آخر 10 مشاركات
100- الإرث الأسر - آن ميثر - ع.ق - مكتبة زهران ( تصوير جديد ) (الكاتـب : Dalyia - )           »          ضلع قاصر *مميزة و مكتملة * (الكاتـب : أنشودة الندى - )           »          وأغلقت قلبي..!! (78) للكاتبة: جاكلين بيرد .. كاملة .. (الكاتـب : * فوفو * - )           »          نوفيــ صغار أسياد الغرام ـلا -قلوب زائرة- للكاتبة الآخاذة: عبير محمد قائد *كاملة* (الكاتـب : Just Faith - )           »          18 - بين السكون والعاصفة - كاى ثورب - ع.ق ( نسخة اصلية ) (الكاتـب : امراة بلا مخالب - )           »          الــــسَــــلام (الكاتـب : دانتِلا - )           »          1027 - القدر المشؤوم - سالي وينتوورث - د.ن (الكاتـب : ^RAYAHEEN^ - )           »          مـــا أصعب الإبتعاد عنها *مميزة ومكتملة* (الكاتـب : عيون الرشا - )           »          سجل هنا حضورك اليومي (الكاتـب : فراس الاصيل - )           »          همس المشاعر بين ضفاف صورة .. وحروف ماثورة... (الكاتـب : المســــافررر - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

Like Tree4523Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 15-07-22, 04:07 AM   #21

ارجوان

? العضوٌ??? » 422432
?  التسِجيلٌ » Apr 2018
? مشَارَ?اتْي » 450
?  نُقآطِيْ » ارجوان is on a distinguished road
افتراضي


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

روايه جميله واحداث مشوقه ماراح استعجل في التوقعات وبنتظر لحد ماتتضح الصوره اكثر

فيه تنبيه حبيت الفت نظرك له واهو ان لفظ الجلاله لايكتب بالتساوي مع اي لفظ اخر حتى لايكون شرك بالله اعرف انك اعتمدتي على الفواصل علشان تفرقين بين لفظ الجلاله وباقي الكلمات لكن هذا لايكفي الواجب ان يكون تعظيم الجلاله واضح وصريح

الله ثم الوطن والملك

دائما وابدا يجب ان نحرص على كتابة ثم بعد لفظ الجلالة لنبين ان مااتى بعده ليس في نفس منزلته سبحان الله وتعالى عمن سواه علوا كبيرا


ارجوان متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 15-07-22, 05:01 AM   #22

BNO1957
 
الصورة الرمزية BNO1957

? العضوٌ??? » 456128
?  التسِجيلٌ » Oct 2019
? مشَارَ?اتْي » 233
?  نُقآطِيْ » BNO1957 is on a distinguished road
افتراضي

يعطيك العافيه كادي فصل حلو خفيف ممتع
- زاهد و شيخه : الواضح انه فيه بينهم سر وخصوصا بعد جملة زاهد " ايه يا شيخة هم سبب وجودي، ولا اللي بداخلي ما عاد له أهمية بعد اللي حصل " فـ بانتظار كشف الاسرار اللي تدور بينهم .
- غسان و نسيم " كل ماقلت قصتهم بدت توضح اكتشف انه فيه قصص ورا قصصهم اكثر غموض " نسبيا فهمنا سبب عداوة غسان لـ عمران الا انه شنو مصلحة عمران بنقله ؟ هل هو طبيعي انه من اهله وخايف على نفسيته او فيه شي ثاني !!
- ساعي شخصية مجنونه واحس اني احب هالنوع من الشخصيات المعتوه وعليه كلمات تضحكني😭😂، بس انه توقعته يكون من تبع السلك الحكومي مع عمران وانه مثل عمران منتحل شخصيه بس بهالفصل طلع توقعي غلط وانه شخصية مستقله
- تليد و عمران : عجزت احدد علاقتهم فيه شي غريب بينهم احسها علاقه اخويه وبنفس الوقت لا وتاكدت من هالشي من كلام عمران " لكن يراها ضمادًا لجروحه، سنواتها العشرون ، والثلاث الأخريات كانت كافية لجعلها في مرتبة لم تصلها حتى أخته "ريمان" " مادري هل شكي صح او لا بس انه قارنها ب اخته ريمان !
- اخر الفصل خرج الثعلب من جحره " الرائد عمران " الفصل الاخير احس انه سبب لي ضياع وعدم فهم بس انه جاني احساس انه " القصر البيضاء" موجود بشرق بس بنفس الوقت احس لا ، بس شكنني بهالشي ذكر اللواء ل اسم "عميد "بالموضوع وهالاسم يستخدمه عميد بالشرق فقط

تِيهٌ بطعم الليل
ضِلالٌ بصحبة .. نجم
فلمن النصر
لمن؟
لي .. أم لكِ
أم للخيال .. أم الزمن؟

" ضياع بطعم الليل ! وضلال بصحبة نجم هل معناه يدل على انه شخص هلاك او شخص مو مستقيم بصحبة شخص ك النجم ! واحس اني خربطت وشكرا


BNO1957 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 15-07-22, 05:02 AM   #23

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة قلم كحل مشاهدة المشاركة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

روايه جميله واحداث مشوقه ماراح استعجل في التوقعات وبنتظر لحد ماتتضح الصوره اكثر

فيه تنبيه حبيت الفت نظرك له واهو ان لفظ الجلاله لايكتب بالتساوي مع اي لفظ اخر حتى لايكون شرك بالله اعرف انك اعتمدتي على الفواصل علشان تفرقين بين لفظ الجلاله وباقي الكلمات لكن هذا لايكفي الواجب ان يكون تعظيم الجلاله واضح وصريح

الله ثم الوطن والملك

دائما وابدا يجب ان نحرص على كتابة ثم بعد لفظ الجلالة لنبين ان مااتى بعده ليس في نفس منزلته سبحان الله وتعالى عمن سواه علوا كبيرا

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يعطيك العافية على التنبيه، فعلًا كنت معتمدة ومستندة على الفواصل عشان أفصل لفظ الجلالة عن باقي الأسماء
لأني وجدت إنها عبارة شهيرة تكرر وتكتب كثيرًا بهذا الشكل

شكرًا جزيلًا، بإذن الله راح انتبه في قادم الأيام ❤


الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 16-07-22, 02:50 PM   #24

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة bno1957 مشاهدة المشاركة
يعطيك العافيه كادي فصل حلو خفيف ممتع
- زاهد و شيخه : الواضح انه فيه بينهم سر وخصوصا بعد جملة زاهد " ايه يا شيخة هم سبب وجودي، ولا اللي بداخلي ما عاد له أهمية بعد اللي حصل " فـ بانتظار كشف الاسرار اللي تدور بينهم .
- غسان و نسيم " كل ماقلت قصتهم بدت توضح اكتشف انه فيه قصص ورا قصصهم اكثر غموض " نسبيا فهمنا سبب عداوة غسان لـ عمران الا انه شنو مصلحة عمران بنقله ؟ هل هو طبيعي انه من اهله وخايف على نفسيته او فيه شي ثاني !!
- ساعي شخصية مجنونه واحس اني احب هالنوع من الشخصيات المعتوه وعليه كلمات تضحكني😭😂، بس انه توقعته يكون من تبع السلك الحكومي مع عمران وانه مثل عمران منتحل شخصيه بس بهالفصل طلع توقعي غلط وانه شخصية مستقله
- تليد و عمران : عجزت احدد علاقتهم فيه شي غريب بينهم احسها علاقه اخويه وبنفس الوقت لا وتاكدت من هالشي من كلام عمران " لكن يراها ضمادًا لجروحه، سنواتها العشرون ، والثلاث الأخريات كانت كافية لجعلها في مرتبة لم تصلها حتى أخته "ريمان" " مادري هل شكي صح او لا بس انه قارنها ب اخته ريمان !
- اخر الفصل خرج الثعلب من جحره " الرائد عمران " الفصل الاخير احس انه سبب لي ضياع وعدم فهم بس انه جاني احساس انه " القصر البيضاء" موجود بشرق بس بنفس الوقت احس لا ، بس شكنني بهالشي ذكر اللواء ل اسم "عميد "بالموضوع وهالاسم يستخدمه عميد بالشرق فقط

تِيهٌ بطعم الليل
ضِلالٌ بصحبة .. نجم
فلمن النصر
لمن؟
لي .. أم لكِ
أم للخيال .. أم الزمن؟

" ضياع بطعم الليل ! وضلال بصحبة نجم هل معناه يدل على انه شخص هلاك او شخص مو مستقيم بصحبة شخص ك النجم ! واحس اني خربطت وشكرا


أهلًا أهلًا يا بنو ❤

اللي بين غسان وعمران ما ينقال عنه عداوة بمعناها الكبير، يمكن حقد / ضيق
بس عجبتني جملتك لما قلتي ( اكتشف انه فيه قصص وراء قصصهم اكثر غموض )🙈، نقطة حلوة

أما ساعي ماله في السلك العسكري لا ناقة ولا جمل، ولا له في التجارة بعد على قولته

علاقة تليد وعمران أدري صارت مبهمة بالنسبة لكم لكن لحاجة في نفسي ما كشفتها حتى الآن
بالرغم في تلميح بسيط في الفصل الماضي، كتبتيه أنتِ

نورتي ياحلوك ❤


الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 21-07-22, 10:40 PM   #25

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم

*
*

لا تلهيـكم الرواية عن الصـلاة


*



(4)



*
عودة
إلى ديار ( شرق )

ما زالا على نفس الجلسة بعد خروج عمران وصاحبه، صامتان لا يجدان كلامًا ليقولاه، اعتادا منه هذا التصرف، التبرير السريع ثم ولكم كامل الرغبة للأخذ به أم تركه

وهذا ما لا يعجبهم، لكنهم لا يستطيعون الاعتراض، عمران بالنسبة لهم -ورغم صداقتهم المتينة- شخصية غامضة ومتكتمة، يعطيهم فتافيت الأمور الظاهرة، والله وحده يعلم بواطنها

التفت ساعي إلى تيمور الصامت بسخرية عارمة، وأصابعه تمر على شنبه:
-يبيني أصدق إن عميد برأسه يدخل السجن عشان شوية مشاكل في البلدية ؟ أما إني بحلق هالشنب لو اللي سمعته صحيح

عقد تيمور حاجبيه بإنزعاج:
-أنت وش بلاك واقف له بالبلعوم؟ إن كان تبي تصدقه كان بها ما تبي انفض مخك وخليه يدور سبب وأقنعه فيه

ساعي يتكيء على الكرسي، ويرتشف من الشاي الأحمر:
-يعني أنت مقتنع؟ عني ما راح أقتنع، الآدمي ذا أكثر إنسان نظامي شفته بحياتي، لو شعرة وحدة طلعت من صف هاللحية حلقها بالكامل، وش لو هي معاملات تمر تحت يدينه.

تغضن جبين تيمور وهو يسكب فنجانًا آخر:
-والله إنك بلشة، خف عليه ترا منت زوجته عشان تحاسبه على الطالعة والنازلة
(وبسؤال آخر حتى يقطع كلامه)
-ماقلت لي وين عدوان؟

ساعي بصوته الأجش قال بسخط:
-المريض ذا من أول ما فتح فرن المخبز ما عاد ألمح حتى زوله، أخس عليه شكل أعجبته الفلوس
تيمور بإندهاش:
-أذكر ربك، حاسد الفقير على لقمة عيشة

أشار ساعي بلامبالاة، وبإستفسار :
-بناتك شخبارهم؟
تنهيدة خرجت من صدر تيمور، واستراح بظهره على الكرسي:
-بناتي بخير وعافية لو إني أشوفهم بين جدانهم وأعمامهم، أمي متشفقة على شوفتهن وأبوي ماغير يطريهن على الطالعة والنازلة

وضع ساعي كأس الشاي بحدة على الطاولة، وبإنفعال:
-تستاهل هذا سواة يدينك، لو إنك مأدب الحرمة من حياتها ما كانت أمها تحل وتربط بمصير بناتك ذالحين، وشف هذه هي حتى بعد موتها ماخلتك ترتاح

تيمور بذات الإنفعال:
-أم بناتي الله يرحمها راحت بسيئاتها وحسناتها عند ربي وربك لا عاد تطريها يا ساعي، وجدة بناتي ذي أنا أعرف أتعامل معها بس حشمةٍ للبنيات تاركها، وبمزاجي

ساعي يتراجع بسخرية:
-مشتك الحرمة على حياتها وبتمشيك الأم بعد موتها، والنعم وسبعة أنعام يالخروف ياللي ماخذينك الحريم سردادي مردادي

وقف تيمور بإنفعاله الغاضب، حمل حاجياته الموضوعة على الطاولة وقال:
-أنت لسانك ما عاد عليه كنترول، أقوم من جلستك أبرك لي
ساعي بتهكم وهو يراه ينسحب:
-"كونترول"، الله يفشلك يالمتحضر لا يسمعك أبوك ويتبرى منك، هو من أول مهب طايق شغلك الغريب ذا
(وقف وخرج هو الآخر حين تجاهله تيمور):
-أخص عليه صاير ما يطيق لي كلمة، ايه ايه ما عاد يتحمل مر الحقيقة

مشى متجهًا إلى منزله بعد أن تفرق كل واحدٍ منهم في طريقه، ولا مزاج لديه ليلتقي بعدوان ويتصاعد بينهم جدال أخر، مر من جانب منزل جار عمران ( هادي )، الذي يميز منزله ثلاث نخلات مختلفة الأطوال يحيط بها حوض شبة كبير

رأى الباب المفتوح يغلق في وجهه، وبكاء طفل يتعالى من خلفه، عبس بصورة لا إرادية وهو يمضي بطريقه شاتمًا



*
*


مالت بجسدها ناحية والدتها، حيث يقفان كتفًا لكتف أمام المجلى يغسلان صحون الإفطار، همست:
-أبوي وينه؟ ما لمحته من جيت

زفرة خرجت من فاه الأم التعب، قائلة:
-خذ له ثلاث حبات تمر وكوب حليب وطلع هو وعكازه، ما يرد غير الساعة 9 يبغى قهوة الضحى عشان يقيل شوي

تلك تنظر إليها بإستغراب:
-طيب يمه ليش تقولينها كأن في مصيبة، أبوي من يومه ما يحب جلسة البيت ماغير يتمشى بهالديار، صيفٍ ولا الدنيا مشتيه

غسلت يديها، جففتها بمنشفة تغير لونها من كثرة الاستخدام، التفتت إليها وخصلات شعرها الرمادية تفر من حجابها القطني الذي تضعه بإهمال:
-ما عاد هو الأولي ما غير سارح طول وقته، ويوم إني اسأل يا هادي وش علتك يقول لي العلة بالقلب يا " غنيّة "!

أغلقت صنبور الماء، ونظرت إليها بقلق:
-يمه لا يكون أبوي بدأ يجيه الزهايمر
عقدت حاجبيها بإنزعاج:
-بنت يا مرجان وأنتِ على طول تتفاولين عليه، مابه إلا العافية هي ماغير العلة في القلب على قولته، والله العالم وش هي علة القلب

مرجان بشفقة محزنة، على حالها قبل حال والدها:
-مسكين يمه، شايل هم فردوس وريحان
التفت غنية إلى عملها بهدوء تعب:
-شايل همنا كلنا، وش أسوي يوم ربي ما رزقني بالولد اللي يسنده ويرمي عليه حموله، إرادة ربه

سمعت مرجان بكاء ابنها ذو السنة والنصف في الخارج، فنظرت لوالدتها قائلة:
-ليه يالغالية وحنا البنات وش عازتنا يومه جابنا للدنيا، هذا حنا حاطينه في عيوننا ونداريه مداراه

غنية بنظرة ذابلة:
-هم البنات للممات وأنا أمك، بتفهمين كلامي لا كبرت سلسبيل

خرجت بخطوات عجلة من المطبخ حين تعالى بكاء ابنها، وقفت على طرفه ترفع كفها لتقي عينيها أشعة الشمس، قائلة بعصبية:
-ريحان ووجع، منتي قادرة تسكتين لك بزر؟

التفتت ريحان الملتفة بعباءتها إليها، وبحضنها ( سامي ) ابن مرجان ووجهه أحمر من شدة بكاءه، بغضب:
-وأنا وش أسوي فيه، يبيني أفرع الباب وأقعد معه على طرف حوض النخلات عشان يلعب فيه على راحته
-"طيب سكتيه بأي شيء، خلي لك منفعة في هالبيت"

تأففت وهي تتسحب لصالة المنزل:
-بدت موالها الأخت الكبيرة، خلاص يا سنعة يا أم البزر المزعج والبنت المغرورة خلاص، ادخلي كملي شغلك مع أمي
(وبنظرة حذرة قالت لها)
-بسكته بالحلاوة لا تقولين ما قلت لك

مرجان تشير بيدها:
-سكتيه باللي تبين، ونادي فردوس خليها تطلع من الغرفة وتشمر يدينها عشان تسوي لنا الغداء
ريحان بسخرية تقترب من الباب:
-خليها عايشة وسط كتبها، المثقفة الثانية

هزت مرجان رأسها وعادت للمطبخ حين سمعت والدتها تناديها بـ( جهزي قدوع القهوة أبوك بيرد قريب)، ودخلت ريحان إلى الصالة وهي تضع سامي بخفة على المركى بلونه البني المحمر بنقوش حليبية اللون، ووسائد بلون النقوش، فالصالة بلا كراسي

نزعت عباءتها والحر تمكن منها، تشعر بسيول العرق تهبط من ظهرها، وبعض الشعيرات التقصت في جبهتها، وإحمرار طفيف يغزو خديها النديين

