29-01-21, 09:30 PM | #2619 | ||||
| البارت الثالث و العشرون بعد المائة أنا أسامحه 💖 " علي تعرض لحادث و حالته خطيرة " كان كل ما قاله كريم , بملامح متجهمة و نبرة حزينة . بسماع هذه الكلمات المفجعة , أسقطت ملك الزجاجة التي كانت تمسكها في يدها , اتسعت عيناها عن آخرها و ارتجفت يداها , و لم تعد تقو على الوقوف أو الكلام , وهنت ركبتاها و فقدت توازنها فجأة , و لولا أن أيمن و كريم سارعا لمساعدتها , على الجلوس على أقرب كرسي لسقطت أرضا , ناولها بعدها أيمن كأس ماء , و حاول مواساتها دون جدوى , لأن ملك لم تستطع منع نفسها من السؤال , و قد ارتجف صوتها بطريقة مثيرة للشفقة " كيف ذلك ؟ متى حصل هذا ؟ و كيف أن حالته خطيرة ؟ " تتابعت أسئلتها اليائسة , قبل أن يقاطعها كريم برجاء واضح " لنذهب أولا سيدتي أرجوك , سأخبرك بما ترغبين في الطريق , لا نريد تضييع المزيد من الوقت , الطائرة في انتظارنا لتقلنا الى العاصمة " بسماع ما ردده مجددا عن تضييع الوقت , حدقت اليه ملك بعينين مرتعبتين , جف حلقها و فكرت في الأسوء , و قد تشوش دماغها تماما , قبل أن تهمس له " هل توفي ؟ " كان هذا كل ما بدر على ذهنها , فقد راودها شعور سيء لأيام , أنها لن تراه مجددا في حياتها , بعدما أطلق اعترافه الصادم ذاك ثم اختفى , كان صوت ملك مذعورا و مختنقا , و بدأت دموعها في الانهمار لتغرق وجهها . سارع كريم هو الآخر لمواساتها , لا يريدها أن تفقد وعيها هنا و يزيد الطين بلة " لا ليس كذلك سيدتي , هو تعرض لحادث سير سيء , كان مهموما شارد البال , و قد ارتطمت سيارته بشاحنة كبيرة , هو يعاني من الكثير من الاصابات , و لكنه على قيد الحياة و الحمد لله , و كل ما يرغب به هو رؤيتك , أرجوك سيدتي لا ترفضي , قد لا تسنح لكما الفرصة مجددا " قبل أن يكمل كريم كلامه , كانت ملك قد قامت من مكانها فعلا , و خطت مهرولة باتجاه الخارج , دون حتى أن تدرك وجهتها . في هذه اللحظات العصيبة , لم يعد يهم كل ما حصل بينهما , لم يعد يهم حتى ان بقي من أجلها أو رحل و تركها , فكل مخططاتها لتعذيبه و ايلامه , و كل كلمات الزجر التي كررتها لنفسها , حتى تبعده عن حياتها تبخرت في ثانية , نسيت للحظة كل ألمها و عذابها , فلا شيء يساوي رؤيته على قيد الحياة , و قد راودها ذلك الشعور الكريه , الذي عايشته يوم الاختطاف مجددا , و الذي فطر قلبها بتخيله غارقا في دمائه , خرجت ملك بقلب ملهوف و روح جريحة , و كل ما تفكر فيه الآن , هو رؤية علي و احتضانه , و البقاء الى جانبه حتى يتعافى , و قد فوتت سابقا أيام أزمته القلبية , و لم تسانده خلالها حتى أنها لامته لأنه تركها , سارعت ملك الخطى باتجاه سيارة كريم , حتى تتمكن من الوصول اليه , في أقرب وقت ممكن , هي لا تريده أن يموت و يتركها , ليس قبل أن تسمع ذاك الاعتراف بالحب , الذي اختطف قلبها و زين أحلامها مجددا . " طمئنيني عنه ملك " كانت هذه كلمات أيمن القلقة , لكن ملك كانت قد دخلت عالما آخر , لا تسمع فيه الا صوت علي يتكرر في أذنيها , و هو يقف خلف الباب ذلك اليوم , و صوته يتهدج بين كلمة و أخرى , المجنون الذي عشقته حتى النخاع , و الذي عرفته كجبل جليدي لشهور , كان يقف هناك يوشك على البكاء , و هو يبوح بما يختلج به صدره بكل تأثر , و هي كانت غبية كفاية , حتى لا تفتح ذلك الباب , و تأخذه في أحضانها لتشبع من دفئه , ثم تضربه حتى توجعه بقبضتيها انتقاما منه , فأية تسوية الآن تبدو مناسبة , اذا كان سيكون مجنونها بخير , فكرت ملك أنهما كانا سيجدان طريقة سويا , لحل كل تلك المشاكل العالقة , و التي بدت الآن تافهة جدا أمام ناظريها , لكن ليس و هو خارج هذا العالم . سرعان ما غرقت ملك , في بحر من الشعور بالذنب , و بدأت في لوم نفسها على قسوتها معه , و هي التي تعامل الجميع برأفة طوال حياتها , هاهي تقسو على الرجل الوحيد الذي أحبته , و كل ما كان يخيفها حد الموت , أن تكون ضيعت على نفسها فرصة للسعادة بعنادها , و هي حتى لا تتخيل عالمها دون وجوده فيه . وصل كريم ترافقه ملك سريعا الى المطار , أنهيا الاجراءات و استقلا الطائرة الخاصة , هي حتى لم تستطع تغيير ملابسها , اكتفت بخلع مئزرها و قدمت الى هنا بما عليها . بمجرد أن أقلعت الطائرة من المدرج , حتى ساد صمت رهيب الرحلة باتجاه العاصمة , و كأن الركاب دخلوا في سبات عميق , كان كريم يراقب حال المرأة أمامه بكثير من الشفقة , و لم يجد غير الجلوس مكانه و التزام الهدوء , تاركا ملك التي لم تتوقف دموعها للحظة واحدة , تفرغ شحنة حزنها دون مقاطعة , و قد كانت تدعو طوال الوقت بأمر واحد أن يكون علي بخير , هي لن تستطيع الاستمرار في الحياة , ان فقدت الرجل الوحيد الذي أحبته , صحيح هي لا تزال تحقد عليه بسبب كل ما فعله , لكن ليس الى درجة تمني الموت له , و كيف تفعل و هي فدته بروحها في عز خلافهما . اكتشفت ملك خلال هذه اللحظات الحرجة , أنها لم تكن تقيم هنا لتفر من مشاكلها , أو كما أوهمت نفسها لأشهر , بأنها هنا لتنسى علي و مشاعرها ناحيته , لم يكن ذلك مخطط عقلها الباطن على الاطلاق , و الذي كانت تنومه بعرض جرد , لكرامتها المهدورة و قلبها المحطم باستمرار , لكنها كانت تعيش كل لحظة منتظرة , انفراجا قريبا بعودة الحبيب الظال , متمنية ظهوره الذي سيعيد الحياة الى قلبها , و حينما استجيبت أمانيها نبذتها بعيدا عنها . حاول كريم مواساتها دون جدوى , فقد دخلت قوقعة أحزانها و أغلقت عليها , و لا شيء مما سيقوله قد يقنعها , بالتحلي بالصبر حتى تصل حيث علي . برؤية حالها المنهارة قام كريم , و جلس قبالتها قبل أن يبادرها " سيدتي أنا آسف " رفعت ملك رأسها أخيرا , و نظرت بحيرة ناحيته , و قد فاجأتها كلماته و هو مطأطأ الرأس " علام ؟ " استفسرت منه بصوت مبحوح . " عقد الطلاق , أنا من طلب ايقاف ارساله " تفاجأت ملك للتصريح فلم تتوقعه , لكن كريم أضاف للتوضيح " علي أصر منذ أول لحظة , على استخراج تلك الورقة , و قد أوصى المحامي أن يكون طلاقا بصفة قبل الدخول , هو أراد أن يحميك من الأقاويل و الشائعات , أو أية اهانة تطالك بسبب موضوع زواجكما , كما أنه حاول توفير فرصة أفضل , لك لايجاد زوج مناسب , ليس و كأن بك ما يعيبك لا سمح الله , و لكن لأنه يعرف عقلية المجتمع الذي نعيش فيه , و الذي يقدس شرف المرأة , و يبيح للرجل فعل ما يشاء " كانت ملك تحدق ناحية كريم باستغراب , و قد صدمها كم المعلومات التي قالها , في أطول حديث يحصل بينهما , فلطالما اكتفى الرجل الصنم , بكلمة أو اثنتين للرد على من يحاوره , حتى أنها لا تفهم , كيف وقعت أسيل في هواه , و هو بالكاد يكون جملة مفيدة , لكنها فهمت أنه يرغب في مساعدة صديقه , و تقديرا لمجهوده التزمت الصمت , تستمع الى ما يريد قوله , و قد غالبها