقب بإحباط لم يخفيه.
(حسنا.. لا تنسي!... وإعتني بنفسك!)
( إن شاء الله.... السلام عليكم)
حثته لتتخلص من نظرات هند الهائمة فلم تزح الأخيرة مقلتيها على مكان إختفاء بهيج مما إضطرها إلى الصراخ بعصبية إهتز لها بدنها من جديد.
(عودي إلى عملك يا هند... وكفي عن التسبيل كالبلهاء!...)
ولجت نهيلة إلى المشغل متلافية قسمات هند الضائقة خلفها، تتأفف قبل أن ترسم الحالمية على وجهها ذو الملامح الناعمة والموحية بهشاشة أنثوية بريئة.
(كم أنتِ محظوظة يا نهيلة!)
صاحت نهيلة مجددا بنزق لسبب ما تجهله، فإنتفضت مكانها تتلفت بقلق جزع.
.............

** احدى مصحات المدينة السياحية**

نفد صبر جرير أمام خطوات تقوى المتمهلة كلما إستعجلها في المسافة بين السيارة والمدخل، ترد بنبرة مكتومة مشبعة بالرعب المتمكن منها بسبب حالتها الحرجة.
(لا أستطيع... أشعر بشيء سيخرج يا جرير... أقسم لك...)
(يا إلهي!)
إنحنى وحملها مرة واحدة، يهرول بها داخل المصحة.
(الدكتورة ***...زوجتي تلد!...)
صاح أمام الإستقبالات فنهضن الفتيات خلف الحاجز، مدفوعات بخشية من مظهر الرجل الضخم ذو العروق البارزة سواء على وجهه المحمر تأهبا أو عنقه العريض.
(الدكتورة في مكتبها... )
ردت إحداهن، تلتقط الهاتف بسرعة، يتذكرن تقوى من زياراتها المنتظمة للطبيبة المتابعة لحملها بينما الأخرى تشير لممرضة تطلب منها كرسيا متحركا.
(جرير!)
همست بجزع بينما تضم رجليها إلى بعضهما، تشد عليهما بقوة وهو يضعها على الكرسي فسألها بلهفة، تحت مرأى صفاء الباكية ومؤنس المتصلب.
(تتألمين؟)
أومأت بسلب، تجيب الممرضة التي ترمقها بنفس الإستفسار.
(لا!... هناك شيء ما يخرج... لما لا تفهمون؟...)
إتسعت مقلتا الممرضة وأسرعت تنادي زميلتها بينما تدفع الكرسي نحو غرفة التوليد.
(تعالي لنجهزها يبدو أن الطفل سيخرج حالا...)
تحجر جرير أمام غرفة التوليد خلفه صفاء ومؤنس، كتماثيل خرساء على هيئة الفزع.
(لا تقلق سيد جرير سيكون كل شيء بخير إن شاء الله... سأفحصها وأرد عليك...)
كانت تلك الطبيبة المتابعة، تتجاوزه نحو الغرفة وما إن دخلت بدقيقة واحدة لا أكثر، سمعوا صرخة الطفل ترج المكان حولهم فإلتفت جرير غير مصدق نحو مؤنس الذي سمح لنفسه أخيرا بالضحك رافعا ذراعيه، يعقب بسخرية مرحة.
(لديك كل الحق.. بنات الحاج محمد مختلفات في كل شيء... مبارك عليك يا ... بابا...)
عاد للضحك عاليا فأصدرت صفاء ضحكة على شكل شهقة، إستدار إليها وسحب كتفيها ليقربها منه، يستطرد بمرح مهادن.
(مبارك عليك لقب الخالة... والعقبى لك قريبا جدا... فأنا لن أسمح له بالتشدق علي بخبراته الحياتية فقط لأنه سبقني ورُزق بطفل...)
لوّح جرير بيده متنهدا بصمت يائس لا يصدق ما حدث أما صفاء فإبتعدت عنه ترمقه بخجل معاتب وهو لا يزال يقهقه ببهجة.
ظهرت الطبيبة على عتبة مدخل غرفة التوليد، تحمل بين يديها قطعة قماش أبيض مالت به نحوه ليلمح جسدا صغيرا جدا زهري اللون، يتململ بضجر وضيق تشكلت به ملامحه الصغيرة جدا جدا ليأتيه تعقيب مؤنس الساخر قرب أذنه.
( إفرح يا إبن العم طفلك يشبهك إلى حد صادم... سبحان الله قانط وعابس منذ أول دقيقة له في الحياة... )
لم يلتفت إليه، متعلقا بقطعة اللحم التي لا تتجاوز حجم نصف ذراعه، يتأملها بإنبهار تضاعف مع عبارة الطبيبة وهي تشجعه ليحملها بين يديه.
(إنها فتاة ... بسم الله...)
إحتبست أنفاسه داخل جوفه للحظة كاد أن يتردد فيها لكن قول مؤنس المازح جعله يضمها إليه بحمية وعاطفة قوية إنفجرت مع دمائه المتدفقة عبر عروقه لتشمل سائر جسده.
(فتاة!... هذا ليس جيدا على الإطلاق.. بالنسبة للعبوس!)
ربتت صفاء على ذراعه لائمة وإبتعدت لتسأل الطبيبة عن شقيقتها في نفس اللحظة التي أنهى فيها جرير ترديد الأذان قرب أذني الطفلة، يستدير موليا تركيزه لجواب الطبيبة الرسمي.
(إنها بخير الحمد لله.... إمنحها بعض الوقت لتعتني بها الممرضات وستأتين بها إلى الغرفة التي ستقضي فيها الليلة... تعال معي إلى الغرفة ... ومن الأفضل أن يحضر أحدهم ملابسها والطفلة..)
(سأتصل بأبي وأمي...)
هتفت صفاء فتوقف جرير يفكر قبل أن يردعها ويستل المفاتيح، قائلا بينما يلقي بها نحو مؤنس.
(لا!... خذا السيارة... وأحضراهما ومُرا ببيتي لتحضرا الملابس ... تذكرين الحقيبة المجهزة يا صفاء؟)
أومأت بإيجاب فإستدار يكمل خطواته برفقة الطبيبة التي أعلمتهما برقم الغرفة حين يعودان.
(هيا بنا!)
نطقها مؤنس باسما بمكر لم تلحظه صفاء، غافلة عن حمده لله على الفرصة التي سمحت له ليقضي بعض الوقت مع زوجته.
.......
**البلد الأجنبي**
**شقة صلاح الدين آل عيسى **

