آخر 10 مشاركات
صدمات ملكية (56) للكاتبة: لوسي مونرو (الجزء الأول من سلسلة العائلة الملكية) ×كــاملة× (الكاتـب : فراشه وردى - )           »          [تحميل] مكيدة زواج ، للكاتبة / سلمى محمد "مصرية " ( Pdf ـ docx) (الكاتـب : فيتامين سي - )           »          مـــا أصعب الإبتعاد عنها *مميزة ومكتملة* (الكاتـب : عيون الرشا - )           »          مرت من هنا (2) * مميزة *,*مكتملة*..سلسلة للعشق فصول !! (الكاتـب : blue me - )           »          حرمتني النوم يا جمان/بقلمي * متميزه و مكتملة * (الكاتـب : esra-soso - )           »          أحزان نجمة ( تريش جنسن ) 446 ـ عدد جديد (الكاتـب : ^RAYAHEEN^ - )           »          الوصية ـ ربيكا ونترز ـ 452 ( عدد جديد ) (الكاتـب : ^RAYAHEEN^ - )           »          533 - مطلوب زوجة وام - بربارة ماكماهون - قلوب عبير دار النحاس ( كتابة - كاملة ) (الكاتـب : samahss - )           »          الأقصر بلدنا ( متجدّد ) (الكاتـب : العبادي - )           »          يا أسمراً تاه القلب في هواه (21) سلسلة لا تعشقي أسمراً للمبدعة:Aurora *كاملة&مميزة* (الكاتـب : Aurora - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > ارشيف الروايات الطويلة المغلقة غير المكتملة

موضوع مغلق
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 27-03-14, 10:38 PM   #1

دكتور جيفاجو

? العضوٌ??? » 315386
?  التسِجيلٌ » Mar 2014
? مشَارَ?اتْي » 9
?  نُقآطِيْ » دكتور جيفاجو is on a distinguished road
افتراضي إلياذة العرب




أصدقاي الأعزاء أنني مشترك جديد يسعدني ويشرفني أن أشتركت بهذا المنتدي الرائع لأعرض عليكم روايتي الجديدة والتي سوف أعرض فصولها تباعاً وارجو أن تنال أعجابكم وأن تفيدوني بملاحظاتكم التي ستفيدني إن شاء الله كثيرا

تحياتي لجميع المشتركين



المقدمة والفصول 1 , 2 ,3 في نفس الصفحة

الفصل 4 https://www.rewity.com/vb/t298290-2.html






التعديل الأخير تم بواسطة كاردينيا الغوازي ; 10-04-14 الساعة 05:48 PM
دكتور جيفاجو غير متواجد حالياً  
قديم 27-03-14, 11:13 PM   #2

دكتور جيفاجو

? العضوٌ??? » 315386
?  التسِجيلٌ » Mar 2014
? مشَارَ?اتْي » 9
?  نُقآطِيْ » دكتور جيفاجو is on a distinguished road
افتراضي


على بركة الله أبدأ عرض الرواية

إستهلال
سمها ما شئت..سمها خارو كما أطلق الفراعيين على جزءها الجنوبي أو رتينو كما أطلقوا على جزءها الشمالي..سمها كيناهي أو كيناهنا وهي أصل كلمة كنعان كما جاء ذكرها في حفريات تل العمارنة قبل 15 قرن من الميلاد...أو إن شئت سمها كما نسميها جميعا.
الأن..فلسطين..وهي كلمة معربة أشتقت من البلشتيم وهم سكان أرضها الأصليون وقد جاء ذكرها كـ (فالستيا) في التوراة في سفر يوئيل الإصحاح 3:4 "وماذا أنتن لي : يا صور , ويا صيدون , ويا جميع دائرة فالستيا؟"
لا يهم أي من الأسماء سوف تختاره لها..ولا بأي لقب ستدعوها فمهما أختلفت الأسماء وتنوعت الألقاب سيبقى جوهر الأرض وحقيقتها هو الأصل كالرواسي الشامخات..ستبقي فلسطين أرض الزيتون وواحة السلام ..ستبقى مهد الأديان..مهجر الخليل عليه السلام وموطن أبناءه من بعده إسحاق ويعقوب..ستبقى مسقط رأس روح الله عيسي عليه السلام وقبلة خاتم الأنبياء الأولى.. ستبقي فلسطين عربية حتي النخاع بشهادة التاريخ وإن أبى الحاقدون ومزيفي الحقائق من اليهود الصهاينة. ستبقى المركز الروحي والديني الذي تطوف حوله القلوب كما تطوف الأرض حول شمسها , وربما كان ذلك خلف إتخاذ اليهود من الدين زريعة لإحتلالها وإغتصابها من أهلها العرب المسلمين..فما الدين إلا قناع أرتدوه في حربهم الباطلة لفرض سطوتهم الغاشمة وأرتكاب جرائمهم التي يندي لها جبين البشرية كلها وستروا خلف هذا القناع الزائف مقصدهم الحقيقي , ذلك الذي بدا جليا في تلك المحاضرة التي ألقاها في مونتريال بكندا عام 1947دكتور ناحوم جولدمان رئيس المؤتمر اليهودي العالمي حين قال: " لم يختر اليهود فلسطين لمعناها التوراتي والديني بالنسبة إليهم , ولا لأن مياه البحر الميت تعطي بفعل التبخر ما قيمته ثلاثة آلاف مليار دولار من المعادن وأشباه المعادن , وليس أيضا لأن مخزون أرض فلسطين من البترول يعادل عشرين مرة مخزون الأمريكتين مجتمعتين , بل لأن فلسطين ملتقى طرق أوروبا وآسيا وأفريقيا , ولأن فلسطين تشكل بالواقع نقطة الأرتكاز الحقيقية لكل قوى العالم ولأنها المركز الاستراتيجي العسكري للسيطرة على العالم."
إنهم اليهود في كل زمان ومكان..مثيرو الفتن والساعون لهدم الحضارات ..اللاهثون خلف حلم زائف ساذج بفرض سيطرتهم على العالم..هم اليهود الذين عاشوا حينا من الدهر ليس بالقصير حياة كريمة نعموا فيها بالسلام والأمان حين كانت فلسطين تحت الحكم العربي الإسلامي فلم يحفظوا الجميل ولم يأبهوا بالتاريخ الذي سوف يلعنهم ما دامت السماوات والأرض.
بل ربما هي الحقيقة المجردة إذا ما قلنا أن اليهود لم يتمتعوا بالحرية والكرامة إلا في تلك البلاد التي خضعت للحكم الإسلامي.. ولا أدل على قولنا هذا مما حدث بعد تراجع الحكم العربي الإسلامي عن شبه جزيرة أيبريا إذ إنقلب بهم الحال فتعرضوا لأطياف القهر والاضطهاد على تباينها كما حدث في أسبانيا عام 1480 ميلادية وما تلاه في البرتغال عام 1492 ميلادية.
ولقد حدا بهم ما ذاقوه من ألوان التمييز وما تجرعوه من كؤوس العذاب إلي أعتناق المسيحية ظاهرا ليتمكنوا من مواصلة الحياة هنالك وليبقوا في مأمن من بطش الحكومات المسيحية بهم فكانت تلك هي نواة أحدي طوائف اليهود السرية والمختلفة والتي ظلت طوال عقود تمارس شعائرها سراً.. وقد أطلق على هؤلاء اليهود الذين تحولوا إلي المسيحية قسرا العديد من الألقاب كـ (كونفرسوس) أي المهتدين إلي دين جديد و ( كرستاوس فوس) أي المسيحين الجدد.. غير أن أشهر تلك الألقاب والذي ظل لصيقا بهم هو ( المارانو) وهو لقب أختلف الكثير حول رده إلي أصله اللغوي وإن كان الراجح هو اقتباسه من كلمة مارانو الأسبانية والتي تعني الخنزير.
ناهيك عن محاكم التفتيش التي غزت أوروبا في القرون الوسطي بحثا عن هؤلاء اليهود المتخفون في عباءة المسيحية وتلك القوانين المجحفة التي جعلت المعيار العرقي هو أساس التمييز بين البشر كقرار نقاء الدم الذي صدر في أسبانيا عام 1566 لتطهيرها من اليهود.
فهل سمعنا بمثل هذه الأفعال وتلك القوانين الجائرة في أي من البلدان التي عاشت في ظل العرش الإسلامي؟
إنه وفي ذات الوقت الذي كسى فيه الدخان سماء أوروبا حتى كاد يحجب عنها الشمس بفعل حرق الحكومات الغربية في أوروبا المسيحية لكتاب اليهود المقدس و المسمى بالتلمود كان موسى بن ميمون الذي جعل منه صلاح الدين الأيوبي رئيساً للطائفة اليهودية في مصر وهو أعظم فيلسوف ومفكر تاريخي لليهود على مر العصور وصاحب كتاب مرشد الحياري الذي يعد أجل عمل في الفلسفة الدينية اليهودية وأوسعها قراءة وإنتشارا.. أقول كان بن ميمون يدون بكل حرية وبدون أي قيد أو رقابة مخطوطاته عن التلمود والفلسفة اليهودية بالرغم مما في فلسفته من تعنت وعنصرية ضد كل من هو غير يهودي خاصة المسيحيين.. فنراه مثلا يتحدث عن من هم من غير اليهود واصفا إياهم بأنهم ليسوا بشرا بل هم أقرب للبهائم كما أنه وفي تعليماته يحث اليهود على لعن يسوع عليه السلام إذا ما جاء ذكره ولعن كل من في قبور غير اليهود إذا ما مروا بها. ثم هاهو يبيح لليهود خطف الأطفال من الأمميين وبيعهم في سوق الرقيق.
وعلى أية حال ولإبراز وجهة نظرنا وما نرمي إليه أجده لزاما الإشارة إلي نقيض كل ما قد أسلفناه عن المارانو في أوروبا والغرب وأن نمر سريعا على يهود الدونمة في الدولة العثمانية.. وهي طائفة أخرى سرية نشأت في تركيا غير أن الفارق الكبير بين يهود المارانو ويهود الدونمة هو أن الطائفة الأخيرة قد أعتنق أعضائها الدين الأسلامي طواعية ودون إكراه أو إجبار من أي نوع كان وهو ما سوف نشير لملابساته في موضع متقدم من هذه الأوراق غير أنه يكفينا هنا لإيضاح هدفنا أن ننقل نص ما قاله الأستاذ عبد الوهاب المسيري في دراسته الرائعة والمعنونة ( اليد الخفية..الجماعات اليهودية الهدامة والسرية) إذ يقول
" وهم – أي يهود الدونمة- يختلفون عن يهود المارانو في أنهم أعتنقوا الإسلام طواعية دون قسر, فلم تكن الدولة العثمانية تُكره أحداً على إعتناق الإسلام".
ليس لعاقل بعد هذا أن ينكر مدى ما كان يتمتع به اليهود من حرية عقائدية وإجتماعية تحت لواء الإسلام الذي شدد على عدل معاملتهم وحماية دور عبادتهم وأتاحتهم المساحة الواسعة من الحرية في ممارسة شعائرهم الدينية بل وحرص كل الحرص على كفالة حقوقهم المدنية والإجتماعية والسياسية فكان للذمي – يهوديا كان أم نصرانيا – ما للمسلم وله ما عليه وليس أدل على ذلك من قول الزهري بأن دية اليهودي والنصراني كدية المسلم
أولم يأتى في آي الذكر الحكيم قوله تعالي
بسم الله الرحمن الرحيم " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" صدق الله العظيم (سورة الممتحنة أية 8 )
أولم يقل رسول الله صلي الله عليه وسلم " من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه" ؟
أو لم يأمرنا ألا نضيق عليهم في شؤون دينهم بقوله" أتركوهم وما يدينون"؟
ثم..
ثم إن هناك ثمة شهادة لا يمكن إغفالها ونحن نتحدث عن تسامح الإسلام مع اليهود وهي كلمة حق نطق بها المفكر اليهودي إبراهام ليون في مؤلفه المعنون " المفهوم المادي للمسألة اليهودية" حيث ورد في الصفحة 156 من الكتاب المذكور
" عامل الإسلام اليهودية بتسامح فاق ما لاقاه هذا الدين كتيار أيديولوجي أعترف بحقه في البقاء بالرغم من الهزيمة التي لحقت به."
ويبقي قبل أن ننهى هذا الأستهلال أن نتعرض في عجالة لنظرة اليهود لبعضهم البعض وهو مجال بحث طويل لا تتسع له حتى أضخم المجلدات غير أن عبارة الزعيم الصهيوني فوردو هي شهادة شاهد من أهلها .. تلك العبارة التي يقول فيها
" اليهود كالبكتريا القذرة التي تؤدي إلي عفن المكان الذي تصل إليه.
ثم هذا فرديناند لاسال أحد أشهر المفكرين اليهود يرى فيهم سلالة منحلة لتاريخ عظيم قد أندثر لذا فهو يتنصل بالكلية من كل ما يربطه باليهودية ويتبرأ منها.
إن كانت هذه نظرتهم لأنفسهم فكيف تكون نظرة الأغيار لهم؟
هم اليهود إذاً ولن يخلعوا عنهم ما هم فيه من جبن وخسة ونذالة مهما حاولوا أو حاول معهم الآخرون.
هم اليهود الذين سمحوا لأنفسهم في غفلة منا أن يغتصبوا بزعم كاذب أعز وأثمن ما لنا من أرض.
وعلى كلٍ إن كان يهوه قد وعدهم –كذبا وزورا وإدعاءا من عند أنفسهم – بأرض هي أبدا لم تكن يوما لهم فقد وعدنا ربنا سبحانه وتعالي – صدقا وعدلا ومنة منه – بالنصر المبين..فالصراع ليس بأبدي والمعركة لا محالة آتية..غير أن هذا النصر مشروط بإعدادنا لهم ما استطعنا من قوة وأسلحة لابد لنا من أن نشحذها ، هجومية كانت تلك الأسلحة أم دفاعية.
أما الهجومية منها فهي تلك الأسلحة التقليدية المتعارف عليها في الحروب كالطائرات والدبابات وغيرها.. وأما الدفاعية فلن تعدو كونها عودتنا إلي ربنا سبحانه وتعالي وإلي التمسك بتعاليم رسولنا الكريم والإعتصام بأصول ديننا القويم.
لقد وعدهم ربهم أرضاً ووعدنا ربنا يوما تدور فيه الدوائر بأيدينا عليهم والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وإلي أحداث الرواية
محمد شلبي
القاهرة – 1 مارس 2014



التعديل الأخير تم بواسطة كاردينيا الغوازي ; 28-03-14 الساعة 02:21 PM
دكتور جيفاجو غير متواجد حالياً  
قديم 28-03-14, 02:11 PM   #3

دكتور جيفاجو

? العضوٌ??? » 315386
?  التسِجيلٌ » Mar 2014
? مشَارَ?اتْي » 9
?  نُقآطِيْ » دكتور جيفاجو is on a distinguished road
افتراضي