مجددا , ذلك الشعور بتأنيب الضمير , مزاحما أحاسيس غامرة بالدفء , بمعرفة ما حاول علي فعله بطلاقهما . ليضيف كريم بنبرة حزينة " بعد رحيلك عانى جميع من في البيت خاصة الطفلة , رغم أن علي حاول تجنيبكما ألم الفراق , الا أن ذلك لم يمنع انهيارها و معاناتها , أنا أردت أن أبقي الورقة هناك , حتى يكون لديك أمر ما لتعودي من أجله , دون التعرض الى الاحراج , كل ما أردته فرصة لكما , للتحدث مجددا بهدوء و عقلانية , علكما تجدان حلا مناسبا للبقاء معا , علي لم يعرف بالأمر الا منذ يومين , لم أعرف أنني سأتسبب بكل هذه المتاعب , لذلك أنا آسف " بلعت ملك ريقها بعناء , و اغرورقت عيناها بالدموع لذكره رنا , و قد فهمت أخيرا عما كان يتحدث , هي لامت علي على كل ذلك , و حملته المسؤولية بأكملها دون سماع تبريراته , و هي معذورة في شكها في نواياه , لكن لم يعد هذا مهما الآن , سواء كانت فعلة علي أو صديقه , هي لم تعد تلوم أحدا خاصة كريم , فلطالما كان هذا الرجل محترما اتجاهها , سادنها و دافع عنها بقوة , حتى في أسوء الأوقات التي مرت بها , لذلك هي متأكدة أنه لم يقصد شرا مما فعله . " لا بأس كريم " كان كل ما قالته بانهاك , قبل أن تغرس وجهها بين كفيها , محاولة تمالك نفسها مجددا . . . " يا الهي أمي , لا أصدق أنك قلت , كل تلك الكلمات القاسية لملك , المرأة أنقذت شقيقي من ميتة بشعة , فيكون شكرنا و امتناننا لها بأن نعيرها باصابتها ؟ " علا صوت علياء من الطرف الآخر من الهاتف , و هي تلوم والدتها عما سمعته من علي , شقيقها اتصل و هو في حالة يرثى لها , ليخبرها أن لقاء والدته مع ملك , قبل مغادرتها مباشرة هو سبب تمردها و رفضها له , و أعطاها بعض التفاصيل التي استشفها من كلام ملك , و هي تلومه في قمة غضبها . " أنا لم أقصد ذلك علياء , أنا أردتها فقط أن تدرك أنني سأوافق , على بقائها مع علي رغم كل شيء , لكنها كانت عنيدة و استمرت في صده , لن نتوسل لها لتبقى مع أخيك " حاولت صفية تبرير موقفها , لكنها زادت الطين بلة بما قالته , و ما كان من ابنتها الا الرد عليها باستهجان واضح " رغم ماذا أمي ؟ أنت و أنا ندرك أن ملك لا يعيبها شيء , و أن المشاكل التي حصلت من طرف علي , هي من جعلتها تتعامل معه ببرود , و لا أحد يمكنه لومها , لكن أتعرفين ما أظن , أنت لم تهضمي أنها ترفض أخي باصرار , بما أنك ترينه ملكا متوجا على عرش الرجال , فقمت باهانتها و التقليل من شأنها هكذا , حتى تتنازل و توافق أو تتمرد مرة واحدة , و تكسر قلب أخي و تهجره نهائيا , لتحل لك المعضلة التي تواجهينها منذ سنوات , لكنك لم تحسبيها جيدا أمي , لأن ردة الفعل كانت مخالفة , و علي قد يفقدها الآن الى الأبد , و لن أخبرك عما يمكن أن ينجم عن ذلك " كانت علياء مغتاضة جدا تكاد تفقد صوابها , و لولا انشغالها مع مسؤولياتها الكثيرة , لكانت الآن مع علي في محنته , و لا تجد غير اتصالات الهاتف , لتحاول المساعدة و لتطمئن على الجميع . " و ما أدراني أنا بأن الأمر كله , كان مجرد تمثيلية سخيفة ؟ " حاولت صفية مجددا الدفاع عن نفسها , بالقاء اللوم على علي و ملك , لأنهما أخفيا أمر زواجهما الزائف عنها , لكن علياء لم تدع الأمر , يمر بسهولة و دون تعقيب " حتى و ان عرفت أمي , لم يكن ليتغير شيء بعدها , بالعكس أنت كنت ستجبرين ملك , على المغادرة حتى لو تأذت , حتى تفسح المجال لامرأة مناسبة من نظرك , اذا كنت لم تدعيها و شأنها , و أنت تعتقدين أنها زوجته , هل كنت ستفعلين ان عرفت , أن كل شيء كان صوريا ؟ " بعدما قالته ابنتها التزمت صفية الصمت , و استرجعت بمرارة كبيرة , ما دار بينها و بين وحيدها , حيث كان علي على حافة الانهيار , و لام والدته بعنف كما لم يحصل يوما , بعد مغادرته مكان اقامة ملك " بربك أمي هل تريدين قتلي ؟ " كان ما استهل به حديثه , على الهاتف دون سلام حتى , أتبعه بوابل من الاتهامات و العتاب , ملخصه عدم رضاه عن تصرفها , غير المنصف اتجاه ملك " يا الهي أمي لطالما اعتقدتك امرأة عادلة , بعقل رصين و روح متسامحة , لأكتشف أنك أنانية تماما , أما كان بامكانك مراعاة خاطري و لو قليلا ؟ أما كان بامكانك أن تدعيني , أحل مشاكلي الخاصة بنفسي ؟ متى تقتنعين أنني لست قاصرا , و أنني أتغاضى عن تدخلاتك المضرة , فقد لأنني أبر بك ؟ لم عليك التدخل كل مرة و تدمير حياتي , ابتداءا بمريم و انتهاءا بملك ؟ لم تجعلينني أتمنى الآن , أن أكون أنا من مات في ذلك المستودع ؟ ربما ذاك كان أقنعك أن الأقدار بيد الله , و قد لا أنجب ليس لأن المرأة غير مناسبة , بل لأنني أرقد تحت التراب ؟ " شهقت صفية يومها لسماع كلماته المؤلمة , انقبض صدرها و نزلت دموعها النادرة , و قد أدركت حينها فقط أنها بالغت فيما فعلته , لم تتحمل صفية حقيقة , أن ظن علي خاب بشدة فيها , فهو لم يتوقع جرأة منها , الى هذه الدرجة حتى تقول ما قالته , و قد اكتشف متأخرا أيضا , أن ملك تعرف بشأن سالي , لتتوالى كلماته الهستيرية التي عكست يأسه , و كان آخر ما قاله لصفية , لانهاء تدخلها في حياته " أنت أمي و أنا لن أستطيع عقوقك , لكن أعلمك من الآن , أنا لن أتزوج الا ملك , و ان لم تكن هي فعليك الاقتناع برنا , كوريثة وحيدة لهذه العائلة " كان تهديدا واضحا بالعزوف عن الزواج مستقبلا , قبل أن يقفل الخط نهائيا لعدة أيام , قطيعة جعلت المرأة تتوجس خوفا , من فقدان الولد الوحيد الذي أنجبته . تنهدت صفية باحباط من أعماق قلبها , رغم أنها لم تندم على ما فعلته , خاصة حينما عرفت بحقيقة زواج ملك من علي , و التي ألقاها ابنها في وجهها في أوج غضبه , مبررة كل ما حصل بجهلها للواقع , الا أنها لا يمكنها الاستمرار فيما تفعله , لأن علي كان جادا جدا هذه المرة , بشأن البقاء أعزبا باقي حياته , عقابا لها على تفريقه عمن أحبها . " حسنا أنا أحاول الآن تصحيح الوضع , ألا يكفي ما أتكبده من عناء ؟ " تذمرت صفية لتوقف هجوم ابنتها , التي لم تتعاطف مع موقفها كثيرا " أتمنى أن ينفع الأمر أمي , و لا يكون الأوان قد فات بالفعل , و الا علينا أن نقرأ الفاتحة , على روح علي الذي نعرفه " . . بعد ثلاث ساعات من العذاب النفسي , كان الاثنان يستقلان سيارة باتجاه قلب العاصمة . توقعت ملك أن يتجها ناحية , أحد المستشفيات الكبرى أو العيادات الخاصة , حتى أنها بدأت في التفكير بجدية , في قائمة الجراحين الكفؤين للاتصال بهم , لكنها تفاجأت بالسيارة التي تقلها , تتوقف أمام مدخل أحد الفنادق الفخمة . عبست ملك و تجهمت ملامحها , استدارت مباشرة ناحية كريم , بعينين مستاءتين و سألته بلهجة متهمة " لم نحن هنا ؟ هل هذه لعبة ما ؟ " ارتبك كريم و هز رأسه بالنفي سريعا " لا سيدتي , تعرفين كم أن السيد متطلب , طلب تجهيز جناح بكل اللوازم الطبية , و رفض الانتقال الى المستشفى , يقول أنه يريد الموت بسلام " كان صوته هامسا لكنه واثق , انقبض قلب ملك مجددا لذكره الموت , و بقيت تحدق اليه بتمعن محاولة استبيان صدقه , لكنها لم تكن تشعر بالراحة , قلبها يخبرها أن هذا من عمل ذلك المتسلط , فقد نقل غرفة المشفى سابقا , الى بيته من أجل مريم , و أن عليها أن تذهب و تراه , قبل أن تضيع فرصتها الوحيدة لتوديعه , لكن عقلها كان يوسوس لها بخبث , أن هذه مجرد مسرحية سخيفة , حاكها المجنون لجرها الى هنا , حتى يقنعها بمسامحته , بعدما يتسلل اليها من باب الشفقة , و كأنه ينصب لها فخا , حتى تعترف مجددا بأنها تحبه و قد سامحته , بعدما يوهمها أنه على فراش الموت . ترددت ملك تحسب خياراتها , و هي تعض على شفتها بغيظ , لكنها حزمت أمرها آخر المطاف , و قررت القاء نظرة على الوضع المريب , و الا لن تعرف أبدا ما يحدث حقيقة , و سيكون حسابه معها عسيرا , ان كانت هذه مجرد كذبة , و لن تتردد في خنقه بيديها حينها . . . . فندق ضخم بسبعة نجوم , قاعة حفلات فسيحة فخمة , تتوسط المبنى الهائل و تطل على شاطئ البحر , في الداخل يلتف الكثير من الحضور , حول الطاولات الكبيرة المجهزة وسطها , ورود و زينة في كل ركن , و موسيقى ناعمة تبثها مكبرات الصوت في الزوايا , مشهد مهيب يوحي بوجود احتفال كبير هنا , مع أحاديث في كل مكان في القاعة . كان الندل يقفون في المدخل بنظام , يرحبون بالضيوف و يستقبلونهم بكل حفاوة , قبل أن يقتادوهم الى أماكنهم المخصصة للجلوس , كان هناك الكثير من المدعوين ممن يعرفون بعضهم , و الذين يسارعون للتسليم و السؤال , و قد غزت المفاجأة وجوههم بالتقائهم هنا , مع ملامح حيرة تعلو التعابير , و عبارات الدهشة تسمع في كل حديث . " مرحبا نادية كيف حالك ؟ " " بخير سناء , اعتقدت أنك لن تأتي " سألتها بتذمر لتجيبها الأخرى و تفحمها " كيف لا و الشيخ طلب حضورنا كلنا , تعرفين لا يمكنني عصيان أوامره " كانت هاتين احدى حفيدات الشيخ , من أخت عدراء الصغرى . التفتت سناء الى جانبها الآخر , حيث تجلس زوجة خالها , و سألتها علها تشفي فضولها " تاتا آسيا هل لديك معلومة , عن سبب هذا الاجتماع الطارئ ؟ " رفعت المرأة حاجبيها بانكار , و هي تجوب بعينيها أرجاء القاعة الفسيحة " لا ليست لدي أية فكرة , اعتقدت أنه اجتماع عائلي مغلق , بما أننا تلقينا الدعوة كلنا , لكن هناك الكثير من الغرباء , الذين لم يسبق أن رأيتهم يصلون تباعا , أنظري الى أقصى القاعة , هناك الكثير من الأشخاص , الذين لا أعرف حتى من يكونون " لتعقب نادية بتوتر جلي " أجل أنا أيضا اعتقدت , أن الشيخ اتخذ قراره أخيرا , بتوزيع ثروته على أحفاده , أو ربما قراءة ما سيوصي به , لكن واضح أن الأمر مختلف جدا " " أجل لكن ما هي المناسبة , لم يذكر شيء في بطاقة الدعوة ؟ " حاولت سناء التخمين لتجيبها نادية مجددا " حسنا عيد ميلاده الخامس و الثمانين لم يحن بعد , ثم هو متعود على الاحتفال به , في مزرعته و ليس في قاعة , فالرجل العجوز مهووس بذبح الشاة و شويها بنفسه , و كأنه يحاول ترهيبنا من عصيان كلمته " ضحكت الشابات حول الطاولة , لتتدخل نصيرة التي كانت تلتزم الصمت , مراقبة الحديث أخيرا " ربما تقلد منصبا جديدا , و نحن هنا للاحتفال و المباركة ؟ أو أنه يجهز نفسه للترشح لرئاسة الجمهورية مثلا , و يريد بدء حملته الانتخابية بنا ؟ " "...." شعرت النسوة حولها بالصدمة , فهذا أكثر مللا مما اعتقدن , لتزجرها نادية سريعا " كفي عن المزاح نصيرة , أنا أخشى أنه جمعنا ليعلن عن زواجه , من شابة في سننا , أو يعرفنا بابنه السري " " يا الهي سنخسر ثروتنا بذلك , ألا يكفي ذلك الشاب الفرنسي ذو العيون الزرقاء , الذي سقط علينا مثل مظلي من السماء , و قاسمنا كل شيء يمتلكه الحاج ؟ أتمنى ألا يكون الأمر صحيحا " تذمرت سناء لتتهكم عليها شقيقتها نادية " تقصدين الرجل الذي كدت تفقدين صوابك بسببه , قبل أن تكتشفي أنه خالنا " ثم بدأت في الضحك بصوت عال , أمام ملامح أختها العابسة , و التي ردت عليها بكل حنق " لو لم تتواطأ خالة عدراء معه لما خدعانا كلنا " و حاولت آسيا تشتيت انتباههما , قبل أن تبدأ المناوشات المعتادة هنا " المشكلة ألا أثر له في أي مكان , و هذا وحده يثير قلقي " " و هاقد وصلت تاتا مليكة و ابنتها , أنظري كيف تحدق في الجميع بقرف " علقت نادية بسخرية على قدوم زوجة خالها , المتكبرة التي لا تطيق أحدا , و ابنتها فايزة تتبعها . كانت الثرثرات و التخمينات تتنقل من طاولة الى أخرى , دون معرفة الأسباب الحقيقية لهذا التجمع الضخم . في طاولة الى أقصى اليمين , كانت ياسمين تجلس مع زوجها , و قد شعرت بالفضول هي الأخرى لمعرفة ما يحدث " سامي ما الذي يجري هنا ؟ " سألت بتشوش بعدما رأت الحشد الكبير من الناس . حدق سامي في أرجاء القاعة الفسيحة , و أجابها بنفس نبرة الاندهاش " لا أدري , الشيخ أرسل دعوة لمناسبة خاصة , لكن الظاهر أن الدعوة عامة , فنصف الأطباء الذين أعرفهم هنا , صراحة لا فكرة لدي عما يحدث حقيقة " تنهدت ياسمين بخيبة أمل , و أضافت و هي تمسد بطنها الكبيرة , التي تنقبض من وقت الى آخر , منبئة على قرب ولادتها " اعتقدت أن الأمر متعلق بملك , لكن لا أثر لها هنا " ليوافقها زوجها مباشرة " أنا أيضا اعتقدت ذلك , و الا ما كنت قدمت " سامي يحاول تجنب الاجتماعات العائلية قدر الامكان , فلم يكن يوما مرحبا به وسط هذه العائلة , و لطالما نعت بالأجنبي دون مراعاة , لكنه لا يستطيع رفض كلمة للشيخ , فهو يحترمه و يبره كثيرا , و رغم العلاقة المتوترة بينه و بين الآخرين , الا أنه اختار الاستقرار هنا , ليس بسبب ياسمين و عائلته الصغيرة فقط , بل بسبب عدراء التي يعتبرها أما ثانية له . في مدخل القاعة كانت عدراء تقف بذهول , و الى جانبها عز الدين , الذي علت وجهه ملامح مستاءة " ما الذي يفكر فيه والدك بالضبط ؟ " علق بضيق بعدما رأى الحشد , الذي يفوق الخمسمائة شخص يشغلون القاعة , لتجيبه هي محاولة الاستيعاب " لا أدري عزيزي , لم أفهم شيئا من اتصاله , والدي قال أنه أمر هام جدا دون تفاصيل , هيا لنذهب و نجلس هناك طاولة سامي مع ياسمين " تذمر عز الدين قليلا تحت أنفاسه , فهو لا يحب المناسبات الاجتماعية , خاصة أن كل عائلة عدراء الهائلة تحضر , و هو لا عائلة له لذلك كانت ملامحه متجمدة , رغم ذلك حاولت عدراء مراضاته , لأنها تعرف حساسيته اتجاه الأمر " سنجلس لساعة واحدة فقط , نعرف ما الذي يريده والدي و نغادر اذا أردت , أرجوك عز الدين من أجلي , والدي طلب حضورك شخصيا , و أصر على ذلك لا تكسر بخاطره " هز الرجل رأسه دون كلمة أخرى , فهو لا يستطيع رفض طلب من عدراء ، قصدا بعدها الطاولة حيث يجلس سامي , و التي كانت في المقدمة , أمام المنصة الشرفية مباشرة , تبادل الأربعة الحديث سريعا , و تماما كالآخرين لا أحد لديه فكرة و لو بسيطة , عن سبب هذا التجمع الضخم , لينظموا الى المدعوين المحتارين , في انتظار الافصاح عن عنوان الاحتفال , الذي لا ينقصه الا عروسة و عريس , يزينان المنصة بوجودهما . بمجرد أن اكتمل العدد , بدأ الندل بتقديم العصائر , و المقبلات تحضيرا لتقديم الغداء , بعد نصف ساعة انطفأت الأضواء الكاشفة , و لم تبق سوى بعض الاضاءة الخفيفة في الزوايا , ساد بعدها صمت رهيب القاعة , و أنيرت شاشة عملاقة أمامية , و قد بدا الأمر و كأنه قاعة سينما . هدأت الأصوات الهامسة و الوشوشات , و لم يعد يسمع سوى صوت الأنفاس هنا و هناك , في هذه اللحظة بالذات , خطت ملك الى داخل القاعة مهرولة يتبعها كريم , و قد أقنعها بصعوبة قبل دقائق , أنهما متجهين الى جناح خاص , في الطابق السابع للفندق . اتسعت عيناها عن آخرها , بمجرد أن دخلت من الباب و رأت الحشد , الا أنها لم تتعرف على أحد , بسبب الظلام السائد في الأرجاء , استدارت فورا للمغادرة بخطوات مستعجلة , و قد اعتقدت أنها أخطأت المكان , و اقتحمت عرس أحدهم كشخص متطفل . " كريم " نادت عليه بهمس تحاول اخباره بالأمر , حتى يعودا الى حيث يوجد علي , لكن الرجل تسمر في مكانه خلفها مباشرة , سادا عليها طريق المغادرة بجسمه الضخم , ثم أشار لها بالتزام الصمت , و أومأ برأسه مشيرا ناحية الشاشة في الأمام . لم تفهم ملك شيئا من حركاته , لكنها سرعان ما تجمدت مكانها , و شخصت عيناها من هول الصدمة , و هي ترى صورها الشخصية , تظهر تباعا على الشاشة , المشكلة أن معظم هذه الصور , أخذت خلال السنة الأخيرة , أي أثناء تواجدها في دبي , أو بالأحرى أخذت بواسطة هاتفها , الذي أهداها اياه علي مؤخرا , و الذي تركته خلفها بعد الحادثة المشؤومة . شعرت ملك بالدهشة بداية , و قبل أن تصدر أية ردة فعل متسائلة , قاطع صوت دافيء أجش تأملها , صوت تعرفه جيدا كيف لا , و هو يلاحقها في أحلامها و كوابيسها كل ليلة . " أولا شكرا للشيخ الذي ساعدني في جمعكم الليلة , أقدر جهده و تعاونه كثيرا , و أتمنى له دوام الصحة و العافية , ثانيا أنا سعيد جدا بتواجدي هنا بينكم , و برؤية كل هذا الحضور الكريم , شكرا لكم على تكلف عناء المجيء و تلبية الدعوة " حدق الضيوف كلهم الى بعضهم البعض باستغراب , فلم يفهم أحد ما هذه المقدمة الترحيبية , و من يقوم بها بدل الرجل الذي دعاهم , لكنهم لزموا أمكنتهم و الفضول يتآكلهم , لمعرفة أصل الموضوع الغريب , و الذي صار أكثر تشويقا من قبل . تجهم وجه عز الدين و حدق الى زوجته , التي طلبت منه التحلي بالصبر , لمعرفة ما الذي يجري أمامهم , و قد تعرفا الى الصوت المجهول , مما أثار حنق الرجل , في المقابل شعرت عدراء , ببعض الرضا رغم امتعاض زوجها , لأنها اعتقدت أن والدها , جمعهم ليصالحهم مع ملك برؤية صورها , خاصة أنها كانت حبيبة قلبه المقربة , و لم يهضم يوما ما كان يقال عنها , و لطالما نهرهما لأنهما يقاطعانها . استرسل بعدها الصوت الغريب , تحت الهمسات الفضولية , لتتوضح معالم شخصيته شيئا فشيئا " الصور التي ترونها على الشاشة , كلكم يعرفها ملك الابنة الصديقة الزميلة , لكنها بالنسبة لي ملك حبيبة قلبي , ملاكي الذي حصلت عليه هنا على الأرض " دق قلب ملك بشدة و ارتجفت يداها , لم تعتقد أن علي متهور , لدرجة فعل ما تراه الآن , لكنها متأكدة من أمر واحد , هذا ليس كل شيء , و لم يخيب المجنون ظنها حينما أضاف " الصور التي أمامكم التقطت أثناء بقائها معي , يعني خلال السنة التي تغيبت فيها عن أهلها , و أنا هنا اليوم لتوضيح بعض الأمور , و ازالة سوء فهم استمر طويلا و بسببي " و سرعان ما عرضت بعدها صور لملك , أثناء الحفل الخيري في الجزائر , و فوقها التاريخ قبل سنة كانت ملك فيها تبتسم بعذوبة , و تجلس الى طاولة العشاء , ليعلق علي عليها بنبرة حنونة " هنا تعرفت الى ملاكي أول مرة , و رغم أننا لم نتحدث كلمة واحدة , إلا أنها سرقت اهتمامي بجملتين " كان علي يقصد ما حصل مع جورج , و كيف أفحمته بطريقة القصف المباشر , و جعلت عينيه تتعلقان بها طوال الوقت , قبل اختفائها من القاعة . تغيرت الصور بعد دقيقتين الى أخرى جديدة , و انطلق الصوت مجددا يقدمها " و هنا تعرفت عليها لأول مرة في دبي " و عرضت صورها أثناء الحفل الخيري في فندقه , و فوقه التاريخ تماما كالأولى . كان صوت علي دافئا جدا , و مليئا بالشجن و هو يتحدث عنها , و كأنه يستعيد تلك اللحظات , و قد اعترته نبرة حزن واضحة " كما ترون معي , ملاكي تبدو كنجمة سقطت من السماء , و لكني أفسدت الأمر بسوء ظني و تسرعي , و أنا هنا اليوم أمامكم , لأعترف أنني قبل هذا اليوم , لم أكن أعرف حتى , من تكون هذه المرأة ؟ و لكن بسبب سوء فهم سيء جدا , أصبحت بعد يومين زوجتي , دون حتى أن تدري " هنا أدرك الحضور يقينا , هوية الشخص المتحدث خلف الشاشة , و زاد بذلك غضب عز الدين , الذي سأل زوجته بصوت متهدج " ما الذي دهى والدك عدراء ؟ هل أصيب بالخرف أو فقد عقله , حتى يضع يده في يد هذا المحتال ؟ " لترد عدراء عليه بقلة حيلة محاولة تهدئته " أقسم لا أعرف عن الأمر شيئا , لكن أكيد هو أخبره أمرا ما , لا نعرف عنه شيئا حتى يقبل مساعدته " زاد حنق عز الدين و صر على أسنانه , منتظرا فرصة ليشفي غليله , من هذا الرجل الذي يبغضه . صمت الصوت للحظات مطولة , قبل أن يضيف بنبرة مستاءة " أنا أعترف أنني تزوجتها بالإكراه دون رضاها , و تسببت في حجز جواز سفرها , و منعها من السفر , و اتهامها بأمور لا تعرف عنها شيئا , أنا كنت غافلا جدا حينها , و آلمتها كما لم أفعل , مع أحد في حياتي " أخذ علي نفسا عميقا , و دون فاصل أضاف و كأن هناك حملا , يستعجل لوضعه من على كاهله " أنا أعترف أن ملك , لم تقبلني يوما , لم تركض خلفي أبدا , و لم تتخل عن أهلها من أجل البقاء معي , أنا من أجبرها على كل ذلك , أنا أبكيتها آلمتها احتجزتها طوال تلك الفترة , في المقابل هي علمتني , أن الكرامة لا تباع و لا تشترى , و أن المال لا يشتري كل شيء و أن المرأة بامكانها المحافظة على شرفها , حتى لو بقيت لسنة , تحت سقف رجل يقول أنه زوجها " و علقت على الشاشة الهائلة , نسخة من عقد طلاقهما , اختطفت أنفاس كل من كان جالسا هناك , و قد قيضت تلك الورقة كل الشائعات , التي تحدثت عن حمل ملك قبل الزواج , أو تعرضها لفضيحة أجبرتها على الزواج بشكل عاجل . اتسعت عينا عدراء بدهشة , وضعت يدها على فمها لتكتم شهقتها , و تمنع دموعها من الانسياب , و حدقت الى زوجها الذي علا ملامحه التشوش , و هو يجول بعينيه على الأسطر أمامه , غير مصدق لما يراه . أما ملك فقد قطبت جبينها , و هي ترى الورقة التي تحدث عنها كريم , و قال أن علي