مرخيا جسده على الأريكة العصرية في غرفة الجلوس، تجاورانه صغيرتاه، إحداهما على طرفها بينما الأخرى تنحني من خلف مسندها، أعينهم المتشابهة بلونها القاتم تحوم فوق سطح شاشة اللوحة الالكترونية، متتبعين بثها المباشر من وطنهم.
(أنهيت تقريبا كل شيء... ظلت بعض الأوراق الخاصة بإقامة حياء ... إتفقت معها لأصحبها غدا إلى القنصلية في المدينة....)
(جيد بني... بارك الله لكما وعليكما... )
رد عليه والده بحنو، الحزن لا يزال ساكنا عميق مقلتيه المظلمتين لولا حضور أبنائه المؤنس لوحدة قلبه لإستسلم لهوة اليأس السحيقة لكن الله كان به رحيما أن رزقه حب أولاده وإهتمامهم ليعيدوا إليه صواب عقله.
(بارك الله في عمرك وصحتك أبي...)
(وماذا عن المشروع الذي إتفقنا عليه؟)
سألت سارة بحماس أثّر عليهم ببهجة منَّ بها الله عليهم كروح منطلقة تملأ البيت صخبا منعشا، يهون عليهم كئابة الذكرى ووجع الفراق.
(سيكون كل شيئ كما تحلمين بإذن الله... وسيكون عليك متابعته حين تأتين ... بفضل الله ثم إبراهيم ستسهل عليك أمورا كثيرة... لكن بما أنها أموال كثيرة فلن نتركها للطامعين...والآن مع المال الذي أضيف إلى المبلغ الأصلي سيكون فعلا مطمع الكثيرين بالفعل....)
عبس والده برفض تجلى على سحنة وجهه ورفع يده اليمنى من على طرف اللوحة الالكترونية ليمسد بها لحيته الفضية.
(أي مال؟... ماذا تقصد؟)
تدخلت سارة بحيرة تعيد غرتها المصففة إلى الخلف فتعود مجددا إلى مكانها، بعد أن أهملتها لمدة وإستطالت قامت بقصها مجددا، تعتبرها إختلافا بسيطا بينها وبين أختها ذات الخصلات الطويلة ' لطالما ظنت ذلك على الأقل' كحرصها على طلائه سابقا بلون أشقر وتغيير لون عينيها إلى أزرق أو أخضر ما إعتزلته قبل إصابتها بالعمى بقليل ولم تعد إليه لكن الغرة تمنحها شعورا بالإختلاف رغم كل ما إكتشفت أنه حقا يجعل منها مختلفة أو ربما لأنها وفقط ذكرى خاصة من والدتها.
(ألم تخبرهما أبي؟)
أومأ والده بسلب غارقا في كدره بينما سلا وسارة تتناظران فيما بينهما بريبة قبل أن تنظرا إلى يوسف الذي تنهد بأسى، يستدرك.
(رواند ماتت...)
شهقت سلا تغطي فمها بكفيها صدمة على عكس أختها التي إمتعضت، تستفسر منه بجفاء.
(كيف ماتت؟)
(هل يهم ذلك؟)
تدخل والدها فربتت على صدره، تجيب بضيق.
(بلى بابا... مهم... أريد أن أعرف)
لم يلاحظ أي منهم حالة سلا المريبة بينما يوسف يزفر بإنزعاج.
(قتلت في السجن... التحقيقات أثبتت بأنها إنزلقت وسط الرواق الواصل بين غرفتها والحمامات.... سبب الوفاة ضربة في الرأس نزفت على إثرها حد الموت...لكنهم متأكدين بأنها قتلت...وكان حادثا مدبرا..)
(إنتهينا... لا أريد ذكر هذا الموضوع مرة أخرى....)
قاطعه والده فهز يوسف رأسه بوجوم بينما سلا تشهق فجأة بنحيب حارق قبل أن تسرع في الفرار إلى غرفتها.
إعتدل والدها ليلحق بها ويوسف، يهتف بقلق.
(ما بها سلا؟)
عبس، يجيبه بضنك.
(هي متأثرة أكثر مما تبدو يا ولدي... من حسبناها دوما قوية ليست سوى فتاة صغيرة... دمرتها المصائب ...)
هم بالنهوض لكن سارة منعته بينما تقوم هي.
(دعني أحاول...)
رمقها بتشكك من بين جفونه المسبلة بغم قابلته بيقين مستبشر، تربت على كتفه مواسية.
(أكمل حديثك مع يوسف ولا تقلق عليها... ستتعود إن شاء الله ثم تتعايش...)
شيع مغادرتها بإعجاب شع من ظلمتيه ويوسف يؤكد على إحساسه .
(تفاجئني سارة يا أبي؟... حفظها الله وسلا.. حفظكم الله وبارك لي بكم...)
أمن والده ليستدرك بنبرة لم يفارقها الوجوم.
(لم يكن سهلا عليها كل ما تعرضت له... يقولون بأن التجربة الواحدة بألف درس... وهذا ما حدث لسارة... لُقِّنت درسا صعبا بطريقة أصعب فإشتد عودها ليصد ما تلاه من ضربات... )
(معك حق...)
أما في غرفة سلا فنزوت الأخيرة على سريرها تنتحب بألم فلم تنتبه لأختها التي دخلت ثم أغلقت الباب لتجلس قربها حتى قبضت على كتفيها تضمها إليها.
منحتها وقتا كافيا تفضي فيه ما في جوفها من حرقة قبل أن تبعدها قليلا لتنظر إلى ملامحها الشبيهة بها سوى من بعض الفروقات السهلة الملاحظة.
(إهدئي!)
منعتها سارة عن البعد عنها، تمسك بمرفق يدها والأخرى تمسح بها وجهها برقة، تحدثها بلطف.
(سلا؟... يفترض بك الشعور بالراحة...)
أحنت سلا وجهها المنقبض بمشاعر مضطربة وأختها تكمل بتشجيع.
(المرأة التي تسبب لنا بالألم أخذت جزائها... هي وأختها كما قتلتا ماما وجدي.. وأناس آخرين...قُتلتا غدرا هما أيضا....فلم أنت منهارة؟)
(وهل قتلها سيعيد لي ماما؟)
هتفت سلا مقاطعة بشراسة لمعت بها عينيها المتورمتين ففغرت سارة فمها متفاجئة من قولها المسترسل بألم وحزن غائر.
(بماذا يفيدنا موتها سواء هي أو أختها؟... كل شيء حدث ... وما راح لن يعود؟.... لن يعود أبدا يا سارة...ماما راحت ولن تعود أبدا...)
(رحمها الله يا سلا... ما بك؟... إنه قدرها...)
حاولت سارة التعبير لكن أختها ردت بملامح، تتجعد ألما وشجن.
(أنت لا تفهمين ... لا تفهمين...)
سالت دموعها تحرق وجنتيها الشاحبتين فتنهدت سارة بحيرة، تحرك يديها باستفسار.
(فهميني إذن يا سلا!... لست في حاجة لأشرح لك عن القدَر ... وأن الأجل إذا آن أوانه لا يهم السبب... وأما عن الجاني فقد أخذ جزائه.... والحساب يوم القيامة أمام الله...)
وتلكأت تبحث بين ملامحها الكئيبة عن رد شافي ثم أكملت بحنو.
(فقدان ماما ليس بالسهل... أشعر بك... لكن...)
بترت حديثها حين تحفزت سلا، تقاطعها بجفاء فاجأها.
(لن تشعري بي... فأنت كنت الأقرب منا إليها.. كنت مفضلتها ورفيقتها.. من تشاركها هواياتها وأحاديثها... ومن تضمها أكثر الوقت... أنا...)
أشارت لنفسها تكمل بوجع أليم، دموعها مدرارا على وجهها الدائري الشكل، يحيط به شعرها الأسود المجموع خلف رأسها بعشوائية نفرت منه خصلات كثيرة.
(لم أحضنها بما يكفي!... كانت بالكاد تقبلني بسبب إبتعادي عنها ورفضي لكثير من أفكارها...)
نظرت إليها، تستطرد بدفاع مستميت في غير محله.
(كنت أمني نفسي بقرب كالذي بينكما يوما ما...بتفاهم كالذي بينكما يوما ما... أنني سأفلح في إيجاد طريقة لتحبني مثلك ...)
(ماما تحبك يا سلا مثلما تحبني ومثلما تحب يوسف ... هل لديك شك في هذا؟)
أصدرت شهقة حارقة بينما تهز رأسها مرات عدة، تفرك كفيها ببعضهما في حجرها.
(لا ... ليس لدي شك... لقد أدركت مدى حمقي مؤخرا... وهنا ..)
وضعت راحة كفها فوق موضع قلبها، تفسر بلوعة
(يؤلمني جدا... كلما تجلت صورتها تملأ خيالي ... أندم أشد الندم على اللحظات التي ضيعتها بعيدا عن حضنها... وقبلاتها... أنا...)
صمتت قليلا تضغط على شفتيها تعتصرهما كما تعتصر جفنيها لتنطلق دموعها متفجرة.
(أريد ماما يا سارة... أريد ماما ....)
جذبتها سارة إلى حضنها تطوقها بقوة بينما تشاركها البكاء الحارق ربما شقيقتها محقة والقرب الذي ميز علاقتها بوالدتها من ضمن الأمور المساعدة في القوة الكامنة داخلها وعلى كل حال فهي شاكرة لذلك لأن رغم ما أصاب علاقتهما من إضطراب أثناء إصابتها بالعمى لم تشك للحظة بأن والدتها غاضبة منها أو أن حبها نحوها قد قلّ لدرجة واحدة.
قربها من والدتها طوال سنين حياتها السابقة ألهمها أي شخصية ذات كبرياء هي!
كبرياء يحول بين حسن التصرف حيال البرود أو الخلاف وهذا ما جعلها تبتعد دوما لخطوة ظاهرية عن سلا و يوسف مع أن الأخير يشبهها إلى حد ما مهما أنكر ذلك لكن أبدا لم تحب أي أحد منهم أكثر أو أقل من الآخر بل كانت عاشقة لأولادها بطريقتها الخاصة وهذا ما لا تفقهه شقيقتها عن والدتهم فتستسلم لفخ الندم والحسرة.
(إسمعيني سلا....)
رفعت ذقنها لتركز على مقلتيها فتزرع قولها داخل أحشائها.
(أمي إنسانة ذات كبرياء وقوة... قد يُخدع المرء بظاهرها الأنثوي الناعم... حب الإهتمام بنفسها جزء من شخصيتها... كما إهتمت بكل واحد منا ... بطريقتها الخاصة... لكنها أبدا لم تكن ضعيفة... وأنا متأكدة بأنها قاومت تلك القاتلة قبل أن تتمكن منها غدرا... قوية كما دوما في مجابهتها لمصاعبها.. ولقد رأيت بنفسك كيف قامت بتصوير حوار تلك القاتلتين... )
شدت على ذراعيها وقد نجحت في إثارة ذكائها وفطنتها، تكمل بقوة شبيهة.
(لذا يجب أن تكوني مثلها ... كما تريد أن نكون دائما... نتحلى بالقوة اللازمة والشجاعة... وأن لا نستسلم للحزن والرثاء على النفس...)
تنفست بعمق تطلق سراح ذراعيها ثم أكملت بطريقة مرحة كي تخفف عنها.
(لو رأتك الماما في هذه الحالة... لنظرت إليك هكذا..)
إعتدلت تستقيم بعمودها الفقري ورفعت دقنها، ترمقها من بين جفونها السوداء الكثيفة ثم أشارت لها بسبباتها، تعبر بإمتعاض أنيق.
(سلا!.. هيئتك مزرية.... شعرك غير مصفف ... ووجهك يا ويلي!)
وضعت نصف راحتها على جانب ثغرها، تسترسل مقلدة والدتها.
(ما هذه الدموع؟... ستسببين لنفسك الجفاف ويتورم وجهك... هيا! ... قومي حالا لتغسلي وجهك... وضعي عليه بعض الثلج...)
إتسعت مقلتا سارة تلقائيا، ترف بجفنيها بشكل إستعراضي فتبسمت سلا، تكمل بنبرة مرتعشة.
(ورجاء ضعي بعض الكريم المرطب على بشرتك... وإهتمي بنفسك قليلا...)
فتنطقان معا مرة واحدة.
(بحق الله أنت أنثى يا فتاة...)
إنفجرتا ضاحكتين تضمان بعضهما بقوة فوق السرير المنفرد فتنهد والدهما مسندا جبهته بالجدار جوار الباب، ينفث أنفاسا حارقة قبل أن يرفع يده ليمسح دموعه الأبية ويغادر ليلوذ بغرفته ينعي فقدان حبيبته وشريكة حياته.
إبتعدت سارة تمسح وجهها وتروح عنه بكفيها قليلا فلمحت وشاح نبيه الأخضر والمعلق على مرآة منضدة الزينة ثم إلى منامة أختها الخضراء لتبتسم بمكر، تعقب بمرح.
(حسنا ما حكاية الأخضر معك؟)
عبست لوهلة حتى أدركت مقصدها من إشارة رأسها إلى منامتها ثم نحو الوشاح.
تنهدت بإستياء، تشير بكفها.
(موال آخر...)
أمالت سارة وجهها بحيرة ودست قدميها تحت جسدها تعدل من وضعية جلوسها المتعبة، تستفسر منها بفضول حول مشاعرها حيال نبيه فلم يسبق أن حدثتها بإستفاضة في الأمر.
(هل راجعت نفسك وإكتشفت أنك لا تحبين نبيه؟)
إستنكرت سلا بتلقائية صادقة.
(طبعا لا!... يا إلهي!...)
تنهدت تملس على مقدمة رأسها تعيد الخصلات النافرة إلى مكانها، تكمل بضياع.
(مشاعري نحو نبيه صادقة... ولا أستطيع نسيانه للحظة واحدة... أفكر فيه طوال الوقت... وليس لديك أي فكرة عن مدى شوقي لرؤية عينيه... الطريقة التي ينظر فيها إلي... آآآه...)
تنهدت ترخي ظهرها على مسند السرير، تضيف بهيام أمام نظرات أختها المهتمة.
(كل يوم يتضاعف يقيني بقوة مشاعري نحوه.... والحقيقة أنني تعلقت به ولا أتخيل نفسي متزوجة من غيره ... )
عبست مجددا فسألتها سارة تحثها.
(لكن؟)
زفرت تحك جانب خدها بشرود واجم كما كان ردها.
(الخلاصة أنني لا أريد الإستقرار في الوطن...)
