آخر 10 مشاركات
تشعلين نارى (160) للكاتبة : Lynne Graham .. كاملة مع الروابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          ليلة مع زوجها المنسي (166) للكاتبة : Annie West .. كاملة (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          39 - ابنة الريح -روايات أحلام قديمة (الكاتـب : فرح - )           »          [تحميل] الــخــوف مــن الــحــب للكاتبة : bent ommha (جميع الصيغ) (الكاتـب : فيتامين سي - )           »          عذراء في ليلة زفافها (22) للكاتبة: Lynne Graham *كاملة+روابط* (الكاتـب : * فوفو * - )           »          جدران دافئة (2) .. سلسلة مشاعر صادقة (الكاتـب : كلبهار - )           »          إشاعة حب (122) للكاتبة: Michelle Reid (كاملة) (الكاتـب : بحر الندى - )           »          رواية كنتِ أنتِ.. وأنتِ لما تكوني أنتِ ما هو عادي *مكتملة* (الكاتـب : غِيْــمّ ~ - )           »          روايتي الاولى.. اهرب منك اليك ! " مميزة " و " مكتملة " (الكاتـب : قيثارة عشتار - )           »          عذراء اليونانى(142) للكاتبة:Lynne Graham(الجزء2سلسلة عذراوات عيد الميلاد)كاملة+الرابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة ضمن سلاسل (وحي الاعضاء)

Like Tree5716Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 24-12-20, 10:19 PM   #1731

هبه شناوي

? العضوٌ??? » 474939
?  التسِجيلٌ » Jul 2020
? مشَارَ?اتْي » 474
?  نُقآطِيْ » هبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond repute
افتراضي




هبه شناوي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 24-12-20, 10:20 PM   #1732

هبه شناوي

? العضوٌ??? » 474939
?  التسِجيلٌ » Jul 2020
? مشَارَ?اتْي » 474
?  نُقآطِيْ » هبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond reputeهبه شناوي has a reputation beyond repute
افتراضي



هبه شناوي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 24-12-20, 11:40 PM   #1733

Omsama

? العضوٌ??? » 410254
?  التسِجيلٌ » Oct 2017
? مشَارَ?اتْي » 867
?  نُقآطِيْ » Omsama is on a distinguished road
افتراضي

تسجيل حضور فى انتظار الطيف لجميلة الجميلات نيمو

Omsama غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 24-12-20, 11:53 PM   #1734

لبنى البلسان

نجم روايتي

 
الصورة الرمزية لبنى البلسان

? العضوٌ??? » 462696
?  التسِجيلٌ » Mar 2020
? مشَارَ?اتْي » 5,543
?  نُقآطِيْ » لبنى البلسان has a reputation beyond reputeلبنى البلسان has a reputation beyond reputeلبنى البلسان has a reputation beyond reputeلبنى البلسان has a reputation beyond reputeلبنى البلسان has a reputation beyond reputeلبنى البلسان has a reputation beyond reputeلبنى البلسان has a reputation beyond reputeلبنى البلسان has a reputation beyond reputeلبنى البلسان has a reputation beyond reputeلبنى البلسان has a reputation beyond reputeلبنى البلسان has a reputation beyond repute
افتراضي

تسجيل حضوووور💕💕

لبنى البلسان غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-12-20, 12:02 AM   #1735

جويرية احمد

? العضوٌ??? » 443744
?  التسِجيلٌ » Apr 2019
? مشَارَ?اتْي » 170
?  نُقآطِيْ » جويرية احمد is on a distinguished road
افتراضي

تسجيل حضور مستنيه علي أحر من الجمر

جويرية احمد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-12-20, 12:15 AM   #1736

Freespirit77

? العضوٌ??? » 438407
?  التسِجيلٌ » Jan 2019
? مشَارَ?اتْي » 48
?  نُقآطِيْ » Freespirit77 is on a distinguished road
افتراضي

تسجيل حضوووور💕💕

Freespirit77 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-12-20, 01:24 AM   #1737

جنة سعيد

? العضوٌ??? » 419123
?  التسِجيلٌ » Feb 2018
? مشَارَ?اتْي » 119
?  نُقآطِيْ » جنة سعيد is on a distinguished road
افتراضي

تسجيل حضور
غي انتظارك علي احر من الجمر يامبدعه


جنة سعيد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-12-20, 01:37 AM   #1738

نرمين نحمدالله

كاتبة في منتدى قلوب أحلام وفي قصص من وحي الاعضاء ، ملهمة كلاكيت ثاني مرة


? العضوٌ??? » 365929
?  التسِجيلٌ » Feb 2016
? مشَارَ?اتْي » 2,008
?  نُقآطِيْ » نرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond repute
افتراضي

الطيف الحادي والعشرون
======
*برتقالي*
======
_أين بابا ؟! هل سنبقى هنا طويلاً؟!
تسأله مجد بخوف وهي تتقدم نحوه بكرسيها في ذاك البيت الذي اختاره عاصي لإقامتهما محاطاً بحراسه فيحاول نزار طمأنتها بقوله الكاذب:
_سيأتي قريباً! ما رأيك في هذه المفاجأة التي أعددناها لكِ؟! أعجبك البيت الجديد؟!رأيتِ غرفتك كم هي جميلة ؟!

تتلفت حولها برهبة رغم جمال المكان وأناقته لترد بفتور:
_جيد ..لكنني أفتقد بابا ..
ثم ترفع رأسها إليه بسؤالها :
_هل هذه مصر ؟! بلد طيف؟!

ينعقد حاجباه بشدة مع سؤالها الذي يحمل له جواب تساؤله ..
رباه!
هل تكون "الجكمة" هذه خلف اختطافهما الغريب هذا؟!
ولما لا؟!
الآن يفهم سر هذا السجن الأنيق والغرفة المعدة بألعابها وكتبها لمجد ؟!
ما الذي تخطط له العنكبوتة السوداء هذه؟!
وأين ستصيب قرصتها هذه المرة ؟!

صوت الطرقات على الباب يمنحه الجواب وهو يراها أمامه وخلفها ذاك الحارس العملاق يرمقه بنظرات نارية ..
تنفرج شفتاه بصدمة لكنها تتجاهله تماماً وهي تركض نحو مجد تعانقها بقوة لتصرخ الأخيرة بفرحة هاتفة باسمها ..
عناقهما يمتد لدقيقة كاملة غابت فيها كل منهما عن الدنيا وامتزجت فيه فرحتهما فتبدوان في هذه اللحظة بنفس الصورة ..مجرد طفلتين محرومتين!
لكن طيف تتمالك نفسها وهي تمسح وجه مجد قائلة بحزمها الحنون :
_لا تخافي ..ستأتين معي ..لن نفترق بعد اليوم .
_وبابا؟!
تسألها مجد بلهفة لتطرق طيف برأسها دون رد ..
فيهتف بها نزار بحدة وقد غلبه خوفه على صديقه علي مراعاة وجود مجد :
_أين يحيى؟! وما شغل العصابات هذا ؟؟
تستقيم طيف بجسدها لتواجهه بنظرة ساخطة محذرة ثم تتحرك نحوه لتهمس جوار أذنه بخفوت :
_شغل العصابات هذا يعرفه النصابون أمثالك أنت وصاحبك ! ابتلع لسانك أمام مجد وأعدك أن أصفي حسابي معك أنت بالذات فيما بعد !

_لن تأخذي مجد دون أن أعرف ماذا يحدث هنا ! على جثتي!
يهمس بها بحمائية مشتعلة غريبة على طبيعته المرحة فتنظر طيف لمجد التي كانت ترمقهما بنظرة قلقة لتبتسم لها مطمئنة قبل أن تعاود النظر إليه هامسة بنفس الخفوت الحاد :
_سأتزوج صاحبك ..جهز نفسك للعرس!

سخريتها اللاذعة تمتزج بنبرة تهديد لم تخطئها أذناه فيزداد انعقاد حاجبيه وهو يهم بالاستفسار عما تقصده ..
لكنها تبتعد نحو مجد لتبسط كفيها على كرسيها بحركة موحية قائلة :
_بابا انشغل في عمل ما وسيلحق بنا مع أنكل نزار .

تقولها وهي تسحب مجد معها نحو الخارج لكن نزار يقطع عليها الطريق بنظرة صارمة وعيناه تناطحان عينيها بتهديد مشابه بينما قبضته كذلك تحط على كرسي مجد ..
لكن طيف تميل عليه من جديد هامسة :
_انظر لذاك العملاق عند الباب وتخيل ما الذي يمكنه فعله بك لو تجرأت وعارضتني .

لكن قبضته تشتد أكثر على كرسي مجد وهو يرمقها بنظرة صارمة شديدة الحزم ذكرتها بنظرة صاحبه دون أن يتحرك من مكانه خطوة واحدة كأنه يتحداها ..
تزفر زفرة مشتعلة وهي تتذكر ما رواه يحيى لها ..
"فرقع لوز" هذا قد يكون نصاباً فعلاً لكنه يعتبر الطفلة ابنته ولن يتخلى عنها بهذه البساطة -على الأقل- دون أن يفهم !!

نفسها تسول لها تعذيبه بالمزيد من الغموض والقلق ..
لكن وجود مجد وعاصي -الذي يكاد يشتعل رغم بروده بالخارج وقد رفضت دخوله معها هنا كذلك- يجعلانها تجنح للسلم ..
فتميل عليه لتشرح له الموقف بكلمات مقتضبة هامسَة .
تنفرج شفتاه كثيراً بذهول مع تفاصيل ما تحكيه وهو لا يتصور جرأة ما فعلته فتبتسم ساخرة من مظهره قائلة بصوت مسموع هذه المرة :
_أغلق فمك المفتوح هذا كي لا تدخله ذبابة تنفذ لمخك فتؤثر على ذكائك العظيم (اسم الله عليك)!

ضحكة مجد القصيرة تمنعه الرد عليها ليرمقها بنظرة مغتاظة وهو يفكر فيما قالته ..
قبل أن يميل عليها هامساً بنبرة تهديد :
_سأترك لك مجد كي لا أصطدم معك أمامها ولأنني أيضاً أعرف كم تشتاقك ولا تعجبها الإقامة هنا في هذا المكان ..لكن اعلمي أن هذه بلدي كما هي بلدك وأهل أبي هنا لا يستهان بهم ..قسماً بالله لو لم تلتزمي باتفاقك لأزينن وجهك هذا بندبة لن تزول العمر كله !

_(اتكلم على أدك يا فرقع لوز )!
تهمس بها بسخرية خافتة ليتناطح كلاهما بنظرات نارية لكن وجود مجد يجعلهما يخفضان رايات الحرب ..مؤقتاً!!

ينحني نزار ليعانق مجد بحنان مغمغماً بمرح مصطنع:
_هاقد استجيبت دعواتك وعادت صاحبتك ..ابقي معها حتى يعود بابا .
_وأنت؟!
_سألحق بكما بعد قليل .

يلاحقهما ببصره بقلق سمح له أن يظهر على وجهه أخيراً بعد رحيل مجد قبل أن يرمقه العملاق على باب بنظرة زاجرة وهو يغلق الباب خلفهما ..
يجلس أخيراً على أريكة قريبة وهو يشعر بمزيد من القلق والعجز ..
لا على مجد ..فهو يثق في عناية طيف بها ..
إنما على يحيى!!
هو يثق بعقله جيداً ويدرك أنه سيخرجهما من هذا المأزق كالعادة لكنه كذلك يخشى طيف تلك!
تباً!!
كم تخنقه هذه البلد !!
من صغره وهو يكرهها وقد كانت رمزاً لأبيه !!
ليته لا يبقى كثيراً هنا!!

ابتسامة ساخرة بمرارتها تحلق فوق شفتيه وهو يتذكر تهديده ل"طيف" بأهل أبيه ..
تراهم حقاً ينصرونه لو لجأ إليهم!!
أخوه غير الشقيق -من أبيه- أيعيش هنا ؟!
تراه يذكره ؟!
اسمه إياد !!
لا يزال يذكر جسده الكبير مقارنة بجسده هو عندما كانوا صغاراً ..
لا يزال يذكر حزنه المحفور على ملامحه وبكاءه الذي لم يكن يسمعه سواه على وسادته ليلاً ..
وقتها كان يظن أن كل الكبار لا يضحكون ..كلهم يتوجعون ويصرخون طوال الوقت ..أبوه ..أمه ..وإياد ..لهذا كان يدعو الله ألا يكبر أبداً .
لكنه كبر ..كبر وكبر معه الوجع والغربة ..والصراخ الذي لا يسمعه أحد !!

إياد عاد لأمه ولا يعرف عنه شيئاً بعدها !
غريب فعلاً أن يكون لك أخ في هذا العالم ولا تعرف عنه شيئاً!!
لكن لماذا يشغل باله الآن ..وقد اختار برغبته الهروب من كل شيء ورمي الماضي كله خلفه !!

تدمع عيناه مع هذه الغصة في حلقه فتعتصر أنامله قماش الأريكة التي يجلس عليها مغمغماً :

_عد يا يحيى!! عد لنعاود الهروب معاً كما اعتدنا !! الهروب لمن مثلنا أمان ..الغربة لمن مثلنا وطن !
======
_عاصي!
تهمس بها ماسة بقلق وهي تدخل عليه غرفة الرسم الخاصة به لتشهق بهلع وهي تراه يمسك مسدسه يكاد يعتصره بقبضته أمام لوحته الأخيرة ..

_لماذا؟! لماذا؟!
تكررها بخوف وهي تقترب منه ..تعانق أمانها المنشود عبر غاباته الزيتونية التي كانت مشتعلة بغضب تعرفه ..
منذ عاد مع طيف وتلك الطفلة المقعدة التي عرفتها باسم مجد وهو عازف عن الكلام ..!
يخبط بسلاحه على اللوحة للحظات حتى يهيأ إليها أنه سيمزقها لكنه يعود ليخفضه ..
يسقطه أرضاً ليضمها إليه بذراعيه باحتياج قاهر قرأه قلبها قبل عينيها !!

_ماذا حدث بين طيف وذاك الرجل ؟!
تسأله بتوجس وقد كانت تعلم عن لقاء طيف ويحيى ليخبرها عاصي بكل ما سمعه ..بالإضافة لكذبتها الأخيرة بشأن حملها !
صوته يرتجف بقوة انفعاله وغضبه الذي كتمه بثبات يحسد عليه طوال هذه الساعات!!

_المجنونة!
تهمس بها سراً وهي تخشى عليها المزيد من غضبة عاصي ..
سبحان من جعله يصبر على كل هذا!!
تراقب ملامحه المحتقنة بعد صمته للحظات محاولة استعادة صفاء ذهنها لتسأله أخيراً:
_ماذا ستفعل؟!
يطلق زفرة مشتعلة ثم يرد :
_سأتأكد أولاً مما قاله عن نفسه..على الأقل ..مما يمكن التأكد منه .
_وبعدها؟!
تسأله بتوجس ليطول صمته دون رد ..
فتقول بتعقل :
_القصة شديدة التعقيد ..طيف لاتزال تحبه ..
يرمقها بنظرة ساخطة لتستطرد محاولة تهدئته :
_لم تخبرني بشيء ..تعرف أنها كتومة ..هو استنتاجي فحسب ..هي تعلمت من الماضي أن تروض انتقامها كي لا تؤذي به غيرها بشراسة ..واختارت هذا الزواج لا بقلبها فقط بل بعقلها كذلك لأجل الطفلة ..
لا تزال غابات زيتونه تشتعل بغضبها فتتنحنح لتسأله باهتمام :
_ماذا عن يحيى هذا ؟! ماذا تظن فيه ؟!
سؤالها الأخير يبدو وكأنه يطرق على أكثر أبواب ماضيه ألماً ..
الغضب المشتعل على ملامحه جعلها تظن أنه سيلعنه ..
لكنه يرد أخيراً وهو يستعيد تفاصيل حكايته ..فيغلب ألمه غضبه :
_أظنه ..يشبهني.

تتسع عيناها بإدراك وهي تحاول فهم ما يفكر فيه خلف عقلية كعقليته ..
لكنها لا تتصور حلاً لمعضلة كهذه !!
رجل كيحيى هذا لن يمكنهم احتجازه قسراً هنا خاصة بعدما علموا عن عائلته العريقة في بغداد ..
ومن الصعب كذلك قبوله كزوج بعد ماضيه الملوث باحتياله ..
لكن ..
مجد !!
الصغيرة هذه رمانة الميزان!!
هي من ستجبر الجميع أن يتخذوا مواضعهم كي لا يغامروا بخسارتها !!

تعود ببصرها نحو عاصي الذي بدا غاضباً خاصة وهو يجبر نفسه على كتمان كل هذا ..فتقول له بحذر تستشف ما يفكر فيه:
_يمكنك إنهاء كل هذه المهزلة وإخبارها أنك تعرف الحقيقة .
_وأخسرها ثانية بعدما عادت إليّ بقدميها؟!
استنكاره المرير يريح بعض مخاوفها فتزيح قدمها مسدسه جانباً بحركة ذات مغزى ..
عاصي يثبت لها في كل يوم أنه حقاً قد تغير ..
وأن الثمن الذي دفعه في ماضيه لم يذهب سدى!!
لهذا تهدأ هواجسها نوعاً ما وهي تشاركه التفكير للحظات قبل أن تعاود سؤاله :
_إذن ستزوجها له ؟!
_تظنين من السهل عليّ أن أزوجها بهذه الطريقة ؟! تلك المخبولة !! بعد كل هذه السنوات وبدلاً من أن ترفع رأسها بزيجة مناسبة تلطخ نفسها بعار لم ترتكبه لترتبط برجل رغماً عنه؟!!
_يبدو أن الزواج القسري وراثة في عائلة الرفاعي لا تختلف فيه الإناث عن الذكور !
تقولها بشبه ابتسامة وهي لا تدري هل تضحك من طرافة الموقف أم تقلق من غموضه ..
ليطلق هو زفرة حارقة وهو يشيح بوجهه ليرد بحسم :
_فلنتأكد أولاً مما قاله وبعدها سألتقيه لأقرر ماذا سأقضي بشأنهما !
ترمقه بنظرة طويلة راضية لتبسط راحتها على صدره ثم تقبل موضع قلبه هامسة :
_هذه لقلب عاصي الرفاعي الذي لم يخذلني يوماً ..طيف كانت تظن أنها ستستعين بك للانتقام منه ..لكن يقيني بك أنك ستكون طوق النجاة لكليهما !
فيضم رأسها لصدره بحنان يطفئ ما تبقى من لهيب غضبه وهو يهمس بشرود :
_لهذا قلت لكِ أنه يشبهني ..كأنني وأنا أسمعه يقص حكايته كنت أسمع صرخاتي يوماً ما إنما بصوت آخر .