الفصل الأول
مدينة القدس.. عام 1901 ميلادية.
في باحة المسجد الأقصى وعلى بساطه الأخضر جلس الشيخ أيوب المقدسي وقد تحلق حوله رهط من الرجال مع من تحلقوا من طلاب علمه الكثيرين ينصتون للشيخ الوقور بإرهاف من على رؤوسهم الطير.
كانت صلاة العصر قد فرغت لتوها, وكعادة الشيخ أيوب جلس يحادث تلامذته ويلقنهم من علوم الدين على مختلف فروعها من حديث وفقه وشريعة وغيرها, كما كان يفعل عصر كل يوم وحتى مغيب الشمس, بصوته الهاديء وقسماته الوديعة ولحيته التي خالطها الشيب وتلك الابتسامة التي لا تفارق شفتيه. بيد أنه بدا في هذا المساء على غير ما عهدوه, فقد كان متهدج الصوت مضطرب النظرات تحمل أنفاسه بين الفينة والأخرى زفرات ملئها التوتر المشوب باللهفة والشوق وكأنه على موعد مع حبيب طال الشوق إليه وانتظاره.
مع مطلع عام 1860 ميلادية وفي بيت المقدس كان مولد الشيخ أيوب وبين أشجار الزيتون الوارفة, التي ملئت أرجاء المدينة فأضفت عليها من الجمال ما زادها رونقاً, كانت نشأته حتى بلغ من الشباب مطلعه. ولأن والده كان رجلا ورعا تقيا حالت ظروف الحياة القاسية بينه وبين حلمه في أن يصبح رجل دين يدعو إلي سبيل ربه فقد نذر ولده الوحيد للعلم وجعله وقفا على الدعوة لدين الإسلام, فما أن بلغ أيوب السادسة من عمره حتى دفع به والده إلي أحد مشايخ المدينة البارزين ليحفظ على يديه كتاب ربه ويتعلم كيف يتلوه حق تلاوته.
ولقد كان الفتى الصغير ذكيا ذا عقل متقد وشغف للعلم جعله يقبل عليه بنهم من لا يشبع, ولم يكن في تلك الأيام أسعد من والده على وجه البسيطة وهو يرى طفله الصغير يضرب في طرقات العلم بخطوات سريعة ثابتة وواثقة إلي الحد الذي جعل شيخه ومعلمه يتنبأ له بمستقبل باهر يضعه في مصاف الأئمة العظام.
عشر سنوات قضاها الفتي في كنف شيخه وأستاذه عبد السلام الأحمد فارتبط به إرتباطا وثيقا وكأنه جنين تشبث بحبله السُري..كان أشد ما جذبه لهذا الشيخ الوقور وأكثر ما أثار أعجابه في شخصيته الفريدة الرائعة هو علمه الواسع مع تواضعه الجم.
ذات يوم أمتدحه وأثنى على أتساع مداركه وتشعب معارفه فأطرق الشيخ برأسه وكست وجهه حمرة لم يستطع الفتى أن يفسرها وقتها, أهي حمرة الخجل؟ أم أنه الغضب قد أخذ بمجامع الرجل الوقور الطويل الصمت والتأمل؟.. ذلك أن الشيخ عبد السلام كان من ذلك النوع من الرجال الذي يرى في المديح باب للتملق ومسلكا من مسالك الغرور إلي النفس, وما أكثر من ملك عليهم الكبر ذواتهم لكثرة ما صب من مدح في مسامعهم.
أوجس الفتي في نفسه خيفة أن يعتريه غضب معلمه وأباه الروحي فسأله بصوت متعثر ينضح بالتوتر
"ماذا بك يا شيخي؟!"
رفع إليه شيخه رأسه ورمقه بنظرة ثاقبة أحس معها أيوب وكأنه عصفور قد بلله القطر فانتفض..ثم ما لبث أن جاءه صوت الشيخ كعادته جهورا عميقا وإن كان يحمل هذه المرة من الحدة ما لم يخفى على مسامعه
" أعلم يا ولدي أن العالم مهما بلغ من العلم إنما يحمل من بحور المعارف قدر ما يحمل الطائر في منقاره من ماء البحر, فالله عز وجل يقول في محكم آياته وما أوتيتم من العلم إلا قليلا,ومن سلك مسالك العلم أفنى فيها عمره وما قطع منها سوى خطوات قليلة, وأن العالم الحق من ظن في نفسه الجهل ذلك أن ظنه هذا دافعه لأن يسعى حثيثا خلف تحصيل المعرفة,وأن من أعتقد في نفسه أنه قد بلغ سنام العلم قعد عن طلبه وأصابه من الكِبر ما يرميه في مصاف الجُهل, وإني إنما أريدك أن تسعى وتلهث خلف المعارف, فلا تفرحن يوما بمدح جاهل ولا تحزنن لنقد عاقل ولا تجعل شيئا يحول بينك وبين مطلبك إلا الموت."
كانت كلمات الشيخ تقطر من فمه كالدر النفيس فبقيت عالقة بذهن أيوب لا تبارحه.. بقيت هناك في ركن قصي من عقله فما أمتدت إليها يد النسيان وما أستطاع أن يمحوها تعاقب الليل والنهار.
هو لا يزال يتذكر تلك الليلة البعيدة وكأنها الأمس القريب.. في تلك الليلة كان الشيخ عبد السلام يتأهب لسفر طويل أعتاد عليه في مثل هذا الوقت من كل عام وبقى على تلك العادة لم يقطعها حتى وافته المنية.. ذلك أنه ولشهر كامل كانت رحلته السنوية إلي قلب الدولة العثمانية الأستانة حيث كان يقضي أياما هناك مع صديق له يدعى كاظم باشا .
هكذا أخبره شيخه كما أخبره أيضاً بأن صديقه هذا يعمل في بلاط الخليفة العثماني وأنه قد تعرف عليه منذ سنوات حين أرسله السلطان الراحل عبد المجيد الثاني في مهمة هنا ببيت المقدس.
في تلك الليلة كان على أيوب أن يودع شيخه وأستاذه بقلب يكاد ينفطر كمداً فلكم كانت تلك الأيام التي يغيب فيها شيخه عنه ثقيلة على عقله ووجدانه ولكم كان يشعر بالوحدة والفراغ يكادا يذهبا بروحه.. كان دائما ما يساوره الإحساس بأن المدينة بل والعالم بأسره قد خلا من حوله فكان يعكف على حساب الأيام والليالي منتظراً عودة شيخه من رحلته.
غير أن الشيخ عبد السلام وفي رحلته الأخيرة تلك لم يعد.. أو ..
أو أنه عاد جسداً بلا روح.
وما كان الفتى يعلم أن وداعه لشيخه في تلك الليلة هو الوداع الأخير.
...................................
في أواخر عام 1876 م كانت أخر رحلات الشيخ عبد السلام إلي الأستانة.. ولم يكن هناك ثمة ما يذكره بأول مرة تقع عيناه فيها على هذه الدرة النفيسة سوى ذلك الأنبهار الذي طالما أستحوذ عليه وكان القاسم المشترك بين جميع سفراته إلي هناك.
بميناء على ضفاف البسفور رست به السفينة.
كان رصيف الميناء على صغره يضج بالحياة وبأكتاف متزاحمة ووجوه أختلط فيها السرور بالحزن .. فذاك الباسم قد جاء في أنتظار صديق أو قريب طالت غيبته وثار القلب شوقا لرؤيته.. وتلك المتجهمة الباكية لابد أنها زوجة أو أم في وداع زوجها أو ولدها الذي سوف تحمله الأمواج عما قريب نحو المجهول.. أقدام غادية وأخرى آتية.. أبتسامات لقاء وعبرات وداع.. أصوات مختلطة بألسنة متباينة.. فذاك يصيح بالتركية في خادمه أن يسرع بحمل حقائبه.. وهذان الصديقان قد أرتمي كل منهما بأحضان الأخر وقد لُفظت حرارة اللقاء على لسانهما بالعربية.. وتلك المرأة تقلب عينيها بحثا عن شخص تعرفه وهي تتأفف بلغة أوروبية..وذلك الشاب الحاد الملامح لابد أنه إيراني فقد كان ينادي علي أحد الحمالين بالفارسية و....
والشيخ عبد السلام هناك عند حافة السفينة قد ولى وجهه شطر تلك الأمواج المتلاطمة من البشر يرقب رصيف الميناء بشرود وإنبهار كادا ينسياه أن السفينة قد دخلت بوغاز الميناء وأن الرفاق على متنها شرعوا في مغادرتها.
رباه!!!!...
كم هي رائعة الحسن تلك المدينة!!..كأنها قطعة من الفردوس..كأنها عروس ليلة زفافها.. وكأن البسفور جبينها الوضاء كاللجين المذاب.
كل شيء فيها يسحر الناظر ويأسر الألباب!!.. مساجدها المهيبة.. قصورها الراقية..حدائقها الغناء..أسواقها.. محلاتها.. طرقاتها.
طرقاتها؟!!
إن كل خطوة في تلك الطرقات هي أقتفاء للتاريخ والحضارة .
منذ أن كانت لبنة خضراء في جدار الحضارة سرت النبؤة بأنها ستلعب دورا فارقا في تاريخ العالم.. كانت وكأنها ذلك النوع من العباقرة الذي يلفت الأنظار لموهبته وهو بعد ناعم الظفر.. قال عنها نابليون بونابرت الأول فيما قيل عنها من زعماء العالم ومشاهيره
" لو كان العالم كله دولة واحدة لكانت أستنبول عاصمتها."
فمتي كانت البداية ؟!.. ومتي كللت ببهاءها مفرق الأرض؟
"أختلف المؤرخون حول تحديد التاريخ الفعلي الذي أشرقت فيه شمس الأستانة على العالم وإن كان الراجح في الرأي بينهم أن مدينة بيزنطة – أول ما أطلق عليها من الأسماء – قد ظهرت للوجود عام 660 ق.م. على يد (بيزاس) ملك الميغاريون وذلك على الجانب الأوروبي من البسفور وما لبثت أن تطورت حتى صارت من أحصن المدن آنذاك.. وما زالت على حالها هذا حتى عام 196 م. إذ لحق بها الدمار والخراب في ذلك العام بعد أن أعلن عليها الحرب الإمبراطور الروماني (سبتيموس سفيروس) ووقعت تحت حصاره.. غير أن العناية الألهية شاءت أن تنتشلها مما لحق بها من دمار وخراب فكان ذلك علي يد البطريرك (ساويرس الأنطاكي) فأعاد إليها ما كان لها من مجد وإزدهار."
راح الشيخ عبد السلام يستمع بشغف شديد لقبطان السفينة التى كانت تحمله إلي أستنبول وقد جمعهما على ظهر السفينة السمر في ليلة هادئة ناعمة النسيم وقد حبس أنفاسه لا لإنبهاره فحسب بل ربما مخافة من أن تقطع تلك الأنفاس اللاهثة على القبطان حبل الحديث الذي راح يسترسل من فمه بحماسة الضارب لآباط الأمور.
" في عام 324 م. وبعد أن ألحق الإمبراطور الروماني (قسطنطين الأول) الهزيمة الساحقة بعدوه اللدود الإمبراطور ( فاليريوس ليسينيوس) بمعركة أسكودار جذب موقع المدينة الساحر نظره وشغفه فاستحالت بعد ست سنوات من المعركة أي في عام 330 م. إلي العاصمة الجديدة للإمبراطورية الرومانية وتحول اسمها إلي القسطنطينية – أي مدينة قسطنطين – وظلت علي حالها من القوة والإزدهار حتي عام 395 م. حين فارق الحياة الإمبرطور الروماني (ثيودوسيوس الأول) وتقسمت إمبراطوريته من بعده فباتت القسطنطينية عاصمة للإمبراطورية البيزنطية التي جعلت من المدينة مركزا عالميا للتجارة بل ومركزا روحيا ودينيا للمسيحيين الروميين الأرثوذوكس الذين ملئوا أرجائها بأفخم الكنائس وأعظمها على الأطلاق آنذاك ككتدرائية آيا صوفيا التي تحولت فيما بعد مع الفتح الإسلامي إلي مسجد."
" يا الله!!..لكأنني أشاهد التاريخ يمثل حيا أمامي."
هكذا هتف الشيخ عبد السلام باللغة التركية العثمانية التي كان يجيدها تماما ًبعد أن توقف القبطان برهة يشعل فيها غليونه الذي لم يكن يفارق شفتاه قط.
" أكمل .. أكمل يا صديقي."
نفث القبطان دخان غليونه في الهواء قبل أن يستكمل حديثه وهو يطالع البحر الجاثي أمامهما هادئا ومهيبا والأفق المظلم الممتد أمامهما كأنه كهف عميق فاغر فاه ومتأهبا لأن يبتلع السفينة إلي المجهول.
كان حديث القبطان مشوقاً قد جذب مسامع الشيخ عبد السلام فأرهف السمع وأمعن الأنصات وهو يستمع إلي قصة فتح الإسلام للقسطنطينية عام 1453 على يد القائد العثماني محمد الثاني الفاتح الذي أعاد إليها شروقها ورونقها بعد أن سمح لسكانها من المسيحيين الفاريين بالعودة إليها وأطلاقه لسراح من كان قد تم سجنهم من الجنود والسياسيين ليعيشوا بكل حرية في أحضان إسلامبول – هكذا أطلق عليها السلطان محمد الفاتح وهي كلمة تركية تعني مدينة الإسلام أو تخت الإسلام – بل وجعل منها مدينة متعددة الثقافات بما شملتهم من مسلمين ومسيحيين ويهود.
ولأن السلطان محمد الثاني أراد لمدينته أن تكون أجمل عواصم العالم فقد شيد فيها من القصور والحمامات والحدائق العامة والأسواق والمعاهد والخانات وغيرها من الأبنية ما جعل من بهاءها مضرباً للأمثال فكان من أشهر ما خلفه السلطان في المدينة قصر الباب العالي ومسجد أبي أيوب الأنصاري الذان كانا وما زالا شاهدان على عظمة الفن المعماري الإسلامي.
ومنذ ذلك الحين الذي ظلل فيه الحكم الإسلامي سماءها حملت من الأسماء ما لم يحمله غيرها من المدائن من حيث الكثرة والعدد فهي الأستانة – عتبة السلطان – وهي الباب العالي.. ودار السعادة..ومقام العرش والدار العالية.. ثم هي أستنبول وهو أسم مشتق من الكلمة اليونانية أستنبولين أي " إلي المدينة".
كانت تلك الليلة التي دار فيها ذلك الحديث حول تاريخ الأستانة هي السابقة على بلوغ الرحلة نهايتها ودخول السفينة إلي الميناء ولقد أخبر الشيخ صاحبه الذي أسره بمعرفته الواسعة وتمني لو طال بهما الحوار إلي غير نهاية.. أخبره أن ثمة حالة من الذهول دائما ما تأخذه بعيدا عما حوله ومن حوله في كل مرة تقع فيها عيناه علي هذه المدينة الساحرة وكأنها مرته الأولي التي يخطو فيها على أرضها.
والحق أن كلام الشيخ لم يجد تصديقا من صاحبه ذلك أن الإنسان إذا ما أختلف علي مكان ما أو مدينة من المدائن وأعتاد إرتيادها فإنه ومن الطبيعي أن يألفها.. حقا أن الإنسان قد يرتبط عاطفيا ووجدانيا بهذه المدينة أو تلك على نحو قد يصل إلي حد العشق وربما الهوس ولكن أن يصاب بتلك الحالة التي يتحدث عنها الشيخ من الذهول والإنبهار كلما وطأها بقدمه وكأنها المرة الأولي التي يتعرف فيها عليها؟!!!.. هذا ما كان مستغربا من أمر الشيخ وما دفع القبطان إلي الإعتقاد بأن كلام صاحبه إنما هو ضرب من المبالغة أو ربما هو نوع من المجاملة الحميدة له كتركي ولد ونشأ بها.