إرتفعا حاجبي سارة، تهتف بإستغراب.
(حقا!!)
فتنفست بإستياء تجعد ذقنها، تؤكد.
(على عكسك أنت ويوسف... لا أريد أن أعيش هناك دائما... ذكرياتي هنا أفضل... وهناك كلها ألم وفقدان وموت... )
ضيقت سارة عينيها، تجيب بحذر.
(لم يسبق أن نوهتُ بأنني سأستقر في الوطن..)
قلب شفتها بتذمر، تعقب.
(أرجوك سارة لا تستخفي بذكائي... إنقلب حالك مئة وتمانون درجة... على قدر رفضك لقرار ماما رحمها الله... إلا أنك تعلقت بالمكان هناك حتى قبل ما أصابك... والآن ...)
أشارت نحوها، تفسر بنظرات ذات مغزى.
(تتفجرين حماسا كلما ذكرت سيرة الوطن... ولا تقولي مشروعك الخيري... بل أظن أن هذا مدخلك لوالدي كاستعداد لشيء ما أكبر... لازلت أجهله... لكنني اشعر به...)
مسدت سارة بين أنفها وفمها بطرف إصبعها، ترمقها بغموض ثم هزت كتفيها تجيب بكل بساطة.
(أنت محقة... لكن حين أكون مستعدة سأحكي لك كل شيء... وكبداية.. أجل أنا أخطط للبقاء في الوطن... البلدة تحديدا... لذلك لم أحدد تخصصا في الجامعة بعد... لأنني أنوي إن شاء الله الدراسة في جامعة المدينة السياحية ... أحمد الله أن يوسف قرر الإستقرار هناك.... و إلا كان الأمر ليكون مستحيلا....)
هزت سلا رأسها بتفهم فأسترسلت برجاء.
(هل أنت متأكدة من موقفك... لو تراجعت سنستطيع إقناع والدي لنستقر جميعنا...)
حركت رأسها لكلا الجانبين تعترض.
(لا ... لا أستطيع حتى التفكير في ذلك... ولولا عرس نهيلة و يوسف... ونيتي في التحدث مع نبيه كي أخبره بشرطي لنتزوج... لم أكن لأعود...)
صفرت سارة ببينما تنفخ بتحذير.
(أمامك عقبات صعبة... إقناع نبيه ثم إقناع والدي..)
(ولم سيرفض والدي ؟.... نبيه رجل جيد وهو يعلم ذلك جيدا..)
رفعت سارة كفيها، تقاطعها.
(وأنا موافقة... )
ثم بسطت شفتيها ببسمة عريضة، تكمل بشقاوة.
(وانا معك أختاه... إن لم يقتنع سأستخدم جنوني ليوافق... فقط كوني قوية ودافعي عن قرارك...)
رمقتها بتأثر ممتن ثم عقبت بكدر.
(لا أعرف إن كان نبيه سيوافق على شرطي!... مع أنني جهزت له الردود على كل ما سيشكل عقبة له... المؤسسات لذوي الإحتياجات الخاصة هنا كثيرة... وأستطيع تدبر عمل له في إحداها...فقط لا أعلم!)
قبضت سارة على كفيها، تمنحها دفعة أمل مستبشرة.
( إذا كان يحبك حقا سيوافق... وإن فعل يا أختي حينها يجب أن تضعيه داخل عينيك الجميلتين هاتين...)
ضحكت سلا ثم ما لبثت أن قالت بشجن.
(شكرا سارة... شكرا حبيبتي...)
قبلت سارة وجنتها ثم قفزت تقف على قدميها تجيب بإستعراض مسرحي.
(العفو ... أعلم أنني مذهلة... ورائعة...)
سحبت المخدة تلقيها نحوها فأمسكت بها تضحك ثم وضعتها فوق السرير لترسل لها قبلة في الهواء قبل أن تخرج وسلا تهمس بحزن.
(بل أنت من يشبه ماما يا سارة...)
.....................
**وادي الحقول... بيت جرير**
إلتقطت صفاء الحقيبة التي جهزتها شقيقتها سابقا تحسبا لولادة طارئة وإنطلقت تهرول موصدة باب غرفة النوم الرئيسة.
رفعت كفها بالحقيبة تريها لمؤنس المنتظر لها أسفل الدرج، يخفي حماسه ودقات قلبه النافرة.
(هيا بنا...)
لم يمهلها بينما يقبض على رسغها ما أن تركت الدرج ليسحبها فترتطم بصدره شاهقة.
إرتد رأسها وهمت بالإبتعاد عنه لكنه طوقها بقوة يرفع حاجبه بمكر، يقول.
(حان وقت البرهان... تذكرين؟؟)
تلجلجت ملامحها بتردد وذهول.
(م... ا... بر... ما....)
إتسعت بسمته، جاذبا جسدها أقرب إليه حتى إنعدمت بينهما المسافات، يهمس لها بعبث.
(أخبرتني أنك موافقة على زواجنا.. وطالبتك ببرهان... كنت سأحصل عليه مساء في بيتنا حين أتمكن من تنفيذ خطتي بخطفك إلى الطابق العلوي حيث سيكون مسكننا... لكن كما ترين... ما أجمله من قدر حين يصب في المصلحة العامة...)
بلعت ريقها تنحني بوجهها فلا تجد السبيل إلى ذلك سوى بإخفائه على صدره ،تشعر باهتزازته بسبب ضحكاته المبتهجة.
(هيا... برهان صغير... وكلما أسرعت كلما رحلنا باكرا لنمر بوالديك...)
إحتدمت أنفاسها تملأ صدرها فلا تجد لها متنفسا، وجهها يحتقن وجسدها يرتعش، فترجوه بقلة حيلة.
(م.. ؤنس)
ضغط على ظهرها ليجبرها على رفع رأسها، يصر على رغبته وقد تصلب جسده كرد فعل على قربها منه.
(هذه أول مرة أسمع إسمي من بين شفتيك.. قوليه مرة أخرى)
رمقته بلوم وكلما زفرت أنفاسها كلما شعرت بضيق صدرها بينما هو يراقبها بوله وحب أطلق له العنان ليظللهما بغيمته الساحرة.
(قوليها مرة واحدة وسأطلق سراحك...)
منحته نظرة شك فأكد لها برفع حاجبيه يحثها لتنطقها وما إن فتحت شفتيها لتهمس بها بعد تردد طال للحظات إنحنى ليطبق على شفتيها لأول مرة في حياته يجرب أمرا لطالما شغل حيزا من تفكيره كسائر البشر ولم تواتيه الجرأة لفعلها حتى حين تهور وعاقر الخمر لينتقم من والده، قرر ظلم نفسه لحالها في سبيل قضيته الحمقاء وعدم جر غيره معها.
أحاطها بذراعيه يدعمها مستشعر قواها التي خانتها ولم يتراجع إلا حين أجفلها صوت إرتطام الحقيبة بالأرض فتركها لتدس وجهها في صدره فأسند ذقنه بأعلى رأسها يتنفس بلهاث.
ما يشعر به لا يمت لما تخيله بصلة ولا يكفيه كتعبير عنه أي هراء مما سبق وقرأه من قبل سواء بين حِكم الفلاسفة أو أبيات الشعراء.
(صفاء...)
همس بضحكة خافتة حين تجمدت مكانها دون أي بادرة بالتحرك فإنتفضت تبتعد وبحركات مضطربة عدلت وشاحها ومسدت على قميصها قبل أن تلتقط الحقيبة من على الأرض وتهرول خارجا.
لحق بها والبسمة الرائقة لا تفارق وجهه، يهمس بمرح لقلبه النابض ببهجة تكاد تفيض بها خلايا صدره.
(ماذا فعلت يا فيلسوف زمانك؟.... أردت البرهان وحين ذقته أدمنته فكيف ستصبر إلى أن تكون في بيتك؟... أحمق!)
........ ........
**المدينة السياحية... المصحة**
(ضعها يا جرير ... حملها طويلا ليس مفيدا لصحتها .. وسلوكها أيضا...)
تحدثت تقوى بنفاذ صبر وقد إنتظرت طويلا ليضعها في مهدها منذ أن أحضروها إلى الغرفة لتجده مستويا على الكرسي يراقب الطفلة بإنبهار مستمر وكأنه علق في حلم ساحر لا يستطيع الصحوة منه.
رمش مرة واحدة بينما يرمقها بإستفسار فتنهدت تقوى، تعيد حديثها.
(قلت أعدها للمهد... كثرة حملها يؤثر على صحتها وسلوكها في ما بعد...)
إستقام بروية وبدل أن يتجه إلى المهد جاورها على السرير، وأمال ذراعيه نحوها يوريها إياه، قائلا ببلاهة لا تناسب شخصيته إطلاقا.
(أنظري إليها تقوى.. صغيرة جدا.. وحلوة جدا جدا... هل لمست بشرتها؟...إنها ن...)
(ناعمة جدا جدا.. ورائحتها ساحرة جدا جدا.. جرير!)
عاتبته، تكمل بإشفاق فهي حقا تشعر به وبما يجيش به صدره حاليا لكنها أيضا تخشى على الصغيرة من فساد يلحق بسلوكها بسبب كثرة الدلال.
(لقد حملتها قبل قليل وهي حقا جميلة الحمد لله... كسائر أطفال بقية الناس حديثي الولادة... من فضلك جرير ضعها مكانها ... لا أريد أن تتعود على الحمل...)
مطط شفتيه وقام بعد تردد وبوادر رفض لكنه إستسلم على مضض، يضعها بروية وإهتمام شديدين داخل المهد ووقف يرمقها دون ملل، يقول بشرود.
( أنتظرها لتفتح مقلتيها... لم تفعل ذلك حتى حين أطعمتِها قبل قليل... شيء ما داخل صدري إنفجر بمجرد رؤيتي لها ... لم أظن يوما أنني سأشعر بشيء مثيل ... ويراودني فضول حارق لرؤية عينيها....)
إبتسمت تقوى بوهن، تقاوم النعاس بقوة في إنتظار أهلها.
(ستفتحهما بإذن الله... تعال وأجلس لترتاح...)
إستدار ليتأملها متسطحة تحت الغطاء بنفس العباءة والملابس التي قدِمت بها بإسثناء السفلية المبللة.
(الآن أنا مستريح .. الحمد لله... أنت بخير وإبنتنا بخير... أي راحة أنشدها بعد النعمة التي من بها الله علي... الحمد لله...)
حمدت الله ترمقه بحب فتذكرت شيئا ما لتقول بهدوء.
(أحبك جرير...)
لمعة خاطفة عبرت ظلمتيه، مكتفيا بالتحديق بها فأشارت له بذراعها ليقترب منها، تستدرك بنعاس يداعب جفنيها.
(أعلم أننا قليلا ما نستعمل الكلمات في التعبير عن حبنا لبعضنا... كلانا متشبهان في ذلك...)
كان قد أمسك بكفها يضمه جالسا على حافة السرير، يصغي إليها بلهفة لا تظهر على واجهته الهادئة ينعم على نفسه بمنحة إستمتاع بالنشوة الغامرة لصدره وكل خلية من أحشائه.
(لكن أرجو أن تكون متأكدا مما أحمله لك من حب كبير .. والآن أشعر برغبة عارمة لأخبرك بذلك... أحبك جرير...أحبك كما لم أحب أحدا بنفس الطريقة التي تتعلق بك لوحدك... )
ضم كفها بين كفيه بحزم، يرمقها بنظرات غائمة يملأها التأثر والدهشة رغم تسليمه بصدق حبها له.
إبتسمت بإحراج، تكمل بمرح إقتحم بنغمته المميزة باقي نغمات صوتها الهامس بفعل الوهن والإرهاق.
(ربما بسبب الهرمونات... أو الولادة لا أعلم...أو ربما بسبب إختفاء الإنكسار الساكن ظلمة نظراتك طوال الشهور السالفة... فلم يفلح شيء في طرده سوى رؤيتك لطفلتك... )
لم يتفاجأ بقولها وقد حاولت بشتى الطرق لتخرجه من حالته التي تلبسته منذ وفاة السيدة بلقيس وفي كل مرة تنظر إلى عينيه تعبس بخفة لما تقرأه على صفحتهما كما لا يفعل غيرها وهو شاكر لها ذلك حتى إن لم تفلح كما قالت في طرده من حياته.
(وأنا سعيدة أنني في النهاية نجحت في مسعاي...)
حسنا هي محقة لقد فلحت فالأميرة الصغيرة الساحرة والتي يشعر برغبة حارقة في العودة إليها حالا وحملها بين يديه، قطعة منها حملتها بين أحشائها لشهور طوال تحملت فيهم المشقة والعناء لتنجبها له كشمس منيرة دافئة، أشرقت وسط ظلمته لتنجلي دون رجعة.
(فقط لا تعود.... إفرح واحمد الله على ما منحه لك فشكر الله يجلب الزيادة... ل... لقد.. تأخروا... وأنا... أن.....ا....م)
أسدلت جفنيها وإنتظمت أنفاسها فإرتخت كفها رهينة يده التي رفعها إلى فمه يقبلها برقة دون أن يحيد بعينيه عنها ثم أعادها إلى مكانها بروية ولطف.
إستقام واقفا وإستدار نحو المهد ليلمح تململ طفلته فتبسم بملأ وجهه وخطى نحوها كالمسحور وما إن أهل عليها فتحت مقلتيها الصغيرتين تحدق به فشهق، يهمس بإعجاب ضاحك.
(معقول؟)
إنحنى نحوها يدقق في لون عينيها ثم ضحك كطفل صغير يلمح قوس قزح لأول مرة.
(عين رمادية وعين سوداء.... يبدو أنك تعلمت الدبلوماسية في بطن أمك يا محتالة...)
نظر إلى تقوى يتفقدها بحذر ثم عاد إليها ليحملها غير قادر على مقاومة رغبته الحارقة، يهمس لها ضاحكا بخفوت.
(لم أكن لأمانع لو كانتا كلتاهما رماديتين ... لكنني لا أستطيع سوى الغرق في حبك أكثر وأكثر.... كما أحب والدتك... يا طفلتي الماكرة...)
(السلام عليكم ورحمة الله وبركاته....)
إلتفت على إثر صوت حماته، يرافقها الحاج محمد الذي إبتسم هو الآخر يتوجهان نحوه بلهفة مبتهجة فسلمها لهما مرغما كأنه يسلمهما قلبه، يشعر به حرفيا ينتفض رفضا بين جنبات صدره وسريعا ما إمتلأت الغرفة بالأهل وعبارات المباركات والتهنئات.
................................................

