العدد 40 . عن الطيور نحكى ( كتابة / كاملة )

[MooNy87]

ماكس فرايمان


بالفعل تجد على وجه ( ماكس فرايمان ) كل سمات المدير التنفيذى لواحدة من أكبر شركات الأدوية فى العالم ..

التصميم .. الذكاء .. القسوة .. الظرف المغلف بالصرامة و الصرامة المغلفة بالظرف .. هذا رجل لا يؤكل بسهولة .. لا أعرف كيف يبدو رئيس مجلس إدارتهم لكنى لا أحب أن أختلف معه ..

شركة ( فيروجكس ) كما تعلمون من أهم شركات صنع اللقاحات فى ألمانيا و العالم .. ؟ الاسم نفسه يوحى بهذا لأنه خليط من كلمتى ( فيروس ) و ( هندسة ) .. و من الواضح أنهم يتحدثون عن الهندسة الوراثية ...

لما كان قد ترك ( الكاميرون ) اتصلت به فى مكتبه فى ( ميونيخ ) , و قد أرسلت له فاكسا يتضمن أسئلتى و أجاب هو عنها بالتفصيل ...

قال ( فرايمان ) :

- " لم آت إلى الكاميرون لهذا الغرض .. لقد كنت هناك بالصدفة و اتصل بى البروفسور ( هانز شرودنج ) لألحق بهم فى وحدة ( سافارى ) .. أنت تعرف أن ( شرودنج ) عالم مناعة و ألمانى , و قد جاء إلى الوحدة بعد إصابة سلفه و مواطنه ( شيفرن ) بداء آلزايمر , و قد عمل لفترة طويلة معنا كما عمل فى شركة ( شرينج ) .. من الطبيعى أن تنشأ صداقة وطيدة ..

حينما لحقت بهم فى الوحدة عرفت أنهم يواجهون مشكلة عويصة .. إن فيروسا من طراز H1 N1 يجتاح البلاد أو بدأ يفعل ذلك .. و قد شكل رئيس وحدة ( سافارى ) كيانا يدعى الفريق ( ه ) نهنته السيطرة على هذا الوباء .. طبعا لا يستقيم الأمر من دون تعاون منظمة الصحة العالمية و وزارة الصحة الكاميرونية , لأن ( سافارى ) تملك العقول , لكنها لا تملك أى شئ آخر ..

صارحت بهذا صديقى العزيز ( شرودنج ) , فقال لى وهو يقدم لى سيجارا :

- " أكلمك كصديق .. هذا حديث حميم بيننا لا يفرض عليك التزامات ما .. هل لدى شركتكم ما تقدمه لهذا البلد ؟ .. لو عرفت ما لديكم لاستطعت ترتيب الأمر مع وزارة الصحة .. "

كانت لقاحات الإنفلونزا مشكلة طيلة تاريخها .. هذا أمر معروف لأن الفيروس يغير خواصه بسرعة جهنمية .. مبدأ اللقاح هو أن تحقن الجسم ببروتين معين .. هكذا يكون الجسم أجساما مضادة ضده تحمى المرء من هجوم تال ..

فيروس الإنفلونزا يغير تركيبه من آن لآخر .. بحيث تصير الأجسام المضادة فى جسمك عديمة النفع .. و يستطيع غزوك بلا مشاكل ..

هذه هى لعبة البيولوجيا الجزيئية التى تبحث عن أكثر الأجزاء ثباتا فى فيروس التهاب الكبد ( ج ) أو الإيدز أو الإنفلونزا لتصنع منه مادة اللقاح .. أنت تستطيع أن تطيل لحيتك و تقص شاربك و تغير ثيابك و تضع عدسات لاصقة على قرنيتيك .. كل هذا ممكن لكنك مثلا لا تستطيع تغيير شكل صوان أذنيك .. هذا هو الجزء الثابت الذى يحارب علماء البيولوجيا الجزيئية ليلا نهارا كى يجدوه ..

أين صوان أذنى فيروس الإنفلونزا ؟



*************

[MooNy87]

وقفت فى ذلك الاجتماع الذى ضم أعضاء الفريق ( ه ) .. لم أكن متأهبا بالطبع للعرض , لكنى أعددت على عجل بعض الشرائح طلبتها من مكتبنا الدعائى عن طريق الإنترنت , مع الحصول على الأرقام الضرورية و الرسوم ..

كان ( مايرز ) يتولى الترجمة من الألمانية إلى الفرنسية .. إن لعبة اللغات معقدة جدا فى برج ( بابل ) هذا .. لكن الفرنسية هى ( اللينجوا فرانكا ) هنا على كل حال ...

قلت لهم و أنا أنظر على الشاشة التى ظهر عليها العرض التقديمى :

- " مشكلة فيروسات الدجاج هى أنها تقتل الدجاج .. و هذا يجعل استخدام البيض لإنتاج اللقاح عسيرا .. لكن شركتنا توصلت إلى زرع الفيروس فى خلايا يرقات الذباب .. قمنا بعمل هندسة وراثية لهذا الفيروس الجديد كى ينتج لنا البروتين H1n1 .. بهذا نحصل على كميات كافية من هذا البروتين تكفى لتطعيم الدجاج و تطعيم البشر..
"

سألنى الأمريكى ( آرثر شيلبى ) و هو يشعل سيجارا غليظا كاد يقتلنا جميعا :

- " متى يمكنكم إنتاج هذا اللقاح لو حصلتم على عينة فيروس ؟ "

قلت فى ثقة :

- " نحتاج إلى شهرين لن يزيدا يوما .. "

سألنى ( بارتلييه ) و قد بدا عليه القلق :

- " و اختبارات الأمان .. هل جربتموه على البشر ؟ "

- " لم نفعل .. نحن نتحدث عن شئ سيتم إنتاجه و لم يجرب بعد .. لكننا نتوقع أن يتم هذا خلال شهرين آخرين .. و خلال شهر آخر يكون المنتج فى الأسواق .. "

صاح الطبيب الصينى الذى نسيت اسمه :

- " كثير جدا .. أنت تتحدث عن خمسة أو ستة أشهر .. هل تتوقع أن تكون أسرع من الوباء ؟ "

و نقل لى ( شرودنج ) هذه الكلمات ...