ولإن كان القبطان لم يمل إلي تصديق الشيخ عبد السلام فيما قاله عن عشقه لإستنبول وهوسه بها بيد أنه سرعان ما داخله شعور بأن هذا الشيخ الوقور الجالس أمامه يحادثه ربما كان صادقا فيما ذهب إليه بشكل أو بأخر.. ولعل ما دفعه إلي تغير موقفه على هذا النحو هو ذلك الحزن والوجوم الذي بدا جليا على وجه الشيخ عبد السلام حين قال له مستكملا حديثه حول تاريخ الأستانه.
" غير أنه وفي يوم 14 سبتمبر لعام 1509 م. حدثت الفاجعة التي أشتهرت فيما بعد بفاجعة يوم القيامة الصغير.. إذ أنه وفي ذلك اليوم ضرب المدينة زلازل شديد قضى على أرواح الكثير من أهلها وخلف وراءه الكثير من الجرحى والعشرات من المباني والمعالم التي هدمت وبقيت على حالها من الخراب حتي أمر السلطان (بايزيد الثاني ) في عام 1510 بإعادة إعمار وبناء ما تهدم من الأبنية والمعالم مستخدما لذلك ما يزيد عن الثمانين ألف من العمال والبنائين."(4)
فرغ القبطان من حديثه محولا ناظريه نحو الشيخ فوجده واجما قد طأطأ رأسه يحملق في أرض السفينة الخشبية بنظرات تحمل من الأسى أكثر مما تحمل من غيره فابتسم بإشفاق وندت منه زفره وهو يتأهب للنهوض فانتزعت حركته المفاجأة الشيخ من شروده.
نظر الشيخ إلي صاحبه الذي كان الأن يقف أمامه متأهبا للإنصراف وسأله بصوت هامس
" إلي إين يا صديقي؟"
ضحك القبطان وهو يمد يده مصافحا الشيخ
" إلي العمل أيها الشيخ الكريم.. أنسيت أنني المسئول عن هذه السفينة؟."
" ولكن لا زال لدينا متسع من الوقت فلم لا تزيدني من حديثك حول الأستانة؟"
" إننا سوف نصل إلي الميناء غدا مع المساء إن شاء الله ولابد لي من إنهاء بعد الأعمال قبل أن يحل الغد."
" الأمر ما ترى إذن."
كان ذلك أخر ما دار من حوار بين الصديقان في تلك الليلة قبل أن يفترقا وقد خلف كل منهما في وجدان صاحبه من مشاعر الإعجاب والود ما أنبت في قلبيهما ألام الوداع في مساء اليوم التالي حين رست السفينة معلنة بلوغ الرحلة نهايتها.
كان الشيخ عبد السلام لا يزال على وقفته عند حافة السفينة يراقب من حوله وما حوله وقد داخله شيء من التوتر والقلق ذلك أنه راح يطوف بناظريه أرجاء الميناء بحثا عن وجه صديقه ومضيفه كاظم باشا دون جدوى.
على بعد خطوات منه وخلفه مباشرة كان القبطان واقفا يرمقه بنظرات باسمة وإن خالطها شيء من الأسى لوشك مفارقته ذلك الشيخ الجليل الذي سحره بهدوءه ووداعته وتواضعه الجم مع ما هو عليه من واسع العلم.. على أنه لم يطل تأمله لصاحبه المنشغل بمراقبة الميناء إذ شق طريقه بين جموع الراكبين المتدافعين في سبيلهم لمغادرة السفينة حتى بلغ موضع الشيخ فربت على كتفه بود ظاهر
" حمدا لله على السلامة يا شيخ عبد السلام."
أنتبه الشيخ على صوت صاحبه فالتفت إليه وأجاب باسما
"سلمك الله من كل شر يا صديقي."
" أتنوي مغادرة السفينة أم أنك قررت قضاء رحلتك علي متنها؟"
ضحك الشيخ مجيبا
" هذا يعتمد على قرارك أنت بالبقاء على متنها من عدمه."
ابتسم القبطان لمجاملة الشيخ
" لا تنسي يا عزيزي أن لي زوجة وولدا لم أرهما منذ شهرين كاملين.. غير أني أرجو أن تتيح لنا الأقدار لقاءا آخر عما قريب."
"إذن فهو الوداع على أمل اللقاء..ولكن حقائبي........"
قاطعه القبطان
" لقد أمرت أحد البحارة بمعاونتك على حمل حقائبك حتي تغادر الميناء."
" بورك فيك يا صديقي العزيز."
هبط الشيخ من السفينة وقد تبعه بحار شاب حاملا حقيبته حتي إذا ما باتا خارج الميناء شكر له الشيخ صنيعه وأذن له بالإنصراف.
كانت الحيرة قد ملكت عليه أمره إذ أنه وفي جميع زياراته السابقة على تلك الزيارة قد تعود من كاظم باشا أن يجده أول المستقبلين له غير أنه لا يراه هذه المرة فأوجس في نفسة خيفة أن يكون قد أصاب صاحبه ضرا أو نزلت به نازلة فعربد القلق في فؤاده وأعمل الفكر فيما عليه أن يصنع فلم يجد بدا من أن يستأجر عربة تحمله إلي حيث دار ضيافة كاظم باشا.
وبينا الشيخ في شروده يبحث عن مخرج لما هو فيه من مأزق إذ مرت به عربة مغطاة يجرها زوج من الخيول ما لبثت أن توقفت على بعد خطوات منه على نحو مفاجيء.. وما كادت تستقر مكانها حتى أطل من نافذتها الضيقة رأسا عرف الشيخ فيه وجه كمال جلبي رئيس الخدم بدار الضيافة.
زفر الشيخ بقوة ليتخلص من ذلك التوتر والقلق الذي كان يتملكه وأحس براحة عارمة تداخله وهو يتطلع إلي وجه كمال الباسم الذي أسرع بالهبوط وقد تبعه شاب طويل القامة قوي البنيان حليق الرأس واللحية.
دون أن ينبث الشاب القوي ببنت شفة وبخطوات من يعلم دقائق واجبه حمل حقيبة الشيخ وأودعها العربة وظل واقفا عند بابها يراقب في صمت ما يدور بين رئيسه وذلك الشيخ الوقور الذي كان يراه للمرة الأولي.
كان كمال في تلك اللحظة يحتضن الشيخ بحميمية وهو يقول بشبه صياح فرِح
" حمدا لله على سلامتك يا شيخ عبد السلام."
سأله الشيخ متلهفا دون أن يلتفت لعبارته السالفة
" أين كاظم باشا؟.. أرجو ألا يكون مكروها قد أصابه."
ضحك كمال وأجاب مطمئنا الشيخ
" بل أصابه الخير كله."
كان كاظم باشا علوي من ذلك النوع الذي لا يخشى في الحق لومة لائم.. هكذا عهده الشيخ عبد السلام منذ أن عرفه.. ولقد كانت تلك المزية السر خلف دنوه من السلطان الراحل عبد المجيد حتى بات مستشاره الأثير.
ولذلك قصة عجيبة أنتشرت بين رفاقه المقربين.. أما تلك القصة فمفادها أنه ومنذ سنوات تولى كاظم باشا منصبه كقاضٍ شرعي بإحدي محاكم الأستانه, ولقد حدث ذات يوم أن نُظرت أمامه قضية ذاع خبرها في أرجاء الأستانة آنذاك فلقد عُثر في دار رجل سوداني الأصل كان يعمل حمالا على جثة رجل مقتول ولم يكن هناك من قرينة لتبرئة ذلك المتهم الذي لم يتفوه سوى بجملة واحدة كانت هي إجابته على كل سؤال يسأله له القاضي
" إني لا أعلم صاحب هذه الجثة والله يشهد على أني من دمه بريء."
لم يكن أمام كاظم القاضي في ذلك الوقت إلا أن يحكم بضرب عنق الحمال على ما أقترف من جرم حتى إذا ما جاء يوم القصاص إذا برجل تركي يقتحم على القاضي مجلسه وهو يصيح
" سيدي القاضي.. سيدي القاضي.. إن ذلك الحمال المسكين بريء من دم المقتول هذا."
تعجب كاظم لإقتحام الرجل مجلسه على هذا النحو ولقوله الذي كان يحمل نبرة ثقة ويقين فسأله عن برهان ما يقول.
طأطأ الرجل رأسه خجلا وهو يقول
" لأني أنا من قتله يا سيدي.. لقد كان بيني وبينه شيء من خلاف تطور إلي إشتباك وعراك إنتهي بقتلي له وكان بيت ذلك الحمال الأقرب إلي فهداني شيطاني إلي ان أتسلل إليه وألقي فيه بالجثة درءا للشبهة عني.. وها أنا ذا قد جئت تائبا أريد أن أريح ضميري وأن لا أكرر جرمي بقتل ذلك الحمال المسكين."
كان تلك هي القضية التي ذاعت بين الناس في المدينة وتناقلتها الألسن لا لغرابتها بل لغرابة ما نطق به كاظم من حكم إذا حكم بتبرئة الحمال والعفو عن القاتل التائب.
فلما أن علم السلطان عبد المجيد بما حدث وما كان في تلك القضية أرسل من فوره إلي شيخ الإسلام يطلب مثوله أمامه في القصر الشاهاني وبصحبته ذلك القاضى صاحب أغرب ما سمع من حكم.
"كيف تعفو عن قاتل أعترف بذنبه وبما أقترفت يداه؟!"
هكذا سأله السلطان عبد المجيد وقد تفردت بهما وبصحبتهما شيخ الإسلام قاعة العرش في قصر دولمة بهجت السلطاني.
أجاب كاظم بثبات من يعرف الحق ولا يحيد عنه
" عذراً شاهانتكم.. إن الله سبحانه وتعالي يقول أن من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً.. ولقد قتل هذا الرجل نفسا وأحيا غيرها فهذه بتلك وحسابه إلي الله."
تعجب السلطان عبد المجيد لقول كاظم والتفت إلي شيخ الإسلام يسأله رأيه عما سمع
" ماذا يقول شيخ الإسلام فيما سمع الأن؟"
أجاب الشيخ باسماً
" إني يا مولاي لا أري غضاضة فيما حكم به القاضي كاظم.. بل لعلي أري في حكمه سهم الحكمة الذي أصاب به كبد العدل."
كانت تلك القصة الغريبة وذلك الحكم الأغرب هو مثار إعجاب السلطان عبد المجيد بكاظم الذي أحتل مكانة خاصة في قلبه فقربه منه وجعله مستشارا له وخلع عليه لقب باشا.
ولقد ظل كاظم باشا سنوات يعمل مستشارا لدي السلطان العثماني حتى لحق به ما يلحق بالناس وأخترمه الموت فتولى من بعده أمور العرش شقيقه السلطان عبد العزيز والذي كان علي خلاف شبه دائم مع كاظم باشا.
ولطالما عارض كاظم باشا سياسة السلطان عبد العزيز التى كادت تودي بالإمبراطورية كلها وتجعل منها أثرا بعد عين.. لطالما وقف حجر عثرة ضد تلاعبه بمقدرات الإمبراطورية وثرواتها التي راح ينفقها ببزخ ألصق به لقب عبد العزيز المبذرحتي لقد بلغت ديون الإمبراطورية الخارجية في عهده 250 مليون ليرة.. فلما ضاق عليه صدر السلطان ونفذ صبره أمر بطرده من القصر السلطاني وإمعانا في التنكيل به ومخافة من أن يلتف حوله رجال القصر فيثيرون البلبلة والزعزعة في أركانه أمر بإلقاء القبض عليه وأودعه السجن.
بقي كاظم باشا في السجن سنوات لا يلتفت إليه أحد حتى تآمر رجال القصر على سلطانهم عبد العزيز فأنتزعوه من فوق العرش ليجلسوا مكانه السلطان مراد الخامس الأخ الأكبر للسلطان عبد الحميد والذي لم يدم على العرش سوى قرابة الثلاثة أشهر كانت كافية لأن يعمل رفاق كاظم باشا على إخرجه من محبسه قبل أن يصاب السلطان الجديد بالجنون ويطرد خارج قصر دولمة بهجت ليدخله أخوه عبد الحميد الثاني سلطانا للدولة العثمانية.
" ولما سمع مولانا السلطان عبد الحميد الثاني حفظه الله ما كان من أمر سيدي كاظم باشا وما وقع عليه من ظلم مبين من عمه عبد العزيز أرسل إلي قصر سيدي صباح اليوم رسوله يدعوه للتوجه لقصر دولمة بهجت ومقابلة شاهانته."
كان كمال يحادث الشيخ مفسراً له لغز إختفاء سيده وعدم أستقباله للضيف في الميناء هذا المساء وقد تهللت قسماته بالبشرى.. بينما راحت الجياد تلتهم الأرض إلتهاما وكأنها تسابق الريح إلي دار الضيافة وهي تجر خلفها العربة المغطاة حيث أستقر الشيخ وإلي جواره رئيس الخدم بينما قبالته جلس الخادم الشاب وقد أحتفظ بصمته دون أن يحرك ساكنا وكأنه تمثال قُد من صخر وأكتفي بالتشاغل عنهما بمراقبة الطريق من نافذة العربة الضيقة.
تسائل الشيخ متعجباً
"ومن أوقف السلطان علي نبأ كاظم باشا."
" لقد حدث منذ يومين أن جلس إلي السلطان عبد الحميد مدحت باشا الدفتردار وهو صديق مقرب لسيدي كاظم باشا."
" أجل .. إني أعرفه جيداً فلقد قابلته غير مرة بدار الضيافة.. أليس هو ذلك الأشقر طويل القامة ذو الشارب الكث."
ابتسم كمال جلبي مجيباٍ
" أحسنت.. إنه هو.. وهو أيضا من فاتح السلطان أدام الله حكمه في أمر سيدي كاظم باشا فتأثر شاهانته أيما تأثر بما سمع وأرسل في أستدعاء سيدي هذا الصباح فانطلق إليه ملبيا غير مبطيء بعد أن عهد إلي شرف إستقبالكم وحملني رسالة إعتذار إذ ربما يضطر لقضاء ليلته بالقصر السلطاني."
تنهد كمال كأنما قد أزاح عن صدره حملا ثقيلا قبل أن يستطرد
" هذا ما كان من أمر سيدي وما حبسه عن استقبال شخصكم الكريم اليوم."
ضحك الشيخ حتى بدت نواجزه وقال متهللا
" هذه والله خير بشرى."
ما أن فرغ الشيخ من عبارته حتى وقعت عيناه من النافذة على مسجد آيا صوفيا وكان على بعد أمتار قليلة منهم فاستأذن كمال في أن يعرجوا إلي المسجد فقد دنا موعد صلاة العشاء وقد حدثته نفسه أن يصلى لله شكرا على ما سمع من طيب الأخبار عن صاحبه قبل أن يرتفع الأذان بالصلاة.
أومأ كمال برأسه ملبياً وطلب من الخادم الشاب أن يأمر السائق بالتوقف قائلاً
" مر السائق فاليتوقف عند المسجد يا جعفر."
أنتبه الشيخ لوجود الشاب وكان قد جرفه الحديث فنسيه تماما وللمرة الأولي منذ أن وقعت عليه عيناه أتاه صوت جعفر الخشن وهو يصيح بالسائق الذي كان يقود الجياد بالخارج أن يتوقف عند مسجد آيا صوفيا.
هذا كل ما كان من أمر الشيخ عبد السلام الأحمد منذ أن وطأ بقدمه أرض أستنبول وحتى هذه الساعة التي دلف فيها المسجد وبجواره رئيس الخدم كمال يتبعهما الخادم الغامض جعفر.. وحتي لا نثقل على الشيخ أرى من اللياقة أن نتركه الأن لصلاته ولنبحر بعيدا إلي غير هذا الموضع لنري ما سيكون من أحداث أخرى.