يتبع الفصل السادس والعشرون و الأخير

noor elhuda likes this.


التعديل الأخير تم بواسطة **منى لطيفي (نصر الدين )** ; 20-04-20 الساعة 07:07 PM
**منى لطيفي (نصر الدين )** غير متواجد حالياً  
التوقيع
لاإله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
رد مع اقتباس
قديم 31-03-20, 12:51 PM   #1050

**منى لطيفي (نصر الدين )**

مشرفةوكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وبطلة اتقابلنا فين ؟

 
الصورة الرمزية **منى لطيفي (نصر الدين )**

? العضوٌ??? » 375200
?  التسِجيلٌ » Jun 2016
? مشَارَ?اتْي » 4,633
?  نُقآطِيْ » **منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute
افتراضي

**الفصل الأخير***


**اليوم التالي.... أمام بيت الفقيه عبد العليم **

أطفأ محرك السيارة دون أن يزيل يديه من على المقود، عيونه شاردة نحو البعيد، يستعيد قول الرجل في القنصلية داخل عقله كشريط خرب يكرر نفسه مرارا وتكرارا.
*إنه حفيد الخواجي ... ذلك الرجل من السلطة الذي إنتهى كما يجب ... اللهم إضرب الظالمين بالظالمين*
ثم قهقهة تنم عن تشفي استغربه، متسائلا عن الضرر الذي لحق بالرجل من جده أم أنه لا يعرفه من قبل وشعوره كشعور بقية الناس نحو رجال السلطة والأعيان.
أيا كان فالأمر بالنسبة له محرج حد الألم، كبريائه اللعين يعذب أحشاء صدره بالخزي والخجل، لا يرضى بأن توصم عائلته بالعار ولا أن يقرن لقب جده ووالدته بالفضيحة.
(يوسف)
أجفل من دوامته على صوت التي بجانبه فإلتفت إليها، يبتسم بجمود.
لم يرضى كذلك بسماعها لما سمعه رغم حيادية ملامحها الجميلة وعدم تعبيرها بأي تعبير واضح، شفقة أو غضب أو حتى خجل بل واجهة رسمية عادية.
إنتهت من ترتيب كلام مناسب تسانده به، قلبها يحثها على فعل ذلك منذ أن تكدرت رحلتهما التي بدأت ممتعة وهما يتبادلان الأنظار المعجبة والبسمات الدافئة مكللين صحبتهما بحديث حول أي شيء وكل شيء إلى أن التقطا حديث الرجل الغير مراعي لينقلب وجهه من النقيض إلى النقيض، مستسلما لنوبات شرود واجمة أوجعت خافقها المأسور لديه.
(هل تفكر في قول ذلك الرجل؟)
هم بفتح الباب متهربا برد مقتضب لكنها لم تسمح له وقد تلبسها حزم المعلمة الرسمي.
(لا تهتمي..)
(من فضلك إنتظر... وأغلق الباب...)
بدهشة لازالت تكتنفه كلما رأى منها جانبا مختلفا عن تصوره المسبق لشخصيتها الحيية والذي لابد إكتسبته عبر سنواتها العملية، أطاعها وأغلق الباب ليوليها إهتمامه كليا بينما تنظر إلى كل شيئ عداه فتضاعف من حيرته حولها، حياء إسم على مسمى بإستثناء أوقات الضرورة تظهر المعلمة الحازمة والمتحدثة بواجهة رسمية.
(تحدث إليّ يوسف...)
طلبت منه بحياء رقيق فرد عليها بفتور.
(لا شيء يقال يا حياء... لابد وتعرفين كل شيء كالبقية... ولا أظن بأن هناك من يرضى بالعار مقرن بكيانه لمجرد قرابة تصله بشخص إرتكب ...)
ضغط على شفتيه، يلتزم الصمت وقد احمر وجهه بمشاعر محتدمة أشعلت من فتيل رأفتها لكنها تمنع أي تعبير ليسطع به محياها فيسيء فهمه.
رجل كيوسف قد يشوش عليه كبريائه حسن قراءة الحقيقة بعض الأحيان خصوصا منها، من يكن لها المشاعر وينوي إشراكها في حياته.
(أحيانا ترجح لدي كفة العودة إلى الغربة عن كفة الإستقرار هنا ....)
أضاف بضيق عبّرت عنه ملامحه الوسيمة وقد تمكنت من تأمله بحرية حين شرد مجددا، تتبع تفاصيله بلهفة وحب ما إن أهدته مفاتيح أرضها أخيرا إجتاحها دون هوادة.
وكم يحزنها ما تقرأه بين حنايا قسماته من إضطراب وحيرة، تجرفه بعيدا عن شاطئ سلامه النفسي فتجد نفسها مدفوعة بموجة أحاسيسها الصادقة نحوه لتقول برقة فطرت بها نبرة صوتها.
(ولماذا توازن بين الأمرين من الأساس يا يوسف؟)
نظر إليها وقبض عليها متلبسة بنظراتها الولهة قبل أن تفر بسرعة، تتأمل قميصه الأبيض ينافس بياض بشرته المناقض تماما لسواد شعر رأسه ولحيته وكذا بؤبؤيه.
(ماذا تقصدين؟)
حركت رأسها بخفة وشبكت كفيها فوق حجرها، تفسر.
(لماذا توازن بين الإستقرار هناك... وهنا؟...)
مسد لحيته المشذبة، يقول بينما نظراته، تتفحص فستانها الصيفي الطويل و المليء بورود بنية تعلوه سترة كلون الوشاح البني الفاتح.
(إنها حيرة قديمة ولم تحسم بعد... رغم أن كفة الإستقرار هنا كانت الراجحة مؤخرا... وكنت حقا أستعد لذلك... لذا لم أسالك ترك عملك لتستقري معي هناك...)
جعدت دقنها بينما تهز كتفيها، تمنحه جوابها البسيط.
(ولماذا تلزم نفسك بإختيار؟... لماذا عليك أن تختار في الوقت الذي يمكنك فيه العيش هنا وهناك...)
قطب يستقرئ معاني حديثها المسترسل بنفس البساطة والهدوء الذين يفتقدهما وسط عاصفة أفكاره الدائمة وتذكر قول نبيه المشابه قبل شهور.
(الكثيرون يفعلون ذلك... لست مضطرا لتختار.. حين تشعر أنك تريد أن تكون هنا إبقى... وحين تشعر أنك لابد أن تكون هناك إذهب... لا تقيض نفسك بأسوار وهمية... هنا ...هناك كلها أماكن كبرت فيها ولكل واحد منهما رابط بك وذكريات خاصة ستجذبك رغما عنك...المهم ولائك للربك الحق سواء في الوطن أو خارجه...)
أخجلها تحديقه فيها وتركيزه على كلماتها فتلفتت تخفي إحمرار وجنتيها.
(ف.... في الحقيقة.. لم يسبق لي أن نظرت إلى الموضوع من تلك الزاوية...مع أن نبيه سبق ونوه لمثل ما قلته...)
هزت كتفيها مجددا، تمنع نفسها بالقوة عن عادتها بأن تسحب طرف وشاحها لتغطي به فمها فتتنفس براحة وحرية.
(الزوايا كثيرة ومختلفة... لكننا غالبا ما نغفل عنها بسبب آلام نسمح لها بتعذيب أنفسنا مع أنه لو حاولنا القليل من الجهد بعد التوكل على الله والإستعانة به ستنفجر الفقاعة الوهمية بأقل من جزء من الثانية... لا تضع نفسك في موضع إختيار بشأن هذا الموضوع ...)
ثم فكت تشابك كفيها، تحركهما مع إستدراكها.
(حسب رغبتك تصرف... حرر نفسك وعقلك من ضغط التفكير فيما لا يهم... تماما كإهتمامك بكلام الناس...)
حاولت أن تبادله النظر لثبته دعمها بقوة ويقين شديدين.
(من اعتاد أكل لحم غيره والتحدث سيفعل وإن غابت الأسباب والدوافع... هناك من يستمتع بكبيرة الغيبة غافل عن سوء فعله وما يترتب عليه... يلقون بالتهم والألقاب لا يهم حقا إن كانت حقيقة أو بهتان... وجدك رحمه الله بغض النظر عن كل ما نعلمه هو رجل سلطة... ورجال السلطة عادة ما يقارن ذكرهم بالظلم والجور....يعني أن الأمر ليس متعلق بشخص جدك لحاله... ثم لا حق سوى قول الله عز وجل... لا تزر وازرة وزرة أخرى... وكل نفس معلقة بعملها... والله يعلم حقيقة قلبك ونقاء سريرتك وهذا يكفي ويفيض... فلماذا تكدر صفو مزاجك بهموم وهمية ؟)
صمتت تدير رأسها فرارا من نظراته المعجبة والتي إشتدت قتامتها بمشاعر فياضة لم تستطع تحملها.
تبسم بإعجاب وقلبه يجد لكلماتها صدى مؤثر في صميم قلبه، كل مادى يزيد يقينه من حسن اختياره.
هذه الفتاة تناسب قناعاته وتطلعاته كما تهواها خفقاته المستنفرة تطالبه بالقرب منها والشعور بها فلم يتأخر عن تلبية مطالب فؤاده الساكن إليها، إلتقط كفها يحتضنه بين يديه برقة، يعقب باسما بحب أمام وجهها القرمزي اللون.
)تذكرينني بشقيقك محسن... دائما تعرفان ماذا تقولان ومتى!.... تماما كالفقيه عبد العليم.... )
مسحت على شفتيها مطرقة برأسها، تكاد تذوب حياء تخلل نبرتها الأنثوية برعشة.
)علمنا أبي أن الحياة الدنيا عبارة عن إمتحان لا يجب أن نسمح له بأن يسكن دواخلنا بعقد تلهينا عن حقيقته... فالعبد ليس مطالبا بحب أو كره إمتحانه... إنما يواجهه بكل إيجابية وتفائل ...مستبشرا بينما يتقلب بين صفحات مسائله يجاهد لتحقيق أعلى المعدلات... ورحمة الله واسعة...)
رفع كفها إلى فمه يقبل ظهرها، متلكئا لبرهة يسدل جفنيه مستمتعا برائحة بشرتها ونعومتها ولولا إرتعاشها الذي شعر به ما أرغم نفسه جبرا على الإستيقاظ من سكرة اللحظة الشاعرية.
بتمهل ولطف أعاد كفها إلى حيث إلتقطه ثم قال بإمتنان حقيقي.
)شكرا لك...)
رفعت إليه محياها المحمر حياء وقد إستسلمت لعادتها تسحب طرف وشاحها لتغطي بها نصف وجهها، ليكمل بنفس التأثر والإمتنان الممتزج بالمرح.
)أحيانا ... كل ما يلزم النفس بضع كلمات تصيب كبد الحقيقة.. فيتقلب صاحبها من حال إلى حال بفضل الله تعالى... )
هزت رأسها بتفهم صامت قبل أن تسأله بترقب هادئ.
)ألن تدخل لتسلم على أهلي؟)
إبتسم، يرد مرحبا.
)بالتأكيد لكن لبضع دقائق فقط... يحب أن أسرع في إتمام تجهيز الشقة... أهلي يرفضون النزول في بيت جدي رحمه الله... رغم تحول ملكيته للخال ... لكنهم يرفضون المكوث به... كما أن غرفة النوم التي قمت بإختيارها قد وصلت صباح اليوم ولم ترتب مكانها بعد...)
)حسنا..)
نطقت بخفوت حيي وترجلت من السيارة وكذلك فعل هو الآخر، يلحق بها وحين غادر بعد دقائق رافقته إلى الباب حيث شيعت رحيله بإهتمام ولهفة وما أن همت بالدخول، إرتفع رنين هاتفها معلنا عن دخول رسالة نصية منه فتحتها بفضول حارق تحول لذوبان مهلك بينما تقرأ الكلمتين بلغة البلد الأجنبي حيث ترعرع ونشأ.
*أنا أحبك*
أغلقت باب بيتهم توليه ظهرها، لترفع وجهها إلى السقف دون أن تراه، عينيها مغمضتين تحلق بين السحب الوردية.
ضمت وجنتيها المحترقتين، تفكر في كونهما محمرتين لابد، بسمتها تملأ وجهها وقلبها يدق بسرعة مفرطة ولولا صوت والدتها الدال على حزنها وإخفائها لبكائها لما إعتدلت توقظ نفسها من غيمة الهيام بمن أضحى زوجها وقريبا جدا ستكون إلى جواره بإذن الله.
تنفست بعمق، تروح بشرة وجهها بكفيها كي لا يفتضح أمر مشاعرها أمام عائلتها ثم خطت عائدة إليهم بينما تنزع وشاحها.
)ما بك يا أماه؟... هل قمت بخطبة إحدى فتيات أهل البلدة ورفض أهلها مجددا؟)
سألها محسن بعد أن تلمس سطح الأريكة بيديه، باحثا عنها ليضم كتفيها ويقبل رأسها كما يحلو له دائما الفعل فتستسلم له ملقية رأسها على صدره، تشتم عبيره المسكي.
كم تعشق بكريها!
تحب كل شيء فيه وودت لو تجلب له الدنيا بما فيها تحت قدميه! لكنها أكثر من يعلم بزهده فيها!
سبّلت جفنيها على نظرات زوجها المعاتبة، تبرر مدافعة.
)لم أخطبها... فقط بضع كلمات لجس نبض الفتاة ووالدتها ..)
ثم صمتت تمرغ أنفها داخل صدر ولدها الذي لم يفقد وجهه بشاشة تقاطيعه ولا سماحة قسماته، يرد عليها مداعبا بنبرة رقيقة.
)من حقهم أمّاه... كل أم وأب يبحثان عن رجل سليم على قدر المسؤولية ليسلموه إبنتهم فيعتني بها... أسأل الله أن يرزق بناتهم أزواجا صالحين وذريات صالحة...)
رفعت نفسها من على صدره، تستنكر بحنق حزين بينما تحدق بملامح إبنها بحب جم.
)ومن هو أسلم ولا أفضل منك؟... يكفي أنك الفقيه محسن ابن الفقيه عبد العليم... لن يجدوا من هو مثلك أبدا ...)
ضحك محسن، يشاركه والده وحياء التي استوت جالسة قربهم رغم ما يموج داخلها هي الأخرى من خوف على شقيقها، لا تنكر بأن الأخير يعتمد على نفسه في كثير من أموره الشخصية تعلمها وتدرب عليها حتى أتقنها كشخص يبصر حقا، لكن يظل دائما في حاجة لمن يوجهه لو استجد شيء ما أو طرأ طارئ ما وهذا ما يؤرق والديه، يحملان هم المستقبل إن قدر الله وحان أجلهما قبله، كيف يذرانه خلفهما وحيدا!
) أنا كذلك في عينيك الحبيبتين إلى قلبي ككل شيء فيك يا نبع الحنان ….لكنني حقا إنسان عادي .. بل أقل من العادي يا أمي... أسأل الله رضاه ورحمته...)
دمعت مقلتاها ورفعت طرف وشاحها تمسحهما فتشنجت ملامح محسن بشجن وراح يبحث عنها مجدد ليضمها إلى صدره، مهدهدا بحنو.
)تعلمين أن دموعك تحرق قلبي أماه!...بالله عليك لا تبكي فأنا لم ألتفت يوما إلى التفكير في الزواج...ولا أتذكر حتى أنني دعوت ربي الكريم زوجة من قبل...)
قطبت والدته، تراقبه بينما يكمل بصدق، مستعيدا بسمته البشوشة.
)فالحمد والشكر يأخذان أغلب مساحة خلوتي بربي.. مها حمدته جل في علاه على نعمته علي بكما أنتِ وأبي لا يكفيني قط... أنتما من عرفاني على الله وأنشأتماني على عبادته سبحانه بفضله وحوله طبعا... أنتما أكبر النعم والتي تغنيني عن أي نقص قد يشعر به غيري... فأستغرق بعدها بالدعاء لكما ولأختي.. ولبقية المسلمين وحين أصل إلى نفسي أدعو لها بالرضى والقناعة والحكمة...)