وفي غرفتها كانت طيف تعانق مجد النائمة في حضنها على فراشها بقوة رفيقة ..
تسمح لدموعها بحرية أطلقت لها العنان وهي تستعيد ما رواه لها ..
تنام على جنبها الأيمن كعهدها تتخيل وجهه يناظره ..
تلعنه مرة ..وتغازله مرة ..
تصفعه مرة ..وتقبّله مرة ..
إنما تعشقه في كل مرة !!

تتوعده بانتقام يشفي هذا الجرح الذي تركه خلفه ..
وتعده بجيش تكون هي قائدته كي يكسب به حرب نفسه ويعود ليصالح اسمه كما فعلت هي قبله ..
تناقض؟!
وماذا لو كان كذلك !!
لم تكن يوماً امرأة عادية وليس هو بالرجل التقليدي ..
فلتُقرع إذن أجراس الحب ..والحرب !
======
_دكتور جهاد كان يريد دعوتك للطعام بالخارج ..لكنني قلت له :لا !ضيوف الغالي ضيوفي ..شرفت بيتنا يا ابني .

تهتف بها رحمة بطيبتها المعهودة وهي تخاطب إبراهيم عبر مائدة الطعام البسيطة التي جمعت عزيز وجهاد وإبراهيم الذي تعجب دعوة عزيز له أول الأمر قبل أن يفهم علاقته الوثيقة بجهاد رغم كل ما حدث ..فيشكر رحمة ببعض الحرج وهو يتفحص ملامح جهاد ..
جهاد الذي بدا شارد الوجه أنامله تتلاعب بميدالية "حنظلة" في كفه ..
الطفل ذو العشر سنوات الذي يعطي العالم ظهره ولن يغير وضعه حتى يعترفوا بمأساته ..فهل يفعلون ؟!

_كل يا ابني وارمي حمولك على الله ..ربنا كريم .

تقولها رحمة بحنانها المعهود وهي تقرب منه الطعام الذي تناول النذر اليسير منه مراعاةً لها بينما يقول إبراهيم بطيبته الرجولية:
_أنت محظوظ حقاً لأنك خرجت من قضية كهذه ..يبدو أن حسام القاضي محامٍ ماهر كما يقولون ..شعور السجن صعب .
_السجن ..الظلم ..الغربة ..أيام شداد يا صاحبي نقشت وشمها في القلب ولا أظنه سيمحى!
يغمغم بها جهاد بشروده الذابل ،يشعر إبراهيم بهذه الحسرة الذائبة فيواسيه بعبارات مقتضبة لتهتف رحمة بحزم أمومي حنون:
_لا كلام مع الطعام ..كلوا أولاً وبعدها تحدثوا كما شئتم ..
ينهون طعامهم لتنتقل جلستهم للشرفة الصغيرة في بيت رحمة التي جاءتهم حاملة صينية كبيرة وضعتها أمامهم لتخاطب جهاد بقولها :
_أعددت لك الكعك المقدسي الذي تحبه ..تعلمت طريقته من جارة لي خصيصاً لاجلك ..عساك تأكله في فلسطين قريباً يا ابني!

يرمقها بنظرة امتنان خالجها شعوره المستحدث بالضياع وهو يقلب ميداليته في يده مغمغماً بشرود:
_فلسطين؟!
ثم يعود ليرمق "حنظلة" في يده مردفاً:
_هل ضاعت منا فلسطين حقاً؟! هل بقي ما يدعى بفلسطين ؟! خرائط ال"جوجل" ما عادت تدعوها سوي ب"اسرائيل" ..دعاوي التطبيع في بلاد العرب بعدما كانت سلوكاً سياسياً مستهجناً صارت -نوعاً ما- مباركة شعبياً بدعوى التكيف .."العدو" الذي تربينا العمر نعلم أنه العدو صار "الآخر الذي يجب التعايش معه" ..دعاة الدين ما بين مفتون عالي الصوت ومقهور ابتلع لسانه بعيداً عن وجع الدماغ ..هل صارت قضيتنا وهماً في الصدور يحكيه العجائز كأساطير منسية ؟!أو مجرد وسيلة جذب تعاطف تستغلها بعض الجماعات الدينية لتجمع الأتباع حولها ؟! هل يجب علينا أن نصدق أن فلسطين حقاً ضاعت ؟!

_أبداً ..والله أبداً ..ستبقى فلسطين لنا ،ولو نسى العالم كله سيبقى من نسلنا من لن ينسى ..لن تقوم الساعة حتي ننتصر على اليهود ..سأعلمها لابني وسأجعله يعلمها لابنه جيلاً بعد جيل .

يقولها إبراهيم بإخلاص حار تنتقل شعلته لجهاد الذي رمقه بنظرة ممتنة عميقة لم تخل من حزن قبل أن يعود لشروده في ميداليته للحظات قبل أن يغير الموضوع محاولاً تجاوز غصته:
_تقول ابني؟! أنت متزوج؟!
فيبتسم إبراهيم وهو يرد :
_زفافي غداً بإذن الله ..يسعدني حضورك .

يطلق جهاد صيحة قصيرة وملامحه تتهلل بالبشر فيما تهتف رحمة بانشراح:
_بارك الله لك يا ابني ..لماذا لم تقل منذ البداية ؟!
_مبارك يا عريس ..سأحضر بالطبع ..تصدقني لو أخبرتك أنني أشعركأني أعرفك منذ زمن بعيد .
_نفس شعوري والله ! سبحان من جعل الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف .
_في وقتك! فرصتنا لنخرج هذا البائس من كآبته ..
يهتف بها عزيز بحماس وهو يتناول هاتفه لتتلاعب به أنامله مردفاً وهو يشغل اللحن الشعبي المعهود :
_ماذا كانت تسمى تلك الرقصة الفلكلورية التي تؤدونها في بلدكم؟! آه .."دلعونا" ! هاهي ذي! بالمناسبة ما معنى "دلعونا" يا جهاد ؟!
يبتسم جهاد بشرود حزين وهو يشعر باللحن ينساب بين عروقه ..يعيد إليه روح الماضي القديم مع جوابه :

_اختلفوا في أصلها .. بعضهم يحكي عن أسطورةٌ قديمة إنّ شابًا شاميًّا افتُتِن بفتاة تُدعى "عناه" وحدث أن انفصل هذان العشيقان، ليُصبح ويُمسي حبيبها هائمًا ويُنشد لربعه وأهله: "دِلّونّي على عناه"..وقد مرت مئات السنوات على تلك الأسطورة التي حوّر الشاميون عنوانها إلى "دلعونا"، لتغدو فنًا شعبيًا فلكلوريًا لا تخلو ذاكرة أيّ من سكان الهلال الخصيب من حفظ بيتٍ على الأقل من ذلك الفن الشفوي المصحوب باللحن الشهير الذي يحفظونه حتى اليوم..وهناك اعتقاد آخر يقول إن أهل قريةٍ شاميةٍ ما، كانوا يتنادون عاليًا لبعضهم "دلعونا"، طالبين العون لجني قمحهم أو قطف حمضياتهم أو بناء منازلهم. حيث حرف (الدال) هو (أل) التعريف بالسريانية، و"عونا" أي العون والمساعدة..وعلى أي حال بشأن أصل التسمية، فإن فنّ الدلعونا نجح بالحفاظ على شكله التقليدي القديم، حيث يُناغم الردّاد، بيرغوله أو شبابته مع المغني، فريقهما المكوّن من 10 من راقصي الدبكة شابكين الأيدي على شكل دائرة..وفي بعض المناسبات تُغنّى الدلعونا دون دبكة.

اللحن المميز لا يزال ينبعث من هاتف عزيز وجهاد يردف بنبرة ازدادت فخراً:
_أما موضوعات الدلعونا، فيغلب عليها الغزل بالحبيب، إلا أن الفلسطينيين على وجه الخصوص، أضافوا عليها الكثير من الأبيات المتأثرة بنضالهم ضد الاحتلال، كونه جزء لا يتجزأ من معاناتهم اليومية المستمرة..
يقولها ليدندن بصوت خفيض :

يا دمع عيني بلّل خدودي *** حارس عالأقصى واحد يهودي

وأبطال الثورة لازم تعودي ***نرفع علمنا أجمل ما يكونا.

ابتسامته تتحول لضحكة قصيرة مكتومة تخفي دمعة كبيرة في عينه ..

ما أقسى الحنين عندما ينشب مخالبه الوردية في صدورنا ليذكرنا بما فقدناه ويعيرنا بأن قطار العمر سيمضي دونه !

_عفواً ..سأضطر للانصراف ..أبي يحتاجني .
يقولها إبراهيم بحرج وهو يقف مكانه ليقف عزيز وجهاد الذي صافحه بقوة قائلاً بود:
_شكراً لحضورك ..سعيد بأنني كسبت صديقاً مثلك .
_وأنا أيضاً ..سأنتظرك غداً ..يجب أن تتعرف على مستر ربيع "فاهم كل المواضيع"!
يهتف بها إبراهيم ضاحكاً باعتزاز ليضحك عزيز وجهاد وهما يصافحانه بمودة ..
بينما يعلو صوت رحمة وهي تدعو له بالبركة ..
يوصله عزيز إلي الباب بينما يبقي جهاد مستنداً علي سور الشرفة المطلة علي الحارة الضيقة قبالته يراقب وجوه الناس بشرود ..

_مالك يا جهاد؟! لم أرك يوماً يائساً إلي هذا الحد ! أنت كنت دوماً قدوة في احتمالك والمحنة مرت والحمد لله !
يقولها عزيز ببساطة وهو يربت على ظهر صاحبه ليتنهد جهاد بحرارة دون أن يتخلي عن شروده :
_علمت أنهم أنهوا التعاقد معي في المشفى الذي كنت أعمل به ..رغم براءتي من التهمة لكن "العيار اللي مايصيبش يدوش" كما تقولون هنا في مصر..لا أعلم من أخبرهم عن الأمر بهذه السرعة ..ولا أدري كيف سيمكنني البدأ من جديد ..ذهني مشوش بخيارات كثيرة ..والمشكلة أنني لا أحمل همي وحدي بل هم زهرة أيضاً!

تبتئس ملامح عزيز بتأثر وهو يواسيه بقوله:
_لا بأس ..أنت مهارة لا يستهان بها ولديك من الخبرة الكثير ..ستجد فرصة أخري قريباً ..وزهرة يمكنها ..
_زهرة تغيرت !
يقاطعه بها بقنوط وهو يطرق برأسه قائلاً:
_منذ خرجنا من السجن وأنا أشعر أنها تتباعد عني في غير عادتها ..حتي أنها رفضت الإقامة في نفس الفندق الذي أقيم فيه وتعللت بأنها تريد البقاء مع صديقتها حسناء بعد عودتها لهنا ..قد تراه تصرفاً طبيعياً لكنني أحفظها جيداً ..شيء ما كُسر بداخلها ..شيء لا تريد الاعتراف لي به .

يرمقه عزيز بنظرة مترددة للحظات ثم يقول ببطء:
_اعذرها! تجربة السجن ليست بهينة علي الرجال فما بالك بالنساء ؟! وهي لا تزال صغيرة السن .
_لا! ليس هذا ! أنا رأيت لهفتها العاشقة في عينيها أول ما خرجنا من السجن ..لكنها صارت تتباعد بعدها ..
_تظنها ندمت علي الارتباط بك ؟! أو لعلها تصدق تورطك؟!
_لا أدري ..ربما هي ظروف تركي لعملي ..لعلها لا تريد أن تكون عبئاً عليّ!

يقولها بالمزيد من القنوط ليستخرج هاتفه ثم يتأمل شاشته السوداء المغلقة باستطراده:
_صديقي المقرب كذلك ..ريان ..أنت تعرفه ..لا يرد على هاتفه ولا أعرف عنه شيئاً..حاولت التواصل مع أصدقاء مشتركين للاطمئنان عليه لكن لا أحد يرد علي..كأنني صرت فجأة موبوءاً يخشون عدواه ..
ثم يتنهد لحظة ليردف بمرارة :
_لحظات كهذه يا صاحبي هي التي تكشف الحقيقة ..عندما ينفض الجمع من حولك لتدرك وضعك جيداً ..وحيد غريب لاجئ .

_لا تقل هذا ! وأين أنا من حساباتك؟!
يهتف بها عزيز بعتاب حنون ليبتسم له جهاد بمودة وهو يربت على كتفه :
_لن أنسى وقفتك جواري أنت و"الست رحمة" .
_ما رأيك لو يتخلي كلانا عن وقاره بالغد ونرقص "دبكة الدلعونا" لابراهيم ؟!
فيرتفع حاجباه بدهشة :
_وهل تجيد رقص الدبكة ؟!
_"حكم قراقوش"! ..ميادة أجبرتني أن أتعلمها ..كان زفاف أحد صديقاتها واتفقن أن يرقصها الرجال معاً .
يقولها عزيز بمرح فيغتصب جهاد ضحكة قصيرة وهو يقول باستسلام:
_حسناً..لنفعلها لأجل الخلوق إبراهيم ..انا مدين له على أي حال ..لكن من سيكمل الفريق؟!
_سأتولى الأمر ..لا تقلق ..
يقولها عزيز مطمئناً وهو يردف بحلم :
_يمكنك دعوة زهرة كذلك للزفاف..ستكون فرصة لتقريب المسافات .

يهز له جهاد رأسه موافقاً قبل أن يودعه ليخرج إلي الشارع ..
افتقدها !!
افتقد هذا "الشط النيلي" في عينيها والذي يخبره كلما تغرب أنه إليه ينتمي!!

الهواء البارد يصفع جبينه ووجنتيه بقسوة يتعجب شعوره بها ..
لماذا صار شديد الحساسية هكذا ؟!
كأنه فقط ينتظر وخزة إبرة كي يصرخ بكل هذا الوجع الذي تغلي به روحه ..

يطلق زفرة قصيرة وهو يتناول هاتفه ليتصل بها مرة تلو مرة ..
لكنها لا ترد كعهدها مؤخراً ..
تكتفي برسالة قصيرة :
"مشغولة ببعض الأشياء مع حسناء ..سأحدثك لاحقاً!

ينعقد حاجباه بضيق بين كبرياء رجولته واشتياق عاطفته لكن الغلبة تكون للأخير ..
فيرسل لها رسالة ..

(اردت دعوتك لزفاف صديق لي ..إبراهيم الذي تعرفينه ..اذهبي معي لعلنا بحاجة لهذا كي ننسى ما عشناه الأيام السابقة )

لا يصله منها رد ..
فيزفر مرة أخري وهو يجد قدميه تسحبانه نحو شاطئ النيل القريب الذي بدا له موجه المظلم في هذه الساعة كليل حالك يتوعده ..لقد اعتاد أن يرى علي صفحة مائه وجهها فأين تاه؟!

_دعيني أثرثر معك كتابةً حتى تجدين الوقت للكلام..افتقدت حديثنا يا نيلية ..ألم تخبركِ حسناء شيئاً عن ريان ؟! أكاد أجن ..لماذا لا يرد علي ؟! اسأليها بالله عليك فشعوري أنها تخفي عني شيئاً بشأنه.

لايزال الرد لا يصله لكنه يستمر في مراسلتها وهو يستند بمرفقيه على سياج "كورنيش النيل":

_مالك؟! لماذا تتباعدين ؟! طالما كنتِ تقولين أنني "بدربي في جهاد وأنك بحبنا في جهاد " ..فلا تجمعي عليّ "الجهاديْن "يا غالية !..حبك كان غنيمتي الباردة وهبة القدر التي لم يطلب لها فاتورة سداد ..أنت صديقة قلبي قبل أن تكوني حبيبته ..فلا تثقلي عليّ بتباعدك ..خاصة هذه الأيام ..كلانا ساقه مكسورة فليكن أحدنا لصاحبه إذن عكازه .

_ضائع يا زهرة ..ضائع كما لم أكن من قبل ..لم أشعر بالغربة في حياتي كما أشعر الآن ..كوني وطني كما عهدتك يا نيلية ..

_أنت زعلانة مني؟! هل فعلت ما يسوؤك ؟! منذ متى تخفين هذا عني ؟! منذ متي يسبق عقابك عتابك ؟!

رسائله تتوالى متعاقبات ..
حروف بعض كلماتها مبعثرة بفعل سرعته في كتابتها لكنه كان يبدو وكأنه ينفث عبر رسائله دخان احتراقه ..

زفيره الحار يتشكل في الهواء البارد فيبدو له كأنشوطة تحلق حول عنقه تزيده اختناقاً ..

لا!
لن يستسلم!
هو اختار أن ان يكون فارساً فوق جواد الحق ولن تروعه مشاق الطريق ..
لن يسقط من فوق جواده ..لن يفعل ..

لهذا يعاود الكتابة لها وقد نحى العتاب جانباً مكتفياً بالشيئ الوحيد الذي صار يثق فيه ..حبهما !

_أشتاق لرؤيتك في ثوب الزفاف الذي اشتريناه ..تزوجيني يا زهرة ..تزوجيني وأنجبي لنا عشرة أبناء يكونون أهلنا ونستغني بهم عن كل من خذلونا ..اسكبي روحك في روحي كي تمتزجا للأبد ..تقوّي بي كما أتقوّي بكِ ..

لا تزال رسائله معلقة دون رد لكنه يعاود الإرسال بإصرار وقد اكتسبت كلماته بعض المرح الذي جاهد نفسه للاحتفاظ به :
_ردي يا "بنت" ..معقول أنك مشغولة لهذه الدرجة؟! عزيز ذكرني اليوم ب"الدلعونا الفلسطينية" وأنتِ تذكرينني بهذه الكلمات ..