كانت قد نزعت سامي من مكانه حيث يلعب بتراب حوض النخلات حين رأت مرور ساعي من أمام منزلهم، وأغلقت الباب في وجهه بفورة الحمق، فلا تنسى مواقفه الساخرة حين يجيء لبيت عميد، جارهم الخلوق

هي تعرفهم الأربعة، تعرف عمق صداقتهم والكيمياء العجيبة التي تجمعهم رغم إختلاف شخصياتهم
عميد، ساعي، تيمور .. وعدوان!
وعند مرور طيف الأخير احمرت وجنتاها بغرابة، فهزت رأسها لتمحي صورته من بالها

نظرت لسامي الذي ينظر إليها وسط عينين مليئة بالدموع، تخصرت بهيمنة:
-شوف إذا جلست شطور وعاقل بعطيك حلاو وشيبس هالكثر من جيب خالة فردوس، أنا يا خالتك فقيرة ماعندي ماعندها المشفوحة على اكل البقالات

دخلت حينها مرجان قادمة من المطبخ المنفصل عن المنزل تحمل بيدها صينية ( القهوة )، وضعتها على الأرض وبقلة حيلة:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، بزر أبو سنة ونص وين يفهم عليك
-"إذا كلمتيه كأنه رجال عاقل راح يطلع ذكي، وقولي ريحان ما قالت"

قالتها ريحان على دخول والدتها، التي تعيد ترتيب أكمام جلابيتها الخفيفة المصفوفة لأعلى كوعها:
-خلي عنك الكلام الفاضي وقومي أنتِ وأختك جهزوا للغداء، مابي شيء محروق ولا ملحٍ زايد أو فلفل حار، برسل منه للعمة ثريا، ياعمري عليها ما تاكل عيشة زينة من يدين بنتها

ريحان وهي تمسك بقميصها، تنفخ داخله:
-يمه ارحميني تكفين، لو دخلت المطبخ الحين بصير آدمية مشوية، اتركي فردوس تسوي الغداء هي ما تحس بالجو مثلي ووعد لأسوي أحلى عشاء الليلة لكم

فردوس بسخرية تحتضن ابنها سامي وتسمح على رأسه:
-مثل عشاء أمس، نمنا وبطوننا منفوخة من كثر البهارات والفلفل اللي فيه
كشرت بحنق:
-تحمدين ربك عليه

خرجت في هذه اللحظة فردوس من غرفتها، تتهادى بخطواتها اللطيفة حتى جلست بجانبهم:
-والله يا صوتك فاقع طبلة أذني، خلاص بلا تذمر الغداء علي والعشاء عليك

تعالى رنين جرس المنزل، سمعن بعدها طقطقة مفاتيح، وصرير الباب ثم رنة حديدية، ثواني قليلة حتى ظهر رجل لطيف الملامح -لولا تجهم وجهه-، يرتدي ثوبًا أبيضًا أصفّر بفعل الزمن، وغترة بيضاء ملفوفة فوق رأسه كعمامة، وبيده اليمنى عكازه الذي لا يستغني عنه رغم أنه ليس بكبير سن، فهو ما زال في التاسعة والأربعين من عمره

ألقى السلام بصوتٍ ثقيل، ووقفن الإناث الأربعة احترامًا وتوقيرًا له، ثلاث منهن قبلن رأسه ثم جلسن بجانب بعضهن، والأخيرة قبلت كتفه ووسعت له مكان بجانب صينية القهوة

مر صمت ثقيل وهن يتأملنه، نظرات غنية تشير لمرجان، أي هل رأيتي أن كلامي صحيح، ومرجان تهز رأسها بإيجاب

حين قطع الصمت هادي الذي نظر إلى مرجان نظرة هادئة:
-البنية وينها؟
كان يقصد ابنتها سلسبيل، فردت:
-عند عماتها يبه
هادي بذات الهدوء:
-وأنتِ ليش منتي هناك معها؟
صمتت مرجان، ابتلعت ريقها الذي جف فجأة:
-يبه زوجي مهوب هنيا وش لي حاجة ببيت هله من غيره
-"لك عيالك اللي شايلين اسمه"

قالها بنبرة خرجت حادة، أقلقت مرجان واشتمت منها رائحة توبيخ وقسوة، فقالت بخنوع:
-يبه بنتي تونس مع عماتها، وبغت تبات ليلتها هناك وما رديتها، أنا جيت أساعد أمي وأتونس معاها

وضع الفنجان على الصينية وقال مثلما توقعت مرجان، بقسوة حادة:
-لا يجوني يشكون منك الرجال قبل الحريم يا بنت هادي، أنا ما ربيتكن على طوالة اللسان وقلة الأدب، أنتن طالعات من بيتي، بيت هادي بن سامي اللي معروف بحسن خلقه وطِيب أصله، سمعتن؟

هززن الثلاثة رأسهن بإيجاب، رغم أن الكلام كان موجهًا لمرجان فهي المتزوجة الوحيدة بينهن، لكن في نبرته كانت شموليّة للثلاثة جميعهن!

وقف من مكانه واتجه إلى غرفته وزوجته تتبعه من خلفه، دخلت وأغلقت الباب وراءها، تناولت غترته وعلقتها بالمعلاق خلف الباب، وبقلق أردفت:
-عسى ماشر يابو مرجان، وش فيه وجهك مكتم؟ مهي عادتك تهاوش البنيّة قدام خواتها وأنت داري مرجان ما يطلع منها العيبة

استراح بظهره على السرير، تنهد بعمق وتفكيره يقوده إلا أمرٍ ما:
-مرجان لازم أشد معها شوي عشان تمسك بيتها وزوجها، أدري إن عمتها قشرى ومطفشتها من البيت عشان كذا هي عندنا، بس أنا أبيها تحافظ على عمادها لا ينهدم فوق رأسها

جلست على طرف السرير، تربت على فخذه القريب من كفها الأيمن:
-بنتك تربية يديننا، مهي متعدية على غيرها بغير وجه حق، أنت بس خف عليها الله يخليك لنا
(وبسؤال لطيف)
-ماتبي تقول لي وش اللي مضيق صدرك؟ من متى تخش عني يا هادي، يومي أشوفك بذي الحالة أدري إنك تداري وجعك عني ونسيت اللي تقاسمناه طول ذي السنين، أسلم

صمت مرير مر عليه، والوجع فعلًا يثقل كاهله، لا حيلة له
لا حيلة لمأساته، ومعاناته، في ذمته أرواح، وعلى عاتقه هموم، وهو خالي الوفاض، فارغ اليدين، يتيم الروح، همس بتردد موجع:
-الحال ماعاد هو طيب ياغنية، العيشة صعبة وأنا مسؤول عن إطعام ثلاث حلوق، قصرت يديني وماني بداري وين أولي وجهي، وكل حل يوجعني أكثر من الثاني

غنية بتوتر، فهذه السيرة المعتادة لهمه الذي يحمله:
-حل ؟ أي حل يا هادي ؟
-"يا أزوج البنيّات ونرحل أنا وإياك للمدينة، يا أدور على أخوي من أمي وأطلب منه ورثي لو غصبًا عليه"

صعقت مما تسمع، وارتجف قلبها هلعًا، متى عاد إلى هذه السيرة؟ هي يستحيل أن تنسى يومًا عاد فيه زوجها مهان ومذلول من أخيه حين طالبه بالورث، مثلما لم تنسى هي الطريقة التي طُرد فيها أشد طردة، وقد عاشا طوال هذه السنين على رحمة رب العالمين
يبدو أن " تزويجه للفتيات" سيكون أرحم لهما من الحل الأخر، فأي همٍ أثقله ليعود مرة أخرى إلى الإهانة؟
ليس ممكنًا،
ليس ممكنًا لعزيزٍ مثل هادي.

هتفت بقلق عارم:
-كلن يجي برزقه يا هادي، والبنيات أهم شيء مستورات في بيت أبوهن، بس الكرامة من يعوضنا إياها لا أنهدرت
عقد حاجبيه:
-وش تلمحين له، وش تقصدين ؟
اجترعت ريقها وتراجعت للخلف:
-أنت خابر وش أقصد، ولا ناسي وش صار في ذيك السنين، رزقنا على رب العالمين محنا بعازة أحد

اعتدل هادي في جلسته، وبحدة:
-أنا ماني رايح أشحذ يابنت، أنا رايح أطالب في حقي
(وبنبرة تصميم جادة من أهلكه الهم لسنين)
-وهالمرة بنوله، بالطيب ولا بالغصب لو وصلت بيننا للدم



*
*


كان قد وصل إلى المنزل وولج إلى الصالة ومنها إلى الغرفة التي ينام فيها والده المشلول، جلس بالقرب من سريره وهتف يوقظه بصوت هادي:
-يبه، يابو ساعي .. تسمعني؟
(انتظر قليلًا حتى فتح عينيه ليكمل)
-يبه بشيلك للحمام زين؟

رمشة عين صغيرة من صاحب العينين الذابلتين، هي رمشة تأكيد ورضى، حمله ساعي بين ذراعيه العنيفتين بخفة، فوالده مع المرض أصبح أخف من الريشة

دخل إلى دورة المياة، وضعه على كرسي بشبك مقاوم للماء يستخدم لكبار السن وذوي الإحتياجات الخاصة. نزع ساعي ثوبه وبقي بملابسه الداخلية البيضاء

نزع ثوب نوم والده كذلك، ثم غطى جزءه السفلي بالمنشفة، تناول طاسة الماء من الدلو وبدأ بسكبها على جسد والده ويده الأخرى تمر على مجرى الماء:
-تدري إن أبو محمد رجع للديرة يبه؟ ايه كان مانع مساييره عنا
(استدرك قائلًا بتذكير)
-أبو محمد عميد يبه، عميد حفيد الجدة ثريا، يقول كان في مهمة عمل ثمٍ انسجن بتهمة ما سواها ثمٍ طلع ورتب أموره ورجع للديرة مرة ثانية

فتح علبة الشامبو، سكب منها القليل في راحة يده، دعكها بين يديه حتى تكونت الرغوة، ثم وضعها على رأس والده المنحني على كتفه:
-أنا مصدقه يبه، أي شيء يقوله أبو محمد أصدقه، إنسان أجودي كلمته تنوزن بالذهب وجمايله علينا واجده من يوم عرفته رفيقٍ لي، متشره(ن) عليه وموجعني كلامي اللي قلته له، بس من حر جوفي ، من حرف جوفي يابوي
(رفع الطاسة من جديد ثم قال)
-غمض عيونك هالحين يبه

استجاب له والده في وهن، سكب الماء على رأسه وأزال رغوة الشامبو عن شعره، أخذ علبة سائل الاستحمام ووضعها على "الليفة"، ثم بدأ يمررها على جسد والده العلوي، وزفر بقوة:
-كلهم شدوا رحالهم، عميد وتيمور وياخوفي بكرة يلحقهم عدوان، وما عاد يبقى لي أخ بهالديرة القشرى اللي ما لحقنا من وراها خير

بلل جسد والده من جديد، ثم لفّه بالمنشفة أخيرًا، استخرج من تخزين مرآة دورة المياة شفرة وفرشاة ورغوة حلاقة، وضع منها على لحية والده النابتة وفرك بالفرشاة على طولها:
-قلبي حقود وأسود، خابرن بتقول لي ياحيف عليك يا ساعي تحقد على أخوانك وتسمعهم السم، بس هي الحياة يبه ما تبينا إلا كذا، نصد يوم صدوا، ونوجع يوم أوجعنا صدهم

تناول منشفة صغيرة مبللة وأزاح الرغوة ليظهر جلد مهترئ أكل من الدهر ما أكل، حمل ساعي والده من جديد ووضعه على السرير بوضعية الجلوس

أخرج ثوب أبيض خفيف وألبسه إياه فوق ملابسه الداخلية، التقط كريم شعر ووضع منه قليلًا على شعره ثم سرحه، ختم نظافة والده المسؤول عنها بقطراتٍ من دهن عود خلف اذنه وأنفه، الذي -وياللعجب- أهداه إياه عمران قبل أن يسقط والده سقطة لا نهوض بعدها

شعر ساعي باللوعة وهو يرى دمعة يتيمة تسقط من عينه المترهلة، جلس بالقرب منه وقبّل رأسه بحنو بالغ لا يتضح عليه، حنو لا يجيد إظهاره إلا أمام والده، همس بصوته الأجش رغم لِين النبرة:
-اقسم بالله يا يبه لو أدري إن ما بيني وبين الجنة إلا مراعاتي لك لأرعاك طول عمري، تكفى لا يطيح دمعك وتهزني
(ربت على كفه الساكنة في حضنه)
-صلي الضحى إن كانك ما صليتها يبه، صلي بعيونك عسى الله يعوضني ويعوضك باللي أخير من الدنيا ومافيها

قالها ليخرج، ترك والده يصلي ضحاه لينام حتى أذان صلاة الجمعة مثلما اعتادوا في نظامهم، هم الاثنين

توجه حينها ساعي واستحم هو الآخر، ولم يلبث إلا خمسة دقائق حتى خرج وارتدى ملابسه، دخل غرفة غير غرفته التي ينام فيها، غرفة كانت كمخزن لحاجيات عائلته القليلة، وبعد وفاتهم -أي أمه وأخته- حوّل هذه الغرفة لموطنٍ يلجأ إليه من وحشية الحياة بالخارج

جلس على كرسي مهترئ، وطاولة خشبية قد جار عليها الزمن وتآكلت أطرافها بفعل حشرة سوس الخشب، الطاولة التي وضع عليها ساعي آلة كتابة قديمة يعول عمرها إلى بداية الستينيات

فكر قليلًا، أهو الوقت المناسب؟ لا يدري. ومتى يدري؟ لا يدري كذلك، متخبط ومشوش العقل، والوقت يصفعه من كل حدبٍ وصوب
بريده خالٍ، حلقه جاف، أصابعه متصلبة، طقوس لا تشجع للكتابة

لكنه رغم ذلك التقط ورقة بنية اللون، ثبتها على طرف آلة الكتابة، وبدأ يكتب أول رسائل بريده بعد إنقطاعٍ لا بأس به:

(جعلني الألم اكتشف لذة رغد العيش، الهناء الذي تذوقت حلاوة طعمه وتساءلت عن ما هو نقيضه، ها أنا ذا أتجرع مرارته، لكن أكن متيقظًا من قبل إلى مدى أني منعم، هانيء، ونافع، حتى أصبحت بلا حولٍ ولا قوة.

كان الأمر يستحق العناء، استراق النظر لرفرفة رمشك، ضحكتكِ الخجولة، نقرات أصابعكِ بأظافر مقلمة، وردية وإمتلاء خديكِ، النظر إليكِ كان مثل دفعة أكسجين أخيرة إلى رئتي مريض يحتضر، النظر إليكِ كان حياةٍ، ونجاة)


تخشبت أصابعه على الآلة، وراح العرق يتشكل كالندى على ورق الشجر بعد يوم خريفي مبهر، شعر أن هذا يكفي، أن ما كتبه سلب لب أنفاسه فانتزع الورقة من مكانها وطواها

استخرج ظرف أبيض مخططة حوافه بالأحمر والأزرق، ادخل الورقة بداخله، ثم رماها وسط حقيبة سفر مفتوحة، وممتلئة بالأظرف الماثلة

أظرف برسائل مجهولة الوجهة، مذيلة بحرفين فقط ( ب.س )،
أظرف، يتوعد ساعي دومًا لإضرام النار فيها، حتى تصبح رمادًا هشيمًا تذروه الرياح، ولا تبقي فيها من تخبطه، وشعوره المنكسر، وحاجته المتلهفة .. ولا تَذَرُ




*
*



"بناتي مالك على تربيتهن سبيل، تنصحهن ايه نعم، توجههن آمنا بالله، بس ترفع صوتك عليهن وتلاغيهن وهن وسط بيتي لا يا هيثم لهنا وبس"

يقولها نايف بنبرة غضب، وهو يقف مواجهًا لهيثم المتصلب في وقفته، والذي قال بجمود:
-يبه الله يطول لي بعمرك، لا لاغيتها ولا رفعت صوتي عليها كل اللي قلته "من سمح لك تطلعين بيت عمران لحالك" بس من دلعها ما استحملت وبكت

وهو يشك فعلًا أنها قدمِت باكية، ولم يبكيها كلامه وسؤاله وحتى ( حدة صوته )، ليقول نايف بذات الغضب:
-ليه ناسي هالبيت بيت من؟ وهي تحت عصمة وولاية من؟ هيثم أنت ناوي ترفع ضغطي وتجلطني ولا وشو بالضبط، اهجد وخلي الناس تهجد وراك

أم هيثم بتعب، وهي تروح مهدئة بين نايف الغاضب تارة، ومطبطبة على هيثم المحترق تارة آخرى:
-يابوهيثم ارحموني أنتو اللي بترفعون ضغطي، اهدوا وتفاهموا بالهداوة مو بالصوت العالي

حوقل نايف وهو يجلس بجوار زوجته ويربت على كفها بخفة، رفع رأسه بعد وهلة قائلًا:
-الظاهر نسيت منهو رب هالبيت، ونسيت إن بناتي ما يطلعن عن شوري وبدون إذني
أم هيثم بحوقلة تردف:
-ياولدي أختك استأذنت مني، قالت أبي أروح بيت عمران أنظفه ماهي حلوة يدخل بيته بعد هالسنين ويلقاه بغباره، راحت ومعاها عاملتين

نايف بنبرة ذات مغزى:
-أنا داري وش علتك .. ماهي الروحة لبيته، لكن لا تنسى إن عمران له حق عليها مثل مالك حق عليها
هيثم يتراجع بنبرة مرّة:
-ماخليت فيها حقوق يابو هيثم، الظاهر إن عمران أغلى على قلب أختي مني
(ثم أردف وهو ينوي الخروج)
-بس يبه أعذرني، خواتي وأنا أخوهن الكبير، ماني متنازل عن دوري لغيري

خرج بعد كلامه ذاك، بعد أن أرسل رسالة مبطنة إلى والده، الذي كثيرًا ما يُبدئ عمران عليه إذا ما كان الموضوع يخص تليد، خرج متجهًا إلى منزله، إلى الهوة الأخرى التي أوشكت على ردم التراب فوقها

التفت نايف إلى هناء الصامتة، التي قلما تتدخل حين تحصل جدالاتهم العائلية، هي لا تتدخل إلا حين يطلب منها نايف، أو إحدى الفتيات:
-هناء ياخوك قومي شوفي لي تليد، البنية طلعت وهي تبكي

استجابت هناء بطواعية، اتجهت للطابق العلوي مباشرةً نحو غرفة تليد المقفلة، طرقت الباب مرة ومرتين وثلاث، نادت عليها من الخارج بصوتٍ خافت .. ولا مجيب!