كنت أتوقع هذا الاعتراض و أعرف إجابته :

- " نحن نتحدث عن فيروس متغير .. أى أن كل لقاح له ظروفه الخاصة .. أعطنى الفيروس أعطك لقاحا له .. فكر فى الأمر على أننى ترزى أخيط لكل زبون حاجاته , لكنى لا أتعامل مع الثياب الجاهزة .. إذا كنت تتحدث عن الجدرى أو الحمى الصفراء أو الحصبة يمكنك أن تذهب لمتجر الثياب الجاهزة , أما نحن فنتعامل مع إعادة التصنيف .. أخطر أسلحة الفيروسات "

ساد صمت كئيب .. كان الكل يفكر فى هذا الذى قلته .. بالطبع أعتقد أن أكثرهم لا يعرف شيئا عن طبيعة ما نقوم به باستثناء ( بارتلييه ) و ( شرودنج ) لأن البيولوجيا الجزيئية علم شديد التعقيد ..

قال الصينى فى عدوانية مهذبة برغم هذا :

- " إذن أنتم وجدتم الجزء الثابت فى الفيروس ! "

قلت بنفس العدوانية :

- " لا .. قلت إن هذا اللقاح سيصلح لهذا الفيروس فقط .. لكنه عديم الجدوى ضد أى فيروس إنفلونزا فى أى مكان فى العالم .. "

- " واضح أنه عديم الجدوى هنا أيضا ! "

هنا تدخل الشاب الملتحى الذى عرفت أنه عربى , و قال :

- " لو سمحتم لى .. "

قال ( بارتلييه ) فى لهجة مهذبة لكنها تحذيرية :

- " فيما بعد يا ( علاء ) .. "

طبعا خمنت أنه قال هذا من إيماءاته لأنه قالها بالفرنسية و ما كان ( شرودنج ) ليترجم كل شئ ..

قلت للفتى الذى شعرت بأنه متحفز ضدى لسبب لا أفهمه :

- " تفضل .. "

قال الفتى فى حماس بينما الكلام ينقل لى بالألمانية :

- " ألا ترى أنه من الغريب أن توجد هنا فى هذا الوقت بالذات .. و أن يكون عندك الحل الآن بالذات .. ثم أنت لم تقل كم يكلف هذا اللقاح .. هل ستلقحون جميع البشر أم تلقحون جميع الدجاج أم تلقحون الاثنين ؟ "

إلام يلمح هذا المخبول ؟

قلت له ببرود و أنا أغلق حاسبى الشخصى :

- " دكتور . أنا قلت ما عندى و الذى دعانى صديقى العزيز د. ( شرودنج ) لقوله .. بعد هذا لا أعرف ما ترمى إليه .. أما إن كنت تريد معرفة تكلفة هذا اللقاح فاعلم أنه يكلف كثير جدا ... لا أعرف الرقم بدقة لكنه باهظ الثمن .. "

هنا شاعت ضحكة انتصار كريهة على وجهه , و قال :

- " توقعت أن تقول هذا .. "

قال ( دو بوان ) لائما :

- " د. ( عبد العظيم ) .. لا أتوقع أن توجه إهانات لشركة محترمة مثل ( فيروجكس ) هنا أمامنا .. و إننى لأنسحب من هذه الجلسة إلى أن أسمع اعتذارا منك "

انصرف و انصرف الجميع و بقيت مع ( شرودنج ) و ( بارتلييه ) ...

دعانا ( بارتلييه ) إلى الغداء فى مكتبه , ثم قال لى فى رفق :

- " لا تتضايق من طبيبنا المصرى الشاب .. أنت تعرف اندفاع الشباب .. "

قلت فى برود :

- " أنا لم ألحظ ما قال أصلا .. واضح أنه يتظاهر بالذكاء .. "

قال ( بارتلييه ) و هو يمسك بسماعة الهاتف :

- " إنه لا يتظاهر .. إنه ذكى فعلا .. بالمناسبة ماذا أطلب لك للغداء ؟ "

- " أى شئ ما عدا الدجاج من فضلك !! "




*************

[MooNy87]

علاء عبد العظيم



فيما بعد و نحن نلتهم الطعام الردئ فى الكافتيريا قال د. ( علاء ) :

- " منذ دهر تعلمت الشك فى الشركات العملاقة العابرة للقارات تلك .. هناك شركات يفوق دخلها دول أوروبا الغربية مجتمعة .. تصور هذا ! .. ليس أوروبا الشرقية بل الغربية .. شركة واحدة تملك هذا كله .. أى أنها دول كاملة أو أكبر .. و إذا كانت الدول تغزو دولا أخرى طلبا لمزايا اقتصادية , فلماذا لا تفعل هذه الشركات ما هو أكثر ؟ "

" لهذا شعرت بالارتياب فى هذا كله ... "

" هناك من حقن الدجاج .. فيروس لا أصل له فى هذه البلاد يظهر فجأة .. شركة متحمسة تقدم اللقاح بسعر باهظ .. و هى تظهر على مسرح الأحداث أسرع من البرق . "

قلت للفتى المتحمس و أنا أكتم ضحكتى :

- " سمعت كل أنواع نظرية المؤامرة لكن لم أسمع عن شركة أدوية تشعل حربا بيولوجية كى تبيع لقاحاتها .. أنت عبقرى حقا .. الأمور لا تؤخذ بهذا المنطق البوليسى .. "

قال لى ( علاء ) دون أن يضحك :

- " لقد رأيت ما يشبه هذا فى مهنتى .. على كل حال لا تنس أن تجارة الدواء تفوق تجارة السلاح .. من الذى يشعل الحروب فى كل بقاع العالم ؟ .. حروب يحترق فيها الأطفال و تموت النساء و يباد الزرع و الضرع .. أليسوا هم تجار السلاح ؟ .. لماذا لا يشعل تجار الدواء حروبهم الخاصة إذن ؟ "