مرقت من حدّي وقالت لي مرحب *** حسّيت بجسمي كأنو تكهرب

دخيلَك ترحم دخلك يا أرنب *** قلبي ما تصيّد غيرك حسّونا

اسقيني من دلوك يا حلوة اسقيني *** لو إني ميّت شوفك يحيني

والله يا بنيّة لو جافيتيني *** لأظُربك طلق بينٍ العيونا!

يعيد كتابة الكلمات الأخيرة مرتين يتخيل ضحكتها وهي تقرأها ثم يعاود التنهد بحرارة وهو يتلفت حوله بعجز ..
لماذا لا ترد؟!



يرمق النيل المظلم بنظرة أخيرة والدقائق تمر ثقيلة في انتظار ردها الذي لا يأتيه ..
لا ..لن يحتمل أكثر!!

يشير نحو سيارة أجرة قريبة ليعطي السائق عنوان بيت حسناء الذي توقف تحته للحظات قبل أن يرسل لزهرة :

_انا تحت بيت حسناء ..يمكنني أن أراكِ؟! لا تكلفي نفسك بالخروج فقد تأخر الوقت ..اخرجي لأي شرفة او نافذة ..

الريح الباردة تصفع وجهه وجسده ورأسه معلق بالأعلى ينتظر رؤيتها في أي وقت ..
لكن الوقت يمر ولا يصله منها سوى رسالة تشبه الجو الصقيعي حوله :

_عدنا متعبتين وأنا الآن في الفراش شبه نائمة..اذهب من فضلك وغداً ألقاك في حفل زفاف صديقك ..بيننا أمور كثيرة تحتاج أن تحسم .
======
*أحمر*
======
_ماشاء الله لا قوة إلا بالله! لم أرَ يوماً عروسا أجمل منكِ!
تهتف بها هبة بعينين دامعتين وهي تميل عليها وقد جلست يسرا على مقعد العروس الذي تولت هبة تزيينه ببساطة تشبهها ..
فترتجف شفتا يسرا بتأثر وهي تتأمل المكان حولها ..
إبراهيم أصر أن يفصل حضور النساء عن الرجال فاختارت هي أن يكون سطح بيت هبة مجلس النساء فيما أخلى الحرافيش شقتهم لتكون مجلساً للرجال ..
هذا السطح الذي اعتبرته "مهد" حياتها الجديدة ..
رائحة آسرة تغازل أنفها هي مزيج من رائحة زهور هبة ورائحة نعناع طازج لا تدري إن كان موجوداً حقاً أم أن خيالها ما استحضره ليتم كمال الصورة !
عيناها تجولان بين الوجوه البسيطة الضاحكة ..
أكفهم التي تصفق بحرارة مع أغنية إسلامية دون لحن اختارتها هبة بعناية وفقاً لمعتقداتها الدينية ..
عيونهم التي كانت ترمقها بين افتتان وتفحص ..بعض التوجس وبعض الغيرة ..بعض الإشفاق وبعض العجب ..
اعتادت هذه النظرات في مجتمع (يسرا) القديم فطبيعة البشر لا تتغير ..إنما هاهنا تحس بمشاعرهم أكثر بساطة ..أكثر عفوية ..أكثر دفئاً ..

_أنا الأخرى لم أرَ نفسي أجمل مني اليوم !
تهمس بها أخيراً بحرارة صادقة وهي لا تزال تقلب بصرها بين الوجوه ..
خوفٌ غريب يلفها بعباءته وهي تخشى أن ينهدم عالمها هذا كله في لحظة واحدة ..
أناملها تتشبث بقماش ثوبها البسيط بقوة تكاد تجعده
فترفع عينيها للسماء برهبة ينقبض قلبها بمزيج شعورها بالذنب والخوف !
القمر يبدو لها شديد القرب ..شديد الضخامة ..حتى تظن نفسها لو مدت كفيها فستمسكه ..لكنها لا تشعر أنه قُرب وعد ..بل وعيد ..كأنه يوشك أنه يسقط فوق رأسها ..حتي غيومه بدت لها صفراء شاحبة كأنها تسخر من بياض ثوبها الناصع!

المزيد من خوف الفقد يملأ عينيها بالدموع فيتشبث كفها الحر بكف هبة التي انحنت عليها وقد روعها منظرها لتبتسم لها بمؤازرة هامسة:
_لا تخافي ..كلنا معك..كلنا أهلك .
_كلكم معي ..كلكم أهلي ..
همسها متحشرج بين تقرير ورجاء كأنها تستجدي وعداً لا يُخلف ..فتهز لها هبة رأسها تمنحها بغيتها ..
_ادعي لي ..ادعي لي بالفرحة ..بالأمان ..أنتِ عند الله أفضل مني .
_لا تقولي هذا ..لا أحد يعلم من الأفضل عند الله مقاماً ..القلوب خزائن مغلقة لا يملك مفاتحها إلا خالقها ..وظني أن قلبك جميل كوجهك ..وإلا ما كان مال له قلب الدرويش الذي زهد الدنيا كلها قبلك ..تستحقينه ويستحقك .

كلمات هبة تحشوها بالمزيد من شعور الذنب فيزداد كفها بها تشبثاً ..

_خالي قادم مع إبراهيم .
تهتف بها هبة بلهفة فرحة وهي ترى عبر سور السطح ربيع يغادر من بيته لبيتها حاملاً الدفتر الكبير فيختلج قلب يسرا بالمزيد من الخوف ..
زغاريد النساء حولها تعلو برايات الفرحة ..
وخفقات قلبها هي تعلو برايات القلق ..
دقائق تمر عليها ثقالاً حتى تراهما أمامها ..
ربيع بحنانه ..وإبراهيم بعشقه ..وابتسامة من كل منهما تساوي حياة !
إبراهيم الذي بدا لها في حلة عرسه كاوسم رجل عرفته في حياتها بل إنها في هذه اللحظة بالذات تشعر وكأنها ما عرفت رجلاً غيره ..
عيناها تتعلقان بابتسامته "التي لأجلها هي اكتملت" فتود لو تطير إليه تمطرها بالقبل ..
وفي مكانه كان هو يتفحصها بعينين هائمتين تطوفان فوق تفاصيلها طواف مجذوب فقد فيها عقله قبل قلبه ..
خاطفة ..ساحرة ..آسرة ..
كأن بين أحداقها ألف مغناطيس يشده بلا حول منه ولا قوة!
لو كان كل رجل يشعر بعروسه كما يشعر الآن فيا رحمة الله بكل عاشق !

_وقعي يا عروس .
صوت ربيع يحلق بينهما ونظراته العطوف تغشاهما فترتجف أناملها بشدة والقلم يكاد يسقط من يدها ..
ترفع عينيها من جديد نحو السماء برهبة كأنها توشك أن تصيبها بصاعقة ثم تضغط شفتيها بقوة والعرق الخفيف يبذر حبيباته فوق جبينها ..

صورة أمها فاقدة الذاكرة ..صورة حسام ليلة عرسهما ..صورة فهد الصاوي..صورة فادي ..كلها تتعاقب تباعاً تجلدها بسياط الذكرى ..
وأخيراً ..صورة ابنها يهوي من الشرفة ..يناديها مستغيثاً ..
لم تسمعه يومها ..لكنها الآن ..
الآن تسمعه !

_لماذا ترتجفين هكذا ؟! يالله! تبكين؟!
صوت إبراهيم القلق وهو يقترب منها ينتزعها من شرودها ..هبة تربت فوق كتفها بحنان بينما يتفحصها ربيع بخبرته التي تعجز عن إيجاد ثغرة شك يصرخ بها حدسه ..
لكنه يقول أخيراً بمرحه الحنون وهو يشير للناس حوله:
_هل ستوقعين أم ندع الناس بمظهرك هذا يقولون إنك مغصوبة؟!

_سمرا ..ماذا بكِ؟! ضايقك شيء؟!
همس إبراهيم بالغ العاطفة بالغ الرقة وبالغ الجزع يجعلها ترفع إليه عينيها بنظرة مذنبة ..

_قولي الحقيقة ..قوليها الآن ولا تخدعي أناساً كهؤلاء آمنوكِ على بيوتهم وقلوبهم ..
يهمس بها ضميرها واهن الصوت لترد عليه سراً :
_أقول ؟! أقول وأفقد كل هذا ؟! أقول وأعود لبيت الصباحي بغرفه الباردة !! لا والله أبداً ..فليعش الوهم مادام أرحم بنا من الواقع..ربما لا تنكشف الحقيقة أبداً ..ربما أعيش وأموت هنا بينهم (سمرا) حتى آخر لحظة في عمري ..وربما تنكشف الحقيقة يوماً ما لكن عزائي وقتها أنني لم أفرط في حياتي هنا برغبتي .

خاطرها الأخير يبسط سلطانه على يدها فتمتد أناملها أخيراً ..لتوقع العقد !!

صوت الزغاريد حولها يكاد ينتزعها من مكانها ..
بل ينتزعها فعلاً لتجد نفسها تقف تراقب الوجوه حولها بضياع..
قبل أن تستقر نظراتها فوق ملامح ربيع تسأله بتشتت:
_هكذا تم الأمر ؟!
_مبارك.
يقولها وهو يومئ برأسه إيجاباً فتقترب منه دون وعي تردد بصوت مرتعش كأنها لا تزال لا تصدق:
_هكذا تم الأمر ؟!
ثم تلتفت نحو إبراهيم الذي تلون وجهه بين عاطفته وخوفه عليها مردفة:
_صرتُ لك ..صرتَ لي ..
لهفتها المشوبة بعاطفتها تمسه خاصة وهي لا تتصنع الخجل كعهد النساء في موقف كهذا بل تغلبها عاطفتها الجموح التي تعجبه عفويتها ..
انفعالها يحركها دون قيود وهي تقترب من ربيع أكثر قائلة:
_الآن يمكنني فعل هذا دون حرج ؟!
يرمقها ربيع بنظرة متسائلة عما تقصده لكنها تجيبه عملياً وهي تلقي نفسها بين ذراعيه !!
وجهها المزروع على صدره يتنفس أخيراً "عطر أبوة"!!
كيف يمكنها الآن أن تذكر رفعت الصباحي فلا تملك له ذرة ود ؟!
أبوها؟!
وهل الأبوة اسم في شهادة ميلاد؟!
الأبوة نفحة من جنة أمان ..مذاق عطاء حلو لا تشوبه قطرة مرارة وشهيق سكينة دافئ لا يقطعه زفير ..
هذا -بالضبط- الذي تعرفه الآن معه دون قيود !

وأمامهما كان إبراهيم يشعر بالاضطراب كعهده كلما رأى تقاربها من والده لكنه الآن يملك الحق لينفذ ما يريد ..فليفعله!!

تشهق بدهشة وهي تجد كف إبراهيم يحط على كتفها فترفع عينيها إليه لتفاجأ به يشدها نحوه بين رفق وتملك ل..يضمها لصدره!!

دوار!
دوارٌ لذيذ يعصف بخلاياها وأنفها يطارد رائحته عبر هذا القرب ..
كم تشبه رائحة ابنها الراحل ..
كأنهما تفيضان معاً من نفس النبع ..نبع البراءة !
لهذا لم تشعر بأناملها وهي تتشبث بقميصه بقوة زلزلته هو مكانه !!
لا يصدق أنها أخيراً صارت له ..بين ذراعيه اللذين اشتدا حولها لا كسجن ..بل كوطن !
لأول مرة لا يلجم شعوره نحوها بل يطلقه حراً في عناق قوي وقبلة دافئة فائضة العذوبة حسدت عليها جبينها وهو يهمس أمام عينيها برقة رجولية:
_دمتِ لي زوجة العمر كله!

العندليب الأخرس في عينيها يتحرر للحظات ..يحلق فوق غصن فرحته حراً بحديث تبدو أبجديته شديدة الخصوصية بينهما ..لكنه يعود لغصن خوفه من جديد ..
شدوه لايزال مختنقاً بلوعته ..!!

زغاريد النساء حولها تنتزعها من فورة عاطفتها فتبتسم ..
ابتسامة مرتجفة سمحت لنفسها أخيرا بها وهي تضطر لترك دفء عناقه لكنها تتأبط ذراعه بفخر لتتحرك معه نحو شقتهما في بيت ربيع ..
فخر حقيقي كأنما في هذه اللحظة قد حيزت لها الدنيا بحذافيرها !
تهبط معه الدرج ولم يكادا يصلان للشارع حتي فوجئا بعرض "الحرافيش" مع أصحابهم ..

(فرح اسلامي ..مش اسلامي مالناش فيه! هنفرح بالدرويش بطريقتنا ..ياللا يابني)

هتافاتهم المرحة تنتزع ضحكة صافية منها وهي تراهم يسحبون إبراهيم المستاء من جوارها والذي لم يتركه أبناء عمه قبل أن يجعلوا ضحكاته تتعالى وهو يشاركهم الرقص علي واحدة من أغنيات "المهرجانات " كما يدعونها ..
ضحكته تزرع ألف جنة من ورد بين ضلوعها وهي تراه منطلقاً في الرقص معهم بعفوية لذيذة محببة ..
الأنغام شديدة الصخب بصبغتها الشعبية تنبعث حولها لكنها على العكس تبذر داخلها سكينة بلا حدود ..
سعيدة ..!
سعيدة بهذه النظرة في عينيه -حبيبتيها- واللتين لم تهجرانها لحظة كأنه لا يرى سواها حتى وسط هذا الجمع ..
سعيدة به ..وله!
تشعر بذراع ربيع على كتفها فتلتفت نحوه قائلة بانفعال عاطفي حار:
_كيف أجزيك عن كل هذا الذي منحته لي ؟!
ليصلها صوته بين وقاره وحنانه:
_بل كيف أجزيكِ أنا وقد أعدتِ لي ابني الذي كان قد ضاع ؟!
تسبل جفنيها علي حدقتين صارختين بمزيج الذنب والخوف فيردف وهو يربت على كتفها:
_أنتِ أمانة ابني وهو كذلك أمانتك ..احفظيه وأعدكِ أن يحفظك !

تدمع عيناها اللتان رفعتهما نحوه لتمنحه ابتسامة بمذاق الوعد ..!

_را ....را ...!
بصوت سامي تسمعها ولايزال ينطق اسمها بهذه الطريقة كأنما فطرته النقية توقفت علي القاسم المشترك بين الاسمين (يسرا )و (سمرا)..
فتضحك ضحكة حقيقية خالصة وهي تنحني لتحمله ..لا تستجيب لاعتراض سندس :
_اتركيه ..الثوب قد يتسخ ..
تقبله وهي تشم رائحة شعره بقوة لتهتف بعدها بحنان منطلق:
_أعجبتك البدلة؟!
يهز لها الصغير رأسه بحركات تفضح تعلقه بها وهو يستفيض في مدحها بكلماته الطفولية ..
لتخاطب سندس ربيع بقولها وهي تدور حول نفسها :
_رأيت ثوبي يا مستر ربيع؟! سمرا اشترته لي مع بدلة سامي ..لم تنسنا وسط زحام انشغالها .
يبتسم ربيع برضا وهو ينقل بصره بينهم ليأتي إبراهيم أخيراً وقد تخلص من الحرافيش ، يحمل عنها سامي ليقبل رأسه ثم يعيده أرضاً ..لكن قيس يتقدم هاتفاً بحماس وهو يرفع كاميرا خاصة :
_موعد التصوير ..هيا ابتسما .
_لا داعي ..تكفينا صور الاستوديو .
يقولها إبراهيم باعتراض لكن يسرا تميل عليه قائلة برجاء:
_دعه يصور ..يصور كل شيء ..لا أريد أن تفوتني تفصيلة واحدة من هذه الليلة ..
ثم تلتفت نحو قيس مردفة بانفعال حار :
_صوّر ! صوّر كل الناس ..صوّر كل شيء ..كل شيء ..هذه الليلة خلقت كي لا تُنسَى!
يهز إبراهيم كتفيه باستسلام لهذه البراءة الجامحة -كما رآها- وهو يستجيب لرغبتها فيما كانت تشعر هي كأنها تلهث مطاردةً كل هذه الفرحة ..
كف إبراهيم في يمناها ..وكف سامي الصغير في يسراها ..
وربيع يقف كسند في ظهرها ..
وأمامها سندس ترمز لبرعم صغير تمنت لو كانت مثله تملك المزيد من العمر ل..تتفتح !
======
_اعتنِ بها ..بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير .
يقولها ربيع وهو يوصلهما إلي شقتهما العلوية في بيته لينحني إبراهيم فيقبل يده باحترام فتقلده يسرا قبل أن تعانقه بقوة كأنها لا تصدق أن هذا صار فعلاً من حقها !

يرمقهما ربيع بنظرة دامعة وهو يشعر أن العمر أخيراً بعد وفاة حسن وأمه قد أذن له بفرحة !
يلوح لهما بكفه وهو يهبط الدرج نحو بيته فيغلق إبراهيم الباب برفق ليلتفت نحوها ..
عيناه تفيضان بسيل من مطر ..وعيناها تنبتان جنان الورد ..
يقترب ..فتقترب ..
يزيح عن شعرها تاجه ثم طرحته قبل أن تعرف أنامله طريقها لخصلات شعرها الشقراء فتهيم فيها كحمائم عادت بعد طول غربة لوطنها ..
عيناه كعهدهما تبدوان لها كبئر عميق لا يلزمها معه سوى زلة قدم كي تسقط ..
لكنها هاهنا لا تسقط ..بل ترتقي!
تشعر بكل ذرة فيه تشتعل تأثراً بفتنتها لكنه مع هذا يقول بصوت مرتجف :
_فلنصلّ ركعتين أولاً..هذه هي السُنّة كي يبارك الله لنا .

يرتجف جسدها وهي تجد نفسها رغماً عنها تقارن بينه وبين من سبقه ..
في كل من زيجاتها الثلاث لم يفعل أحدهم هذا !
لا تتصور كيف يمكنه جمح رغبته الجامحة فيها هذه -كجواد طليق -كي يصلي ما ليس بفرض!

