الدور الثالث .... شقة 8 بقلم د. أحمد خالد توفيق

[MooNy87]

قصة جديدة

بقلم د. أحمد خالد توفيق


** الدور الثالث .. شقة 8 **




مايو 2008 :

الكل يلومنى ... الكل يعتبرنى مزعجا أعطل العمل وأضايق الجميع ... بابا يقول لى :
- (( العب فى الشرفة يا " علاء " ))

ماما ترانى فلا تتكلم ... فقط تتسع عيناها متوعدتين بالويل لى ... لماذا ؟ ... ماذا فعلت ؟ .. لا أعرف ... هى لا تعرف لكنها موقنة أننى سأفعل شيئا يستاهل هذه النظرة ....
عندما تكون طفلا فى الثامنة فإن عالم الكبار يبدو لك سخيفا جدا , وفى الوقت نفسه لا يرحب بك بتاتا ... لكن على أن أكون حذرا .... فى هذا الجو تتحطم أشياء كثيرة ... وسوف يبحثون عن الطفل ليوبخوه أو يضربوه . عندما يكسر الطفل شيئا فلأنه أحمق .. وعندما يكسر الكبار شيئا فلأن الطفل أحمق ... وضع الشئ فى موضع سهل الكسر ... لكنى أسمع ما يقولان همسا على باب الغرفة :

- (( أنت ترين كم الإنفاق ... هذا البيت يلتهم المال كبالوعة ... كل ما حمعته من مال السعودية قد تبخر . وماذا تفعلين براتبك ؟ ... لا شئ على الإطلاق ... كلام فارغ )) ..

- (( والمواصلات ؟ .. هل تدفع فيها مليما ؟ ))

- (( إذن استقيلى وابقى فى البيت .... هذا يوفر ثمن الماكياج وما تبلين من ثياب ... ويوفر على النظرات النهمة التى تأكلك أكلا ))
- (( الرجال عندها نظر أما أنت فلا ... فقط تنفق المال على هذه البلابيع الزرقاء التى لا تجدى فى شئ ... الموتى لا يعودون للحياة ))
- (( لا أعرف سببا يدفعك للتضحية ما دام المعجبون يلقون بأنفسهم عند قدميك لهذا الحد ... فقط لو كنت امرأة حقيقية لوجدت رجلا حقيقيا )) ..
- (( رجل حقيقى ... هأو ! ... تشرفنا ... أين كان الرجل الحقيقى بينما مبيض المحارة يوجه لك السباب فلا تجد ردا )) ..
- (( ولماذا لم تتزوجى مبيض المحارة منذ البداية وتريحينى ؟ )) ..

يتبع > .....

[MooNy87]

هنا تكتشف ماما أننى على بعد مترين منهما , فترفع سبابتها على شفتيها محذرة أبى من الاستمرار فى الكلام .. أقود دراجتى إلى الشرفة العريضة التى تغمرها الشمس وأنظر إلى الشارع .. هناك زحام سيارات وطلبة مدارس يعاكسون البنات ويشتمون . امرأة عجوز تتسول , وصبية فى سنى يخدشون طلاء سيارة جديدة , وهناك بائع فاكهة يقود عربته ... محلات أحذية وثياب فى كل ركن ..

كيف أترك هذا السيرك بداخل الشقة ؟ .. بالنسبة لى هذا أجمل مشهد فى العالم .. عمال بناء وكومة من الرمال وكومة أخرى من الأسمنت .. هناك سقالة يقف عليها رجل ضخم أسمر .. هناك خراطيم وهناك فئوس ..

انتقلنا لهذه الشقة منذ شهر , لكن بابا يقوم بتجديدها ونحن فيها .. يقول إنها كانت فى حالة سيئة حقا .. نقيم فى غرفة صغيرة وضع فيها أبى فراشا ومنضدة صغيرة وثلاجة وتليفزيونا .. وهو ينوى أن نبقى فيها إلى أن ينتهى العمال من باقى الشقة , ثم ننتقل لغرفة أخرى ونبدأ فى نقل أثاثنا من عند جدتى ..

يتبع ,,,,,,

[MooNy87]