دكتور جيفاجو غير متواجد حالياً  
قديم 28-03-14, 02:28 PM   #4

كاردينيا الغوازي

مراقبة عامة ومشرفة وكاتبة وقاصة وقائدة فريق التصميم في قسم قصص من وحي الأعضاء

alkap ~
 
الصورة الرمزية كاردينيا الغوازي

? العضوٌ??? » 126591
?  التسِجيلٌ » Jun 2010
? مشَارَ?اتْي » 40,361
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Iraq
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » كاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond reputeكاردينيا الغوازي has a reputation beyond repute
?? ??? ~
من خلف سور الظلمة الاسود وقساوته الشائكة اعبر لخضرة الامل واحلق في سماء الرحمة كاردينيا الغوازي
افتراضي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

اهلا بك في وحي الاعضاء ومنتدى روايتي

بعد اذنك نقلت الرواية من قسم الروايات المكتملة للقسم العام حيث المكان الصحيح لعرضها

اتمنى لك كل الموفقية

وهذا رابط موضوع يا ريت تمر عليه لانه قوانين الكتابة في القسم وبعض المواضيع الاخرى المفيدة

دليل الكتاب والكاتبات الجدد وقوانين قسم قصص من وحي الأعضاء



كاردينيا الغوازي غير متواجد حالياً  
التوقيع
قديم 28-03-14, 11:33 PM   #5

جودي الحب

? العضوٌ??? » 98877
?  التسِجيلٌ » Sep 2009
? مشَارَ?اتْي » 3,225
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Palestine
?  نُقآطِيْ » جودي الحب has a reputation beyond reputeجودي الحب has a reputation beyond reputeجودي الحب has a reputation beyond reputeجودي الحب has a reputation beyond reputeجودي الحب has a reputation beyond reputeجودي الحب has a reputation beyond reputeجودي الحب has a reputation beyond reputeجودي الحب has a reputation beyond reputeجودي الحب has a reputation beyond reputeجودي الحب has a reputation beyond reputeجودي الحب has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   ice-lemon
¬» قناتك rotana
افتراضي

آآآآآآآآآآآآآه عالقدس


والله انو احنا الفلسطينين متعذبين وما حدا حاس فينا وخاصة انو القدس يوم عن يوم عم بتزيد سطوة اليهود وحيونتهم وتمسكهم فيها ولأ فوق كل هاد الشي عم بهدوا المسجد الأقصى شوي شوي والعرب ساكتين ومش مهتمين


الله يكون بعونا وبعون العرب .. أحوالهم صارت أقطع منا


جودي الحب غير متواجد حالياً  
قديم 29-03-14, 12:11 AM   #6

دكتور جيفاجو

? العضوٌ??? » 315386
?  التسِجيلٌ » Mar 2014
? مشَارَ?اتْي » 9
?  نُقآطِيْ » دكتور جيفاجو is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة جودي الحب مشاهدة المشاركة
آآآآآآآآآآآآآه عالقدس


والله انو احنا الفلسطينين متعذبين وما حدا حاس فينا وخاصة انو القدس يوم عن يوم عم بتزيد سطوة اليهود وحيونتهم وتمسكهم فيها ولأ فوق كل هاد الشي عم بهدوا المسجد الأقصى شوي شوي والعرب ساكتين ومش مهتمين


الله يكون بعونا وبعون العرب .. أحوالهم صارت أقطع منا
الحق معك يا أخي ولكن صبرا جميل فلقد خلق الله مع العسر يسرا


دكتور جيفاجو غير متواجد حالياً  
قديم 29-03-14, 12:17 AM   #7

دكتور جيفاجو

? العضوٌ??? » 315386
?  التسِجيلٌ » Mar 2014
? مشَارَ?اتْي » 9
?  نُقآطِيْ » دكتور جيفاجو is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة جودي الحب مشاهدة المشاركة
آآآآآآآآآآآآآه عالقدس


والله انو احنا الفلسطينين متعذبين وما حدا حاس فينا وخاصة انو القدس يوم عن يوم عم بتزيد سطوة اليهود وحيونتهم وتمسكهم فيها ولأ فوق كل هاد الشي عم بهدوا المسجد الأقصى شوي شوي والعرب ساكتين ومش مهتمين


الله يكون بعونا وبعون العرب .. أحوالهم صارت أقطع منا
يا فلسطين مش ناسيين حنحرر مصر وليكو جايين