تحولت البسمات إلى دموع سائلة مدرارا على وجوههم، يرمقونه بلوعة أسرّتها قلوبهم في صميمها وتحدثت والدته بنبرة باكية لم تستطع التحكم بها.
)وها أنا أطلب منك الدعاء يا محسن؟... إسأل الله زوجة صالحة تحبك وتشاركك حياتك وتنجب لك الذرية ... أصدقائك تزوجوا جميعهم... ألا تشعر بقليل من الحزن يا ولدي؟)
بحركاته الحانية، غطى وجه والدته بكفه، يمسح دموعها برقة، يجيبها ببعض المرح، يحاول إبهاجها.
)نبيه لم يتزوج بعد!... وبهيج أيضا ....وهو حانق للغاية لأن عقد قرانه تأخر إلى موعد وصول أسرة يوسف... )
لم تستجب لفكاهته فتنهد رافعا رأسها ليقبل وجنتها، يسترضيها.
)حسنا أمي... أعدك أن يكون أول دعائي بعد الحمد لله والصلاة على نبيه زوجة صالحة... فقط من أجل إرضاء قلبك الطيب هذا... )
ثم عاد ليبتسم بإتساع، يضيف.
)فكثفي الدعاء أنت أيضا.. لأنك أمي.. وربي الكريم سيستجيب لك أسرع... ولست كأي أم... فأنت أحن أم عرفتها...)
ضحكت والدته، تضرب كفيه بخفة مداعبة، بتأثر تعقب.
)أنت ماكر... فأي أم غيري عرفت كي تقرر بأنني أحن أم...)
ضمها إليه بحنو، يجيبها بلطف مرح.
)لأنك أحن أم... أعرف هذا بقلبي...)
رفعت رأسها إليه وقبلت وجنته، ترد بجذل ونظرات تلمع حبا.
)بل أنت أطيب وأحن ابن...)
تدخل زوجها، يدعي التبرم علّه يطرد تأثره هو الآخر، قائلا لابنته بضيق مزعوم.
)يتغزلان ببعضهما البعض ولا كأننا هنا جوارهما... أفضل أم وأفضل إبن... رحماك يا رب...)
ضحكت حياء فقال محسن بفكاهة.
)وأنت أفضل أب.. وحياء أفضل أخت... أسال الله أن يحفظكم ويبارك لي فيكم...)
أمنوا بخفوت فإستدرك محسن، يستفسر من شقيقته.
)متى رحلة أهل يوسف يا حياء؟)
)بعد غد إن شاء الله...)
ردت بواجهة هادئة، تخفي خلفها الكثير فعقب مبتهلا.
)شملهم الله بحفظه ورعايته...)
………………….
**منزل أهل فواز **
تمرر حبات الكهرمان بين أصابعها بخفة، تسبح الله تارة وتستغفره أخرى وكلما رفعت عينيها دون أن تتحرك عن وضعيتها المسترخية فوق الأريكة على جانب جسدها الممتلئ، تجد إبنتها الكبرى في إستقبالها، ترمقها بحنق لا يناسب سنوات عمرها الأربعين، تضم ذراعيها تحت صدرها، عابسة كطفلة صغيرة سلبوها أعز ما تحب فتعود لتتأمل حبات سبحتها بصمت حكيم.
دخلت إبنتها الصغرى، تحمل صينية الشاي ولم تكد تضعها على المائدة حتى خرجت شقيقتها عن صمتها أخيرا، تستفسر بسخرية ممتعضة.
)أين الأميرة المدللة؟)
غمزتها الصغرى لائمة بينما تجلس جوار أمها التي ردت بكل هدوء مستفز، يكاد يخرج الأخرى عن طورها.
)في غرفتي ... طلبت منها تجهيز نفسها في انتظار فواز كي نذهب جميعا لنبارك لتقوى وجرير ....)
تناظرت مع شقيقتها التي أومأت بمعنى لا دخل لنا لكنها لم تستطع كبح جماح غيرتها الطفولية والمضافة إلى فضولها الحارق، تعبر عن ضيقها.
)هذا كثير يا أماه.... تسكنينها غرفتك وتساندينها ضد أعز أبنائك إلى قلبك... وكلنا نعلم بحقيقة والدتها...)
حافظت الحاجة أمينة على هدوئها، تسألها بنظرة خطيرة.
)وما هي هذه الحقيقة يا ابنة بطني؟)
زفرت بخفوت وحررت ذراعيها كاشفة عن صدر العباءة الزرقاء ذات تعرجات طولية، لتلوح بهما مدافعة عن موقفها.
)أمي!...جميعنا نلاحظ ما يحدث رغم إصرارك على التكتم... نوال لم تدخل بيتنا منذ ما حدث في بيتي... ثم مكوث حفيظة في غرفتك وعدم تواصلها مع فواز بتشجيع منك ومساندة... يعني أن نوال حقا ساحرة ولابد فواز لم يعجبه الأمر وتشاجر مع زوجته وأنت تساندينها لأن لا علاقة لها بما تفعله والدتها...)
قطبت شقيقتها الصغرى بقلق مترقب أمام ملامح والدتها الغير مقروءة، دوما ما كانت والدتها تشعرهم برهبة منها رغم أنها لم تضرب اي أحد منهم قط لكنه أسلوبها المهيب الذي قومتهم به فتوقفهم على حافة التأهب من مجرد نظرة من عينيها كالتي ترمق بها اللحظة إبنتها الكبرى، تجيبها ببرود.
(ماذا قلتِ في بداية حديثك؟... إصراري على تكتمي... أليس ذلك بكافٍ لتتأكدي من عدم رغبتي بتدخل أحد في ما يخص فواز وزوجته؟ ... ثم ما هذا القول الطفولي بأن فواز أحب أبنائي إلي! ... تعلمون جيدا لماذا دللته بزيادة ... لأنه و بعكسكم لم يعش تحت كنف والدكم ...ينهل من حنانه وإهتمامه مثلكم... كفي عن غيرتك التي لا دافع حقيقي ورائها واهتمي بشؤونك بيتك أدعى وأحق!...)
تراجعت إبنتها، تعبس بلوم محرج من تقريع والدتها المسترسلة بنفس الوتيرة الهادئة لكن بنبرة جامدة.
)مكوث حفيظة في غرفتي مسألة وقت لا أقل ولا أكثر... إن شاء الله ستعود لغرفتها ولا خلاف بينها وبين زوجها... كل شيء تم حله بفضل الله ... أما نوال فلا شأن لي بها ولا أريد أن يخوض أحدكم في سيرتها أبدا...)
رن جرس الباب فقامت الصغرى، متسائلة بحيرة.
(هل نسي فواز مفاتيح البيت؟)
عبرت المسافة بين الغرفة والباب الداخلي حيث ظهرت حفيظة بملابس الخروج، تبتسم لها بينما تقف منتظرة لترى هي الأخرى من الزائر الذي لم يكن سوى والدها بجلبابه الأبيض المحتضن لجسده السمين وعمامته الصفراء الملتفة حول رأسه.
أخفت قلقها من زيارته النادرة تُقبل ظهر كفه، تسأله عن الأحوال.
)كيف الحال أبي..)
رمقها كعادته بنظرات لا تعبير محدد فيها عكس اللوم الناضح بين عبارات رده عليها.
)لماذا لا تزوريننا لتعرفي بنفسك؟.... )
)زوجتي حامل ونحن نمنعها عن أي مجهود قد يضر بها يا عمي...)
فغرت شفتيها بذهول والتفتت إلى الذي هل عليهما يلج عبر الباب الداخلي بهيئته الجذابة داخل سروال من خامة كتان اللينين، رمادي بدرجة فاتحة وقميص من نفس الخامة بلون أبيض، لحيته الطويلة مشذبة ومصففه بعناية.
تكومت على نفسها بينما تتجاهل دقات قلبها النافرة، مكتفية بالنظر إليه وهو يصافح والدها ثم يشير له داعيا إلى غرفة الصالون في نفس اللحظة التي انضمت إليهم فيها حماتها، تخطو بتمهل مستندة على ابنتها الكبرى المراقبة بفضول يحرقها دفعها لتستفسر منه.
)ولمَ لم تأتي معك الخالة نوال يا خال؟)
كان الرجل قد إستوى مكانه، يجيبها بما ضاعف من قلق حفيظة وحيرة البقية.
)لا أعلم ما بها في الآونة الأخيرة يا ابنتي... تلتزم غرفتها أغلب الوقت... لا تقابل أحدا ولا تخرج من البيت ... لذلك أتيت لأرى إبنتي وأطلب منها زيارتها لعلها تفلح في معرفة سر تصرفاتها الغريبة تلك!)
نظرت حفيظة إلى حماتها التي أطرقت برأسها، تفكر وكل ما يشغل تفكير فواز بروز بطن زوجته وما سببه الحمل من إمتلاء لبعض أطرافها النحيفة سابقا فيتصلب جسده برد فعل مخزي له، يجب أن يتصرف سريعا ويصالحها، يشتاق إليها وإلى رائحتها الخاصة، يلتمسها على وسادتها كل ليلة بينما يستعيد سكونها المغري على صدره.
)سأجلب الشاي...)
قالتها حفيظة التي لم تفعل مثلهم وظلت واقفة قبل أن تستدير ودون تردد قام ليلحق بها وحين همت شقيقته الكبرى لتقوم أشارت لها والدتها زاجرة بأمر غير منطوق، فأطاعتها على مضض، تضغط على أسنانها بغيظ تحت أنظار شقيقتها الصغرى المتسلية.
)الشاي جاهز...)
عقب يفتتح حواره معها في المطبخ حيث يستفرد بها لأول مرة، طوال الشهور الماضية كانت له والدته بالمرصاد.
استدرك حين لمح نظرتها الحائرة.
)لمحت صينية الشاي في غرفة الجلوس فلا داعي لنتحضير براد شاي آخر....)
أومأت بتفهم وخطت لتتجاوزه لكنه لم يسمح لها، يسد عليها المخرج، يداعبها بالقول.
)ألن تسامحي بعد يا حفيظة؟)
إنطلق قلبها الخائن يلبي دعوة حبيبه، يعدو مكانه بجنون لكنها ظاهريا زمت شفتيها دون تعبير محدد فمد يده يغلق باب المطبخ واقترب منها يحدثها برفق.
(لا داعي لأبرر لك نفسي لأنني فعلت كل يوم مر أمامك وأمام والدتي.... ما أعرفه الآن وأختاره وأريده بكامل إرادتي هي أنت... فهلا سامحت ومنحتني فرصة جديدة؟...)
توالت الدموع لتتدحرج على وجهها الوحيد الذي لم يكتسب إمتلاء، فلا يبرز منه سوى النصف العلوي من الوجنتين خصوصا حين الضحك أو البكاء، ترميه بنظرات مجروحة، مليئة بالعتاب ولم يكن ذلك ليمنعها عن مراجعة نفسها هي الأخرى كل ليلة قبل أن تغفو، تتسطح على جنبها اليمين مولية ظهرها لحماتها تخفي عنها دموعها وشوقها، فتسترجع كل خطأ إرتكبته في حق خالقها وتمادت به.
إبتعدت عن ربها ولم تكن جاهلة به فقد كانت صديقة مقربة من تقوى وزينة، رات منهما ما لم تتعلمه من والديها فلمَ لم تحاول؟... بلى لقد فعلت لكن التكاسل كان أسهل، التجاهل كان أبسط من أن تحارب شياطينها وبيت أهلها يعج بالكثير منهم.
(أنت جرحتني...)
نطقتها أخيرا بتقطع مرير فجذبها داخل حضنها يطوقها بقوة، يستشعر حرقة ألمها.
ما أغباه كما قالت والدته! عاشرها ولمس رقة قلبها وبساطة عقلها وبدل أن يسعد معها وبها ويحتويها فعل ما تعود عليه، تكبر بكل صلف وغرور.
تنهد يقبل أعلى رأسها، يهادنها بهمس رقيق.
(أسف ... أقسم بالله أنا آسف... إعذريني حفيظة ... الإنسان يخطئ بكل غباء وصلف... لكن كما يقولون...)
أبعدها قليلا لينظر في وجهها الباكي، يكمل برجاء.
(الإعتراف بالخطأ فضيلة... فهلا منحتني فرصة أخرى؟)
مسحت عباراتها تجادله بعبوس ضائق.
(وما أدراني بأنك لن تجرحني مرة أخرى؟... وتتهمني بأفظع التهم؟)
مسح على لحيته، يجيبها بحذر.
(أعدك أن لا أجرحك بعد اليوم لكن لا تخفي عني أي شيء ... مهما ظننت أنه سيغضبني فقط لا تستغفليني.. )
هتفت تدافع عن نفسها.
(والدتك من طلب مني عدم إخبارك بما حدث... أما حقيقة والدتي فدائما ما كنت رافضة لكن لم يكن في مقدوري فعل أي شيء سوى التجاهل كرد فعل... انها والدتي بحق الله! ... من ترعرعت تحت جناحها... ماذا كان في يدي لأفعله؟ ... ولقد رأيت بنفسك كم نالني من ضرر...)
حرك رأسه بإنزعاج من أجلها وإستاء من نفسه فهي محقة تماما وبهيج سبق وشرح له ذلك.
(حسنا لا بأس عليك.... أعدك أنني لن أجرحك ما حييت...)
منحته تلك النظرات المطالبة بتأكيد فلا طاقة لديها لانكسار جديد.
مطط شفتيه يحك جانب خده، مستطردا ببعض الإمتعاض.
(حسنا توقعي مني بعض الحماقات فذلك من طبعي... )
إرتفعا حاجبيها بدهشة فهز كتفيه، يكمل بنوع من المرح.
(لقد سمعت من والدتي بنفسك... أفسدتني دلالا لسنوات طويلة لابد أن أرتكب حماقات بين الفينة والأخرى.... )
ضمت ذراعيها الى صدرها تعبس بإستنكار، تزفر أنفاسها المشتعلة عبر ثقبتي أنفها الصغير فإزدرد ريقه يسترسل بترقب.
(مجرد حماقات حياتية عادية... لن يصل الأمر إلى فظاعة أعدك...)
(وماذا عن الخيانة؟)
تجمد كليا لا يتحرك منه سوى جفنيه، يرفان بخفة خاطفة قبل أن يبدل جهدا ليحرك لسانه.
(ماذا عنها؟)
بادلته النظر بصمت لعدة لحظات قبل أن تطلق سراح ذراعيها، تفسر بنبرة رافضة.
(الجميع يعلم بأنك تحب النساء...)
فتح فمه ليتحدث وقد انقبض قلبه لكنها سارعت تكمل بينما ترفع كفيها في وجهه.
(رغم ذلك أحببتك وقد حاولت التعبير عن ذلك قبل الزواج وهذا خطأ كبير إقترفته في حق نفسي... لذا إعتبرت ما حدث عقابا لي عن تجاوزي للحدود... ما كان يجب أن أفعل ذلك مهما كان شعوري نحوك... لكن يا فواز...)
أشارت بسبابتها، محذرة بجدية حازمة.
(أستطيع غفران كل شيء .... إلا الخيانة... إن رأيت ما يعصبك أو ينفرك مني أخبرني وأعدك بأن أحاول ما في جهدي ... لكن لا تخُني لأن حينها ستكون نهاية علاقتنا ... لا تراجع ولا غفران...أعدك بذلك كما أعدك بأن أجاهد لإرضائك بكل إخلاص....)
تنفس براحة بعد أن استنفرت جميع خلاياه برعب حقيقي وظن للحظة أنها ربما رأت زيارة تلك المرأة التي لا تكل من المحاولة ولم يجد بعد طريقة ليتخلص منها نهائيا.
وما لبثت أن تشكلت ملامحه بمكر، يجيبها.
(لا خيانة بإذن الله ...أعدك... فلماذا أنظر إلى غيرك وأنت جواري؟.... وعلى ذكر ذلك ...)
تلكأ أمام نظراتها المرتابة ثم تقدم ليعيدها بين ذراعيها، يهمس لها بعبث.
(متى ستعودين إلى غرفتنا؟... تعلمين بأن الشوق أحرق أعصابي وكما قلتِ قبل قليل... أنا رجل يحب...)
غطت فمه بكفها تزجره، بغيظ.
(لا تقل ذلك مجددا!... أحذرك... )
توحشت نظراتها بغيرة مشتعلة ألهبت حواسه فضمها إليه أقرب، يعبر عن لوعة قلبه.
(أنا رجل يحب زوجته.. )
نطقها بهمس أجش بعد أن قبل راحة يدها ففغرت شفتيها مأخوذة بجرأته التي تراها على شكل مختلف لما كان بينهما قبلا وكأن الأزمة قد قربت بينهما أكثر وهدمت أسوارا فرقت بين روحيهما.
(هل رأيتِ؟ أسأت فهمي وظلمتني....)
