آخر 10 مشاركات
تحميل رواية عندما يعشق الرعد"رحم للإيجار"للكاتبة ريحانة الجنة\عامية مصرية*وورد وتيكست (الكاتـب : Just Faith - )           »          57 - جدار الماضى - شريف شوقى (الكاتـب : MooNy87 - )           »          الوصية ـ ربيكا ونترز ـ 452 ( عدد جديد ) (الكاتـب : ^RAYAHEEN^ - )           »          روايه بين مد وجزر بقلم ... إيمان مارش (الكاتـب : الاسود المغرمه - )           »          سجل هنا حضورك اليومي (الكاتـب : فراس الاصيل - )           »          هل حقا نحن متناقضون....؟ (الكاتـب : المســــافررر - )           »          متزوجات و لكن ...(مميزة و مكتمله) (الكاتـب : سحابه نقيه 1 - )           »          إلَى السماءِ تجلت نَظرَتِي وَرَنـت (الكاتـب : ميساء بيتي - )           »          الدمــــية للكاتبة الجميلة blue me *متميزة* كاملة** (الكاتـب : ميرا جابر - )           »          حسناء ضوء القمر (47) للكاتبة: سارة كرايفن ... كاملة (الكاتـب : Gege86 - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

Like Tree4523Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 03-02-23, 07:05 PM   #381

ارجوان

? العضوٌ??? » 422432
?  التسِجيلٌ » Apr 2018
? مشَارَ?اتْي » 452
?  نُقآطِيْ » ارجوان is on a distinguished road
افتراضي


مساء الخير

البارت فيه تعقيدات كثيره ومشاعر متضاربه بس مدري ليه تفكيري تجاوز حدود الروايه وانا اشوف وضع حنين العروس الي ماتهنت بزواجها من حادث لحادث ومن اصابه لعمليه حياه مؤلمه ومقلقه ومخيفه يطلع زوجها من عندها ماتدري يرجع لها او مايرجع حالتها تخليني افكر في اهل رجال الأمن الي يباشرون المخاطر بشكل شبه يومي يالله انك تصبرهم وتعوضهم خير والي تدري ان زوجها يشتغل في الأمن وموقعه حساس افضل حال من الي زوجها يشتغل في مخابرات او مباحث وشغله سري بحت ومحد يدري انهم يشتغلون في هالاماكن يارباه وش الحياه الي بيعيشونها زوجاتهم خاصه مع تحركاتهم السريه والمريبه اكيد بيقعدون يبررون كل اشوي بموضوع جديد وماكل عذر بيكون مقنع احس حياتهم تجيب الشك والقلق لزوجاتهم وينقهرون واهم مايدرون انه شغل سري ومايقدر يوضحه لها الحمد لله ان شغل زوجي في النور ياربي لك الحمد والله انها نعمه الحمد والشكر لله حتى يبلغ الحمد منتهاه


ارجوان متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 03-02-23, 08:29 PM   #382

السدين
 
الصورة الرمزية السدين

? العضوٌ??? » 137234
?  التسِجيلٌ » Aug 2010
? مشَارَ?اتْي » 1,463
?  نُقآطِيْ » السدين has a reputation beyond reputeالسدين has a reputation beyond reputeالسدين has a reputation beyond reputeالسدين has a reputation beyond reputeالسدين has a reputation beyond reputeالسدين has a reputation beyond reputeالسدين has a reputation beyond reputeالسدين has a reputation beyond reputeالسدين has a reputation beyond reputeالسدين has a reputation beyond reputeالسدين has a reputation beyond repute
افتراضي

وهاب ترى ما نسيتك بس زعلانة منك لانك وافقت على فردوس فما علقت على اتفاقك مع هادي

وصحيح موتني ضحك مستقعد لشهاب بس كمان ما باعلق عليك 😂😂😂


ملاحظة :
لا احد يقول يعني كذا ما علقتي لاني عارفه اني علقت بدون تصريح 😂😂😂😂😂😂


السدين غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 03-02-23, 11:25 PM   #383

سُكره الحُلوه
 
الصورة الرمزية سُكره الحُلوه

? العضوٌ??? » 509936
?  التسِجيلٌ » Jan 2023
? مشَارَ?اتْي » 8
?  نُقآطِيْ » سُكره الحُلوه is on a distinguished road
افتراضي

منتظرين البارت على أحر من الجمر 💕..

سُكره الحُلوه غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 03-02-23, 11:35 PM   #384

ضي عيوني

? العضوٌ??? » 496732
?  التسِجيلٌ » Dec 2021
? مشَارَ?اتْي » 425
?  نُقآطِيْ » ضي عيوني has a reputation beyond reputeضي عيوني has a reputation beyond reputeضي عيوني has a reputation beyond reputeضي عيوني has a reputation beyond reputeضي عيوني has a reputation beyond reputeضي عيوني has a reputation beyond reputeضي عيوني has a reputation beyond reputeضي عيوني has a reputation beyond reputeضي عيوني has a reputation beyond reputeضي عيوني has a reputation beyond reputeضي عيوني has a reputation beyond repute
افتراضي

بصراحه كنت متوقعه ان هادي يتزوج مرجان بعد ما تكتشف خيانة زوجها ويطلقها شهاب ،لكن مدررري كدووو خانت توقعاااتي مررره
وكمان توقعت ان ساعي بيتزوج فردوس طالما كان حلم بلسم انها تزوجه من بنات هادي بس برررضه ما ادرري وووش فيها كدووو قلبت الموازين فوق تحت😂😂


ضي عيوني غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 03-02-23, 11:52 PM   #385

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم



(22)









*
*
*
*
*
*









-"ما أبي منك تحارب أبوك وتسحب منه حقي غصب عن وجهه وتدخل عليه من مدخل العقوق, ماهو هذا المقصد مع معرفتك للحقيقة يا ولد أخوي, أنا أبي منك طلب واحد, إن لبيته لي ريحتني دنيا وأخره"


يقولها هادي, فيعتدل وهاب في جلسته بجدية اتضحت على ملامح وجهه, ليس بغبيًا ليعرف مقصد عمه هادي من هذا الحديث بأكمله لذا أصبح مستعدًا إليه مهما كلفه الأمر:
-رقبتي لك سدادة ياعم أمر, وحقك إن شاء الله بيرجع بالتراضي مهما كان

هادي بجدية بالغة, وهو يلقي أخيرًا قنبلته التي أراد زرعها منذ زمن في نفسٍ وهاب:
-أبيك زوجٍ لبنتي فردوس, هي بنت عمك وأنت أولى الناس بها من الغُرب

وهاب بذات الجدية التي لم تتغير بوجهه ليقول:
-وأنا موافق ياعمي, ماني لاقي أحسن من بنت عمي زوجةٍ لي

اسكانت ملامح وجه هادي للحظة وابتسامة صغيرة جدًا محمولة بريح الراحة نمت على ثغره قبل أن يقول بجدية بالغة بدا بها صوته هامسًا منخفضًا:
-موافق يعني .. لو ملكنا الحين ما بيتغير رأيك؟

-"لا ياعم, رأيي واحد مابيتغير تبي نملك الحين ولا بكرة أو بعد سنة, بنت عمي أنا أولى الناس بها على ما قلت"

يقولها وهاب بجدية واثقة, وبشكلٍ مفاجيء أشرقت على إثرها ملامح هادي فاتسعت ابتسامته رويدًا رويدا حتى اعتدل في وقفته متكئًا على عصاه ليقول بهدوء باسم:
-أجل انتظرني أشور البنت وأجمع لك الشيخ وشهوده, والله يا النهار ذا ما تكفيكم عشر ذبايح

خرج هادي بينما استكان وهاب وهدأت أنفاسه ودقات قلبه بعد أن كانت تتراقص كما يتراقص الزبد على أديم الموج, اغتال عِفَّة أحلامه في المهد بالبحث عن شريكة حياة يبتغيها عقله قبل قلبه, كان يخطط لإيجادها بنفسه دون تدخل أحد, لا أبيه ولا أمه ولا حتى أخته, أنتظر إياس ليفسح له المجال ويبدأ البحث الجاد لكن ظهور عمه هادي قلب الموازين بأكلمها

ليس بنادمٍ على قراره بالطبع, فوالده ربّاه على ذلك أن يهب للنجدة حينما يرى مكروبًا, وعمه أولى الناس بأن يغيثه ويحمل عنه جزءًا من حِمال الهم الذي يعتريه, احتسب ذلك عند الله وحسبه أن تكون ابنة عمه و"زوجته" مثلما أراد دومًا

بالداخل كان هادي يسابق خطواته السعيدة, ينطح ساقًا خلف ساق وينازع الريح التي تدفعه للخلف
فهاهو يقترب من تحقيق أحد الأمنيات بعد أن اكتشف وجود أخٍ له من أم ومال مكنوز تحت سلطة انانيتها السابقة

لا يود لابنته أن تكون ضحية ترسبات الماضي وحرارتها لكنه سعى جاهدًا لإختيار وهاب كشريك حياةٍ لها, عرف وهاب عن قرب, أو تعمد معرفته, حتى يضعه دون أن يعي تحت اختبار استحقاقه لابنته
ولعله نجح!

دلف إلى الصالة ووجد الثلاثة يتحلقن بجانب بعضهن البعض في صمتِ ووجوم, كشر تلقائيًا من منظرهن وقال بنبرة آسفة تحمل ثقة جادة:
-وش هالوجوه كاني قايدكم للذبح؟ سبحان الله يالنكد المتوارث ماتعرفون وش أجر الابتسامة

تتساءل غنية وهي عاقدة لحاجبيها فهي على علم مسبق بما يقوم به هادي من حياكة المؤمرات منذ شهور طويلة, لكن الأنكى أن توافقه ابنته على ذلك:
-جاء الرجال؟

ابتسم هادي عند هذا الطاري, ليردف بذات الابتسامة وهو يحدق بابنته فردوس:
-ايه بالله إنه رجال ورجال ورجال, يخسى أبوه ما طال من رجولته شيء, هذا هو بالمجلس ويقول تم وموافق ما راح ألقى أحسن من بنت عمي, هاه يابنت فردوس نتمم؟

فردوس, التي كانت على علم, فمنذ شهرين, منذ ذلك اليوم الذي أتى به شهاب فاكتشفوا حينها السر المدفون, كان قد بدأ يناقش ويحقق مع مرجان والأخيرة تؤكد عليه جهلها بالموضوع وهي غارقة في صدمتها, ولما احتد صوته جاء هادي غضبانًا أسفًا منه, وبخه بشدة أنذاك, وحينما لم يتحمل شهاب كل هذه الحقائق, وسّدها لهادي الذي قال له بصريح العبارة أن ما قيل له صحيح وأن وهاب ابنُ أخيه من أمه ..

تذكر فردوس ذلك اليوم جيدًا, فهو اليوم الذي أُعطيت فيه لابن عمها المزعوم من والدها الذي قال لشهاب الغاضب أنذاك:" يا أبو سامي, وهاب ولد أخوي الحقيقي أعجبك أو لا, وقريب بيصير زوجٍ لبنتي"

أدركت حينها من المقصود بـ"ابنتي", لم تك سواها. ردة فعلها جاءت باردة جدًا على خطبة وهاب -المسبقة- لها فهي تعلم أن والدها خطبها -حرفيًا- قبل أن يصبح لدى وهاب علم

وقفت من مكانها وكل المشاعر المتضاربة تعتريها, خجلٌ على خوف, عتبٌ على حسرة, سكونٌ على حزن. والدها قد خيّط لها ثوبًا وألبسها إياه دون أن يدرك, فما فائدة الجدال الآن؟:
-اللي تشوفه يبه

قالتها لتدخل إلى غرفتها في سكون وتغلق الباب وراءها, فنظرت ريحان بضيق وحاجب معقود إلى طيفها الراحل ثم إلى والدها لتقول بإعتراض:
-يبه والله حرام تقط فردوس عليه بهالشكل, وش يدريك إنه وافق من طِيب نفسه وشهامته مو رغبة فيها؟

حدجها والدها بنظرةٍ سوداء, ثم توجه بنظراته إلى غنية التي أيدتها بالصمت, فقال بصوتٍ أجش وجاد:
-لا تتدخلين بهالسوالف يا ريحان, إن كان عندك كلمةٍ زينة قوليها ما عندك أكرمينا بسكوتك, لو تدرون عن الرجال ما قلتوا هالكلام, اتصلي بزوجك خليه يجي يشهد على هالزواج

وقفت ريحان بملامح متشربة بالضيق والحزن, تقول وهي تتجه إلى غرفتها حيث فردوس:
-اسفة يبه ماني متصلة فيه, وش تبيني أقول له؟ تعال أشهد لزواج أختي من ولد عمنا الموقر اللي نزل لنا من السماء؟ وينه عنا طول هالسنين وحتى أبوه اللي هو أخوك ويازعم يكون عمي ما شفناه للحين؟ واضح إن السالفة غصيبة

-"ولسنة يا هالبنت, انقلعي لأختك"
يقولها هادي بغضب بينما تتجه ريحان إلى غرفتها المشتركة بأختها بخطواتٍ عجلى, حدق هادي في غنية ليستطرد بجدية:
-أنت بعد بتعارضين مثلها ولا بتباركين هالزواج؟

غنية بهدوء وهي تحدق في القهوة التي لم يُلمس منها شيء نتيجة صمتهن المشترك:
-أعترض ليه يا أبو مرجان؟ أنت خيط ولبّس واحنا وراك سمعًا وطاعة, عسى بس منت بنادم وولد أخوك اللي معتزي فيه ما يغدر فيك لأن مافي ولدٍ صالح ياقف مع الغريب ضد أبوه

هادي وهو يتجه إلى المجلس ويستخرج هاتفه ليتصل بالشهود الذي -جهزهم- مسبقًا:
-لا الولد ولا أبوه قادرين يوقفون بطريقي, توها اللعبة ماخلصت يا غنية, وبس أضمن بنتي لولد أخوي بشوف شغلي معه

عند ريحان التي دخلت إلى الغرفة لتتفاجأ بفردوس التي وقفت أمام المرآة تضع بضعًا من مساحيق التجميل على وجهها الندي, لتقول بدهشة:
-فردوس مو من جدك !!

حدقت بها فردوس من إنعكاس المرآة وهي تضع بعضًا من أحمر الخدود على وجنتيها اللامعتين, تقول ببرود غير مقصود:
-وش فيك؟

ريحان بإندهاش من سؤالها:
-وش فيني؟ حلفت عليك, يختي صيحي اعترضي قولي لا ما أبي, أنتِ بهيمة يعرضونك لواحد يعني إنه رجال وماينقصه شيء؟ وين أحلامك اللي تبينها وتسعين لها؟

أغلقت فردوس علبة المكياج, بخت من عطرها المفضل حول مناطق النبض وسرحت شعرها الذي حط خلف ظهرها بانسيابية:
-الأحلام تقول شيء والواقع شيء ثاني, لا يكون تحسبيني غايصة بالروايات اللي أكلها واستنى الفارس على حصانه الأبيض ينتشلني من هالعيشة؟ لا يا ريحان, مهما وصلتِ من أحلام شوفي واقعك وابني عليه حياتك! حياتي اللي تقول إن مصيري ينتهي بزواج تقليدي من ولد عم ظهر لنا من العدم

تنفست ريحان بغضب وهذا الاستسلام في أختها يستفزها من الوريد إلى الوريد:
-يا برودة دمك يا أختي, وقفتي بوجهي يوم إني بغيت عدوان وطالبتيني أصحى من أحلامي اللي بنيتها في عشّه والحين تقولين واقع وخرابيط واقع, أنتِ من حقك تسايرين أحلامك, من حقك تختارين شريك حياة مرسوم على مقاس قناعاتك, كليتي رؤوسنا بالمبادئ اللي تدافعين عنها, بالله عليك وهذا مبدأ؟ تنجبرين على شخص ما تبينه بس لأن أبوك قال كلمة؟

جلست فردوس على الكرسي وقالت بذات اللهجة الباردة:
-لأني ماتعودت أقول لا لأبوي, واللي يشوفه أبوي مناسب لي أنا وراه سمعًا وطاعة, هو الأعلم بمخابر الرجال من مظاهرهم

شدت على شعرها والإمتعاض يقضم من فؤادها ويهلك أعصابها المتبقية:
-والرجال؟ أنتِ مقتنعة بالرجال؟ خلك من مبدأ وواقع وأحلام .. قناعتك وش تقول عن ولد عمنا؟

لكن ريحان تفاجأت بالذي حصل, ففردوس بشكلٍ مفاجيء أنهارت ببكائها وسقطت بجسدها من الكرسي حتى الأرض لتتلقفها دون شفقة ومواساة, لم تتوانى ريحان عن إحتضان أخته والعبرة تخنقها, فاحتضنتها بقوة وأخذت تربت على كتفها وظهرها وشعرها علها تهدأ من هذا البكاء الجنائزي

قالت ريحان والغصة تبتلع حروفها:
-فردوس أمانة والله آسفة مب قصدي أضايقك بكلامي تكفين ما تزعلين, خايفة عليك والله وأنتِ بهالبرود تخوفيني زيادة, خلاص آسفة والله آسفة بس اسكتي, لا تسمعك أمي وتشيل همك طول الليل

ظلت على ذاك الوضع, تعتذر تارة وتارة تهدئها بلا فائدة, حتى مرت دقائق طويلة واستكانت فردوس من ذاك البكاء الموجع للروح والفؤاد, فابتعدت عن أختها وهي تمسح وجهها الذي تلطخ بالسواد والحمرة, همست فردوس:
-خلاص, لا تعتذرين!