تنهدت بخفة، لا طائل من المحاولة، حين تنغلق تليد على نفسها فإنها تقطع الصلة بالعالم الخارجي حتى تخرج من ذاتها، فقررت التوجه إلى غرفة حنين

دلفت بعد أن طرقت الباب، رأتها تقف بإنحناء أمام الكمدينة، بيدها حبة دواء ابتلعتها بالماء:
-هلا عمة حياك

تقدمت هناء، جلست على الكنبة الأنيقة الموضوعة بجانب السرير من جهته اليسرى، لتقول بتنهيدة:
-أختك ماهي راضية تفتح الباب

جلست حنين على طرف السرير، وبهدوء:
-أختي تعرفينها ما راح تفتح لين يطخ اللي برأسها، بس تبين الصدق يا عمة؟ المفروض ما تزعل، تليد عارفة إن هذا طبع هيثم، جلف وحاد والتعامل الزين عنده بالطراره

ابتسمت هناء:
-وش فيه قلبك مليان عليه؟
حنين ببساطة تجيب:
-قلبي أبيض عليه وعلى أخواني كلهم ياعمة، أنا أقولها لك من باب التكيّف على طبايع هيثم، هذه طبيعته، كينونته، الشخصية اللي مخلوق عليها! إذا بعد هالسنين كلها ما يقدر يغيرها فاحنا نحتاج نتكيف عليها

هناء بتفكير في هيثم:
-ياقلبي عليه طلع مهموم، الله يهدي نايف شد عليه بزيادة، هو أخوها أكيد ما راح يخاف على البنت كثر أخوها

هزت حنين كتفيها برقة، وأمالت رأسها بابتسامة خلابة:
-وعمران بعد أخوها، ولا نسيتي يا عمة؟
ضحكت هناء بخفة:
-مايحتاج أنسى، المجنونة اللي مقفلة على نفسها الباب ماهي تاركة لنا فرصة النسيان

تمعنت هناء في ملامح حنين المتفردة، ابتسامة ممتلئة تكشف عن أسنان براقة، بشرة لؤلؤية، شعر أسود كسواد السَّبج، حضور وجاذبية وألق

شخصية لم تكن هكذا قبلًا، لكن لهيب السنون الفائتة كان كافيًا لأن يأخذ منها جزءًا وافرًا من إندفاعة الحياة، ليجعلها على ما هي اليوم:
-وش صار على موضوعك؟

نظرت لها حنين بهدوء:
-الإجراءات ماشية تمام الحمدلله، بالنسبة للموارد البشرية كلمت زميلاتي في عملي السابق وطلبت مساعدتهم، تدرين أغلبهن إداريات وأكاديميات في جامعات مرموقة
هناء بنبرة ذات مغزى:
-ما أقصد موضوع شغلك اللي ما عاد غيره في بالك، أقصد الموضوع الثاني

عبست حنين فجأة، شبكت يديها ببعضها البعض وأنزلت رأسها بهدوء لجحرها:
-راح مثل ما راح غيره
هناء، بنبرة رقيقة حانية، تحمل بعضًا من الشفقة:
-لين متى ياروحي؟
تنهدت حنين، وقفت واتجهت إلى جدار عُلقت به شهاداتها الدراسية جميعها، من شهادة الابتدائي، والإعدادي، والثانوي، شهادة الدبلوم -التي تغيرت بعدها حياتها جذريًا- البكالوريوس، وختامًا شهادة الماجستير التي حصلت عليها قبل خمس سنوات

كل شهادة عُلقت في جدارها، كان وراءها قصة موغلة في الوجع والحسرة والألم، لم يكن الأمر سهلًا عليها أن تضع إنجازاتها أمام مرأى أعينها

لكنها أرادت تذكير نفسها كلما هبطت عزيمتها بأن ما واجهته في كل سنوات حياتها ليس هينًا، وأن ثباتها في أرض متزعزعة كان لأمرًا يفوق طاقتها الجسدية والنفسية

همست بنبرة ثابتة، رغم ارتجافها الواضح:
-مايخفاك الحال ياعمة، إن ما قدرت أكون أم، ما أقدر أكون زوجة



*
*


حين خرج من منزل والده توجه مباشرةً إلى منزله، كان غاضبًا، والغضب أحتله احتلالًا غاشمًا عجز عن مداراته، يريد الوضوء، يريد الاستحمام ليخفت سعير هذا الغضب

صعد مباشرة إلى الطابق العلوي، مر على غرفة ابنه ( نايف ) ورآه منشغلًا بألعابه وبجانبه المربية التي أحضرها غصبًا لهذا المنزل

تزايد حنقه، وارتفع معدل الغضب إلى أعلى مستوياته، المدللة البائسة، ها هي تترك ابنها من جديد بينما تغط في إحدى تفاهاتها

دخل جناحه بثورة، أغلق الباب وراءه بقوة، وقبل أن يتجه إلى الغرفة الرئيسية سلك مسلكًا إلى دورة المياة، استحمل مطولًا بماء بارد عله يثلج صدره ويخمد غضبه، خرج بعدها وارتدى ثوبه البيتي ودخل إلى الغرفة الرئيسية بصخب غاضب:
-أنا كم مرة قايل لك ولدي لا عاد تخلينه مع المربية دامك موجودة بالبيت؟

تقدم إلى السرير، حيث تغطي جسدها كامل بالشرشف السكري الفخم، نزعه بعنف عن رأسها ليتضح له وجهًا أحمر اللون، جامد الملامح:
-عاجزة إنك تجلسين، تأكلين وتسولفين معه؟ تاركة المربية الزفت تربيه، ليه أنتِ وش الفايدة منك؟ يوم إنك منتي قد الأمومة تحملين وتولدين ليه

جلست حياة بإعتدال على السرير، هتفت بسكون جامد:
-صح أنا مو قد الأمومة، واحد ويكفيك صح يا هيثم؟

كتم هيثم غضبه بصعوبة، جلس على حافة السرير قائلًا ببرود مدروس:
-تبين تفهميني إن كلام الأمس مزعلك، وناوية تسوين من الحبة قبة؟

اتسعت عيناها مندهشة، عضت على شفتيها وتخلت عن سكونها:
-ايه يا هيثم، اقتل القتيل وأمشي بجنازته، الحين أنا اللي ناوية أسوي من الحبة قبة؟ واللي أمس عصب وطلع من بيته عشان ما قلنا له سمعًا وطاعة؟

هيثم بذات البرود:
-ووش عندك ما تقولين سمعًا وطاعة؟ مو زوجك ؟ مو طاعة الزوج واجبة يا مدام؟

زفرت بقوة، صدت بوجهها عنه حتى لا تنقض عليه غاضبة، هتفت بسكون:
-أنت كل شيء تبيه بالغصب ياهيثم، ماعندك شيء بالحسنى، "أبي أخ لنايف هاتيه لي"، كأنك قاعد تطلبه من مطعم، ما يهمك وش رأي شريك حياتك أهم ماعليك رغباتك

مسك رسغها وضغط عليه، اقترب منها بشدة حتى أوشك على الإلتصاق وهمس من بين أسنانه:
-شوفي أنا واحد ما تهمه إلا عبرة الخواتيم، قلتها لك، عطيتك خبر، فكري براحتك لكن في نهاية الطريق بيصير اللي أبيه

حاولت إبعاد يدها، لكنها عبثًا تحاول، فهمست بضيق مكتوم:
-هيثم أبعد، لا تجيني معصب من شغلك وأهلك وتحركني على كيفك، أبعد أبعد

نزع يدها من قبضته، تراجع وهو يقف إلى جهة نومه قائلًا بحدة جامدة:
-نبعد يا حياة ونشوف أخرتها معك، لكن خلك واعية إن المركب مافيه إلا أنا وأنتِ، وصبر المركب على هذا الشرخ قليل




*
*


في مركز العمليات، متحلقين حول طاولة من خمسة كراسي، كان عمران قد طلب من حكيم أن يحضر له ملف المهمة الأخيرة التي سُجن بسببها لكي يتطلع على حيثياتها ويرى ما آل إليه التحقيق مع المجرمين الذي قُبض عليه:
-كل اللي قبضنا عليهم مجرد أفرع من جذع عملاق، وهذا الجذع معروف باسم (الشبح)، تعاملاتهم معه غير مباشرة، عنده أجندة في كل مكان .. حتى المؤسسات الحكومية، والأمنية

قالها حكيم، ليردف عمران بعقدة حاجبيه:
-كمل!
تناول حكيم عدة أوراق، وصفها أمام عمران:
-كل اللي وصلنا له في التحقيق مع المتهمين هو الكبارية اللي يتعاملون معهم، أما من اللي يمشيهم ويحركهم ويأمر هالكبارية، ما يدرون من، وأرجحنا إلى إنه هو .. الشبح

مساعد معقبًا:
-يعني تقدر تقول إنهم مثل دمى الماريونيت بالنسبة له

حكيم بتأييد، أكمل:
-مالك قصر البيضاء واحد من هالدمى، تذكر أول مهمة لنا في هذه القضية؟ كانت تقتضي المصلحة إننا نزرع شخصية لها رتبة عالية في البلد، وزرعناك أنت كعسكري برتبة ( عميد ) حتى -بظنه- تسهل عليه معاملاته المعتمدة على تهريب الأسلحة والمخدرات

تحدث فزاع وهو يضع صورة ما أمام عمران، فوق الأوراق:
-مالك القصر بصدد مهمة كبيرة هدفها إرضاء الشبح والوصول إليه، وراح يستخدمك أنت كورقة رابحة لظهوره

عمران وهو مركز تمامًا على ما يقولون:
-ولد أخوه، وش علاقته بكل هذا؟
تحدث حينها رابح:
-مثل ما قال اللواء ولد أخوه منشق عنه، أي يعني إنه خارج حسبة أوامره وتصرفاته، ومثل ما يقول المثل : عدو عدوي هو صديقي

ابتسم عمران بخفة:
-يعني أول خطوة هي البحث عن ولد الأخ المزعوم، اللي بطبيعة الحال راح نقدر نصطاد عن طريقه أول سمكة
(التفتت نحو مساعد)
-عميلنا في قصر البيضاء ما زال موجود؟
-"الله الله موجود طال عمرك وعلى أحسن ما يكون"
-"ممتاز، أبي ملفات جميع المتهمين في هذه القضية توصلني، راح ندقق بشكل أكبر من سابقه يمكن يكون واحد منهم ولد الأخ، متخفي بهوية ثانية، مع إني استبعد هذا الاحتمال لكن ما راح نترك شيء للزمن ومفاجآته، عُلم؟"

-"حاضر سيدي"

وقف عمران، فوقفوا خلفه باستقامة:
-ممتاز، متى موعد رحلتي ؟
مد حكيم تذكرة سفر، قائلًا بابتسامة:
-بعد يومين، وتراك مدعو لحفلة في قصر البيضاء!

شد عمران من ظهره، وقال بصوته الجهوري:
-انتباه!
(اعتدلوا الأربعة بحركة مهنية سريعة)
-غيروا ملابسكم وأتبعوني لساحة التدريب
-"حاضر سيدي"

قالوها الأربعة، وأكثرهم حماسًا كان رابح الذي أفتقد الإمارة تحت يد عمران، فخرج أولهم إلى غرفة التجهيز للمهمات

بعد وهلة من الزمن، وقفوا أسفل الشمس الحارة، مصطفين الأربعة بخط واحد وأمامهم عمران ببدلة التدريبات، يرتدي نظارة شمسية تحف عينيه بالكامل:
-عودًا حميدًا يا فريق، من سوء حظكم إني ما زلت قائدكم، سمعت من اللواء إن قائدكم السابق كان رقيق معكم لذلك حسيت إنكم تحتاجوا لإعادة تأهيل

-"سيدي، حاضر سيدي"

شبك يديه خلف ظهره، وبذات النبرة:
-مقبلين على مهمة كبيرة، نقطة أخيرة على السطر، وأحتاج لكل شبر من لياقتكم، تذكروا .. مو من صالحكم أمسك عليكم خطأ، لأن عقاب المتهاون عندي شديد!
(صرخ فيهم بشكل مفاجيء)
-لليمين در

داروا لجهة اليمين بحركة مهنية شديدة المهارة، وبعد ثوانٍ قليلة قال عمران بذات النبرة، والصفارة بين شفتيه:
-15 دورة حول الساحة بدون توقف، إنطلاق

انطلقوا في خطٍ واحد، وقبل أن يتحركوا بخطوتين هتف عمران بصوتٍ جاد:
-مساعد تعال

تقدم منه مساعد بطواعية وإستغراب، اقترب منه ووقف مقابلًا له، قال عمران بهدوء:
-أنت معفي من التدريب، بإمكانك تجلس لين ينتهون

عض مساعد شفته من الداخل بغضب شديد، وارتجف جفنه من شدة حنقه، همس رغم ذلك:
-طال عمرك تبيني أجلس في الظل وأنا أشوف زملائي يتدربون ويتهيئون
عمران بذات الهدوء:
-ايه نعم هذا المطلوب منك، وأنا آمرك

تراجع مساعد خطوة فقط، خطوة صغيرة مشتعلة، قائلًا بغضب:
-منهو فيهم، منهو؟ أبوي ولا أخواني ؟

استشاط عمران غضبًا:
-مساعد قصر حسك، ولا واحد فيهم لا أبوك ولا أخوانك، هذا كلامي أنا .. وكلام دكتورك ! جسمك ما زال في طور التشافي بعد غيبوبة طويلة، عضلاتك محتاجة علاج طبيعي حتى ترجع مثل ما كانت بشدتها، وأنت تبي تجهد نفسك بتمارين شديدة، هذا العلم ماهو مقبول

هو لم يخبره أن أخيه الأكبر فعلًا اتصل به، وترجاه بشدة أن لا يعيد مساعد لساحات التدريب ورمي نفسه في المهمات الصعبة فهو ليس مستعدًا بعد، وذيّل كلامه بأن لديه التقارير الطبية التي تثبت صحة كلامه

لكن لم يرد لمساعد هذا الوجع، وجع أن يُقرر مصيرك بيد غيرك لمجرد أنك أصبحت بلا فائدة، أو عالة على فريقك

مسح مساعد وجهه بقل صبر:
-افهم من كلامك إن حتى هذه المهمة راح تقصيني منها ولا عاد أقدر أشارك معكم ميدانيًا؟

عمران بجدية بالغة:
-عليك نور، لين تلتزم بجلسات العلاج الطبيعي راح تكون في قمرة القيادة وتأمن لنا المعلومات الصحيحة بالتعاون مع مخابرات الشرق، وهذا قرار أخير يا مساعد، لا تجادلني فيه إلا إذا تبيني أصعد الأمر للواء
(ثم أكمل بسخرية ضاحكة)
-وأجيب لك أمر من فوق مثل ما جبته لي

مساعد بغضب، وهو يتكلم بأريحية:
-أنت تنتقم، تنتقم مني على إني جريتك من ذيك الديرة غصب عنك، بس لاااا ! والله لو تجيبونها من الملك برأسه ماني قاعد مثل الحريم أندب حظي

عمران يرفع سبابته في وجهه، بحدة:
-اص ولا كلمة، أنت واحد متهور وما تحسب لحياتك حساب، قبل سنة ونص رميت نفسك قدام رصاصاتي بدون تفكير وهالمره ناوي تلقي بنفسك لين نواريك تحت التراب، هاه ؟ هذا اللي تبيه؟

-"نموت في سبيل الواجب فدى، بإذن الله شهداء"

قالها بجمود، ليردف عمران بقوة:
-هذا ماهو فداء وتضحية، أنت تلقي نفسك بالتهلكة وبشرع الله هذا حرام، تبي تصير منتحر أو شهيد؟
(التفت ينظر للثلاثة الذين يركضون، وصفر بصفارته مناديًا)
-رااابح اثبت في الخط لا أتوطاك
(ثم عاد بنظراته نحو مساعد الواجم، وبجدية)
-احنا محتاجين الحين ذكاءك المخابراتي، محنا محتاجين قدراتك الجسدية! أمشي لمركز العمليات وأبحث لي عن الإبرة اللي داخل القش، إنصراف

انصرف مساعد وهو يدك الأرض بخطاه، يبدو أن عمران مصمم على أمره هذه المرة، ولن تردعه قوة عن التراجع، فاستجاب صاغرًا لأمره، واتجه نحو قمرة القيادة
قال عمران وهو يتبع خطواته:
-أكفر ذنبي فيك لذلك ما راح أسمح لك يا مساعد، ويا كثر الذنوب اللي أبي أكفرها
أنت، ريمان، غسان، وساعي .. والقائمة تطول