قلت له فى بساطة :

- " أنا ميال إلى أن هذا حدث بالصدفة .. الموقف لا غبار عليه .. لقد طلب من الرجل أن يعرض إمكانيات شركته فعرضها .. "

قال ( علاء ) متجاهلا ما قلت :

- " لقد رحت أفكر فى هذا الذى حدث , ثم قررت أن أعرف أكثر .. "

توجهت إلى ( آرثر شيلبى ) و قلت له إننى أريد دجاجتى .. يبدو هذا مضحكا لكنى بالفعل كنت أريد الدجاجة التى هى الدليل الوحيد على أن حقنا قد تم .. سأحتفظ بها بمعرفتى إلى أن تقوم وزارة الصحة بتشريحها و تحديد الفيروس الموجود بها .. لو اتضح أن هناك من حقنها فالشركة و ذلك التنفيذى النصاب هما المتهم رقم واحد ..

أنا أحب ( شيلبى ) .. فعلا أحبه .. لكنى أحيانا لا أطيق ثقته الزائدة بالنفس و شعوره بأن الباقين حمقى ..

قال لى و قد أدرك أننى مصر كالكابوس :

- " ليكن .. إننى أحتفظ بها فى المختبر .. ثلاجة المختبر كى تحتفظ بفيروساتها سليمة .. "

و هكذا اتجهنا إلى هناك ..

كانت د. ( هيلجا ) الشيطانية جالسة تنظر عبر المجهر , و قد رأتنى و رأت ( شيلبى ) .. هكذا قررت ألا تنسفنى .. أشرق وجهها و احمر خداها و اكتسبت أنوثة مريعة .. بشعة أنت يا ملاكى كالشيطان ذاته حينما تظهرين الرقة .. نسيت أن أقول لكم إنها ترى ( آرثرشيلبى ) وسيما إلى حد لا يوصف .. لا أعترض على هذا كثيرا , لكنى أعترض على كونها تعتبره الرجل الوحيد الجدير بها فى هذا العالم الذى خلا من الفرسان .. فى رأيى أنه ما من أحد جدير بها على الإطلاق , و هذا من حسن حظ الرجال عامة ..

قالت له و هى تنفث دخان سيجارتها :

- " مورجن ماين فرويند .. "

فقال لها :

- " مورننج ماى فريند "

و بعد هذا تجد الأمريكيين و البريطانيين يعتبرون الألمانية لغة أجنبية صعبة , و يرسبون فى امتحاناتها ! .. ذات مرة ترجمت مقالا كاملا بالألمانية معتمدا على قربها من الإنجليزية و على شئ يطلق عليه المصريون اسم ( الفهلوة ) ..

اتجه ( شيلبى ) بثقة إلى الثلاجة فلم تعترض الشمطاء ..

مد يده بنفس الثقة ثم تصلب .. هذه المرة اعتمد على عينيه ..

الثلاجة خالية .. لا شك فى هذا ...

لقد اختفت دجاجتى .... !


*************

[MooNy87]

و يستكمل د. ( علاء ) قصته قائلا :

- " طبعا ما سأقوله ليس للنشر لأن هذا يجعلنى عرضة للمقاضاة .. "

قات له و أنا أقدر الأمور فى ذهنى :

- " سيكون هذا صعبا .. سأحاول أن أقدم انطباعات لكن ليس على لسانك .. "

ثم أضفت باسما :

- " أنت متفائل بصدد انتشار مجلتنا .. لا أعتقد أنك واجد فى هذه الوحدة عشرة أفراد يعرفون ما هى مجلة ( أدفانس ) هذه , و لا إن كانت مجلة أم حليبا للرضع .. و لو نشرت فى مقالى إنك مدير الوحدة و إنك اكتشفت علاج السرطان لما لاحظ أحد .. "

قال و قد بدا عليه بعض الاطمئنان :

- " ليكن .. أقول إن اختفاء الدجاجة جعلنى أرتاب فى أعضاء الفريق ( ه ) أنفسهم .. من الذين عرفوا بوجود هذا الدليل ؟ .. لو كانت هذه مسرحية لأشرت بإصبعى السبابة إليهم و قلت بلهجة درامية : هناك خائن بيننا .. "

و فرد أصابعه ليعد عليها :

- " أولا : هناك ( شيلبى ) .. ثانيا : هناك الصينيان .. ثالثا : هناك ( دو بوان ) .. لا أحد يعرف بأمر الدجاجة إلا هؤلاء .. " – ثم ضحك و قال – " اسمح لى أن أطلق على الدجاجة اسم ( الدليل ) لأن الكلام عن الدجاجة يبدو مضحكا إن لم يكن سخيفا .. إذن هناك خمسة من فريق ( ه ) يعرفون أن هناك دليلا .. أحد هؤلاء متواطئ مع الشركة .. لكن من هو ؟ .. من هو هذا العميل القذر إذا سمحت لى ؟ .. لو سمحت لى باستثناء نفسى فإننى ميال إلى استثناء ( شيلبى ) كذلك . فالرجل قد تلقى الكثير من العروض أمامى من قبل .. إنه متبختر ثرثار و ممثل كبير لكنه ليس وغدا .. هذا يضيق نطاق البحث إلى ثلاثة .. "

هنا تضيق الدائرة نوعا حول الصينى ( لى – فوان – هن ) .. تذكر كلام صاحب المزرعة عن الطبيب البيطرى الصينى الذى جاء يحقن الدجاج بالفيتامينات , بعدها بد أ المرض .. ثم تتسع الدائرة ثانية حينما نتذكر أنه كان أول المعترضين على لقاح شركة ( فيروجكس ) ..

ما معنى هذا ؟ .. هل كان يتصنع ما قال ؟

فقط كنت أعرف شيئا واحدا ..