انفجارها بهذا الشكل جاء بعد سلسلة طويلة من حبس الدموع والآهات والإعتراضات وجميع جميع الكلمات التي ودت قولها أمام والدها وأحال البر والخوف دون ذلك, ليست باردة, ليست راضية, ليست قانطة كذلك ولا تحتاج إلى عتاب أختها الذي يزيد الأمور سوءًا

لكنها تتألم, وتعلمت من هدوءها وسكونها أن التألم المصمت أفضل من التألم الصارخ, فلا أحد سيستمع إليها ما دام تم البّت بأمرها, فمثلت الرضا وقادها الرضا إلى السكون

ريحان التي تنظر إلى الحفلة بوجهها, ابتسمت بورطة:
-بس مو سيء, صح؟

ابتسمت فردوس بلا رغبة للابتسام, لتقول بنبرة خالية من الشعور:
-الأشياء من بعيد تكون أحلى في صورتها الحقيقية, لو اقتربنا منها اكتشفنا بشاعتها

تنهدت ريحان وبلا شعور احتضنت عضدي أختها وأمالت رأسها على كفتها لتقول بفمِ مائل:
-كنت أمزح يوم أقول الرجال يتردد على بيتنا في أمر خيّر ورسمت لك معاه صورة كذا عباطة, بس من دريت إنه ولد عمنا وأنا متحاملة عليه, ياخوفي أكرهه وهو بيصير زوجك

فردوس بسكون تتساءل:
-ليه تكرهينه؟

رفعت ريحان رأسها تنظر إلى ملامح وجه أختها الحنونة, لتقول بهدوء:
-تبين تقنعيني إنك ما شلتِ بخاطرك على عمنا وعياله وهو موجود بذي الدنيا وما حتى سأل عنا وشاف أحوالنا؟ شوفي هيئة اللي ينقال عنه وهاب ذا, والله يا واضح عليهم الراحة

حدقت فردوس بأصابع يديها الطويلة لتقول بهدوء ساكن:
-ريحان, في حلقة ناقصة بموضوع عمي وعياله, مب معقول طول هالسنين ما عرفنا ولا حتى سأل عنا أو زارنا إلا ولده بالشهور الأخيرة, والعلم كله عند أبوي إللي حكى لنا قصة ناقصة!

عقدت حاجبيها بضيق ويأس من الوضع الجاري بينهم, لتقول وهي تحدق بنظرات عينيها مبتسمة:
-خلينا من هذا كله واصدقيني القول, أنتِ موافقة من جدك على وهاب؟

وقفت فردوس وهي تعيد الكرسي لمكانه بعد أن سقطت منه, ودون أن تنظر إلى ريحان حتى لا تكشف دواخل عينيها قالت بهدوء:
-مع العشرة تجي المشاعر يا ريحان, ومن بينها رضاي عن الموافقة

تم في تلك الليلة عقد قران فردوس ووهاب الذي تم بمباركة هادي وسط وجود عدوان وشيخٍ أخر كشهودٍ على العقد, استقبلها وهاب بثقة واعتماد على الأمانة التي حمّلها هادي إليه, ومجددًا, أقر في نفسه أنه ليس بنادم, وبدأ بإعداد العدة لمواجهة والده ووالدته بهذا الخبـر











*
*
*
*
*









بعد يوميــن - ذلك اليوم

كان مارًا بجانب مكتب والده حينما سمع الصوت العالي الذي يخرج من بين حنجرته, حدق بوالدته لوهلة فرآها وهي تمسك رأسها بقل حيلة, زاهد أصبح الكلِم الساخط والصوت المزعج شعاره في الفترة الأخيرة

دلف إلى المكتب بخطواتٍ غاضبة حينما سمع صوت وهاب يجادله, فور دخوله صمت الاثنان والتفتا إليه وهو الأخر لم يتوانى فاتجه مباشرةً إلى وهاب وأمسكه من ياقة ثوبه قائلًا بغضب:
-أنت وبعدين معاك؟ رايح رافع ضغط أبوي, راد مزعجه, وش تبي؟ وش عندك؟

أبعد وهاب يد أخيه بغضبٍ وملامح وجهه تحتقن بالدماء:
-إياس أبعد, لا تمد يدك علي, أنا قاعد أتفاهم مع أبوي بالهدوء بس أبوي ما عاد يسمع لي

رفع إياس سبابته في وجه أخيه بملامحٍ متغضنة ليقول:
-تسكت وتنطم, منت إلى على كبر ترفع صوتك وتجادله, إن قال لك شيء قل له سم وأبشر

وهاب بغضبٍ يوجهه نحو إياس فلا يستطيع توجيهه إلى والده:
-أنت ما تدري وش صاير ووش ما صاير خلك نايم بالعسل ثم تعال وكلمني!

خاف زاهد وارتبك, واتضح ذلك على ملامح وجهه التي تبينها وهاب دون إياس فكان الأخير يوليه ظهره, لو أفضى وهاب بحكاية أخيه لإياس لأنتهى أمره, فحتى الآن إياس لا يدري بهذه الحكاية وقد نبههم كثيرًا مع بعض كلمات التهديد في حال وصلت الأمور إلى مسامعه

لكن هذا الأهوج, ابنه الشهم الذي يلهث خلف إنقاذ هذا وذاك سيأتي بأجله, تبًا! ربّاه على مد يد العون وعندما أراده في سواد أيامه أصبح له فرعون ووقف بصف أخيه دون هو

أخيه!
آه من هذا الأخ, الذي ظل يسعى جاهدًا للإطاحة به, وها قد فعل, فقد استطاع أن يمسك بمخالبه لب وهاب, فزوجه بابنته .. أي مصيبة حلت عليه؟

يأتيه ابنه ليبشره, إنه قد تزوج بابنة عمه هادي وبأي حجة؟ أنها ابنة عمي وأنا الأولى بها, متى أصبح شفوقًا إلى هذه الدرجة؟ سيكسر رأسه لا محال

زمجر فيه إياس غاضبًا وقد استفزه ما يبدر منه:
-خلصت من أبوي بتكمل علي؟ يا حمار أمسك نفسك لا أعلمك إن ربي حق! وش علتك أنت؟

وهاب بجدية وهو يحدق في أخيه تارة وتارة بأبيه:
-علتي إني تزوجت, وأبوي متضايق مادري ليش, مو المفروض يفرح لي ولا أنا مو ولده مثلك؟

اتسعت عينا إياس بدهشة وكذلك فعل زاهد الذي تباطأت دقات قلبه بشكلٍ تدريجي, سيتلقى الآن جرعة من نظراتٍ عاتبة وحديث أشد عتابًا, فإياس رغم برّه التام به إلا أنه رباه أفضل تربية, تربية لا ترضى بالظلم الذي ارتضاه هو لأخيه الذي من دمه

نقل إياس نظراته نحو والده, أهذا سبب غضبه أم هناك أمرٌ أخر؟ لكنه التفت إلى وهاب موبخًا بحدة:
-متزوج؟ متزوج من ورانا ورايح لبيت الناس من دوننا ومتجاوز العادات والتقاليد وما تبي أبوي يهاوشك وأنت بهالعمر؟ هذه المصيبة اللي مهببها لك فترة وتوك تنطق بها؟

وهاب بحدة فقد استفزه أخيه بإتهاماته الباطلة:
-إياس اقبض لسانك ماهو أنا اللي أهبب وأغلط, أنا تزوجت على سنة الله ورسوله ودقيت باب بيت الناس حسب الأصول, وجودكم من عدمكم ما يشكْل علي لأني رجال, واللي تزوجتها مب غريبة عنا

جلس زاهد على كرسيه وهو يفتح أول أزرة ثوبه بأصابع مرتجفة, الآن سينطق, الآن سيفشي السر الذي حاول مداراته عن ابنه البكر, سينتهي أمره لا محال, يستطرد زاهد بصوتٍ متحشرج:
-حسبي الله على عدوينك من ولد حسبي الله عليهم, تحسب إني ما بفرح لك ياقليل الخاتمة, أنا أفكر فيك وفي أمك اللي كسرت فرحتها بزواجك, وش ضرك لو جيت وقلت لنا إنك تبيها وحنا خطبناها لك, هاه ؟ وش يضرك؟

ابتسم وهاب ابتسامة صغيرة, ليست شامتة حاشاه, ولكنها ساخرة متهكمة على هذا الحديث:
-يبه أنت داري إنك ما راح توافق عليهم لو تنطبق السماء على الأرض, اللي بينك وبينهم أكبر من خطبة والسلام

إياس بجدية وهو يرى إضطراب تنفس والده:
-لأنك قليل أصل, لو يهمك أمر أبوي حتى لو ما نقص منك شيء يا رجال, ولو تهمك فرحة أمي فيك ما مشيت لحالك وخطبت بنفسك كأن ما وراك أحد, بعدين إذا هالناس ما راح يوافق عليهم أبوي معناه بهم علة, رايح تركض لناس ماندري وش هم من طينة ليه؟

وهاب بثقة تامة وهو يرمي الحقائق في وجه أخيه, فيكفيه أنه ظل على عماه طوال هذه الأشهر:
-اللي تزوجتها بنت عمي, وبنت عمي عداها العيب ما أسمح لك تخطي عليهم يا إياس

أغمض زاهد عينيه بقوة, وتواثبت دقات قلبه بعد أن تباطأت, ها قد خسر ابنًا وسيخسر الثاني الآن, حتمًا هؤلاء الشهامى الذي كبّرهم على النخوة سينتفضون لهادي ويهرولون إليه إنقاذا

شخرة من إياس أتبعها بابتسامة متهكمة, لكن وهاب قال بجدية بعد ذلك:
-وقبل لا تقول أي شيء, ايه لنا عم .. هادي بن سامـي, أخو أبوي من أم وترا هذا السبب اللي خلا أبوي يخاصمني طول هالشهرين لأني اكتشفت هاللي اكتشفته

رمش إياس ببطء شديد وهو ينظر إلى وهاب من أسفل أهدابه, ما هذا الهراء الذي يسمع؟ أي عم خرج لهم من تحت سابع الأراضي ليكشف عنه وهاب بهذه الثقة التامة ودون أن يرف له جفن؟ التفت نحو والده بذات البطء وقال بنبرة هادئة مستفسرة:
-يبه, هذا صحيح؟

سؤاله جاء ناسفًا لكل التبريرات التي كان سيحكيها, لأنه سؤال يملك إجابة واحدة لا تقبل الشك والظن, وبما أن زاهد منذ أن ظهر هادي في حياته، لا يملك الشجاعة الكافية للوقوف أمام ابنائهم ودحضهم بالخبر اليقين ففعل ما استطاع فعله طوال هذه الشهور

خرج من المكتب بعد أن صفق بابه بشدة حتى صدعت له الجدران

شعر إياس أن تلك صفعة على وجهه تلقاها من أبيه, فخرج يتبعه بخطواتٍ سريعة إلا أنه قد وجد أمامه الفراغ, نظر إلى والدته التي تجلس بوجهٍ شاحب وذاك الشال ما فارقها, ليتقدم نحوها قائلًا بطولة بال:
-يمه كلمة ورد غطاها, العم هذا عمنا ولا كلام خرابيط؟

نظرت إليه بأعين تكدس خلفها الليل الحالك, فقالت دون أن تقاوم وهي تضرب بتهديدات زاهد عرض الحائط, فسؤال إياس يعني أنه عرف الحقيقة:
-عمكم

-"ووهاب تزوج بنت هالعم؟"
يقولها إياس وهو يحاول, واللهِ يحاول أن يحبس كبوة جواده حتى لا تنفجر على رأس هذا المنزل وقاطنيه, فلا لوم على والدته كثر والده, هزت شيخة رأسها إيجابًا على خروج وهاب من الغرفة بيده ورقةٍ ما, يمدها نحو إياس ليقول بحزم:
-الرجال طاح في طريقي صدفة, ولا تحسب إني حاربت أبوي عشانه .. لكنها حقوق يا إياس, حقوق فيها ظلم وظلايم وأنت ما ترضى تنام وفي رقبتك دين على أحد ما بالك بورث خذاه كله دون ما يعطيه لأخوه؟ هذا اللي يثبت كلامي, وكلام عمي هادي, وتراني تزوجت بنته لأني شفت حالتهم وكيف إنه يحاتي بناته أكثر من الفلوس اللي له, كتبت لك رقمه, وأنت وضميرك يا إياس









*
*
*
*
*
*
*
















أحلام!
لا بل كوابيس ..
كوابيس سوداء, يشع من بينها النور لبرهة ثم يختفي
نار حمراء, تلتهم الصور والذكريات ليظهر من خلفها أناسها, أحياءً يرزقون

شيءٌ ما من بعيد يناديه, لا, لا يناديـه .. بل يستنجده
" تكفى لا, تكفى لا الله يخليك "
يحارب هذيانه, حتمًا يهذي فهي ليست بحقيقة, إنها حلم, إنه يحلم!

"تكفى يبه, الله يخليك"
لا الصوت صوتها, ولا الشكل شكلها, ليست بلسم فمن تكون؟
من أنتِ؟ لا .. أنتِ بلسم
هذا شكلها, هذا صوتها, هذه ضحكتها, هذه عينيها!

"تكفى لا, أبعد"
يعود الصوت أكبر من سابقه, تشتعل النار أكثر من ذي قبل, ومع صرختها
صرختها الموجوعة, تزمجر السماء فيختلط صراخها ببرقها ورعدها وتنبلج, يسقط المطر, وينهمر, مرةً بعد مرة بعد مرة, حتى شعر بخيوط الضوء تخنق عنقه فيشهق ..