*
*


حل الليل على سماء البلاد، وازدانت السماء بالنجوم المتلألأة بضوءها الخلاب

ها هم قد عادوا مثل سالِف عهدهم، عائلة مترابطة، على قلبٍ واحد وروحٍ واحدة.
يجلسون في صالة المنزل، يحتسون الشاي بعد العشاء وبجانبها كعكة قد صنعتها سبأ بمناسبة عودة أبيها لأمها -وإن كانت لم تصرح-
يجلس زاهد بجانب شيخة المتأنقة، يده خلف ظهر الكنب، ويده الأخرى تحمل كوب الشاي، وإبتساماته تتسع في كل مرة يتحدثون فيها أبناءه بمواضيع شتى

قالت سبأ:
-زبدة الموضوع يا يبه إني راح أغير تخصصي الترم الجاي، أنا ما أصلح للأحياء والكيمياء

يرتشف وهاب من شايّه، ساخرًا:
-أنتِ ما تصلحين لشيء خير شر، أنتِ مكانك البيت تحت عيون أمي وأبوي، وتسوين لنا كيكات كل يوم
سبأ أمالت فمها:
-سخيفة منك يا وهاب، وما تضحك! بعدين يكون بعلمك أي فشل يحصل لي أعوزه لك
وهاب بسخرية:
-والنجاح؟
سبأ بفخر عميق:
-طبعًا لأبوي الله يطول لنا بعمره

ابتسم حينها إياس الجالس بجانبها مثلما ابتسم زاهد:
-افا يعني الفشل لوهاب والنجاح لأبوي، أخوك الفقير ما خذيتي منه شيء؟
التفت نحو سبأ، وانحنت تقبل كتفه:
-فديتك، أنت ماخذين منك الذوق والرقة والمراعاة كلها، يا أطنخ ملازم إطفائي في وزارة الدفاع وما جاورها

تعالت الضحكات اللطيفة بعد غزلها الرقيق بأخيها، ليلتفت وهاب لوالدتها السارحة قائلًا:
-يمه أنتِ الحكم، بنتك ذي على من طالعه؟

ابتسمت شيخة بتكلف، وعقلها مشغول بقرب زاهد الغريب، وشبه إحتضانه لها أمام الأبناء:
-بنتي طالعة علي خُلقًا وخَلقًا واللي عنده غير ذا الكلام يواجهني

صفّر وهاب من بين أسنانه:
-روووح انطلق، أموت على هالثقة يا أم وهاب، بس ما بكأنك سحبتي على وهاب؟ على أساس أنا ولدك المفضل
شيخة بذات الابتسامة المتكلفة:
-كلكم غاليين علي يا أمك، ماعندي أغلى منكم

قطع حوارهم في هذه اللحظة رنين هاتف إياس، أخرجه من جيب ثوبه ورفع الخط مباشرةً، فهذا هاتف العمل:
-نعم
(بعد فترة صمت تغضن فيها جبينه هتف)
-تم، مسافة الطريق

وقف بعجلة وهو يودع أهله الجالسين، مثل العادة في كل مرة يتلقى فيها إستدعاءً، وداع أخير:
-عن أذنكم يا جماعة الدوام مستدعييني، استودعتكم الله الذي لا تضيع ودائعه

وقفت شيخة بجزع، وتبعته نحو الباب وهي تشهق بخوف:
-يمه إياس، لحظة تعال وين أنت رايح؟ تكفى يا أمك لا توجع قلبي عليك
التفت نحوها إياس، بعد أن وصل إلى باب الصالة وقبل رأسه:
-يمه الله يهديك وين أروح غير شغلي، دعواتك لي ولا تحاتيني

انسكبت دموعها على خدها بسرعة، وقلبها يؤلمها في كل مرة يخرج فيها إياس من المنزل، زاهد الذي وقف بجانبها قال بجدية:
-شيخة الله يصلحك ما يحتاج في كل مرة يطلع فيها الولد تسوين هالمناحة، استودعيه الله، هذا نداء الوطن لازم يستجيب له
(ثم نظر نحو إياس القلق والمستعجل)
-روح وأنا أبوك الله معك، وإذا خلصت شغلك اتصل فينا

خرج إياس بعد كلام والده يركض بخطواته، فهو قد تلقى بلاغًا من رئيسه في العمل أنهم بحاجته لمهمة إنقاذ

فـ بناية كبيرة احترقت، وبدأت بإلتهام الحي والميت



*
*


وصل إلى المكان المنشود أخيرًا، رفع السلك المعدني المقطوع على شكل باب حتى يتسنى له المرور من أسفله، مشى بخطواته حيث يرى إشتعال النار، في عز الصيف

اقترب بخفة الثعلب، لكن ذاك الجالس أمام النار تفطن إلى الصوت القادم فالتفت بسرعة كبيرة
ابتسم عمران بهدوء:
-اخ عليك ما يمدي حتى افاجأك

نظر له الآخر بنظرات غير مصدقة، وهو ما زال جالسًا غير مستوعب لهيمنة وجوده، رأى يد عمران وهي تمتد فتبعها بنظراته

أخيرًا شبك كفه بكف عمران، ليشده الأخير حتى وقف بصورة صحيحة واحتضنه بخفة:
-عيب عليك ما جيت ترحب بخويك وهو راجع من غيبة

كان صامتًا حتى بعد أن ابتعد عن حضنه، وطال صمته كثيرًا .. حتى قال بعد فترة:
-متى رجعت؟
جلس عمران بجانب النار، فجلس الآخر بقربه:
-مالي إلا أمس موجود بالديرة، لا تقول لي إنك ساعي ما حط عندك خبر؟ أجل أثره صادق يوم يقول انشغلت في الفرن اللي أسسته!

نظر له ذاك بنظرات تمعن كثيرًا ما يندهش منها عمران، كأنه يختزن تفصيلات وجهه واحدة تلو الأخرى، فقال:
-ماشفت ساعي من فترة، مقاطعني بغير وجه حق

اتكى عمران بكوعه على المركى الذي يضعونه في ( الميدان )، ميدان شاسع جدًا محاط بسياج حديدي وحشائشه قليلة جدًا، كثيرًا ما مارسوا فيه هواية الصيد والقنص، وكثيرًا جدًا ما سهروا حول ( شبة النار ) بداخله

ليس ملكًا لأحد، ولا يعلمون لما وضع السياج الحديدي إن لم يكن له مالك، رغم ذلك .. ظلت تجمعاتهم في هذا المكان نشطة على مدار سنين

تأمل عمران وجه الذي أمامه، عدوان، وجهٌ ذو رجولة مفرطة، ووسامة قاسية جدًا، تستطيع من بعيد تمييز حدة عينيه وبريق سواد بؤبؤهما، كثافة رمشه كسيوف مصطفة بمواجهة العدو، وحاجبين كثيفين بهما جرحين متشابهين!

هذا الرجل الذي أمامه، عاقلٌ حد الإرتياب، بل قليل الابتسام وهادي بشكلٍ يجبرك على الاحترام، رغم أن عدوان يصغر عمران بثلاثة سنوات، لكن التقدير الذي يكنه له يكبره بكثير
التفت حوله بحنين، وأردف بابتسامة:
-الميدان يا عدوان
-"الميدان يا عمران"

قالها عدوان بهدوء، فضحك عمران ضحكة رجولية كانت سببًا في رسم ابتسامة صغيرة الآن على ثغره:
-وش اللي صار بغيابي؟
-"ماعاد نتجمع في الميدان مثل الأول يابومحمد، كان خيرك مغرقنا ووجودك جامعنا، ويبدو إن الأول تحول"

قالها عدوان فالتفت نحوه عمران بهدوء:
-ساعي انشغل بأبوه ومرضه، تيمور شد رحاله للمدينة بعد ما تم قبوله بشكل رسمي كمصور ومحرر لأكبر الشركات الإعلامية في البلد، أنت فتحت لك الفرن وقطعت مساييرك عن باقي الديار! أنا ما سليت عن علومكم وأنتو غيابي فرقكم، وش هالهشاشة يا عدوان؟

قال عدوان بذات الهدوء:
-لا تعاتبنا ياعمران، السنين هذه كانت كافية تغيّر فينا، ما صفت لنا الدنيا بكل أيامها
-"وش علتك؟"

قالها عمران بإستفسار، فقال عدوان بتصميم هادي:
-مابي من علة، ما أشكي من شيء، أنا اللهم لك الحمد بخير ونعمة وسلامة ! بقربكم ولا بعيد عنكم
ضحك عمران:
-اوف، لالا حاقد من قلب، أجل مافرقت عن ساعي شيء، جعلكم فداء أبو ترنيم ماغيره اللي مبرد خاطري

صمت عدوان دون رد، وانشغل بالنظر إلى النار المشتعلة بلونها الأحمر ثم الأصفر، حشراتٌ قليلة تحوم بالقرب منهم، لا ريح ، ويجلسون في حرارة رغم إنتصاف الليل

قال عمران بابتسامة هادئة:
-دامك استقريت في عملك، أتوقع إنه جاء الوقت اللي ندور لك فيه على عروسة
عدوان بسخرية:
-تبشر على هالخشم، دور البيت اللي يقبل بواحد مقطوع من شجرة ويبشرون هله بالغنايم الطيبة

زفر عمران بصوتٍ مسموع:
-ردينا عالطير ياللي، عمرك ما تشبع من ذي السيرة! أبد يا عدوان أزهلها مية بيت طيّب راح يرضى بواحد مثلك وشرواك
-"إذا أنت تزوجت بعد طلاقك، لحقتك أنا"

قالها عدوان بخبث باسم، فقهقه عمران وهو يتراجع للخلف:
-خلاص هي مرة وتوبة، والظاهر أنت بتظل عزابي طول عمرك

رن هاتفه الثريا الذي يحمله معه دائمًا، فغالب الأوقات هذا المكان مقطوع من شبكة إتصال، رفع الخط وأنتظر كلام من خلفه، سرعان ما قفز بشكل مفاجيء لعدوان وهو يستمع للطرف الأخر:
-حريق كبير في إحدى البنايات؛ ضحايا من المدنيين والأمنيين، نحتاج وجودك





الخوف
.. وما الخوف ؟
لا تخافي علي
من الحروب الدائرة
في سمائي
خافيّ علي من غضبها
حين ترميني
بحجارةٍ
من سجيل
خافيّ علي من غيابٍ
أبدي
من سجنٍ مظلم
بزوالٍ
أخير


انتـهى ❤


الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 22-07-22, 03:13 PM   #26

BNO1957
 
الصورة الرمزية BNO1957

? العضوٌ??? » 456128
?  التسِجيلٌ » Oct 2019
? مشَارَ?اتْي » 233
?  نُقآطِيْ » BNO1957 is on a distinguished road
افتراضي

اولا شكرا على هالفصل الحلو

ساعي : كنت عارفه انه وراء هاللسان قصة ومثل ماقال علي بن ابي طالب رضي الله عنه ( ”ما أضمرَ أَحدٌ شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه، وصفحاتِ وجهه.”)
بس صدمني انه طلع شاعر ويكتب قصايد مايليق 😭

هادي : واحساسه بالضياع بين تزويجه ل بناته وبين اهدار كرامته مع اخوه ! هل بنشوف المناوشات بينه وبين اخوه او بيسلك الطريق الثاني "تزويج البنات " !

هثيم : من اول ظهور له ماحبيته واحساسي كان بمحله شخصيه مغروره متحكم يبي الدنيا تمشي على مزاجه الله يصبر حياه عليه وتخليه يمشي ع الصراط المستقيم

حنين : " ان ما قدرت اكون ام ، ماقدر اكون زوجة " علامة استفهام ⁉ هل حنين كانت متزوجه سابقا؟ هل هي عقيمه ؟ او هل معنى كلامها شي ثاني ؟

مشهد عمران في ساحة التدريب حسيت اني عشت معهم المشهد كان واقعي وبقوه بس جملة عمران استوقفني " أكفر ذنبي فيك لذلك ما راح أسمح لك يا مساعد، ويا كثر الذنوب اللي أبي أكفرها
أنت، ريمان، غسان، وساعي .. والقائمة تطول"
مساعد : وعارفين السبب
ريمان : للآن مانعرف شقصتها هل هي حيه ؟ اما ميته ؟ وان كانت حيه واتوقع هالشي وينها ؟
غسان : شبه عرفنا قصته مع عمران
ساعي: عجزت اعرف شنو ذنبه اتجاهه !

عائلة زاهد : العلاقة الاخويه مره لطيفه بينهم اتمنى ماتخترب بس عندي احساس انه النداء ل " اياس " ماراح يمر مرور الكرام احس بيصير شي بهالحريق

عدوان : واضح انه شخصيه محترمه غامض رزين بس واضح ماخذ موقف من الدنيا بسبب جملته " دور البيت اللي يقبل بواحد مقطوع من شجرة "

عمران : اكتشفنا انه مطلق ؟ من هي طليقته وماسبب طلاقه عندي شك بس بحتفظ فيه لنفسي !
بس علامة استفهام كبيره على النداء اللي جاءه اخر شي ؟ احس انه هو ماله دخل بالحريق يعني قسمه مايتدخل بالحرائق ف واضح انه الحريق في مكان يخص القضيه .


BNO1957 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 24-07-22, 11:46 AM   #27

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة bno1957 مشاهدة المشاركة
اولا شكرا على هالفصل الحلو

ساعي : كنت عارفه انه وراء هاللسان قصة ومثل ماقال علي بن ابي طالب رضي الله عنه ( ”ما أضمرَ أَحدٌ شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه، وصفحاتِ وجهه.”)
بس صدمني انه طلع شاعر ويكتب قصايد مايليق 😭

هادي : واحساسه بالضياع بين تزويجه ل بناته وبين اهدار كرامته مع اخوه ! هل بنشوف المناوشات بينه وبين اخوه او بيسلك الطريق الثاني "تزويج البنات " !

هثيم : من اول ظهور له ماحبيته واحساسي كان بمحله شخصيه مغروره متحكم يبي الدنيا تمشي على مزاجه الله يصبر حياه عليه وتخليه يمشي ع الصراط المستقيم

حنين : " ان ما قدرت اكون ام ، ماقدر اكون زوجة " علامة استفهام ⁉ هل حنين كانت متزوجه سابقا؟ هل هي عقيمه ؟ او هل معنى كلامها شي ثاني ؟

مشهد عمران في ساحة التدريب حسيت اني عشت معهم المشهد كان واقعي وبقوه بس جملة عمران استوقفني " أكفر ذنبي فيك لذلك ما راح أسمح لك يا مساعد، ويا كثر الذنوب اللي أبي أكفرها
أنت، ريمان، غسان، وساعي .. والقائمة تطول"
مساعد : وعارفين السبب
ريمان : للآن مانعرف شقصتها هل هي حيه ؟ اما ميته ؟ وان كانت حيه واتوقع هالشي وينها ؟
غسان : شبه عرفنا قصته مع عمران
ساعي: عجزت اعرف شنو ذنبه اتجاهه !

عائلة زاهد : العلاقة الاخويه مره لطيفه بينهم اتمنى ماتخترب بس عندي احساس انه النداء ل " اياس " ماراح يمر مرور الكرام احس بيصير شي بهالحريق

عدوان : واضح انه شخصيه محترمه غامض رزين بس واضح ماخذ موقف من الدنيا بسبب جملته " دور البيت اللي يقبل بواحد مقطوع من شجرة "

عمران : اكتشفنا انه مطلق ؟ من هي طليقته وماسبب طلاقه عندي شك بس بحتفظ فيه لنفسي !
بس علامة استفهام كبيره على النداء اللي جاءه اخر شي ؟ احس انه هو ماله دخل بالحريق يعني قسمه مايتدخل بالحرائق ف واضح انه الحريق في مكان يخص القضيه .


هلا والله ❤

مايلييييق ليه ياويلك كله ولا ساعي ههههههههههههه ، بس مالومك تشكلت بعقلك إن شخصية ساعي شخصية شرسة وقاسية،

آخر جملتك فيها الكثيييير من الصحة، وصحيح ممكن يحصل تعاون بين القوات الخاصة والدفاع المدني، لكن بأي شكل ممكن يكون ؟ إذا كانت جريمة، وطرف خيطها متعلق بالقضية!