إستنكرت مجددا دون أن تتحرك لتتحرر من سجن ذراعيه فأومأ بتسلية، يكمل.
(أجل .. ظلمتني وأنا مسكين يريد الترضية حالا...)
هم بتقبيلها فتململت، تحاول الفرار من بين براثنه القابضة عليها بإحكام.
(فواز لا يصح... تأخرنا والشاي!)
(ترضية صغيرة فقط ... الشاي جاهز...)
تمكن من تلبية رغبة قلبه وعانق شفتيها برقة وسرعة قبل أن يبتعد عنها ليرفع حاجبه مؤكدا بحزم مزعوم.
(ترضية صغيرة تمهيدا لترضية كبيرة الليلة بعون الله...)
إستغلت إرتخاء يديه لتنسل مبتعدة، تتحداه بسخرية.
(من يجب أن يرضي من؟)
ضحك على سذاجة حديثها ودنى منها يغمزها بخفة أدهشتها كما أجفلها حديثه الوقح بعدها لتفر منه هاربة من المطبخ.
(أنا .. وسأفعل بكل سرور...تمهلي يا مجنونة أنت حامل!)
وكأنه يحدث الفراغ إذ أنها إختفت بسرعة ليضحك برضى وراحة لم يشعر بهما قبل زمن بعيد.
................
.
**اليوم التالي**
**منزل أهل زينة*
أسرعت تنهي تنظيف المطبخ وتأكدت من غلق صمام الغاز ثم عبرت الردهة، تدفع الكرسي المتحرك ترافقها البسمة الهانئة، تتأمل الكرسي الذي لم يسبق أن إستعمله والدها أو والدتها، رافضين الخروج من البيت لأي سبب، مكتفيين بالجلوس في شرفة الطابق الثاني التي تطل على الحديقة الخلفية للبيت حيث ينضم إليهم فيها أناس من الأقرباء والأصدقاء فإقتصرت حياتهما بينها وبين غرفة نومهما أغلب أيام حياتهما لكن اليوم مختلف!
إبتسمت بسرور بينما تقف على مقربة من الشرفة، تصغي للضحكات المبتهجة، إحداها تخص والدها الذي يبدل جهدا كبيرا منذ وفاة والدتها ليكون لها مصدر قوة ولم تكن تعلم أن الدافع والرغبة الخالصة تحقق المستحيل فقد يئست من رؤية أحد والديها يعيش من جديد، يخرج من البيت ويخالط الأقارب في مناسباتهم والآن تحقق الحلم، بفضل الله ثم دعم جرير ومؤنس وهو!
صاحب الضحكات الذكورية ذات الرنة المميزة لمسامعها.
تنهدت تربت على صدرها، تهدئ من إندفاع الدماء عبر أوردتها لتستعيد واجهتها الرسمية، ذلك الرجل سيوقف قلبها يوما ما، بإصراره الغريب!
حضوره القوي!
وشخصيته المتقلبة بين أحوال مختلفة لا تكاد تتمكن من التنفس برتابة أمامه وكثيرا ما يقتلها جهلها وقلة حيلتها حيال فِهم ما يسعى إليه!
هل هو حقا كما يوحي لها، يتدخل رويدا رويدا في حياة والدها بطريقته المميزة كي يسانده ويحثه على الإيجابية والحياة؟
أم أن الأمر كما يشعر قلبها مع كل دقة يفقدها بسببه؟
صوته حين يحدثها!
نظراته العابرة حين يقابلها!
لا تعلم!
وذلك يفقدها تركيزها طوال الوقت وصبرها.
تنفست بعمق ورفعت دقنها بواجهة رسمية بعد أن تفقدت إنعكاسها على بلور باب الشرفة بهيئتها داخل فستان تقليدي بقصة واسعة شبيهة بعباءة الفراشات، حريرية صيفية ذات لون بارد بين الأبيض والأخضر، مسدت عليه ثم على الوشاح الأخضر ودفعت بالكرسي، تقتحم جلستهما.
(كيف كنت سأعلم يا عمي ؟.... أنا شرطي ولست بعراف)
علت القهقهات تعقيبا على طرفة أخرى من طرائف عمله التي لا تنتهي ووالدها يضرب كفه بأخرى، مجيبا عليه من بين ضحكاته المرحة.
(لا أحد يعلم الغيب إلا الله يا بني.... وكل من يدّعي غير ذلك فهو دجال ... )
أومأ هشام ببسمة متسعة، يصغي لإسترسال العم حين هلت عليهما لتلفت إنتباههما، تلوذ بجوار والدها الجالس قبالته بينما هو مسترخ على مقعده يعقد رجلا بأخرى، فاردا ذراعيه على حافتيه.
(لولا طمع العباد... وسعيهم لمعرفة الغيب ما وقعوا في فخ النصابين... الإيمان القوي بالله واليقين بأن لكل مخلوق رزق مكفول له من خالقه فقط يجب عليه السعي بالحلال يسد أبواب الشر في وجه شياطين الإنس والجن... )
وكالعادة أجبر عينيه على تجاهل هيئتها المغرية في أي حلة تسربلت بها، تثير فيه ما ينكره بشراسة ويعود كل يوم للتأكد منه إلى أن تحول الأمر لإدمان لا مفر له منه.
(ما بالك يا عم بمن لا يخرج من بيته إلا بعد قراءة الأبراج وما تحمله من تنبؤات ليومه ... إذا كانت خيرا إستبشر وإن كانت شرا تشاءم ... ويتطيرون بأي شيء ... جنون مثير للشفقة...)
(الحمد لله الذي عفانا مما إبتلى به غيرنا ... نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة... لا يعلم الغيب إلا الله مهما كذب الكاذبون... ونجم المنجمون فقد كذبوا ولو صدقوا... ألا يعلمون أن تصديق الدجالين من المنجمين والعرافين والسحارين كفر؟... يا الله رحمتك....)
رد عليه والد زينة بوجوم فعقب هشام قبل أن ينهض من مكانه.
(لا يوقع الناس في فخ النصب والمشاكل عموما سوى بعدهم عن الطريق المستقيم ... أظن أنه حان الوقت!)
تفقد ساعته ونظر إلى زينة التي ربتت على كتف والدها، تخبره بلطف يثير في الآخر مشاعر جياشة تتضاعف كل يوم عن الذي قبله.
(جرير قادم يقول أنه لن يذبح سوى بحضورك... )
تهللت أسارير الرجل المسن وملأت البسمة وجهه مما أنعش قلبها فرسمت بسمته على وجهها كإنعكاس لإنبساطه فكان هشام هو الآخر متأثرا بإحساسها متذكرا كآبتها وحزنها يأسا وخوفا من فقدان والدها بعد والدتها فثارت حميته ورغبته الحارقة لتغيير ما فيها إلى سرور وإستبشار وكم يرضيه تحقيق نصره الكامن داخل أحشائه.
(ها هو!)
سمعت رنين الجرس فهمت بالهرولة لكنه سبقها زاجرا بجدية فاجأتها على عكس والدها الذي ظل على بسمته اللامعة وسط ظلمتيه بغموض مثير.
(سأفتح أنا...)
إستغربت من تصرفه فشردت كعادتها مع كل ما يصدر منه مثيرا حيرتها حتى أجفلت على قول والدها القابض على كفها بحنو.
(نعم الشاب هشام ... أحببته والله... )
لمست ظهر كفه تومئ له بتفهم ثم تراجعت تمنحهما المساحة ليحملاه على الكرسي وتكفل جرير بدفعه، يثرثر له.
(لن أذبح سوى بحضورك يا عمي ... العائلة مجموعة في بيتي لا ينقصنا سواك...)
( بارك الله لك في الموهوب لك، وشكرت الواهب،
وبلغ أشدّه، ورزقت برّه يا ولدي...)
(كيف حالك؟)
رفعت رأسها إليه، ترد بينما تمتعض سرا من فارق الطول الملاحظ بينهما.
(بخير الحمد لله...)
(الحمد لله... لا تقلقي على عمي سأكون الى جواره حتى أعيده الى البيت...)
قطبت، ترمقه بحيرة تزداد كل حين لتقتات على أعصابها فتجاوزها يدس كفيه داخل جيبي سرواله، يفسر برسمية.
( إستمتعي مع صديقاتك ولا تحملي هما..)
أوصدت الباب ولحقت بهم وحين عبر عتبة المدخل الخارجي نحو الحديقة الأمامية حيث جهز الشباب كل شيء من أجل الذبيحة توقفت تنظر بشرود جفلت منه على هتافه القريب منها.
(النساء داخلا يا آنسة زينة...)
إنتفضت ترمقه بعبوس مرتاب فأشار لها رافعا حاجبيه نحو المدخل الخارجي، رمت والدها بنظرة مطمئنة لتجده مستغرق في حديث يبدو مهما مع مؤنس وجرير ثم عادت لتنظر إليه يتأملها بنفس الجمود ينتظر فزفرت مستسلمة تخطو نحو البيت وكلاهما غافلين عن العيون الملتقطة لما حدث رغم تجاهلها الظاهري.
(وأين هو الآن؟)
سأل والد زينة ابن أخيه مؤنس الذي رد عليه ببعض الجمود.
(في غرفة الضيوف مع الحاج محمد ... حاول معه يا عمي أظن أن الوقت قد حان وقد يستجيب لمحاولتك...)
بوجه متحسر، تحدث عمه يعبر عن حزنه وألمه نحو ابن أبيه وأمه الذي قاطعه لسنوات طوال بسبب الأموال، لاعنا الأطماع التي تفرق الأرواح وتشتت الرحم.
(منذ أن لمحت وجوده في العزاء وأنا أشعر بأنه يتغير... رغم عدم قربه مني وتقديم العزاء لي... لكن مجرد حضوره دليل على تراجع موقفه...)
نظر جرير إلى مؤنس يعاجله قبل أن يستدير إلى حيث يجلس بقية أصدقائه مع أخوي مؤنس ونبيل وهشام في القسم المقابل من الحديقة.
(نادي على والدك والحاج محمد أريد أن أنتهي من هذا....هيا يا شباب من سيحضر الكبش الأقرن من الحديقة الخلفية؟)
نهض الجميع من على الكراسي المتراصة جوار بعضها، باستثناء يوسف يكمل حديثه مع محسن الذي قال.
(قبل أن أنسى يا يوسف... نحن في انتظاركم غدا إن شاء الله على الغداء... حين تجلب عائلتك من المطار أحضرهم الى بيتنا... )
(لا داعي لذلك يا فقيه...)
ضحك محسن بينما يطبق على راحتي كفيه يضمهما ليعضهما في حجره، جلبابه الصيفي ينصع بياضا ووجه البهي يشع نورا ربانيا، يمهد له سبيلا سهلا منبسطا نحو القلوب.
(أمي بارك الله فيها تستعد منذ الآن لاستقبالك وأهلك... متحمسة أكثر من العروس نفسها...)
شاركه يوسف الضحك شاكرا له كرمه وأهله قبل أن ينتبها إلى عودة الشباب بالكبش فالتزما الصمت، محسن يذكر الله ويدعو بالبركة والرحمة، تلاحقه غمغمة يوسف بآمين.
ما إن ترك عتبة المدخل الداخلي حتى تعثرت خطواته خلف الحاج محمد يلتقط وجود أخيه قرب المكان الذي خصصه جرير للذبح، متفاجئا ثم مترددا يرمقه بارتباك يصاحبه بعض الأنفة النابعة من صميم عناد أحمق تأصل عميق قلبه رغم نسيان العقل لأغلب أسباب القطيعة.
(مرحبا بالحاج محمد...)
رد والد زينة على تحية الحاج محمد المبتهج، يصافحه قبل أن يجاوره مراقبا الشباب ثم نظر الى أخيه يبادره برجاء جلي وحنو بالغ.
(كيف حالك أخي؟)
اتسعت مقلتاه قليلا وبلع ريقه، يرد عليه بنبرة مرتعشة سبق وهدّها المرض الذي اكتسح أمعائه لسبب يجهله سواه وربه أو هكذا يظن!
(الحمد لله....)
هم أخوه بالحديث لكن هتاف جرير وقد استلم عنق الخروف المستسلم لقدره بين أيدي أحد أبناء عمه من اخوي مؤنس ونبيه.
(بسم الله و الله أكبر....)
(انتظر يا جرير ماذا أسميت ابنتك؟)
سأل عمه والد زينة، فرفع إليه نظرات لامعة بدمعات أبية، اختلط فيها الألم بالأمل، يجيب بفخر.
(فاطمة الزهراء... أسم والدتي ومن قبلها اسم ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم...)
ثم عاد ليستأنف نيته، يستدرك بخشوع.
(بسم الله وَاللهُ أكبرِ اللَّهم لك وإليك هذه عقيقة فاطمة الزهراء)
وبما اقتضت به سنة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم مرر السكين على عنق العقيقة، فتعالت الدعوات والمباركات.
(اجلس يا أخي يبدو عليك التعب...)
نطقها والد زينة بإشفاق فاستجاب له دون تردد، يشعر بالوهن ينخر عظام جسده.
(مؤنس أخبرني بأنك قمت بفحوصات كثيرة ولم يجدوا سببا عضويا لتعبك.... معافى بإذن الله!)
هز رأسه شاكرا وممتنا لبادرة أخيه فقد أنهكه ما يغمه ويهمه ولا مساحة تبقت لديه لجحود إضافي رغم عناده وأنفته الذين يمنعان روحه عن المبادرة.
(إي والله يا أخي... هذا ما حدث... آمين يا رب العالمين)
(هون عليك يا أخي لا شيء يستحق لتفقد صحتك من أجله...أنظر إلي .... العجز يحد من حريتي ويذرني بلا فائدة... فما الذي يستحق كل هذه الكآبة واليأس المرتسمان على وجهك؟)
*الخوف من الفضيحة* بلع الكلمات مع لعابه، يجيبه بكدر بينما تفكيره كما دائما ينحصر بين جدران ال ماذا لو افتضح أمره وانتشر المقطع بين أهل البلدة؟ كيف سيرفع رأسه بين أهل بلدته؟
والأدهى كيف سينظر في عيني أبنائه وزوجته؟
المقطع كان فظيعا وبشعا الى حد لم تتقبله نفسه فكيف سيتقبله أهله؟
وكيف سيعيش مع علمه برؤية أهله لفضيحته البشعة؟
لا وحق الله سيكون آخر يوم في حياته!
لم يكن يعلم أن الرعب والخوف يتركان أعتى الرجال وأصلب القلوب أسرى جدران الهم والغم، يرتعشون كفئران حقيرة.
(أنت محق... شفانا الله وعافانا ....)
(اشتقت إليك يا أخي هلا تصافينا لوجه الله؟ ... لم يعد في العمر بقية يا ابن أمي وأبي...)
نظر إليه مجفلا، أحشائه تصرخ بتضرع إلى لله أن لا يستعيد أمانته حتى يغفر له ذنوبه البشعة ثم استدرك نفسه وقرب كرسيه من أخيه، يسأله بشرود.
(ماذا كان سبب قطيعتنا يا أخي؟)
رد عليه والد زينه بتحسر وحزن.
(تعددت الأسباب والضعف أمام وساوس الشيطان واحد... لم يعد يهم... لقد مرت سنوات طوال... انتفت الأسباب الدنيوية وظل الخصام وطالت القطيعة... إن كان لي حق عندك فأنا مسامح فهل أنت كذلك؟)
مد له كفه بسلام بفضل رب رحيم، غافلين عن النظرات الحائمة حولهما برضى ورجاء فلم يتردد في الإطباق عليها بلهفة، يتلمس داخل راحتها دفئ أخ لن يجد له بديل، ابن أمه وأبيه.
(إن كان لي حق عندك فأنا مسامح يا أخي... سامحنا الله جميعا.. وغفر لنا...)
وكان ذلك بداية حديث طال وتشعب ليعيد رابط الدم الى سابق عهدها ليعلَن انتصار جديد للحق يثقل كفة عهد العبد أمام عهد الشيطان الذي لابد يتميز غيظا وقد فشل ما يخطط له لسنوات طوال خلال دقائق معدودة بفضل الله.
……………….