استفاق من نومه على الكنبة الجلدية وهو يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم, ينظر إلى عدوان الذي وقف أعلى رأسه وبيده كوب ماء يده مبللة منه, حدجه بلا إستيعاب وللتو فقط يستطعم الدم في فمه

ناوله عدوان الكوب الممتليء بالماء, قال بنظراتٍ سوداء:
-لي ساعة أصحيك لصلاة الصبح, الشمس أشرقت من زمان

أخذ ساعي الكوب من يده وشرب منه جرعة فتمضمض سريعًا ثم ابتلع الماء الذي اختلط بالدماء, حدق فيه بأعين كسولة مصطنعة حملت كمدٍ لم تنطق به عيناه, ما هذا الكابوس المظلم؟ لا ينقصه ذلك

تساءل عدوان وهو يجلس بجانبه ويشبك كفيه ببعضهما البعض:
-يا رجل حافظ على صلاة الفجر والله ما دونها من الصلوات تزيد النور والبركة بطريقك

وضع ساعي الكوب ببرود على طاولة القهوة الخشبية التي أمام الكنبة الجلدية:
-أول مرة

وعداون يعلم أنها ليست أول مرة, فطوال هذه الشهرين التي قضاها ساعي بمنزله وهو نادرًا ما يستيقظ لصلاة الفجر لشدة توعك نومه ليلًا, يحارب كوابيسه بالليل وينام كالمقتول في النهار, لذا بات متساهلًا في صلواته, وهو ما أدى إلى تزايد غضبه .. إن الوضوء بذاته يطفئ الغضب فما بال الذي لا يتوضأ ولا يعرف طعم الماء على مسامات جلده؟

قال بهدوء وهو يحدق به فيراه يبتلع ريقًا ثم يبصقه من جديد في المناديل فيكشف عن الدماء:
-وش فيك؟ كابوس مرة ثانية؟

ساعي بذات البرود وهو يتكيء على ظهر الكنبة ويتكتف, قائلًا بسخرية:
-تقدر تقول, ما شاء الله ما صار يخفى عليك شيء

تنهد عدوان بداخله دون أن يضيف شيءٌ ما على حالته, فما يقول بعد؟ بات وجود ساعي في منزله خانقًا لسلامه الذي عرفه لكنه لا يستطيع قول شيء, أليسوا بأصحاب؟ إن الأصحاب لبعضهم البعض في الشدائد:
-قم صل اللي فاتك وتجهز للدوام

قام ساعي واتجه إلى دورة المياة دون أن يستطرد بردٍ لاذع مثلما تعود طوال هذه الشهرين, بلل وجهه بالماء البارد وشهق بداخله من شدة برودته, حدق بعينيه التي حال دونهما السواد من شدة السهاد الذي أُخذ به

وأخذ يفكر ..
من تكون؟ ولما تستنجد به هو؟
أ بلسم؟ لا يدري, كان الصوت تارة صوتها وتارة لا, وهو حائر!
أأخرى لا يدري من تكون؟ قطعًا لا
فليس له علاقة بالجنس الأخر مهما كان
أهو موته القريب؟ وتلك حور العين تناديه من خلف حجاب؟
ابتسم بسخرية عند الخاطر الأخير, أيضمن الجنة ليتأمل بحور العين؟

تعوذ من الشيطان مجددًا, اغتسل سريعًا ثم توضأ ليخرج من دورة المياة ويحمل السجادة ويصلي ما فاته, وبعد ذلك قضى صلاة الضحى تكفيرًا عن تأخيره فأخذ يدعو في داخله بلا ترتيب وتنميق

يدعو بما شاء, كل ما خرج على طرف لسانه دعى به, لم ينسْ عائلته, لم ينسْ موتى المسلمين والمرضى منهم, لم ينسْ الأحياء, لم ينسْ عدوان وعمران وتيمور وترنيم, دعى حتى للجدة الثريا والعم هادي .. ونسى نفسه

سقط سهوًا من بين دعائه, نسي يدعو لقلبه أن يبرأ, ولروحه أن تهدأ ولتخبط طريقه فلا يضل ولا يشقى, نسي أن يقول آمين لفؤاده وآمين لعقله وآمين لسكون حياته, نسي نفسه حتى طال بسجوده وهو يتذكر كل شيء عداه

سلم من صلاته بعينين مرهقتين, أخذ نفسًا عميقًا استنشق على إثره أريج الريحان, حدق بالأصيص, بل الأصائص التي تملأ منزل عدوان من الداخل, هذا الرجل يعيش داخل -غابة- بمعناها الحرفي, ما كل هذه الأشجار؟ وما الداعي لها

دلف الأخير إلى الصالة وبيده كوب شاي هذه المرة, ناوله ساعي الذي طوى السجادة ووضعها على الطرف, أخذ منه الكوب وسأله بهدوء على ذكر الريحان الموجود أمامه:
-متى بتسوي عرسك؟ قد لك شهرين من ملّكت

خرجا الاثنان إلى فناء المنزل لتصيبهما ضربة الشمس قبل ذهابهما إلى العمل, جلس عدوان على الكرسي الخشبي ومد ساقه العرجاء, بينما اتكأ ساعي على طرف الجدار

قال عدوان بهدوء:
-تو الناس, خلي البنت تاخذ راحتها ببيت أهلها ومتى ما صارت جاهزة وشفت الرغبة بعيونها جبتها لبيتها

ارتشف ساعي رشفة ساخنة مو كوبه, تبسم بسخرية قائلًا:
-البنت ما تنتظر هالكثر, بتحس إن مالها قيمة عندك أو إنك ما تبيها عشان كذا تماطل في الزواج والحفلة, الأفضل تلاحق على نفسك عشان بنت هادي ما تسود عيشتك

عدوان بذات الهدوء وهو يحدق في قدمه:
-ريحان ما تفكر بهالطريقة

رفع ساعي حاجبه وأخذه الصمت لوهلة, ثم قال بهدوء وهو يعتدل في وقفته:
-هادي ماهو سامح لك تطول بدون عذر, ياخي تزوج وفكنا, إلا إذا كان يمنعك شيء ثاني

تصلب ساعي في وقفته لبرهة وتجمدت ملامح وجهه بإستدراك لما تفوه به للتو, فالتفت ينظر إلى عدوان بنظراتٍ حارقة ليقول بغضب:
-لا يكون عشان أنا موجود ببيتك طول هالشهرين منت قادر تعرس وتجيب البنت؟ عدوان إن كان هذا السبب ما يفكك من يديني أحد

اعتدل عدوان في وقفته وأخذ ينظر إليه في حدة جادة, ليقول بعد أن تمالك أعصابه:
-لا ماهو عشانك, ليه وش دخلك أنت إن كنت في بيتي أو لا؟

ساعي بغضب وهو يضع كوب الشاي على الأرض بعد أن شعر بإرتجافة غضبه:
-أجل عشان وشو؟

جاراه عدوان بذات الغضب قائلًا بحزم أجش:
-أنا ما أبي الحين, ما أبي قبل لا البنت تتعود علي لأنها للحين تخاف مني ..

تصلبت ملامح ساعي في وجه عدوان الذي ظل يحدق في كل شيء إلا في عيني الأول, ما هذا الهراء الذي ينطق به, كيف لزوجته أن تخاف منه؟, تعجب لذلك حقًا ولم يجد كلماتٍ يقولها لكنه بعد لحظة صمت أردف:
-وشو اللي تخاف منك؟

عاود الجلوس على الكرسي وهو يزفر نفسًا حارقًا, تبًا له ما كان له أن يبوح بما يجول في خاطره منذ فترة, ليته احتفظ بمخاوفه عوضًا عن قولها لساعي, كيف سيضمن سكوته الآن:
-أثرها تخاف مني حالها حال أهل هالقرية, وأنا كل ماقربت منها ارتجفت

ساعي بجدية:
-يمكنها تستحي؟

رفع عدوان نظراته نحو ساعي ليقول بهدوء جاد:
-حمار أنا؟

ليقول حينها ساعي بحدة وعينيه الذابلتين تضمان وجهه الأسمر القاسي بوسامته, الباذخ برجولته:
-وستين حمار, وش دراك يالزاهد بجنس الحريم؟ لو إنك مو حمار كان عرفت إن بنت هادي ميتة في هوا دارك!

تصلبت أعين عدوان على ثغر ساعي الذي نطق هذا الكلام, فاستطرد قائلًا بجمود:
-وش دراك؟

ساعي بجدية وهو يتأهب للخروج من المنزل متجهًا نحو المخبز لأداء مهامه الروتينية بعسرٍ وغصيبة:
-واضحة للأعمى, وعلى خبري إنك أعرج مالك من العمى نصيب, لا تأجل زواجك عشان ظنون في نفسك ترا يا أبو حرب المشاعر تبان مع العشرة, ومن عاشرك ما استغنى عنك

وعلى ذكر ساعي لـ"أبو حرب" رن هاتفه في جيب ثوبه واستخرجه ليرى الرقم الظاهر على الشاشة, فقال عدوان قبل أن يرد ساعي على المتصل بهدوء:
-مايندرى فيك أنت صديق ولا عدو, مرة تذم مرة تمدح, الليلة بزورها وبكلمها في هالموضوع

رفع ساعي نظره عن هاتفه ليقول بجدية:
-على طاري أبو حرب, هذا أبو محمد يتصل .. هلا أبو محمد … بخير عايش من الله … ايه هذا هو جنبي, وياريت تاخذ رقمه بالمره ماني فايق لمراسيلكم … طيب طيب
(ناول عدوان الهاتف ليقول بجبين متغضن)
-خذ يبيك

أخذ منه عدوان الهاتف, وضعه على إذنه ليقول بهدوء:
-سم يابو محمد … أبد الليلة موجود … وين ألاقيك؟ أبشر مع السلامة

أغلق الهاتف فناوله ساعي الذي ينظر إليه, ليقول وهو يهديء من فضوله الذي ثار على حين غرة:
-يقول يبيني الليلة بموضوع مهم









*
*
*
*
*
*
*









عائدة للتو من الأسفل بعد أن تجالست هي وندى والدة عمران, تباطأت الأخير فصعدت لكي تراه, وما إن دلفت إلى الجناح حتى رق قلبها لمنظره المجهد

كان ينام على الكنبة بإرهاقٍ بادٍ وقدماه تطلان من خارجها, مكتف الأيدي وعاقد الحاجبين, إن منظره هكذا مغري للنظر, لم تقاوم حنين فجلست على الكنبة المنفردة وأخذت بتأمله طويلًا

كيف مرت هذه السنوات منذ أن أتاها طالبًا بالخفية دون أن يعلم أهلها؟
كيف كبُر شيبه حتى أوشك على غزوه غزوةً مباركةً منه؟
كيف حفرت السنون كل تلك الخيبات وخبأتها بين ماضٍ وحاضر؟
كيف مر من فوقها دون أن يعي جرحها منه, وأنها رغم الجرح قالت له "نعم", أشوقًا أم حبًا أم حنينا؟ لا تعلم

ما كان سيحصل لو أنه كان نصيبها منذ البداية, فتشاركه رحلة اكتشاف مرضها؟
يقف بجانبها فتشعر بيده تحيط ظهرها, وصدره يسندها.
أن يطبطب على صدمتها فيقول لا بأس, أن يرمي الورد بدل الشوك على غصتها فيقول ستمر.
أن يحتضن أوجاعها الكيماوية فيقول لها ما قال ربي ( فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمّه فيقول ربي أكرمن )

كانت ستكون الأمور أخف حدة مما هي عليه الآن, فلا هي تخاف من معرفة السر ولا هي ستتردد من البوح به, وعند الحاضر الأخير تنهدت بقوة وهي ما زالت تشعر بسر مرضها يحول دونه ودونها

ارتفع أذان صلاة الظهر, رفعت حنين رأسها لوجه عمران النائم فراقبته وهو يغضن جبينه بشدة أكبر من سابقها, اتجهت إليه تسيّرها الحنيّة, انحنت من عليائها إليه, ولتوها كانت ستوقظه, لولا أن فتح عينيه الذهبيتين بشكلٍ مباغت أفزعها فكانت ردة فعلها أن شهقت بقوة

حدق بها عمران وبخوفها البادي على وجهها, فضحك بكسلٍ وهو يمد يديه إلى الأعلى ليتمدد, اقتربت منه حنين وعلى حين غرة لكمت كتفه فغضن جبينه بألم:
-خوفتني

اعتدل في تبطحه واتكأ بيدٍ واحدة وبيده الأخرى جذبها إليها ليجلسها بالقرب منه على طرف الكنبة, فابتسم قائلًا:
-عشانك غرقانة في التأمل, هاه وش استنتجتي؟

أحمّر وجه حنين, من قربه ومن كونه كان مستيقظًا أو متنبهًا لتأملها أو أيًّأ كان, فهمست بخجل:
-بكّاش, ما كنت نايم؟

تأملها مطولًا حتى قال بأعين ناعسة وصوتٍ أجش:
-تؤ, نص نايم, شميت ريحتك وصحيت عليها أنتِ وش من ريحة حاطه؟ تعالي

أنهى كلامه وهو يتمدد مجددًا ولكن هذه المرة محتضنًا لحنين التي بادلته الحضن بإبتسامةٍ خجلى, همست من بين صدره الواسع قائلة:
-عطوري عندك في التسريحة, ما غشيتك بواحد منهم

ابتسم بثقل وهو يغوص في مفرق رأسها ويقبله بعمق ليقول بهدوء:
-ما يمديك تغشيني أنا لك بالمرصاد

لا تدري لما حملت جملته تأويلًا أخر غير الذي كان يقصده, وارتجف داخلها لذلك لكنها صمتت واستكانت في صدره لتتنعم بتلك الثواني الخاطفة من يومه, فعمران في الآونة الأخيرة أصبح مشغولًا بعمله جدًا, وهي لم تشتكِ لذلك, الأمر الذي قدّره عمران كثيرًا

همس بعد دقائقٍ من الصمت بنبرة خفيضة جدًا, وبأملٍ يشعشع في الأفق قائلًا:
-مافي شيء في الطريق؟

تصلب جسدها بشدة في حضن عمران, الأمر الذي لاحظه الأخير واندهش منه لوهلة فابتعد وهو يحدق بها ليقول بإستغراب قلق:
-وش فيك؟

اعتدلت حنين في جلستها, ابتعدت عن حضنه فشعرت بالخواء الذي هب على غير عادة, أعادت شعرها للخلف ثم شربكت كفيها لتقول بهدوء:
-تو الناس, ليش مستعجل؟

استقام عمران من تمدده, أنزل ساقيه على الأرض وحدق بها في إندهاش ليقول:
-تو الناس؟ حنين محنا صغار عشان نأخر الحمل لهالشهور كلها, أنتِ المفروض حامل من أول شهر معي بس بغيتك تتعودين علي وعلى طبيعة حياتي

لم تتجرأ للنظر نحو عينيه وهي تعرف أنها كاذبة, أعذار, كلها أعذار:
-عِمران عطني وقت توني ما تعودت على فكرة الأمومة, الكلمة بحد ذاتها ترعبني! ما بالك بحقيقيتها؟

رفع حاجبه مندهشًا من كلمتها التي -هوّلت- الأمور وأخرجتها عن نصابها:
-ترعبك؟ حنين اللي يجرب الأمومة يستلذها مرة ومرتين وثلاث, المفروض تكونين أحرص مني على فكرة الحمل, أنا والحمدلله عندي واحد بس أنتِ ما تبين لك ضنا؟

عقدت حاجبيها بأسى, لا يحتاج أن يذكرها أن ذاك الـ" واحد " جاء من طليقته السابقة والتي أنجبت له بكل شرف ذكرًا سيظل يُذكر به ويكنى باسمه مدى الحياة, وقفت من مكانها واتجهت نحو التسريحة لتفرغ بها غضبها:
-أنت عندك واحد, الله يخليه لك, أنا خلني أدرس الموضوع لأنه ماهو سهل علي مثل ما تظن

وقف هو الأخر وأخذ يحدق في ظهرها بجدية بالغة, ليقول بنبرة متكومة في الحنق:
-ماخذك مزهرية؟

استفزها قوله, رفعت نظراتها الحادة إليه لتقول بجدية تظهر لأول مرة أمامه:
-تكون ماخذني آلة تفرخ عيال؟

اقترب منها في لمح البصر, أدار جسدها حتى أصبح مقابلًا لجسده, فزعت للوهلة الأولى وبعد النظر إلى عينيه حل الإرتباك والخوف على قلبها, عيناه تلمعان بقسوةٍ وغضب مكبوت, ما باله؟ قال هامسًا بفحيح:
-لا تعطيني ظهرك إن كلمتيني مرة ثانية, أنتِ عاقلة وأنا عاقل نقدر نتفاهم مع بعضنا مثل كل الناس الطبيعية, والحين فهميني؟ ليه ما تبين الحمل؟ وش رادك عنه وأنتِ ماعدتي صغيرة؟

نظرت إليه بعينين يملؤها العتاب للحظة, قالت هامسة بأسى:
-خايف يمر بي العمر ويجف نبعي ثم ما يرويني ماي الأرض كلها؟

عمران وذهبيتاه تلتهبان عقب كلامها وصدره يتراعد في سكونٍ مخيف:
-مايرويك إلا مايي يا حنين, طال بنا عمر ولا قصر وهذه أيامي معاك, أنا نبعك والماي المروي لك لا عاد تقولين مثل هالكلام!