تطيعه مأسورة بهذا الشعور الذي يغمرها من رأسها لأخمص قدميها ..
ينتهي بها المقام خلفه لتسمع صوته وقد بدا في الصلاة ..
رجفتها تتحول لرعدة قوية تسري بين أوصالها..
كيف يمكن أن يمتزج الوهن بالقوة في قلب كقلبها الآن ؟!

كيف يمكن أن تقارن بين حياتها قبله وبعده ؟!
كيف يمكن أن تساوي بين عمر وعمر؟!
سجدة قصيرة تودع فيها دعاءها لخالقها :
_لا تغضب عليّ ..لا ترفع سترك عني ..لا تحرمني كل هذا النور ..دلني للطريق وسأسعى ..سامحني واجعل عفوك أقرب إليّ من عقابك .

دعاؤها مشوش مهتز ..إنما صادق !
تنهي صلاتها خلفه ليلتفت إليها فيمد نحوها يده ليقف ويوقفها معه ..
يرفع أناملها ليهمس بعمق عاطفته :
_لم ألبسك دبلتك بعد ..كنت أنتظر أن نكون وحدنا !

تزدرد ريقها وهي تنتبه لما يحكي عنه ..كيف لم تنتبه -امرأة بتاريخها- لتفصيلة كهذه ؟!
تراها فقدت كل شغفها القديم بالمظاهر؟!

يمد يده في جيبه ليستخرج منها هذه العلبة الصغيرة التي حوت دبلتها البسيطة ،يلبسها إياها ثم يرفع راحتها لشفتيه ،يقبّل موضعها بتقديس ..
لتدركها روحها قبل أن تسمعها أذناها:
_أنتِ أول امرأة تسكنها شفتاي!

"تسكنها شفتاي"!
التعبير علي بساطته يأسرها !!
يدوخها بمزيج شعورها بالفخر ..والذنب!!

لم تكن أول امرأة في حياة حسام ..ولا فهد ..ولا فادي ..
كلهم كانت لديهم محطة متأخرة في قطار غادروه متعجلين غير عابئين بها!!

تباً للمقارنة!!
لا ..لا ..لا ..
لن تقارن من جديد !!
هذه الليلة بالذات لن تستسلم لمقارنة !
فليكن رجلها الأول كما هي امرأته الأولي!!

_وأنت اول رجل يسكنه قلبي !

همسها الخفيض القوي يخترقه كسهم جديد من سهامها القرمزية بينما تتلاشى أفكارها وعاطفته تجذبها لهذه الدوامة اللذيذة بين ذراعيه ..
شفتاه تدللانها بهذا الغيث الكريم فترده له بغيث أكرم ..
تشعر به يحملها نحو غرفتهما فتحمله هي الأخرى لبحر هائج من أحاسيس يجربه لأول مرة ..
كانت تظن أنها ستستغل خبرتها لتمنحه كمال سعادة في ليلة كهذه لكن الغريب أنها نست في لحظة كل ما -ومن- قبله!
عقلها قبل قلبها وقع وثيقة استسلام للواقع الجديد ..
ما قبله عدم وما بعده له ..له وحده !!
جسدها لم يكن يدعي عذرية ..بل كان يعيشها حقيقة..حقيقة لا كذباً!!


القارب المجنون يقذفهما أخيراً نحو شاطئ السكينة بعد رحلة عاصفة ليصلها صوته الدافئ مثله لايزال يلهج بعاطفته:
_أنتِ بخير؟! هل آلمتك ؟!

_أخشى أنني أنا من ستؤلمك !
نطقتها كل جوارحها -عدا شفتيها- وهي تستكين بين ذراعيه لتجهش فجأة في بكاء حارق يجعله يضمها إليه بقوة وهو يربت على ظهرها هامساً بجزع:
_لهذا الحد كنت ..
لكنها تقاطعه وهي ترفع إليه عينيها هامسة بانفعالها الجموح الذي يثير إعجابه :
_قل إنك سعيد بي كما أنا سعيدة بك ..قل إنني منحتك ولو ذرة مما منحتني انت إياه ! قل كل الكلام الذي ادخرته لي !

يبتسم وهو يمسح دموعها بأنامله لكنها تجذب رأسه لصدرها تعانقه بقوة وهي تنشق عبير رائحته شبه المهووسة بها ..فتصله عاطفته بين همسه وقبلاته :
_ماذا أقول ؟! بل ماذا أخفي؟! أحكي لكِ عن رامية قرمزية السحر أصابني سهمها من أول مرة فلم أرجُ منه شفاء؟! أم أحكي لك عن درويش أرهقته الدنيا حتى زهد الحياة فوجد فيكِ بعد الدنيا دنيا وبعد الحياة حياة؟! تسألين لماذا أنتِ؟! وودت لو أملك جواباً يرضي عقلي ..فقط في شأنكِ أنتِ لا يترك القلب للعقل أي سلطان ..أنت الأولي والأخيرة ..القاهرة الجامحة الآسرة دون سبب ولا عجب .

تضم رأسه لصدرها أكثر وكلماته تقذفها بين موج وموج ..
كيف تخبره أنها -وهي التي سمعت من كلام الغزل أفخمه وأدناه ،أرقاه وأفحشه-لم يؤثر فيها يوماً حديثاً كحديثه؟!!

تشعر به يرفع رأسه نحو عينيها فتعيده لصدرها كأنها تحيط بذراعيها كنز عمرها كله ..تهتف بانفعال هستيري لم يعد يتعجبه منها:
_أحب رائحتك..أحبها جداً ..ابق قليلاً ..بل ابق طويلاً ..ابق للأبد ..

عبارتها لا تبدو له مثيرة لرجولته بقدر ما تبدو له كطفلة تتسول عاطفة بخل من قبله بها عليها ..
لماذا تتصرف بهذه الطريقة كأنها محرومة !
عناقها لأبيه ثم الآن له يفضح حرماناً تعوي به روحها في صحراء فقد موحشة !
هذا الذي يجعله يستجيب لرغبتها مكتفياً بضمته الرقيقة لها ..أنامله تربت على ظهرها للحظات حتى يشعر بهدوء جسدها المتشنج فيهمس لها بترقب:
_وأنتِ لن تحكي؟!
_عماذا؟!
شحوب صوتها يصيبه بالمزيد من سهام الشفقة خاصة وهي تردف بصدق مس قلبه:
_حياتي قبلك لم يكن فيها ما يستحق الحكاية ..أنا ولدت يوم عرفتك .
_وأنا سأجدد عهدي معك كل ليلة قبل أن ننام .
يهمس بها بحزم حنون يشبهه وأنامله ترسم خرائط حب فوق ظهرها ..
لتجد الجرأة أخيراً فتحرر رأسه الذي رفعه نحوها ليقبل عينيها بعمق هامساً ب"عهدهما الأثير" الذي ختمه بإضافته :
_أعدك أن أسمع حين يسد الجميع آذانهم ..أن احنو عندما يقسون ..ان أرحم عندما يرجمون ..أن أبقى حين لا يبقي أحد ..وأن أحبك كما لم يحبك أحد .
همساته تذوب كالسكر بين شفتيها وجمر الهوي يشتعل من جديد بنار تدفئ ولا تحرق ..
عد يا نورس الحب المهاجر ..عد يا قوس قزح !
======
يفيق من نومته بعد وقت لا يتبينه ..لم تنقضِ الليلة بعد ..الليلة التي سقته فيها أعذب كئوس الغرام ..
يتفقدها جواره وهو يتوق لأن يحكي لها عن حلمه لكنه لا يجدها ..
يغادر الفراش ليبحث عنها خارج الغرفة فيختلج قلبه بتأثر وهو يراها ساجدة في مكانها تصلي ..!

_لا تعاقبني ..لا تعدني لسجني القديم ..أنا لا أقصد خداعهم ..أنا فقط لا أريد خسارتهم ..أنت وضعتهم في طريقي لتهديني فلا تردني لضلالي ..انت قضيت أن أحرم من ابني فلا تحرمني منهم ..

همساتها جمرات تلهب كيانها كله وهي تناجي الله في خلوتها ..
لاتزال لا تتقن كلام الدعاء المنمق فتكتفي ببوح صادق لمن لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ..
مذنبة واقفة في منتصف الطريق تخشى أن يدفعها اليأس فترجع ولا تملك الشجاعة كي تتقدم وحدها ..
(هم) سندها !
ليس إبراهيم بعشقه فحسب بل ربيع وهبة وسامي وسندس وكل الناس هنا الذين منحوها هوية حقيقية مهما ادعت الأوراق العكس!

تسلم من صلاتها وقد شعرت ببعض السكينة المشوبة بالذنب لكن عينيه تتلقفانها في وقفته ليرسما على شفتيها ابتسامة جبرية ..
يتقدم منها ليمد لها كفه ثم يحتويها بعناق دافئ سبق همسه:
_خفت عندما استيقظت ولم أجدك ..
ثم يلين صوته بضحكة هانئة:
_قلت (العروس هربت).
ضحكتها تداعب أذنيه وهي ترفع إليه عينيها هامسة بدلال أخفى بإتقان مشاعرها الحقيقية:
_لا تخف ..العروس "قاعدة علي قلبك" ..عساك أنت من لا تهرب !

مرارتها الخفية لا تصله وهو يقبل وجنتيها بعمق هامساً:
_الحمقى فقط من يهربون من الجنة والضالون يحرمون منها..ولست باحمق ولا ضال !

تبتسم وقد أعجبتها كلماته لتلمح هذه اللمعة الحقيقية في عينيه فتسأله باهتمام:
_لماذا استيقظت ؟! ظننتك لن تقوم قبل الفجر ..أقلقك صوتي؟!

لكنه يجذبها من كفها هاتفاً بلهفة:
_تعالي ..سأخبرك !

يزداد عجبها وهي تراه يطوق كتفيها بذراعه ليغادر بها الشقة ويزداد أكثر وهي تراه يصعد بها نحو السطح ..
يقربها من هذه الصبة الأسمنتية التي ارتفع فوقها هوائي الإرسال والتي بدا فوقها أثر طبعة قدم ..!

_هذا أثر قدم حسن ..هو من اشتري لي هذا من ماله وقد كان يعلم عن عشقي لمشاهدة مباريات كرة القدم ..اليوم رأيته في حلمي ..كان يقف هنا ..هنا مكانك بالضبط ..

يهتف بها بانفعال وجسده كله يرتجف بكلماته بينما يحركها ليوقفها في المكان المنشود مردفاً:
_لم أره منذ مات بهذا الوضوح ..بهذه الضحكة الصافية ..كان يبار ك لي ثم فتح لي ذراعيه وأعطاني ..أعطاني طفلاً وقال لي هذا حسن !

ضحكتها تمتزج بدمعة حقيقية إن لم يكن تأثراً بانفعاله فمشاركة له في أمنيته ..
آه لو يكتب لها القدر طفلاً منه ..يمنح كليهما العوض !

تراه وقد أغمض عينيه كأنه انفصل تماماً عن الواقع ..
كأنه ما عاد يري سوى أحداث حلمه ..

شفتاه تدندنان بلحن قديم تعرفه لكنها لم تركز من قبل في معانيه ..

اهه ده اللي صار
وادي اللي كان
مالكش حق ..مالكش حق تلوم عليا ..

_اغنية وطنية قديمة كان يحبها ..كان دوماً يتغني بها هنا ..يالله! كأني أسمعها الآن بصوته ..


تلوم عليا ازاي يا سيدنا

وخير بلدنا مهوش في ايدنا

تلوم عليا ازاي يا سيدنا

وخير بلدنا مهوش في ايدنا

قولي عن اشياء تفيدنا

و بعدها بقي لوم عليا

اهو ده اللي صار

وادي اللي كان ملكش حق

ملكش حق تلوم عليا

مصر يا ام العجايب

شعبك اصيل والخصم عايب



خلي بالك من الحبايب.

دولا انصار القضيه..
اهه ده اللي صار وادي اللي كان
مالكش حق ..مالكش حق تلوم عليا ..

ابتسامتها تتسع مع خيطين رفيعين من الدموع وهي تشعر أنها حقاً تعرف معه الدنيا كلها من جديد ..
الدين ..الوطن ..والحب !!

نظراتها تزيغ وهي تتذكر- ذاك- الذي كانت تخفيه تحت تلك البلاطة في بيت سمرا القديم والذي حرصت ألا تتركه خلفها في بيت الصباحي مع ما تركته هناك من يسرا !
والذي لا تزال تحتفظ به ولا تعرف ما السبب !!

_فيما شردتِ؟! هل أثقلت عليك بالحديث؟!
ينتزعها بها إبراهيم من شرودها فتهم بالرد عليه لولا أن صدح الصوت فجأة :

_العريس والعروس واقفان علي السطح ليلة الدخلة ..اخس! ..عليه العوض !

تكتم ابتسامتها براحتها وهي تميز وجه قيس الذي عاد لينحني نحو الدرج مخاطباً أخويه الواقفين بالأسفل بقوله بنفس النبرة المتهكمة:
_قولوا لمستر ربيع أن يطمئن ..ليس لصاً ! لكن الحسرة أكبر ! العريس هنا يشم الهواء مع عروسه ..آه !!!

قبضة إبراهيم تنال من كتفه فيتأوه ضاحكاً بينما يتعالى صوت ضحكات شقيقيه من الأسفل ..
فيحمر وجه إبراهيم بمزيج من خجل وغضب وهو يهتف به :
_ولد! ولد! لا ينقصني تظارفك !
تشيح يسرا بوجهها كاتمة المزيد من ضحكاتها وهي ترى إبراهيم يدفعه أمامه على الدرج يكاد يسقطه ..
لتختلط أصوات ضحكات الحرافيش بمزاحهم المشاكس بالأسفل والذي لم تسمعه وإن خمنت طبيعته ..
أذان الفجر ينبعث أخيراً فتتنهد بمزيج من ارتياح ووجل وهي ترفع عينيها للسماء ..
هل تلمح وسط الغيوم طريقاً ؟!
أم أنها فقط تتوهم؟!
======





*نيلي*
======
مرغم عليك يا صبح ..مغصوب يا ليل
لا دخلتها برجليا ..ولا كان لي ميل ..
شايلينني شيل جيت أنا للحياة ..
وبكرة هخرج منها شايلينني شيل ..
وعجبي!
"صلاح جاهين"


الكلمات تطفو لذهنها فجأة وهي تتخذ مجلسها في ذاك المطعم المطل على النيل صباحاً تراقب صفحته بوجه بارد ..
هدوء موجه الساكن كم تراه يخفي في أعماقه؟!
تتنهد بحرارة وهي تعاود الترنم بكلمات جاهين وكل حرف منها يحفر داخلها ...مقبرة!

_صباح الخير .
صوته الحبيب بلكنته الفلسطينية يداعب أذنها فترفع زهرة رأسها نحوه ..
يمد يده مصافحاً إياها بلهفة وعيناه تعانقان ملامحها باشتياق عاتب فترد له تحيته بفتور ..
يجلس أمامها على المائدة ليسألها بعتاب حانٍ مشيراً لكتفيها :
_أين شالك ؟! لماذا لا ترتدينه؟!
_هو شالك أنت .
تقولها بنبرة غامضة مشيرة ل"الشال الفلسطيني" الذي وضعه يوماً على كتفيها والذي يشبه خاصته الذي يرتديه دوماً كرمز لهويته ..

_ظننتنا واحداً..أنا وأنت!
يقولها بنفس النبرة العاتبة المختنقة فترتجف ابتسامتها وهي تطرق برأسها لتغير الموضوع بقولها:
_أنت غاضب مني لأنني لم أستطع حضور زفاف صديقك بالأمس ..أخبرتك أن حسناء تعبت فجأة واضطررت للبقاء معها .

_ماذا تخفين عني يا زهرة ؟! أخبرتكِ أنني لن أسامحك أبداً لو أخفيتِ عني شيئاً .
يقولها بضيق عاتب وهو يكاد يختنق بكل هذا الألم الذي تحمله روحه ..
لتتنهد هي بحرارة دون رد فيعاود سؤالها بقلق:
_هل قالت لكِ حسناء شيئاً عن ريان؟! بالتأكيد هي تعلم خبراً عنه ..أخبريني ولا تخفي شيئاً .

_الحقيقة موجعة يا جهاد ..كلنا نزعم رغبتنا في معرفتها لكن صدقني الجهل رحمة أحياناً.
حروفها الغارقة في مرارتها تجعله يمد كفه ليحتضن راحتها هاتفاً :
_هراء! أخبريني ما الأمر !

الدموع تملأ عينيها للحظات قبل أن تغلبها حروفها الشاحبة :
_تريد الحقيقة ؟! حسناً ! ريان هو من أبلغ إدارة المشفى بشأن القضية كي ينهوا تعاقدهم معك قبل حتى أن تثبت التهمة ..فعلها كي يحافظ على وظيفته هو ! لهذا لا يجرؤ على مواجهتك بخيانته!

_مستحيل! كذب! كذب! ريان لا يفعلها ..ريان ليس خائناً ..
يهتف بها رافضاً باستنكار وهو يضرب بقبضتيه على المائدة جواره فترمقه بنظرة مشفقة طويلة وهي تراه يردف بذهول :
_لم أكن أحمق طوال هذه السنوات التي اعتبرته فيها صديقي المقرب بل أخي وكل أهلي ..لم أخطئ الحكم ..لا ..لا ..لم أكن مخدوعاً ..
_ليس وحده !تلك الجماعة التي كنت تظنها خيرية وتدعم وطنك واكتشفت مؤخراً أن لها نشاطاً إرهابياً سرياً وكدت تقضي بقية عمرك في السجن بسببها! يبدو أنك فعلاً حسن النية سهل التصديق ..ومثلك يكون الهدف الأمثل كل مرة لاستقبال سهام الغدر .
تغمغم بها بنبرة غريبة على أذنيه وهي تشرد في الفراغ لينعقد حاجباه بغضب وهو يهتف بها بانفعال:
_إنها المرة الأولى التي تتحدثين فيها عني بهذا الانتقاص وكأنني غرّ ساذج ينتظر كل من هب ودب ليصفعه على مؤخرة رأسه !