شكرًا ياحبيلك بنو


الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 30-07-22, 02:23 AM   #28

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم

*
*


(5)



*
*

دخل إلى مركز العمليات بعد إرتداءه البذلة العسكرية على عجل، صادف هناك فريقه، مساعد ورابح وفزاع .. بلا حكيم
وقف أمام شاشة عريضة تعرض تصويرًا جويًا بواسطة طيارة بلا طيار ( الدرون ) لبناية من 10 طوابق أوسطها بدأ مترمدًا والسواد يحيط منتصفها، قال عمران بجدية:
-وش الوضع؟

مساعد الجالس أمام الشاشة، ويتحكم بلوحة المفاتيح بسرعة:
- تمت السيطرة على الحريق الهائل، التقرير الأولي يشير إلى وجود ضحايا من الجهتين ما ندري عددهم حتى الآن

تمعن عمران في التصوير الجوي أمامه، ذكر اسم الحي بصوتٍ عالٍ ثم أردف بإستفسار:
-حريق ينشب في بناية جديدة وحي راقي، وش اللي يحصل؟

قطع مساعد التصوير الجوي، فظهرت شاشة بيضاء، خرجت بعدها بشكلٍ متوالٍ صور متعددة ذكرها مساعد واحدةً تلو الأخرى، ليقول بإستنتاج:
-المجمع تم بناءه قبل سنتين بقدر عالي من الأمان والسلامة، الوحدة الثانية هي اللي نشب فيها الحريق وبدأ من الطابق الثاني في الشقة رقم 8، انتشار الحريق بهذه السرعة دلالة على تعطل صفارات الإنذار لأن وحدات الدفاع المدني ما استلمت البلاغ إلى بعد مرور ربع ساعة وقد وصل الحريق إلى الطوابق 3, 4 و 5، والأهم الأهم من كل هذا ..
(أظهر مساعد صورة رجل متهندم في منتصف الخمسينات، وقال بابتسامة)
-المجمع ملك لواحد من أغنياء الدولة، شوفة عينك

تغضن جبين عمران، ولم يستنتج بعد ما علاقة الرجل الأخير بالحريق، فقال فزاع حين رأى معالم عدم الفهم:
-هذا واحد من الكبارية اللي كان له تعاملات غير شرعية مع أعوان الشبح، ألقينا القبض عليه ويقضي محكوميته الآن في سجون الدولة

اشتعلت ذهبيتاه حين التقط فجأة القصة المعروضة أمامه، أردف بحدة:
-ينتقم منه في الأبرياء، ولأنه داخل السجن قرر أولًا ينهي وجود ممتلكاته قبل لا ينتهي منه
(وبجدية بالغة أردف للثلاثة أمامه)
-مساعد استخرج لي تصريخ دخول ما بعد الحاجز في موقع الحريق، فزاع ورابح تواصلوا مع المديرية العاملة للسجون وأمنو سلامة السجين مع تشديد الحراسة عليه داخل وخارج الزنزانة، أعطو مدير السجن أمر بسرية المهمة .. حكيم وينه؟

دخل في هذه اللحظة حكيم منقطع الأنفاس نظير هرولته من موقف السيارة حتى مركز العمليات، فور دخوله هتف عمران بجدية:
-زين وصلت، أمشي معي أحتاجك
-"تحت أمرك سيدي، بس وش اللي صاير؟"

جذبه عمران من عضده، وقال بذات الجدية:
-بشرح لك في الطريق
(التفت بشكل مفاجيء نحو مساعد حين تذكر أمرًا ما)
-أي وحدة استلمت البلاغ؟

ذكر له مساعد اسم وحدة الدفاع المدني مرفقة باسم الفرع، فتصاعد القلق على روح عمران وهو يعلم إحدى إطفائي ذاك الفرع، داعيًا بداخله " اللهم سلم، اللهم سلم "

في الطريق شرح عمران لحكيم ماحصل، وما هي إلا دقائق قليلة حتى وصلا ونزلا من السيارة

كان الجمع قد انفض بعد السيطرة على الحريق، لكن الفوضى ما زالت بذات صورتها، تقدم عمران
رفع ورقة التصريح، وعرّف بنفسه بصوتٍ منخفض للشرطي الذي يقف أمام الحاجز، والذي سمح له بالمرور

وقف إلى جانب رئيس الإطفائيين، سلم عليه وقد اندهش من وجوده، حضور شخص مثل عمران في هذا الوقت وإلى هذا المكان دليل على شيءٍّ واحد، أن النيران الحارقة .. مفتعلة، همس:
-حياك يا رائد عمران
-"الله يحيك، تقرير للوضع؟"

قالها عمران، ليمسح رئيس الإطفائيين وجهه المسود من شدة تكاثف الدخان بمناديل ورقية:
-فريق المحققين داخل يبحث عن سبب نشوب الحريق، مع الأسف عندنا ضحايا تم إسعافهم لأقرب مستشفى من المنطقة
-"الخسائر؟"
-3 من الإطفائيين، و7 من المدنيين، تتراوح إصاباتهم بين المميتة والمتوسطة

زفر عمران بغضب حانق، قال محاولةً مسك زمام التوتر:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، اسمعني يا رئيس، لكم ربع ساعة في هالمكان بعدها انسحبوا، الشرطة والقوات راح تكمل عنكم ما بدأتوه، أيًًا كان التقرير اللي يحمله فريق المحققين فـ راح تحتفظون بسريته

هز رئيس الإطفائيين رأسه بطواعية، ابتعد خطوتين فقط حين رفع عمران هاتفه وبدأ بتوجيه إتصالاته السريعة إلى قادته، فور إنتهاءه التفت إلى الرئيس الصامت بسؤال متوجس:
-إياس بن زاهد، شارك معكم في العملية؟

هز رأسه، لا يعلم بيأس أم بفخر، لكنه قال:
-نعم، وهو واحد من الإطفائيين الثلاثة

كبت عمران شتيمة كادت تخرج من فمه، ولم يسعه الوقت ليسأل الرئيس إن كان من الأحياء، أو الشهداء لأن حكيم قد وقف بجانبه بعد أن اختفى لدقائق فور وصولهم

ركب سيارته وركب بجانبه حكيم وما زال قلقًا يفكر في إياس، التفت نحوه متغضن الجبين وبنبرة يحفها الغضب:
-وين اختفيت أنت يوم وصلنا ؟
-"رحت أمشط البناية بشكل سريع"
-"وش حصلت؟"

قالها عمران ليرفع حكيم من جيبه قطعة سوداء مربعة وبابتسامة ضاحكة:
-تسع كاميرات مراقبة ما بين محروقة ومخربة تخريب واضح، العاشرة كانت في الزاوية وهذه ذاكرتها، إن أسعفنا الحظ فنقدر نلقط منها طرف خيط

همس عمران مغيرًا طريقه بنبرة جافة:
-ما راح نترك شيء للحظ، واحد زائد واحد يساوي اثنين، مفهوم يا حكيم؟
حكيم بهدوء:
-مفهوم طال عمرك، بس محنا راجعين لمركز العمليات ليش ماسك طريق المستشفى؟

قاطع جوابه، رنين هاتف عمران الذي أنار باسم " زاهد بن إبراهيم "




*
*

قبل ذلك بنحو ساعة ونصف

حين تلقى إياس البلاغ بنشوب حريق في بناية جديدة مع إحتجاز مدنيين بداخلها، هرع مباشرةً إلى مكان عمله، وجده في فوضى وإزعاج عارميين، صفارات النداء تعمل بشكل متواصل، رجال الإطفاء يستعدون للإنطلاق بإرتداء بذلاتهم الواقية من الحريق والركوب في سيارات الإطفاء

تقدم منه أحد زملاءه وهو يصرخ فيه حتى يسمعه:
-استعجل، رئيس الإطفائيين ينتظرنا في موقع الحدث

سارع إياس بإرتداء بذلته هو الأخر، وإرتدى كذلك الخوذة الواقية، وركب في آخر سيارة إطفاء متجهة إلى مكان الحريق

كان يستمع إلى النداءات المتواصلة عبر جهاز الاتصال اللاسكي الذي يصرخ بها رئيسه مرة، ومرة رجال الإطفاء وهو يستودع الله نفسه وروحه

وصلت السيارة إلى موقع الحدث، كانت إنارة المجمع مغلقة بالكامل بعد نشوب الحريق، وبريق النار يتراقص من الوحدة الثانية، تجمهر الناس خلف الحاجز الذي وضعوه، تزايد صراخ الأهالي ورعبهم، وارتفع صوت سيارات الإسعاف وصوت الهيلوكبتر التي تحوم أعلاهم، إضطراب وزعزعة يشهدها الموقع لأول مرة

نزل إياس وزميله مباشرة متجهيين إلى حيث يقف الرئيس يصرخ ويرمي الأوامر، يقول بعجلة:
-أخلوا الوحدتين الأولى والثالثة، أمنوا سلامة المدنيين أولًا
-"سيدي تم إخلاء الطابق الأول والثاني، الحريق بدأ يصعد إلى الثالث"

قالها أحد رجال الإطفاء للرئيس، ليلتفت الرئيس إلى اثنين من الإطفائيين:
-أجلوا المدنيين من الطابق العاشر والتاسع والثامن والسابع والسادس إلى السطح، مروحيات الإنقاذ في طريقها للموقع، مانقدر نغامر بنزولهم من سلالم الإخلاء

استجابوا له، اقترب إياس هذه اللحظة من الرئيس وقال بجدية:
-سيدي وش عن الطابق الثالث والرابع والخامس؟

التفت له الرئيس، وقال بنبرة صارخة نتيجة الأصوات العالية:
-اقتربوا

قالها فاقتربت منه المجموعة الواصلة للتو ومن بينهم إياس، أخرج جهاز محمول كان قد سلمه إياه رجل الاستقبال يحوي خريطة تفصيلية للبناية، قال بذات النبرة:
-الحريق نشب في الشقة رقم 8، أصحاب الشقق في الطابق الثاني أول ما سمعوا الإنفجار الأولي انسحبوا وخرجوا للخارج، الشقة المحترقة فاضية
(أكمل وهو يؤشر مخبرًا إياهم بالخطة )
-فريق ألف يحاول يوقف الحريق من الطابق الثاني والثالث ولكن بسبب الإنفجارات اللي تساعد من إنتشاره فهم للآن يحاولون، فريق جيم صعد يجلي المدنيين للسطح قبل وصول الحريق للطابق السادس فما فوق، من حسن الحظ أغلب الشقق فاضية لوجود أصحابها في إجازاتهم الصيفية

رفع نظراته إليهم وهو يقول بصرامة عملية:
-فريق باء، راح تصعدون عن طريق سلالم السيارات للطابق الرابع ومنها للخامس، تأمنون سلامة المدنيين أولًا ثم تسيطرون على الحريق في حال صعوده ثانيًا، عُلم؟

-"علم سيدي"

أكمل رئيس الإطفائيين كلامه:
-توجهوا للجانب الغربي، وانتبهوا من استخدام سلالم الإخلاء
(صرخ وهو يؤشر بيديه لإحدى سيارات الإطفاء)
-للجهة الغربية الجهة الغربية، ابدأو برش الماء على الطابق الثالث وانتظروا إشارة قائد الفريق
(نظر لإياس بصرامة)
-ملازم إياس، القيادة بيدك، انتبهوا لأنفسكم

هز إياس رأسه بذات الصرامة والقوة، أمر فريقه بالتحرك إلى الجهة الغربية لإيجاد مدخل للبناية، فور وصولهم مشط المكان بعينيه بشكل سريع، ثم التفت نحو إحدى زملاء المهنة المكنى بـ"أبو سهيل":
-الطابق الرابع، النافذة الثانية من اليمين، راح ندخل عن طريقها

استجاب له أبو سهيل فالتفت إلى سيارة الإطفاء صارخًا:
-السلم، هاتو السلم

إياس بذات النبرة:
-راح أصعد أولًا افتح لنا مجال ثم أعطيكم الإشارة، أنت وراكان اصعدوا وراي والباقي ينتظرونا تحت عشان يتلقفوا المدنيين، عُلم؟
-"علم سيدي"

خطط إياس لخطة معقدة رغم بساطتها، وكانت الأمور تمشي بسلاسة رغم إرتياع المدنيين، لكن حصل ما لم يكن بالحسبان.




*
*

" ياشيخة اهدي واللي يسلمك، وترتي نفسك وعيالك معك، هذه سبأ رايحة راجعة علينا ووهاب معسكر في الصالة اللي فوق، أهدي واذكري ربك"

قالها زاهد لشيخة التي تروح وتجيء في صالة الجناح، متوترة !
والتوتر مسمى قليل على ما تشعر به، قلبها يضطرب بنبضات متقافزة ما هدأت منذ خروجه، ومع كل دقة تشعر بإنسحاب دمها رويدًا رويدًا من وجهها، فمها، عينيها

لا يلومها أحد، هذا فلذة كبدها، أول أفراحها، من راهنت به مصائب حياتها
لم يكسر "عشمها" فيه قط، ناولها من روحه قبل أن تفعل، خط معها أولى حروف الأمومة ومارست عليه جميع أنواع المشاعر
مشاعر أمٍ كانت، أم أخت، أم صديقة، أم محبوبة

وأن يطلب منها زاهد أمرًا كالهدوء، لضربٍ من الجنون
كيف تهدأ من باتت في أربعة منازل، كل واحدةٍ منها تكيل حبًا لا ينضب للإياس

لذا قالت بغضب متوتر:
-زاهد إذا منت قادر تستحمل شوفتي كذا اطلع وخليني أكل نفسي بنفسي، كأنها أول مرة

زاهد بجدية، فإن لم تسقط هذه المرأة من قلقها فستسقط من دوارها بسبب حركتها:
-وعشانها مو أول مرة أنا أقول أهدي، مو معقول توترين البيت بحركتك وكأن إياس أول مرة يطلع بمهمة، صار له 7 سنوات في هالمجال

جلست على الكنبة حين أحست بإنعدام الجاذبية عليها، وقالت بنبرة هلعة باكية:
-كله منك يا زاهد، كله منك شجعت عيالك على أخس الوظائف، اثنينهم ما يطلعون من البيت الا وشايلين أرواحهم في كفهم، وأنا ماغير روحي بروحهم

جلس زاهد بجانبها، وبنبرة جاهدت على أن تخرج حنونة رغم جفافها:
-عيالك كبار ومسؤولين عن قراراتهم، هذه رغبتهم وأنا شجعتهم عليها، ودامها في سبيل الله فنحسبهم شهداء بإذن الله

شهقت، لطمت صدرها وبنبرة باكية التفت إليه:
-لا تفاول على عيالي لا تفاول عليهم .. آه ياويحي على ولدي ، آه يا يمه لا يروح مني
-"لا حول ولا قوة إلا بالله، أجيبك يمين تاخذيني يسار"

قالها زاهد ليقف بضيق، اتجه نحو باب الجناح ونده من خلفه:
-يا سبأ يا بنت، تعالي
قدمت تلك بخطوات سريعة متوترة ومن خلفها وهاب، وقفت أمام والدها :
-سم يبه؟
فتح الباب على مصراعيه ورأت أمها منكبة على نفسها تبكي بكاءً موجعًا، سارع زاهد بالقول:
-أدخلي لأمك، لا تتركيها لين تهدأ أنا مو ناقص توتر

دخلت سبأ جناح والديها وأغلقت الباب وراءها بعد أن خرج زاهد وأعطاها المجال، نظر وهاب لأبيه فقال ذاك بإضطراب:
-يبه اتصلت في إياس؟

تنهد زاهد بقوة، اتجه نحو الصالة العلوية وجلس على أحد كنباتها:
-يا أبوك أنا ما أعرف طبيعة العملية ولا نوع البلاغ، ماقدر اتصل على الولد وهو في شغله

جلس وهاب بجانبه، وهو مرتديًا لقميص أبيض قطني وبنطال رمادي بذات القماش، فقد كان مستعدًا للنوم:
-بس مرت ساعتين من طلع يبه، وقلب أمي ما يبكي إلا لو فيه مصيبة بعيد الشر

عقد حاجبيه بعدم إيجاب:
-والله من الدلع، هذه طبيعة شغله وهو اختارها بإرادته، مو بس اختارها إلا عاشقها، أنا أبوه وقلقان عليه أكثر من أمه بس وش بيدي؟ هو لبى نداء الواجب نقدر نرده عنه؟
(أشر برأسه نحو غرفته)
-أمك وش فيها زايدة حالتها عن أول؟

زفر وهاب، اتكى بظهره على الكنبة وشبك يديه أعلى صدره:
-يبه ترا إياس ماعمره فز هالفزات إلا نادرًا، مهما كان نوع البلاغ فهو يجي لأمي بهدوء، يعلمها إن كذا كذا كذا ويطلع بسلام، بس واضح هالمره إن بلاغهم كبير

ازدادت عقدة حاجبيه، وهو يزداد قلقًا على ابنه، شبيهه وساعده الأيمن، ونصف روحه! لكن ما الحيلة ؟ ما الحيلة إن كان قد قدّم ابنه فداءً للوطن، وتعهد بصون النداء مهما كلف ؟

هتف وهاب حين رأى إنجراف والده في التفكير:
-ماتعرف أحد يخدمك يطمنا عليه؟
اعتدل زاهد في جلسته ورفع هاتفه:
-مالي غير الله ثم عمران ولد خالي يجيب لي العلم صدقه من كذبه



*
*
تقف في المطبخ سارحة التفكير، تقطع فاكهة البرتقال والتفاح إلى قطع صغيرة، كانت مرتدية لبيجامة نومها رغم أن الوقت ما زال مبكرًا عن موعد النوم

تشعر بأشواك حادة تنغرز بقلبها، وأن نزف دماءها قد امتلأت به روحها، لم تشعر بالإحراج كما شعرت به اليوم، إحراج ودت لو أن تنشق الأرض وتبتلعها ولا تتعرض له

أنزلت نظراتها نحو بطنها، وحين تذكرها فاضت عينيها بالدموع، يالقسوة الكلام حين يخرج بعفوية مصطنعة

سقطت دمعة وحيدة على الصحن أمامها، وتذكرت ما حصل اليوم حين كانت في بيت أهل غسان لوجبة الغداء

/
\

" فور انتهاءهم من وجبة الغداء استأذن غسان من والدته ليصعد إلى غرفته، كانو يجلسون في الصالة المفتوحة
يحتسون الشاي ويتنابون على الحديث، إلا هي ..