أسبلت أهدابها وهي تود الهرب, الهرب إلى ما لا نهاية, بعيدًا عن سطوة عينيه, بعيدًا عن لهيب أنفاسه, بعيدًا عن حرارة جسده التي تصيبها بحمى الولة في كل مرة, بعيدًا عن سرها الموجع, عليها الهرب قبل أن تسبل أغوارها تحت إمرته ثم لا يحمد عقبى العلانية:
-أجل ماعندي إلا هالإجابة, إلا إن كانك تبي تجبرني

عمران بجدية وهو يتراجع للخلف قاصدُا أداء صلاة الظهر وهو يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
-ماني جابرك على شيء يا بنت عمي, مير مابيك تعوفين العطاء وتجربين غلاك

استدار خارجًا وهو يسحب شماغه من طرف الكنبة ويخرج إلى خارج الجناح, بينما جلست حنين على كرسي التسريحة بإنهيار وهي تشعر بقواها تخور فتخور حتى لا يبقى منها شيء ترفع به إصبع, كانت قاب قوسين أو أدنى من ذلك, وهي الجبانة! في كل مرة تتراجع عن البوح خوفًا من هذا الوجه الذي رأته, الوجه الذي يقسم لها من شعور "اللارغبة" بداخله فيستغنى عنها ويفلت حبال وصلها

وقفت بضعف اعتراها واتجهت إلى دورة المياة لتتوضأ فتصلي صلاة الظهر قبل ذهابها لمنزل أهلها, وهي تتذكر للتو, أن هذا أول نقاش لا يكتمل بينهم, بل ويفقد فيه عمران بضعًا من أعصابه

أنهت صلاتها وهي تدعو الله التيسير والتسخير, استخارت ربها في أمرها وقررت قرارًا سريعًا بعد الصلاة فرفعت هاتفها واتصلت برقمٍ ما, لتحمل عباءتها وحقيبتها وتخرج إلى الخارج بعد أن أغلقت الجناح

دلفت إلى الصالة وتلقتها ندى بقلقها الدائم:
-وش فيه أبو محمد نازل والشياطين حوله؟

ابتسمت حنين بإجبار, وضعت حقيبتها وعباءتها بالكرسي المنفرد ثم اتخذت مكانها بجانب ندى قائلة -وهي تستغفر الله بداخلها على كذبتها- بهدوء:
-ما به شيء خالتي بس مشى يلحق على الصلاة

ما إن أنهت جملتها حتى دخل عمران من باب الصالة بذات الملامح المتجهمة التي نزل بها, يحمل شماغه على كتفه وأبقى على طاقيته وعقاله في رأسه, صعد مجددًا إلى الأعلى دون أن يوجه كلامًا واحدًا سوى سلام ألقاه على الجالسين, ولم ينتبه لأيهم

اندهشت والدته أكثر وأيقنت مما لا يدع مجالًا للشك أن به علةٍ ما, التفتت إلى حنين مستفسرة لكن الأخيرة هزت كتفها بلا حيلة حتى تبعد عنها الشبهة, حقًا ولما يكون ما به منها هي فقط؟ لعلها تراكمات ظهرت جليًا بعد نقاشهم, أو لعل أحد ما اتصل به في طريق عودته وعكّر مزاجه
أيًّ كان, لا يجب أن تكون المعنية بتعكير مزاجه

حوقلت ندى والتفكير يقضم منها قضمة كبيرة, قالت وهي تحدق بحنين في ضيق:
-الله يصلحه ويهديه ويهدي سره, محمد بيجي اليوم؟

تأملتها حنين في ثوانٍ قليلة ثم قالت وهي تحدق بأظافرها المقلمة بترتيب أنيق:
-لا خالتي محمد مسافر مع أمه هالاسبوع, وقال عِمران الأسبوع الجاي كله بيكون عنده

رفعت أم عمران حاجبيها بدهشة, كيف يمسح عمران بذلك؟ أن يسافر محمد من دونه ويستأمن عليه والدته فقط:
-عمران شلون وافق؟

ابتسمت وهي تميل برأسها للجانب كناية عن عدم درايتها, فعمران نادرًا ما يشاركها القرارات المتعلقة بمحمد, لا يشاركها إلا برفقة طليقته وهذا ما أصبح يغيظها في الفترة الأخيرة, فما الداعي لكل ذلك التواصل الأسبوعي بينهم إن كان محمدًا يأتي ويروح برفقة جدته خاصة بعد زواج تليد؟

تنهدت بداخلها في أسى, والجرح تقرح بمنى عِمران, رباه يريد طفلًا, وهل تلومه؟ بالطبع لا, فمن في سنه يوشكون على بلوغ الأربعينات أصبحوا يجارون أبنائهم في الطول, وهي هنا تمنن عليه بطفلٍ وطفلين

ليس بيدها, هي تريد كذلك, والله تريد, كاذبة إن قالت غير ذلك لكنها تخاف أن ترفع سقف الأمنيات فيتحطم على رأسها, ما زالت تخضع للعلاج وما زالت تبتلع كمًّا هائلًا من الأدوية خوفًا من أن يعود المرض إلى مبايضها, فرغم إستئصال واحد منهم إلا أن خباثة هذا المرض لا يعرف الوسطية, فإما أكون أو لا أكون في جسدك

استأذنت من ندى للخروج, لكن قبل أن تخطو خطوة تراءى لها ولندى من الأعلى صوت صراخ استنفرت على إثره القلوب والمسامع, لم يك سوى صراخ ريمان .. وعمران!

رباه ما الذي يحصل بين الجريحين؟








*
*
*
*
*
*










كانت ساهمة تطرق الهاتف على راحة كفها بشرودٍ وتفكير عميق, متكئة على طرف التسريحة في جناح غرفتها الواسعة, تخجل من تسميته بالجناح فقد كان يحتل ثلاثة أرباع الطابق العلوي بأكمله

تفاجأت بالذي دخل عليها في وقتٍ مبكّر من هذا اليوم, فالساعة ما زالت الواحدة والنصف ظهرًا وعمله لا ينتهي إلا عصرًا, رأته وهو يدخل بملامح متجهمة يرمي حقيبته التي يحملها معه أينما حل وارتحل ثم وجّه نظراته إليها ما إن انتبه لها

ابتسمت ابتسامة خلابة, فاقترب منها وهو يقتنص بنظرات عينيه كل سانتيمترًا في جسدها, مرورًا بأصابع قدميها ثم بساقيها صعودًا لقدّها الممشوق المختبئ خلف فستانٍ من مخمل خفيف باللون الأخضر المشرق, لينتهي بنحرها المزين بعقدٍ ماسي أهداها إياه بمناسبة مضي شهر على زواجهم, وأخيرًا حطت عينيه على ملامح وجهها الجميل

حاصرها بين جسده وحافة التسريحة, انحنى من عليائه فقبلها قبلة مطولة استرسل فيها بعمق, ولم يبتعد إلا حينما سمع تنفسها المضطرب, همس من بين أنفاسه ولا يفصله عنها إلا طرف شعرة:
-وش ناوية عليه الليلة؟

لعقت طرف شفتها بتوتر ضمرته في نفسها, ثم قالت بابتسامة خجلى:
-مو ناوية على شيء أنت اللي خايف تنلدغ مرتين!

-"تليد!"

كانت بنبرته شيءٌ من التهديد والوعيد المجنون, فاندفع بعاطفته مجددًا ما إن رمشت بأهدابها عند ذلك النداء, فابتعدت عنه بصعوبة لتقول وهي مأخوذة بأنفاسها:
-سند

تنهد وهو يتراجع للخلف, نزع شماغه وأتبعه بعقاله ليرميه على السرير دون مبالاة, فتح أزرة ثوبه ونظر إليها من الأعلى فقد كان يفوقها طولًا:
-بدلي ملابسك وخلينا نتغدى

قال ماعنده واستدار وهو ينوي أن يستحم مطولًا لينزع عنه تعب العمل, إلا أن قبضة تليد منعته من ذلك لتقول قبل أن يرحل بعجلة:
-لحظة سند

التفت ينظر إليها في صمت منتظرًا لحديثها الذي تود قوله, فاستطردت وهي تقول بثقة متذكرة لتلك المكالمة التي وصلتها:
-بس قبل لا تمشي حبيت أقول لك إن الليلة معزومين عند أهلك, خالتي اتصلت قبل شوي تأكد لي على العزيمة وقلت لها تم

تفاجأت تليد بنظرته التي احتدت, اقترب منها ليقول بصوتٍ حاد أجش:
-نعم؟

أكلمت تليد ببراءة وهي تضمر بداخلها جميع الحديث الذي تود قوله:
-خالتي مسكينة لها شهر تصر على العزيمة وأنا استحيت أردها أكثر من كذا بس أنت قلت لي لين شهرين لا تقبلين بأي عزيمة عشان ارتباطاتك, وتونا من كم اسبوع راجعين من سفرتنا, فما قدرت أرفض أكثر من كذا

سند بنبرةٍ حادة تخللها بعض الحزم:
-من سمح لك تقبلين العزايم بدون ما تردين لي الشور؟

رفعت حاجبها بدهشة, من أسلوبه الحاد أولًا, ومن رفضه البادي تاليًا, لكنها أردفت بثقة عالية وهي تبتسم إحدى إبتساماتها الجادة:
-أذكر إنك قلت لي أنا وأنتِ واحد وحسبت هالكلام ينطبق على العزايم, وأصلًا عيب نقول عنها عزيمة هذاك بيت أهلك عبارة بيتك وما نحتاج دعوة عشان نزوره

سند ودون جدال يذكر قال بجدية:
-كنسلي العزيمة, اليوم معزومين عند زميل عمل لي في بيته وزوجته أصرت على جيتك, بتروحين عشان تواجهيني

حافظت على ثباتها وهي تقول بذات الثقة الجادة:
-معليش سند بس الأولى من هالعزيمتين عزيمة أهلك, وأنت داري إن خالتي تصر علينا من أول يوم زواجنا, كان أعتذرت عن عزيمة صاحبك

أشاح بوجهه, ثم بظهره وهو يتجه إلى دورة المياة ليقول بجبروت:
-ما سمحت لك تقبلين من دون رأيي, والحين لاقي لك مخرج لأني ماني معتذر عن زميلي, هذا أنا وإياه بيننا مصالح تهمني أكثر من عزيمة تافهة ببيت أهلي

"عزيمة تافهة"؟
ما أروع هذا المصطلح يا سند, وما أقوى قلبك الذي أشاهد سلطانه وجبروته يومًا بعد يوم
ما ظننت أن العزة بالإثم ستقاطعك بطريق أهلك ..
كذّبت الظنون والشكوك وحتى الأوهام لكن نبرة صوت أختك ثم والدتك وهي تطلب مني برجاءٍ شديد أن أقنعك بالقدوم قد قُطّعوا بسكين اليقين

منذ أن دخلت منزل سند وهي تلاحظ النمط الجاد على جميع زواياه, فالمنزل يقبع في بياضٍ مزعجٍ للعين لا تدري كيف تعايش معه سند لخمسة عشرة عامًا حسبما تعرف, بدأت بوضع لمساتها منذ اللحظة الأولى التي قال لها أن تعتبر المنزل منزلها

وأول إضافة أضافتها هي الأشجار, فوضعت نباتاتٍ داخلية في أماكن عدة حتى تكسر حدة اللون الأبيض الذي بدى أشبه بالكفن, ثم دخلت إلى سند بذاته, وما أصعب الولوج إلى دواخل سند

منذ شهرين, منذ ليلة زواجهم الأسطورية التي تناقلتها الألسن طويلًا, وهي تحاول جاهدة أن تنبش خبايا هذا الإنسان الذي تخالط شره بخيره, فتارة تراه في أبهى صوره الملائكية وتارة يصبح شيطانًا مخيفًا بغضبه

تحاول التأقلم والتكيف معه, فهي ليست في حرب سيوفها التغيير, أو معركةٍ رماحها التبدل والتحول, هي في شراكة حياة, أن تقول نعم لعيوبه مثلما قالت نعم لمحاسنه, سند ليس بسيء, صدقًا, ليس بشخصٍ سيء بل إنه رجل يسعى جاهدًا لإثبات نفسه وذاته

لكن مشكلته الوحيدة تنبع من داخله, أنه مضطرب بشكل غير سوي, وهذا الإضطراب لامسته في إنقطاعه عن محادثة أهله أو زيارتهم

خرج من دورة المياة ملتفًا بالمنشفة حول خصره, حدق بها تجلس على الكنبة وبيدها شيءٌ ما, قال بجدية:
-قلت لك بدلي ملابسك

رفعت عينيها إليه عما أشغلها بعد أن كانت تلتهمه بنهم, قالت بإستغراب:
-وليه أبدل ملابسي؟ توي لبستها

قال وهو يتجه إليها ليجلس بجانبها وتشاركه قطرات الماء الساقطة من شعره على ذراعيها المكشوفين:
-ما أحب اللون الأخضر, وما هو بزينٍ عليك

رفعت حاجبها الأيمن من فظاظته, حسنًا, بالطبع لم يغرقها طوال هذه الشهرين في الكلام المعسول والغزل الرقيق الصاخب لكنه كان يحملها بعاطفته الرجولية إلى سبع سماواتٍ ولم يسقطها يومًا إلا بين أحضانه, لكن أن يكون فظًا غليظًا بهذا الشكل, ويحطم "مجاديفها" الحديدية في أول أيام حياتهم لهو أمرٌ جم

استطردت وهي تعيد أنظارها إلى ما بين يديها, كان بإمكانها مجادلته مطولًا, لكنها فضلت أن تسايره بمشاكسة تجيدها:
-طيب بفكر

تأفف وهو يرمي المنشفة الصغيرة التي كان يمسح بها وجهه, قال بجدية وهو يحدق بما بين يديها:
-وش تطالعين لك ساعة؟

اتسعت ابتسامة تليد وبانت الحماسة على ملامح وجهها فسرح فيها دون أن يعي, لتقول بطفوليّة لم تك تقصدها:
-ألبوم زواجنا, وصلني أمس لما كنت ببيت أهلي وجبته معي بعد ما وريتهم إياه, يجنن يا سند توفقت باختيار المصورة, شوف

تمعن في أصابعها وهي تنتقل بين صفحات صور الألبوم الملساء, فينظر تارة إلى صورها التي بدت بها آية بالجمالٍ والكمال, وتارة إلى صوره الملتفة بالبشت الأبيض المذهبة أطرافه بملامح وجهه الرجولية المترفة, كان عرسًا باذخًا كما لو سقط من العصور الوسطى من شدة بذخه

نسي أمر الصور, وبدأ يحدق بتمعنٍ في أصابعها التي تحوي دبلة ماسية فخمة, كانت تنتقل بين الصور بحماسة الفتيات, وهي تمتدح فستانها مرة ومرة تصفيفة شعرها دون أن تتطرق للعرس الأسطوري الذي وضعه لها, فاستفزه ذلك

مايعنيه شعرها أو فستانها أو مكياجها؟ كل ما يعنيه أنه استطاع أن يكسر عين "بعض" الضيوف بالذي قام به, بماله وتعبه, فنظم ما لم يخطر على البال من الألف إلى الياء, في الحقيقة لم يتعب نفسه بالبحث وراء كل تلك التافهات فوقته الثمين لا يسمح بذلك, لكنه كلّف إحدى شركات التنظيم ودفع لهن مبلغ وقدره ليخرج الحفل كما أراد تمامًا