دكتور جيفاجو غير متواجد حالياً  
قديم 30-03-14, 12:19 AM   #8

دكتور جيفاجو

? العضوٌ??? » 315386
?  التسِجيلٌ » Mar 2014
? مشَارَ?اتْي » 9
?  نُقآطِيْ » دكتور جيفاجو is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الثاني
القاهرة عام 1876 م.
ما أقسى اليتم..وما أثقله على قلب من عرفه وذاق مرارته..وما أشد ما يورثه في الوجدان من آلام وأحزان وجراحاً في النفس لا تندمل.
إن من فقد أحد والديه أو كليهما بات مقاتلا في معترك الحياة بلا درع يحميه أو ملجأ يأويه وهو في وحدته القاسية وتيه روحه المعذبة كشجرة سقطت عنها أوراقها وتركتها وحيدة في مهب الريح كلما هبت عليها عاصفة أكرهتها على الإنحناء لها والركوع صاغرة أمامها.
وماذا يملك حيال نوازل الدنيا ومصائبها العظام من رمته الأقدار في لجة اليتم وتركته وحيدا يصارع الأمواج العاتية بجسد متهاوٍ وساعد مهيض ؟.
إن آلام اليتم وعذاباته لتصنع في وجدان الفتي صنيع المثال في الصخر فتشكل شخصيته وتحفر ملامحها متضافرة في ذلك مع ما يلاقيه من ظروف إجتماعية وأحداث حياتية تدفعه دفعاً بقوة القدر في طريق للحياة طورا ما يكون معبدا بالسعادة والأمال الكبري وأطوارا كثيرة ما يكون ممتلء بعثرات الفقر والجوع والعبرات السخينة.
فاليتم إذا قد يصنع من الإنسان شيطانا وقد يصنع منه نبيا.. قد ينمو من تجرع كؤوس الحرمان من حنان الأم وحكمة الأب وهو حاقد على من في الدنيا وما فيها فيستحيل إلي شيطانا مريدا يصب جام غضبه على من يقترب منه ويحرق بسياط حقده حياته وحياة الأخرين من حوله.
وعلى النقيض قد يترعرع من تجرع ذات الكؤوس وقد ملء الحب كيانه لكل من عرفهم وعرفوه وصادفهم في نهر الحياة فلا يدخر من عطفه وحنانه وإنما يوزعهما على كل من حوله وما حوله بسعادة ورضا وسلامة نفس قلما يشعر بها غيره من بني جلدته.
ولقد كان رفعت الراسي من ذلك النوع الأخير.
كان رفعت يقطع ذلك الشارع الطويل الهاديء بأحد الأحياء في وسط القاهرة الراقية حيث كان مسكنه مرتديا بذته العسكرية وقد حمله الهدوء الذي خيم من حوله إلي ذكريات الماضي البعيد..ذكريات طالما تمنى لو أسقطها عن عقله النسيان فيسقط معها ما أنقض ظهره من هموم وما لف كيانه من عذاب.
إنه الأن رجلا قد قفز خطوة واحدة فوق حاجز الثلاثين من العمر..علمته حياة الجندية التي قضى فيها سنوات طوال الخشونة واستعمال القسوة في موضعها وأبرزت في ملامح شخصيته كثيرا من الصلابة وقوة الإرادة ومع كل ما سلف لا تزال أحزان الماضي ترمي بظلالها على حاضره فتعكر عليه صفو أيامه، فلقد كان كثيرا ما يحدث مثلا أن يتذكر مرض والده وما كان يعانيه من قسوة الألم ووحشيته فكانت تترقرق عيناه بالدمع.
بالرغم من أن المرض الأخير قد حل ثقيلا على جسد والده ولم يكن هو قد تعدى بعد الثامنة من عمره إلا أنه ما أنفك يذكر تلك الأيام السوداء من حياته على نحو عجيب.
لكم أعتصره الألم وهو يري دموع والدته لا تنقطع كمدا لأنات زوجها العليل وقد وقف الطب عاجزا أمام مرضه العضال فلم يستطع إلي ردعه سبيلا حتي فاضت روحه إلي بارئها ليبدأ الفتي الصغير رحلته مع اليتم.
كان ثمة سؤال قد فرض نفسه على عقل الفتى ذات يوم فراح يتدبره ويجادل نفسه فيه وقد دب الرعب بقلبه وأثار فيه بواعث الشفقة والحنو.. فماذا لو لم يكن له عم في مثل ثراء عمه سليمان باشا الراسي ليكفله ويعينه على نوائب الدهر؟!.
حقا إن والده خليل أفندي والذي كان يعمل مستخدما بديوان البريد المصري كان إلى حد ما ميسور الحال بيد أنه لم يخلف له بعد أن مات عنه ما قد يعينه ووالدته على تكاليف الحياة ذلك أنه لم يكن علي ما كان عليه شقيقه سليمان من غنى فاحش وحظ وافر.. بل إنه ما كان ليحصل على وظيفته تلك لولا معاونة شقيقه الذي رمت به الأقدار في خضم النفوذ والثراء بمصادفة قلما يجود بها الدهر على شاكلته من بسطاء الناس.
................................................
لم يولد سليمان باشا وفي فمه ملعقة من ذهب كما يقال وإنما حدث في صدر شبابه أن أختير مع جماعة من طلاب الأزهر للسفر في بعثة إلي باريس لدراسة القانون.. بهرته باريس بجمالها وأضوائها ومنازلها وشوارعها المزدحمة.. غاص فيها حتى النخاع.. أنتابه حلم غريب بأن يرى المحروسة يوما على مثل هذا الجمال والبهاء .. بدا له حلمه هذا ضربا من الخيال وما خطر بباله أن العمر سيمتد به حتى يراها في مثل حسن باريس وربما أكثر منها رونقا وحسنا.
كانت أجمل أوقاته وأحبها إلي قلبه والذي حرص على الإحتفاظ بذكرياتها في عقله ووجدانه هي تلك الأوقات التي كان يقضيها ليلا سيرا علي الأقدام في باريس يتفرس جمال شوارعها الذي لم يكن يعادله في الدنيا إشراقا سوى جمال نساءها.. ذات ليلة ساقته الاقدار إلي فتاة في مثل عمره أو تقل سنوات معدودات.. ظنها في باديء الأمر فرنسية فقد كانت تحمل ملامح أوروبية أو أقرب إلي الأوروبية فتعرف إليها.. ولكم كانت دهشته حين سمعها تتحدث إليه بالعربية فسألها عن هويتها
قالت له الفتاة بارعة الجمال أنها تركية وأن أسمها ثريا علوي.. ثم راحت تحكى له عن مرض والدها الذي جاء إلي فرنسا للعلاج وقد أصر على أن ترافقه مع والدتها وأبن عمها كاظم.
بدت له ثريا بملامحها الرقيقة وصوتها الرقراق كطائر مغرد يحلق في فضاء من الحسن والبهاء.. احس بقلبه يخفق بشدة وقد أسرته بابتسامتها من قبل أن يتعرف إليها.
كانت شمس ذلك اليوم قد أوشكت على المغيب وبالرغم من مشهدها الحزين وهى تودع الدنيا إلا أنه شعر بأن شمسا أخري تشرق في وجدانه.
راح يحدثها عن نفسه وابتسامته لا تفارق شفتاه فأسرها هو أيضا بلباقته وقدرته العجيبة على جذب الأنظار والنفوس إليه – تلك الموهبة التي ورثها عنه رفعت – فاستسلمت لمشاعرها الوليدة دون مقاومة تذكر.
مضى بهما الوقت وهما لا يشعران كأنهما طفلين حالمين.. أستأذنها في أن يلقاها مرة أخرى فأذنت له وتعددت بينهما اللقاءات.
مرت بهما الايام وقد توطدت بينهما العاطفة حتى ظنت ألا فكاك من هيامها به وبات يقينا راسخا في عقله وفؤاده بأنها ضالته المنشودة وشريكة عمره التي طالما حلم بها ففاتحها في أمر زواجهما فعربد الخوف في أعماقها حتى كاد يفتك بها.
لقد كان أشد ما تخشاه ثريا هو رفض والداها لذلك الزواج.. فما كانت لتتخيل أن يوافق أبوها على أقترانها من شاب في مقتبل عمره لا زال دارساً.. ثم..
ثم إنه ليس من بني جنسها .. أنه مصري الجنسية من أسرة متواضعة كما أخبرها أما هي فتركية من أصل عريق ذات حسب ونسب فهل سيوافق والدها لو أنه وقف على حقيقة فتاها؟.
بدت له في حيرتها كعصفور بلله القطر.. وبالرغم من تكهناته الصائبة حول قلقها وترددها بيد أنه سألها أن تصارحه بأسباب ما يداخلها من قلق وحيرة فأخبرته.. ولقد كان على يقين من أن ما ذهبت إليه من مخاوف لن يعدو الحقيقة بعينها فأصابه ما أصابها من وجد وحزن وراح يعمل فكره فيما يتوجب عليه فعله.
بقي سليمان أياما متفردا بحزنه لا يطالع عليه أحدا من رفاقه بالبعثة مع إلحاحهم عليه أن يكاشفهم بما وراء تلك الحالة من الصمت والشجن التي أكتنفته ولم يعتادوها فيه.. فكان قليلا ما يغزو النعاس أجفانه ونادرا ما يقبل على طعام، وهو في تلك الحالة كغيره من المحبين الذين يرون أحلامهم تتسرب من بين أصابعهم كالماء دون أن يرتووا منه.
كانت الأيام تمر به سريعة كالبرق وقد أوشكت مليكة قلبه على الرحيل عائدة إلي موطنها بعد أن من الله على أبيها بالشفاء حتى كانت ساعة جلس فيها وحيدا على شاطيء نهر السين يتفكر في أمره وما ألم به وبمحبوبته معا فبزغت في عقله فكرة استصاغها ربما لجودتها وربما لأنه لم يكن يملك خيارا أخر غير أن يقوم على تنفيذها.
لقد أخبرته ثريا بمسكنهم في باريس فلماذا لا يذهب لزيارتهم والجلوس إلى أبيها ليفاتحه في أمر زواجه من أبنته مستخدما في ذلك كل ما حباه به الله من لباقة وقدرة على الإقناع.. إنه لن يخسر شيئا إن فعل ولكنه قد يخسر كل شيء لو لم يفعل.
لماذا لا يذهب إليه من غده إذن وليكن ما يكون؟!
ولقد فعل وجلس إلى والدها فاصابه في بادئ الأمر إنطباعا سيئا حول ذلك الشيخ ذو الوجه العثماني الحاد الملامح المتجهم النظرات كتمثال خاو من المشاعر وأصابه إرتباك كاد يعقد لسانه لولا أن جمع شتات نفسه وراح يتحدث إلي الشيخ في أمور شتى لا علاقة لها بمبتغاه
وأخذ يعرج به من موضوع لأخر في نواحي الحياة فاستطاع أن يستقطبه إليه لما راح يحدثه باسترسال عن تاريخ تركيا والإمبراطورية العثمانية العظيمة وما لها من أياد على دولة الإسلام.
إطمئن الشيخ إلي الفتي وأنس في نفسه راحة تداخله نحو سليمان الذي بدا له شاب ذكي لبق ذا شخصية آسرة وإن لم يعلم كيف تعرف إليه وما السر خلف زيارته تلك وليس بينهما من رباط أو علاقة تجمعهما
والحق أن سليمان لما أراد أن يفاتحه فيما يبتغيه وما يرنو إليه أحس بكلماته تتحطم علي جدار شفتيه فتأبى أن تغادرها لذا فقد رأي أن يرجيء الأمر على أن يستأذن الشيخ في معاودة زيارته لاحقا.. ولما كان مساء ذلك اليوم وفي لقاء جمعه بثريا - التي أصابتها زيارة سليمان المفاجئة لهم بذهول كاد يذهب بعقلها خوفا وفرحا في آن - أخبرته بما قاله عنه والده بعد مغادرته وكيف أصابه الإرتياح لذلك الشاب الغريب الذي إقتحم عليه حياته بجسارة ودون إنذار بل وكيف أن كاظم أبن عمها قد داخله نفس الشعور نحو الفتى وأقترحت عليه أن يلتقي بكاظم بعيدا عن المنزل ليفاتحه في الأمر ويتخذ منه معينا على إقناع والداها بمرادهما.
لاقى إقتراح ثريا هوى في نفس سليمان فوافقها من فوره على أن تدبر هى شأن هذا اللقاء فلم تتردد في ذلك إذ أنها كانت تبادل كاظم الثقة وتتخذ منه صديقا وخزانة لأسرارها وهو ما حدا به أن يتفهم موقفها وقد أخذته نوبة من الضحك حين فاتحته في الأمر وأوقفته على سر زيارة الشاب الغريب لهم .. ذلك السر الذي طالما أعمل فكره في محاولة الوصول إليه، على أنه لم يوافقها الرأي في باديء الأمر فهو وإن كان قد سكن إلي الفتي وأرتاح إليه إلا أنه لا يزال غامضا وغريبا عنهم فكان ذلك خلف رفضه.. إلا أنه مع ما رأي من أبنة عمه وصديقته من حزن وإصرار وافق على مضض فكان لقاءه بسليمان.
أخبره سليمان بأنه قد أوشك بتفوق على إنهاء دراسته التي سوف تفتح له أفاقا جديدة في مصر وربما ترتقي به إلي مكانة مرموقة تضعه في مصاف الصفوة من المجتمع.. وأنه لا يرغب في دنياه سوي الإقتران بثريا وهو في سبيل ذلك لا يترفع أن يقبل بشروط والداها مهما كانت مجحفة له إذ لم يعد لحياته معنى دون قربه منها.
جاء حديث الفتي صادقا حارا فلمس أوتارا في قلب كاظم الذي شعر وكأنه يعرف سليمان منذ عهد بعيد وما أن أنتهى لقاءهما حتى كادت السعادة تطيح بسليمان وتلقيه في هوة الجنون فلقد وافق كاظم على أن يسانده ويدعمه حتى يصل لمبتغاه بل ونصحه ألا يعارض عمه في أي مما قد يمليه عليه مهما بلغ من إجحاف، ذلك إن أراد أن يتزوج بثريا حقا.
ولعله يكون ضربا من المبالغة إن قلنا أن كاظم وسليمان قد وجدا إستحسانا للفكرة من الشيخ علي الفور .. بل على العكس من ذلك فقد انتفض والد ثريا غضبا وكاد أن يطرد سليمان خارج المكان لولا أن عمل كاظم - الذي كان يمتلك ثقة الشيخ فيه - على تهدئته وإذهاب حنقه وبقيا يحدثانه ويحاولان إقناعه بشتى السبل حتى أنتهيا إلي وعده لهما بالتفكير في الأمر قبل حسمه.. ولقد وجد سليمان في وعد الشيخ رضا لنفسه وبارقة أمل.
ظل سليمان أياما تتخطفه الأفكار وهو حائر بين اليأس والرجاء حتى جاءه بشير الخير وهو لقب ألصقه سليمان بكاظم منذ ذلك اليوم الذي حمل فيه كاظم له نبأ موافقة عمه على زواجه من ثريا بشرط أن ينتقل معهم للعيش بالأستانة.
وما كاد سليمان ينهى دراسته في ذلك العام حتى سافر إلي الأستانة لينفذ الشيخ وعده له ويتم قرانه بثريا.
بقى سليمان في الأستانة قرابة العامين يرفل في سعادة لا تضاهيها سعادة وقد من الله عليه بكبرى بناته رقية ذلك الملاك الصغير والتي كانت أشبه الناس بوالدتها.. ثم إن علاقته بحماه قد توطدت حتى صارا أخلاء وبات سليمان نديمه ومستشاره إلى أن عاوده المرض فلم يمهله هذه المرة وإنما أسلمه ليد المنون فأصاب سليمان من الكمد ما لم يستطع معه البقاء في أستنبول.
عاد سليمان بعد وفاة حماه إلي المحروسة حاملا معه زوجته وأبنته التي لم تتم عامها الثاني بعد وكتابا من كاظم إلي رفيق باشا شركس صديق الشيخ الراحل بالقاهرة يوصيه خيرا بسليمان وأسرته فكانت معرفته برفيق باشا نافذته إلي عالم المال والنفوذ.
.................................................. ..............
أفاق رفعت من شروده علي نسمة هواء راحت تداعب وجهه بنعومة هادئة وكان قد أسلم قياده لقدمه تحمله بخطوات بطيئة مثقلة على ضفاف النيل في طريقه إلي مسكنه فراح يتأمل النهر الهاديء وقد تدفقت مياهه كالفضة الذائبة متلألئة تحت ضوء الشمس فداخله شعورا بالراحة وصفاء النفس.
تمنى وهو يطالع النيل ببهاءه وعظمته لو توقف به الزمن ودامت تلك اللحظة للأبد فما كان يسعده ويغمره بالسكون أكثر من رؤيته لهذا النهر الخالد العظيم.
حين كان صبيا في الخامسة عشر وقبيل إلتحاقه بالجيش كان في بعض أحيانه ما يجلس على ضفاف النهر ينادمه ويناجيه كأنه صديق حميم.. بل إنه جعل من قاعه مخزنا لأسراره التي كان يبثه إياها ولواعجه التي ثارت كبركان لا يخمد في أعماقه وقد تملكه الهوى وسكن فؤاده وباتت ملك أبنة عمه الصغرى حديثه ونجواه كلما أنفرد بنفسه أو بالنهر.
لم تكن ملك تقل جمالا عن شقيقتها الكبرى رقية بل ربما فاقتها حسنا ودلالا وإن لم يكن حسنها ودلالها هما ما رميا برفعت في شباك غرامها وإنما رقة مشاعرها وما تحمله روحها من خفة وجاذبية هما في نظره أهم وأسمى من جمالها المادي.
بيد أنه مع ما كان يكنه لها من مشاعر نقية وهوى عذري أبعد ما يكون عن شوائب الملذات، كان ثمة احساس بالذنب يراوضه ويقض مضجعه إذ أنه كان يري في حبه وهيامه بها خيانة لعمه بشكل أو بأخر.
قد يبدو ذلك الشعور الذي أنتابه مستغربا ومحيرا بل وربما لغزا يستعصي علي الحل.. والحق أنه كان كذلك فحتى تلك اللحظات التي كان يقترب فيها رفعت من منزله بوسط القاهرة لم يجد تفسيرا لذلك الشعور ولا على أي وجه هذه الخيانة المزعومة لعمه..
إن ما كان يهمه أنذاك هو ألا يعكر صفو علاقته بعمه أو يلحق به الأذي ولو معنوياً.. فمن كان مثله لا يكون له أن يضرب بعصا الخيانة والغدر علي يد قد أمتدت له بالإحسان. فما باله بعمه وأبيه بعد أبيه الذي طالما أحتضنه وأغدق عليه من عطفه.
كان رفعت لا يزال في طيات الغيب عندما عاد عمه من أستنبول ليجد أخاه خليل قد تزوج.. ولقد شاء الله أن يولد رفعت بعد عام من ذلك وأن يولد معه في نفس العام أبن عمه صادق.. ثم من بعدهما بعامين كانت أولى صرخات ملك في الحياة.
إنه لا يزال يذكر تلك الأيام التي قضاها بمنزل عمه وقد أنتقل للعيش بكنفه بعد وفاة والدته.. كان في ذلك الوقت في الحادية عشر من عمره.. وإن كان القدر قد حرمه كلا والديه فإنه من جانب أخر قد أتاح له الأقتراب من ملك على نحو ألهب صدره بهواها.
ياللوعة العاشق وهو يري حلمه أبعد عنه من كبد السماء مع قربه ممن يهواه فؤاده..إنه يقاسم ملك دقائق حياتها.. يراها كل ساعة بل كل لحظة من نهاره وليله.. يداعبه طيفها في اليقظة والمنام..ولكم شاركها مرتع الطفولة حيث ألقى القدر في وجدانه أول بذور الهوي هناك بين الماء والخضرة.
هناك في قرية منية الرحمانية عند أطراف الدلتا وعلى ضفاف النيل كانت ذكريات الطفولة مع أميرته الصغيرة..