لقد بدأت أستعيد أجواء المؤامرة , و أشعر أن الجميع متواطئ بشكل أو بآخر .. لذا يجب أن أحتفظ بشكوكى لنفسى و أعتمد على حدسى الخاص .....


************

[MooNy87]

علاء عبد العظيم


قال د. ( علاء ) :

غادر( بسام ) المستشفى ..

صحيح أنه كان منهكا و قد فقد عشرة كيلوجرامات على الأقل من وزنه , لكنى أعرف مقدار الحياة فى هذا الفتى من بريق عينيه .. لو انطفأ فهو مقبل على الموت .. لو تألق فهو بخير حتى إن كان جلدا على عظم ..

أقمنا له احتفالا صغيرا .. هناك آخرون قد ظفروا بالشفاء و هناك حالات جديدة و هناك من انتهت آلامه للأبد .. لكن المرض ما زال نشطا و ما وال ينتشر ..

و هكذا اضطررنا إلى توسيع الدائرة قليلا .. المزيد من الإعدام للدجاج البرئ .. و الذى هو فى الحقيقة إعدام لأصحابه أيضا ..

قال صاحب المزرعة :

- " هذا يحدث فى بلادكم الثرية .. ألست فرنسيا ؟ .. لكن لن يحدث هنا أبدا .. ! "

وكان على حق طبعا .. فيما عدا كونى فرنسيا ..

فرغنا من اجتماعنا فى ذلك اليوم و انطلق كل منا لأداء عمله .. هناك المزيد من مزارع الدجاج التى سيتم القضاء عليها .. المزيد من المرضى الذين يتم استجوابهم بدقة .. المزيد من الحالات التى لا بد من وضعها على جهاز التنفس الصناعى .. المزيد من الوفيات التى لا بد من خروجها ..

كنت أراقب أعضاء الفريق ( ه ) مفكرا .. ثمة خائن بيننا .. من هو ؟ .. و متى بدأ ينفذ مخططه ؟ ..

قبل أن ينصرف الجميع انفردت بالطبيب الصينى .. إن اسمهكما قلت لى ( لى – فوان – هن ) .. طبيب بيطرى .. جاء إلى الكاميرون منذ عامين ...

سألته عن نوعية المقويات التى أعطاها للدجاج هنا , فضاقت عيناه الضيقتان أصلا و برزت أسنانه , و قال :

- " ماذا ؟ .. مقويات ؟ .. أنا ؟ "

- " فى مزرعة الدجاج التى بدأنا بها البحث .. "

هز رأسه فى عدم فهم .. هزه فى صدق .. و قال :

- " ليس هذا عملى .. ليسمح لى الطبيب المحترم فأنا طبيب مثله و لا أمر على المزارع أحقن الدجاج .. ثم ما نوع هذه الفيتامينات بالضبط ؟ .. هل هى هرمونات ؟ "

قلت متأسفا :

- " الحقيقة أننى لا أعرف .. لكن صاحب المزرعة يؤكد أنه رآك .. و .. "

فى ضيق قال :

- " أعتقد أن هؤلاء القوم لا يعرفون آسيويا من آخر .. على كل حال لا أعرف علاقة هذا بالموضوع .. "

عدت أسأله و أنا أشعر بأننى استفززته أكثر من اللازم .. أنا أعرف أن هؤلاء الصينيين صبورون جدا لكن إذا نفد صبرهم ...... إن غضبتهم مروعة لا تبقى و لا تذر ..

- " ما سر عدم حماسك لشركة ( فيروجكس ) ؟ "

وضع عويناته الغليظة التى أخرجها من جيب بذلته البسيطة , و قال :

- " سيدى الموقر .. أنا لا أثق فى الشركات عابرة القارات هذه .. أنا من الحرس القديم .. جيل الثورة الثقافية .. و قد تعلمنا ألا نثق بهؤلاء .. السيد الألمانى يتحدث عن لقاح باهظ و يتحدث عن ستة أشهر تكون الكارثة فيها قد حلت و انتهت .. ( هونج كونج ) حلت مشكلة مشابهة بإعدام الطيور و لم يتكلم أحد عن لقاح .. أعتقد أنه مجرد نصاب يحاول الصيد فى الماء العكر .. إن هؤلاء القوم ينظرون لنا فلا يرون بشرا بل يرون بحرا من الدولارات تنتظر من يجمعها .. "

صافحته .. و قد سرنى أن وجهات النظر متقاربة إلى حد ما .. صحيح أنه يتكلم من منطلق شيوعى بحت , و صحيح أننى أتكلم من منطلق ( عدم الارتياح ) فحسب , إلا أننا متفقان على خطأ الرأى القائل بأن نعهد بالعمل لهذه الشركة ..

فارقته و أنا – لسبب ما – أشعر بأن هذا الرجل صادق ..

أسبابى لاتهامه لا تقنع أية محكمة .. كما أن أسبابى لتبرئته لا تقنع أية محكمة .. لكنى أعرف أنه صادق ..

صاحب المزرعة أخطأ الرجل .. لكن من هو ذلك الصينى الذى ذهب إلى المزرعة ليحقن دجاجها بالفيروسات ؟


*************

[MooNy87]

الآن صارت دائرة اشتباهى تتركز فى ( دو بوان ) و المرأة الصينية ..

كنت معها فى السوق البعيد نتفقد الطيور .. طبعا كانت دائرة الإبادة تتسع ., و قد صار الجميع متوترين .. لكن الصحافة لم تهتم بالأمر بالقدر الكافى لأن الدائرة ما زالت فى ( أنجاونديرى ) .. أى أن الموضوع ما زال محدودا .. حتى منظمة الصحة العالمية لم تكتب عنه فى منشوراتها ..

لكن الأهالى كانوا قد بدأوا يقلقون .. ليس على صحتهم بل على دواجنهم .. مصدر عيشهم ..