صامتة كما اعتادت في وجودهم، فكيف لها القدرة على مواجهة 10 أفواه نسائية يتحدثن بسرعة عجيبة، غير ذلك، فهي تفضل الصمت على الشك وسوء الظن

اقتربت منها إحدى أخوات غسان العشرة، وضعت يدها على بطنها بصفاقة وقالت:
-أنتِ حامل صح؟ حامل وتخبين علينا؟

التفتت إليها الأعين والأعناق، فأحمّر خدها خجلًا، حاولت الابتسام لتقول بلباقة:
-لا ياروحي مو حامل، ولو حامل أكيد ما خبيت عليكم

أمالت أخته فمها وتراجعت قليلًا للخلف:
-غريبة كرشك يقول إنك صايرة في الثالث، الرابع! يبي لك رجيم قاسي يا نسيم

قالتها بسخرية، لتتصاعد حرارة الإحراج من جسدها حتى شعرت أنها قد أوقدت النار من أسفلها
هتفت حينها والدته، بإمتعاض:
-الحمدلله ياربي من خير ولدي، وهي خليها تمتن عشان يشيل رحمها ضناه، الله يرزقه بالذرية الصالحة اللي تسعد قلبه وتريحه

غصت بعبرتها، زحف الإحمرار إلى عينيها المحتقنة وبهتت شفتيها، لا تعلم لما والدته لا تطيق لها صبرا، ليس خطأها أنها لم تنجب طوال سنوات وجودها مع غسان، فهي سليمة وهو كذلك، لكنها إرادة الله

-"صادقة يمه يبي لها سبعة أو عشرة كيلو زيادة، على هالجسم كيف بتشيل ولد أخوي"

قالتها أوسط أخواته، فابتسمت نسيم في وجهها ابتسامة وجلة بائسة، رغم أنها ليست بنحيفة، بل على العكس فهي ممتلئة بأنوثة جبارة،
شموخ كتفيها، إنثناء خصرها، ليونة جذعها، جسد أنثوي مكتمل كما تتطلبه المعايير الشرقية

ابتلعت المر حتى لا يقال عنها "قليلة أدب" وصمتت، الصمت الذي باتت تتقنه برفقة هذه العائلة كثيرًا، صمتًا لا تدري إن كان سيخلف وراءه بركانًا ثائرًا، أم موتًا مكلومًا"

\
/

أيقضها من سرحانها ودبيب نبضات قلبها صوت الهاتف، مسحت دمعها الذي تساقط بلا إرادة منها وجرت إليه، تحمحمت قبل الرد فاسم حنين كان ينير الشاشة:
-"هلا حنين .. طيبة الحمدلله .. انشغلت اليوم مع حمولتي وبيتي .. همم .. لا لا غسان مو موجود .. أكيييد حياك الله هاتي معك عمتي وتليد .. لا متأخر ولا شيء أنا انتظركن .. أبشري مع السلامة "

أغلقت هاتفها بعجلة، وسارعت إلى ترتيب الصالة الداخلية المرتبة أساسًا، صعدت إلى الأعلى لتغير ملابسها فليس لائقًا أن تستقبلهن بملابس نوم

وقفت أمام المرآة بعد إرتداءها فستانًا أبيضًا مشجر بألوان منعشة، هالها منظر وجهها المحمر، متى بكت كل هذا البكاء حتى يسترق اللون الأحمر من بيضاها؟

شفطت وجهها بالماء البارد، وضعت قليلًا من أحمر الخدود وأحمر الشفاة، رسمت عينيها الكحلاء بكحلٍ خفيف واكتفت ذلك

نزلت إلى الأسفل بعد أن أخذت نفسًا عميقًا، مستعدًا لإستقبال أختيها وعمتها




*
*
أغلقت حنين هاتفها ووضعته على طاولة الزينة، ألقت بنظراتها نحو وجهها العاكس في المرآة وسرحت لوهلة
قد أهمها صوت نسيم الباكي حين حادثتها، ولا تعلم لما أوجعها قلبها عليها، تلك الصغيرة الملتفة على ذاتها ماذا تخبي بعد عنها؟

تنهدت بخفة، هي الأخرى لديها ما تخبئه حتى عن أقرب الناس إليها، والدها ووالدتها، ولكم تخجل من خبيئتها عنهم
تمعنت في شعرها الليلي الطويل، وبشرتها اللؤلؤية، تبدو شفافة من شدة صفاءها، تقسيمة ملامحها الجذابة!

(ها أنتِ يا حنين، تمشين في عامك الواحد والثلاثين
تبدين بوجهٍ ناضج، يشع أنوثة، وقلبٍ كهل، يموت كل يوم
تحملين أثقالًا ترهق كاهلك، وأحزانًا تثقل سهد عينيك

رغم ذلك، آه انظري إلى نفسك، صامدة كأن ما كان لم يكن، وكأن ألم تلك السنون مجرد غرزة شوكة في اصبعك)

مسحت على وجهها ونزلت إلى الأسفل، رأت جلوس عمتها لوحدها:
-عمة وين أمي؟
قالت عمتها دون أن تنظر إلى وجهها:
-دخلت غرفتها

ابتسمت حنين بـ"حنان"، حين تريد عمتها معاقبتها فهي تصد بوجهها عنها، وتصوم عن الكلام معها، وها هي تتجاهل رؤيتها كأنها طيف غير مرئي

اقتربت منها، جلست بجانبها بل ملاصقًا لها، احتضنت عضدها بكلتا يديها، وأراحت خدها على طرف كفها:
-ياشين العمة إذا قلبت علينا، والله ما تهونين علي

تصلب ظهر هناء لوهلة، تنهدت بثقل قائلة بعد لحظة صمت:
-بس هانت عليك نفسك؟
حنين بهدوء، وما زالت على نفس وضعها:
-ما في أحد تهون عليه نفسه يا عمة، وعشان نفسي ما تهون علي هذاني محافظة عليها من الهموم اللي ترجينها

التفت إليها هناء، تمعنت في عينيها الحادة، وقالت بهمس:
-ياحنين الرزق يجي من الله، أنتِ ما تملكين عليه سلطة! لا تقولين ما أقدر أكون أم لأنك لا أنتِ ولا الأطباء أرحم من ربي
سحبت حنين يديها بهدوء مريب، أنزلت نظراتها نحو يديها البيضاء، وقالت بتقرير واقع مر:
-وإذا على قولتك ياعمة، هذا أنا أمشي في الواحد والثلاثين، وما عاد يتقدم لي إلا المعدد، أو المطلق، أو الأرمل

رفعت نظراتها نحوها، يالوجع هذا المحيا، حنين جميلة، جميلة جدًا، وبعيدًا عن جمالها فلديها عقلٍ واعي، وقلبِ طفل، رقيقة وتعلم كيف تثبت رقتها بقوتها، طموحة ورغم آلامها فهي تحارب ظروف الحياة بكل ما أوتيت من عزم
همست لها بعقلانية:
-ومن قالك إن الشر قد يجي من المعدد والمطلق والأرمل؟ واحد من هالثلاثة قد تشوفين معه حياة ربي ميسرها! لا تشينيها بعينك

حنين بتعب من هذه الحكاية:
-الله يخليك عمة قفلي على هالسالفة، أنتِ أدرى الناس بي لا تكونين معهم ضدي
اقتربت منها هناء، احتضنتها بحب خالص بالغ، همست له بحنو:
-ياحبيبتي ما عاش ولا كان من جاء ضدك، على قولتك أنا أدرى الناس بك وأنا وأنتِ أدرى باللي عايشناه سنة من السنين، بكرة تلقين نفسك لا سند ولا ولد، بتتحسرين على أيام مضت؟ هذه أنتِ ماكله نفسك بالحسرة، بس الحياة تمضي ياعمري
(نظرت لها وبنبرة جادة)
-فكري في الرجال اللي تقدم لك قبل لا يوصل طرف الموضوع لأبوك، أبو عدن مهب شين ترا، صحيح أرمل وعنده ولد بس ولده رجال متخطي العشرين سنة! وهو ماهو ناقصة شيء الحمدلله

صمتت حنين دون رد، والرد في هذا الموضوع قد حسم منذ زمن، لن تدخل نفسها في معمعة الحياة الزوجية ما دامت هناك قطعة (ناقصة)، وما دامت غير قادرة على الإنجاب! ماذا يريد رجل بإمرأة لا تنجب، وماذا تريد أمرأة من حياة بلا ولد، فلتعش أبد الدهر في كنف والديها

تراجعت من حضن عمتها، ابتسمت ابتسامة جميلة وقالت تغير مجرى الموضوع:
-أنا جيت أقولك شيء ونسيتيني، اتصلت في نسيم اسأل عنها وحسيت من صوتها إن توها باكية، فعزمت أنفسنا على بيتها، شرأيك نروح نسهر؟

ابتسمت هناء برقة:
-نروح ليش ما نروح، نسيم تعزم وحنا نلبي بعيوننا، فديت النسيم عسى غسان يعرف قدرها
وقفت حنين بذات البسمة:
-زين أجل قومي تجهزي، بنادي تليد ونطلع

أنهت جملتها وصعدت إلى الطابق العلوي متجهة نحو غرفة تليد، وجدت سطام يقف أمام بابها يحمل قطعة معدنية كبيرة وغريبة، سألته بحنو:
-سطام وش موقفك قدام غرفة تليد؟

تراجع سطام بحرج، لكنه أقبل عليها وقبل كتفها إحترامًا وتوقيرًا لها:
-انتظرها تفتح الباب أبي أوريها اللي سويته
بعثرت شعره بلطافة وهي تنظر إلى التحفة التي يحملها:
-يا ما شاء الله عليك، وش هاللي بيدينك؟
ابتسم سطام وأردف بنبرة حملت رجولة مبكرة:
-أولًا يا أختي الموقرة لا تلعبين بشعري كذا كأني بيبي، ثانيًا هذه وحدة من اختراعاتي اللي ما حصل الشرف إلا لك عشان تشوفينها، تليد النفسية مقفلة الباب عليها

ضحكت حنين وأخذت تقبل رأسه وجبينه:
-من قال إنك بيبي، إلا شيخ وسيّد الشيوخ كلهم، بسم الله ما شاء الله عليك، طيب علمني وش هالإختراع؟

أبدت الإهتمام، فهي فعلًا مندهشة من قدرة سطام على بناء شيء كهذا، هيئته توحي أنه تم بناءه من الصفر، لكن سطام لم يريحها وهو يقول متسائلًا:
-خلي اختراعي يبي له شرح لوقت طويل، أنتِ وين تبين تروحين؟

استغربت، لم تكن ترتدي عباءتها ولم تكن حتى متزينة للخروج، فكيف عرف؟ تساءلت:
-كيف عرفت إني أبي أطلع؟
-"سمعتك تقولين لعمتي بنادي تليد ونطلع"

ضحكت لوهلة، كانت قد شكت به شيئًا خارقًا للطبيعة، يا لهذا السطام كم يدهشها، أراحت فضوله:
-رايحين نسهر ببيت نسيم
-"لحالكم؟"
-"ايه لحالنا أنا وعمتي وتليد"

انتفضت الرجولة في صدره، وقال مدافعًا:
-مالك لواء، ماعندنا بنات يروحون بيت بنت لحالهم، لا وهالبيت بيت غسان، ما منه أمان
توسعت حدقت عينيها، سرعان ما تزايدت ضحكاتها، لتقول وهي تعبث بشعره مجددًا:
-جعلك ذخر لنا يابو نايف، أمشي معنا والله ما أركب السيارة دونك

اتسعت ابتسامته بفخر، مشى لغرفته حاملًا إختراعه الذي جاء يشرحه لتليد، من جهتها طرقت هي الباب على تليد وأمرتها بنبرة جادة أن ترتدي عباءتها وإلا نادت عليها والدها، فاستجابت تلك على مضض




*
*
تراقبه من سطح المنزل
تراقب خطوات مشيته العرجاء، جسده الضخم الملتف بثوبه الأبيض، ملامح وجهه الحادة بفكه العريض
تركز النظر في عينيه رغم سواد الليل، وآه من عينيه، مرآة للسماء وإنعكاس لنور النجوم!

ما أكثر الشعور التي تكنه لهذا الرجل الغريب، الرائع في غرابته
رجل لا يعرفها، ولا اسمها، ولم يلمح يومًا طرف يدها، لكن تشعر بأنه يخصها، بل يخص قلبها وحدها!

ليته يلتفت إليها، يبصر ثورة المشاعر التي تطفو على رجفة يديها، واحتقان عينيها، ورجفة شفتيها عند رؤيته
ليته يوليها إهتمامًا بسيطًا، فتحظى بروعة إبتسامته، وبهجة نظراته، وخشونة صوته

تبعته وهو يختفي ويبتلعه الظلام، تنهدت بصورة مسموعة ويدها تضغط على قلبها، مؤلم ما تواجهه، مؤلم حبٍ من طرفٍ واحد، ولا تعلم إن كان يمكنها تسميته حب، أم إعجاب
إلا أن فوضى الأحساسيس هذا لا ينتج من إعجاب فقط، الحرائق المشتعلة هذه تدل على أنها وصلت لمرحلة متأخرة، متأخرة جدًا

-"صدتتتك"

الصوت المرح أنقذها من الغوص في سرحانها، التفتت بسرعة مرعوبة لتجد فردوس تقف أعلى رأسها:
-وجع يوجعك يابنت هادي، طيحتي قلبي
ضحكت فردوس، جلست بجانبها:
-وش عندك في السطح؟ أما يا ريحان إنك توقتين جلوسك هنا كل ليلة، أنتِ وش وراك؟

تنصلت ريحان كعادتها من الجواب، لتقول بنبرة ممتعضة وهي تجلس معتدلة:
-وش عندي أنتِ الثانية، اطلع أشم هواء ربي لا برد الجو، أتقهوى وأرفه عن نفسي شوي

قالت فردوس:
-دريتي ؟ أبوي بيروح المدينة، بس ما راح ياخذنا أو ياخذ أمي، وأمي ساكتة وراضية
نظرت لها ريحان بتوجس وقلق:
-من جده وش يبي بروحة المدينة؟ الحين كل شيء متوفر في ديرتنا المتطورة اللهم لك الحمد، وش ناقصنا عشان يروح، لا ولحاله
سكبت لها فنجانًا من القهوة، وابتلعت قطعة حلوى لتقول:
-هالسالفة أنا دائمًا متشائمة منها، تذكرين لما راح أبوي المدينة بسنة من السنين ورجع لنا تعبان وجته بوادر جلطة؟ الله يستر من هالروحة

تأففت ريحان بضيق:
-فردوس لا تضيقين خلقي، إن شاء الله مو صاير له شيء
(ثم أردفت مغيرة الموضوع)
-مرجان وينها مالها حس؟
فردوس بذات الضيق تنهدت:
-جاء زوجها ياخذها، هذا وجهي لو مو خواته السبب، الله يستر عليها ويحفظها هي وعيالها


*
*


يمسك باب الصالة، يحلف على والده بنبرة مترجية جادة:
-يبه والله منت طالع لين تقول لي وش فيه أخوي، تكفى أترجاك

زاهد بعصبية يهمس، يحاول إبعاده عن الباب:
-ولد أبعد، مابي أمك وأختك يحسون علي، إذا عرفت وش فيه أخوه علمتك
(أشر بسبابته لخلفه)
-اطلع الهي أمك وإذا نشدتك عني قول لها جاه إتصال من سكرتيره سامع

تنهد وهاب وهو يبتعد بقل حيلة:
-تكفى يبه اتصل فيني، لا تخليني أتبعك
هز رأسه وهو يخرج على عجلة:
-طيب طيب بتصل فيك، أطلع يالله

ركب زاهد سيارته وانطلق بأقصى سرعته، حين اتصل في عمران كان متوجسًا من أنه معرفته بشيء، لكن يعلم قدرته في معرفة الأحداث فرتبته تساعده ومعارفه المهنيين كثر، لذا كان إتصاله صادمًا لزاهد وهو يقول له بجدية:
-"يا أبو إياس أنا في المستشفى القريب منكم، انتظرك"

هذا ما قاله فقط، وقد فهم مغزاه، رُبط لسانه، لم يستطع أن يقول له ابني كيف حاله؟ أهو حي أم ميت، أهو طيب أم سأراه في ثلاجة الموتى؟

طارت منه الحروف، تلبسه الخوف، فهذا نسخته المصغرة والمحببة من قلبه، هو وهو، بينهما تناغم من نوعٍ خاص

يهواه، ويرتاح إلى تناغمه، يطرب لثقله وإبتسامته الرزينة، يفخر بحبه لعمله وإرتباطه فيه، شعورٌ أثقل من شعور أي أب

دعى الله في قلبه أن يراه بكامل صحته، وأن لا يريه فيه مكروه، الفقد لشخصٍ مثل إياس، قاسٍ ومؤلم وموجع!