قال بابتسامة مائلة تخللها بعض الجدية:
-الفستان حلو يا عروسة, بس ليه الباقة كذا؟ من الزفت إللي سواها؟

اندهشت من حديثه, ماهو بقاصد؟ فقد كانت مسكتها رائعة بحق وتعبت باختيارها:
-حرام عليك والله إنها تهبل ومتناسقة مع ترتيب القصر, كل شيء يجنن

شخر شخرة صغيرة ليقول وهو يمرر أصابعه بتروي على ذراعها العاري:
-هه, أكيد بمبلغ وقدره, لو إني دبرتها لك مع شركة التنظيم كان عرفوا شغلهم, ولا هالخرابيط إللي جايبتها

أمالت فمها وقشعريرة سرت بداخله, ليس من حديثه بل من اصابعه التي تمر بمكرٍ رجولي على ذراعها:
-عادي, المهم إنها أعجبتني وتماشت مع ثيم الحفل, بشيل الألبوم أوريه أختك تبي تشوف الصور

انحنى إليها وهو يهمس في أذنها بسخطٍ جاد:
-ما يطلع هالألبوم من غرفتنا, ياويلك لو شميت خبره برا الغرفة سامعة, ممنوع أحد يشوفك بهالشكل غيري

عضت على لسانه وقلبها داخل صدرها يتصارع حتى أوشك على الخروج برحابة, إلا أنها قالت بثباتٍ مصطنع وهي تهمس:
-أختك مهي غريبة

أبعد الألبوم الذي كان يتوسد أحضانها, وفي ثوانٍ معدودة كانت تجلس على أقدامه, احتضن خصرها بتملكٍ رجولي شديد التمسك, ثم أمالها إليه ليقول هامسًا ولا شيء يفصله:
-كلامي ما أعيده مرتين, سمعتيني؟

تقبضت بكتفيه خوفًا من أن تقع, وهي تعلم أنها لن تقع, علمت ما يريده في هذه اللحظة فآثرت إستغلالها بمكرٍ أنثوي أصبحت تجيد لغته جيدًا بعد زواجها منه, وضعت سبابتها على شفتيه لتقول بإبتسامة ذو حاجب مرفوع:
-همم, طيب لحظة! بنروح لأهلك صح؟

همس من بين أنفاسه اللاهثة وهو يحدق بثغرها اللامع:
-يصير خير!

تمنعت للحظة عن القبلة الخاطفة التي كان سيسترقها, فتقول بذات المكر الجاد:
-لا لا تحاول, ما تنول إللي بالي بالك لو ما أرسيتني على بر, بنروح لأهلك وتعتذر من زميلك صح؟

أغمض عينيه بصبرٍ طويل البال وهذه الماكرة تغالب حتى لا يصل إلى مراده بالسرعة التي يبتغيها, فقال, لا يدري إن كان صادقًا أم يسايرها بهمس محترق:
-نعنبو رادك, أبشري يابنت نايف !









*
*
*
*
*
*
*










دخل إلى شقته في أحد الأحياء السكينة وبيده كيس صغير من البقالة, نزع فور دخوله معطفه الأبيض ووضعه على العلاّق بالقرب من الباب. صوت فرقعة المفاتيح ببعضها, ورائحة الكشنة القادمة من المطبخ الملتصق بالصالة, الذي امتزج ببخور وروائحٍ أخرى لم تتبينها شعيراته الأنفية ترحبه في كل مرة بسكينة الحياة التي غاص بها من شهرين

البتول!
زوجته, ورفيقته منذ شهرين في هذا المكعب الصامت الذي لا يقطع صمته سوى حديثها السلس والمرحب لكل ما هو آتيٍ منه, تخرجه في كل مرة من قوقعته بصعوبةٍ بالغة دون كلل أو ملل,

منذ أن عاد للعمل بالمستشفى وهو في حالة إضطرابٍ دائمة, حابسٌ لأنفاسه في كل مرة يدخل بها من بوابة المستشفى ولا يتنفس الصعداء إلى بعد عودته للشقة, شقتهما

ها هو يتنفس مجددًا, يوم روتيني أخر بصحبة قلقه وصمته وإنطوائه, كم كان يملك علاقات رائعة في سابق عمله لكنه اليوم, وبمكانه هذا أصبح يتحاشى الحديث حتى أوشكوا على تلقيبه بالطبيب المجنون

وقف على باب المطبخ, وجدها هناك ترفل كفراشةٍ بين عين الفرن والمجلى, همة, تتراقص في همة منذ أن عرفها

أصدر صوتًا خشنًا من حنجرته لم يتعمد خشونته لكنه كان كافيًا لأن يجعلها تلتفت إليه بتلك الابتسامة التي تزين ثغره:
-اشوه اليوم ما نقزتني, تعلمت الدرس زين

لم يملك إلا أن يبادلها الابتسامة, فعدوى ابتسامتها تنتقل إليه لا إراديًا, لكنه ضمر ابتسامته المرتجفة وهو يرفع الكيس من وجهها:
-جبت لك طلباتك

شع وجهها فرحًا ما إن أوفى بطلباتها, غسلت يديها من صابون الغسيل وجففتهم بالمنشفة المتعلقة في ذراع الفرن, اتجهت نحو الكيس لتحمله بين يديها وتجلس على الطاولة بنهمٍ طفولي

حدق بها زياد, ليجلس هو الأخر مقابلًا لها وما زال يرتدي "سكرابه" الطبي, يراها وهي تفتح الكيس وتخرج محتوياتها, فطيرة تفاح, حليب فراولة, شوكولاتة بالبندق, "بيضة كندر", حاجيات لا تُذكر دأب على إحضارها لأخيه سطام في صغره, لكنها تشكل فرقًا في ملامح وجه هذه الطفلة الوقور

-"أمي الله يرحمها كانت تجهز لي هالفطيرة كل يوم مع حليب الفراولة للمدرسة, وسبحان الله كبرتْ وكبرت معي العادة, حتى بعد ما تخرجت وتوظفت وصرت طبيبة وأنا ماقدر أستغنى عن هالوجبة"

تقولها البتول وهي تحدق بالفضول الذي ينضح من عينا زياد, تقصم من الفطيرة ثم ترتشف رشفة من الحليب, إلا أنها غصت حينما رأت عيناه تتأمله بتمعنٍ وتركيز

أنزلت ما بيدها وأدخلته داخل الكيس, شعرت بالعلقم الذي مر عوضًا عن طعم حلاوة التفاح, تفهم نظراته هذه جيدًا, وتفهم المغزى من ورائها

لكنه جباااان!
والأنكى من ذلك .. أنها جبانة.

أغلقت عين النار وغسلت يديها مجددًا بالصابون ثم اتجهت إلى غرفتهم الرئيسية شبه الصغيرة, دلفت وأغلقت الباب وراءها لتشعر به يتبعها إلى داخل الغرفة في سكون

بثرثرة مضطربة يقول وهو يراها تنزع مشبك الشعر فيسيل كموجٍ في البحر:
-بتول, أنا أسف

أشاحت بوجهها بعيدًا عنه لتقول بجمود ملامحها اللطيفة حينما تتصلب:
-لا تزيد الطين بلة وتعتذر يا زياد, ما صبرني معاك إلا شهامتك!

شعر بقلبه ( يقرقرع ) بداخله فمشى إليها حتى وقف خلفها، وضع يده على كتفيها وضغط عليهما بقوة ليقول بنبرة متوترة:
-لا, لا تقولين كذا, لا تجلسين معي عشان شهامة حقيرة ما قدرت استردها, أنا أسف صدق

البتول بحدة، تحشرج صوتها على إثرها:
-قلت لك لا تعتذر, لا تحرجني وتجرحني زيادة

تنهد وهو يحدق بها في المرآة تنظر إليه بتلك الملامح الحادة التي لا تناسب -قطعًا- جمالية وجهها، فتتخذ من شخصيتها الأخرى ندًّا لتخبطه هذا:
-وش يرضيك؟

عقدت حاجبيها بوجع، أسبلت أهدابها وكفيه ما زالا على كتفيها:
-أنت اللي قول لي, وش يرضيك؟

-"أبي راحتك"

-"كذاب"
قالتها بنبرة منفعلة فضحت تخبّط مشاعرها المرتبكة بداخلها، زياد يلاعبها، لا شك في ذلك، أو أن يكون به علةٌ ما وقد -غشّها- أخيها بها

استطرد زياد بمحاولة خجولة منه، فهو لم يبرر سابقًا مواقفه وإن أراد فلن يستطيع:
-البتول, اسمعيني

التفتت إليه بانفعال، حدقت بوجهه الأسمر الرجولي، استطردت بنبرة مهزوزة من الوجع والخجل والتحسر:
-كذاب وجبان يا زياد, وخر ما أبي اسمعك

هز رأسه نافيًا، تبًا لثقته المهزوزة، أينها حينما يحتاجها:
-مو مو كذاب, ولا جبان, ولا .. ولا حتـى …

البتول بنظرة قوية، ونبرة أقوى قالت دون أن يرف لها جفن:
-ولا حتى رجال؟

بانت الحسرة في عينيه حتى كادت تفيض وتسيل على ملامح وجهه، قال متنهدًا بعتاب:
-ما أقوى قلبك, الله يسامحك

أبعدت كفيه عن كتفيها بقوة، نظرت إليه وهي تقول بجدية هامسة:
-تبي تقنعني, أبي أعرف أنا عايشة مع من, وش يبي مني؟ ليه يقرب منه مرة ويبعدني عشرين مرة؟ أنت اخترتني تبيني؟ ولا اخترتني تلاعبني

ارتبك زياد، يكره هذا الهجوم المباشر، ما بالك إن كان هجومًا أنثويًا كاسحًا، ممتلئًا بالرقة والقوة في آن واحد:
-ءءآ, الاثنـ.. أقصد, أنا أبيك, ايه أبيك, ليه تقولين كذا؟

أشاحت بجسدها جانبًا، جلست على طرف السرير وهي تقول بتصلب:
-مو مستعدة أقضي حياتي مع شخص ما يفقه بواجباته

تقدم إليها وتراقص الخوف في قلبه، خوف؟ رباه، لما يخاف منها وعليها؟ ما هذا الشعور الذي هبّ إليه من شرق الأرض ومغاربها دون أن تهيئه لذلك

جلس على الأرض بطرفي أصابعه أمامها، أمسك يديها بين كفيه السمراويتين، قال بهدوء قلق:
-البتول, لا تقولين كذا! ما أسمح لك تروحين

البتول بإصرار فظيع وهي تحدق بعينيه، فتجدهم محشورتان في الرغبة، والعطاء، والصدق والاضطراب، ضجيج مشاعر مختلطة لا تهدأ:
-لو بغيت أروح بيت أخوي مفتوح لي

قال بنبرةٍ آسرة في عتاب، أوجعت قلبها من الوريد إلى الوريد:
-وأنا من لـي؟

فجأة!
انكبت منهارة على السرير وهي تبكي بكاءً صامتًا موجعاً لروحها، بكاءً حُشر بعضه في الخجل والألم والحياء والوصب، ليس بسهلٍ عليها أن تواجهه فيما يفعل، لكن الشكوك ستقتلها لا محال إن لم تبادر وتسأل وتستفسر

هي ما اعتادت على ترك أمورها للخلاء تسيّرها الهواء، أو أن تمشي على البركة دون تخطيط وترتيب، هي واثقة مما تريد، وهو لا يعرف ما يريد
وهي بين إرادتها وإرادته متخبطة في خجلها العارم منه ..

همست من بين نشيجها الصامت، وهي تشعر بيده تربّت على ظهرها بطبطاتٍ مرتبكة:
-وش تبي يا زياد؟ الله يخليك قول وش تبي مني؟ تعبت مو عارفة من أي جهة أجيبك, ليه أشوف بعيونك شيء وبتصرفاتك بشيء, أنا صرت أشك بنفسي في كل شيء!

شعرت به يرفعها من انكبابها ليجلس بجانبها وهو يحتضن كتفها بيد ويده الأخر تتجه إلى ذقنها، أدار وجهها نحوه، يمسح دموعها برقة شديدة خوفًا من خدش زجاجيّة بشرتها

قال بهمسٍ، دون أن يدرك، خرج حنونًا على غير عادته:
-مدري, مدري ماعندي إجابات, بس أفهمي شيء واحد, أنا أبيـك!







*
*
*
*
*
*
*










صفعة دوت على جدران المنزل ..
تلاها صوت بكاء أرتفع أخيرًا من تلك الساخطة الحانقة على كل شيء, من أخيها, وأبيها, ثم مصابها

اتجهت إلى دورة المياة وهي تنزع قطع ملابسها واحدة تلو الأخرى, نارٌ تشتعل في جوفها لن يطفئها إلا برودة الماء, وقفت أسفل الماء وسمحت للبرودة أن تتغلغل إلى مساماتها المنكمشة نتيجة الإحتراق

سقط على ذاكرتها حديث أخيها الصاخب كما سقط الماء الندي على جلدها المحترق, كان يصرخ بعتبٍ لا يستحقه, يتحدث بحديث لا يجب عليه قوله, بأي عين يتحدث؟ كيف يتجرأ النظر إلى عينيها وعتابها بهذا الشكل الغبي

آآآآه!
تنهيدة قاسية خرجت منها أسفل الماء, وهي تسترجع بقسوةٍ حديثها مع أخيها:


-"أنتِ ساخطة ما تعرفين وش يعني الإيمان بالقدر, أنا لو كنت معك ولا بعيد عنك ما كنت أقدر أرد عنك قدر كتبه لك ربـي, لا تلوميني يا بنت أمي وأبوي, لومي إيمانك الضعيف"

يقولها عمران بجدية فتستطرد ريمان بصوتٍ صاخب حارق:
-"تكلمني عن الإيمان وأنت اللي علمتني أول حروفي, وأول آياتي, وأول دعواتي؟ تعايرني بضعف إيماني وأنت اللي انطقتني الشهادتين, وعلمتني معنى لا إله إلا الله وحفظتني الـ بسم الله الرحمن الرحيم, أنا آمنت بالله وبقدره خيره وشره, لكن غاليت في الإيمان بِك يا أخوي, نسيت إن العباد غدارين وإن رب العباد حسبي فيهم"

يالله!
متى تعلمت هذه الصغيرة صفّ الحروف الموجعة في صدقها إلى هذه الدرجة, استطرد عمران وصوته يتعالى فقد فاض كيله:
-"وبطريقك أنسي اللي ربيتك فيه, أنسي إني كبرتك وعلمتك وحفظّتك وحافظت عليك من أدنى الأمور وأصغرها, أنسي أول سنونك اللي طاحت علي يدي, وأول أيام مدرستك اللي بكيتي فيها بحضني, أنسي خوفك وحزنك وفرحك وسعادتك اللي ضميتها لك بقلبي, انسي المعروف واجحديه يا ريمان لأني ما استاهل منك إلا الجحود والنكران"

-"وش تعرف عن الوجع عشان تطالبني بنسيانه؟"

تقولها ريمان بضحكةٍ ساخرة غائصة في الوجع فيستطرد عمران:
-انحبستي بالغيبوبة وانحبست بالسجن, الوجع بالوجع والناسي أظلم يا بنت قلبي"

صرخت فيه ريمان, وكل تلك الذكريات تهب عليها كهبوب اللهيب بين الخراب:
-"اطلع برا, اطلع .. الله يراويك وجعي وشلون أنساه, تشوفه في أغلى ما تتمنى يا عمران, عمري ما كرهتك مثل ذاك اليوم, عمري ما تمنيت أدعي عليك كثر هاليوم, آآآآآه, أطلع قهرتني, قهرتنيييييي"