وقفت معها جوار قفص به مجموعة من البط الأبله الذى يرمقنا بغباء و يتصايح .. انحنت على ركبتيها و راحت تتفحص الطيور فسألتها :

- " هل للبط دور فى الموضوع ؟ "

هزت رأسها أن نعم , و قالت بلهجتها الفرنسية الرديئة :

- " القصة كلها تبدأ عندما ينتقل الفيروس من الطيور المهاجرة المائية إلى الطيور الدجنة كالبط و الدجاج .. هو كان معتادا الحياة فى الطيور المهاجرة لهذا لم يكن يرى أى نفع للتطور و إعادة التصنيف .. ثم ينتقل إلى طيور لم يعتدها و لم يرها قط , لهذا يقرر أن يجرى بعض التغييرات على تركيبه .. من هنا تبدأ المشاكل .. الجدل يدور حول ما إذا كان يحتاج إلى أن يصيب الخنزير كخطوة أخيرة قبل أن يصيب الإنسان أم لا .. هناك من يرون أنه قادر تماما على الانتقال المباشر من الدواجن إلى الإنسان .. و من هنا يبدأ الوباء .. وباء ( هونج كونج ) الأخير نموذج لهذا , و قد أصيب طفل صينى بالإنفلونزا و مات لأنه لعب مع البط فى فناء مدرسته الخلفى .. "

قلت لها و أنا أبعد الذباب عن وجهى :

- " إذن .. الخنزير هنا تدريب أخير على البشر .. و السؤال هو : هل يمكن أن يتجاوز الفيروس مرحلة التدريب هذه أم لا ؟ .."

هزت رأسها و اتسعت عيناها .. أى أنهما صارتا فى حجم النقطة فوق حرف ( الفاء ) الذى تراه أمامك .. و برزت أسنانها .. هذه طريقة الصينيين فى الابتسام ..

قالت لى :

- " يمكن أن تفهم الأمر كذلك .. "

ثم فرغت من فحص القفص الذى كانت طيوره بحالة طبيعية فابتعدت .. و بطرف عينى رأيت البائع المتشكك الكاره لنا يزفر الصعداء .. اتجهت إلى قفص ديكة رومية ووقفت تنظر له بعين متشككة من وراء عويناتها الغليظة ..

سألتها :

- " هل توجد طيور مائية هنا ؟ "

- " و لا خنازير .. إن الخنازير تشكل جزءا مهما من بيئة الفلاح عندنا فى الصين .. لهذا القصة واضحة .. لكن هنا لا يوجد شئ واضح .. "

قررت أن ألقى قنبلتى فقلت :

- " إذن كل شئ يوحى أن الوباء جلب إلى ( أنجاونديرى ) جلبا .. "

قالت و قد برزت أسنانها أكثر :

- " أنا متأكدة من هذا .. لا أعرف إن كان قد حقن كما تحسب أنت أم لا .. لكن هذا الوباء دخيل .. "

قلت فى انتصار :

- " و شركة اللقاحات فعلتها عمدا ؟ "

هتفت فى ذعر :

- " بحق الأجداد .. أنت مندفع فعلا .. ! .. لا .. شركات الأدوية و اللقاحات قد تسوق ****ا مؤذيا أو ****ا لم يجرب .. قدتلفق دراسات تزعم صلاحية هذا ال**** .. لكن أن يبدأوا حربا بيولوجية لا يمكن السيطرة عليها .. يحتاج المرء إلى خيال مجنون كى يتصور هذا ... لا .. لا .. أنا لا أتفق مع هذا الرأى بتاتا .. "

لا أعرف لماذا يسفه الجميع منطقى برغم أننى أراه محكما حقا ..

قلت لها فى حذر :

- " هل زرت تلك المزرعة التى بدأ فيها الوباء من قبل ؟ .. أعنى قبل أن يتكون الفريق ( ه ) ؟ "

قالت و هى تنتقل إلى قفص آخر :

- " قبل الفريق ( ه ) ؟.. طبعا لا .. لقد وصلت إلى ( الكاميرون ) منذ أسبوعين ! "

شعرت بحيرة بالغة .. إذن هى لم تكن فى الكاميرون قبل الوباء .. معلوماتى كانت خطأ .. لقد قيل لى إنها هنا منذ فترة .. و معنى هذا أنها – على الأرجح – لا علاقة لها بقصة بدء الوباء هذه ..

فى عقلى أخرجت مفكرتى التى دونت فيها الأسماء , و شطبت اسمها بعد ما شطبت أسماء ( شيلبى ) و ( لى – فوان – هن ) .. هكذا لم يبق فى القائمة إلا اسم واحد .. و أعتقد أن صاحب الاسم كان متحمسا للشركة بما يكفى ..

( دو بوان ) .. أستاذ الأمراض الصدرية ..


************

[MooNy87]

كلفنى ( بارتلييه ) بأن أذهب إلى المختبر لأراجع بعض العينات التى طلبناها للفريق ( ه ) .. طبعا لم أعد أقوم بأى عمل رسمى هذه الأيام سوى ما يطلبه منى الفريق ..

لم تكن ( هيلجا ) المفترسة هناك لحسن الحظ , بل طبيبة فنلندية حسناء رقيقة .. صحيح أنها من ذلك الطراز الذى تشعر بأنه ( نيجاتيف ) فيلم ملون .. شعر أبيض و عينان رماديتان و جلد أحمر .. و أنك تستطيع أن تطبع لها نسخة إيجابية ممتازة .. لكن لو قابلت ( بعلزبول ) نفسه فهو أفضل من ( هيلجا ) ..

طلبت منها أن تراجع ملفات الكمبيوتر و تقدم لى بيانا بالفحوص التى طلبتها .. ثم جذبت مقعدا و جلست جوارها أتابع الشاشة بعين و باقى المختبر بعين ..

هنا رأيت أحد عمال النظافة الكاميرونيين يدخل .. يتجه إلى الثلاجة فيفتحها .. ثم راح يخرج بعض الأكياس البلاستيكية ويلقيها فى سلة مهملات معه من الطراز الذى يتحرك على عجلتين ...