وصل إلى المستشفى بسرعة قصوى، لا يعلم كيف تخطى أجهزة ضبط السرعة، وكيف أوقف سيارته في موقفها
كل الذي فعله هو الهرولة إلى داخل ممرات المستشفى المستنفرة بملامح متصلبة باهتة

التقط عمران وهو يقف بقامته الطويلة، يكتف يديه واصبعه السبابة أسفل فمه، سارح في نقطةٍ أمامه
وصل إليه وهو مقطوع الأنفاس:
-يابو محمد، ولدي إياس، ولدي وينه؟

التفت عمران حين ناداه، اعتدل في وقفته، ربت على كتف زاهد:
-أذكر الله يازاهد، أذكر الله! ولدك إن شاء الله إنه بخير

لا يكذب، لأول مرة يرى زاهد بهذه الصورة، كان وجهه شاحبًا، عينياه شاخصتان بهلعهما، وحتى جسده شهد رجفة بسيطة سرت عليه، رباه هل هكذا هيبة الرجل ينسفها الذعر على فلذة الكبد؟ لا يستطيع تصور حالته إن أصاب محمدًا سوءٍ ومكروه

-"إن شاء الله إنه بخير؟ يعني ماتدرون حالته وش هي للحين؟"

قالها زاهد بنبرة غاضبة محترقة، فضغط عمران على كتفه بقوة مهدئًا:
-أبو إياس شايف المكان حولك؟ كله شرطة وعسكر وإطفائيين وأهالي مدنيين، في حالات وفاة وفيه إصابات قوية، خلهم يشوفون شغلهم ثم يطلعون يطمنونا، لا تحاتي
زاهد بذات الغضب:
-قائد العملية وين؟ أبيه، أبي أكلم رئيس عمله ماهو معقول مايعرف حالة فريقه
-"الفريق كان كبير، وفيه كثير إطفائيين كانو من ضمن العملية ورئيسه ما جلس من لما نقلوهم للمستشفى يحاول يعرف وضعهم، ترا من بينهم حالة وفاة"

شعر زاهد بإنعدام الجاذبية أسفله، شعر بأن قدميه أصبحت هلامية وأن الأرض من تحته تموج، جلس على أقرب كرسي وتنفس الصعداء بثقل، يكرر بداخله " يارب مو ولدي، يارب مو ولدي"

مرت عليه دقائق الإنتظار بصعوبة بالغة، وما فتر لسانه من الدعاء إليه عله يُقبل بمحياه اللطيف من آخر الممر الذي يشهد إزدحامه من الإطفائيين

سمع حديث عمران مع أحدهم ولم يلتفت، ظل على ذات جلسته يرجو من الله خروج إياس سالمًا معافى، ليس بوسعه شيء، هو من شجعه على هذا المجال صحيح، وهو من يجب أن يتجلد لكن عليل القلب، ما حيلته سوى بالإرتياع على أبناءه

شعر بيد عمران على كتفه مجددًا، رفع عينيه ونظر للأعين التي تنظر إليه، ثلاث أشخاص غير عمران، وأحدهم على كرسي متحرك وبرجله جبيرة والذي تحدث قائلًا:
-عمي، معاك أبو سهيل زميل إياس، أبشرك إياس بخير الحمدلله رب العالمين، هو تحت الملاحظة الحين لأنه استنشق كمية كبيرة من الدخان

وقف من كرسيه بصعوبة، نظر إلى أبو سهيل بعدم تصديق:
-تقولها صادق؟
-"والله ياعمي صادق، إياس كان بخير، ما أغمى عليه إلا في سيارة الإسعاف"

تمتم بالحمد والشكر، أتخذ زاوية وولى وجهه قِبل المغرب وسجد، سجد شاكرًا لرحمة الله التي أنقذت ابنه وأنقذت قلب عائلته من الهم والحَزن

من جهته عمران جذب رئيس الإطفائيين على جنب وسأله بجدية:
-وش سبب حالته؟
تنّهد الرئيس وأطرق برأسه آسفًا:
-فريق إياس كان مكلف بإنقاذ المدنيين من الطابق الرابع والخامس، كل شيء كان ماشي تمام لين خروج أخر إطفائي من سلم السيارة لولا الإنفجار اللي حصل، إياس تداركه بسرعه فرمى أبو سهيل من السلم للعشب أسفله، وهو تعلق بالسلم، لكن ..
(صمت قليلًا ليردف بوجع غصبًا عنه)
-زميلهم راكان اختاره الله من بينهم، أنصاب في أول الإنفجار وقدر إياس يتلقفه قبل السقوط

زفر عمران يكبت غضبه وألمه على ضياع شبابه، عقد حاجبيه:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، الله يرحمه ويغفر له، يعني الباقيين بصحة جيدة؟
هز رأسه إيجابًا:
-ولله الحمد، إياس تحت المراقبة لين يتحسن، وأبو سهيل شوفة عينك جبروا رجله، الله يشفيهم ويرحم زميلهم

شد عمران كتفيه، رفع سبابته بوجهه قائلًا بهدوء مرعب:
-سالفة الإنفجارات اللي سمعتها منك ومن طراطيش حكي فريقك ما راح تمر مرور الكرام، تقريركم يوصلني أنا لا غير يا رئيس، طيب؟
هز الرئيس رأسه مستجيبًا لأمره، وتراجع عندما تقدم حكيم من عمران وهو يميل على أذنه بهمس:
-طال عمرك لازم نمشي، بكرة رحلتنا واللواء يستدعينا

تراجع عمران يهز رأسه إيجابًا، اتجه نحو زاهد الذي عاود الجلوس على الكرسي ولسانه يتمتم بالحمد، استأذن منه وطلب منه أن يطمئنه عن إياس

فور خروجه اتصل على تليد، وردت تلك بسرعة، فرحلته غدًا ولديه الكثير ليقوم به، زيارة نايف ابن عمه، توديع جدته في القرية، الإطمئنان على ساعي الذي -ياللعجب- شعر أنه في خطر




*
*

جلسن في الصالة الداخلية بإرتياح، ينتظرن نسيم التي أخذت سطام لغرفة أخرى حيث يستطيع لعب ( البلاستيشن ) بعيدًا عن مواضيعهن الأنثوية

نظرت تليد إلى طاولة القهوة وعليها الكثير من الطيبات، شاي وقهوة، شوكولاتة ومكسرات، كعكة مرتبة في صحن من الخزف، صحون وأكواب وملاعق مذهبة:
-أختي سنعة والله، من زمان ما زرتها في بيتها وشفت سناعتها

عمتها هناء وهي ترتاح في جلستها:
-تعلمي منها يا فالحة!
نظرت لها تليد بأنصاف أعين:
-يا عمة أنتِ انتقلتي من مرحلة الضرب تحت الحزام للضرب في الوجه مباشرة، من علمك؟ هيثم ما غيره صح؟

ضحكت هناء بخفة، فابتسمت حنين:
-ياويلك لا تدخلين هيثم في كل سالفة، تراها ما ترضى عليه
-"يافديت أبو نايف الله لا يحرمنا من نخوته، أنتن لو تعرفن حنانه اللي مخبيه تحت جفافه كان عرفتن قيمته"

قالتها هناء بنبرة رقيقة، فعقدت تليد حاجبيها:
-مرات أشك إنه ساحرك، مو معقول تشوفين شيء احنا ما نشوفه
هناء بملل من تذمر تليد الدائم:
-أنتِ بس فتحي عيونك، وأعطيه مما تعطين عمران وبيشيلك من على الأرض
أمالت فمها بإمتعاض:
-مابيه يشيلني من على الأرض، الله يخليه لنا بس يوسع خلقه علينا شوي

دخلت نسيم في هذه اللحظة بابتسامة هادئة لوجودهن حولها، رمت جسدها بالقرب من تليد وقرصت عضدها مباشرة:
-يقولون زعلانة ومقفلة عليك الغرفة، متى تخلين حركات البزران أنتِ؟
تأفف تليد وهي تمسح قرصتها المؤلمة:
-حشى قرصتها والقبر، عيب في وحدة رقيقة تقرص هالقرصة؟ بعدين من الفتان اللي وصل لك هالكلام؟

حركت نسيم حاجبيها بحركة مضحكة ونظرت إلى هناء التي تنظر لتليد بحاجب مرفوع، فضحكت الأخيرة بتوتر:
-محشومة ياعمة ماهو قصدي أسبك قدامك
-"يعني عادي تسبيني من وراي؟"

قالتها هناء بخبث لطيف، فشهقت تليد وهي تضع يدها على فمها بدرامية مضحكة:
-اتقو الله لا تبهتوني
(طرقت بقدمها على الأرض)
-والله حرام جيتكم واحد وجيتوني جماعة، حنيييين!
اتسعت ابتسامة حنين، فأردفت بهدوء باسم:
-لبيه يا مجد!

ضحكن نسيم وهناء على ملامح تليد التي امتعضت فجأة، فقالت تلك بنبرة طفولية محببة:
-فكوني على سطام يا ناس، مجد مجد مجد، تحسسوني إني قناة المجد ياربي، اسمي مرة صعب عشان ماتقدرون تنطقون (تليييييد)؟

وقفت نسيم، بدأت بتضييف أختيها وعمتها قائلة بابتسامة مصطنعة:
-أقولكم شيء؟ أنا قررت قرار

مدت صحون الكعك، ثم أكواب الشاي، لتجلس بعد أن تناولت هي نصيبها:
-راح أدخل نادي رياضي

حنين بإندهاش من قرارها:
-من جدك نسيم؟ وش لازمة النادي الرياضي ؟
قالت تليد بسخرية وهي تنظر إلى جسدها بتفصيل:
-مسكينة تبي تخفف شحوم بطنها، أو دهون فخذها! فسقة أقولك فسقة

ضربت هناء كف تليد بخفة:
-تأدبي، الرياضة صحة ماهو لازم تدخل نادي رياضي عشان تنحف، ونسيم بسم الله عليها ماهي ناقصنها جمال جسم
دعكت تلك يديها، وقالت بابتسامة متوترة:
-بس أنا فعلًا أبي أنحف يا عمة

تبادلن النظرات الصامتة فيما بينهن، لم يجدن بعد مبررًا لما تقوله، قالت لها عمتها:
-نسيم حبيبتي أنتِ شايفه روحك في المرآية؟ تبارك الرحمن جسمك رويان ما يحتاج نحافة زيادة

صمتت نسيم، شعرت بإرتباك من نظراتهن، ومن إنتظارهن لتبرير معين، هي قد قررت هذا القرار في هذه الدقيقة فقط، لن تنكر، كلام أخت غسان أثر فيها جدًا، فنسيم مثل النسمة، روحها تلتهب من حدة الكلام:

قالت بتبرير أبعد ما يكون عن الصحيح، وهي تطرق برأسها:
-عمة زي ماقلتي الرياضة صحة، وأنا لي ثلاث سنوات أتمنى الحمل ولا حملت، أبي أعزز صحتي زيادة، أبي أستقبل طفلي وأنا بكامل لياقتي، بهالوزن ما راح أقدر

زفرت حنين بضيق، قالت عاقدة حاجبيها المرتبان بدقة إلهية:
-اللي تبي تحمل تدور علاج في المستشفيات يا نسيم مو في النوادي، اللي تبي تحمل يشارك زوجها في خطة العلاج! أنتِ لحالك ما راح تسوين شيء

أطرقت نسيم رأسها، كلام حنين كان كتوبيخ حاولت تغليفه بالرقة، لكنه جاء قاسيًا على روحها، همست:
-غسان يبي ..
-"إذن خذوا بالأسباب، إذا على جسمك فهو مو محتاج لنوادي، جسمك إن كان به عله فهو محتاج لحبوب ومنشطات ومراجعات"

قالتها حنين بذات النبرة، فمر الصمت على الجلسة، نسيم تجاهد على كبت دموعها، هناء توافق على كلام حنين الواقعي، وتليد تصمت احترامًا للكلام

أعقبت هناء:
-إذا تبين تدخلين نادي عشان تشغلين وقتك وترفعين من لياقتك فخير ما تسوين، ومثل ما يقال "درهم وقاية خيرٍ من قنطار علاج" والرياضة تعتبر وقاية لكثير من الأمراض
(وبابتسامة تحاول بها تغيير مزاجها)
-وجري معك الرفلة اللي جنبك خليها تخفف وزنها

أسبلت تليد برمشيها قائلة بملل مصطنع:
-عمة ترا بشكيك لأبوي، خفي علي شوي، بعدين تدرين آخر مرة دخلت نادي أنا وريمان طردونا منه

استطاعت تليد جذب إنتباههن وتشتيت موضوع نسيم لموضوع ريمان، قالت هناء بإهتمام:
-على طاري ريمان، هي كيفها ووش أخبارهم؟
تبدلت نظرات تليد، إلى نظرات مهمومة حزينة، فمهما كان تظل ريمان أختها بالرضاعة، وتفتقدها حد الوجع، همست بهدوء:
-مافي أخبار ياعمة، ماندري عنهم شيء إلا إنهم في ألمانيا من سنتين، تدرين أبوي حاول يزورهم وحجز تذكرته بس حلف عليه أبوي فاضل ما يعتب عتبة المطار؟
-"نايف يقوله؟"

قالتها هناء بإندهاش، لتبتلع تليد غصة تكومت وسط حنجرتها وصعُب إبتلاعها فهزت رأسها إيجابًا، تنهدت حنين:
-الله يشفيها ويعافيها، ويردهم جميعًا بالسلامة

تمتمن بآمين خافتة قلبية، وقلب تليد أكثر من كررها، فهي أكثر اشتياقًا لوجود أختها بجانبها، من عاشت معها أغلب طفولتها ومراهقتها، وركضت في زوايا منزل أبيها فاضل وتعثرت به أكثر من تعثرها في منزل أبيها نايف، لريمان ذكريات لا يمحيها البعد، وهي خائفة! خائفة وقلقة من ذكرى ريمان بعد المُصاب!

رن هاتفها فجأة، فقطع لحظة الغمامة السوداء التي حلت عليهن، كان عمران، جاوبته بهدوء:
-هلا فديتك .. أنا بخير ربي يخليك .. لا مو بالبيت ببيت أختي نسيم،آمرني ؟ .. أقدر ليش ما أقدر، تبشر بعزك .. متى تبيها؟ .. إن شاء الله ولا يهمك

أغلقت هاتفها، التفت إلى عمتها قائلة:
-هذا عمران، يبيني أروح بيته وأجهز شنطة صغيرة له عشان عنده دورة عمل قصيرة، بس قال لا تروحين البيت لحالك، نروح عمة؟

هزت هناء رأسه بالإيجاب ووقفت، ارتدت عباءتها وقالت:
-ايه ماهي مشكلة، يلا نطلع عشان لا نتأخر على الرجال
وقفت نسيم قائلة برجاء:
-بتروحون؟ ليه ما جلسنا مع بعض كثير

هناء بابتسامة:
-معليش ياروحي لنا زيارات ثانية، وأنتِ منتي قاطعة بيت أبوك بعد راح نلتقي كثير، يلا تليد نادي سطام خلونا نطلع

قبلت نسيم كلًّا من هناء وتليد وحنين ووادعتهن عند باب الصالة، وقبل أن تخرج حنين مسحت على كتفها برقة:
-سامحيني ياقلبي إن ضيقت خلقك، لا تحسبيني ماني حاسة فيك، أنا بس أطالع عيونك أشيل همك، وطالبتك يا نسيم، أوجاع قلبك لا تخبينها عني، لو تطلبين أصيرلك نسائم

احتضنتها بقوة بالغة، حضن أودعت فيه نسيم صمتها الموجع، وتركت فيه صدرها حنين دعمٍ كثيف الحب والمحبة!




*
*

دخل المنزل بخطواته السريعة العجلة، اتجه إلى الغرفة التي دل عليها تليد مباشرة
وجدها هناك، تكوي قطعة قماش وترتبها بترتيب منمق، التفتت له فور دخوله، ابتسمت وابتسم لها بهدوء:
-سامحيني وأنا أخوك تعبتك، ما كان يحتاج لها كوي

وضعت تليد آخر القطع في حقيبة سفر صغيرة، وابتسمت لقوله:
-من جدك عمران؟ ملابسك في الغرفة ذي لها سنة مدري سنتين، غسلتها وكويتها ورتبتها لك، ثوبين بيضات، غترة وشماغ، بدلة رمادية وربطة عنق سوداء، مثل ما طلبت

قال لها بإمتنان:
-الله يخليك وأنا أخوك، ماقصرتي
دخل إلى دورة المياة الملحقة بالغرفة التي كانو يستخدمونها للضيوف وتحولت بعد فترة لإستخدام عمران الشخصي، استخرج حقيبة رمادية صغيرة ووضع فيها ماكينة الحلاقة، شفرات، ملطف جسم، مزيل عرق، صابون وشامبو بعلب صغيرة، عطر، مشط

ثم استخرج حقيبة أكبر من سابقتها، ووضع بها ملابسه الداخلية التي خجلت تليد من وضعها وترتيبها

خرج إلى الغرفة ووجدها تنظر بنظرات مشتتة حولها، اقترب، وضع الحقيبتين الصغيريتين في الحقيبة الأكبر وأغلقها بسرعة، نظر إليه وهو ينزل الحقيبة على الأرض:
-من جاء معك؟
-"عمتي وأختي وسطام، والسوق ينتظرنا برا"

قالتها فابتسم، ربت على قمة رأسها وقال لها بنبرة تميزها من بين نبراته المختلفة:
-أنتِ كبرتي ولا أنا يتهيأ لي؟

لا تدري لما تجمعت الدموع بعينيها، جاءت جملته المحملة بنبرة أبوية خالصة موجعة للقلب، حارقة للأعين، همست:
-كبرنا يا أخوي، كبرنا

شملتها وأختها بنون الجمع، لم تكن تقصد ذاتها فقط، بل ذات ريمان وذات عمران، جميعهم
تنهد هو، وأكملت هي بعبرتها المختنقة:
-مافي أي خبر من ألمانيا؟ الشوق قطع قلبنا ياعمران!

وضع يده على مقبض حقيبة السفر ورص عليها، قال بنظرة ساهمة ونبرة جافة:
-أهل ألمانيا ماعاد يبون لي وصل يا تليد، اعتبريني خارج الحسبة هذه المرة

تنهدت بقل حيلة، لا تعلم كيف تواسيه والمصيبة بينهم سواء، مؤلم أنه موقنٌ للفعل دون رد الفعل، لذا يتخذ من إبتعاده درعًا عن ماهو قادم، وما هو متوقع
خرجت خلفه حين جر حقيبته، ووقف في منتصف الصالة شبة المظلمة، فقال لها:
- بنت عمي، وينها؟
(أشرت نحو الصالة الداخلية فقال)
-طرّفي الباب، بسلم عليها قبل أمشي

استجابت لأمره ونبهت هناء الجالسة بعباءتها داخل الصالة بإنتظار إنتهاء تليد، سمعت صوته ووقفت:
-مساك الله بالخير بنت عمي، أو صباحك خير!