**اليوم التالي**
حاد يوسف بأنظاره نحو المرآة الأمامية لسيارته، يحدث شقيقتيه المستقرتين خلفه.
(الحجاب يلائمك يا سارة... مبارك صغيرتي... )
اتسعت بسمة سارة المتحمسة بينما يوسف، يكمل بمرح.
(وماذا عنك يا سلا؟... ألم يحن الوقت بعد؟)
لم تجبه غارقة في شرودها، تنظر عبر النافذة فلمستها سارة لترمقها باستفسار رد عليه يوسف بمزاح.
(تتهربين من الرد يا سلا... مهما تهربت لابد يوما أن تستجيبي لأمر الله...)
قطبت غير مركزة فتجاهل حالتها الغريبة تلك واستدار الى والده الذي لم يكن بأقل منه قلقا، يخبره.
(اشتقت إليك... إليكم جميعا... سنذهب أولا إلى بيت الفقيه عبد العليم... ينتظرونكم على الغداء...)
(حقا!...رائع!)
هتفت سارة بحماس فائض جعلهم يدققون في رد فعلها باستغراب فتراجعت تتمالك قلبها المشتاق، تدافع عن موقفها.
(أنا متحمسة لرؤية عروسك بدت لي في المكالمات عبر التطبيق شخصية جميلة ومحبوبة ... )
ابتسم بحب لمعت به مقلتيه السوداوين مما دفع براحة لتنبثق مكتسحة خلايا صدروالده فأرخى رأسه على مسند المقعد يفكر أن سعادة أولاده تستحق دحر أي قلق يخصهم رغم المسافة التي ستبعده عن بكريه.
(جهزت البيت؟)
سأله على ذكر قرار ولده بالاستقرار في الوطن فرد عليه، موزعا نظراته بينه وبين الطريق.
(بلى... لم يبقى سوى بعض الأمور البسيطة ستتكفل بها حياء بعد العرس إن شاء الله...)
(ان شاء الله... )
غمغم ثم سأله مجددا.
(اتفقت مع شريكك بشأن استقرارك هنا؟)
كان قد دخل بسيارته عبر الزقاق حيث منزل الفقيه عبد العليم حين بدأ بالتحدث.
(سنظل على حالنا يا أبي... حين أكون هنا أقوم بممارسة عملي وأرسله ... وحين يستدعي العمل أو أي شيء آخر حضوري هناك سأذهب...)
عقد والده جبينه، متعجبا قول ولده المستجد والأغرب تلك الراحة المرتسمة على وجهه عكس ما كان يبديه من ضيق كلما جاء على ذكر الموضوع.
أطفأ المحرك والتفت إليه، يكمل حديثه المثير لاهتمامهم جميعا.
(لماذا أقرر الاستقرار هنا أو هناك بينما أستطيع العيش في كلاهما حسب الحاجة؟.... أنا مرتبط بكلا المكانين يا أبي.. فلا بأس من العيش بينهما حسب الظروف... سلمت أمري الى الله هو حسبي ونعم الوكيل...)
(هذا قرار جيد...)
خرجت سلا عن صمتها الكئيب فأكد والدها على كلامها، يبتسم باستبشار.
(بلى... قرار جيد... وفقك الله بني...)
دعى له رابتا على أعلى ذراعه وشيء ما ينبئه بأن ما يحدث مع ابنه أول تأثيرات زوجته عليه ولا ينكر ان الأمر يعجبه، يعجبه كثيرا في الحقيقة والآن أضحى أكثر ابتهاجا واستعداد للقاء أنسبائه.
ترجلوا من السيارة في نفس اللحظة التي فتح فيها باب المنزل لتظهر أم محسن الباسمة بسرور تجلى على وجهها البشوش، يلحق بها زوجها القابض على كف ولده الباسم بدفئ خطف أنظار سارة فتوارت خلف أختها تخفي لهفتها .
رحبت أم محسن بالسيد صلاح الدين قبل أن تسحب سلا داخل حضنها الدافئ، تقبل وجنتيها بحب وترحيب صادقين وفعلت نفس الأمر مع سارة التي ندت مقلتيها بدموع لم تذرفها، تدعو الله أن يوجهها نحو الطريق الصحيح هذه المرة.
أبعدتها دون أن تطلق سراحها، تتفحص هيئتها المختلفة في فستانها الصيفي الواسع بلون بنفسجي غامق كلون الوشاح الطويل حول رأسها وصدرها.
(بسم الله ... بارك الله فيك... وحفظك يا ابنتي..تفضلوا ... تفضلوا... أنرتم بيتنا...)
تقدمت والدة محسن الفتاتين نحو غرفة الجلوس حيث انضمت إليهن حياء، تستقبلهن بترحيب ليتبادلن الحديث الغالب عليه حماس سارة وسعادة أم محسن وبعض عبارات حياء الحيية وصمت سلا الواجم فمرت الأجواء على خير وتشاركن الطعام والحديث الحسن كما فعل الرجال في غرفة الضيوف.
دق الباب فنهضت حياء تحمل صينية الشاي لتعيدها الى المطبخ وقد فرغن منها.
(لابد وأنه نبيه ليصحب محسن الى المسجد تجهيزا لصلاة العصر...)
نظرت سارة تلقائيا نحو شقيقتها التي تكومت مكانها برد فعل لو لم تكن تعرف حقيقته لظنت أنها تراجعت عن حبها وتخشى إخباره برفضها لكن العكس ما يؤلمها ويحملها عبئ هم ثقيل.
تخشى أن يرفض طلبها بالسفر معها فتضطر للاستسلام لقلبها المكلوم فتسقر هنا في مواجهة ذكريات الفقد الأليمة.
تنهدت بخفوت مشفقة على شقيقتها وعلى نفسها فالتخطيط من بعيد لتجتمع بمن اختاره قلبها بدى لها سهل وبسيط عكس ما تشعر به حاليا على أرض التطبيق.
لكنها سارة ولن تعدم الحيلة وقد توكلت على الله ودعته بقلب خالص ونية صادقة.
(يوسف ووالدكما ينتظرانكما في السيارة...)
أطلت والدة محسن جوار باب الغرفة، تخبرهما بعتاب وقد طلبت منهما المكوث معهم لتحضرا جميع تفاصيل العرس من بداية التجهيز له إلى أن ترحل العروس برفقة عريسها لكنهما رفضتا بلباقة وعبّرتا عن رغبتهما في المكوث في شقة شقيقهما مع وعد بالعودة لحضور جميع المراسم والمساعدة أيضا بما أنهم سيتشاركون في حفل عرس واحد.
رافقت سلا والدة محسن وحياء نحو الخارج بينما سارة قد مرت بالحمام أولا، لتغسل كفيها وتعيد ترتيب حجابها.
تجمدت قدميها على عتبة الباب الخارجي لا تصدق حظها، أخيرا وجدت فرصة لتتحدث معه أو حتى تلقي عليه التحية، لم تشعر يوما بمثل هذه الأحاسيس المجتاحة لصدرها كعاصفة ثائرة لا تنذر بزوال قريب.
بنظرات مهتمة قرأت المعضلة بين الصديقين، التواصل بينهما صعب رغم إرتباطهما الوثيق فلا يجدان سوى اللمسات العفوية يتفهمان بها في ظل غياب من يترجم بينهما حين يعجز نبيه على قراءة شفتي محسن.
كيف فات يوسف تعليمهما لغة الإشارة باللمس؟
أم أنه لم يجد السبيل بين كل ما عانه منذ عودته إلى جانب كونه لا يعلم أصولها فيجب عليه تعلُّمها أولا أو إحضار معلم مختص!
تألقت البسمة الشقية على ثغرها وقد وجدت الطريقة المثلى لتحظى بدقيقة حوار معه ثم تقدمت نحوهما بخطوات أكثر ثقة، شاكرة حظها الذي أخرها بسبب ترتيب حجابها.
كان أول من لمحها نبيه الذي عقد جبينه ترقبا على إثر إضطراب نبضات خافقه، يربط وجودها بأخرى لم يكحل عينيه برؤيتها بعد، غير متجاوز مفاجأته بحجابها ربما لظنه السابق بكونها الطرف المتحرر بزيادة عن أختها!
)السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...)
نطقتها كما أشارت بها فرد كلاهما بطريقته ثم إستدركت تنظر نحو محسن بخجل لم تظن أنه سيؤثر على موقفها فتتردد قليلا في حديثها والحمرة تغمر وجهها كليا.
)أنا سارة أخت يوسف...)
لم يجب محسن، يطرق السمع بينما نبيه جواره يشير بكفيه باسما بإستغراب.
*نعرفك يا سارة....*
هزت رأسها، تقول بشجاعة تتراجع لتندحر خلف ضعف إجتاحها، لم تعلم أن لحضوره هيبة ورهبة كتلك التي تشعر بها لتوها، خاطر عميق يحثها على الهرب ويلومها على جنون ما أقدمت عليه.
)أعلم أنك تعرفني يا نبيه ... كنت أخبر....)
زاد إرتباكها فضيق نبيه عينيه ومحسن يتدخل باسما بلطف.
)كيف حالك آنسة سارة؟...)
حكّت جبينها، تبلع ريقها تحت نظرات نبيه الثاقبة بينما تجيبه.
)الحمد لله... كل شيء على ما يرام...)
حمد محسن ربه فساد صمت غريب محرِج، حاولت كسره لكنها لم تستطع سوى الإشارة بعد أن خذلها لسانها كما يوشك باقي بدنها الفعل وحجتها الدافعة لها تضمحل أمام هول ما يملأ جوفها من توتر رهيب.
*رأيت طريقة حواركما... لما لم تتعلما التواصل بالإشارة مع اللمس؟.... بها تطوران أسلوب تواصلكما…*
قطب مركزا على حركات كفيها ليرد عليها.
*لغة الإشارة باللمس تطورت مؤخرا في بلادنا... ولازلنا نتعلمها ونتدرب عليها في المؤسسة ...*
ثم نظر الى محسن، يفكر قبل أن يكمل.
*لا أعلم إن كان سيسهل عليه تعلمها؟*
هتفت دون وعي.
)سيفعل بالتأكيد!)
قطب نبيه مجددا بريبة بالغة فإزدردت ريقها تتفقد حجابها ومحسن يسأل عن الكلمة التي خرجت منها محملة بحماس متقد بعد صمت إستغربه قبل أن يشعر بصديقه يتحرك فعلم أنهما لابد يتواصلان بالإشارة.
)من سيفعل ماذا؟)
إلتفت إليه نبيه حين لمح نظراتها المتوترة نحوه لتقع الفكرة داخل رأسه فجأة فعاد ينظر إليها بحثا عن تأكيد لدى من إستدركت بخجل أرهقها حد العبوس غضبا من نفسها.
)سألت نبيه لما لا تتواصلان بلغة الإشارة مع اللمس؟... فأخبرني أنه تعلمها مؤخرا ولازال يتدرب عليها .. ولا يعلم إن كان من السهل عليك تعلمها؟)
شيء ما في نبرة الفتاة لا يريح سمعه ويبعث في نفسه بعض الإرتباك، تجاهله مبتسما، يجيب برسمية.
)سأفعل بإذن الله... إن كان ذاك سيجعل كلا منا يفهم الآخر جيدا...)
)بلى.. هي لغة تواصل واضحة... )
تدخلت مجددا، تدافع بتشجيع رغم الرعشة التي تخللت نبرتها على إثر البسمة المتسعة على ثغر محسن بينما يربت على كتف صديقه المراقب للوضع بغموض.
)إذن على بركة الله ... يجب أن يعلمها لي!)
مسحت على شفتيها، تشعر بعطش رهيب ثم رفعت كفيها تشير كما تتحدث.
)يجب أن تتعلم على يد شخص يتحدث كي تسمع منه معنى كل حركة.... )
أومأ بتفهم ونبيه جواره متجمد، يكبله ظن إكتشافه لأول مرة يتفاجأ بشيء بعد إكتشافه للمشاعر المتبادلة بينه وبين سلا.
)يوسف إذن...)
ترددت لكنها قالت بتصميم.
)يوسف وسلا لم يتعلماها بعد... أنا فعلت...)
ضم محسن شفتيه وحاجبيه مقطبان بتفكير عميق، ظنته رفضا وغضبا لتماديها فتراجعت خطوات إلى الخلف جعلت الآخر ينتبه إلى ما يحدث فأشار لها.
*سأتدبر أمر تعليم محسن لا تقلقي...*
هزت رأسها والخزي ينهش أحشائها بطريقة مؤلمة.
غبية... غبية! لم لا تحسب حساب ما تتجرأ عليه دون تفكير سليم!
كيف سيفكر بها الآن؟ أنها تقبل بلمس الرجال دون ذرة خجل؟
غبية... غبية! لمَ لم تفكر في المعنى الآخر لما تقترحه عليه؟
)لم يسبق لي أن علمت أحد...)
نطقتها بدافع قوي لتبرئ ساحتها من تهمة تلقتها من باطن نفسها ثم مسدت قماش فستانها ذي التنورة الواسعة قبل أن تكمل بنفس الحرج أمام نظرات نبيه المحققة في إشاراتها بغموض وأمام هدوء محسن.
)أقصد أتممت دورتي حديثا... ولم يسبق لي أن علمت أحدا... عن إذنكم ...)
غادرت بسرعة، تلوم غباءها بأشد الكلمات متلافية الصمت يظلل الاثنين، محسن يفكر في ما سمعه وكيف تلقته فطنته يؤيدها ذكائه بينما نبيه يسمح لبسمة واسعة تجتاح تضاريسه مديرا رأسه ليرمق صديقه بسرور لا يخلو من الإستغراب بعد.
(سارة!... نحن هنا!)
التفتت يسبقها استغرابها فقد ظنت أنهن خارجا ثم عادت إليهن، تتفحص هيئة سلا المضطربة ولسبب مجهول أرادت أن ترى النظرة التي عبّرت شقيقتها عنها بهيام وعن مدى شوقها إليها، نظرت إليه فرأت كيف تجتمع المشاعر لتحتدم داخل العين فتبثها من خلال نظرات تحتوي، تشتاق، تطبطب وترحب ثم تحتضن.
(هذه هديتك يا سارة... أدعو الله أن تنال إعجابك...)
تسلمت الكيس منها شاكرة ومشت معهن الى السيارة وكل ما يجول في خاطرها كيف سيكون اهتمام محسن بالتي يحبها؟
…………........
**اليوم التالي....**
**منزل جرير**
ترمقها برهبة لا تفارقها، تخاف من حجمها الصغير جدا فتكاد تحملها لترضعها بينما تفضل فعل ذلك وهي راقدة جوارها على السرير، تقرب منها أنفها لتشتم عبيرها الساحر وتلمس بشرتها الناعمة بحذر دون أن تتجرأ على حملها لكن وبسبب زوجها العنيد أضحت تتعرف على الفرق وتتعود على الحمل فتبكي لكي تُحمل.