نهضت فى لهفة إلى الرجل .. أين رأيت هذا الوجه من قبل ؟ .. يبدو من النوع المألوف جدا .. لا غرابة فى هذا على كل حال ما دام يعمل فى ( سافارى ) ..

سألته و أنا أشير إلى الأكياس :

- " ما هذا ؟ .. لماذا تتخلص من هذه الأكياس ؟ "

قال فى كبرياء بصوت غليظ مميز :

- " الأستاذة ( شيلمان ) أمرتنا بهذا .. تقول إن كل من هب ودب يلقى مخلفاته هنا .. لهذا ننظف الثلاجة من أى كيس لا نعرف محتواه .. "

الأستاذة ( شيلمان ) هى ( هيلجا ) طبعا .. ومعنى كلامه هذا مهم ..

- " هل نظفت الثلاجة منذ ثلاثة أيام ؟ "

قال فى كبرياء مماثل :

- " طبعا دكتور .. لا أنسى هذا أبدا .. "

- " وتخلصت من كيس أسود على الرف ؟ "

مط شفته السفلى فى مزيد من الكبرياء .. لا أعتقد أن ( نيرون ) امتلك هذه ( الألاطة ) , و قال :

- " لا أذكر يا دكتور .. لكنى لا أترك كيسا واحدا غير مكتوب عليه .. كل شئ .. كل شئ .. "

ثم دفع سلة المهملات على عجلتيها واتجه للباب على حين استندت إلى باب الثلاجة البارد مفكرا ..

إذن بحثى هذا لا يقوم على أساس .. لقد وضع ( شيلبى ) الدجاجة فى الثلاجة و لم يكتب شيئا على الكيس , و هكذا كان مصيرها التخلص منها عند أول عملية تنظيف .. وقائمة الموت التى أحملها هذه لا قيمة لها .. يمكن أن يكون أعضاء فريق ( ه ) أبرياء ويمكن أن يكون أى واحد منهم مذنبا .. لقد كنت أتبع أثرا لا يقود إلى شئ ..

يمكن أن يكون ( دو بوان ) بريئا ويمكن أن يكون أبا لهب نفسه .. لن أعرف أبدا بهذه الطريقة ..

ومعنى هذا أن على أن أعترف بالفشل ..

لماذا يجب أن يكون هناك لغز ؟

ولماذا يجب أن أحل اللغز أنا ؟

( ولكن أين رأيت هذا العامل من قبل ؟ )



**************

[MooNy87]

ديفيد جيديون



بالنسبة لعلماء الأمراض يعتبر د. ( ديفيد جيديون ) من الأسماء المهمة جدا .. إلا أنه فى ( سافارى ) يمارس كذلك مهام التشريح لحالات الوفيات التى لم يعرف سبب وفاتها , وهو شئ نادر لأن الأهالى لا يسمحون بذلك غالبا ..

د. ( جيديون ) كما هو واضح يهودى جدا يذكرك باليهود فى الأدب الأوروبى فى القرن الثامن عشر .. ربما كان على شئ من التعصب الداخلى لكنه لا يسمح لهذا التعصب بأن يظهر فى سلوكه أو ممارسته المهنة ..

لهذا – يعترف – كان ميالا إلى الطبيب الشاب ( عبد العظيم ) , أو على حد قوله يحترمه ولا يحبه .. إن موضوع الخلاف العربى الإسرائيلى يخيم على علاقة الرجلين , لكن ( جيديون ) كان يهودى متدين يرتاب فى فكرة إسرائيل نفسها ويرى أنها خطأ فادح , وأنها مجرد دولة علمانية تتظاهر بأنها يهودية لمكاسب سياسية . كان يرى فى ( علاء ) طاقة شباب متفجرة وولعا بالعلم لا شك فيه .. وهذا شئ كان يفتقده فى الكثيرين . الخلاصة أنها علاقة معقدة من المقت ووالاحترام والحب لا يستطيع وصفها إلا ( دستويفسكى ) ذاته ..

قال لى ( جيديون ) حيث جلسنا هناك فى المشرحة البهيجة , ومساعده الكورى يدون بعض الأوراق :

- " فى ذلك الوقت قمت بجولة فى سيارة ( سافارى ) مع بعض أعضاء الفريق .. أنت تعرف أن عملى هنا ومن العسير أن ترانى فى ضوء الشمس .. لهذا كنت مسرورا فى ذلك اليوم ونحن متجهون إلى خارج ( أنجاونديرى ) قاصدين أحد مستشفيات وزارة الصحة هناك ..

" كان ( علاء عبد العظيم ) يجلس هناك فى المقعد الأمامى ويثرثر مع السائق .. فجأة بدا كأنما هو رأى شيئا فى الطريق .. كنا قرب مزرعة الدجاج التى بدأ منها الوباء والتى تقع قرب الوحدة ..

رأيته يصيح فى السائق أن يتوقف حالا ..

ثم وثب من السيارة جريا .. نظرت لأرى ما أثار اهتمامه .. لا أحد يحتاج دخول الحمام بهذه اللهفة ..

هنا رأيت رجلين يقفان قرب المزرعة .. أحدهما يبدو متوسط الحال لكن معه ما يكفى من مال لارتداء بذلة صيفية .. أما الآخر فكان أصلع الرأس غليظ الشفتين يقف بفانلته الداخلية و ينظر ل ( علاء ) بكبرياء ..

رأيت ( علاء ) يجر هذا الأصلع من ذراعه ويعود به لنا وهو يكرر :

- " الآن عرفت أين رأيتك .. "

ثم أشار لرأسه , وقال :

- " حينما تراه مرتديا اليونيفورم لا تعرف أنه ذات الرجل "

و أمامنا وقف , وقال بطريقة درامية :

- " هذا الفتى الوسيم عامل نظافة فى ( سافارى ) .. لكنه الآن سيفسر لنا برقة لماذا يتعامل مع السيد ( ماجومبا ) صاحب المزرعة .. "

لم نفهم شيئا . كنا – الجالسين فى السيارة – ( شيلبى ) وأنا وذلك الطبيب الصينى الذى لا أعرف اسمه .. وقد بدا لنا كلام الفتى غير مترابط , لكن الرجل كان يفهم .. عيناه تقولان إنه يفهم ..