تدمع عيناها بقوة وجسدها يرتجف بشدة وصلته مكانه ..كلماتها تبدو مثله مختنقة وهي تغمغم بين اعتذار وأسى:
_آسفة! لكنني حقاً أريدك أن تفتح عينيك ..دور الفارس جميل لكننا لسنا على مسرح ..نحن أمام أناس حقيقيين يصارع شرهم خيرهم ..أمام ضغوط حقيقية لا تحتمل المثاليات الفارغة .

يرمقها بنظرات مصدومة وهو يغمغم مصعوقاً:
_لا أصدق أنكِ أنتِ بالذات من تقولين هذا الكلام ! أنتِ التي انتظرتِني لسنوات طويلة دون أي وعد بيننا سوى إيمانك بحبي !

فتزدرد غصة حلقها وهي تتمتم بصوت مرتعش:
_ربما كان هذا هو السبب؟!
_ماذا تقصدين؟!
حروفه مصبوغة بهذا الخوف الأسود وكفه يعاود التشبث بكفها بتملك فتسحب كفها منه لتخفي وجهها بين كفيها في نشيج خافت يجعله يشعر بالعجز مكانه وهو لا يفهم ماذا يحدث ..

_زهرة! أنتِ تحملينني مسئولية سجنك!! تعلمين أن الأمر لم يكن بيدي!
يهتف بها بزفرة مشتعلة وكفّاه يضربان وجهه بخفة بأسى حانق ليردف بنفس النبرة المختنقة:
_يعلم الله كم كنت أتعذب بذنبك في سجني ..لم أكن أخشى على نفسي بل كنت أخشى عليكِ أنتِ .

ترفع كفيها عن وجهها وعيناها ترنوان إليه بألم غير مسبوق لتهمس أخيراً:
_لو كنت حقاً تخاف عليّ أكثر من نفسك ..فأحلني مما بيننا !

طلقة غادرة!
كلماتها حقاً تبدو له كثاني طلقة غدر بعد صدمته في صديقه!!

لهذا ظل دقيقة كاملة يحدق في ملامحها التي بدت له غريبة كأنه لم يعرفها يوماً!!

_لا أفهم !..لا أريد أن أفهم!! ..زهرة !!أنتِ لا تقصدين فعلاً ما قلتِه!!
يغمغم بها بصوت ذبحته الصدمة تلو الصدمة ..
فيعلو صوتها بالبكاء من جديد ليخبط بكفه على المائدة بقوة هادراً بحدة:
_ماذا تقصدين أنت؟! ماذا تقصدين؟!
يكررها بانفعال يصرف إليهما أنظار الحضور لكن كليهما كان غائباً عن العالم بصاحبه ..لتهتف هي بنفس الانفعال :
_لا تكن أنانياً! لا تجعلني أندم أنني عودتك أن أكون دوماً الطرف المعطي في علاقتنا دون انتظار مقابل !
_أناني؟! أنا؟!
يتمتم بها وهو يهز رأسه غير مصدق لتهتف هي ملوحة بكفيها:
_أنت خسرت عملك لكنني لم أخسره ..ولم يعد بوسعي أن أخاطر بالبقاء هنا في مصر بعد مشكلتي مع أهلي ..هل فكرت أنه لو وشى بي أحد في عملي هناك كما حدث معك ماذا سيحدث؟! لو تناثرت الأخبار من المشفى الخاص بك لذاك الخاص بي أنك على علاقة بي؟!

يحمر وجهه بغضب مكتوم وعيناه تصرخان بمدى شعوره بالامتهان:
_هكذا؟! صرت الآن وصمة على جبينك تخافين أن تعيري بها؟! هذا كان سبب تباعدك عني طوال الأيام السابقة إذن ؟!

خيطا الدموع على وجنتيها يفضحان عجزاً يشبه عجزه وهي تطرق بوجهها قائلة بوهن:
_الثقل في قدمي يسحبني للقاع ولم يعد يحتمل المزيد ..فليمضِ كل منا في طريقه وحده ومن يدري ربما عندما ...

_وحده ؟! وحده ؟!!!
يصرخ بها بانفعال كانت هي أكثر من تقدّر حرقته مع علمها عن ماضيه لتهتف بتوسل حار:
_أرجوك يا جهاد افهمني ..أنا لا أخونك ولا أتخلى عنك ..أنا فقط أنقذ ما بقي لي من نفسي ..حقي أن أفكر في نفسي ولو مرة واحدة على الأقل في حياتي ..طوال هذه السنوات وأنا أعمل لأرسل راتبي وشقا غربتي لأهلي ..لم أدخر لنفسي قرشاً واحداً ..طوال هذه السنوات وأنا أحبك وأنتظر دون أن أطالبك بأن تتخذ أي خطوة ..لكن الآن الوضع اختلف .

_اختلف!!
يتمتم بها بذهول لا يزال يمنعه التصديق ليردف وهو يعتصر كفها في قبضته :
_"أنت بدربك في جهاد وأنا بحبك في جهاد "!!! ألم تكن هذه كلماتك ؟! ألم يكن هذا عهدك ؟!
_تعبت!
تهمس بها بصوت كسير وهي تغمض عينيها بقوة هاربة من جحيم نظراته عاجزة عن منع فيض دموعها لتقف مكانها وهي تحرر كفها منه مردفة :
_الحب وحده لم يعد يكفي ..دعني لمرة واحدة في حياتي أتخلى عن دور "النيلية" التي وهبت نفسها للعطاء وأجرب رؤية وجهي وحده في المرآة ..أرجوك! طريقي وحده شاق بما يكفي فلا تحملني مشقة طريقك هو الآخر !! هويتك تقف دوماً عائقاً في طريقك ولن أقضي العمر معك هاربة لاجئة تتقاذفني البلاد ولا وطن لي .

تقولها وهي تمسح دموعها الجاريات دون جدوى فيقف بدوره وهو يهتف بإصرار ذاهل:
_لا! لن أصدق !! لن أصدق !! أنتِ لن تتخلي عني بهذه البساطة!! أنتِ لستِ خائنة !! أخبريني ماذا يحدث معك !! هل عاد الوغد والدك يهددك؟!
_لا تشتم أبي!
تهتف بها بانفعال وهي تحرك سبابتها في وجهه مردفة:
_لا تجعلني أندم على البوح لك بأسراري!
تقولها وهي تجذب حقيبتها لتتحرك مغادرة لكنه يلحق بها ليقف قبالتها وهو يبسط راحتيه في وجهها هاتفاً بلوعة غاضبة:
_أعتذر عن الإساءة ! لكنني لن أتركك هكذا !! قولي ماذا يحدث!! بالله عليك قولي أي شيء ..لا تجعليني أفقد إيماني بك..لا تجعليني أفقد إيماني بالحب في هذا العالم!!

تعود الدموع لتتكدس في عينيها وشفتاها ترتجفان بهذه الطريقة التي يود لو يفتديها بعمره كله ..فيقترب منها خطوة مردفاً بنبرة أكثر رفقاً وبعض الأمل ينتعش في صدره:
_أنتِ غير جادة ..أحدهم أجبرك على فعل هذا !
تهز رأسها نفياً فيصرخ بها بثورة :
_أقسمي لي أنك اخترت فراقنا برغبتك !! أنك لست مغصوبة من أي شخص!

تصمت للحظات طويلة بدت له كدهر كامل ليمنحه هذا المزيد من الأمل لكنها تهمس أخيراً:
_أقسم أنها رغبتي أنا ولم يجبرني أحد ..كلانا كان الشخص الصحيح لصاحبه لكن العبرة دوماً في التوقيت ..وكل مواقيتنا تأتي دوماً متأخرة .
_كاذبة ! كاذبة!! لا أصدق كل هذا الهراء الذي تدعينه!! هذا مقلب من حسناء؟! نصحتك بهذا كي نعجل بزواجنا؟!
تهز رأسها نفياً وإشفاقاً على هذا الوجع الذي يفيض من ملامحه وتشاركه إياه ليعاود الهتاف وذراعاه يكادان يطولان السماء من فرط انفعاله :
_إذن هي أمك ! ظهرت من جديد !! طلبت منك أن تتركيني !!

_هي فعلاً ظهرت ! رأيتها يوم خروجي من السجن ..شبح متوارٍ خلف جدار يرمقني من بعيد بنظرة أسف واشتياق ..جريت نحوها لكنها اختفت فجأة ..ابتلعها الشارع الواسع بزحامه ..يبدو أنها لم ترد أن تكون حملاً إضافياً عليّ ..وليتك تفعل مثلها!!

لم يكن للألم أن يذبح حروفها أكثر ..
ولا قلبه كذلك!!
لكن الفارس يأبى أن يسقط من على ظهر جواده لآخر لحظة وهو ينتزع منها حقيبتها ليبحث عن حافظتها فيفتحها ..
_كاذبة!! كاذبة!! سأثبت لك !!
يبحث عن دبلته الملونة حيث اعتادت دوماً أن تحتفظ بها كبرهان على حبها الأبدي ..لكنها ..
لكنها لم تكن هناك!!

هنا يرفع عينيه نحوها ليغمغم بضياع عاتب:
_أين؟! رميتِها مع ما رميتِه؟!!

فتهز رأسها نفياً بجوابها :
_بل احتفظت بها بعيداً في صندوق ذكرياتي ! لن أنسى أبداً أن...
_ذكريات!! هل صار ما بيننا ذكريات بهذه السرعة؟! بهذه البساطة ؟!
يقاطعها بها بثورة عارمة وذراعاه تقبضان على ذراعيها دون وعي فلا ينتبه إلا لبعض الناس وقد تجمعوا ليبعدوه عنها بصخب تعالى هديره في المكان !!

_دعوني!! إنها زوجتي!! حبيبتي!!
يصرخ بها بهياج وهو يشعر أنه لا يدافع عن حقه فيها كامرأة ..بل كوطن!!
وطن حُرِم منه للمرة الثانية !!
وجهها الحبيب يختفي خلف حجب من حزن ولوعة وقد تلون في عينيه بصبغة الغدر ..
زحام الوجوه يحول بينهما والستار يلقي سدله بين قلبين تعاهدا يوماً أن يكملا الطريق ..!!

لا يدري كيف عاد للفندق ولا كيف الآن صار واقفاً أمام النيل في شرفة غرفته ..كعهده يرى على صفحته وجهها ..الآن معكراً بغدره !!

يبسط راحته على صدره وهو يشعر بقلبه يتمزق ..
دقاته تعوي ..تنوح بهذا الفقد الذي طالما تجنب الحب لأجله ..
كأنه كان يشعر أن نهايته بسيفه !!

أنامله المرتجفة تمتد لهاتفه يتصل بريان لكنه لا يرد ..
هل حقاً خانه كما خانت هي؟!
هل كان هو طوال هذه الفترة يؤدي دور المغفل الذي يرتدي ثوب الفارس يظن الناس يصفقون له عجباً بينما يضحكون عليه من خلف الستار ؟!!
يغمض عينيه بقوة على صورتها وذكرياتهما تتوالى له تباعاً ..
زهرته الرقيقة التي ظنها ستكون استثناء صحرائه القاحلة ..لم تكن سوى نبتة صبار خادعة آذاه شوكها!!
تخلت عنه في أول اختبار!!

صوت اتصال من الهاتف الداخلي لغرفته يقاطع أفكاره فيتجاهله لدقائق قبل أن يضطر لإجابته ..

_دكتور جهاد ..هناك امرأة تريد لقاءك هنا !

ينعقد حاجباه وهو يسمعها بصوت موظف الاستقبال ليهرع نحو الأسفل بلهفة لم يملكها ..
هل عادت معتذرة ؟!
هل كانت مجبورة؟؟

عيناه تبحثان عنها في بهو الاستقبال فلا يميز ملامحها ،يرمق موظف الاستقبال بنظرة متسائلة ليشير له لامرأة شقراء تعطيهما ظهرها وقد بدت بثوبها القصير العاري وطرازه أنها سائحة أجنبية..

_عفواً! هل تسألين عني؟!
يقطع سؤاله بشهقة مكتومة وهي تستدير نحوه ليميز ملامحها فيهتف باستنكار وعيناه تدوران فوقها بمزيج من غضب وصدمة :
_فدوى!
لكن صوتها يأتيه -بالفرنسية-بارداً إنما مشتعلاً بقسوة هادرة :
_بل يولاند يا جهاد ..يولاند !
=======


















*أزرق*
======
على مكتبها تجلس جنة تتابع آخر معطيات القضية التي تشغل بالها مؤخراً بخصوص ذاك "الكوبرا" وارتباطه ب"الحوت الكبير" الذي تريد الإيقاع به !!

الخيوط متشابكة ..تتلاقى في كثير من النقط ..لكنها تعود لتنقطع فجأة كأنه يدرك جيداً كيف يعرقل من يسير في الطريق إليه ..
أدلة كثيرة وأسماء أكثر ..لكنها تنتهي بلا فائدة!!
ولو!
لن تيأس!!
لقد وجدت طرف خيط واهن لكنها ستتبعه !!

تطلق زفرة ساخطة وهي تزيح الأوراق بعيداً لتجمعها ثم تفتح أحد الأدراج لتضعها فتتعثر أناملها بصورة حسن المقلوبة على ظهرها والتي لا تزال تحتفظ بها هنا ..

تبتسم دون وعي وهي تدعو له بالرحمة ..تعتبر رؤيته الآن شارة لها بالمضي في الطريق الذي رواه هو بدمه وأقسمت أو تكمله ..
تدمع عيناها وهي تتذكر ما سمعته عن زواج إبراهيم شقيقه ..لم يدعها للزفاف ولم تنتظر منه فعلها لكنها علمت التفاصيل ..فتاة مسكينة بلا أهل ولا سند تزوجها بعدما ساعدها في محنتها ..صحيح أنها تعجبت الأمر في البداية مع ما كانت تعرفه من عزوفه عن الزواج بل والدنيا كلها ..لكنها عادت لتقنع نفسها أنه حتى في زيجته هذه كان بطلاً كأخيه فلم يبحث عن حسب ولا نسب بل تزوج من رق لها قلبه كي يسندها في وحدتها وظروفها ..

تسمع رنين هاتفها برقم فهد فتعيد الصورة مكانها بسرعة قبل أن تغطيها بالأوراق لترد بسرعة:
_حالاً ! سأنزل حالاً!!

تقولها ثم تقوم لتعدل ملابسها قبل ان تتحرك لتغادر ..تلقي التحية على مساعدها ثم تغادر المكتب لتجده ينتظرها في سيارته ..

تبادره بقبلتين على وجنتيه يبتسم لهما بشحوب فتغمزه هامسة بدلال:
_قبلتا الصباح لك ..وقبلتا الليل لي .
_طوال عمرك عادلة يا أستاذة .
مزاحه يمتزج بحزن غريب تشعر به يجتاحه منذ أيام لكنه يرفض البوح به رغم محاولاتها العديدة ..

_لوكا عند رحمة ..ماسة طلبت مني تركها مع ضياء ونور وميادة هناك ..وجدتها فرصة لأختلي بكِ.
حتى غزله يفتقر لروح المشاكسة التي تميزه ..
فتتنهد بدلال وهي تتأبط ذراعه هامسة:
_وأنا معك ! بشرط ..!
يرمقها بنظرة متسائلة فتعانق نجوم ليله الأسود في عينيه وهي تمسد شعره بأناملها الحرة مجيبة:
_تفتح لي قلبك فاطمئن على آخر أخباره .

_كنت سأفعلها على أي حال !
يهمس بها بغموض وهو يتحرك بالسيارة فتلقي رأسها على كتفه وهي تحتضن ذراعه بذراعيها ..تغمض عينيها هامسة :
_اليوم كنت أفكر فيك ..وسط كل تفاصيل العمل الشاقة ..وسط كل انتصاراتي وإخفاقاتي ..وسط الصراع بين الحق والباطل ..القوة والضعف ..كنت أتشبث بصورتك ..
ثم تفتح عينيها ليتلألأ وهج البندق فيهما باستطرادها:
_أنا خبأتك بين ضلوعي كنز العمر ..خيمتي الصغيرة التي تسعني من وحشة الصحراء حولي ..وسمائي التي لن تمل أبداً من طول تحليقي مهما شردت بي أجنحتي .

تشعر بجسده يرتجف وهو يزدرد ريقه بتوتر وصلها مكانها رغم مزاحه المصطنع:
_أدام الله علينا رضا الأستاذة .

تتفحصه ببصرها للحظات تؤكد شكها ثم تسأله بفضول:
_إلى أين؟!
_إلى المكان الذي أستطيع فيه التحدث معكِ!
ينقبض قلبها للنبرة المتهالكة التي يتحدث بها لكنها تؤثر الصمت مكتفية بعناق ذراعه وهي تحط برأسها فوق كتفه ..

تتسع عيناها بإدراك وهي تميز قربهما من المكان المنشود ..
يالله!!!
لايزال يذكره بعد كل هذه السنوات !!

يرتعد جسدها للذكرى وهي تمد أناملها ببطء تتحسس ندبة ذقنه التي أحدثتها بنفسها تلك الليلة ..في نفس المكان .
تشعر بتوقف السيارة فترفع إليه عينيها هامسة بحيرة :
_لماذا يا فهد؟! ما الذي ذكرك بهذا المكان اليوم ؟!

يصمت قليلاً ليهرب بعينيه منها قائلاً :
_ربما يكون من الرشد أحياناً أن نعود للبدايات كي لا ننسى .

تحدجه بنظرة متفحصة للحظات ثم ترفع كفه لشفتيها تقبله بعاطفة قائلة:
_تعرف ما هي أكثر القصص التي تستفزني في الأفلام والواقع ؟! البطل الذي يخفي شيئاً عن حبيبه بدعوى التضحية والخوف عليه ..الحب الحقيقي شمس لا تعرف حياة الجحور ..فلنتألم معاً لنعيش معاً أو نموت معاً .
_وكأنك لم تفعلي هذا يوماً؟!
يهمس بها عاتباً لترد بنفس الحماسة الفائرة :
_لم أفعلها زهداً فيك ولم أكن لأتخلى عن حقي فيك أبداً..فعلتها لأعود أقوى ..فعلتها لأحمي ابنتنا وحبنا ..لكنني لن أناقض نفسي كي لا تتهمني بالغرور ..حسناً..فعلتها ..والآن أجد الشجاعة لأعترف بندمي على فعلها .