..
باختصار: هذه أجمل أيام حياتي.. فوضى وضوضاء وزحام وقذارة.. كل شيء جميل ساحر.. جبل الرمال يجعلني أتصور أنني في الصحراء، وأنني أطارد العمال على دراجتي.. معظمهم ظرفاء يبتسمون لي لكنهم مشغولون جدًا.. وقد قال لي بابا إن علي ألا أنفرد بواحد منهم لأي سبب ولا أعرف لماذا..
بابا عاد من السعودية واشترى هذه الشقة.. عاد للشغل لكنه أخذ إجازة ليراقب العمال، بينما أمي تمضي معظم الوقت عند خالتي. العمال يصلون في العاشرة صباحًا لأنهم (بهوات) كما يقول بابا.. يعملون حتى السادسة مساء ثم يرحلون.. أحيانًا لا يأتون عدة أيام فيكرر بابا إنهم (بهوات) ويتشاجر على الهاتف مع شخص ما اسمه المهندس (عوني)..
الشقة جميلة.. لكن فيها أشياء غريبة.. مثلاً هناك ذلك المسمار الغليظ البارز من إطار باب الحمام.. هناك بقعة سوداء كبيرة على جدار الصالة وبقع أخرى سوداء في الحمام على الجدار الذي يعلو القيشاني.. هناك شرخ كبير جوار باب الشقة..
أمس قام العمال بهدم الصندرة الخشبية القديمة وأنزلوا الكثير من الصناديق.. يقول بابا إن هذه الصندرة لم تكن موجودة أصلاً لكن أحد السكان قام ببنائها ليضع فيها الكراكيب..
أشياء جميلة ومغرية جدًا.. هناك خرق ثياب وسكين ضخمة صدئة.. هناك حبل.. هناك رزمة خطابات قديمة عليها طابع بريد يمثل فلاحة.. هناك صندوق خشبي فارغ صغير الحجم، فتحوه فلم يجدوا فيه شيئًا سوى قصاصة ورق كتب عليها شيء ما ..

[MooNy87]

ألقى أحد العمال بكومة من الكتب القديمة المتربة.. كدت ألمسها لولا أن قفزت حشرة غريبة مرعبة تبدو كسحلية وجرت على قدمي هاربة.. صرخت ..
جاءت ماما من مكان ما وقالت وهي تضرب الأرض بشبشبها:
ـ"لا تخف.. هذه كتب قديمة مليئة بالعث والحشرات.. ابتعد وإلا اتسخت ثيابك"
كانت مشمئزة جدًا.. ما إن صرت وحدي حتى فعلت ما يفعله أي طفل آخر: عكس ما تريد بالضبط.. التقطت قصاصة الورق التي كانت في الصندوق..
ذهبت للمطبخ حيث كانت ماما تعد الشاي للعمال.. انتظرت حتى صبت الشاي في كل الأكواب لأنها تلومني دائمًا لو قاطعتها وهي تفعل ذلك.. ثم عرضت عليها القصاصة.. نظرت لها في شرود ثم قالت:
ـ"مكتوب: إنه الجنون.. دعك من هذا الكلام الفارغ وناد أباك ليحمل الشاي للعمال"
كل ما نهتم به سخف في رأي الكبار.. كل ما نقول تافه.. لكن هذه الأوراق تثير اهتمامي فعلاً.. سوف أرسم فيها رسومًا جميلة

[MooNy87]

فبراير 1965:

(صفاء) تخونني.. أعرف هذا بالتأكيد..
الأسطوانة تدور على البيك أب وصوت الست يخرج منها حارقًا لاسعًا يلهب أعصابك."رجعوني عنيك لأيامي اللي راحوا". أتذكر (صفاء) الرقيقة الناحلة بثوبها عاري الذراعين ذي التنورة المنتفشة وهي تتعلق بذراعي في وسط البلد وتقسم أنها سوف تحبني للأبد..
هذه الخطابات التي وجدتها في ذلك الصندوق الخالي في الصندرة تقول بوضوح إنها لم تنفذ الوعد. هناك كذلك قصاصة لا أعرف معناها تقول (إنه الجنون).. الخط ليس خطها ولا خطي، فمن جاء بهذا هنا؟.. أغلقت الصندوق وأخفيته حيث كان.. لا أعرف ما أفعله ولا ما أقوله.. لا أجرؤ على أن أعترف بهذا لنفسي فكيف أعترف به لشخص آخر؟

[MooNy87]

تطلب مني شراء تلفزيون.. تقول إن صديقتها ابتاعت واحدًا.. لا أعرف فائدة هذا الشيء، وأنا على كل حال أصحبها للسينما مرتين كل أسبوع.. تحب الأفلام الرومانسية لكن حبها لها بدأ يتزايد مؤخرًا.. فلماذا؟.. شعور مرعب أن تدرك أن دموع زوجتك وشرودها وأنينها ليلاً ليسوا لك.. بل له.. من هو؟.. اسمه (مصطفى).. هذا كل ما أعرفه عنه..
هذه الشقة كانت شؤمًا علي..
أعترف أنها رحبة واسعة.. تطل على شارع نظيف تحيط به الأشجار. أمس رأيت هدهدًا على الأرض جوار شجرة منها، وهو منظر نادر فعلاً. هناك كافتيريا هادئة صاحبها رجل مسن وقور.. لكن الجمال لا يعني السعادة دائمًا..
الشقة نفسها في حال متوسطة.. عيوب الطلاء.. المرحاض المهشم..المسمار الغليظ البارز من إطار الحمام الذي فشلت في انتزاعه.. البقعة السوداء الكبيرة على الجدار.. ثم تلك الصندرة الخشبية العتيقة التي أكرهها.. لكن ميزانيتي لا تسمح بتجديد الشقة..