تكلم بالفرنسية وبصوت غليظ يبدو كمطربى ( التينور ) :

- " لا مشكلة يا دكتور .. أنا لا أخالف قانونا .. "

هنا دنا منا ( ماجومبا ) هذا والذى عرفنا أنه مدير المزرعة , وهو كاميرونى شديد السواد .. قال لنا فى عدم فهم :

- " هل لى أن أعرف الخطأ الذى ارتكبه ( جون ) ؟ "

فكر ( علاء ) قليلا وبدا بالفعل عاجزا عن أن يجد شيئا خطأ فى أن يقف رجلان يتحدثان .. إلا أنه قال :

- " هذا هو الرابط بين وحدة ( سافارى ) وبينك .. لقد سرق منا شئ مهم , وهو من أخذه باعترافه نفسه .. وكونه يعرفك يجعلنى أقحمك فى القصة .. "

قال ( ماجومبا ) وقد بدت الشراسة على ملامحه :

- " أية سرقة ؟ .. هل لك أن تكون أكثر وضوحا .. ؟ "

- " الدجاجة التى كانت فى الثلاجة ! "

هل هناك دجاج فى الموضوع ؟ .. لقد جن هذا الفتى تماما .. نحن غارقون فى وباء شامل وهو يفتش عن دجاجة اختفت من ثلاجته ! ..

قال ( ماجومبا ) :

- " لا أعرف عن أى شئ تتكلم .. ( جون ) يعمل معى فى المزرعة وهو عامل نظافة فى وحدة ( سافارى ) .. لو كان القانون يحرم الجمع بين عملين فلتخبرنى .. لا تنس أننا بلد فقير و أن هذا البائس يعول أسرة .. "

ثم أردف :

- " لسنا فى بلادكم الثرية .. ألست فرنسيا ؟ .. لكنه هذا يحدث هنا .. ! "

بصعوبة تغلب ( علاء ) على ضغط أعصابه , وقال :

- " اسمع .. هذا الرجل يعمل فى ( سافارى ) .. وقد ظهر الوباء فى مزرعتك أول ما ظهر .. فهل جلب الوباء معه من ( سافارى ) ؟ .. أم أنت الذى جلبت الوباء وتريد إخفاء أثر ما قمت به ؟ "

- " هل تعتقد أننى راغب فى خراب بيتى وتدمير ثروتى ؟ "

- " هذا يجعل الاحتمال الأول هو الأقرب للحقيقة .. لقد جلب لك الوباء من ( سافارى ) .. "

هنا تدخل العجوز الأمريكى الترتار ( شيلبى ) :

- " ( علاء ) .. لم تظهر حالات فى ( سافارى ) وليست لدينا عينات من الفيروس .. "

- " لربما حمل العدوى ؟ .. أنت تعرف قصة ( مارى التيفودية Typhoid Mary ) التى كانت مربية توزع التيفويد فى الولايات المتحدة على كل بيت تدخله دون أن تصاب هى "

قال ( شيلبى ) باسما :

- " لم نسمع عن حملة لفيروس الإنفلونزا .. "

هنا قال ( جون ) وقد بدت عليه سمات المجرم الذى سقط فى الشرك :

- " أنا لا أجلب شيئا مهما .. فقط عدنى بألا يعرف د. ( باركر ) بالأمر .. "

طبعا .. د. ( باركر ) نائب المدير هو من يهمهم ولا يعنيهم المدير نفسه .. لأن ( باركر ) هو الأكثر شراسة وقسوة .. إنه الإيذاء يمشى على قدمين ..

قال ( علاء ) وهو ينظر لنا :

- " نعدك .. فقط نريد أن نعرف .. "

[MooNy87]

غطى ( جون ) عينيه كأنما هو يبكى , وقال :

- " كنت أحضر له المخلفات الطبية التى نتخلص منها .. المفترض أن نحرقها لكننا لم نفعل .. أكياس الدم التى انتهى تاريخ صلاحيتها .. مخلفات الجراحة .. عينات المختبر .. كل هذا كنت أجلبه له ليخلطه بطعام الدجاج .. هذه طريقة لرفع محتوى البروتين .. "

تبادلنا النظرات وانتصبت شعورنا .. وصحت :

- " يا للهول !! "

توقف ( علاء ) وقد بدا موشكا على القئ ولا بد أنه تذكر الدجاجة التى التهمها .. هنا قلت :

- " ليست هذه السابقة الأولى .. يعتقد العلماء أن إطعام الدماء للأبقار هو ما بدأ سلسلة ( ياكوب كروتزفلت ) الشهيرة أو ما نعرفه باسم ( جنون البقر ) .. "

قال ( ماجومبا ) صاحب المزرعة فى فخر :

- " لم أرتكب شرا .. هذه مخلفات عالية البروتين وكانت ستحرق .. لماذا لا أستخدمها ؟ .. خاصة أن ( سافارى ) قريبة منا ؟ .. "

قال ( علاء ) وهو ينظر إلى الأرض :

- " لهذا صارت قدماك بهذا الشكل ؟ "

نظر الرجل إلى قدميه , وقال :

- " أى شكل ؟ "

هنا كانت قدم ( علاء ) قد طارت كالمقلاع لتركله فى ذقنه .. كانت ركلة قوية ألقت بالرجل أرضا .. فلا بد أنه حسب ثورا هائجا قد رفسه .