يشيح بوجهه دون رد لكنها تحيط وجنته براحتها لتجبره على النظر إليها هامسة :
_ما الأمر ؟! هل ستجد الجرأة لتستمر في الكذب أمام عينيّ حبيبتيك؟!

يصمت للحظات يحسم تردده ثم يطلق زفرة استسلام وهو يخبرها بأمر بتول وذاك الفيديو الذي أرسلته له ..

تتسع عيناها بارتياع وهي تستمع منه لتشهق أخيراً بصدمة وهي تتشبث بكفه بقوة ..

_يالله!! يالله !!
تهمس بها بانفعال قبل أن يغلبها شعورها الأمومي نحوه فتحتوي رأسه بين ضلوعها بكل قوتها مردفة بألم:
_واحتملت هذا وحدك طوال هذه الفترة؟! لماذا لم تخبرني من يومها؟!

يبتسم لهذا الحنان الأمومي الذي يمتزج بقوتها والذي يعشقه فيها ليرفع إليها عينيه الدامعتين :
_صدقيني ..أنا نفسي كنت أحتاج الوقت لأستوعب أن الأمر حقيقي ..هل تتصورين أن تلتقي يوماً بميت بعث من قبره لتصطدمي بتشوه ملامحه وعفونة رائحته ؟! هذا بالضبط ما وجدتني أمامه ..لن تتصوري بشاعة المنظر يا جنة ..كابوس ..كابوس!!

صوته يتحشرج بلوعته فتعاود دفن وجهه في صدرها لتسمح له بما تعلم أنه يحتاجه في هذه اللحظة ..
البكاء على صدرها!!

البكاء الذي شاركته فيه رغماً عنها للحظات قبل أن تستدعي كل ذرة من قوتها لترفع وجهه نحوها ..
تمسح دموعه بأناملها لتغرق وجهه بقبلاتها هامسة بقوة :
_ضربة قوية لكنك أنت أقوى! أنت فهد الصاوي الذي أفخر وسأبقى أفتخر به ..أنت هزمت ماضيك مرة وتقدر أن تهزمه بعدها ألف مرة مادامت ماستك لا تزال داخلك ..وأنا معك !

قبس قوتها كعهده ينثر النور بين ضلوعه فيضمها هو إليه هذه المرة بهذه الطريقة التي تشعرها أنها تسكن روحه ..

_ماذا تريد تلك المرأة مقابل هذا الفيديو!
تسأله بقلق ليرد :
_أن تتركي أنتِ القضية ..تنسينها تماماً .

ينعقد حاجباها بتفكير وهي تغمغم :
_وإلا ستنشر الفيديو وتكون فضيحة لنا كلنا .
_بالضبط!
_لم تخبرك من أين حصلت عليه؟!
_هذا هو السؤال الذي أكاد أجن لمعرفة جوابه !! من الذي صور هذا الفيديو؟! ولماذا يظهر الآن ؟!

يزداد انعقاد حاجبيها للحظات ثم تهتف به :
_كلمها الآن ..أخبرها أنك رضخت لأمرها وأنني سأتوقف عن متابعة القضية ..
_وهل ستفعلين ؟!
_نعم ..و..لا!
تقولها بمكر ووهج البندق في عينيها يزداد ألقاً ليرمقها بنظرة متسائلة فتبادره بسؤالها :
_أنت لم تخبر أحداً سواي عن هذا الأمر ..صحيح ؟!
يومئ برأسه موافقاً فترد بغموض:
_يبدو أنك ستضطر لإخبار شخص آخر .
_لا تقولي : عاصي الرفاعي ..لن أجرؤ على مصارحته بشيء كهذا ..ولا حتى ماسة .
_لا ..ليس هو .

يحدجها بنظرة متسائلة أخرى لكنها تنتزع هاتفه لتناوله إياه قائلة :
_فيما بعد ..المهم أن تطمئن تلك السافلة ومن خلفها أننا استجبنا للتهديد ..وبعدها سنتولى نحن أمرنا ..

يطلق زفرة مشتعلة وهو يجد تفكيرها يوافق هوى في نفسه فيتصل برقم بتول ليصله صوتها العابث مرحباً بغنج مثير ..

_قبلت شرطك ..سكوت جنة مقابل سكوتك
_كنت أثق في ذكائك ..ألا يمكنني أن أطمع في مكسب إضافي؟! حلقة برنامجي التي كنت أخبرتك عنها ؟!
يغلق الاتصال في وجهها بعنف يساوي الجواب فتطلق ضحكة طويلة مكانها وهي تعيد هاتفها للكومود جوار الفراش الذي ترقد عليه شبه عارية ..
تستدير بجسدها نحو الرجل جوارها ..تتحسس أناملها الوشم المميز أعلى ذراعه لتهمس بدلال :
_كما خططت .
_لم أكن أتصور وأنا أعد الطُعم لأبيه منذ سنوات أنه سيكون من نصيب ابنه ..أحياناً أشعر أن القدر يكافئ مثلي على ذكائه بالمزيد من الفرص .
يقولها بصوته الخاص الذي يثير مزيجاً من الرهبة والرغبة في أوصالها لتقترب منه أكثر هامسة بتملق:
_من مثلك هم من يخلقون الفرص !
_تعجبينني!
يهمس بها باستحسان وهو يضمها إليه بعنف فتطلق ضحكة قصيرة وهي تداعب صدره بأنفها لكنه يشرد ببصره للحظات متمتماً بخفوت:
_بقي شاهد واحد يجب أن يقطع لسانه ..وبعدها ينام الكوبرا هانئاً في مخبئه !
======
_كيف حالك اليوم يا "قلبية الثغر"؟!
يهمس بها أديم وهو يتخذ مجلسه المعتاد جوار فراشها ..
يتفحص ملامحها التي غابت عن وعيها فلا يدري هل يغبطها على هذه النعمة ..
هل يود حقاً لو لا تفيق أبدا كي تبقى صديقه الكتوم الذي لن يفشي أبداً أسراره ؟!
أم على العكس يريدها أن تفيق وتعود لحياتها النظيفة التي اختارتها؟!


كم مر عليه من أيام وهو يزورها هاهنا؟!
لم يعد يذكر !!
كل ما يعرفه انه صار يقتنص الوقت الذي يمكنه فيه القدوم إلى هنا ..
يتحدث إليها بهذا الحديث الذي لا يستطيع البوح به لسواها ..
هو لم يعد يأمن صاحباً ولا قريباً ..
حياته كلها صارت خاوية من أي دفء بشري ..
حتى ديمة !!
لا يزال يراقبها من بعيد كي يحميها شر نفسها لكنه ما عاد يجسر على الاقتراب الذي يشعره بنفورها ..
كأنه اقتنع أن هذا عقاب القدر ..
أن يبقى منبوذاً وحيداً فحسب!!

_اليوم ذهبت للاستوديو الخاص بك ..كان مغلقاً لكنني رأيت الصور التي وضعتها في واجهته ..ليست لي دراية بفن التصوير ..لكن لفت نظري هذه الوضعية التي اتخذتها لمن تقومين بتصويره ..هذه التي تجعلينه فيها كظل أسود لخلفية ملونة ..بحثت عبر الانترنت وعرفت ان اسمه فن "السلويت" ..يقولون أنه فن خاص جداً..وأنا أحببته ..ربما لأنه يلائم شخصيتي كثيراً..يوماً ما عندما تفيقين سأطلب منك أن تلتقطي لي صورة "سيلويت" ..وربما أعلقها في مدخل بيتي كي أذكرك بها دوماً ..فلا أظننا سنلتقي بعدما تستعيدين وعيك .

يهمس بها بنفس الخفوت الدافئ الذي يسرها به كل مرة ..
يراقب ملامحها بنفس المزيج من شعوره بالذنب والشفقة نحوها ..
يهيأ إليه أن عينيها تفتحان ..شفتيها تبتسمان ..
أصابعها الرفيعة النحيلة تمتد نحوه ..تصافحه ..
فلا يدري هل يتمنى هذا حقاً أم أن الأفضل له أن تبقى على وضعها؟!

_جاري العجوز لا يكف عن سخافاته ..لا يزال يعلي صوت مذياعه على آخره في منتصف الليل ولو اعترضت يصرخ في (انت كافر؟! إنه يتلو كتاب الله ) وفي النهار على أغاني فايزة أحمد ووردة ولو اعترضت يصرخ فيّ (انت جاهل! ترفس النعمة ؟! لم يجئ ولن يجيئ صوت كفايزة ووردة !) ..
يهمس بها مقلداً صوت العجوز ثم يضحك بخفوت كأنها تسمعه ليردف :
_اشتريت السجادة الأثرية من الجاليري الذي حكيت لك عنه ..علقتها كستار في مدخل غرفة نومي..الصالون؟! ماذا أفعل بها في الصالون ؟!لا يزورني ضيوف في العادة ..كوبي الفخاري المفضل تكسر بالأمس ..لا أتفاءل بكسر حاجياتي المفضلة ..سلحفاتي الصغيرة غاضبة مني ..مختبئة داخل صدفتها ..حاولت مصالحتها لكنها تتدلل ..إحدى سمكاتي ماتت ..هذه الذهبية التي حكيت لك عنها المرة الماضية ..لكنني أحضرت لرفيقاتها واحدة أخرى ..هل حكيت لك عن هوسي بجمع الطوابع القديمة؟! لهذا قصة أخرى ..سأحكيها لك غداً فقد تأخر الوقت .

يبتسم أخيراً ابتسامة حقيقية وهو يشعر براحة حقيقية ..
ينهض من مكانه ليرمق وجهها المستكين بنظرة أخيرة ممتنة قبل أن يتحرك ليغادر ..
كأنه دخل بروح مثقلة وخرج بأخرى خفيفة !!
يوماً ما سيشكرها على هذا الدور الذي قامت به ولو دون قصد !!

يلمح حسام وقد أتى في موعده لزيارتها فيتوارى خلف أحد الأعمدة ..
صحيح أن بينهما حديث لم يكتمل بشأن الكوبرا لكنه لا يريد الاصطدام به هنا من جديد ..
لأجلها هي !!
كأنه كره أن يضايقها ولو في غفوتها بشجار مع رجل تحبه!!

يغادر مكمنه أخيراً وقد اطمأن ليهبط الدرج نحو الخارج حيث رصف سيارته ..
يستخرج مفاتيحه من جيبه فتسقط منه ولم يكد ينحني ليلتقطها حتى فوجئ بهذه السيارة المندفعة نحوه ..
يستقيم واقفاً بسرعة ليتفاداها لكن الحقيقة تبدو له واضحة وهو يميز نية سائقها ..
يسمع صوت الاصطدام مع شعوره بجسده يطير في الهواء قبل أن يصطدم ظهره بالأرض ..
أنوار مدخل المشفى تتلألأ في عينيه ببريق أكثر سطوعاً للحظات ..
قبل أن تتشوش ..
تتشوش ..
ثم ..تختفي تماماً..
======
_تظنين أنني احببتها؟! تظنين أنني قد أعرف هذا الشعور من جديد ؟!
يتمتم بها حسام في حديقة بيته أمام سلطانة التي التمعت عيناها في ظلمة الليل حولهما بينما أنامله تمسد عنقها ورأسها ..
عيناه شاردتان عنها وشريط ماضيه يقذف المزيد من الحطب فوق نيرانه ..
ملامح ديمة تتشكل أمام ناظريه وشعرها الأحمر يبدو له امتداداً لجحيم روحه ..
جحيم تطفئه ..عيناها!
زرقتهما القاتمة تبدو له كبحر هائج غامض يخيف الناظرين إلا من حلقة الزعفران الآسرة خاصته ..
تشتعل تارة كطوق من نار ..وتسكن تارة كجزيرة آمنة تعده بعد طول الغرق بأمان !

ليردف برجفة صوت واهنة سمح لها أن تغزوه :
_بل ..السؤال الأهم ..تظنينني أستحق؟!

تخفض سلطانة ذيلها في إشارة لتعاطفها الحزين معه وقد عادت أذناها للخلف مع لهاثها الخافت الذي بدا له مواسياً فضمها لصدره برفق وهو يردف :

_كل النساء في حياتي لعنة يا..كلهن ..فلماذا هي بالذات أتوقع أن تكون استثناء؟!
يطلق بعدها زفرة باشتعال روحه لتعود عيناه وترسمان ملامح ديمة من جديد ..

_لو رأيتِها كيف تبدو يا سلطانة! من أين لها بكل هذا السحر؟! رجلٌ مثلي لم تعد تغريه فخاخ الجمال في عيون النساء كيف علقت قدماي هكذا معها ؟! كيف تورطت ؟!

ينعقد حاجباه بشدة مع سؤاله الأخير ..
هو لا يعرف شيئاً عن ديمة سوى القشور !
المكان الذي تقيم فيه يبدو شديد الرقي ..من أين أتت بالمال؟!
ذاك المدعو أديم ..ألا يزال يساعدها؟!
لا يظن ..إذن ..من يساعدها غيره؟!
وكيف عرفت غازي هذا؟!
من أتي بها من بلادها للصعيد ؟!
غريب!
كيف لم ينتبه لكل هذا سوى الآن؟!

توتره ينتقل منه لسلطانة التي ازدادت وتيرة لهاثها وهي تمد قدمها للأمام لكنه يربت على عنقها برفق قبل أن ينهض من جلسته ليتناول هاتفه ..
يجب أن يعرف عنها كل شيء!

يبحث عن الرقم المنشود بلهفة لتهم أنامله بضغط زر الاتصال لكنه يتوقف في اللحظة الأخيرة ..!

لماذا تريد معرفة المزيد عنها؟!
لماذا تتجاوز بها علاقة محامٍ بموكلته؟!
لست رجل التذبذب والتيه ..احسم أمرك ..
حتى لو كان شعورك بها حباً ..هل تقوى على المخاطرة من جديد ؟!
هل هي من ستواجه الدنيا بها كعروس ..مشردة لاجئة لا أهل لها ولا نسب والأدهى ..كانت متهمة بقتل زوجها !
هل تريد "دمية معيبة" أخرى كدعاء تثبت بها فخر رجولتك؟!
هل تستحق أنت فرصة أخرى؟!
وهي؟!
هي هل تستحق "نصف رجل"؟!!

(نصف رجل ! نصف رجل!)

بصوت يسرا يسمعها من جديد تقذف المزيد من الحطب فوق نيرانه ..
ملامحه تحتقن بغضب مكتوم وأنامله المرتجفة تعيد هاتفه مكانه لجيبه ..
فلتبقَ بعيداً يا حسام ..وحدك على جزيرتك المنعزلة ..فلا يليق بك سواها !

هنا يعود ليلتقط هاتفه ..
ضحكة مصطنعة جذابة في صورة له مع سلطانة تعمد أن تبدي فخامة بيته ..ينشرها على حسابه ليكتب فوقها تعليقاً مرحاً ..
عيناه تتابعان التعليقات بنَهم معهود لكن الأرقام المتصاعدة لا تمنحه اللذة المعهودة ..
الأرقام تتشوش ..تتلاشى ..تزيغ ..
فلا يكاد يبصر سوى حلقة زعفران مشعة بدفء يفضح برودة دنياه!

نباح سلطانة يقاطع أفكاره فيلتفت نحو البوابة وقد رن الجرس ..
يبتسم وهو يدرك هوية الطارق مادامت سلطانة قد تعرفت عليه ..
يفتح الباب بترحاب خشن لكن ملامح الزائر الشاحبة الصارخة بقلقها تجعله يهتف بقلق:
_ما الأمر يا فهد ؟!
======
*بنفسجي*
======
_كسبنا القضية ..يمكنك المرور على مكتبي الساعة (...) لننهي الإجراءات .

عيناها تحدقان في رسالته التي بعثها عبر الهاتف بمزيج من دهشة وضيق ..
لماذا لم يحدثها مباشرة واكتفى بهذه الرسالة الباردة ؟!
والأهم ..ماذا ستفعل الآن معه وبأي عذر بعد اليوم ستلتقيه؟!
ولماذا تفعل؟!

_لأنتقم!

تهمس بها بصوت مرتجف أمام مرآتها دون أن ترفع بصرها ..
لا تريد مواجهة أشباحها الآن ..
فليبتعدوا ..وليتركوها لشأنها ..لساعات فحسب!

تقرأ الرسالة مرة تلو مرة والغصة في حلقها تزداد مرارة ..
طيف أخبرتها بالحقيقة !
أخبرتها أنه كان ينتقم لها من بطش عاصي الرفاعي ..لكن هالة ما كان ذنبها هي وابنها ..بل وابنيها؟!
كيف لم يفكر فيهما في غمرة انتقامه ؟!
كيف؟!

تتحرك نحو خزانة ملابسها لتتناول حقيبة البروكار بلونيها الأحمر والأزرق ..
تتذكر يوم أعادها له ..
تغشى عينيها صورته والحقيبة تستكين بين ذراعيه قبل ذراعيها ..
تشعر بمذاق الأكل الذي أطعمها إياه الآن طازجاً برائحة شهية كما كان يومها ..
تجتر هذه النظرة "الآدمية" التي حفرت طريقها بين عينيهما ..

فتسيل الدموع على وجنتيها وهي لا تفهم هذا الشعور الذي يجتاحها نحوه ..
تشد أناملها فردة القرط البنفسجية في أذنها بقسوة تدميها دون وعي منها كأنما تذكر نفسها بالحقيقة الوحيدة التي تريد تصديقها ..هو عدوها ..عدوها فحسب ..!

_هناك نوع من العلاقات معقد جداً بين الكره والحب ..قرأت يوماً في كتاب أنه في إحدى الحروب انعقدت هذه العلاقة الغريبة بين الجنود وعدوهم ..أظنه كان روميل لو تسمعين عنه ..كانوا يكرهونه لكنهم يعجبون به ..يعلقون صوره في خزائنهم ..حتى أن قائدهم اضطر لاجراء علاج نفسي لهم قبل خوض المعركة ! ولا أظن علاقتك بحسام القاضي تختلف كثيراً!
_تظنين أنني بحاجة لعلاج نفسي؟!
_لا لا ..أنا لا أظن ..أنا متأكدة !