أستطاع عمه سليمان - بعد أن تغلغل في عالم الأتراك والشراكسة من ذوي المناصب العليا في ذلك الوقت وأتسعت علاقاته وصداقاته بهم – أن يشتري من الخديوي سعيد الباكاوية وأن يمتلك بمنية الرحمانية زماما شاسعا من الأرض يقع عند أطرافها وعلى ضفة النيل مباشرة منزلا أشبه بالقصور أشرف على بناءه مهندسا فرنسيا كان قد التقى به ذات يوم في حفلة أقامها رفيق باشا شركس فأتخذ منه صديقا.
ولقد أعتاد عمه - سليمان بك آنذاك – في تلك الأيام التي كان يدعو فيها رفاقه لقضاء بعض الوقت هناك أن يصطحبهم معه فكانت تلك أسعد أيام في حياة رفعت.
لطالما شارك ملك المرح في تلك الأيام الخوالي.. ولطالما تضاحكا وهما يطاردان الفراشات الصغيرة في حديقة المنزل الغناء..كانت تتملكه في تلك اللحظات مشاعر لم يستطع أن يصفها.. بل إنه وبعد سنوات من تلك الأيام كان كثيرا ما يتلعثم في حديثه إلي ملك إذا ما سألته عما كان ينتابه حين كانا يمرحان سوية علي ضفاف النيل وبين الحقول الخضراء.
أجل.. كان دائما ما يتلعثم ويحاول أن يغير دفة الحديث، إذ كيف لعاشق أن يلفظ قلبه على لسانه؟!.. إنه مهما حاول أن يفعل فلن تسعفه الكلمات.
ذات يوم – وكان ذلك في زيارتهما الأخيرة للقرية قبل أن يلتحق بالجيش – أرادت ملك أن تجرب أمتطاء الخيل فتسللت إلي ذلك الأسطبل الصغير عند سياج المنزل فانتبه إليها أحد الخادمين وأسرع إلي منعها برفق وهوادة مخافة أن تلحق الأذي بنفسها وبهم جميعا إذا ما علم والدها بالأمر فخرجت باكية تشكو إلي رفعت ما كان من الخادم.
أقسم لها رفعت يومها أن يلبي رغبتها وأن يجعلها تمتطى الخيل فتسللا سويا خارج المنزل وأنطلقا في طرقات القرية حتى بلغا دار الشيخ عبد الوهاب أبو الأسرار أحد مشايخ القرية حيث شاهد رفعت ذات مرة جوادا صغيرا مقيدا هناك أمام الدار.
كان الجواد لا يزال مقيدا هناك فأختبئا خلف شجرة كبيرة علي مقربة منه حتى إذا ما سنحت الفرصة أنطلق رفعت ليفك قيده ويهرع به إليها، ثم ما لبثا أن كانا سويا على صهوة الجواد الذي أنطلق بهما وهي تتصايح بمرح وسعادة. حتى كانت لحظة أنفلتت فيها يدها التي كانت تتطوق رفعت من الخلف فسقطت من فوق الجواد الجامح.
أحس رفعت بالدنيا وقد غامت أمام عينيه وهو يهرع نحوها وقلبه يكاد ينخلع خوفا عليها.. راح يناديها باسمها في هلع ورعب وهو يراها تتأوه على مقربة منه.. ساعدها على النهوض وهو يسألها إن كان مكروها قد أصابها فأومأت برأسها نفيا.. أحس بدموعها حمما تحرق فؤاده وصوتها المتهدج يبثه خوفها عليه مما قد يصنعه بهما والدها.
تناسى رفعت ما قد يلاقيه من غضب عمه وما قد يفعله به في فورة غضبه أو أنه كان يملك من الشجاعة ما يجعله لا يأبه بما قد ينزل عليه من عقاب، فلقد طلبت إليه ملك ألا يخبر أباها بما كان مخافة أن يصيبه منه مكروه غير أنه أبى إلا أن يوقفه على ما كان من الأمر فخير له أن يعلم عمه منه لا من غيره ما أقترفه من ذنب.. ثم إنه قد أخطأ وعليه أن يتحمل عاقبة خطأه.
كان سليمان بك جالسا إلي رفيق باشا يتحادثان في بعض شؤون الدولة وقد عرج الحديث بهما إلي ما يدور في أروقة الجيش، ذلك أن رفيق باشا كان ضابطا قياديا بالجيش مثله في ذلك مثل العديد من الضباط الشراكسة والأتراك آنذاك، غير أن طرقا على باب الغرفة قد قطع عليهما ما هما فيه من نقاش.
ما أن أذن سليمان بك للطارق بالدخول حتى فتح الباب وظهر على أعتابه رفعت وقد أطرق برأسه نحو الأرض خجلا.. أذن له عمه بالدلوف فتقدم محييا دون أن يرفع إلي أي منهما عينيه وشرع يقص على مسامعهما ما كان من أمره وملك بصوت أصابه الخجل بالخفوت.
أعتلت وجه سليمان بك حمرة الغضب وهو يسأله إن كان قد لحق بأبنته أذى فأومأ رفعت برأسه أن لا، بينما رماه رفيق باشا بنظرة إعجاب وهو يخاطبه بشىء من الدهشة
" يالجراءتك!!..أما خشيت من غضبة عمك وما سيلحقه بك من عقاب؟!."
تطلع إليه رفعت وهو يجيبة بنبرة لم يخفى عليهما ما تحمله من ثقة وثبات
" سيدي.. إن من يركب البحر لا يخشى من الغرق.. ثم إنني أجل سليمان بك أبا وأحترمه عما ولا أظنك تخالفني الرأي أن الحب والإحترام بغير خوف أفضل ألاف المرات من الخوف بلا حب أو إحترام."
تضاعف إعجاب رفيق باشا بالشاب الواقف أمامه وقد ملئته الثقة والعزة بالنفس.. أما سليمان بك فقد زال عن محياه ما كساه من حنق وقال وهو يشير للفتى محذرا
"سيكون لي معك شأنا أخر حين نعود للقاهرة."
أنسحب رفعت من الغرفه وقد تملكته حيرة لازمته ما تلى من ليال قضاها وهو يتفكر في قول عمه.. لقد كانت إشارته نحوه محذرة على نحو صارخ غير أن هدوءه وشبح الابتسامة التى ارتسم على شفتيه كانا يوشيان بما خلف كلماته من بشرى.
فهل أدرك عمه بفراسته ما يكنه من عشق لملك؟.. ولو أن ما ذهب إليه من ظن صحيح فهل يقبل بأن تكون له زوجة؟
لقد أخبره عمه من قبل بقصة زواجه من ثريا هانم علوى.. وما كان بينهما من فوارق وما اعترض هواهما من عوارض، وها هو ذا التاريخ يعيد نفسه فهل يجد عمه غضاضة في أن تنتهى قصته وملك ذات النهاية السعيدة؟
إن ثريا هانم تكن له كل المودة والعطف ومنذ أن ألتحق بمنزلها للحياة فيه بعد وفاة والدته لم تفرق يوما بينه وبين ولدها صادق في معاملة.. لقد كان حنانها ينسال ليغمره فيزيل عنه همومه وأحزانه على نحو عجيب.. بل لقد كانت نظرتها الحانية الشفوقه له دائما كعصى ساحر تلمس شغاف قلبه فتملئه بهجة وسعادة وتعوضه قسوة اليتم والحرمان.
لذا فقد كان على يقين تام من انها ما كانت لتعوقه أن يبلغ ما يرنو إليه.. غير أن أكثر ما كان يؤرقه هو ما سيكون عليه موقف عمه.. كان الأمر مربكا له وقد هوى عقله فريسة للأفكار المتناحرة وكاد يصيب روحه اليأس لولا ما حدث وعجل بعودتهم جميعا من منية الرحمانية إلي القاهرة.
في نهايات عام 1860 م. وبينا سليمان بك وأسرته وصديقه رفيق باشا بالقرية إذ جاء الأخير رسولا من القاهرة يخبره بقرب خروج الوالي سعيد باشا لزيارة المدينة المنورة وقد أقام من أبن أخيه إسماعيل نائبا له ليباشر سلطاته في إدارة شؤون القطر المصري أثناء غيابه.. وما أن جائهم الرسول حتى أستعدوا من ساعتهم للعودة إلي المحروسة ذلك أن رفيق باشا وإسماعيل كانا على صداقة قوية نشأت أواصرها بينهما منذ كانا في مقتبل عمريهما
كان إسماعيل بك في ذلك الوقت يدرس بتلك المدرسة التي أنشأها محمد على باشا بفرنسا وخصصها للمصريين لدراسة الفنون العسكرية وكان أفتتاحها في سبتمبرعام 1845 م. برعاية المرشال سولت وزير الحربية الفرنسي آنذاك .. غير أنها لم تدم سوى ثلاث سنوات قبل أن يعود بعض طلابها الذين بلغوا الخمسة والثمانين شابا إلي مصر وبقي البعض الأخر لإستكمال الدراسة في الكليات المختلفة فكان أن تحول إسماعيل إلي كلية سان سير الحربية لإستئناف دراسته حيث ألتقى برفيق شركس وحيث نبتت بينهما الصداقة التي دامت بعدها لسنوات طوال.
ولقد كانت تلك بطبيعة الحال فرصة ذهبية لسليمان بك كيما يدنو بضع خطوات من إسماعيل فقد كانت ثمة إرهاصات مبكرة وشواهد من الأحداث توشي بألا بديل عنه وريثا لعرش عمه سعيد باشا.. بل لقد كانت الأحداث تنساب في مجرى القدر علي نحو قاطع بأن إسماعيل هو والي مصر القادم فلقد حدث في عام 1858 م. حادث مفاجيء أزال تلك العقبة التي كانت تعترض طريقه إلي العرش حين أقام سعيد باشا حفلا في الأسكندرية ودعا إليه كل أفراد العائلة فلبى الجميع الدعوة إلا واحدا وهو إسماعيل.. وبينما القطار عائدا من الإسكندرية بعد إنتهاء الحفل حاملا في إحدي عرباته الأمير أحمد رفعت شقيق إسماعيل الأكبر وولي العهد إذ فقدت الطوافة التي كانت تحمل عربة الأمير وسقطت في النيل عند كفر الزيات حيث لم يكن الكوبري قد أنشيء بعد وكانت عربات القطار تحمل إلي الجانب الأخر من النيل فوق طوافات فغرق الأمير أحمد رفعت وأصبح الطريق ممهدا لإسماعيل لإعتلاء العرش بعد عمه.
المهم أن تلك المناسبة – خروج سعيد باشا لزيارة المدينة المنورة – كانت فرصة سانحة ما كان لسليمان بك أن يدعها تفلت من يده مهما كان الثمن فهو لن يسمح للقدر أن يخدعه كما خدعه من قبل ذلك بعامين حين خرج سعيد باشا للأستانة مخلفا وراءه إسماعيل نائبا.. يومها عرض علي صديقه أن يصحبه معه إلي قصر عابدين ليكون في وداع الوالي سعيد باشا على أن يعرفه بإسماعيل فوافق صديقه وأبى قدره إذ ألم به مرض ثقيل ألزمه الفراش شهرا كاملا فحال دونما يخطط له.. وإن كانت الفرصة قد لاحت له مرة ثانية ليبلغ مراده فقد إغتنماها أيما أغتنام.
كانت السعادة تملأ كيان سليمان بك في تلك الليلة التي عاد فيها من قصر الوالي بعد أن ودع سعيد باشا وجلس إلي إسماعيل ولي عهده ولا غرو أن تتملكه السعادة وقد قفز بخطوة واحدة إلي قلب عابدين حيث السلطة والمنعة.
داخلت رفعت بعض الراحة حين رأى ما عليه عمه من بشر وإن بقي شيء من الخوف المشاغب في صدره.. على أن مخاوفه تلك لم تكن ترجع لجبن أصابه وإنما مردها إلي حيرته مما يدور بخلد عمه وما يخبأه له فيما هو قادم من أيام.. وإن كان الأمر برمته بالنسبة له يكتنفه الغموض غير أن بارقة أمل قد لاحت له في الأفق في ظهيرة ذلك اليوم الذي طلب فيه عمه أن يلحق هو وصادق به في غرفة مكتبه.
في حزم قاطع وجه سليمان بك حديثه إلي أبن أخيه قائلا
" أنصت إلي جيدا يا رفعت.. أنت تعلم أنك لا تقل مكانة عندي من صادق.. وإني إنما أهتم لأمر مستقبلك كما أهتم لأمر مستقبله..لذا فقد قررت أمرا أريدكما أن تمعنا فيه الفكر."
قال رفعت الذي أرهف السمع متلهفا
" نحن رهن إشارتك وطوع أمرك يا عم."
أستطرد سليمان بك وهو يرمق الفتى مترقبا ردة فعله على ما سيقول
" لقد قررت إرسالكما لإستكمال دراستكما في فرنسا سويا.. فماذا تقولان؟"
تهللت أسارير صادق الذي قال في شبه صياح
" نعم الرأي يا أبي."
أما رفعت فقد غاضت الدماء في محياه وأصابه شحوب مفاجيء ولم يخفى علي عمه ما طرأ عليه من تغير وقد أطرق برأسه وما تملك فؤاده من حزن حاول جاهدا أن يجهضه ففر هاربا إلي صفحة وجهه
"ماذا تقول يا رفعت؟"
هكذا سأله باسما فأجاب الفتى بصوت متهدج
"الأمر ما تراه يا عم فلا رأي بعد رأيك."
ضحك سليمان بك قائلا
" هذا ما توقعته بالضبط.. لقد راهنت نفسي على عدم قبولك بالسفر."
نظر إليه رفعت دهشا
" أخشي أنني لم أفهمك يا عم."
أومأ إليه بإشارة محذرة وقال مازحا
" لا تتهمني في ذكائي يا فتى.. على كل حال ما كان لي أن أقبل ببعدكما سويا عني."
صاح صادق
" إذا كان رفعت يأبى السفر فلا مناص من أن أسافر أنا.. ولسوف أكون مطمئنا لوجوده إلي جواركم."
لم تصل عبارة صادق السالفة إلي مسامع رفعت ذلك أن الأفكار قد حملته بعيدا عمن حوله.. إنه لم يكن ليقبل بالسفر أبدا.. لم يكن ليقبل أن تبعده طول المسافات والأيام عن هواه ومنيته.. إنه يحس بنيران الجوى تلهب قلبه وهو بعد إلي جوارها فماذا لو أنه أرتحل بعيدا عنها؟.. خطر بباله للوهلة الأولي أن عمه إنما أراد بسفره أن يفرق بينهما فقد بدر منه غير مرة من العبارات والإيماءات ما يوحى بإدراكه لم يضطرم في صدره من عشق أفلا يكون ذلك القرار المفاجيء بسفره بحجة الدراسة هو رفضا ضمنيا لهذا الغرام؟
شعر الفتي بدوار يلف رأسه وقد مادت الأرض تحت قدميه بالرغم من عبارة عمه الأخيرة المطمئنة فهو إنما يريد الحقيقة مجردة لا لبس فيها فقد أوشكت قواه أن تخور أمام تلك الهواجس التي راحت تتلاعب به بلا رحمة أو هوادة
عمد الفتي إلي إستجلاء الحقيقة فقال بلا مواربة
" إذا كانت رغبة صادق في السفر فإنني أراه من الأوجب أن يسافر هو.. أما أنا فلن أذهب ما حييت إلي أبعد من مصر فإن لي فيها ما يجعل رحيلي عنها مستحيلا."
قال سليمان بك باسما
" ألم أقل لك أني قد راهنت نفسي علي رفضك.. على كلٍ لقد رتبت لك أمرا أخر لا أظنك ترفضه هذه المرة."
أطلت من عين الفتي نظرة متسائلة بينما أردف عمه
" لقد أثرت بشجاعتك وثقتك بنفسك إعجاب رفيق باشا حين كنا بمنية الرحمانية.. ولقد حدثني في شأنك منذ أيام قليلة وأقترح أن يسعي لك لتنتظم في سلك الجيش كضابط."
يالذلك الشعور بالراحة وهي تهدهد حواس الإنسان بعد أن كادت عواصف القلق تذهب روحه.. إن ما زفه إليه عمه الأن قد أغدق عليه فيضا من السرور والفرحة لم يشعر بمثلها من قبل قط.. على أن بقاءه بمصر إلي جوار فاتنته لم يكن هو المصدر الوحيد لتلك السعادة وإنما ما أخبره به عمه عن عزم رفيق باشا إلحاقه بالجيش.. لو صح ذلك إذن لبات قادرا في غضون عامين على الزواج من ملك.. لسوف يدرس القوانين العسكرية.. ويجتاز أختباراتها بتفوق.. وينضم إلي صفوف الضباط ..ويتقدم لخطبة ملك ..و..
وحملته أحلام اليقظة بعيدا فأسلم لها عقله حتى أنتزعته منها صيحة صادق
"رفعت.. أين ذهبت يا رجل؟!."
أنتبه رفعت قائلا
" ماذا؟!."
" ماذا دهاك؟!"
"لا شيء."
"لا شيء!!.. ألا تري ما أنت عليه؟!."
أدلي سليمان بك دلوه في الحوار قائلا
"لا يدرك ما يعتمل بصدرك يا رفعت إلا من تجرع نفس كأسك."
ها هي الحقيقة تأتيه سافرة.. فعبارة عمه الأخيرة لا تحمل سوي معنى واحد ، وهذه الابتسامة المشجعة على شفتيه تزف له من الأمال العريضة ما تقر بها عينه. ولكنه وفي غمرة سعادته أنتابه خجل من وجد نفسه فجأة عاريا في طريق عام.. لقد كاد الخجل يقتله، ولا عجب فهكذا خلقه الله حييا خجولا.
ما أن فرغ رفعت من لقاءه هذا حتى تنفس الصعداء وهرول إلي ملك يخبرها بما كان وأهازيج البهجة والشوق تهز وجدانه فكادت الفرحة أن تطيح برشدها فما كانت أقل منه عشقا أو هياما.. وهما وإن لم يكاشفا بعضهما من قبل قط بمكنون فؤادهما ولم يبثا بعضهما ما يعانياه من لواعج الهوى بيد أن نظراتهما كانت دائما رسولهما الأمين، فللنواظر لغة لا يقف علي مفرداتها ولا أسرارها إلا من سلك دروب الهوى عاشقا.. ولقد سارا سويا في تلك الدروب حتى بلغا منها مبلغا أورثهما الوفاء والإخلاص المتبادل فلم يطرأ على قلبيهما ما قد يعكر صفو حياتهما بعد أن تزوجا بل لقد إزداد تعلق قلبيهما بعد أن رزقهما الله بولدهما الوحيد الذي أراد له رفعت أن يحمل أسم من أسره بإحسانه وجمائل صنعه فأسماه سليمان.
" سيدي.. سيدي رفعت."
كان رفعت يهم بإجتياز أعتاب منزله عندما جاءه صوت مناديه فالتفت إليه ووقعت عيناه على شاب يقف على بعد خطوات منه وقد حمل مع ابتسامته حقيبة كبيرة فوق كتفه .
تساءل رفعت في أعماقه عن ذلك الشاب الصغير ذو الوجه المألوف.. إن ملامحه السمراء الرقيقة هذه تحتل من عقله مكانا قصيا لا تبلغه يد الذاكرة غير أن مظهره القروي وذلك النوع من الحقائب التي كان يحملها والتي أشتهر باستعمالها أهل القري ثم تلك الابتسامة الفطرية الأقرب إلي السذاجة ، كل هذا كان يوحى بأن هذا الشاب لابد وأنه من أهل منية الرحمانية.
مد رفعت يده يصافح الشاب الذي بدا عليه الأسف وهو يسأل رفعت
" إنك لم تعرفني بعد.. أليس كذلك يا سيدي؟"
" الحق ما قلت يا فتى.. فمن أنت؟"
" أنا غريب أبن الشيخ عبد الوهاب أبو الأسرار."
أتقدت ذاكرة رفعت بغتة مع ذكر الفتى لإسمه وضمه إليه فرحا وهو يقول
" حمدا لله على سلامتك يا غريب.. لا تؤاخذني فقد مرت سنوات طويلة منذ رأيتك أخرمرة."
" لا عليك يا سيدي."
" هيا معي إلي الداخل فوجهك يصرخ بما عانيته من مشقة في رحلتك إلي هنا."
أراد غريب أن يعتذر فقد أوشك الليل أن يرخي سدوله ولولا وصية أبيه له بأن يكون إبلاغ تحياته إلي رفعت هو أول ما يفعله عندما تطأ قداماه أرض المحروسة لما آتاه في مثل ذلك الوقت.
" لا تعتذر يا غريب فلن أتركك ترحل في مثل هذا الوقت.. هيا لتستريح من عناء السفر ولسوف أصحبك بعد ذلك حيثما تريد."
على مضض وافق الفتى وتبعه إلي داخل المنزل.