ودون كلمة أخرى وثب الفتى ليركب السيارة و أمر السائق بالتحرك , وبينما نحن نبتعد هتف فى الرجلين :

- " وعدت بعدم إفشاء السر أو اتخاذ إجراء لكنى لم أعد بعدم الضرب .. "

ثم لوح بإصبعه :

- " سوف تتلقيان درسا لن تصدقا مدى شناعته .. لكن من دون أن أحنث بوعدى .. أى إننى سأفعل كل شئ قذر بنفسى .. إن ساعة الانتقام قد جاءت أيها الخنزيران ! "

فى هذه اللحظة أكلت السيارة مطبا جعل رأسه يصطدم بالسقف فتأوه وكف عن التهديد ..

استدار نحونا بينما السيارة تنهب الطريق , وقال :

- " إذن العدوى جاءت للدجاج من مخلفات ( سافارى ) .. القصة واضحة .. "

قال ( شيلبى ) فى ضيق :

- " وددت لو ركلت ركلة أو ركلتين مثلك .. لكن أى شئ واضح فى القصة ؟ .. من أين جاءت عينات الفيروس إلى ( سافارى ) ؟ .. ثانيا ماذا عن أثر الحقن .. ؟ "

قال ( علاء ) بلهجة سمعها كثيرا على ما يبدو وعلى سبيل التهكم :

- " إن الدجاج يحقن أحيانا .. لا يعنى هذا شيئا .. أنت تتكلم عن حرب بيولوجية .. "

- " والكلام عن البيطرى الصينى الذى أخبرتنى به اليوم ؟ "

- " إما أنه لم يكن صينيا أو كان صينيا آخر .. هذا الخيط لا قيمة له .. "

هنا تساءل ( شيلبى ) :

- " ما زال السؤال هو : من أين جاءت هذه العينات ؟ "



***********

[MooNy87]

الحقيقة أننى لم أرد أن أعلق حتى أتحقق بنفسى ..

و حينما عدت إلى المشرحة دخلت مكتبى وفتشت فى خزانتى ...

هناك ذلك الإناء الزجاجى الذى يحوى أنسجة غارقة فى مادة حافظة , والذى أضعه هنا بالذات ..

لا وجود له .. فعلا لا وجود له ..

لقد أرسل لى د. ( تاونبرجر ) هذه الأنسجة من الولايات المتحدة منذ عام 1997 كى أشاركه تلك الورقة العلمية التى نجريها عن فيروس عام 1918 .. هذه أنسجة من رئة تلك الفتاة البدينة التى وجد جثتها تحت الثلوج فى ألاسكا .. وقد رأى أن يرسل لى بعضها كى أدرسها بنفسى ..وأنذرنى بعنف : قد يكون الفيروس سليما وحيا بعد كل هذه الأعوام .. أردت أن تصلك عينة حية منه , لهذا تعمدت عدم استخدام مادة ( فورمالدهيد ) كى لا تقتله .. كن حذرا فى التعامل معه ..

وضعت الإناء فى خزانتى التى لا تقفل على كل حال , وانشغلت إلى حد أننى نسيت هذه الورقة العلمية تماما ..

يمكن الآن أن أتخيل المشهد ..

( جون ) – ذلك العامل ذو الفانلة – ينظف الغرفة بينما أنا غير موجود .. يقرر أن يفتح خزانتى ليشاهد تلك العينات المرعبة .. يشاهدها و يضحك مستمتعا بشجاعته .. لكنه أخرق .. يقع الوعاء ويتهشم . وتتناثر منه تلك الأنسجة مع السائل الحافظ ..

ماذا يفعل ؟ ..

إنه فى ورطة ...

هكذا يقرر أن يخفى آثار الجريمة .. يجمع الزجاج كله ويجفف السائل , ويقرر أنه لو كان محظوظا فلن ألاحظ ما حدث .. لن ألاحظ اختفاء إناء وسط كل هذه الأوانى وهو ما حدث ..

ثم يجمع المخلفات مع باقى مخلفات الوحدة , وعندما تحين ساعة الانصراف يحمل كل هذا البروتين البشرى إلى مزرعة الدواجن ..

الآن التهم الدجاج الفيروس H1N1 الذى اعتاد مهاجمة الخنازير .. لكن هذا الفيروس الذى صمد ثمانين عاما تحت الثلوج يقرر أن يتعلم مهاجمة الدجاج .. وهكذا تكون لدينا فيروس يستطيع أن يهاجم البشر كذلك ..

تلك الفتاة الحسناء من ألاسكا لم تتصور أنها بعد ثمانين عاما ستبدأ وباء جديدا فى الكاميرون !

وهكذا غادرت الغرفة لأخبر رئيس الفريق .. ( بارتلييه ) ..



***********



أنا ( توماس كايندرد ) .. محرر الشئون الطبية فى مجلة ( أدفانسز Advances ) . لقد حكيت لكم ملابسات هذا المرض الغريب الذى اجتاح ( أنجاونديرى ) والذى تراجع أخيرا ولله الحمد بعد شفاء الضحايا أو موتهم أو بعد إعدام الطيور ..

وهكذا أعلن د. ( بارتلييه ) حل الفريق ..

لقد أنهيت هذه الأوراق التى تضمنت عدة لقاءات صحفية , والعديد من المراسلات عبر الإنترنت .. وفى رأيى أنها نموذج غريب لعدوى تبعث بعد ثمانين عاما , وإن كنت أرجح أن الفيروس قد ضعف كثيرا وإلا لاجتاح العالم كله كما حدث عام 1918 ..

لكن د. ( شرودنج ) و ( بارتلييه ) يعرفان جيدا أن الوباء الحقيقى المرعب قادم لا شك فيه .. سيبدأ من مكان ما فى الصين أو (هونج كونج ) .. ساعتها لن يكون لنا أمل إلا فى رحمة الله , ثم البيولوجيا الجزيئية وسرعة تركيب اللقاح .

سألت الأستاذين عما إذا كان الفيروس الجديد سيأتى من الخنازير أم الدواجن , فقالا وهما يتبادلان النظرات إن هذا ليس فى نطاق عملهما فى ( سافارى ) .



توماس كايندارد
مجلة ( أدفانسز Advances )
أنجاونديرى