بصوت طيف العجيب الذي يمزج سخريته بعاطفته تسمعها كما كان منها ذات لقاء بينهما فتتنهد بحرارة وهي تمسح دموعها ..
نظرة لمرآتها تفتح عليها أبواب الجحيم !!

_مجنونة! هذه آخرتك؟! هاهي ذي آخر مرة سيلتقيكِ فيها ذاك الوغد ! بماذا ستنتقمين منه؟! ظننتِ نفسك ذكية بما يكفي لتدخلي لعبة كهذه ؟! حمقاء كنتِ ولاتزالين تدوسها الأقدام .

صوت غازي !
صفعته!
شبحه الأسود الخانق يطوف حولها يخفي عنها شبح هالة!!
لكن مدداً من شبحها الأرجواني يصلها سريعاً ..
يرسم على ملامحها غلالة قاسية ..
ستنتقم!
لو كان هذا لقاؤهما الأخير حقاً فلتلق خنجرها في صدره !!
وأي خنجر أقسى من أن تريه صورته البشعة في مرآة الحقيقة؟!
=======
_أهلاً!
تحيته المقتضبة بملامحه المحايدة تقابل ملامحها التي تلونت بين حزن وقسوة ..
مصافحة اعتاد فيها رجفة يدها لكن الجديد أن يده هو الآخر كانت ترتجف !

_أنت اتخذت قرارك لا تتراجع !

يهمس بها لنفسه سراً وهو يترك كفها ببطء لتحيد نظراته جوارها ..
لهذا "الصغير" الذي اصطحبته معها ..

_من؟!
_ماما!

كلمة "سند" اليتيمة التي لا ينطق سواها وهو يتشبث بثوبها تمتزج بسؤال حسام وهو يرمقها بنظرة متسائلة حملت توجساً مفهوماً ..
لترد ديمة بصوت مرتعش:
_ابن صاحبتي ..ماتت وتركته ..أنا أربيه .

حنانٌ يمتزج باعجاب غريب على العينين الصقريتين اللتين حامتا حولها للحظات قبل أن يشعر بهذا الوهن يتملكه نحو هذا الكيان الصغير ..
الوهن الذي يكرهه رجل مثله!

_يشبهني ..ليس في ملامحي إنما في ظروفنا ..يتيم مثلي حُرم أبويه وأفقدته الصدمة القدرة على النطق ..ترى كم هو جميل؟!

ينعقد حاجباه بتفرس وهو يتعجب تراقص حروفها بين ألم وقسوة ..قسوة ذكرته بحلمه بها وشعرها الأحمر يمتزج بنيران أحطابه ..

لكن مشاعره تتحرك أكثر نحو الصغير الذي عرف -لتوه- مأساته فتختلج عضلة فكه بتأثر أبى أن يظهره ..
عيناه تفيضان بعاطفة هادرة مكتومة ..مقيدة ..قرأتها عيناها بوضوح لهذا تعجبت قوله البارد بعدها بشدة :
_لا أحب الأطفال ..لا أجيد التعامل معهم ..وجودهم في المكان يربكني ..يمكنك تركه بالخارج حتى ننهي كلامنا ..لن نتأخر على أي حال .

تتسع عيناها بدهشة كطفل يرى أعجوبة لأول مرة!
كل كلمة صقيعية قاسية ينطقها تناقض هذا الشعور الغامر الذي يخترق من صدره لصدرها دون حواجز ..
لم يكن الآن مجرد كاذب ..بل مجروح ..مقيد ..أسير ..
بل إنها ظنت في هذه اللحظة أن لديه-مثلها- مرآة أشباح؟!!!!

يتشبث سند بها أكثر فتسقط منه "بطته" الصغيرة لينحني حسام عفوياً كي يعيدها إليه ..لكن الصغير يبقى متردداً في مد يده نحوه ..
فتتعلق عيناه رغماً عنه بعيني الصغير الزائغين ..
حزن سند ..في مقابل عجزه هو !
_تريد البقاء هنا؟!
نبرته القوية ترتعش رغماً عنه ولا تزال البطة البلاستيكية في يده فيجيب سند عملياً وهو يتشبث بديمة أكثر يخفي وجهه في ثوبها ..
يحاول حسام مسك كفه فيقبضه الصغير بقوة رافضة لكن حسام يفتحه بإصرار ثم يضع لعبته فيه ليعيد غلقه بعدها بنفسه مردفاً :
_لا تسقط لعبتك مرة أخرى ..حافظ عليها ..ولو أنك لم تعد صغيراً لتستمد أمانك من مجرد لعبة .

تتعجب ديمة من فظاظة عبارته الأخيرة لكن يبدو أن فطرة الصغير النقية قرأت الموازنة بين حزم كلماته وحنانها ليرمقه سند بنظرة متفاعلة مختلفة عن تشتت نظراته المعهود ..
يكتفي حسام بهذا الانتصار الصغير وهو يرى الصغير يرفع وجهه نحوه ليعاود الاستقامة بجسده وهو يشير لديمة بالجلوس خلف مكتبه بحركة مقتضبة ..فتطيعه لتجلس سند جوارها بينما يعود هو لكرسيه قائلاً بنبرة عملية :
_سأخبرك بآخر التفاصيل بخصوص الإرث ..يمكنك تسلمه كاملاً مع وعد مني بألا تعود تلك المرأة وأقاربها لإيذائك ..أنا أنهيت الإجراءات ..لا مشكلة بخصوص الأموال النقدية في البنوك ..أما عن الأراضي والxxxxات فسنحتاج المزيد من الوقت كي ..

تغيب عنها بقية كلماته وشرودها يبتلعها من جديد ..
هيا يا ديمة ..
ألقها في وجهه وافعلي ما جئت لأجله!
اصرخي في وجهه أن هذا الصغير هو ضحيته !
ليس هو فقط!
أمه "عاشقة الظل" وجنينها في بطنها كانت كذلك قبله !
افضحيه وسط مكتبه الذي يظن أنه هرب إليه وترك ماضيه خلفه ..
افتحي الباب واصرخي ..
اهتفي بها امامه وأمام الناس أن الوسيم الأنيق الذي يدعي رد حقوق المظلومين هو الظالم الأكبر ..
هو المجرم الذي يستحق أن يلقى خلف القضبان!
افعليها أمام سند !
أمام عينيه!!
حتى إذا ما كبر شعر أنك يوماً ما منحته بعضاً من قصاصه !

شبحها "الأرجواني" يمنحها المزيد من مدده فتنفرج شفتاها لتهم بتنفيذ انتقامها ..
لكنها تجبن في آخر لحظة!
خافت على سند ..
وخافت من حسام!!

شبح غازي الأسود يصفعها فتتقبل صفعاته بألم يسيل الدموع دون إرادة على وجنتيها ..

_لماذا تبكين؟!

تنتبه على نبرته التي تشعر بها هذه المرة مختلفة ..
مختنقة كأنه يقيدها بألف مغلاق!

تهز رأسها دون جواب فيشيح بوجهه هارباً من ..
لا ..ليس منها ..بل من نفسه !
فلتخرج من هنا ولا تعد ..
وليعد هو لحياته التي رسمها ..حيث لا أحد..لا أحد يراه!

_ماذا ستفعلين بالمال؟!
سؤاله جاف النبرة يداري قلقه العاصف عليها ..لا تبدو له أكبر من هذا الطفل الذي تتبناه ..
لترد بتشتت وهي تمسح دموعها:
_ماذا ؟!
_ماذا ستفعلين بالمال؟! لا ريب أنك تخططين لفعل شيء ما ! ستشترين بيتاً ..تنشئين مشروعاً ..أي شيء ..

عصبيته التي فقد السيطرة عليها وهو يقبض كفيه جواره تقابل ضياع حروفها كأنها لم تفكر في جواب هذا السؤال ..غمغمتها تبدو كالهذيان ..

_عطور ..عطور ..الكثير من العطور ..أريد أن أخلص حياتي من بقايا رائحته ..

يضيع هو فيها أكثر ..وتضيع هي في عذابات روحها أكثر ..
تتحدث وكأنها تخاطب أحداً لا تعرفه :

_تسأل عن سر هوسي بالعطور؟! لو عشت حياة كالتي عشتها لأدركت قيمة أن تسجن بعض العمر في زخة عطر ..أن تحبس بعض الذكرى في رائحة تستعيدها متى شئت ..أن تلبث يوما أو بعض يوم في عبير يخطفك لثانية واحدة أو أقل ..لو عشت حزنا كالذي عرفته لأيقنت أن بعضهم -مثلي- قد يقنع شفتيه بتزييف ابتسامة ويقنع عينيه بأخفاء دمعة لكنه يقف راجيا أمام أنفه يستجديه عبق ذكرى يوقن أنها حتما لن تعود .

تصمت قليلاً بين ضلالاتها لتستطرد :
_ورد! سأشتري الكثير من الورد ..حلوى !..الكثير من الحلوى ..ألعاب !..الكثير منها كذلك ..بيت ! بيت واحد يكفي..يكفيني وسند! .."عُمْر" ! قليل منه فقط هل يمكنني شراءه؟!

حسرة سؤالها الموجعة تحلق فوقهما للحظات قبل أن تطرق برأسها أخيراً تمسح دموعها بأنامل مرتجفة ..
دمية انقطعت خيوطها وركلتها الأقدام خارج المسرح لتلقى على قارعة الطريق..مهمشة بلا قيمة!
كيف يمكن أن تكره نفسها أكثر؟!
وهي تجد نفسها عاجزة عن فعل الشيء الذي جاءت لأجله !!

فيما يفقد هو كلماته شاعراً أنه يسقط فيها أكثر ..
فيشيح بوجهه بالمزيد من المقاومة !
تنهض أخيراً مكانها وهي تشعر بالمزيد من الخيبة تخنقها ..
كيف يمكن هكذا أن تضيق عليها الأرض بما رحبت !
شبح غازي ينتظرها هناك بالمزيد من لعناته وصفعاته ..
وشبح هالة لايزال معرضاً بعتاب لا تدري كيف تسترضيه ..
وبينهما شبحها الأرجواني يحاول أن يجد لها أرضاً وسط كل هذا الضياع !

_أتمنى لك التوفيق .
يقولها ببرودة مصطنعة ولايزال يتحاشى النظر نحوها فتغمغم بصوت متحشرج:
_الأتعاب؟!
يفكر للحظة في رفضها لكنه يتراجع!
لا يريد أن يبقى بينهم صنيع معروف يضع العلاقة في غير محلها ..لها ولنفسه قبلها ..
محامٍ وموكلته فحسب!

_التفاصيل مع مساعدي بالخارج .
نبرته المقتضبة لا تخدع حدسها وهي تراقب جانب وجهه المعرض عنها بنظرة غريبة ..
هل حقاً لو تراه بعد اليوم ؟!
لن تسنح لها فرصة ..ل..انتقام!!
هذه "النظرة الآدمية" في عينيه والتي تشعرها أنها تنتمي لمكان آخر غير مدينة أشباحها ..هل ستفقدها؟!
ماذا تريدبالضبط؟!
أحقاً هي بهذا التشتت؟!


تقف مكانها للحظات تنتظر منه المزيد غير هذا الصمت البارد لكنه حتى لا ينظر نحوها فتمد كفها أخيراً لسند كي تتحرك به نحو باب الغرفة الذي تفتحه وهي تشعر أنها تغلق باباً آخر ودت لو كان يمكنها فتحه كذلك!!
=========


_ديمة!
صوته القوي يخترقها لتتجمد أناملها على مقبض الباب وهي تلتفت نحوه ..
لن تنسى نظرته هذه ما عاشت!
لم تكن مجرد "نظرة آدمية" تمنحها كينونة انسانية افتقدتها ..
بل بدت وكأنها ترسمها من جديد!
تحيي الرماد الذي طالما تناثر في خراب روحها؟!
هل كانت هالة تحلم بنظرة مثل هذه عندما خبأت له في قلبها كل ذاك الحب؟!
أم هي النظرة التي "توهمتها" هي في عيني غازي قبل أن تترك له مجداف قاربها فيكسره؟!
هل هذه نظرة الحب التي يحكون عنها؟!

وأمامها كان هو لا يزال يسقط..يطوف حول حلقة زعفرانها طوافاً لا يعرف بداية ولا نهاية ..
لا يدري كيف قطعت قدماه الخطوات إليها مخالفاً كل محاذير عقله ..
لقد ظن الأمر سهلاً لكن صورتها وهي تعطيه ظهرها راحلة بلا عودة كادت تطير صوابه !


يغلق الباب الذي فتحته لتوها بعنف فضح ثورة انفعالاته وعيناه تصرخان باحتياجه الجارف نحوها ..
فلتسقط كل حسابات العقل ..ولتبقَ هي فقط في عالمه !
الصمت يصرخ بينهما لدقائق بألف لغة ..

نبرته ترتعش أخيراً بوهن غريب على رجل مثله :
_هل بقي بيننا كلامٌ يقال؟!

سؤاله كان لنفسه قبلها!
هل كان حقاً يناشدها الجواب أم أنه كان يدرك أنها مثله لا تعرفه؟!

ابتسامة!
ابتسامة حقيقية ارتسمت على شفتيها وبدت غريبة على خريطة دموعها !
ابتسامة لم يفهم معناها ولا هي كذلك!
هل هي فرحتها بالمزيد من فرص الانتقام؟؟ أم فرص القرب؟!
هل ستجد ديمة الحقيقية لو آذته قرباناً لشبح غازي ..
أم ستجد في عينيه المزيد من النظرة الآدمية التي ستحررها من مدينة الأشباح؟!

ابتسامة أطفأت بعض الجحيم في أعماقه وقطعت الطريق على المزيد من الحطب!
ابتسامة لم يرد سوى تصديقها فحسب!
ابتسامة تساوي ..بداية عهد!

_ألغِ باقي مواعيدي لليوم ..أنا مغادر !
يهتف بها مخاطباً مساعده وهو يتحرك مغادراً بها مكتبه ..
لم تسأله عن وجهته فقد كانت مأخوذة بكل هذه الفوضى داخلها !
فقط عندما فتح لها باب سيارته الأمامي وجدت صوتها لتسأله:
_إلى أين؟!
_نزهة للصغير ..عوضاً له عن تخويفي إياه بالأعلى ..لا أحب ترك ديوني معلقة!

ابتسامة ساخرة غارقة بمرارتها تذبح شفتيها مع كلماته ..
ليتك حقاً تجيد ألا تترك ديونك معلقة !!

_سأجلس في المقعد الخلفي مع سند ..أعتذر لو بدا هذا غير لائق!

لم تكن المرة الأولى التي يسمع فيها اللهجة السورية ولا حتى منها ..لكنه كان يشعر بها الآن أكثر رقة..أشد إغواء ..أو ربما هو الأقوى تعلقاً!
ربما لهذا يتخلى عن هوسه المعهود بالمظاهر فيهز رأسه وعيناه تحيدان للصغير الذي رفع إليه عينيه بنظرة فضول سرعان ما دفنها في ثوب ديمة ليبتسم هو بحنان صادق وهو يشير لهما بالركوب قبل أن يغلق الباب ويستقل السيارة التي انطلق بها بسرعة عالية توازي صخب شعوره الآن ..
وكأنه يختطفها هارباً من الدنيا كلها !

عيناهما تلتقي عبر مرآة السيارة بحديث طويل مبعثر ..يشبه الفوضى العاتية في صدر كل منهما ..
يصلان أخيراً للمكان المنشود ..
مدينة ملاهٍ !

_سند لن يجيد التعامل مع هذا !
تغمغم بها بقلق لكنه يلتفت نحوها قائلاً:
_لا تقلقي ..المكان هنا مجهز لحالات تشبهه ..صديق لي كان يحضر ابنته هنا .
يقولها مطمئناً ثم يركن سيارته ليغادرها بهما نحو المكان المخصص ..
تقترب منهم عاملة متخصصة تشرح لها ديمة حالة سند بارتباك فتتعامل معه المرأة بخبرتها حتى يندمج أخيراً في اللعب معها ببعض العسر ..

_تعالي نجلس قريباً!
يقولها وهو يتناول كفها ببساطة ..يتجاهل رجفة نفورها المعتادة متشبثاً به وهو يجلس بها على مائدة مجاورة ..
عيناها معلقتان بالصغير وعيناه متعلقتان ب"حلقة الزعفران"!

_ماذا بعد؟!
سؤاله يجعلها تلتفت إليه ..تهز رأسها بحيرة لا تدعيها ..فيتفحص ملامحها بتفرس:
_دعينا نتعرف من جديد ..لم يعد ما أعلمه كافياً !

صمتها المشوش مع إطراقة رأسها تثيره فيسألها متعمداً استفزازها:
_هل هي المرة الأولى التي تخرجين فيها في موعد مع رجل؟!

وكأنما لدغتها أفعى!
رجفتها تشملها من رأسها لأخمص قدميها وهي تنتفض مكانها وقد احمر وجهها ليلتمع نمشه أكثر كأنه بثور من نار ..
حلقة الزعفران تشتعل أكثر مع كلماتها التي هدر فيها وهج الأحمر وغاب أزرقها تماماً:
_موعد مع رجل؟! هذه هي صورتي في عينك ؟! ولماذا أنتظر أن تختلف عن الجميع؟! حسناً ..سأجيبك ..أنا خرجت من سوريا شبه طفلة لا تعرف شيئاً عن حب الرجال ..وعندما وصلت هنا التقطني غازي ليكون سجاني ..وبعدما مات لم ألتقِ سوى بأديم الذي فرض نفسه علي زاعماً أنه يساعدني واضطررت لقبول مساعدته لأنني لم أجد غيره واستغنيت عن خدماته عندما صرح لي بحبه عارضاً علي سجناً جديدا..والآن لو كنت تعتبر هذا موعداً فاعتبره كذلك انتهى!