ابتسم بحزنٍ أسود طغى على قلبه بشكلٍ انهشه وأدماه, قال وهو يتجه إلى الخارج بعد أن رآها تدخل غرفتها ولحقها إلى عتبة بابها:
-"تنسيّك الأيام يا ريمان, ويجيك اليوم اللي تقولين فيه ياليتني نسيًا منسيًا قبل لا أقول مثل هالكلام لأخوي اللي كان بمثابة كل الأيام, أيام الحريق.. ماهي أوجع منك علي"











*
*
*
*
*
*
*











"كيف الشغل؟"

وجهت حنين سؤالها المترقب نحو نسيم التي تجلس في جلسة ملتفة حول نفسها مرتدية لبنطال وقميص باللون الأسود الذي رغم فخامته بدى كئيبًا عليها, فاستطردت نسيم بهدوء:
-زين, ماعليه غبار, قدرت استرجع مهاراتي الحسابية

ابتسمت حنين وهي تنظر إليها وإلى ردة فعلها:
-تخلص عدتك على خير وأخليك تمسكين قسم المالية في الأكاديمية, على وقتها تكون الموظفة طلعت إجازة أمومة وجبتك بدالها, وإن بغيتي تتسيدين المكتب سمعًا وطاعة

شعرت نسيم أنه كنوعٍ من المواساة التي رفضتها بقسوة منذ اللحظة التي تطلقت بها, لكنها شكرت في داخلها سعي أختها الدؤوب لمحاولة تغيير مزاجها:
-ماتقصرين

حلقتا الاثنتان في صمتِ موحش لدقائق, لا يقطعه إلا ذهاب وإياب العاملة بينهن, لتردف حنين وهي تقطع هذا السكون قائلة بابتسامة:
-تبينا نطلع مكان؟

عقدت نسيم حاجبيها لوهلة, نظرت إلى أصابع كفها فقالت بعد تنهيدة قصيرة:
-لا، حنين كفاية تعامليني مثل الطفلة، أنتِ وغيرك من أهلي خلاص أنا بخير

زفرت حنين بهمًّ تحمله في قلبها لأختها, لو تبوح, فقط لو تبوح لها, أو لو تبكي وتصرخ وتعترض وتفرح على الأقل, فلا أسف على شبيه رجل كغسان:
-متأكدة إنك بخير؟

نسيم بجدية لا تعلم إن كانت صادقة بها أم كاذبة:
-ايه بخير ليه ما أكون بخير وأنا تجاوزت فصل ثقيل على قلبي في حياتي؟

حدقت بها حنين في سكونٍ لحظي, لتكمل بعد ذلك بتساؤل هادي حول حياتها السابقة:
-عمرك ما حكيتي لي عن حياتك مع غسان، لهالدرجة كانت سيئة؟

ابتسم ابتسامة صغيرة محمولة بالسخرية, همست من بين أشواكها التي تنغز عبرتها لتقول:
-ما زادت سوء إلا بالفترة الأخيرة

لا تدري حنين لما مر بها شعور أسود أقرب للخوف والرعب على هذه النسمة الرقيقة, ولا تود الغوص بالتفكير لتؤول أفكارها إلى أمور مرعبة:
-وش سوا فيك؟

نسيم بسكون جامد أردف:
-وش تفيد الإجابة وغسان انتهى من حياتي؟

حنين بذات سكونها وهي تسترجع ما سردته عمتها هناء على مسامعها قبل شهرين, بعد طلاق نسيم بعدة أيام:
-كلام أمه ما يقول إنه انتهى

اتسعت ابتسامتها الساخرة على وجهها الندي, لا تليق به هذه الابتسامة المتهكمة قطعًا, لا يليق به إلا السكر والعسل وكل ملذات الدنيا, قالت بهمس:
-كلام أمه؟ هه, أخر همومي كلام أمه

"

(كانت بأول أيام عدتها, حينما اتخذت غرفتها محرابها لإعتكافها بصحبة دعوات الحزن والصلوات النعي, دخلت عليها الخادمة بعد طرقاتِ مطولة وهي تخبرها أن أحد ما دخل إل صالة دون أن ينتظر أحدًا من أهل البيت

استدركت نسيم أن لا أحدًا في المنزل, لا بد أنهم شدوا الرحال إلى حنين لمؤازرتها في مصاب عمران, لذا خرجت أنذاك بهيئتها تلك, وجهٍ شاحب شحوب الأموات, جسدٍ هزيل يكاد يتلصق عظمه بجلده, شعرٍ مسرح بفوضوية لا تليق بنظامية حياة نسيم, نزلت إلى الصالة بذهنٍ مشحون وقلب مشغول

ولم يخطر على بالها أن ترى ما رأته ذلك النهار, فقد كانت والدة غسان تجلس في صالة البيت الرئيسية -التي نادرًا ما يستقبلون فيها الضيوف- بملامح مخطوفة من الدم, وثوب عادي لا يلائم أناقتها التي عرفت

سرعان ما وقفت الأخيرة على قدميها وهي تحدق بنسيم في شرٍ مستطير, لتقول بنبرة لا تحمد عقباها:
-حي الله زوجة ولدي, أو أقول طليقته؟

كادت نسيم أن تنسف كل مبادئ الأخلاق ومكارمها في وجه أم قاتلها لولا أن تذكرت كِبر سنها وما يوجب عليها من إحترام:
-صرت طليقته رسميًا

أم غسان بنبرة قاسية تقول:
-أبركها من ساعة, من يوم دخلتِ حياته وأنتِ ماخذته منا, لا نشوفه ولا يطل علينا ويوم تطلقتوا .. يوم تطلقتوا يا بنت الزفت تحالفتوا على ولدي أنتِ وزوج أختك وأخذتوه بالحبوس, وش كان ذنبه؟

صمتت نسيم, وهي لا طاقة لها للجدال حقًا, لم تعرف بما حصل لغسان إلا عقب طلاقها الشفهي منه بيومين فلما هذا العتاب الذي ينضح من بين ثغرها كسيوفٍ تسددها نحو قلبها؟

أكملت أم غسان بحقد:
-ما شاف معاك يوم زين, ليتني يوم جاني يبي يخطب غيرك قلت له أبشر أجيب لك أزين البنات وأخيرهم, ولا العاقر إللي ما منها فايدة

تصلبت ملامح نسيم, ما هذا الهراء الذي تتفوه به؟ أي كذبة نسجتها بأوحش الخيوط وأبشعها لتصدقها؟ همست بإضطراب:
-لا تلبسيني شيء ما هو فيني, أنا أعرفك

تقدمت أم غسان إلى مكان وقوف الأخيرة, وقفت أمامها مباشرة لتصرخ بغضب حارقٌ على فلذة كبدها:
-تعرفيني بوشو؟ إنك طول هالسنين معاه ولا جبتي له ضنى يشيل اسمه قبل لا يموت؟ أو إنك يا حقيرة تدورين مسعى غير ولدي؟

اتسعت عينا نسيم, لم تتمالك أعصابها فصرخت في وجهها بوجعٍ حانق:
-حدك عاد, لا ترميني بهالكلام, أنا صبرت على ولدك صبر أنتِ يا أمه ما تتحملينه من زوجك, ما في أحد غيري تعاطى مع جنونه وصراخه وضربه وتكسيره بكل البيت, تحسبين ولدك ملاك؟ الشيطان ما يورث إلا شياطين, وأنتِ ما أنجبتي إلا شيطان سرق عمري وسنيني

مع نهاية كلامها تلقت نسيم صفعة أحمّر على إثرها خدها وأمال رأسها للأسفل, لتقول أم غسان بإرتجافة قلب وجسد:
-حقيرة, وتظلين طول عمرك ناكرة للعشرة, بعد ما رزك وعزك جاية تقولين عنه شيطان, ما الشيطان إلا أنتِ يا نسيم, لكن وين تروحين مني؟ والله ما يفكك من يديني أحد, ولا بتشوفين بعده يوم أبيض, أنا لك بالمرصاد

خرجت من الصالة الرئيسية وسط ذهول نسيم من الصفعة التي تلقتها وهي تكرر على مسامعها العاقر, العاقر, العاقر, كأنها بذلك تعيد عهد ابنها وجبروته على حياتها, صفعة ذكرتها بأحد الصفعات التي كان يتناولها غسان أثناء نوبات جنونه

سقطت حينها نسيم على الأرض وكأن ما كان ينقصها تلك الفترة قشة تقصم ظهرها أكثر مما هو مقصوم, خبأت ما حصل عن عائلتها, لكن العاملة التي كانت شاهدة كانت قد نقلت الخبر إلى هناء التي وبخت نسيم بشدة أنذاك, ولامتها لما لم تخبرها لتضع لها حدًّا تقيم به نفسها)

"

ابتسمت بسخرية:
-الحمدلله إنه عدى بخير وشره, وكلامها ما يزيد مني شيء ولا ينقص, رحم الله امرئ عرف قدر نفسه!

تنهدت حنين وهي تقول وترتدي حجابها ثم غطاء وجهها وتحمل حقيبتها:
-نسيم لا تترددين يوم تشكين لي من اللي صار لك, البوح أحيانًا أفضل من الصمت, على الأقل أعرف إنك تجاوزتي غسان وغسلتيه من قلبك وجسدك, أنا بمشي لموعدي الحين تبين شيء؟

هزت رأسه بالنفي وهي تهمس بهدوء بعد أن اتكأت على ظهر الكنبة:
-سلامتك!







*
*
*
*
*
*






كان يهمس بالأرقام ويقوم بالعمليات الحسابية في عقله, ويدونها على الدفاتر أمامه حتى يضمن حقوق الناس وحقوق عدوان, ما إن أنتهى حتى رفع صوته المزعج ليقول بنبرة أكثر أنزعاجًا:
-عبدالعليم, عبدالعليــم, وجع وينك؟

أتى عبدالعليم من داخل الفرن بوجهٍ متعرق ومريلة امتلأت بالطحين وهو لاهث الأنفاس:
-نعم بابا؟

عقد ساعي حاجبيه وهو يقف ليمده بالدفتر بنبرة تحذير جادة:
-هذا الدفتر تسلمه يد بيد لبابا عدوان, زين؟ إن طاح مني مناك ولا صار له شيء خليتك وراء هالمكتب تعيد الحسابات ليل بنهار

لم يفهم عبدالعليم من حديثه إلا الشطر الأول, فهز رأسه وتناثرت على إثرها حبيبات عرقه ليقول له ساعي وهو يهم بالخروج بجدية:
-خلاص روح كمل شغلك وإن خلصت قفل المخبز, أنا مدري العروس هو ولا مرته إللي رايح يتجهز لشوفتها من الحين

مشى ساعي بطريقه إلى منزله بعد أن تلقى رسالة نصية كان يتحين إليها هذه الأيام, وما دام أن عدوان منشغلٌ بتجهيز نفسه, وتيمور مختفي, وعمران ليس بموجود فإذًا إنه الوقت المناسب ليقوم ما يريد القيام به

وقف أمام منزله, خرجت منه تنهيدة عميقة حملت برماد احتراقه, على حاله لم يتغير به شيء, ما زال شامخًا كما عهده لكنه ذابل, ذابلٌ وجدًا من الداخل

ولج بعد أن استخرج مفتاح المنزل, تحاشى النظر إلى باب الصالة المحترق والذي لم يتبق منه إلا القليل, اتجه مباشرة إلى المخزن الخارج وتناول المفتاح المعلق بتعليقة في عنقه, قابلته الظلمة والغبار المتكدس أعلى الكراتين

منذ شهرين لم يزر المنزل, تحاشى القدوم خوفًا على جروحه من التقيح فلتوها لم تبرأ بعد, كاد أن يغرق في ذكرياته لولا أن رن هاتفه في جيبه, فتنهد الصعداء

حمل الصندوق الأول ووضعه بالقرب من الباب, ثم الثاني والثالث وأتبعه بعشرة كراتين تفاوتت أحجامها بين الكبيرة والمتوسطة, وعلى الرنة الأخيرة للهاتف كان يخرج من المخزن وبيده أهم كرتون بالنسبة إليه, كرتون آلة الكتابة العتيقة

إنها الكنز الوحيدة المتبقي لديه من إرث عائلته, إن لم يحافظ عليه بحياته, فلا معنىً لحياته قط. أنزل أخر كرتون على توقف السيارة ذو الدفع الرباعي أمام المنزل, ترجل منها إحدى الأشخاص بملامح جادة لا تنبئ بما ورائها

صافحه ساعي بمشاعر غير معروفة, يراه وهو يحدق بالكراتين الكثيرة فعقّب قائلًا بهدوء:
-إن ما ياسعها المكان خذها مرة ثانية

نظر إليه الشخص في هدوءٍ أقرب للبرود, قال وهو ينحني على إحدى الكراتين وبدأ بتحميلها إلى صندوق السيارة:
-لا, ما أقدر أرجع مرة ثانية باخذهم كلهم على طول, أنت واثق من اللي تسويه؟

ساعي بجدية وهو يساعده في تحميل الكراتين إلى الصندوق:
-ايه واثق بس لا تعلم أحد, قل إني مرسول وهالأغراض مب لي, أنا أرسلت لك الدفعة المقدمة لشهرين بس أجي أبي كل شيء جاهز

أنهى تحميل أخرى صندوق فأغلق بابه بقوة ليلتفت إليه بعد ذلك محدقًا فيه بجدية ليقول:
-كل شيء جاهز من الحين, متى ما بغيت تجي كلمني وأرسل لك الموقع مع مفتاح المكان, يالله أسلم عليك

ركب الشخص سيارته وانطلق خارجًا من القرية نحو الوجهة المعنية حاملًا تلك الصناديق التي تحمل أسرار ساعي المخفية عنه بذاته, راقبه الأخير بشيء من وداعٍ ختامي وهو يزفر زفرة قوية هبّت معها أنسام الحسرات والكمدات, صعبٌ عليه, لكن يجب عليه ذلك, إن لم يقدم على هذا الخطوة سيظل الجُبن ينخره حتى يأكل عظام ثباته







*
*
*
*
*
*






ليـلًا

توقفت السيارة الفارهة أمام المنزل في ذلك الحي المتواضع, لم يتغير فيه سوى لونه الذي تبدل من الأصفر إلى الأبيض بعد أن جار عليه الزمان والحال

التفت إليها وهو يقول بجدية بالغة:
-أنزلي, بمر عليك بعدين!