(يجب أن تحمميها...)
وضعت الجدة جوهرة مغسلة الرضع المليئة بالمياه الدافئة وتقوى تتساءل بخوف بينما تضم ذراعيها تحت دقنها.
(أنا؟)
ثم تفقدت لباسها فأضافت بحيرة عابسة.
(ستخرجين ؟)
ببسمتها الدافئة تقدمت نحوها لتقف جوارها قرب السرير، تجيبها بمرح.
(بلى... لدي مهمة يجب أن أقضيها بعون الله... ثم أذهب إلى منزلي لاتفقد النساء هناك ... لقد أهملتهن من أجلك.... ولا تنسي أن الأعراس ستبدأ وسننشغل كثيرا.... بارك الله للجميع... )
(لكن جدتي .... أمي ليست هنا ... وأنا لم أحممها من قبل... إنها صغيرة جدا.. أخشى أن تقع مني أو أقوم بإيذاها...)
اتسعت بسمة الجدة وغامت نظراتها بعتاب رقيق، تقبض على ذراعها بخفة.
(لا يجب أن تفعلي كل شيء على كمل وجه... إن لم تخطئي لن تتعلمي وتحترفي بعدها... لذا...)
ردت طرفي الطرحة على كتفيها تكمل وهي تغادر الغرفة وكل فكرها حول ما طلبته منها والدة فواز بشأن نوال.
(حممي ابنتك .. وستتعودين...)
قلبت تقوى شفتها السفلى بعبوس من وقع في الفخ ورفعت كفها تمسد بها جبينها بينما تنظر إلى الرضيعة المتململة مكانها تُعلم من حولها بنفسها ورغبتها في التواصل معهم، زفرت ونزعت الرداء العلوي لمنامتها المكونة من كنزة بحملات وسروال قصير الى حدود الركبتين بلون أزرق فاتح.
(هل ستتدربين على صغيرتي؟)
تجمدت في انحنائها الذي كانت تخطط فيه لحمل الرضيعة واستدارت إليه مشيرة إليها، تعقب بتهكم.
(تفضل واحصل على الشرف...)
بلهفة قطع المسافة بسرعة وحملها ببساطة يقربها من وجهه يغمره في عنقها وفي صدرها يشتم عبيرها ويداعبها تحت نظرات تقوى القلقة.
ضحك حين قبض عليها تتشنج خوفا على ابنتها، يقول بتسلية.
(لم أسمع يوما عن أم تعشق صغيرها ولا تستطيع حتى حمله...)
ضمت تقوى ذراعيها كما عقدت جبينها، تقول باستنكار.
(أنت تفسدها... ولن يتحمل النتائج سواي... هاتها لأحاول تحميمها...)
وضعها بحرص غير ما يوحي لها من استخفاف وجلس جوارها يقول ببراءة مزعومة.
(تفضلي... وأنا سأراقب...)
تأففت ثم قالت برفض.
(أليس لديك ما تفعله؟... مساعدة أصدقائك مثلا في تجهيزاتهم من بينهم ابن عمك؟)
لم يجبها يرفرف بجفنيها واضعا كفه تحت دقنه فتأفتت بضيق والتفتت تسمي الله وتستحضر ما كانت تفعله والدته وجدتها.
ظل يراقبها وكله يقين أنها ستفعل كل شيء بطريقة مثلى، لن تسمح بخطأ ما إلا ستكون مصيبة ووقعت على رأسها فقد تعود طبع زوجته المحبة لفعل كل شيء كما يجب وأن لا تقترف خطأ ما وكأن ذلك سيكلفها حياتها.
يظن أن لوالدتها علاقة بسلوكها ذاك كما له علاقة بما حاولت تفسيره ذلك اليوم عن صفاء لكن الأكيد أن زوجته لها عقدها الخاصة والتي تجتهد بقوة كي لا تفصح أو تظهر عليها مهما كلفها من مجهود وطاقة.
(هاك تفضل...)
لفتها بالقماط ثم وضعتها فوق ركبتيه، تقول باعتداد ترفع دقنها بفخر فضحك يعقب بما جعلها تعبس باحباط.
(ولم تضعينها على حجري؟... هل سأقوم بإرضاعها مثلا!..)
همت بحملها مجددا فطوقها مانعا إياها ورفعها الى وجهه، يقبلها في أماكن متفرقة لتعقب بامتعاض.
(على فكرة لا يجب الإكثار من تقبيل الرضيع... ستمرض بتلك الطريقة...)
مطط شفتيه وقبل رأس الصغيرة قبل أن يضعها مكانها على السرير، يجيب بضجر.
(على فكرة انا والدها.. وقد اغتسلت لتوي...أرضعيها وأنت مستلقية... وليعني الله عليك...)
قطبت حاجبيها بعبوس طفيف فانحنى يقبل رأسها ثم استدرك مغادرا.
(سأذهب لأرى الشباب أي منهم يريد المساعدة... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته )
شيعت خطواته بنفس العبوس ثم عادت تنظر إلى هيئة الصغيرة والتي بدو عليها البحث عن مصدر طعامها.
رتبت قماطها ثم مسحت على جانب وجهها، تهمس لها ببسمة مرتاحة.
(فعلتها بطريقة صحيحة وجيدة... سأهاتف أمي لأبلغها...)
استلت الهاتف وطلبت الرقم بعد أن لقمت الصغيرة حلمة صدرها.
(عليكم السلام ورحمة الله وبركاته... أمي! لقد حممت فاطمة لوحدي وأحسنت لفها في القماط...)
(وما العجيب في الأمر؟... أنت كبيرة ويجب أن تعرفي هذه الأمور... انتبهي لها جيدا... وسآتي للزيارة بعد أن أنهي ما أفعله... هل غادرت أمي؟)
خبى حماسها وتهدلا كتفاها، تجيب بنبرة فاترة.
(بلى ... لقد غادرت قبل قليل...)
(سأهاتفها لأرى إن كنا سنلتقي مساء عندك... السلام عليكم ...)
همت بغلق الهاتف لكنها هتفت قبلا.
(تقوى!... جهزت لك العصير الذي تحبينه أنه في المبرد... اشربيه يا ابنتي... الجو حار.. اشربي الماء جيدا... في حفظ الله...)
ألقت بالهاتف ثم شردت قليلا قبل أن تلتقطه مجددا تضعه على أذنها.
(أبي... لن تصدق ما فعلته... لقد حممت فاطمة لوحدي أول مرة وأحسنت لفها في القماط أيضا...)
(حقا!؟... أحسنت بنيتي... ستكونين أما رائعة باذن الله... هذه مناسبة سعيدة لذا سأزورك الليلة إن شاء الله وأحتفل معك ومع حفيدتي الجميلة.. )
انتشر السرور والبهحة على ملامح وجهها كطفلة صغيرة كافأها للتو، تقول بحب وعشق تكنه لوالدها خاصة من بين كل الناس.
(مرحبا بك أبي.. أتوق لذلك... اعتني بنفسك...)
وضعت الهاتف بعيد عنها وأراحت رأسها تراقب صغيرتها، غافلة عن الذي لم يكن قد غادر بعد يصغي باهتمام بالغ تخلله إشفاق وحيرة طفيفة.
..................
**شارع الشرفاء.... شقة يوسف**
(بارك الله في ما رزقكم... المكان جميل...)
أعربت نهيلة عن إعجابها بفرش الشقة العصرية والمختلف عما ألفته في بلدتها، تنظر الى سارة التي تجهز العصير في المطبخ المفتوح على مساحة متوسطة مؤثثة بأريكتين جلديتين بلون البندق، قبالتهما مائدة بلورية منخفضة بنفس اللون.
(شكرا لأنك أتيتِ)
ضمتها سلا بامتنان، قابلته نهيلة بحب صادق تكنه لها.
(كيف لا آتي إليك؟... اشتقت إليك جدا... ولولم تعودي بعد لاحترق بهيج كمدا لأنني لن أرضى بالزواج وأنت غائبة...)
ابتعدتا عن بعضهما قليلا لتتناظران بتأثر، قاطعته سارة التي قدمت تقدم لهما العصير.
(ما كل هذا الحب؟... هل ستبقيان كذلك حتى بعد زواج سلا من أخيك...)
انتفضت نهيلة، تهتف بدهشة فرحة.
(هل وافقت على الزواج من أخي؟)
اضطربت سلا والتزمت الصمت فتدخلت سارة، تستدرك بنبرة مرحة تخفي به احساسها بالذنب.
(أقصد حين يحدث باذن الله ...)
تراجعت نهيلة تومى بتفهم فربتت سلا على ظهر كفها تفسر لها باعتذرا محرج.
(حبيبتي حتى لو بلغته بالموافقة... لن يتم الزواج الآن... لأنني مشغولة بالدراسة... )
لم تخبرها بالباقي لكن نهيلة عادت الى حماسها، تجيب باستبشار.
(لا مشكلة... المهم أن تتم خطبتكما ... ويتأكد أخي أنك له... وأتاكد أنا أيضا... فارتاح ...)
ضحكت فأثرت عليهما ببهجتها، تبتسمان بسرور.
(دعينا من ذلك الأمر الآن وأخبرينا ماهو إحساسك كعروس... فأنا أشعر بأنه شيء جميل...)
زمت شفتيها بشكل مضحك تقول بطريقتها الممزوجة دائما بين المزاح والحنق.
(الفخور يوشك على الانفجار وأضوائه تقترب من الاحتراق كلها.... يريد أن يتزوج بسرعة .... وأنا كل ما يهمني كيف أفقد بعض الوزن قبل أن أتزوج به... هل يعجبك هذا يا سارة؟... هاك شيء مما تشعر به العروس...)
علت قهقهة سارة وقد تعودت على ألقاب نهيلة لبهيج وهي تحدث شقيقتها عبر التطبيق حيث تكون حاضرة بعض المرات.
(لقد فقدت بعض الوزن حقا يا نهيلة...)
قالت سارة فردت بتشكك.
(حقا!..)
تخصرت تبرز وسطها بينما تستدير إلى سلا، تطالبها بتأكيد فتومئ لها ببسمة محبة.
(أنت جميلة يا نهيلة... وبهيج محظوظ بك... بارك الله عليكما ولكما ...)
(آمين يارب...)
التفتت الى سارة، تعقب بإعجاب.
(الحجاب رائع عليك يا فتاة... تزدادين حلاوة يا حبة الحلاوة... ما شاء الله ... حفظكم الله أبناء السيدة بلقيس رحمها الله... حباهم الله بالجمال واللباقة... )
ثم غمزتها، تكمل بتسلية.
(حياء محظوظة... وأخي بعون الله محظوظ... ماذا عنك يا حبة الحلاوة؟... من سيضاف الى قائمة المحظوظين بالجمال واللباقة؟)
لمعت مقلتاها بغموض ورفعت دقنها، تجيب بترفع مزعوم.
(أفضل الرجال بإذن الله....)
حركت نهيلة رأسها في دوائر وهمية بينما تجيب بنبرة متهكمة.
(ومن سيرى هذا الجمال ولا يسقط صريع هواك؟ ... أستطيع تخيل صفوف الشباب لخطبتك من أخيك الذي سيكون عمله من الآن فصاعدا رميهم بالحذاء.... هكذا هكذا!)
رفعت ذراعيها تلوح بهما في الهواء فانفجرن ضاحكات، تدخلت بعدها سلا تقول بحاحب مرفوع، تتمنى محاصرة أختها فتخبرها بما تخفيه عنها.
(إنها تخفي شيئا عنا يا نهيلة... هناك محظوظ محدد ومنذ مدة أيضا..)
جحظت عينا نهيلة تشهق بشكل مبالغ فيه، تحط بكفها على صدرها.
(حقا؟؟؟..... هل هذا صحيح؟)
ضمت سارة شفتيها، ترمق أختها بلوم فأشارت لها نهيلة، محذرة.
(لا تلوميها أمامي وأخبريني حالا...)
ظلت سارة على صمتها، ترتشف من كوب العصير فادعت نهيلة التوسل بملامح حزينة مزعومة، تستدرك برجاء.
(سيقتلني الفضول يا سارة... من فضلك... هل يرضيك قتل عروس بالفضول؟ ... لا يرضيك ... من فضلك... من فضلك..)
ضمت شفتيها، تمثل حزن الأطفال فرفعت سارة كفيها تضمهما أمام وجهها ترجوها بتوسل مستنكر.
(بل أتوسل إليك أنت اهدئي... كما قلتِ أنت عروس لا يرضيني بأن تنفجري فضولا... ثم لا شيء حقيقي لقوله... )
ثم قلبت كفيها كما جعدت دقنها، تكمل بحرج.
(هو لا يشعر بي أصلا... )
تجمدتا ترقبا كتمثالين على وضعية الدهشة، مثيران للضحك وهي تكمل بحذر.
(يعني كما يقولون ...إعجاب أو حب من طرف واحد... لا أعلم..)
سكتت تتناول من كوبها رشفة أخرى فهتفت نهيلة بنفس قسماتها المترقبة بفضول حارق، ممزوج بدهشة.
(..و؟... من هو؟... هذا ما يهم في الأمر!)
زفرت بإحباط، ترد.
(وبماذا سينفعكما إسمه؟)
(هل هو من البلد الأجنبي )
سألت نهيلة فحدقت بهما ترمش للحظات أوشكتا فيها على فقدان صبرهما ثم أومأت بصمت لتصيح نهيلة بنفاذ صبر.
(تحدثي يا فتاة! ... أوشكت على الموت كمدا....)
زفرت سارة باستسلام، سلا تراقب بصمت وقد تكفلت نهيلة بالأمر كما خططت له.
(إنه الفقيه )
فغرت سلا شفتيها بصدمة حيث أنها علمت قصدها بسرعة على عكس نهيلة التي سألت ببلاهة لحظية.
(ها!... من؟.. هل جننت؟)
ارتفعا حاجبي سارة قبل أن تهم بالاستهجان وقد توحشت نظراتها حين استدركت نهيلة بنفس البلاهة.
(الفقيه عبد العليم؟)
أصدرت سلا صيحة مستنكرة، تعقب.
(بل محسن... تقصد محسن...)
سقط فك نهيلة بصدمة أكبر ثم نطقت بتقطع.
(فقيه بلدتنا ؟... محسن الكفيف؟... الفقيه محسن )
..........


انتهى الفصل الأخير... أستغفر الله لي ولكم......





التعديل الأخير تم بواسطة **منى لطيفي (نصر الدين )** ; 20-04-20 الساعة 09:35 PM
**منى لطيفي (نصر الدين )** غير متواجد حالياً  
التوقيع
لاإله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:38 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.