كانت تلهث في آخر كلماتها بعنف كأنها خاضت لتوها معركة عنيفة ولم تكد تنتهي منها حتى اندفعت تهم بالمغادرة لكنه وقف ليمسك كفها فجأة قائلاً :
_هل أنتِ دوماً سريعة الغضب هكذا؟!

يرفع كفه الحر نحو صدره يهم باعتذار مقنع أنيق يليق به لكنها كعهدها تسيئ تاويل حركته فترفع ذراعها تغطي به وجهها في حركة دفاعية مع شهقة ذعر نفدت لصدره كسهم !
لم تكن أول مرة تفعلها أمامه كذلك اليوم الذي أسقطت فيه صينية النادل!
عجباً!
من يراها تصرخ في وجهه منذ قليل بهذا العنفوان لا يصدق هذا الوجه المذعور منها !!
لكنه يفهم!!
يفهم أي روح جامحة تحتضنها جوارحها إنما ذاك اللعين غازي قد شوهها بإيذائه!!

بعض الوجوه تحدق فيهم بفضول كان ليثير حفيظته هو بالذات في موقف كهذا ..
لكنه الآن لم يكن يرى سواها!
جسدها يختض بقوة وشهقاتها تتوالى عبر وجهها الذي يخفيه ذراعها وإن كان يري هو تفاصيله بكل وضوح ..

لهذا تخلى عن مواربة الاعتذار الأنيق الذي كان ينتويه ليقولها صراحة ببساطة حارة :
_آسف ..حقاً آسف!

حسام القاضي يعتذر لامرأة !
لا يذكر متى كانت آخر مرة فعلها !
لكنه يدرك أنه يحتاج هذا الآن ..ربما أكثر منها ..كي لا ينتظره المزيد من "حطب" الندم !

_اجلسي .
نبرته تمزج الأمر بالرجاء في خليط عجيب وكفه يترك كفها لا زهداً بل تفهماً لحالتها الآن ..
ترفع أخيراً ذراعها عن وجهها ببطء لترمقه بنظرة مصدومة للحظات ولو قرأ دواخلها لأدرك أنها في بضع ثوانٍ فقط كانت تخوض حربها العتيدة في مدينة أشباحها ..

يقترب منها خطوة أخرى محتكراً نظراتها ليردف :
_هذا بالتأكيد ليس أول موعد لي مع امرأة ..ولا يمكنني العد فقد أسقطت الذاكرة الكثيرات ..وخبرتي هذه تجعلني أميز أي امرأة أنتِ..اعذريني لو لم أستطع التخلي عن طبيعتي المستفزة بسؤالي الذي أزعجك ..لكن مادمنا أعدنا التعارف فاعلمي أنه أحد أسوأ خصالي ..الاستفزاز ! خاصة في التعارف الأول .

_لماذا؟!
سؤالها يبدو له شديد البراءة متسقاً مع ملامحها ومناقضاً لثورتها منذ قليل فيبتسم بعاطفة حقيقية وهو يعاود الإشارة لها بالجلوس:
_اجلسي وسأخبرك .
تنظر نحو سند الذي بدا مندمجاً بصورة معقولة مع أحدى الألعاب ثم تتردد قليلاً لتتخذ قرارها وتعاود الجلوس فيجلس بدوره قائلا :
_يمكنني منحك بعض الدروس في العلاقات البشرية ولغة الجسد ..الدرس الأول ..الناس يبدون على طبيعتهم أكثر عندما يستفزون ! تخرج منهم خبايا صدورهم التي يغلفونها بنفاق المجاملات ..لهذا كنت أعتمد دوماً هذه القاعدة (إذا كنت تريد معرفة من أمامك حقاً ..استفزه)!

شبه ابتسامة واهنة تطوف على شفتيها وهي تتذكر حديثاً مشابهاً قالته لها طيف ..
هذان الاثنان متشابهان حقاً ..لكنه تشابه كارثي!!
لا تتصور ماذا كان سيحدث لو كان قدر لهما فعلاً أن يرتبطا ..
كانا سينجبان للعالم حفنة من التنانين نافثة النيران !
تبتسم بطفولية للخاطر الأخير وهي تتذكر أحد الأفلام الكرتونية التي كانت تشاهدها في صغرها لتلتمع عيناها بحنين شارد ..

_ماذا تعرفين عني؟!
_كل شيء تقريباً!

تهمس بها سراً بمرارة ليترجمها لسانها لما يصلح قوله:
_ليس الكثير .
_الناس في مدينتنا ينقلون الأخبار بسرعة ..ماذا وصلك عني ؟!
يقولها بحذر محاولاً استكشافها لتطرق برأسها قائلة :
_السجناء لا تصلهم أخبار ..وبيت غازي لم يكن سوي سجن .

_احكي لي أكثر عنك .
_هل هناك شيء معين تريد معرفته ؟!
تسأله بتوجس ليشير بعينيه لأذنها :
_فردة القرط الغريبة هذه !
تشحب ملامحها فجأة وهي تهرب بعينيها منه متظاهرة بمتابعة سند ..
فيصلها قوله الواثق:
_الدرس الثاني ..في لغة الجسد عندما يتحاشى من أمامك النظر إليك هارباً بعينيه فإنه غالباً يكذب أو سيكذب ..قليلون فقط من يجيدون التحديق في العيون بينما يكذبون !
تلتفت نحوه ببطء ودقات قلبها تتقافز بجنون شاعرة بالخطورة ..
نظراته تبدو لها مقتحمة غازية ..إنما ليس بعنف ..بل بخبرة رفيقة ..
لهذا ازدردت ريقها بتوتر لترد وهي تنظر في عينيه :
_إنها تخص صديقتي رحمها الله ..أم سند ..كانت تحتفظ بواحدة وتركت لي الأخرى .
_كنتِ تحبينها إلى هذا الحد ؟!
_كانت ..صديقتي وأختي وأمي ..كانت كل شيء .
صوتها المرتعش ببكاء وشيك يجعله يشعر بالمزيد من الإشفاق نحوها ليسألها :
_مصرية ؟!
تعض شفتها بقوة وهي تشعر بأن مجرد حديثها هنا في مجلسها معه عن هالة خيانة ..حتى ولو زعمت أن قربها هذا بغرض الانتقام ..

_أرجوك ..لا أحب الحديث عن هذا الأمر .
يهز رأسه بتفهم وهو يعاود تفحصها ليسألها :
_أخبريني إذن ..هل تفكرين في الانتقام من زوجة غازي الأولى ؟!
_تخاف أن أورطك في الدفاع عني من جديد ؟!
_ومن قال إن دفاعي عنك ورطة ؟!
يقولها بجاذبية حمائية تبدو لها آسرة فترمقه بعينين متسعتين للحظات تعمق شعوره بطفوليتها قبل أن يغلبها خجلها فتشيح بوجهها هاربة ليضحك ضحكة قصيرة :
_الدرس الثالث ..ليس كل هروب عينين كذباً ..أحياناً يكون ..
_يكون ماذا؟!
تسأله بخجل مرتبك وهي تفرك كفيها بتوتر ليقترب بوجهه منها بجرأة هامساً:
_دعي هذا سؤالا تشويقياً للموعد القادم .

_موعد قادم؟!
حروفها المشتتة تعيدها لصراع دواخلها فتهرب منه وهي تغير الموضوع بسؤالها :
_تظنني يجب أن أنتقم منها؟! هل سيريحني الانتقام ؟!
يصمت طويلاً مع شرود نظراته فتشعر أنها أصابت سهماً داخله خاصة وهو يرد أخيراً:
_لن تصدقي مالم تجربي ..الانتقام يشوش الصورة ..يبدل الخانات بسهولة خادعة فلا تدرين أين الظالم واين المظلوم ..وفي نهاية الطريق لن تجدي سوى بعض الرماد يحكي أنه كانت يوماً هنا حياة !
لا يزال التشابه بينه وبين طيف يربكها!
كلاهما يتحدث بنفس الطريقة !!
بل إنه مثلها يصور الأمر كدروس!
لكن الدهشة هنا يخالطها بعض ..الغيرة !
لا ..لا ..لا!

تهرب من الخاطر الأخير بفزع وهي تعاود النظر نحو سند لتفاجأ بحسام يستخرج علبة سجائره ليستخرج منها واحدة أشعلها بعفوية ..مردفاً:
_مثلاً ..أنت في نظرها معتدية عليها .."خاطفة رجال" كما يقولون ! وهي تقتص منك لهذا ..وهكذا تدورين أنت في نفس الحلقة ..من الظالم ..من المظلوم ..من البادي ..من اللاحق ..لا أحد يمكنه الحكم !

تلتقي عيناه بعينيها فيهز رأسه كأنه انتبه لأمر ما جعله يطفئ سيجارته قائلاً ببعض المكر :
_تتحسسين من السجائر .
_كيف عرفت؟!
_لاحظت هذا في لقاءاتنا الأولى ..هل كان غازي مدخناً؟!
_كان يشعل أي شيء في طريقه ..أي شيء .
البغض الممتزج بالوجع يعيد تشكيل ملامحها ليسألها مباشرة :
_لماذا تزوجته ؟!
_صدق أو لا تصدق ..ظننت أنني أحببته .
_ولماذا تقولينها بهذا الخزي؟! لم تكوني وقتها سوى مراهقة وحيدة غريبة عن بلدها ترتجي الحماية والأمان .
_أنت محامٍ ماهر لو كنت تدافع عن جميع موكليك بهذه الطريقة !
_لم تعودي موكلتي ..ظننت أننا اتفقنا على هذا بمجرد خروجنا من مكتبي .
يقولها بنفس الجاذبية الخطرة التي امتزجت بهذه العاطفة في عينيه ليزداد ارتباكها وهي تقف مكانها قائلة :
_هذا يكفي ..سند بدأ يشعر بالملل .

يقف بدوره وهو يقاوم رغبته العارمة في مس كفها من جديد ..
في احتواء هذا الخوف الذي يكاد يخنق روحها ..
ماذا لو عانقها الآن؟!.
لا عناق رغبة ولا اشتهاء ..بل عناق احتواء وسكن ؟!
قد يبدو الأمر وكأنها هي من تحتاجه ..
لكنه كذلك يشعر أنه بحاجة ل"وجه أبيض" جديد له في عينيها !
======
_سند يبدو راضياً!
تقولها وقد التقت عيناهما عبر مرآة السيارة في طريق العودة ليبتسم لها قائلاً:
_وسيرضى أكثر بالتعرف على صديقتي المفضلة .
ترمقه بنظرة متسائلة فيشير للأمام قائلاً :
_بيتي قريب ..لا تقلقي لن أطلب منك الدخول ..سأخرجها هي إليكما .

ترمق هاتفها في يدها بنظرة قلقة فقد استأذنت ماسة في الخروج بسند لساعة واحدة فقط وتخشى أن تتأخر عليها خاصة أنها لم توافق سوي بعد الحاح ..
تهم بالرفض لكنها تفاجأ بتوقف السيارة أمام البيت الذي تحفظ تفاصيله تقريباً من فرط ما ينشره من صور ..
لكنها تظاهرت بالعكس وهي تغادر السيارة بالصغير عقب قوله:
_انتظراني هنا .
يقولها ثم يميل على أذنها هامساً بخفوت:
_هل لديه مشكلة مع الكلاب؟!
_لا ..لا أظن ..كان يحب القطط والكلاب كثيراً .
تقولها بابتسامة شاردة وهي تتذكر أيامها مع هالة فيهتف باستحسان :
_عظيم .

تقف مكانها شاردة غافلة عن هاتفها الذي سقط منها وهي تضم سند لظهرها مستندة على السيارة تتفحص البيت من الخارج بشعور غريب ..
كل هذا رأته من قبل عبر الصور ..
الباب المعدني الضخم بطرازه الحديث ..
الحديقة الصغيرة ..
البيت الداخلي بطلائه الذي يمزج اللونين الأزرق والأبيض بتخطيط أنيق ..
الأزرق ..كم افتقدت سكينة الأزرق وسط اشتعال الحمرة في أرجوانيتها !!

تبتسم وهي تجده عائداً بالكلبة التي علا نباحها بما يشبه الترحيب وهي تتقدم منهما ..
تنظر لسند الذي شعر بالخوف للحظة قبل أن تتهلل أساريره وهو ينقل بصره بينها وبين الكلبة ..
يقترب حسام وهو يمسد عنق سلطانة ورأسها قائلاً :
_هي تعرف أنك صديقي .
يلتفت سند نحو ديمة فتمنحه إيماءة رأس مشجعة وهي تشير نحوها قائلة بعفوية :
_العب مع سلطانة ..لا تخف .

لم تنتبه أنها ذكرت اسمها صريحاً لكنه فعل!
كيف عرفت اسمها؟!
هو واثق أنه لم يذكره أمامها!
تمالك دهشته بسرعة تليق به وهو يناول سند بعض الكرات المخصة للعب قائلاً:
_هيا ..اقذفها ودعها تحضرها لك ..ستحب هذا .

تبتسم ديمة وهي تراقب سند الذي غلب تردده وهو ينطلق للعب مع الكلبة كأنه هو الآخر استعاد معها بعضاً من روحه ..
يستند حسام بدوره على السيارة مجاوراً لها ولازال أمر معرفتها لاسم الكلبة يثير تفكيره ..
ينتبه لهاتفها الواقع أرضاً فيهم بإخبارها لكنه يتراجع ..
يرى سند وقد دخل حديقة البيت لتلحقه ديمة هاتفة :
_تعال ..لا تبتعد ..
لكن الصغير يعدو خلف الكلبة مبتعداً لتركض هي خلفه محاولة إعادته ..

هنا ينحني هو بخفة ليلتقط هاتفها ..
لا كلمة سر تغلقه!
غريب لكنه مناسب لفكرته عنها!

تتلاعب أنامله فوق الشاشة للحظات بسرعة خبيرة لتتسع عيناه بصدمة وهو يجد هذا العدد الرهيب من "السكرينات" من حسابه ..
هذه الصور له ..لبيته ..للنادي ..لأمه ..ول ..سلطانة !
عشرات . بل مئات الصور له ..
هو فقط !
لا مبرر معقول -في نظره- لهذا سوى أنها ..!!
ابتسامة تولد على شفتيه وخفق قلبه في هذه اللحظة يعزف لحناً غريباً لم يعرفه منذ زمن بعيد ..
هي تبادله عاطفته !

تعود إليه مع سند ليسابقها بالقول وهو يغلق الهاتف ببساطة :
_وقع منك .

تتناوله منه بتوجس وهي تحاول قراءة ملامحه إن كان قد فتحه لكن ملامحه بقيت عادية ..
فقط ..عيناه كانتا ترقصان !
أو ..ربما تتوهم!

_تأخرنا ..يجب أن نعود !
تقولها وهي تبحث في هاتفها عن اتصال من ماسة لكنها لم تجد فتنهدت بارتياح وهي تلتفت نحو سند هاتفة:
_هيا ..ودع سلطانة .
هنا يرفع سند وجهه بحذر نحو حسام قبل أن يأتي بهذا الفعل الذي زلزله !

فقد مد كفه الصغير ليمسك كف حسام كي يمسد بهما معاً عنق سلطانة كأنه خاف أن يفعلها وحده !!

مرة تلو مرة ..صعوداً وهبوطاً ..
ورجف القلب المحروم يتعالى صارخاً باحتياج ..واجتياح ..
دمعة خفية تتجمع في طرف عينه والكلمة اللعينة تعاود قصفها الغادر ..

(نصف رجل ..نصف رجل)

_هيا بنا!
خشونة صوته المتحشرج تنجح في مداراة شرخ رجولته وهو يعيد سلطانة للداخل قبل أن يغلق الباب ليستقل السيارة جوارهما وينطلق بها ..

مرآة السيارة هذه المرة خلت من أشباحها هي المعهودة ..
عيناه الراقصتان رقصة الوجع تحتلها ..
يالله!
أي رجلٍ هذا الذي يحمل كل هذه التناقضات؟!
أفكارها تنقطع وهي تسمع صرير عجلات السيارة وقد توقفت فجأة لتهم بسؤاله عن الأمر ..
لكنها انتبهت لهذه السيارة الكبيرة معتمة النوافذ التي قطعت عليهما الطريق والذي كان خالياً إلا منهم ..
تشهق بخوف وهي ترى العملاقين اللذين ترجلا منها قبل أن تتعرف على ملامحهما فيزداد خوفها ..
ترى حسام وقد تناول مسدسه بسرعة من الجوار قائلاً بحذر:
_اهتمي بالصغير .
يترجل من السيارة شاهراً مسدسه في وجهيهما ..
لكن الوجه المهيب المألوف يغادر المقعد الخلفي للسيارة السوداء ليرمق سند في سيارة حسام بنظرة متفحصة سبقت نظرته المخيفة لديمة ..
قبل أن يركز بصره فوق ملامح حسام قائلاً بنبرته المسيطرة التي هدرت بقسوتها:
_اخفض سلاحك لا تخف الصغير !

ينعقد حاجبا حسام بشدة والتاريخ الأسود بينهما يسدل أستاره على كليهما ليتمتم من بين أسنانه وهو يخفض سلاحه ببطء :
_عاصي الرفاعي .
فيما انكمشت ديمة مكانها وهي تضم سند إليها بقوة تشعر أن قلبها سيسقط من فرط الرعب ..
هل حانت لحظة الحقيقة؟!
=====
انتهى الفصل الحادي والعشرون


نرمين نحمدالله غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-12-20, 01:39 AM   #1739

دانه عبد

? العضوٌ??? » 478587
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 513
?  نُقآطِيْ » دانه عبد is on a distinguished road
Elk

في الانتظار للفصل وجدا متحمسه

دانه عبد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-12-20, 02:53 AM   #1740

Omsama

? العضوٌ??? » 410254
?  التسِجيلٌ » Oct 2017
? مشَارَ?اتْي » 867
?  نُقآطِيْ » Omsama is on a distinguished road
افتراضي

رووووعه الفصل يجنن ياترى يازهره ايه الى حصل معاكى خلاكى تبعدى جهاد عنك بالطىيقه دى

Omsama غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:01 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.