حدقت به في صدمة عارمة, عله يمزح؟ بالطبع يمزح, لكن ملامح وجهه لا تنبيء إلا بالجدية التامة, فما هذا الإنقلاب السريع في قراراته, كان قد أخبرها أنه سيزور أهله بمعيتها وإذا به ينسف الوعد ويتجاهله

همست بدهشة لم تتوانى عن إظهارها:
-سند اتفقنا ننزل مع بعض, عشانا الليلة مع أهلك

سند وهو يحدق في ساعته التي تلف حول رسغه بذات الجدية:
-أنا كلمتي الأولى ما أعود فيها, والثانية بين وبين, من حسن حظك ماعرفتي كلمتي الثالثة, فانزلي وخلصي عشاك هاللي جيتي عشانه, أنا ما أرجع في وعودي لزملاء عملي

حبست غضبًا عميقًا تغلل صدرها حتى أوشك أن يقطعها, لتقول بنبرة جادة ثقيلة:
-يعني زملاء عملك أهم من أهلك؟ وش هالمنطق يا أستاذ؟

سند بصراحة, أقرب منها للوقاحة, قال دون أن يحدق بها:
-ايه نعم أهم, جلوسي هالساعات مع "أهلي" ما راح يطلع لي فلوس خلالها, أما لو جلست مع زملاء عملي فأنا عقدت عقود فورية وكسبت فلوس, كل ساعة معهم مهمة لحياتي العملية, أهلي ما راح ينفعون مستقبلي المهني

اتسعت عيناها من وراء حجاب, ما هذا الذي يهذي به, عجيب أمره هذا الرجل الذي يرى الدنيا مالٌ وعملٌ فقط, وينسى أهم أعمدة الإنسان في حياته .. عائلته, تقول بجدية:
-ما شاء الله على المبدأ يا سند, هذا أخر الكلام؟

قلب عينيه في الهواء لينظر إليها بطرف عينيه ثم قال بحزم:
-انزلي تأخرتي على عشاك, ساعتين بالكثير و أجي أخذك

ترجلت من السيارة وهي تصفع بابها متعمدة وعامدة, ستقتص منه على إخلافه بكلامه لها لمجرد أن يسكتها ويستدرجها إليه, فلم تنسْ بعد إشتعاله العاطفي ظهرًا في سبيل اسكاتها وتلك العلامات بجسدها خير برهان على وعده

همست وهي تحدق بخروجه الحذر من طريق الحي للشارع العام بجدية بالغة:
-طيب يا سند, ماهي أول سواياك, بس لا تحسب إني بعدي لك تفشيلتك لي! مابعد عرفت بنت نايف زين

دلفت إلى الداخل وبضعٌ من مشاعر الخجل تعتريها لدخولها اليتيم دونه, لا تود النظر إلى اللهفة بوجه والدته فقد كانت الأخيرة تأمل أملًا شاسعة أن يدخل عليها ابنها من باب هذا المنزل, وأن تشاهد الخيبة على مرأى من عينيها لأمرٌ موجع







*
*
*
*
*
*
*








وقف على سلم البيت الأخير وهو يتكيء بذراعه على طرف الباب, حدق بها في صمت شديد التأمل وهو يحجب بظهره الفارع الطريق عنها, ينظر إلى فستانها المنعش الذي يرفرف مع هبّة الرياح, كانت تبتسم في وجهه برقة, ولم يستطع أن يبادلها الابتسام رغم أنه لم يك عابسًا

حاول, مرة ومرتين واثنتي عشرة مرة بالتمام دون أن يستطيع, شعر أنه بذل مجهودًا عاليًا وأن تنفسه بدأ يصعب عليه, لولا أن هبّت الريح من جديد وحملت معها رائحة الريحان المزروعة في حوض النخلات

حينها, تكلف برسم الابتسامة ردًّا على رائحتها الطبيعية, والمجاورة له, فقالت بهدوء خجل:
-تبي تقول شيء؟

عدوان محافظًا على ابتسامته بصعوبة بالغة وقد بدأت أطرافه بالإرتجاف:
-شكرًا على عشاء اليوم!

أحمّر وجهها على حين غرة, شبكت أصابع كفيها ببعضهما البعض وأسبلت أهدابها في خجل عميق:
-عليك بالعافية

هز رأسه في هدوء ليحدق بها حتى أشعل جسدها, قال وهو يعتدل بوقفته ثم يرفع طرف شماغه للخلف بسكون:
-أنا بمشي, تبين شيء ؟

-"سلامتك, استودعتك الله"

كان ينزل السلم الباقي حين قالت تلك الجملة التي جعلت من جسده يتصلب دون أن يلتفت إليها, ظل يقلبها على جمر الغَضى حتى اكتوى بها قلبه, التفت إليها ببطء شديد وقال بلا شعور:
-وش قلتي؟

ارتبكت من نظرات عينيه السوداء وراجعت سريعًا في عقلها ما قالته, لم تقل شيئًا مريبًا, دعت له, هذا كل ما في الأمر, تأتأت بنبرتها لتقول بإرتباك:
-ءءا, قلت استودعتك الله

عاد إليها وهو يسابق الزمن واللحظات, صعد الدرجات حتى وصل إليه فتفاجأت به يمسك خديها بين كفيّه الخشنتين ويهمس بعاطفة صاخبة:
-كرريها, قوليها مرة .. قولـي

ابتلعت ريقًا مرتبكًا, ولتوها كانت ستسأله "ما بك"؟ إلا أنه هزها برفق من خديها لتقول تحت سطوته الباذخة:
-استودعتك الله

حبس نفسًا عميقًا مضطربًا في صدره وأغمض عينيه بقوة, ودون أن يبالي بالمكان زفر ذلك النَفَس وانحنى ليقبلها ألف قبلة لما بين عينيها

لهذا الدعاء دويٌ هائل الصدى على صدره المقفر من حنين, افتقد سماعه, في الحقيقة, لم يسمعه طوال عمره الفتيّ, فاستطعم الحرف تلو الحرف والمعنى تِلو المعنى, تلذذ به من استقامة الألف حتى حضن الهاء في كلمة الله!

ما أروعها!
كيف أهدته شعورا منسيًا في غيهب الجب وألتقطه هكذا على حين غرة كالسيّارة التي مرت على يوسف في البئر؟ بل كيف نقلته بدعاءٍ صغير, من ذليل حقير إلى عزيزٍ كبير

همس من بين أنفاسه بوجعٍ خالص, وهو يشعر بإرتجافة الهاتف في جيب ثوبه:
-استودعيني الله دايم, تذكريني بهالدعاء ذكرى ابن على بال أمه أو ذكرى حبيب بقلب حبيبه

عضت شفتها وهي تراه بهذا "الصورة" لأول مرة, صورة مستسلمة لشعورٍ جم عجز قلبه عن احتواءه, فقالت بحنو أمٍ وحبيبة:
-ما طلبت شيء

رن هاتفه في جيبه للمرة الثانية ومن النغمة علم المتصل, فابتعد عنها سريعًا وهو يدفعها للداخل ويغلق باب المنزل بجدية وعشوائية وإضطراب, مشاعر اختلطت عليه ..

جر أقدامه إلى ساحة الميدان حسب رغبة عمران, وهو يتشبث بدعائه اليتيم لهذه الليلة التي يشعر -بحدسه المعتاد- بخطورتها









*
*
*
*
*
*









"إن كانك جاي تعاتبني أقبض بابك واطلع, ماني ناقصٍ عتاب على أخر عمري منكم"

يقولها زاهد بحدة السكاكين موجهًا الجملة لإياس الذي دخل عليه المكتب في هذا الوقت المتأخر من الليل, فتنهد إياس بعد أن أختلى بنفسه وبالأوراق التي سلمها إليه وهاب:
-صل على النبي يبه, ما عاش من يعاتبك

همس زاهد وهو يشيح بنظره جانبًا ليقول بضيق:
-اللهم صلَّ وسلم عليك يا رسول الله, وش تبي جاي؟

كان سيجلس مقابلًا له, يأخذه باللين واليسر ويصلان إلى بر التفاهم في هذا الموضوع الكبير, لكن سؤال والده الأخير أخبره بما يجول في خاطره, أن يختلي بنفسه, لعل خلوته تحيي ذاك الضمير الميت بداخله:
-الحقيقة, يبه

زاهد بجدية بالغة وهو يقف ويوجهه ظهره لإياس حتى لا يفضح تذبذب مشاعره:
-أخوك ما قصر ليه جاي تدورها عندي!

-"عشان نتفاهم يبه, ونرسي على بر"

يقولها إياس بهدوء صاخب فهو ما زال تحت طور الدهشة منذ صباح اليوم, ليكمل زاهد وهو يقول الحقيقة, ولا غير الحقيقة:
-وش تبي أقولك؟ أقولك إني ما عرفت بوجود هذا الأخ إلا قبل أربع سنوات لما جاني من العدم وقال لي أنا أخوك من أمي ولي حق من ورثها, وعطيني نصيبي؟ طردته يومها, ولا تاخذك فيني الظنون لأنك لو كنت مكاني لسويت نفس اللي سويته, واحد بهيئة غريبة داخل عليك مكتبك يعلمك بحقيقة غريبة أكيد ما راح تقول له سمعًا وطاعة. نسيت كل السالفة ومرت هالأربع سنوات لين جاني قبل كم شهر مرة ثانية بس هالمرة لإثبات حضوره, جاء وجايب معاه ورقة تثبت صحة كلامه قبل أربع سنوات, وطبيعي يا إياس أشكك فيه, اسألني ليش؟
(التفت إليه بحدة ليستطرد)
-كانت عنده الفرصة قبل أربع سنوات يثبت لي أحقيته بالورث لو إنه جاب لي الورقة من ذاك اليوم, بس بعد هالأربع سنوات ما شفته إلا نصاب وستين نصاب, لكنه كان صادق وأنا اللي انغشيت بثقتي, أمي سوتـها, ومن لحظتها تذكرت كل اللي حكاه لي أبوي .. كيف تبيني أسلمه نصيبه من هالشركة هو وبناته وأنا اللي تعبت عليها وشقيت ليل نهار عشان أرفعها وأوصلها بالعالي؟ كيف أعطيه إياها باردة مبردة يتنعم بالفلوس اللي سعيت لها؟ هادي داخل على طمع .. وما كفاه إللي صار, من البداية كان ناوي عليكم .. دريت هذا الشيء من كلامـه لي بثاني مرة شفته فيها

أخذ نفسًا عميقًا, جلس على الكرسي بقوة ليقول بضيق تحشرج له صدره:
-قلت لك يا إياس تزوج, يا إياس تسلم إدارة الشركة, وأنت في كل مرة تصر وتعاند وتاخذك العزة بالإثم على أبوك, ليش يا إياس؟ لأني خايف توصل لكم مخالب هادي وتنهشكم وتصيرون بصفه دون صفـي, وأنا أبـوكم! هذا أخوك وراح, قدر هادي يمسكه وزوجّه بنتـه, وأنت في كل مرة تستخف بكلامي وتتجاهله, وأنا هنا أبتلع المـر وأدور على الحل وراء الحل

وقف إياس بعد هذا السرد الطويل من والده, لا بد ان هناك حلقة ناقصة, لا يعقل أن الاثنان ضحايا تفكير والدتهم, لذا قال إياس بجدية:
-الحل إنك ترد الحقوق إلى أهلها, لأن شرعًا وقانونًا الكلام هذا مرفوض يبه, مهما كان اللي تعبت عشانه بس الوصية تقول شيء ثاني, وهذه وصيّة ميت لا بد تحققها!
(حدق فيه ليقول بجدية مطمئنة)
-ومحنا واقفين ضدك يبه, أنت أبونا وتاج رأسنا بالأول والأخير, لا تظن إن وهاب تزوج بنت هالعم يعني خلاص ماهو راجع لعصمتك, إلا ما يجيه يوم يعرف مقدارك!

-"نسيـم"

تصلب إياس في وقفته وتجمدت نظراته نحو والده, كيف انتقل بهذه السرعة بين المواضيع دون أن يتنفس نفسًا واحدًا؟ ليس مستعدًا لسماع ما يجول بخاطره, لكن والده استطرد وهو ينظر إليه بشيء من مكر مصطنع:
-ما تضايقت على زواج وهاب, لكن من عرفت بطلاق نسيم وأنا أبيها لوهاب

ابتلع إياس العلقم الذي شعر به, ودون أن يبدي شعورًا واضحًا قال بجمود:
-بنت نايف بيجي لها نصيبها, وأخوي استقبل نصيبـه

وقف زاهد وهو يحدق به, كتف يديه خلف ظهره وبنبرة جادة:
-خالي نايف ما هنى له ليل ولا طاب له نوم من طلاق بنته, وزودٍ عليها طليقها مجرم تسبب لزوج بنته الثانية, أنا ما أبي أمشي من فوق هم خالي وأغض البصر عنه, أبي أشيل هالحمل عنه

إياس وهو يأخذ نفسًا حارقًا, قال بحزم متصلب:
-يبه وش دخل الموضوعين ببعضهم البعض؟

جلس زاهد على الكرسي وهو يحدق به في شيءٍ من ثقة, أن هذه المرة لن يرفض عرضه عليه:
-دخلهم إن وهاب سواها وتزوج، وقبل لا تجيك بنت هادي الثانيـة، أبيك تتزوج نسيــم، أفضل خيار لك








*
*
*
*
*
*
*
*









كانا يمشيان في الميدان
من بداية سـوره وحتى مكانهم الذي اعتادوا على الجلوس فيه وشبّ النار به, الصمت موحشٌ ومؤلم على الاثنين .. منذ أن سلّم عمران على عدوان وهو لم ينبس ببنت شفة منذ ذلك الوقت

كان عمران يتقدم عدوان بخطوتين, يمشي رافعًا رأسه بعزة وإباء, يكتف يديه خلف ظهره في صورة جادة لإظهار القوة والصلابة, الهدوء بات مزعجًا للأذان ..

فقبل أن ينطق عدوان متسائلًا عن الغاية من وجودهم هنا, باغته عمران بهدوء صلب وهو يحدق أمامه:
-البني آدم يمشي ويبني الذكريات طوب فوق طوب بهالأماكن وبس يرجع لها يستذكرها واحد واحد, من دون ما يغفل عن تفصيلة وحدة

لم يفهم عدوان مقصده, لكنه استشك في قوله وبدأت طبول الشكوك تقرع في صدره, فتأهب كما كان يفعل دومًا حينما يقال له حديث مبهم, استطرد عمران بخشونة:
-تصدق, كان هالميدان بمثابة متنفس لها, أنا وتيمور وساعي, مارسنا فيه كل أنواع التفريغ, كل اللي يخطر على بالك, بس ما عفنا السلاح إلا بعد جيتـك, احترامًا لك

ابتسم عدوان بأسى وهو يحدق في أقدامه التي تتبع خطى عمران, وهـنـا استدرك, مما لا يدع مجالًا للشك, أنهــا النهايــة, يكمل عمران بذات خشونته المرة:
-تدري الحين لما مريت على هالمكان, سألت نفسي وش اللي كان يمنع عدوان من السلاح؟ رغم إن في هالديرة الصغير والكبير يستخدمه

توقف عمران بشكلٍ مفاجيء, وتوقف خلفه عدوان, التفت الأول سريعًا فحدق في الأخير بذهبيتان تلمعان قسوة وحسرة على ما آلت إليه الأمور, استطرد قائلًا:
-يا ترى هل عشـانك تخاف منه, وما ألومك عليه, أو لأنك "مجرم" سابق تحت طور التوبة؟

حدق عمران بملامح وجه عدوان ليستشف ردة فعله على حديثه, لكنه لم يجد إلا البرود المرتسم على تقاسيم وجهه المترفة في الوسامة العربيّة, رباه لا يتضح الخبث عليه أبدًا فمن أي مدرسة تخرج ليتقن هذا التمثيل الإجرامي عليهم طوال هذه السنوات؟

ابتسم عدوان وهو ما زال ينظر إلى الأسفل, عاجز -وبصورة غريبة- أن ينظر إلى عمران:
-هذا سؤال عابر, أو أنا تحت التحقيق المقصود؟

أمال عمران فمه بقسوة, وحفيف ابتسامة صعدت إلى ثغره ليقول بخشونة:
-بتجاوب عليه في كل الحالتين

حدق عمران في قدمه العرجاء, تحديقًا مطولًا حمل معه كل الذكريات السيئة أنذاك, فقال بنبرة صادقة تمامًا, دون تزييف:
-لأنه سبب هالإصابة!
(رفع نظراته أخيرًا إلى وجه عمران المحتد في قسوته, وعينيه الذهبيتين تلمعان بخليط مشاعر جمة)
-ايه يا أبو محمد, أنا تعرضت في صغري لطلق ناري في رجلي خلاها بهالشكل, هذا الجواب اللي تبي تسمعه؟

ابتسم عمران بتهكم, يديه ما زالتا خلف ظهره وبطريق تحسسه تلّمس السلاح المختبئ في جيبه, فقال بجدية ساخرة:
-تؤ, شيء أكبر من تفاهة إصابة في صغرك, أنـت من يـا "عدوان"؟

رفع عدوان يده إلى شماغه لينزعه ويتركه على كتفه الأمر الذي جعل من عمران يتخذ وضعية التأهب وهو يتأكد من جاهزية السلاح, ابتسم عدوان في وجهه ابتسامة الـ"لا شيء", ليقول بسكونٍ متيقض:
-أنا "شيء" أكبر من إنك تتخيله يـا عمـران

في لحظة خاطفة, استخرج عمران السلاح من جيبه وصوبه بإتجاه رأسه, ها قد رمى أوراقه على المكشوف وبان المستور, عدوان ليس بعدوان, إنه المجرم الذي يبحثون عنه, وله صلة بالشبح, او قد يكون الشبح بذاته, يقول عمران بحدة موجعة:
-والله إنك خسيس