[MooNy87]

أنا مدرس.. هي لا تعمل.. أعتقد أن هذا لا يجعلنا ثريين، لكنه يترك لنا نصف اليوم كاملاً لنكون معًا بعد عودتي من المدرسة وتناول الغداء والقيلولة، فمتى عرفت رجلاً آخر؟.. أعتقد أن هذا يعود للأسبوعين اللذين ذهبت فيهما عند أختها عندما تشاجرنا تلك المشاجرة الأخيرة.. لابد أن ذلك الـ (مصطفى) ظهر وقتها وكانت هي هشة نفسيًا.. ثم..
تخرج الطعام من النملية وتقول لي:
ـ"نحن بحاجة إلى ثلاجة .."
قلت لها في صبر:
ـ"أمي وأم أمي وأم أم أمي كن يعرفن كيف يدبرن أمورهن بلا ثلاجة.. أنا أشتري لك كل شيء طازجًا أولاً بأول.. ثم أن الصيف لم يأت بعد.. الطقس بارد"
(ليلى) الصغيرة تبكي.. تبكي بلا توقف . بكاؤها يحكم أعصابي.. انتقلت العدوى إلى (إيهاب).. الأطفال يشعرون بتوتر علاقة الوالدين على الفور ..

[MooNy87]

وأم كلثوم ما زالت تترنم..
عندما انفردنا في غرفة النوم في تلك الليلة كانت تلبس قميص النوم الكستور السميك، ثم تربعت على الفراش وفتحت مجلة المصور التي على غلافها صورة كبيرة لجمال عبد الناصر.. راحت تتصفح شاردة الذهن.. سوف تفتح مجلة حواء بعد ذلك كعادتها.. سألتها دون أن أنظر لها:
ـ"صفاء.. من هو مصطفى؟"
................

[MooNy87]

انتهى كل شيء في لحظات.. من المثير أن ترى كيف أن حياة المرء تنقلب أحواله 180 درجة بهذه السهولة.. وقد أدركت أنني ما دمت بلغت هذا الحد فمن الحمق أن أتوقف.. يجب أن اشفي غليلي حتى النهاية.. طعنات.. طعنات.. طعنات.. السكين العملاقة التي جئت بها من المطبخ ونظرة الذهول في عينيها عندما رأتها:
ـ"ماذا ستفعل يا (عماد)؟"
لم تختف نظرة الاحتقار بالكامل من عينيها بعد.. حتى وأنا أطعن وأطعن.. أخيرًا أقف أمام فراش غارق بالدم الساخن وأنا أدرك أن الأمر انتهى.. لابد من أتصرف بسرعة قبل أن أدرك بالضبط حجم ما خسرته. الآن فقط أدرك أهمية المسمار المعلق على باب الحمام.. أين ذهب هذا الحبل؟.. سوف أعقده على شكل أنشوطة تتدلى من المسمار، ثم أقف فوق كرسي الحمام.. ثم أركله..
قمت بربط الحبل وتهيأت لتنفيذ الخطة.. غارقًا في الدم لم أجد الوقت الكافي للبكاء بعد. هنا سمعت صوت (ليلى) يقول وقد صحت من نومها:
ـ"بابا.. أين ماما؟"
يا للصغيرة المسكينة!.. يا للصغيرين المسكينين!.. (ليلى) و(إيهاب).. كنت سأبدأ الرحلة وحدي وأتركهما وحيدين بلا سند.. لا يمكن تركهما في هذا العالم.. لا يمكن..
سوف أؤجل موتي بضع دقائق..

[MooNy87]

أغسطس 1941:

الحرب مستعرة، والإنجليز في مأزق . بعون الله سوف يسحقهم الهر (هتلر) ورجاله الشجعان. خرجت إلى الشرفة أستنشق بعض الهواء الطلق وأنعم بالمناظر الخلابة، فرأيت الشارع خاليًا اللهم إلا من رجل يصلح من وضع طربوشه على رأسه ويجد السير قاصدًا مقهى (ستافروس). (ستافروس) اليوناني لطيف المعشر طيب الشمائل الذي صار إلى طباع المصريين أقرب.
تعد لي زوجتي (فاطمة) طعام الغداء وتقف في أدب بانتظار أن أدعوها للجلوس. أنظر لها نظرة تعرفها فتهرع لتحضر لي قلة الماء التي تركتها تبترد في الشرفة. أدعوها للجلوس والأكل. أكلمها عن الحرب ومسارها وعن تقدم جيوش المحور في كل الاتجاهات. سبحان من سلط على الإنجليز من يربيهم ويلقنهم درسًا قاسيًا، حتى فروا كالجرذان لا يلوون على شيء. وكما قال الشاعر فصدق:"أسد علي وفي الحروب نعامة"..
أحب هذه الشقة الجديدة، فهي رحبة لا تخلو من اللطافة، تدخلها الشمس طيلة اليوم بلا انقطاع. إيجارها باهظ قليلاً وقد أخبرت بهذا صاحب الملك (مرقص أفندي أسكندر) لكنه قال لي إن الغلاء صار فاحشًا بسبب الحرب وهو لا يقدر على خفض الإيجار. (مرقص أفندي) من أعيان البحيرة، بينما أنا كاتب في ديوان الحقانية لا أملك سوى الماهية.