أصر , على صفة طلاق قبل الدخول فيها , حفظا لكرامتها و بعض حقوقها , و شعرت بأن قلبها سيقفز من غلافه تأثرا , فهي خير من يعرف علي , لتدرك كم أن استعراض ورقة كهذه , أمام الناس شاق و مؤلم بالنسبة له . حدق علي بعينيه السوداوين الى آخر القاعة , حيث تقف ملك بملامح مصدومة , و تريث لدقائق منتظرا أن يهضم الحضور ما يجري , قبل أن يبتسم و يضيف بصوت حالم " حبيبتي ملك كانت شعاع الأمل , الذي دخل بيتي صدفة , و زرع الابتسامة على وجه الجميع , و الأمل في قلوب الكل , في وقت كان الحزن و الحداد , يلفان كل شيء هناك لسنوات , كانت البراءة التي اعتقدت أنها , انقرضت من على وجه الأرض , لدرجة لم أصدق نفسي حينما رأيتها , كانت الطيبة التي جعلتها تأخذ رصاصة , عن رجل تقول أنها تكرهه طواعية , ملاكي جميلة بهذا القدر " توترت ملك أكثر و رمشت بعينيها , لابعاد الدموع التي عادت للتجمع من جديد , فما يقوله علي لم تتوقع سماعه , و لو بعد ألف سنة من هذا الرجل المتسلط , و هي متفاجئة أكثر من أي شخص آخر هنا " هذا الرجل مجنون فعلا " تمتمت بينها و بين نفسها , و هي تراقب الشاشة بحنين غامر , غير مصدقة لما يحصل , و قد أدركت الآن فقط , أن هذا اجتماع لتبرئة ذمتها , و عليها الاعتراف أن الأمر صدمها . جالت ملك بعينيها على الشاشة المضاءة بتمعن , حيث كانت هناك الكثير من الصور لها في بيت علي , و التي لم تتوقف عن الظهور تباعا , مثيرة زوبعة من الذكريات في روحها , لكن لم يمكنها رؤية وجهه , في أي مكان في القاعة , و قد كان الظلام يلف المكان , و يحجب الرجل عن أنظارها . بسماع آخر جملتين , تعالت أصوات شهقات دهشة في الأرجاء , و قد علت المفاجأة ملامح الحضور , و بدأت الهمسات المثرثرة مجددا , في محاولة فهم قصة الرصاصة التي سمعوها للتو . بسماع التصريح تأجج غضب عز الدين , الذي كانت عدراء تحاول تهدئته دائما , و الذي لم يغادر مكانه الى الآن , فقط لأن الرجل يتحدث في الميكروفون , دون أن يظهر أمامهم مباشرة , و قد جلس بترقب كبير لخروجه الى العلن , لأن لديه ما يخبره اياه وجها لوجه . و كالمرة الأولى انتظر علي قليلا , قبل أن يضيف بصوت يائس , دون أن تغادر عيناه وجه ملك " أنا أخذت عاما من حياتها , و هي أخذت قلبي و روحي معها " فجأة أنيرت القاعة بأكملها , و دخل علي يحمل ميكروفونا في يده , و يضع الأخرى في جيبه , كان يرتدي سروالا أسودا أنيقا , و قميصا أبيض دون ربطة عنق , بمظهر مسترخ و شعر غير مصفف , و قد مرر يده عليه عدة مرات بسبب التوتر , لكن ذلك لم يغير شيئا في وسامته , دخل علي بخطى متأنية , ناحية منتصف المنصة الشرفية , مقابلا الحضور و معطيا ظهره للشاشة , و كعادته تحوم حوله هالة من الفخامة و الهيبة , تزينها ابتسامته الرجولية الساحرة , التي تظهر صف اللؤلؤ الأبيض . تفحصته ملك سريعا بلهفة , و أخذت نفسا عميقا بارتياح , لأنه كان يبدو بخير تماما , ليس كمن خرج من حادث سيارة , لكن ليس لوقت طويل , فستحرص على أن تكسر , نصف كراسي القاعة فوق رأسه , بسبب الهلع الذي تسبب به لها . و سرعان ما قطع تأملها , ارتفاع أصوات شهقات اعجاب , من شابات من كل الأرجاء , و قد تفاجأن بوسامة و وجاهة المتحدث , الذي كان يقول شعرا و غزلا , عن ملك منذ نصف ساعة , مثيرة عاصفة من الغيرة في قلبها , و قد تجهمت ملامحها الرقيقة بطريقة ملحوظة , و رغبت في التقدم و اقتلاع أعينهن من رؤوسهن , دون حتى أن تدرك أن بينهما , لم يعد هناك شيئا رسميا , يمنحها هذا الحق بالتملك . " يا الهي هل هذا زوجها فعلا ؟ ألم يكن شيخا طاعنا في السن ؟ كيف تحول فجأة الى الأمير الوسيم ؟ " كانت الجمل التي سمعت أكثر من مرة , و التي رددتها النسوة بمختلف أعمارهن . في السابق اعتقد الجميع أن ملك , تزوجت رجلا مسنا من أجل ثروته , و ربما كانت الزوجة الثالثة أو الرابعة , و لطالما خمنوا أن الطلاق سيحصل قريبا , بما أن الزواج بني على الطمع , أو ربما درءا لفضيحة ما بما أن هويته كانت سرية , و لم يعرف بها الا والديها و سامي و جدها . و لم يخطر على بال أحد , أن الرجل المعني شاب و وسيم , بكل هذا القدر من الوجاهة و الأبهة , و قد خطفت ملامحه قلوب كل الحاضرات . قاطع علي شرودهم بأن ابتسم , ملقيا ملحا على جراحهم , و أضاف بصوت حنون " سيد عز الدين سيدة عدراء , أنا أعتذر بشدة عما حصل من طرفي , و أأمل في أن تسامحاني , ملك أنا آسف حبيبتي سامحيني , أنا هنا من أجلك , و أنا أطلب منك الزواج , أمام والديك و كل من تحبينهم , و أقبل بأية شروط تفرضينها , فقط كوني زوجتي لأنني أحبك " ذابت قلوب الحاضرين مع اعتراف الحب الجريء , و طلب الزواج الفريد من نوعه , و في لحظة ساد الصمت المريب القاعة كلها , في انتظار اجابة لا يعرفون حتى أين صاحبتها . لكن و قبل أن تفكر ملك , التي تشوش ذهنها من المفاجأة , و تسمرت أقدامها المتجمدة مكانها , في الرد على ما قاله الرجل المجنون , كان عز الدين قد غادر مكانه بالفعل باتجاه علي , و فاجأه بلكمة قويه على صدغه أسقطته أرضا , لتلاحقه زوجته بملامح خائفة . سارع سامي و بعض الحضور من العائلة لفك الاشتباك , و منع عز الدين من التوتر , خشية انتكاسه أو حصول الأسوء , أما ملك فقد أصيبت بالفزع , و قد اكتشفت للتو تواجد والديها بين الحضور , لتركض ناحيتهما بقلب مرتجف من الاشتياق . نهض علي من على الأرض , يحاول تجفيف الدم الذي نزف من شفته , لكنه لم يرد بكلمة على عز الدين , هو يعرف أنه يستحق اللكمة عن جدارة , لو أن أحدهم فعل مع رنا , نصف ما فعله هو مع ملك , لما كان أرضاه الا خنقه بيديه . تذكر علي أيضا يوم صفعت عمته ملك و نزفت شفتها , كانت تبدو يومها مفطورة القلب بوجه متورم , ليدرك كم أن القدر لا يرحم أحدا , و يسدد حساباته بمنتهى الدقة . و لكنه لم يتزحزح من مكانه , و وقف بهيبته المعهودة في المواجهة ، مصمما على ما أتى من أجله الى هنا ، اذا كان سيتنازل مرة في حياته ، فستكون هذه المرة من أجل سعادته . بعد ثوان وصلت ملك أخيرا الى جانب والدها , و سارعت للاطمئنان عليه " بابا هل أنت بخير ؟ " سألت لأنها تعلم أن قلبه يتأثر بأي توتر , و علي المجنون ألقى بكل هذه القنابل دون تردد . لانت ملامح الرجل الغاضب فجأة , و جال بعينيه على وجهها المنهك , قبل أن يطوق كتفيها بيده و يضمها " ملك حبيبتي هل أنت بخير ؟ " سأل بنبرة ملهوفة و قلقة , فقد كان عز الدين في هذه اللحظة , يشعر بالامتعاض من نفسه , أكثر من غضبه من علي , اذا كان هذا الرجل الغريب , كذب بشأن ابنته و زواجهما , فالذنب ذنبه لأنه صدق الأمر و لم يثق فيها , و قد راوده شعور عارم بالذنب آلم قلبه . و حاولت ملك طمأنته " أجل بابا أنا بخير , لا أشكو شيئا لا تقلق " تجددت نظرة الحنق في عينيه , بسماع نبرتها المرتجفة , و أراد لكم علي مجددا , بقوة أكبر هذه المرة , لكن ملك وقفت بينهما كحاجز " أرجوك بابا توقف لا داعي " قالت بعيون و نبرة متوسلتين , و هي تضع يديها على صدر والدها , و قد كان قلبه يوشك على القفز , من صدره بسبب غضبه الشديد . أما علي الذي كان يقف مباشرة خلفها , فقد أخذ نفسا عميقا , مستنشقا رائحة عطرها في غفلة منها , و التي حرم منها طوال الفترة الماضية , و قد أحيت كل خلايا روحه , التي ضمرت في غيابها . " ابتعدي ملك سوف ألقنه درسا " قطع عليه عز الدين , وصلة استمتاعه بصوته الهادر , لتحاول ملك معه مجددا بتوسل " أرجوك بابا دعه و شأنه سيغادر الآن " ثم استدارت ناحية علي , و قد رسمت نظرة جادة , و ملامح باردة و مستاءة على وجهها " من فضلك غادر , يكفي كل ما حصل الى حد الآن " طلبت منه محاولة الحفاظ على نبرة قاسية , لم تحسن نسجها رغم اجتهادها . لم يركز علي كثيرا فيما قالته , لأنه يعلم أنها تحاول منع , أن يتأذى والدها بسببه , و هو لا يلومها , و لأن عينيها كانتا تقولان العكس , و هما تحدقان الى شفته النازفة بتأثر و شفقة , فقد بدت ممثلة فاشلة جدا , و هو متأكد لولا وقوف والدها الغاضب خلفها , لكانت مدت يدها لتخفيف الألم . ابتسم علي على غير عادته , في مثل هذه المواقف المتشنجة و اعترض " لن أذهب الى أي مكان , قبل أن أحصل على جوابك , و لن آخذ لا كاجابة " ظهرت شخصيته الصلبة أخيرا , بعدما عرض كل تلك الرومانسية على مسامع الجميع . عبست ملك فورا لما تفوه به , لأنها تعرف كم أنه عنيد متحجر الرأس , و ما دام قال أنه لن يغادر فلن يفعل , فما كان منها الا أن رقت عيناها قليلا , و هي تتوسله أن يذهب , و لا داعي لإثارة المشاكل , و قد بدت خائفة جدا , من حصول صدام مميت بينه و بين والدها . و لم يرغب علي في شيء في هذه اللحظة , بقدر رغبته في أخذ وجهها بين يديه , تقبيلها و طمأنتها أن كل شيء سيكون بخير , و أنها ليس عليها أن تخاف , و هو موجود من أجلها . لكنه منع نفسه بأعجوبة , هو لا يريد استفزاز والدها أكثر مما فعل , سيكون لديه متسعا من الوقت معها لاحقا , بعد أن ينهي ما جاء لأجله الى هنا . بسماع رفضه القاطع للمغادرة , احتد غضب عز الدين , و أشار له بسبابته مهددا " أنت يا عديم الحياء , بعد كل ما فعلته مع ابنتي , تأتي هنا بكل وقاحة و تريد أخذها ؟ على جثتي أموت و لا أسمح لك بلمسها " صرخ في وجهه , و الآن فقط عرف علي , ممن ورثت ملك لسانها اللاذع . لكن قبل أن يفتح فمه , و يرد على الرجل الغاضب و يبرر موقفه , سمع صوتا رقيقا من مدخل القاعة , دوى في أرجائها مسترعيا انتباه الحضور " ماما ملك " استدار الجميع ناحية المدخل , حيث كنت رنا تقف بصحبة فاطمة و صفية , و تجول بعينيها الجميلتين في القاعة , بحثا عن أحدهم بكل لهفة . اتسعت عينا ملك للمفاجأة , و خفق قلبها بشدة من الفرحة , فأكثر شخص كانت تشتاق له , و أثر فيها فراقه كثيرا , هو الطفلة التي كانت متعلقة بها بشدة , كانت تحزن كلما لمحت العقد , الذي أهدتها اياه في عيد ميلادها , و لم يتسن لها حتى توديعها و تقبيلها لمرة أخيرة . بعد أن تنحى الجمع الى الجانبين , مفسحين طريقا لآخر الواصلين , ركضت رنا ناحية ملك مباشرة , بخطوات متعثرة و ملامح تملؤها الغبطة . أثناء ذلك تقدم علي خطوة الى الأمام , و همس في أذن ملك المترقبة , مستغلا الارباك الذي حصل , بسبب وصول ابنته المفاجئ " أحضرت والدتي لخطبتك " قال مع ابتسامة عريضة و عيون لامعة , مراقبا ملامحها الممتعضة , حينما استدارت ناحيته , و طبعا رنا كانت بطاقته الرابحة , و تميمة حظه لتعزيز فرصته في استعادة ملك , التي يذوب قلبها لسماع لقب ماما منها . هذه الأخيرة رمقته بنظرة مستاءة , مع أنفاس متسارعة و حانقة , هي تعلم كم أن السيدة صفية , امرأة تعتز بنفسها و أنفتها كبيرة , ان هي رأت والدها يزعج علي أو يهينه , قد تغضب و يتعقد الأمر كثيرا , لكن علي كان قد فكر بعمق طوال الأيام الماضية , عما بإمكانه فعله لرد اعتبار ملك , الذي فقدته بسببه أمام عائلتها و معارفها , و لم يجد أكثر تقديرا , من احضار والدته لخطبتها , بعدما اعترف أمامها بما فعله , و بعدما لامها و خاصمها لأيام , بسبب قسوتها مع ملك قبل رحيلها , صحيح أنه استخدم أسلوب التهديد معها , لكنها امرأة تعرف الأصول و تقدر الأخلاق , و هي معجبة بملك منذ البداية لذلك لم تجد مانعا في المجيء , و تعزيز مكانة ولدها الوحيد أمام أصهاره , أملا في الحصول على أحفاد قريبا , خاصة أنها شعرت بالذنب , بسبب آخر لقاء بينهما , و قد أدركت أنها بالغت فيما قالته , بسبب جهلها بالظروف حينها . علت ملامح الدهشة وجهي عدراء و عز الدين , برؤية رنا و سماع كلمة ماما منها , ليحدقا الى بعضهما باستفهام و قد انعقد لسانيهما . بوصول رنا أمامها نزلت ملك على ركبتيها , و فتحت ذراعيها لاحتضان الطفلة , التي تعلقت بها بشوق كبير , طوقتها بيديها الصغيرتين , و أغرقتها بالقبلات الحارة , تحت الأنظار الفضولية للحضور خاصة والدها " ماما ملك اشتقت لك كثيرا " " و أنا أيضا حبيبتي اشتقت لك بشدة " تبادلت الاثنتان حوارا حميميا سريعا , متجاهلتين الهمسات التي حامت حولهما , و باثتين دفئا كبيرا في قلب , كل من وقعت عيناه على المنظر . تقدمت بعدها فاطمة و صفية , اللتين حيتهما ملك بكل لطف , كما عودتهما ثم قدمتهما الى والديها " ماما بابا , سيدة صفية والدة علي , و خالة فاطمة مربيته , و هذه رنا ابنته " " مرحبا بكما , أهلا و سهلا " رحبت والدة ملك بالضيفتين بود ، أما والدها فقد التزم الصمت , و قد تحول لون وجهه الى الأسود , بعد معرفته أن لعلي ابنة , و قد تجرأ على جعلها تنادي ابنته بأمها . حاول بعدها التقدم مجددا , ناحية علي ليشفي غليله , لكن عدراء أوقفته و نهرته هامسة " أرجوك عز الدين اهدأ قليلا , الناس تتفرج علينا لا يجوز ما تفعله , ثم ليس أمام ابنته و والدته عيب " برؤية ما يجري ابتسم علي , و قد عرف أخيرا ممن ورثت ملك طيبتها , فهي نسخة طبق الأصل عن والدتها في هذا الأمر , أضافت المرأة بعدها بهدوء , محاولة اقناع الرجل الغاضب " لنذهب الى مكان مغلق , و نناقش الموضوع بروية و خصوصية " شعر علي بالرضا لأن عدراء طلبت , ما كان يفكر فيه منذ البداية , و هو بدأ يحب حماته بالفعل , صحيح أنه خطط للاعتذار من ملك , على الملأ و أمام الجميع , لكنه الآن يريد الانفراد بوالديها , لاقناعهما بالموافقة على ارتباطهما مجددا , و مما يراه لا يبدو الأمر هينا أبدا , و سيكون أكثر صعوبة , بتدخل أناس آخرين . وافق عز الدين على مقترح زوجته على مضض , و اصطحبهما أحد الندل الى غرفة صغيرة تابعة للقاعة , أراد علي أن يقصد جناحه الخاص , حتى يكونوا على راحتهم أكثر , لكنه تراجع و قبل بالأمر فوالدها لن يرضى . تبعت ملك والديها مباشرة دون قول كلمة , أما علي فقد طلب من صفية و فاطمة , الانظمام للضيوف الى حين عودته , و أشار لكريم للاهتمام بالأمور , ثم اتجه الى الغرفة , التي قصدتها ملك قبل لحظات , بقلب متضرع ألا تزيد الأمور سوءا , فهو ليس مستعدا لخسارتها هنا . صعد كريم على المنصة , و اعتذر بلباقة من الحضور , ثم طلب منهم الاستمتاع بالغداء , على شرف علي و زوجته , و ما لبث الندل أن بدؤوا بتقديم الطعام , تحت أنظار الضيوف المندهشين , مما حصل قبل قليل , دون أن يستوعبوا تماما كل القصة , و قد دخلوا مباشرة في حلقات نميمة . " يا الهي لقد حصلنا على عرض حب مباشر , مثلما يحصل في الأفلام " " أجل و ذلك الرجل يبدو كممثلي السينما , هل رأيت عينيه و ابتسامته ؟ " " نعم , ملك المجنونة حصلت على فارس أحلامها , الذي لطالما حلمت به " " أجل هي مجنونة تماما لتركه , و جعله يأتي خلفها الى هنا " " أنا مستعدة لفعل أي شيء , للحصول على نصف ذلك الاعتراف الجميل " " و يقول أنه يعتذر عن احتجازها هل هو مجنون ؟ أنا لا مانع لدي ان أراد اختطافي أو احتجازي , ان كان صاحب العينين السوداوين , و الابتسامة الساحرة هذا هو السجان فأنا أقبل " استمرت الهمسات و التعليقات طوال فترة الغداء , و على العكس تماما كان هناك صمت مريب , يسود الغرفة المغلقة في الطرف الآخر . . . داخل الغرفة كانت عدراء , تجلس الى جانب زوجها بتصلب , و الذي كانت ملامحه في منتهى الغضب , و علي يجلس على أريكة مقابلة , أما ملك فقد كانت تقف , الى جانب المرآة بينهما لا تريد الجلوس , فيما يبدو أن الغرفة مخصصة , من أجل استراحة عروس أثناء العرس , و قد كان التوتر قد بلغ مبلغه منها , متوجسة من صدام وشيك بين علي و والدها . و كان علي من بادر بالكلام , محاولا تخفيف الضغط عليها قدر المستطاع " سيدي أنا ... " قاطعه عز الدين باستياء شديد " التفاصيل " ثم استدار ناحيته و رمقه بنظرة قاتلة " أريد تفاصيل ما حصل مع ابنتي , و ليس كلاما عاما مرسلا , مما قلته قبل قليل " ابتلع علي ريقه و حدق ناحية ملك , التي كانت تنظر ناحية والدها بقلة حيلة , و بدأ بعدها بسرد ما حصل منذ أول يوم , متخطيا بعض التفاصيل التي قد تحرج ملك , و رغم أنه حاول اظهار مشاعره , في كل كلمة قالها , الا أن والدها فقد السيطرة على نفسه بمجرد أن ذكر علي حادثة , تلقيها الرصاصة بدلا عنه , و اجرائها لعملية جراحية خطيرة , خاصة حينما عرف بالمضاعفات , و الخسائر التي تكبدتها . فيما كانت والدتها تجلس تحت الصدمة , انفجر والدها بسخط عارم في وجهه " و واتتك الجرأة لتأتي الى هنا , و تقول ما قلته في وجهي دون خوف , بعدما كدت تتسبب في موت ابنتي ؟ " صرخ عز الدين بصوت مخيف , أجفل علي الذي توقف عن الكلام . أراد عز الدين الوقوف و احتضان ملك , و الاطمئنان عليها مجددا لكنه تراجع , فقد كان مستاءا منها هي الأخرى , لأنها أخفت الأمر عنهم كغرباء , و كذبت بشأن زواجها المزعوم لأشهر , تحملت كل ذلك لوحدها , و لم تخبرهم حتى بعد عودتها , و قد اعتبرها قلة ثقة من طرفها , في حبهم و تفهمهم لها , مانحة الفرصة لهذا الرجل لاستغلالها بتلك الطريقة . لم تقل ملك شيئا للتبرير , و قد فهمت نظرات والدها اللائمة , و اكتفت بالوقوف مكانها محدقة في الاتجاهين , محاولة السيطرة على مشاعرها المختلطة , بين الشعور بالذنب اتجاه والديها , و الشعور بالشفقة على حال علي . هي تعلم كم أن علي , رجل يعتز بنفسه و بكرامته , و أن جلوسه مكانه دون ردة فعل , على هجوم والدها و كلماته المهينة و القاسية , هو فقط لأجل خاطرها و احتراما له , و هي خير من يعرف عنفه في الرد على الاهانة , و هذا دليل آخر على صدق مشاعره ناحيتها و تقديره لها , لكن و رغم ذلك , لم يكن هناك شيء بيدها لتفعله للتخفيف عنه , هي لن تخون والديها مجددا من أجله . " ما الذي تريده الآن ؟ " سأله عز الدين لانهاء الجدال المحتدم , في محاولة منه لاخراج هذا الرجل اللحوح من هنا . نظر علي ناحية ملك بعينين دافئتين , و أجابه بنبرة هيام واضحة " أريد زوجتي , أنا أحبها و لن أتنازل عنها , لكن برضاكما هذه المرة " تورد وجه ملك من الاعتراف , و لم تعد تعرف أين تضع عينيها , هي لم تعتقد أن علي جريء , لدرجة قول ما قاله أمام والديها . " فعلا ؟ طلبك مرفوض اذا , ليس لدي بنات للزواج , هيا غادر مع عائلتك قبل أن تفوتك الطائرة " عارض والدها مباشرة و بحزم , و حدقت ملك ناحيته بعيون متألمة , لكنها التزمت الصمت دائما . لاحظ علي ذلك لكنه لم يعلق و استرسل " ألن تسألها رأيها ؟ " هو يعرف بأنه رجل مثقف و متفتح , يؤمن بحرية الآخرين و حقوقهم , و لن يبخس ابنته حقها الشرعي . لكن والدها لم يكن يرى أمامه في هذه الأثناء , و قد اختفى كل ذلك التحضر بسماع ما حصل , ليزجره مجددا بنبرة ساخرة " أسألها عن ماذا ؟ و لم تبدو واثقا جدا , من أنك رجل لا يرفض ؟ أعطني سببا واحدا وجيها , لأزوج ابنتي الغالية الوحيدة , لرجل متزوج و ابنته بطوله " عقب على خبر وجود رنا هنا , و الذي لم يهضمه الى حد الساعة . علي "...." تنهد علي من أعماق قلبه و أجابه بهدوء " سيدي أنا لن أتحدث عن وضعي الاجتماعي و الاقتصادي , بإمكانك السؤال عني أينما تشاء , لكن بالنسبة لحياتي الشخصية , أنا أرمل و ملك كانت آخر امرأة تزوجتها , و لن أتزوج بعدها أبدا , أما ابنتي فملك تحبها كابنتها تماما , و الطفلة متعلقة بها كثيرا كأم حقيقية " نظرت ملك ناحيته بدهشة " ألم يتزوج تلك الشابة ؟ أو أنهما أنهيا علاقتهما ؟ " تساءلت في سرها , فهي لم تعد تفهم شيئا . لكنها واثقة من أمر واحد , علي لا يكذب أبدا , حتى لو وجهوا مسدسا الى رأسه . قاطع والدها تأملها ليضيف " اذا تريدني أن أقبل لأنك تملك الكثير مثلا ؟ و أنا أقول لك , حتى لو أخذت ابنتي , و تسولت بها على أبواب الجوامع , لن أزوجها لرجل أساء معاملتها , قلل احترامها و عذبها " عبس علي أمام هذا الاتهام قبل أن يجيب " أنا أفهم هذا جيدا سيدي , ملك في بيتي منذ مدة طويلة , و لم أفكر يوما في مساومتها أبدا " قال و استدار ناحية ملك , التي تحدق اليه باهتمام , و ابتسم ثم استرسل " أعرف أن المال لا يحل شيئا , لذلك أنا هنا للاعتذار أولا , و طلب يد ملك للزواج ثانيا " كرر علي طلبه على أمل , أن يلين قلب والدها , الذي قاطعه و هو لا يزال غاضبا " و أنا لا أسامحك و لن أزوجك ابنتي , أليس كذلك ملك ؟ " جفلت ملك لسماع اسمها , اعتراها برود عام و هي تشبك أصابعها بتوتر , و قد تحول التركيز عليها فجأة " ها ؟ " سألت بتشوش و ارتباك , و كأن والدها فاجأها , لكنه أعاد السؤال بطريقة أخرى " أخبري هذا الرجل أنك لا تسامحينه , و لا تقبلين طلبه للزواج , أخبريه رأيك في الموضوع , حتى يحمل نفسه و يغادر دون رجعة " نظرت ملك ناحية علي , الذي كانت عيناه تحملان بعض الألم , و كأن أحدهم على وشك أن يغرس خنجرا في قلبه , تذكرت فجأة كل ما حصل معهما , منذ أول لحظة الى غاية رحيلها , صحيح أنه كان بغيضا جدا في البداية , متسلطا و دكتاتورا حد الجنون , لكنها لن تنسى أبدا كيف دافع عنها , و اعتنى بها خلال مرضها , كيف كان يخاف حزنها و ألمها , و كيف كان حنونا معها . رغم أنها لازالت تلومه , على ترحيلها بتلك الطريقة القاسية , و على اخفاء أمر براءتها عنها لوقت طويل , لكنها لا تجد في قلبها , كرها ناحيته مهما بحثت , فبامكاننا أن نحقد على من نحبهم من وقت الى آخر , دون أن ينتقض ذلك من درجة حبنا لهم . لان قلب ملك قليلا , و تكلمت بصوت خافت متأثر " أنا " ابتلعت ريقها بتوتر ثم أضافت همسا و هي تغمض عينيها " أنا أسامحه " هي لا يمكنها أن تحقد عليه أكثر مما فعلت , صحيح هي كانت غاضبة , بسبب طريقة ابعادها و تخليه عنها , لكن كل شيء أصبح من الماضي , بمجرد أن بذل جهده للاعتذار بصدق , هي شخص لا تحمل ضغائن لأحد , فكيف بالرجل الذي تحبه . اتسعت عينا علي من المفاجأة , فملك آخر شخص توقع منه المساندة , في هذه الجلسة و تحت هذا الضغط , و لم يدر بنفسه الا و قد نهض من مكانه , أمسك ملك من يدها و سحبها , ليأخذها في حضنه بشدة , معبرا عن سعادته و امتنانه , بعدما يئس من أن يلين قلبها . لكن ملك كانت تسدل يديها الاثنتين , و تضم قبضتيها مانعة نفسها , من لف يديها حول خصره , و الاستمتاع بحضنه الدافيء الذي اشتاقت له كثيرا , لكنها شعرت بالحرج لوجود والديها هناك . شرد علي لثوان و هو يضم ملك , قبل أن يخرجه صوت والدها من متعته " هاي أنت ما الذي تفعله ؟ من سمح لك بأن تضع يدك على ابنتي و تلمسها ؟ هيا ابتعد عنها " قال و قد نهض من مكانه لردعه , لتقف عدراء بينهما كحاجز . سحب علي يديه فجأة , و قد جفل لسماع صوته الغاضب , أفلت ملك التي تحول وجهها الى لون الطماطم , و وقف الى جانبها في وضعية استعداد , كان يحك رقبته و هو يشعر بالاحراج , كمراهق أمسك به على السطح , و هو يعاكس ابنة الجيران . لامت ملك نفسها لتسرعها فوالدها محق , ما كان يجب أن تسمح له باحتضانها هكذا أمامهما , فذلك تقليل من احترامهما , و سرعان ما استكملت جملتها , التي قاطعها علي باندفاعه قبل قليل " أنا أسامحه و لكنني لا أقبل الزواج به " قالتها بصوت منخفض لكن حازم و هي تطأطيء رأسها , متفادية النظر الى عيون أي أحد من الثلاثة . كان هذا القرار المنطقي الوحيد الذي فكرت فيه , منذ دخلت من الباب و حضرت الجنون الذي بدأه هذا الرجل , هي لا يمكنها تعذيب علي أكثر , بالاصرار على تحميله الذنب , هي تحبه و ألمه يؤلم قلبها لكنها لا يمكنها تخييب ظن والديها , بالوقوف ضد ارادتهما و الارتباط به مجددا , لذلك فمسامحته من أجل خاطره , و رفض عرضه من أجل خاطرهما , متناسية تماما معاناة قلبها . صدم علي و قد خاب أمله , و هلل والدها بغبطة و قد انفرجت أساريره " هذه هي ابنتي التي أفخر بها , ملك حبيبة والدها و قرة عينه , هيا أيها السيد و قد سمعت جوابها , بامكانك أخذ أغراضك و الرحيل , نحن لا نريد نسبك " لكن علي سرعان ما تمالك نفسه و أصر مجددا , فهو لن يغادر من هنا , قبل أن ينال ما يريده " و لكنني متأكد أن ابنتك تحبني , و متأكد أكثر أنها تريد الزواج مني , أليس كذلك ملك ؟ لا يهم ان قلت لا الآن , أنا سأعود عشر مرات أخرى لطلب يدك " استفز اصراره والدها و زجره بنبرة منزعجة " هاي أنت لا تحدث ابنتي , أنت فعلا عديم الحياء , كلامك معي أنا الآن , و كما قلت طلبك مرفوض نهائيا " وقفت ملك تلتزم الصمت بقلة حيلة , و لا تجد ما تقوله , أمام عيني علي اللتين تذيبان قلبها , و حماس والدها المناهض الذي يجتاح روحها , و كانت عدراء من قاطع النقاش الحاد أخيرا " عز الدين , هل يمكن أن نتحدث على انفراد لبعض الوقت ؟ " تجهم وجه زوجها و رمقها بنظرة انزعاج , طبعا هو يحفظ زوجته جيدا , و ما دامت لم تقل شيئا , ضد علي طوال الجدال , فمعناه أنها ستدافع عنه خلال انفرادهما , و هو لن يسمح بذلك أبدا " لا تقولي أنك في صف هذا المحتال ؟ " سأل بغضب و أجابت عدراء بكل ثبات " أنا أقف في صف ابنتي " " لكن من مصلحة ابنتك ألا تبقى معه , هو لا يستحق الفرصة التي يبحث عنها " أصر عز الدين على موقفه , و حدقت عدراء ناحيته بحدة و أجابت " غيره استحقها بعد سنوات طويلة " قالت بحزم مشيرة الى ماضيها معه , و قد انتظرته لأكثر من اثنتي عشر سنة . عبس عز الدين لذكرها الأمر أمام الرجل الغريب , و اندهش علي و ملك لموقف المرأة , التي كانت تلتزم الصمت و تراقب دون تدخل , أخذت عدراء نفسا عميقا , و طلبت مجددا بهدوء , و هي تحدق الى عيني زوجها " سنتحدث في غرفة مجاورة " قالت بنبرة حازمة لا تقبل المناقشة , و قامت من مكانها بعد أن أشارت له بعينيها , و لم يجد عز الدين بدا من ارضائها . غادر الزوجان الى غرفة أخرى وفرها النادل , و عاد علي و جلس الى الأريكة , و أطلق تنهيدة منهكة و قد خارت قواه , فما حصل أكثر شراسة من مباراة مصارعة دامية . جلست ملك الى جانبه هذه المرة , فلم تعد رجلاها تحملانها هي الأخرى , و بقيت عيناها معلقتان بالباب , الذي أوصد عليهما قبل لحظات . بقي الاثنان صامتين لدقائق , قبل أن يقطع علي الجو المريب " آسف " قال بصوت هامس مخاطبا ملك . لم يكن اعتذاره فقط بسبب ما حصل سابقا , و انما بسبب الاحراج الذي تسبب به الآن . هو يعلم كم أن ملك لا تحب جذب الانتباه , و لا أن تكون مركز ثرثرة الآخرين , لكنه لم يجد حلا آخر , غير الفوضى التي أثارها لتصحيح ما فعله , متأملا ألا تأتي النتيجة بشكل عكس , فلا يبدو أن صهره سيتراجع بسهولة . لم ترد ملك عليه في البداية , فما كان من علي الا أن مد يده , و احتضن كفها بدفء ثم كرر " آسف فعلا " هزت ملك رأسها هذه المرة , و ردت عليه بصوت متأثر , دون أن تسحب يدها مما أشعره ببعض الراحة " لا بأس , سبق و أن قلت أنني سامحتك " ابتسم علي و لم يستطع منع نفسه , من أن يقبل جبينها , و يعدل خصلة من شعرها خلف أذنها ثم يطمئنها " سيكون كل شيء بخير ملك , أعدك " لم تقل ملك شيئا لتأييده أو معارضته , فهي لا تملك الثقة التي يتحدث بها , و قد كان بالها مشغولا , بما يحصل في الغرفة المجاورة . شكرا لكل المشاعر الجميلة و التهاني , التي تلقيتها من طرفكم , و التي لمست شغاف قلبي بدأ العد التنازلي 😔 لم يبق الا ثلاث فصول , و تنتهي مغامرة الثلاثمائة يوم 😉 . 😘💞💞 ....... | ||||
الكلمات الدلالية (Tags) |
ملك-علي ، تملك ، كره-حب ، زواج ، طبيبة ، سوء فهم, الجزائر-دبي ، |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|