لم يرتجف حتى طرف عدوان عندما رأى السلاح المصوب نحوه, بل اكتراه الجمود ليقول بهدوء تام:
-خسيس, وأستاهل منك ترفع هالسلاح في وجهي

-"كنت عارف بحقيقتي طول هالسنين, جيت للديرة بهدوئك وفرضت علينا إحترامك واختلطت فينا بدون لا نحس فيك وبفساد دمك حتى عديناك منا وفينا وأخونا أكثر من إنك خوينا, هذا اللي تبيه من البداية؟ توصل لمسعاك عن طريقي؟"

قالها عمران بقسوة جارحة, فاستطرد عدوان وهو يحدق به في سكون غير مبالي بالسلاح:
-على هونك يا أبو محمد على هونك, ما كنت أبي منك شيء, أنا ما جيت أستتر فيك, أنا جيت أستتر من الدنيا القاسية إللي عشتها, ديرة شرق كانت مسعاي, مو أنت

عمران بحدة والحرقة تشتعل في صدره, ليس بهيّن ما اكتشفه في الأسابيع الأخيرة عن عدوان, هذا الرجل كان أقرب من روحه إليه, كان بفساده ونجاسته أقرب إليه من ذاته وأسرار ذاته, حمدلله أنه اتخذ من إزدواجية شخصياته ملجأ من أمثاله, وإلا فإنه لا يستطيع تخيل العواقب:
-تبي تقنعني إن ظهورك في أغلب مهماتي صدفة؟

عدوان بهدوء, يحاول أن يقف بهيئة واحدة حتى لا يقع ضحية لغضب عمران:
-كنت أحميـك

ابتسم عمران بقسوة, استطرد وهو يحدق به بقوة مشحونة بالغضب:
-من أنت عشان تحميني؟ من كلّفك أصلًا بحمايتي, أنت تدري من أنا؟ .. تبي أعدد لك بطولاتك إللي على قولتك حاولت فيها " تحميني"؟

أخذ عدوان نفسًا عميقًا, أُناس بقبائلهم يحتشدون في صدره يزأرون ويصرخون ثأرًا في وجه الأخر, هو كذلك, تتصارع رغباته في صدره, أن يحمي عمران أو أن يفشي نفسه أمامه:
-تبي أعددها أنا لك؟

-"ليلة ملكـتي, القنـاص"
قالها عمران بجفاسة, فأكمل عدوان وهو يتذكر ذلك اليوم جيدًا:
-القناص اللي كان متمركز قريب من بيت نايف ولد عمك, ولولا تدخلي في الوقت المناسب كانت رصاصاته مغروسة في صدرك وأنت اليوم تحت الثرى

-"ليلة الاستراحـة, الإنفجار"
نطقها عمران وابتسم عدوان ابتسامة صغيرة أقرب لابتسامة القرب من الموت, ليقول بسكونٍ جامد:
-أرسلت معلومة لرئيسك عن طريق هواتف الشارع إن الاستراحة مستهدفة, وأنقذتك ذاك اليوم قبل لا يتحول جسمك لأشلاء

شخر عمران بسخرية, وسلاحه ما زال موجهًا نحو رأسه بالذات, أكمل:
-اختطـاف غسـان؟

شرد عدوان في تذكر تلك الليلة التي علم فيها باختطاف غسان على يد إحدى الجماعات المنتمية للشبح, فقال وهو شاردٌ أمامه لا يحول بينه وبين الموت إلا شعرة:
-أنا اللي هددت خويّه الثاني لو ما انسحب من المكان لخليت العسكر يطبون عليهم, ولما استجاب بعد فوات الأوان خليتكم تقبضون عليه

اعتدل عمران في وقفته بعد أن كان متأهبًا في وقفة منحنية بالسلاح, ثم قال بتقرير أخير لواقعٍ مؤلم:
-الغربان والشاحنـة

ابتسم عدوان تلك الابتسامة المتحسرة التي تبكي لها دمًا ما إن تكشف ما وراء حجابها, ليقول وهو يتذكر كل الماضي الأسود الذي ارتكبه بحق إنسانيته وضميره, وسعيه الدؤوب لتنقية نفسه من الذنوب والخطايا:
-الماضي اللي يلاحقني!

-"كنت تظن إن هذه بطولات تحميني فيها من الموت, لكن بالنسبة لي يا عدوان -إن كان اسمك عدوان- إن هذه البطولات تدخل من ضمن الخيانة في قاموسي"
قالها عمران بشراسة صلبة وهو يحدق في عيني عدوان السوداء, حتى دمائه لم تخفْ أصله وفصله, يظن, وهذا ما أصبح يمارسه كثيرًا, يظن أن عدوان ليس بخليجي حتـى, بل مستترًا تحت دماء الخليجين

استطرد عمران بصوتِ جهوري تردد صداه في الخلاء:
-تعرف وش حق الخيانة في قاموسي؟

لم يقابله سوى الصمت الذي أصبح يحثه على ضغط الزناد وتكرار ما مضى, سابقًا, قبل سنتين, أطلق الرصاص وأصيب صديقه وجنديه مساعد, اليوم, والليـلة سيفرغ هذا الرصاص في صديقه وأخيـه:
-المـوت

-"سويها"

لم يتوانى عمران فاطلق رصاصة تهديدية, انطلقت لتصيب إحدى مناطق جسده ويتهاوى على الأرضٍ بجسدٍ مثقل بالحرقة واللوعة


*
*

في الجهة الأخرى, حيث تلقى عمران الإتصال من مساعد, صرخ به في صوتٍ غاضب بعد أن استمع إلى حديثه:
-أنـتو بخير؟ أي إصابات؟

مساعد من خلف الخط وهو يلهث بتعبٍ والمداهمة التي حصلت فضت جمعهم وزلزلت بسكونهم:
-بخير سيدي, بخير بس السايق مصاب وماني قادر أوصل له, كلمنا الإسعاف والفريق ما بعد أبعدنا عن الديرة تونا في الخط السريع

زمجر فيه خوفًا وقلقًا وغضبًا على ما حصل ليقول بصوتٍ أجش:
-أنا جاي لكـم

أغلق الهاتف ليرتدي ملابس فوق ملابسه الداخلية المبتلة سريعًا, حمل حاجياته ثم اتجه إلى سيارته المركونة بالزاوية, صعد إليها وأشغل محركها حتى انطلق بأقصى سرعته عائدًا نحو ذات المكان

رن هاتفه في طريق العودة, تلقفه دون أن ينظر إلى الرقم فقال بجدية تنتفض غضبًا:
-نعم!

-"اسم عدوان من اليوم تمحيه من قاموسك ولا تحاول تدور عليه, اعتبره مثل الملح اللي ذاب في البحر"
قالها الطرف الأخر بهدوء جبار يُحسد عليه وهو ينفث من غليونه الفاخر, فاستطرد عمران غاضبًا وهو يعلم جيدًا أن هذا الرجل هو المتسبب بكل هذه الجلبة:
-منت اللي تملي علي واجباتي, إن خذته بحر أو سماء أو بر ما يفكه من ملاحقتي بشر, ولا تحاول تتشيطر, عدوان معمم عليه بالاسم والصورة وخروجه من الدولة أصبح مستحيل

نفث ذاك من غليونه وهو يضحك بضحكة مستريحة, ليقول بهدوء باسم:
-إن لقيتوا له طرف خيط واجهوني, وايه صح .. لا تحاتي بنت جارك, ورقة طلاقها قدها في الطريـق

ليغلق الهاتف وسط سباب وشتائم عمران الذي رمى الهاتف على "الطبلون" أمامه








*
*
*
*
*
*







بعـد يوميــن

فتح عينيه على وسعهما وقفز من سريره متأهبًا وهو يحدق في المكان حوله بصورة بانورامية, عقله ما زال نائمًا لكن عينيه متيقضتين تدركان المكان الذي هو فيه

مكانٌ فخم, غرفة يخجل من تسميتها بغرفة, يطغى عليها اللون الرمادي والإنارات الصفراء, جال بنظرة إلى الأثاث فوجده أفخم مما يكون ومما امتلك, ثم أنزل نظراته حينما شعر بالوخزة في يده, وإذا به كيس دمٍ يدخل جسده بعد أن كاد أن يفقد حياته بفقدان دمه

-"الحمدلله على السلامة"

التفت عدوان بقسوة إلى مصدر الصوت فإذا به ذاك الشيـخ الكبيـر, آآآآآه, آهٍ وألف آه, ماذا فعلت به السنون لكي يراه بهذه الهيئة القاسية على قلبه, زمجر فيه بغضب ونحى جميع آلامه فور ما رآه ليقول:
-أنــــت!

ابتسم ذاك ووقف من مكانه ثم اتجه إليه بخطواتٍ بطيئة يتكيء بها على عصاته, وابتسامة تتسع رويدا رويدا ما إن يقترب منه, ليقول بترحيب مغالٍ به:
-ايه أنا, هلا والله بولـدي البِكر وقطعة من قلب أمه










عبثًا أحاول، سأمضي نحو حتفي
اليوم أو غدًا
سأقاتل ..
سأكسر قيود الخراب وأرتجي
من سماءٍ شفوق أن تعز تذللي
ما الطريق إلى النقاء
إلا شوكٌ، بعد شكِ، بعد ظنٍ آتي
وما أنا إلا سمُّ الوباءِ
بلا ضوء يومض، في قِيح جراحي
عبثًا، كل شيء تبدد
من الشِعر، والأدبِ
والأحلام، والأمنياتِ
والموسيقى، الحب والموت، و النجاةِ
فلا مطرٌ يرويني، ويغيثني
ولا الحقيقة تنجيني من سيّلِ دفاّقِ

انتهـى ❤


الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-02-23, 12:36 AM   #386

شجنّ العُذوب

? العضوٌ??? » 418154
?  التسِجيلٌ » Feb 2018
? مشَارَ?اتْي » 838
?  نُقآطِيْ » شجنّ العُذوب has a reputation beyond reputeشجنّ العُذوب has a reputation beyond reputeشجنّ العُذوب has a reputation beyond reputeشجنّ العُذوب has a reputation beyond reputeشجنّ العُذوب has a reputation beyond reputeشجنّ العُذوب has a reputation beyond reputeشجنّ العُذوب has a reputation beyond reputeشجنّ العُذوب has a reputation beyond reputeشجنّ العُذوب has a reputation beyond reputeشجنّ العُذوب has a reputation beyond reputeشجنّ العُذوب has a reputation beyond repute
افتراضي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عدواااااااانننننن 😭😭😭😭 ...
الله لا يسامحك يا عمران،... طيب داري انه تايب ومنقذك اكثر مرة وباقي تقوللل خايننننننننن؟؟.....
بدل ما يساعده ويحاول يفهم انه متورطططط ... يبغى يوديه بستين داهيةةةة..
حسيبك ربي الله لا يوديككككك بخخخخخير...كنت والله حاسه ان عدوان واحد طيب مستحيل اصلا يكون كذا وبدل ذا مايكون واثق فيه ...بما انه صاحبه،..
هو أول من صدققق فيه،...؟؟؟؟ اخ بصدري عليه دعواتتتتتت ماتخلصصصص...
قاهرنييييييييي....

الحين استوووووووب القفله كيف الحين الشبح ابو عدوان؟ ؟...
ياراسسيييييي....بسرعة ياكادي بسرعة نبغى الفصل الي بعده


شجنّ العُذوب متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-02-23, 01:55 AM   #387

ارجوان

? العضوٌ??? » 422432
?  التسِجيلٌ » Apr 2018
? مشَارَ?اتْي » 452
?  نُقآطِيْ » ارجوان is on a distinguished road
افتراضي

اوبا اوبا اوبا عدوان خبصنا الحين المفروظ نحزن عليه والا نعصب منه اوك تايب بس واضح ان قيده سوى مصايب وابوه ذا وش يطلع اجنبي سعودي وش هو من لحيه ليته اجنبي المشكله لو كان سعودي مايذبح الا خيانة ولد البلد لأرضه
هادي بينهبل لاجته ورقت بنته وبيحمل عمران المسؤليه لانه الي زكاه اله وشكل ريحان بتروح ل اياس طرقٍ عن خشم زاهد


ارجوان متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-02-23, 02:54 AM   #388

لينوسارة

? العضوٌ??? » 390438
?  التسِجيلٌ » Jan 2017
? مشَارَ?اتْي » 635
?  نُقآطِيْ » لينوسارة is on a distinguished road
افتراضي

السلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته

بارت رائع

لكن القفلة تركتنا ننتظر البارت القادم بفارغ الصبر

شكرا لك مني اجمل تحية


لينوسارة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-02-23, 04:14 AM   #389

الماس لايخدش

? العضوٌ??? » 499198
?  التسِجيلٌ » Feb 2022
? مشَارَ?اتْي » 124
?  نُقآطِيْ » الماس لايخدش is on a distinguished road
افتراضي

السلام عليكم..شكراً على البارت🫶🏻
مدري جاء على بالي البنت تقول لساعي ساعدني يمكن ريحان مو زمان اخته تقول بنخطبها لك يمكن تكون من نصيب ساعي بعد عدوان بما إنه طلقها🤨ههههه ادري استنتاج خربوطي😂 اعتربي نفسك ماشفتيه😂😂😂


الماس لايخدش غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-02-23, 06:42 AM   #390

الديَم

? العضوٌ??? » 508118
?  التسِجيلٌ » Oct 2022
? مشَارَ?اتْي » 50
?  نُقآطِيْ » الديَم is on a distinguished road
افتراضي

القفله الثانيه اللي صدمتنا عشاق طوبى 🔥

اهل عدوان عايشيين 😰.
وليه كل هالمده مايزورهم ولا يعترف فيهم ؟
وطلاق ريحان تم تكفيييييين كادي وش قاعده تسويين فينا !!!😭
اوجع قلبي لما طلبها تعيد جملتها " استودعتك الله " مشاعره متلخبطه ولدنا مايدري يفرح من الاهتمام وان فيه انسان يخاف عليه او يحزن لانه عارف ان نهايته قربت 💔.

عرسان الزمن الاغبر الحلوين 🫶🏻:

تليد والله ب تربي سند ايقنت ومحد ب يخليه يمشي على الصراط المستقيم الا هي و أول تربيه ب تكون بعد ما اخلف بوعده له ب تطلعها من عيونه
مستفز كيف ماقدر امه وعزيمتها ؟ يبدي عزيمة صديقة على اهله وقح قهرني تكفين تليد لاتقصرين فيه المتخلف 😡.

ام غسان خيييير حبيبتي شفيه ؟
بدل ماتشوف ولدها غلطان جالسه تحمل المسؤولية لنسيم
بس نسيم تستاهل هي جابت هالشي لنفسها 😤.


معليش استوقفني زياد و بتول مافهمت قصتهم☹
هذا وحنا متأمليين من زياد انه يتغير بس واضح انه مو معطيها مجال تطلعه من اللي هو فيه


ريمان.
ب اسكت عنها يكفي قالوني هاض من طلاق ريحان 🤗.

حنينّه وعمرانها :
حنين كل ما تأخرت انها تخبر عمران عن مرضها كل ماكانت مصيبتها اكبر وخاصة بعد ما لمح انه يبي طفل
توقعي انها ب تحمل قبل ماتخبره وانه ب يدري بالصدفه واتوقع من ريمان ب يعرف 😤🏃‍♀.


ساعي نقلته من ديّار شرق قريب وماراح يرده شي 💔
واضح واحد من الصناديق فيه سّر بلسم واكيد ب ينكشف المستور🔥

زاهد عسى ما زاهد :
اهم شي يحاول يطلع نفسه انه بريئ ، وفعلاً كلام الياس الشرع شرع يعني المفروض مو ماشي على الوصيه ويرجع الورث لاهله بس اناني مافكر الا بنفسه وقتها


حمل شيخه تم واضح من هالشال اللي ب تولد وهو عليها 🏃‍♀


الديَم غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:27 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.