دكتور جيفاجو غير متواجد حالياً  
قديم 30-03-14, 01:57 AM   #9

حصة علي

? العضوٌ??? » 5515
?  التسِجيلٌ » Mar 2008
? مشَارَ?اتْي » 83
?  نُقآطِيْ » حصة علي has a reputation beyond reputeحصة علي has a reputation beyond reputeحصة علي has a reputation beyond reputeحصة علي has a reputation beyond reputeحصة علي has a reputation beyond reputeحصة علي has a reputation beyond reputeحصة علي has a reputation beyond reputeحصة علي has a reputation beyond reputeحصة علي has a reputation beyond reputeحصة علي has a reputation beyond reputeحصة علي has a reputation beyond repute
افتراضي

الله كريم يارب
وتتحرر كل البلدان العربية والإسلامية


حصة علي غير متواجد حالياً  
قديم 01-04-14, 08:17 PM   #10

دكتور جيفاجو

? العضوٌ??? » 315386
?  التسِجيلٌ » Mar 2014
? مشَارَ?اتْي » 9
?  نُقآطِيْ » دكتور جيفاجو is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الثالث
كانت أمة اليهود ومازالت أمة يكتنف تاريخها الغموض ويتعريه الكثير من المغالطات والإسقاطات واللبس بفعل ما أقدموا عليه من تزيف للحقائق وقلب للأحداث علي نحو يخدم مصالحهم وأهدافهم الدنيئة المستفزة لمشاعر الأغيار- وهم في نظرهم الأمم الأخرى من غير اليهود- ولقد أجمع الباحثين والمفكرين على أسباب عدة كانت خلف ما يلف اليهود من ضباب تاريخي منها مثلا ما ذكره الأستاذ محمد خليفة حسن في تقديمه لدراسة ( تاريخ يهود مصر) حيث سرد مجموعة من العوامل التي تجعل من توثيق التاريخ اليهودي توثيقا حياديا وموضوعيا مهمة شديدة الصعوبة منها قلة المتاح من المصادر حول التاريخ اليهودي ومشكلة تنوع تلك المصادر إذ أن أغلبها إن لم يكن جميعها هي في الأصل مصادر يهودية خالصة مما يضع مسألة الحيادية والموضوعية في سرد الأحداث التاريخية على المحك , هذا إلي جانب مشكلة خلط التاريخ بالدين لدي هؤلاء القوم وهو ما يقول فيه الأستاذ محمد خليفة حسن في المرجع السالف
" ويلاحظ هذا بشكل واضح في كتاب العهد القديم الذي تختلط فيه المادة التاريخية بالمادة الدينية. كما يتم فهم الأحداث التاريخية من منظور ديني خالص. وقد أثر منهج العهد القديم على المؤرخ اليهودي, فنجده يميل دائما إلي تفسير أحداث التاريخ تفسيرا دينيا لا يعترف فيه بالأسباب والعلل التاريخية الإنسانية."
ثم أضف إلي كل ما سبق أنه وعلى مدار التاريخ الإنساني المكتوب لم تتعدى جماعة العبرانيين أو اليهود أو بني إسرائيل أو أيما كان اسم تلك الجماعة, لم تتعدى كونها جماعة من الأقليات والطوائف التي كانت تحيا بين الشعوب المختلفة فغلب عليهم التبعية السياسية والتاريخية لتلك الشعوب ولم يكن لهم يوما دولة قائمة مستقلة لها تاريخها المستقل والمدون كباقي شعوب الأرض وبلدانه.
ولعل أبسط مثال على ما يكتنف ذلك التاريخ اليهودي من غموض وإبهام هو عجز الباحثين فيه عن رد تسميتهم بالعبرانيين إلي أصل تاريخي ولغوي واضح فنجد أن البعض قد ذهب إلي أن سبب تسميتهم بذلك الأسم يعود إلي عابر وهو الجد السادس لسيدنا إبراهيم عليه السلام كما جاء نسبه في العهد القديم فهو إبرام بن تارح بن ناحور بن سروج بن رعد بن فالج بن عابر.
أما البعض الأخر فنجده ينسب الإسم إلي إبراهيم عليه السلام نفسه مستند في ذلك إلي أنه من عبر نهر الأردن في هجرته الأولى من ( أور ) إلي الأرض المقدسة فهو عابر ونسله من ولده إسحاق هم عبريين أو عبرانيين.
وهذا فريق ثالث يرد التسمية إلي كونهم كانوا جماعة رعوية غير مستقرة تمتاز بعبورها الدائم من أرض إلي أرض.
وعلى كل حال ومهما كان الأصل التاريخي لكلمة عبري فإن الأمر يتعدى ذلك بكثير, فاليهود بخبثهم المعهود يحاولون هنا قلب الحقائق التاريخية بما يخدم مصالحهم ذلك أنهم يدعون بأن العبرانيين هم فقط أبناء إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام في محاولة منهم للترويج لتلك الإكذوبة التاريخية الكبرى المسماه بنقاء الدم والجنس. إنهم يدعون بأن اليهود على مختلف أجناسهم وطوائفهم استطاعوا على مر التاريخ المحافظة على نقاء عرقهم فلم يختلطوا بعرق أخر وبقوا جميعا من نسل إسحاق عليه السلام وهو إدعاء كاذب وفرية سخيفة فمنذ قرابة الألفين عام قبل الميلاد وكلمة عبراني تستخدم للدلالة على الكثير من قبائل شبه الجزيرة العربية والشام وكانت العبرية لسانهم ولسان الكنعانيين وبعض قبائل شبه جزيرة سيناء. فلفظة عبراني إذن لا يمكن أن يكون معناها يهوديا فحسب.
ثم إن هؤلاء الجماعة كانوا دائما في حال من الترحال والتنقل بين شعوب المنطقة في تلك الحقبة من الزمن التي تلت سيدنا إبراهيم عليه السلام وحتي خروجهم مع سيدنا موسي عليه السلام في عهد منفتاح بن رمسيس الثاني وهي حقبة تمد من 2000 قبل الميلاد وحتى عام 1211 قبل الميلاد أي حوالي 789 عاما. وهو عدد كاف من السنين لكي تندمج جماعات اليهود مع قبائل المنطقة في تلك الحقبة من الكنعانيين والآراميين والمصريين وغيرهم وأن يتأثروا بعاداتهم وتقاليديهم ولغاتهم. هذا إلي جانب أن من خرجوا مع سيدنا موسى عليه السلام لم يكن جميعهم من بني إسرائيل فحسب وإنما خرج معه جماعة ممن أمنوا برسالته من المصريين وممن كانوا مناهضين ومعارضين لحكم فرعون.
وفي ذلك يقول المفكر اليهودي مكسيم رودنسون
" إن سكان فلسطين الذين هم عرب فلسطين تجري في عروقهم دماء من قدماء العبريين أكثر مما تجري في عروق يهود الشتات الذين لم يمنع إنغلاقهم من دخول كثير ممن أعتنقوا اليهودية إلي صفوفهم وترجع جذور هؤلاء إلي أصول جنسية مختلفة."
فكيف إذن يدعون بأنهم شعب الله المختار الذي أصطفاه بنقاء الدم وطهارة العنصر وصفاء العرق؟
وكما ذكرنا سالفاً فإن اليهود لم يعرفوا الإستقرار على مدار التاريخ ولم تكن لهم دولة قائمة بذاتها اللهم إلا في عهد النبي داوود وابنه من بعده سليمان عليهما السلام وهي دولة لم تقم إلا لقرابة السبعين عام ولم تدم بعد رحيلهما, لذا فليس هناك ثمة مصطلح يدعى تاريخ اليهود فحسب وإنما لابد وأن يتبع بدولة ما كانوا يوماً تابعين تاريخياً وسياسياً لها فيقال مثلاً تاريخ اليهود في الأندلس أو تاريخ اليهود في إيطاليا أو تاريخ اليهود في ألمانيا..على أن ما يعنينا هنا هو تاريخ اليهود في مصر..ولقد وجد اليهود في مصر من الحرية الإجتماعية والدينية والسياسية ما لم يجدوه في غيرها من أقطار العالم بل إنهم لم يشتموا للاضطهاد ريحاً وذلك لما جبل عليه المصريين من تسامح وطيب معشر.
ولقد أكسب ذلك اليهود ميزات قلما توافرت لهم في كثير من بلدان العالم التي عاشوا بها. ولعل نظرة خاطفة إلي حارة اليهود بالقاهرة تثبت صحة هذا القول.
لقد ألف اليهود الإنغلاق على أنفسهم في كل المجتمعات التي تواجدوا بين جنباتها فكان لهم أحيائهم الخاصة بهم التي لم يكن يقطنها سواهم..ولقد اتخذت تلك الأحياء أسماءاً مختلفة ففي أوروبا كانت تدعى ( الجيتو )..وفي المغرب العربي حي الملاح.. ولقد جرت العادة في معظم تلك البلدان على أن تحاط تلك الأحياء والتجمعات بأسوار مانعة لا يسمح لليهود بالنفاذ خلالها من وإلي المدينة إلا بإذن مسبق وهو ما يمكن وصفه بالاضطهاد بشكل أو بأخر وما لم يوجد بحارة اليهود بالقاهرة.
وفي الواقع فإن كلمة (حارة اليهود) إنما هي لقب مجازي فحارة اليهود التي كانت تمتد من حي الجمالية إلي حي الموسكي لم تكن مقتصرة على اليهود وإنما كان هناك مسلمين ومسيحين يعيشون معهم جنباً إلي جنب.. بل لقد كان هناك أحياء أخرى يغلب عليها المسلمون وما وجدوا يوماً غضاضة في أن يكون جيرانهم من اليهود.. أما أثرياء اليهود عادة ما كانوا ينتقلون للحياة بالأحياء الأرستقراطية بقلب القاهرة كحي عابدين.
كل هذا لأن مصر ما عرفت على مدار تاريخها الطويل الضارب في أعماق الزمن التعصب الديني أو العرقي على الرغم من أن تاريخ بني إسرائيل حافلاً بذلك التمييز ليس بين الأمميين من غيرهم فحسب بل بين بني جلدتهم أنفسهم حتى أن حاخامات طائفة الربانيين كانت تحرم الزواج من طائفة القرائيين وهما الطائفتين التين كانتا الأشهر والأوسع أنتشاراً في مصر في القرن التاسع عشر.
ولقد جاء ذلك التحريم لما بين تلك الطائفتين من خلاف عقائدي ففي حين كان الربانيون يؤمنون بأسفار التوراة التسع وثلاثين والتلمود بشقيه ( المشناه ) و( الجمارا) كانت طائفة القراءون لا تؤمن إلا بالأسفار الخمس الأولى من العهد القديم وهي التكوين والخروج والتثنية والعدد واللاويين.. ثم لقد كانت الأولى تعتمد في تقويمها على الحساب بينما تعتمد الأخيرة على التقويم القمري مما جعل بين الطائفتين خلافاً في الأحكام الدينية والأعياد كأحكام يوم السبت وغيرها.
ولقد كانت (سارة بنحاس عازر ) من أجمل بنات الربانيين بل لقد كانت من أكثر بنات اليهود علي أختلاف طوائفهم حسناً.
..................................
القاهرة شتاء عام 1875 م.
قبل سبعة عشر عاماً من هذا التاريخ وفي حي الربانيين بحارة اليهود ولدت سارة في حلكة الظلام بمنزل متواضع قد بدت على جدرانه التي تآكلت بفعل الرطوبة والقدم أمارات فقر مدقع.. ومنذ صرخاتها الأولي وحتى تلك الليلة التي كانت تجلس فيها في مخدعها وحيدة قلقة مضطربة الخاطر والفؤاد لم تذق طعماً لغير الشقاء والعذاب.
كانت دموعها في تلك الليلة في غزارة الأمطار التي راحت تهطل ثقيلة لتضرب نافذة الغرفة كألف معول محدثة صوتاً ضاعف من خوفها وتوترها.
ما أثقل الريبة علي القلب!!..وما أشد عذاب الروح!!.
لقد بدت سارة في تلك الليلة الظلماء بالرغم من حسنها الآسر كزهرة ذابلة ذهب بريقها وجف منها الرحيق وقد تقازفتها الحيرة ما بين الرغبة في حبيب لم تعرف سواه والرغبة عنه لقسوته وجفاءه.. ليتها ماتت قبل أن تعرف العشق.. إذن لما عاشت عامين كاملين تتلاعب بها رياح الوجد الهوجاء وتضرب بها صخوراً للشوق والحنين صماء.
قبل عامين وحين كانت في الخامسة عشر من عمرها تعرفت إلي ( إبرام باخوم ).. كان إبرام شقيقاً لصديقتها جان ثم إنه كان شاباً وسيماً شديد الجاذبية والذكاء فوجدت فيه ضالتها المنشودة وما أفتقدته طوال عمرها من حب.. ما أن وقعت عيناها عليه حتى داخلها إحساس عميق بأنه قشتها التي سوف تحملها إلي شاطيء الأمان.
لقد عاشت سارة حياة بالغة القسوة والمرارة منذ أن لفظها القدر إلي الدنيا ذلك أنها ولدت لأب فقير كان يعمل تاجراً جوالاً بين القري والمدن فكانت قليلاً ما تراه وتجلس إليه فما أدركت يوماً حكمة الأب وما ظلها حنانه.. حتى بعد أن أستقرت بهم الأمور وتبدل حال والدها وأستطاع بعد كد سنوات أن يتخذ لنفسه متجراً بالحارة وبات ميسوراً.. يومها ظنت أنها أخيراً سوف تحظى بأبيها الذي طال شوقها إليه ولسوف تنعم بترف العيش ورغد الحياة غير أن آمالها قد خابت وحال دونها إنشغال والدها الدائم بتجارته وبخله الشديد فعاد اليأس يدب في أوصالها وكاد أن يودي بها لولا أن بزغ إبرام كفجر جديد اضاء جنبات روحها المظلمه.
كان إبرام يكبرها بخمس سنوات ثم إنه كان ينتمي لطائفة القرائيين ولقد كان في ذلك ما حسبه أن يقضي على ما يداعب عقلها وفؤادها من رغبة في وصال حبيبها غير أنها لم تعبء بكل هذا ولم ترى فيه ما يحول دون ولعها بحبيب طال الشوق إليه وشغفها بطوق نجاة لطالما انتظرته على أحر من الجمر.
لم يكن يعني لها في كثير أو قليل كونه من غير طائفتها فهي لم تقم يوماً للدين وزناً ولم يكن أبدا في قائمة أهتماماتها.. بل إنها لم تخطو منذ أن وعت وأدركت خطوة واحدة داخل المعبد الذي لم يكن يبعد غير خطوات عن المنزل.. كل ما كان يؤرقها ويكاد يقتلها قلقاً أن يكون إبرام على طرف نقيض منها فتلقى منه صدوداً لتلك الإعتبارات العقائدية بيد أنه لم يفعل.
ولقد رأت في باديء الأمر أن تحجم عن مكاشفته بما يعتمل في قلبها من لواعج للهوى لا بدافع من الحياء ولكنه كان نوعاً من التمنع والدلال غير أن رايتها سرعان ما سقطت واستسلمت لناموس العشق فأطلقت لمشاعرها العنان وعزمت علي مطالعته بما تجده من وجد وشوق فانطلقت قاصدة منزله ومتعلله برؤية صديقتها جان.
عند باب المنزل كانت تظن أن وجه صاحبتها هو أول ما سيطالعها لكنها بهتت حين أصطدمت بابتسامته الساحرة علي أعتاب الباب وكأنه كان بإنتظارها.. مد يده إليها يصافحها فأحست بحرارتها تولد في جسدها رجفة عنيفة.
بغير إرادة منها همست له وكانا في منتصف المنزل الخالي إلا منهما
" أحبك.. أحبك حتى النخاع."
لم ينبث إبرام ببنت شفة أما هي فقد أُخذت حين أحتضنها بقوة وأقترب بوجهه منها يقبل شفتيها بنعومة سقطت معها حصون مقاومتها وقد أجتاحت حرارة العشق جسدها فاستسلمت له وهو يحيطها بذراعيه القويتين ويحملها إلي غرفته.
حين أفاقت من نشوتها كانت إلي جواره ممدة على فراش الخطيئة دون أن تكترث لما أقدمت عليه.
مدت يدها تطوق صدره العريض وهي تسأله:
" لما لا نتزوج؟"
صُدم لسؤالها غير أنه استطاع أن يحفظ رباط جأشه وأجاب مبتسما
" ليس هذا وقت الحديث عن الزواج يا سارة."
عادت تسأله بقلق
" لماذا؟!.. ألا تحبني؟!"
رد عليها السؤال قائلاً
" أترين سبب أخر غير حبي لك يدفعني لأن أشاركك الفراش؟"
همت أن تسأله مرة ثالثة لولا أن جائتها نظراته صارمة محذرة فابتسمت قائلة:
" إذن فلا أقل من أن تعدني بالزواج"
أطلق ظفرة حارة أحست بها تلفح وجنتها قبل أن يجيب
" حسناً.. أعدك يوماً أن نتزوج."
طبعت على خده قبلة أودعتها كل ما كان يجتاح صدرها من سعادة وقالت وهي تهم بارتداء ملابسها
" أري أن أنصرف الأن قبل أن تعود جان."
التفت أصابعه حول معصمها تستوقفها
" متى سأراكِ ثانية؟"
كانت تلك هي مرتها الأولي التي تشعر فيها بمثل هذه السعادة الغامرة دون أن يخالجها مما فعلت أي خجل فما كان ثمة رادع أخلاقي أو وازع ديني يردعها فاستسلمت لنزواته ونزواتها وذابت في عشق إبرام فأضحت ترى فيه مبلغ أمانيها.. كان كل ما فيه وكل ما يصنعه معها وبها يقتلها حبا وإعجابا..ابتساماته.. همساته.. نظراته.. وحتى أحضانه وقبلاته.. كل شيء كان يستصرخها أن تسلم قيادها له أكثر فأكثر.
كم كان يغرقها حباً وعطفاً.. كم كان يتحرق شوقاً للقاءها والتطلع إلي عينيها.. ولكن..
ولكن ما أبعد الأمس عن اليوم.. إنه لم يعد إبرام الذي عرفته ولم تعد ترى ابتسامته إلا فيما ندر.. لقد بات كثير التهرب منها وكأن الفتور قد أصاب منه الفؤاد فصده عن هواها وما عادت تحس لهفته لرؤياها وشوقه للقاها.. ولا غرو أن يخالجها ذلك الشعور المقيت وقد بات لا يسعى إليها إلا إذا حضرته نزوة من نزواته.
بدا لها الأمر وكأن حلمها لم يعدو سراباً في قفراء حياتها وأنها إنما خدعت بسم الحب .. وهاهو عقلها قد وقع نهبا للفكر وأخذ الريب بمجامعه متسللا إلي أعماقها كأفعى رقطاء راحت تبث سمومها في فؤادها المكلوم.
جرت دموعها وهي تجلس وحيدة في مخدعها.. كانت والدتها قد خلدت إلي النوم مبكرا كعادتها بينما هرع والدها لملاقاة الحاخام بنيامين بعد أن وافاه رسوله في تلك الساعة المتأخرة من الليل المطير.. سرت في جسدها رعشة باردة بفعل ذلك البرد القارص وتلك الأفكار القاتمة التي لفت روحها ووجدانها معا بيأس ثقيل الوطأة.. كانت تجاهد بحثا عن مخرج لما هي فيه فواتتها فكرة لم تدم النظر فيها وإنما حملتها محمل التنفيذ فتخلت عن الفراش وأرتدت ملابسها على عجل متسللة إلي الطريق وقاصدة منزل إبرام غير آبهة بثقل المطر وبرودة الطقس فما كان يشغلها في تلك اللحظات سوى الوقوف على حقيقة مشاعره نحوها وما يكنه لها.. ولقد عقدت العزم على أن تستنطقه الحقيقة.
هذه المرة لن تستسلم لذراعيه ولن تخضع لنزواته.. لن ترضى بعد اليوم أن تجعل من جسدها مجرد محطة يمر بها دون أن يستقر عندها.
في طريقها إليه حملتها الذكريات إلي الماضي القريب.. قبل ساعات كانت قد عرجت إلي جان في محل عملها بأحد دور الصرافة تجالسها وتحادثها لعلها تقف منها على بعض أخباره وقد مضت أيام دون أن تراه أو تسمع منه.
سألتها وهي تحاورها:
" كيف حال إبرام؟"
لم تكن جان تعلم يقينا ما يجمع صاحبتها وأخيها من أواصر العشق وقد أحجم كلاهما عن مفاتحتها في الأمر بيد أنها كانت كلما تدبرت الأمر وعمدت إلي أستقراء ما يدور حولها وبينهما كانت تزداد شعورا بأنهما غارقان في الهوي حتي الأذقان لذا فما أن سمعت سؤال صاحبتها حتي أجابت بمكر من يبغي بواطن الأمور
" لست أعلم منك بحاله فلم أعد أراه كثيرا هذه الأيام.. لقد بات كثير التغيب عن المنزل ولا أظنه إلا عاشقا يلهث خلف فتاته."
جاهدت سارة أن تخفى ما طفا على صفحة وجهها من إمارات الخوف والغضب وتنبهت صاحبتها لذلك فابسمت وقد أيقنت مما يضطرم في فؤادها من عشق لأخيها وأرادت أن تصرف عنها بعض ما علق بها من حزن فقالت
" لا تحزني يا سارة ولا تركني لقولي فإنت تعلمين كم أحب المزاح."
رفعت سارة عينيها نحو صديقتها وقالت بصوت متهدج
" وما يعنيني في أمر إبرام حتى أحزن لقولك؟"