خجلت هناء من مبادرته في السلام عليها، فقال بهدوء واثق:
-صباحك كله ومساءك خير يابو محمد، الحمدلله على سلامة وقرة عينك بشوفة أهلك وأرضك

ابتسم عمران في حسرة، ما زال أهله يظنونه في غربة وقد عاد منها:
-الله يسلمك، وقرة عينك بوجه نبيك، شخبارك؟ طمنيني عن أحوالك
-"أحوالي تسرك عساك للصحة والعافية، سامحنا مقصرين معك، الله يسلم أمك وأبوك ويرد أختك بسلامتها، البيت مابه روح من بعدهم، من غير قصورٍ فيك يابو محمد

قالتها هناء بعفوية تامة، ولم تكن تدري أنها أورثته الكوارث بكلامها هذا، رد بهدوء متوازن:
-المقصرين احنا الله يغفر لنا، أختي بأمانتكم يابنت عمي
-"أختك بنتنا، لا توصي حريص عليها"

تراجع حينها عمران بعد وداعٍ قصير، ولم يكلف نفسه أن يلقي سلامًا سريعًا للواقفة بجانب ابنة عمه، والتي لم يرى منهن شيئًا سوى أطرافٍ سوداء

قبّل رأس أخته، وقال موادعًا:
-رحلتي بكرة الصبح، رحلة قصيرة داخل البلد لمدة يومين، انتبهي لنفسك

قالها ليترك خلفه تليد بدعواته التي تستودعه من كل شر، ودعواتها الأخرى التي خصت بها أهل هذا البيت المهجور، أن يعودوا سالمين غانمين من غربتها، وأن تعود روح أختها كما كانت هُنا من قبل



*
*

تقف أمام التسريحة تمسح زينة وجهها بحركات قاسية على بشرة وجهها، نزعت ذهبها وساعتها ورمتهم في التسريحة بإهمال وغضب

كانت ترتدي لبيجامة نوم من بنطال وقميص طويلان، بلون عشبي لطيف، تفتح أول زرين من قميصها، رتبت شعرها وجمعتها أسفل رقبتها، فطوله يتعبها

راقبته من مرآة التسريحة يخرج من دورة المياة، يغطي أسفله بمنشفة زرقاء اللون، قطرات الماء تتساقط من شعره على أنفه الحاد وخديه، وعلى الأرض

شتت نظراتها عنه، التهت بمسح طلاء أظافرها، فاقترب منها مستغلًا إنشغالها حتى وقف خلفها ملتصقًا بها، همس في إذنها ببسمة فارتجفت من نبرته:
-الواحد ما يدري أنتِ جاية له من البحر، ولا من الجنة؟

اجترعت ريقها، وشددت من حصونها على قلبها، لن تغريها كلماته، أكمل هو بذات الخبث الباسم:
-هاه يا مرجان، أو يا لؤلؤ؟

وقفت، كادت ستبتعد لكن حاصرها بيديه، نظر إليها من المرآة وقال بابتسامة مائلة:
-افا، وش فيه الزعل ماخذ منك مأخذ؟
أدعت الهدوء:
-وخر عني يا شهاب، أبي أنام تعبانة
همس لها بنبرة غاوية:
-صدي أشوفك

أغمضت عينيها بقوة، هزت رأسها بالنفي رافضة الإستجابة لأمره، لكنها شعرت به يلفها بقوة حتى أصبح صدرها ملاصقًا لصدره العاري وبنبرة غضب مكبوت:
-ماهو أنا اللي تقولين له لا، أنتِ وش فيك ؟

فتحت عينيها بسرعة، نظرت له وبذات الغضب:
-أنا اللي وش فيني يابو ريم ولا أنت؟ أنا اللي أخلفت الوعود ولا أنت؟
-"ايووه، جينا على الوعود، أطربيني يا مرجان؟"

قالها بحدة، فردت عليه بحدة منخفضة النبرة:
-اييه الوعود اللي تخلفها وحبر عقد النكاح ما بعد جف، رضيت أنتقل معك لبيت بعيد عن أهلي وأهلك وقلت لا بأس، شغله أهم ما عليه، بس كان اتفاقنا واضح هي كلها يومين اللي نجي فيها للديرة وهاليومين ما أطلع فيها من بيت أبوي، أهلك جيتهم، سلمت عليهم، وجبتهم بضيافة بيتهم، لكن تجرني كل مرة من بيت أبوي لبيت أهلك عشان هوى في بال أخواتك، لا يا شهاب، لا وألف لا

رص على يديه التي تضغط على كتفيها، ومن بين أسنانه أردف بغضب:
-وش تلمحين له يا بنت هادي؟ إني ثور أمشي وراء شور الحريم؟ لعلمك لا أنتِ ولا هن قادرات يطيحن اللي برأسي، وتعرفين رأسي وش من طينه يا مرجان

-"ووش تسمي هاللي سويته اليوم؟ إذا ما كنت تنقاد لشور الحريم فأنت انقدت لشور رجال"
قالتها مرجان بقوة نارية، ليشتعل غضب شهاب وتحمّر عيناه، قربها منه حتى لاصق أنفها أنفه وقال بإحتقار:
-شور الرجال اللي انقدت وراه كان احترامًا له، أب وخايف على خراب بيت بنته اللي قاعده تدمره بيدينها

غصت بعبرتها، تكره أن يخرجها دائمًا من حربهم الكلامية كمخطئة، بل ومغفلة، صدت بوجهها عنه، وهمست بصوتٍ مخنوق:
-أي خراب بيت اللي قاعد تتكلم عنه يا شهاب؟ لأني ما أشوف أحد غيري متمسك بأعمدة هالبيت عشان ينقذه من الإنهيار

لامست شعيرات ذقنه المحلقة نعومة خدها، واقترب يشتم منها رائحتها المسكرة، قال بنبرة هامسة، راغبة:
-لا تصيرين صكة يا مرجان وقدري جهدي، أتعب عشانكم وأتمرمط بين المدينة والديرة لجل ما ينقصكم شيء، ومابي إذا رجعت سوى أحصلك موجودة وتستقبليني بالأحضان

أغمضت عينيها، أخذت نفسًا عميقًا معطرًا بعبق رجولته، صدت تنظر إلى صدره قبل أن ترفع نظراته نحو عينيه بنبرة هامسة:
-بس؟ هذا اللي تبيه مني يا شهاب، إنك إذا رجعت …
(قطعت كلامها، وشحُب وجهها حين حطت عينيها على علامة ما في أعلى أيسر صدره بالقرب من عظمة الترقوة، همست بشحوب)
-وش ذي ؟

أنزل شهاب نظراته نحو العلامة التي تقصد، ابتسم بخبث ماكر وقال بصوتٍ خافت:
-آثارك يا مفترسة

رفعت نظراتها نحوه والشك ملأها، آثار إفتراسها؟ لا تظن أنها غبية حتى لا تعلم أين تحط مخالبها، اقترب منها يمحي النظرة التي رآها في عينيها:
-والصراحة أبي أنتقم لها، شوهتي جسمي وياويلك من إنتقامي

اجترعت ريقها بصعوبة، حاولت التملص من بين يديه وهي تهمس وسط إرتجافها:
-وخر شهاب، وخر مابيك تجي جنبي!
أفلتها شهاب بقوة حتى ضرب أسفل ظهرها في طرف التسريحة، وتألمت من تلك الضربة، زفر وهو يبتعد ليرتدي ملابسه ويضطجع على السرير قائلًا بحدة:
-تدرين مرجان، خلك صكة وأبلشي نفسك بالشكوك والقيل والقال، اسمعي من نقالات الحكي وعيشي حياتك على البعد! ما راح يندم غيرك
(وبجدية بالغة)
-طفي الإضاءة ونامي، مابي أسمع حس



*
*

صباح اليوم التالي
منذ ساعة أشرقت الشمس الحارقة، والعصافير رغم ذلك تطير وتزقزق فرحة بصباحٍ جديد.
هواء يحمل نسمة لطيفة لصيفٍ لاهب، رائحة الأشجار التي سُقيت للتو تهب بين فينة وآخرى

شمر الناس عن سواعدهم، وهمّ كل واحدٍ منهم إلى عمله، كان عدوان واحدًا منهم وها هو يفتتح مخبزه بوقتٍ مبكر كالعادة، فأكثر زبائنه يأتونه في هذا الوقت من النهار

بدأ بإرتداء مريلته حين اقترب منه إحدى الأطفال الثرثارين، مد له بورقة نقدية قائلًا من خلف النافذة التي يفتح زجاجها لتسليم الطلبات:
-عمي عدوان أمي تبي خبز عربي خمس أكياس

مده عدوان بطلبه، نبهه بصوتٍ هاديء:
-تقدر تشيلهم ولا أنادي عبدالعليم يشيلهم عنك؟
-"عمي أنا رجاااال ما تغلبني كم كيسة"

قالها ذاك الطفل وركض لطريق منزله، فأهل بيته ينتظرونه على سفرة الإفطار
أتى آخر، شاب في منتصف العشرين، رحب به بتقطيبة حواجبه، يبدو أن صباحه بدأ سيئًا:
-ياعم عطني كيسة صامولي، أبي اللي توها طالعة من الفرن
لم يجادله عدوان، ولم تتبين على ملامحه أيّة تعابير، ناوله طلبه ودفع قيمته ورحل بخطوات هوجاء متخبطة

ابتسم ساخرًا على لفظ ( ياعم ) الذي ناداه به، ليس بكبيرًا ولا كهلًا، ما زال في منتصف ثلاثينياته، لكنه لا يملك شعيرات رمادية تحطيه، ربما لأنه دائمًا ما يصبغ شعره ولحيته باللون الأسود، ولفظة ( ياعم ) ليست سوى لإستفزازه

وجود عدوان بين أهل القرية منفر ومستغرب لهم بهيئته الضخمة ووسامته القاسية ونظراته المرعبة، دائمًا ما يشعرون أن دمه من دم إحدى دول البحر المتوسط لولا سماره الشرقي المميز، رغم هدوء منطقِه ودماثة خلقه، فهو لم يتعرض قط لسكان هذه الديرة، وبالمقابل لم يتعرضون هم له، يجاورونه بالإحسان، ويجاورهم بالبشاشة، فصاروا يقدرونه، ويحترمونه، ويحسبون له ألف حساب

رفع رأسه حين سمع صوتًا مألوفًا يقول بنبرة باسمة:
-يعني متهاوش أنت وساعي تسوي لنا تحديد الكل ليش؟

ابتسم عدوان بخفة لرؤية سمح تيمور المبتسم، كعادته .. متأنق جدًا، ورائحة عطره تشتمها من بعد أميال
مسح العجين في مريلته، خرج من خلف النافذة، وقف أمامه ورفع يديه المتسخة بالدقيق:
-تبيني أسلم عليك ؟ أخاف أخرب هالكشخة كلها

ضحك تيمور، اقترب منه و(خاشم) أنفه، سلامًا بدويًا قديمًا:
-بكذا ما راح تخرب كشختي، شخبارك؟
عدوان بذات الابتسامة التي لا يكلف نفسه عناء رسمها كاملًا:
-على حطة إيدك، لو أن الله يفكنا من تفتين ساعي
-"أنت وساعي حالة خاصة، لو يفتن عليك من اليوم لين آخر اليوم المفروض ما تزعل منه"

كتف عدوان يديه، وقال بهدوء جامد:
-مقدرين ظروف بعضنا يابو ترنيم، ولا تشيل هم، وين على هالكشخة؟
ابتسم تيمور بصفاقة:
-جاي افطر معك، شد همتك وجهز لنا خبز سااااخن وأنا باخذ فول وحمص من جارك وألحقني للديوانية
أعتدل في وقفته، هز رأسه رافضًا:
-مالك لواء، أنا مشغول بحلالي، المخبز يزدحم هالوقت
ضرب طرف كتفه بفظاظة مازحة:
-يارجال حلالك ماهو طاير، عبدالعليم مايقصر، أمشي معي طيب نفطر عند أبو ساعي على الأقل

تنهد عدوان بخفة حين تذكر أبوساعي، ذاك الشيخ المريض الذي قصر بحقه مؤخرًا، فقال على مضض:
-أبو ساعي يبشر بالخير، انتظرني دقيقتين وجايك
-"خذ راحتك أنا بشتري الفطور"

افترقا، ثم التقيا بعد خمسة دقائق مجددًا، مشيا في طريقٍ واحد متجهين إلى بداية الديرة نحو منزل ساعي:
-عميد كلمك؟

قالها تيمور بهدوء، ليقول عدوان بذات الهدوء:
-إلا جاني أمس في الميدان بس طلع بسرعة بعد ما جاه إتصال وما عاد شفته لين وقتك
تيمور بابتسامة لذكرى السنوات:
-والله يا رجل اشتقت للرمي في الميدان، يبي لها يوم شرأيك؟
عدوان معترضًا:
-أنا ما يستهويني شيل السلاح وصوت الرصاص، فكوني من إدمانكم أنت واللي معك

ضحك تيمور بخفة، يشعر أحيانًا بعدوان كطفلٍ صغير يخاف من صوت الرصاص ورائحة النار واهتزاز الأرض

قُطعت ضحكته بشكلٍ مفاجيء، بل ومصعوق .. من المشهد الذي يراه أمامه، توقفت خطواته عن المضي قدمًا، وتوقف عدوان هو الآخر مذهولًا

فساعي كان يجلس بشكلٍ مائل أمام منزله وهو مضجرًا بدمائه التي بللت أعلى ثوبه







ظننتكِ تعرفين أنكِ
وجهة قصائدي
الخجولة
ظننتُ قلبي
بوصلتي
.. إليكِ
يا ساعيةً
إلى لمّ أشطار
روحي .. تعالي !
دعيني التئم
.. بقربكِ
تعاليّ !
دعي حروفي تصدحْ
وأنغامي ترقص
وقصائدي تنزّف
تعالي !
ألبسيها الأبيض
عرسًا كان أم عزاءً و ..
كفن
آهٍ يا رائعتي، يا نحويّ
وهجائي
آهٍ يا بلسم ..
يا شفاءً ودواءً من كلِّ
سقم
تعاليّ !
ما عاد للعمر جمالُ
مبسم !
ما عاد للحياة طعمٌ
ونغم.

انتهـى ❤


الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 30-07-22, 08:54 PM   #29

BNO1957
 
الصورة الرمزية BNO1957

? العضوٌ??? » 456128
?  التسِجيلٌ » Oct 2019
? مشَارَ?اتْي » 233
?  نُقآطِيْ » BNO1957 is on a distinguished road
افتراضي

اولا يعطيك العافيه كدو والف سلامه عليك
ثانيا فصل رائع
⁃ مثل ماتوقعت انه الحريق يخص المنظمه اللي يبحثو عنها
⁃ مشاعر الام اتجاه اياس مره لامست قلبي ومشاعري
- حنين ياعمري عليها اسم على مسمى حنونه واضح انها تكتم كثير
⁃ نسيم حزنت مره عليها الله يصبر قلبها ، هالنوعيه من البشر كثير بحياتنا
⁃ مممم لفتني عبارة مادري هل هي مجرد كلام او لها اسرار " ولم يكلف نفسه ان يلقي سلاما سريعا للًواقفه بجانب ابنة عمه !!!! هل هو مجرد كلام عابر او انه مقصود🔥
⁃ عمران هل له ولد من طليقته ! بسبب ذكره " لا يستطيع تصور حالته ان اصاب محمدا سوء ومكروه 😨!
⁃ شهاب ومرجان ! هل شهاب فعلا خاين ام مثل ماقال انه مرجانه تتوهم او !!
⁃ القفله افففف متحمسه اعرف شصار ؟ هل ابو ساعي صابه مكروه ؟
⁃ القصيده حسيتها انقالت على لسان ساعي كل كلمة حسيتها من لسانه" يا ساعيه ، البسيها الابيض عرسا ام عزاء كفن حسيت المقصود بالمقفله


BNO1957 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 30-07-22, 10:08 PM   #30

BNO1957
 
الصورة الرمزية BNO1957

? العضوٌ??? » 456128
?  التسِجيلٌ » Oct 2019
? مشَارَ?اتْي » 233
?  نُقآطِيْ » BNO1957 is on a distinguished road
افتراضي

اولا يعطيك العافيه كدو والف سلامه عليك
ثانيا فصل رائع
⁃ مثل ماتوقعت انه الحريق يخص المنظمه اللي يبحثو عنها
⁃ مشاعر الام اتجاه اياس مره لامست قلبي ومشاعري
- حنين ياعمري عليها اسم على مسمى حنونه واضح انها تكتم كثير
⁃ نسيم حزنت مره عليها الله يصبر قلبها ، هالنوعيه من البشر كثير بحياتنا
⁃ مممم لفتني عبارة مادري هل هي مجرد كلام او لها اسرار " ولم يكلف نفسه ان يلقي سلاما سريعا للًواقفه بجانب ابنة عمه !!!! هل هو مجرد كلام عابر او انه مقصود🔥
⁃ عمران هل له ولد من طليقته ! بسبب ذكره " لا يستطيع تصور حالته ان اصاب محمدا سوء ومكروه 😨!
⁃ شهاب ومرجان ! هل شهاب فعلا خاين ام مثل ماقال انه مرجانه تتوهم او !!
⁃ القفله افففف متحمسه اعرف شصار ؟ هل ابو ساعي صابه مكروه ؟
⁃ القصيده حسيتها انقالت على لسان ساعي كل كلمة حسيتها من لسانه" يا ساعيه ، البسيها الابيض عرسا ام عزاء كفن حسيت المقصود بالمقفله


BNO1957 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:22 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.