انفجرت جان ضاحكة فاستطردت سارة مغاضبة
" فيم ضحكك؟!"
" لا شيء يا عزيزتي.. لا شيء."
أرادت سارة أن تدير دفة الحديث بعيدا مخافة أن يفضح أمر هواها أكثر من ذلك فسألت
" كيف حال ذلك الشاب؟"
بدهشة سألتها جان
" أي شاب؟!"
" ذلك الذي قابلناه ذات يوم مصادفة وقد وقفت تحادثينه."
صمتت جان لحظات وكأنها تفتش في ذاكرتها قبل أن تهتف
" تقصدين بطرس؟!"
" لقد أخبرتيني من قبل أنه مسيحي."
" أجل."
قالت سارة بلهجة محذرة
" جان.. إياكي أن..."
قاطعتها جان
" لا عليك يا عزيزتي.. إنه مجرد صديق."
ما أن فرغت جان من قولها حتى دلف إلي المكان رجلا عجوزا ألقى عليهما التحية بصوت رفيع حاد أثار أنتباه سارة فرفعت إليه عين فاحصة لتتعرف فيه على خادم الحاخام رابين.
ولقد كان مرئى العجوز مبعث دهشتها فما الذي يجعل حاخاما ربانيا يرسل خادمة لفتاة لا تنتمي لطائفته إلا إذا كان هناك ما يدبرانه في الخفاء؟.. هكذا تبادر إلي ذهنها وهي ترمق الخادم العجوز وقد أنتبذ بصاحبتها ركنا قصيا وراحا يتهامسان بصوت خفيض لم يبلغ مسامعها.. على أن ذلك لم يعنيها كثيرا مع ما كان يشغل بالها من وساوس الهوي وهواجسه بعدما أدلت لها جان بما أدلت فاثار ريبتها.
أيكون حقا قد شغل إبرام بغيرها؟!
كادت الحيرة والريبة أن تودي بعقلها وهي تدير الأمر على كل وجوهه فعجزت أن تزيح عن كاهلها ما كان يرزح تحته من وطأة الخوف والقلق فعادت إلي المنزل لتتفرد بأحزانها وعبراتها.
لقد وعدها إبرام بالزواج غير مرة ولطالما حادثته بشأن وعده هذا فكان دوما ما تأتيها ردوده صادمة ومرتكنة إلي اختلاف طائفتيهما.. كان دائما ما يبدو عابس الوجه وهو يخبرها بأن أمر زواجهما ما كان ليستقيم مع ما بينهما من خلاف عقائدي.. أما هي فما كانت تلقي بالا لمثل تلك الإختلافات وما كان يعنيها في الحياة غيره.. ثم...
ثم إنها كانت على أتم استعداد لأن تخسر الدنيا بأسرها في سبيل هواه لو أنه فقط أخلص إليها وأبقي على ما بينهما من عهود العشق.. كانت لتتفاني في عشقه مخلصة لولا ذلك الفتور الذي أصاب مشاعره وتلك القسوة التي ما عهدتها فيه من قبل.
لو أنه أوقفها على حقيقة ما يضمر لها من أحاسيس إذا لما باتت نهبا لكل تلك الظنون.
تدافعت كل هذه الأفكار بزخم وعنف في رأسها وهي تسرع الخطى في حلكة الليل وتحت وطأة المطر قاصدة منزل إبرام لتقطع الشك باليقين مستجلية الحقيقة.. ولقد جائتها الحقيقة سافرة كما أرادتها.. بل عارية تماما كتلك الحسناء التي كانت تشاركه ذات الفراش.. أحست بالأرض تميد تحت قدميها وهي ترى غيرها قد سكن احضانه .
عندما بلغت المنزل كان الباب نصف مشرعا فتسللت إلي الداخل لتلجم الصدمة لسانها وتلزمها مكانها ذاهلة لا تقوى أن تحرك ساكنا.. أنهالت عبراتها كثيفة فحجبت عنها ما تراه من خيانته لها وبقيت على حالها من الصمت والذهول حتى أنتبه إبرام لوجودها فهب من الفراش فزعا وأسرع يقترب منها
" سارة!!!... لا تسيئي الفهم.. إنها..."
قاطعته صفعتها التي هوت على خده حاملة كل حنق الدنيا قبل أن تندفع تاركة المكان وقد غام كل شيء أمام ناظريها فأسلمت قدميها للطريق وهي تجهش ببكاء أقرب إلي الصراخ.
الأن فقط باتت تمقته.. بين طرفة عين وأنتباهتها تحول عشقها إلي كره غريب لم تشعر به تجاه أحد من قبل وأنقلبت صورته في عينيها فاصبح أقرب إلي شيطان وغد منه إلي ملاك طاهر كما كانت تخاله.. أستحوذت عليها رغبة عارمة في الأنتقام وإن لم تكن تدري في تلك اللحظات العصيبة على أي وجه يكون انتقامها هذا.. كل ما كانت تتمناه الأن هو أن تذيقه ما أذاقها من كؤوس المرارة والهوان ولو كان دون ذلك قتله.
" ولم لا.. إن من كان مثله جبانا رعديدا لا يحرص على شيء حرصه على الحياة فلا مناص إذا من أن أسلبه إياها."
هكذا حدثت نفسها وقد تفردت بهمومها في مخدعها بعدما رغب عن أجفانها النعاس وراح مشهد خيانته لها يطارد مخيلتها بأصرار ضاق معه صدرها وضاعف من حنقها ورغبتها في الثأر لنفسها وفؤادها معاً.
كان كل شيء حولها ضبابياً مشوشاً وكأن عقلها بات عاجزا كلياً عن التفكير.. غير أن ما شاهدته الليلة من خيانة لها وما تفجر في أعماقها من غضب أهاج عنادها وولد في نفسها أرادة متفجرة وقدرة عجيبة على رباطة الجأش مكنها أن تدفن أحزانها في أعماقها وأن تبدو على طبيعتها وكأن طارئ لم يطرأ عليها حتى أن والدها لم يلحظ عليها من التغيير شيئاً حين أستدعاها في الصباح إلي غرفته.
كان والدها قد أصابه مرض شديد ألزمه الفراش بعدما عاد من زيارته الليلية للحاخام وبدا وجهه شاحبا ممتقعا على نحو أفزعها فأرادت أن تستدعي له الطبيب غير أن بخله غلب عليه فصاح فيها مغاضباً:
" طبيب؟!.. ما الأطباء إلا نار تحرق أموال الحمقي.. لا.. ليس لهذا أستدعيتك."
لوهلة نست سارة ما همها وقض مضجعها لما أنسته في وجه أبيها من توتر زائد فسألته وهي تقترب منه
" ماذا ورائك يا أبي؟"
مد يده تحت وسادته ليخرج مظروفا مغلقا ناوله أياها بيد مرتعشة وهو يشرح لها بما يشبه الهمس ما أوكله إليها وما كان عليها أن تفعله.. كان عليها أن تذهب للقاء السيد (روبرت كوبرفيلد).. هو رجل إنجليزي مهذب طويل القامة ذهبي الشعر ذو عينان زرقاوان.. هكذا وصفه لها أبيها قبل أن يخبرها باسم الحانة المتواضعة التي كان عليها أن تقابله فيها.
" إن السيد كوبرفيلد سيكون في إنتظاري هناك بعد نصف ساعة من الأن.. عليك أن تسلميه المظروف وأن تخبريه أن ما حبسني عن لقاءه هو المرض."
كانت سارة دهشة لا تدري بما تجيب والدها غير أنها لم تجد بدا من الأنصياع لأمره فاستدرات لتغادر الغرفة حين جاءها صوت أبيها محذرا
" سارة.. حذار أن يعلم أحد بأمر هذا الخطاب."
ارادت أن تسأله عن ذلك السيد الإنجليزي وعن فحوى هذا الخطاب وما السر خلف هذا القاء المريب في حانة متواضعة وفي مثل هذه الساعة من الصباح علي أنها لم تفعل بالرغم من فضولها الذي كاد يقتلها ذلك أنها كانت تدرك يقينا أن أباها ما كان ليبوح لها وإن استنبطت أن لذلك الخطاب علاقة ما بلقاءه في الليلة الماضية مع الحاخام رابين.
تذكرت فجأة ما رأته أمس من زيارة خادم الحاخام رابين لصديقتها جان في محل عملها وتسائلت في أعماقها عما إذا كان لتلك الزيارة علاقة بما يحدث الأن؟
أي مؤامرة تحاك؟.. ثم لمن تحاك تلك المؤامرة؟.. وكيف تجمع مؤامرة هذه الأطراف المتناقضة؟
حاخاما ربانيا.. وفتاة قرائية.. وسيد إنجليزي مهذب.. ورجل بسيط ومريض مثل أبيها.. ثم ها هي باتت طرفا في مؤامرة لا تعلم عنها شيئاً.
مؤامرة لا تعلم عن غاياتها شيئاً.. ولو أنها وقفت علي أهدافها لأدركت أنها مؤامرة كبرى.. مؤامرة تحاك لبلد بأسره وشعبا بأكمله.
............................................
أحست سارة بالتوتر ينساب في أعماقها مع بلوغها الحانة , ذلك أنها كانت مرتها الأولى التي ترتاد فيها مثل هذا المكان , على أنها سرعان ما تمالكت نفسها وبددت نظرتها الأولى لقاعة الحانة الضيقة ما كان يعتمل في فؤادها من خوف وقلق. لقد كانت تظن أن نواظرها إنما ستصطدم بجمع من المخمورين المترنحين وأن ضحكاتهم الماجنة ستصطك بأسماعها , غير أن ما بعث في نفسها الراحة أنها وجدتها على غير ذلك .
كانت القاعة الضيقة للحانة خالية تقريباً من روادها وقد جد أحد العاملين فيها في تنظيفها وتنظيم المقاعد والموائد بعد أن غادرها زبائن الليل في هذه الساعة من الصباح فباتت موائدها شاغرة إلا مائدتين أو ثلاث ألتف حولهم رهط من الرجال , ثم مقعد هناك في أقصى القاعة حيث الساقي واقفاً يلبي رغبات ذلك الأشقر الممتليء الجسم وقد تراصت خلفه زجاجات الخمر على بعض الأرفف القديمة المتهالكة.
وما أن وقعت عيناها على ذلك الأشقر وكان مولياً الباب ظهره حتى خالجها الشعور بأن فيه بغيتها فانطلقت نحوه بخطوات متعثرة بين الموائد الشاغرة حتى إذا بلغته نادته بصوت أقرب إلي الهمس
" السيد كوبرفيلد؟"
كان صوتها ناعماً كنغمات القيثارة فالتفت نحوها باسماً
" هو أنا يا عزيزتي"
حملت ابتسامة الانجليزي مغزاً وقحاً لم يخفى على سارة حين وقع بناظريه عليها, لقد كان ما يتوقعه حقاً أن يطالعه بنحاس بوجهه الدميم وصوته الأجش , أما أن يرمي القدر في طريقه بمثل هذه الفاتنة وأن يلتقي بمثل هذا الحسن الباهر في هذا المكان وتلك الساعة فهو ما لم يكن في حسبانه وما لم يجل بخاطره قط.
" إن أبي يعتذر لك , فقد حبسه المرض عن لقائك "
مدت يدها بالخطاب فتناوله منها دون أن يحول عينيه الزرقاوتين عن وجهها الفاتن وقال بعريبته الركيكة
" لست أدري لأيهما أدين بالشكر , لوالدك أم للمرض الذي حبسه عني؟"
تطلعت إليه عابسة إذ لم ترق لها عبارته, فما كان لها أن تقبل مثل هذا الغزل الرخيص مع ذلك الجرح الغائر في قلبها الذي ما برح ينزف بأحزان أثقلتها.
خيم الصمت عليهما هنيهة وقد بدا لها الإنجليزي بالرغم من وسامته كتمثال قُد من صخر فخلا من كل ما قد يخالج بني البشر من مشاعر.
قال كوبرفيلد متزلفاً وقد لمح تلك المسحة من الحزن التي كست ملامحها
" تُرى ماذا يقف خلف هذا الحزن العميق؟ "
" ليس هذا من شأنك "
أجابته بجفاء وهي تستدير تأهباً للانصراف فاستوقفتها أصابعه القصيرة المكتظة وقد أمسكت بمعصمها فالتفتت تصوب إليه نظرة غاضبة زادت من حسنها
" أخبريني أي أحمق هذا الذي أثار حنقك ؟ "
بُهتت سارة لقول الرجل فما كانت تتوقع أن يسبر غورها على هذا النحو وأطلت من عينها الدهشة وهي تحاول أن تُبدي أعتراضاً على ما هو مقدم عليه بيد أنه بادرها مردفاً
" لا تتعجبي يا صغيرتي .. فليس أقدر على إثارة سخط الملائكة منا نحن معشر الحمقى من الرجال"
" دعني أنصرف يا سيد كوبرفيلد "
قالتها مشيحة بوجهها بعيداً وكأنها تحاول الفرار من نظراته المطاردة لها
"معذرة يا عزيزتي فقلما يتيح القدر لأمثالي لقاء مثل هذا الحسن "
"قلت لك دعني أنصرف"
قال ملحاً
" أنا على أهبة الاستعداد لأن أساعدك ولكن بشرط ."
أطلت من عينيها نظرة متسائلة لم يأبه لها وشرع يملأ كأساً من الخمر مستطرداً
" أن تشاركيني كأساً من الخمر "
قالت متعجبة لجرأته
" ولكني لا أعاقر الخمر "
كان ما يعتمل في صدرها من توتر جلياً في نبراتها وكلماتها التى خرجت خافتة ومتلعثمة وتلك الحمرة التى علت وجنتيها حين مد يده إليها بالكأس المترع ثم تلك القشعريرة الباردة التى سرت في جسدها وهو يجذبها برفق إلي المقعد المجاور له
" كأساً واحداً لن يقتلك .. بل قد يقتل أحزانك "
جلست مرغمة إلى جواره فالتفت نحوها بجسده البدين مدنياً الكأس منها وكأنه يحثها على تناوله
" فقط اخبريني عن ذلك الأحمق الذي خدعك لعلي أعاونك على الثأر منه "
أحست سارة وكأنها مسلوبة الإرادة أمام نظرات الرجل وابتسامته وتلك القدرة العجيبة لديه على النفاذ إلي مكنونها فاطبقت شفتيها برهة أعملت فيها الفكر وتساءلت في أعماقها إن كان حقاً قادراً على معاونتها فيما ترنو إليه , كان كوبرفيلد يبدو لها من ذلك النوع من الرجال ذوي السلطة الذين يتمتعون بثقة في النفس تقارب حد الغرور فلما لا يكون القدر هو من دبر لها هذا اللقاء لتبلغ ما تهفو إليه من ثأر لقلبها وعرضها ؟
هذا ما كانت تشعر به وهي جالسة قبالته الأن , غير أنها لم تكن لتركن إلي مثل هذا الشعور الغامض وحده لتمنحه ثقتها وتبثه ما يؤرقها ويثير حنقها , لذا فلقد كان عليها أن تذهب إلي أبعد من هذا لتيقن أنه اهل لما ستوليه من ثقة
" سيد كوبرفيلد .. من أنت؟ "
أفلتت من كوبرفيلد ضحكة مجلجلة تردد صداها في أرجاء الحانة ثم أجاب مناوراً
" لقد ناديتني باسمي للتو "
كان كوبرفيلد على قدر من الذكاء ليدرك ما ترمي إليه الفتاة غير أنه أراد مداعبتها حتى إذا أطلت من عينيها الصافيتين تلك النظرة التى تحمل شيئاً من الاستنكار واللوم أردف بنبرة جادة
" حسناً أنا مبعوث المحفل الماسوني الأعظم بانجلترا إلي الحاخام رابين "
صدمتها صراحته التي لم تكن تتوقعها فالتزمت الصمت للحظات ثم عادت تسأله
" أنت إذن يهودي ؟ "
" ليس بالضرورة يا فاتنتي "
لم تقف سارة طويلاً عند جوابه السالف فلقد كانت على علم بأن الديانة اليهودية لم تكن شرطاً يتوقف عليه الانتساب إلي المحافل الماسونية التى كانت تضم بين جنباتها يهوداً ومسيحيين بل وبعض المسلمين أيضاً
" وما سر هذا الخطاب ؟ "
" هذا ما لا يمكنني البوح به "
نظرت إليه بريبة وهمت بالنهوض مغاضبة لولا أن قال مستدركاً
" إنني حقاً لا أملك أن أطلعك على هذا السر. "
أحست في نبراته بالصدق وهمت بأن تلقي عليه تساؤلاً أخر غير أنه بادرها ملوحاً بالكأس
" لقد تعبت يدي من حمل الكأس فهلا أرحتها ؟ "
تناولت الكأس من يده لترفعه إلي شفتيها الرقيقتين وهو يسألها
" ألن تخبريني ما اسمك ؟ "
" سارة "
أدرك كوبرفيلد أنه قد أحكم سيطرته على فريسته وأنه وإن كان قد وقع أسيراً لجمالها مرغماً فإنها إنما أسلمت له قيادها طواعية فناولها كأساً أخر
" وذلك الأبله الذي أثار غضبك ؟ "
أحست سارة بغصة شديدة حين أتى على ذكر إبرام فتجرعت الكأس بشيء من الغضب المشوب بالحزن وغالبت دموعها فغلبتها وأبت إلا أن تنهمر لتبلل وجنتيها الورديتين فاشاحت بوجهه بعيداً.
مد كوبرفيلد يده ليمسح عن وجنتيها عبراتها السخينة التى تألقت كحبات لؤلؤ زادتها حسناً فأيقنت سارة أن جمالها قد أسر منه النفس وملك عليه الفؤاد وراحت تقص عليه ما كان من أمرها مع إبرام وما كان من خيانته لها وهو ملتزم الصمت تاركاً لها عنان البوح بما يعتمل في نفسها حتى إذا ما فرغت من حديثها كان السُكر قد سلبها بقي لها من وعي
" دعي أمر هذا الخائن لي "
كانت كلماته تلك هي أخر ما تسلل إلي مسامعها وهو يعاونها على النهوض وقد احاط كتفيها بذراعه ليغادرا الحانة.
لم تدري سارة كم من الوقت مر عليها حتى إذا ما أفاقت كان ثمة دوار خفيف يلف رأسها وألم رهيب يكاد يفتك به وهي تهزي بسم إبرام. وما أن فتحت عينيها حتى أطل منها الذعر وأنفلتت من بين شفتيها صرخة لم تستطع أن تكتمها , ذلك أنها كانت ممددة على الفراش على نحو يوشى بما حدث, بينما جلس كوبرفيلد قبالتها يحدق فيها بعينيه الزرقاوتين من خلف الدخان المتصاعد من سيجارته
سألها كوبرفيلد ببروده الإنجليزي
" لما كل هذا الذعر ؟ "
تطلعت إليه بنظرة يملؤها المقت والغضب
" إن ما حدث سيبقي طي الكتمان .. أعدك بذلك "
لم تنبث سارة ببنت شفة وتشاغلت بارتداء ملابسها على عجل قبل أن تندفع قاصدة باب الغرفة فاستوقفها سؤاله
" أمازلت ترغبين في الأنتقام منه ؟ "
التفتت نحوه وبدا لها وجهه قبيحاً ومشوشاً من خلفف دموعها
" أكثر من ذي قبل "
كانت كلماتها بالرغم من ذعرها وحزنها المتفاقم تفوح منها العزيمة والإصرار على نحو أثار دهشة كوبرفيلد
" حسناً .. ستجدين في ثيابك رسالة لوالدك .. امنحيه أياها ودعي الأمر لي "
في طريقها إلي المنزل شعرت سارة وكأن الدنيا قد أظلمت في وجهها وتولدت في أعماقها رغبة جامحة في الإنتحار والتخلص من كل عذاباتها التي كبلت فؤادها واستباحت روحها فراحت تمزقها بضراوة وبلا رحمة. كانت الشمس قد مالت نحو الغرب حين دلفت إلي غرفتها مدعية المرض لتنفرد بهمومها ودموعها التي انهمرت كسيل لا ينقطع.
كم تمنت أن تصرخ بكل ما أوتيت من قوة في تلك اللحظات بيد أنها لم تستطع فراحت تئن وتتأوه وهي تهمس منادية إبرام بين الفينة والاخري. ذلك الذي ظنته يوماً ملاذها الوحيد , كم تمنت لو انطلقت إليه لترتمي بين أحضانه وتشكو إليه ما يعتريها ويفت في روحها المتهاوية تحت وطأة الكمد والأسي.
" لا وألف لا. كيف أعاوده وأثر خيانته لا يزال على جدار قلبي يدميه؟ .. ذلك الخائن التعس .. يا إله السموات .. لتنزل لعنتك عليه وليتجرع كأس الذل والهوان حتى الثمالة .. لقد خانني وما كان جزاء حبي وإخلاصي إلا غدراً منه وطعنة استقرت في حشاشة قلبي."
" ولكن مهلاً يا سارة .. ألم تقترفي من الذنب ما أقترف؟ .. ألم تشاركي ذلك الانجليزي الفراش؟ .. ألا تعد هذه خيانة له أيضاً؟ .. كيف إذاً تسعين للأنتقام إذا ما كنتما في الجرم سواء؟"
" لا .. ليس صحيحاً .. لقد غرر بي ذلك الثعلب الأـشقر .. لقد كنت ثملة حين حدث ما حدث .. ثم .. ثم لولا خيانته لما كان ما كان .. هو من دفع الأمور أن تؤول هذا المآل .. لابد من الانتقام فما عادت الدنيا تتسع لكلينا."
"رباه .. أي جنون هذا؟ .. عقلي يكاد أن يذهب"
قضت سارة ليلتها في ذلك الهذيان لا تكاد تستبين من الأمر شيئاً وقد ذهل عقلها ولم يعد جسدها يشعر بذلك البرد القارص الذي تسلل إليه فراح يرتعش كعصفور بلله القطر , حتى إذا ما بزغ الفجر كان التعب قد أخذ منها كل مأخذ فخلدت مرغمة إلي النوم دون أن يدور بخلدها أن السيد كوبرفيلد قد شرع منذ اللحظة الأولي التي غادرته فيها في التدبير وإحكام المؤامرة للإنتقام من إبرام والتخلص منه.


دكتور جيفاجو غير متواجد حالياً  
موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
العرب, إلياذة

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:14 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.