آخر 10 مشاركات
أكتبُ تاريخي .. أنا انثى ! (2) *مميزة ومكتملة * .. سلسلة قلوب تحكي (الكاتـب : كاردينيا الغوازي - )           »          52 - عودة الغائب - شريف شوقي (الكاتـب : MooNy87 - )           »          غمد السحاب *مكتملة* (الكاتـب : Aurora - )           »          ليلة مع زوجها المنسي (166) للكاتبة : Annie West .. كاملة (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          أسيرة الكونت (136) للكاتبة: Penny Jordan (كاملة)+(الروابط) (الكاتـب : Gege86 - )           »          605-زوجة الأحلام -ق.د.ن (الكاتـب : Just Faith - )           »          غيث أيلول -ج5 سلسلة عائلة ريتشي(121)غربية - للكاتبة:أميرة الحب - الفصل الــ 44*مميزة* (الكاتـب : أميرة الحب - )           »          ترافيس وايلد (120) للكاتبة: Sandra Marton [ج3 من سلسلة الأخوة وايلد] *كاملة بالرابط* (الكاتـب : Andalus - )           »          أترقّب هديلك (1) *مميزة ومكتملة* .. سلسلة قوارير العطّار (الكاتـب : كاردينيا الغوازي - )           »          عِـشـقٌ في حَضرَةِ الـكِـبريآء *مميزة مكتملة* (الكاتـب : ღ.’.Hiba ♥ Suliman.’.ღ - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة ضمن سلاسل (وحي الاعضاء)

Like Tree5716Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 19-08-21, 11:59 PM   #3121

نرمين نحمدالله

كاتبة في منتدى قلوب أحلام وفي قصص من وحي الاعضاء ، ملهمة كلاكيت ثاني مرة


? العضوٌ??? » 365929
?  التسِجيلٌ » Feb 2016
? مشَارَ?اتْي » 2,008
?  نُقآطِيْ » نرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond repute
افتراضي


الطيف الثامن والثلاثون
======
_لماذا لم تخبرني أنك ستعود مبكراً من عملك؟! لم أعد طعاماً كافياً!

تهتف بها هيام بسخط لا تبالي بفظاظتها المعهودة وكلماتها تكون أول ما تستقبله به ليرد بخنوعه الظاهر:
_لا بأس.. سأتناول أي شيء.

يركض أولاده نحوه تباعاً فيعانقهم ب"ما بدا" حاراً ملهوفاً قبل أن يتوجه نحو غرفة نومه لتلحق به هيام..
تغلق باب الغرفة خلفهما فيبدأ في تبديل ملابسه لتهتف به بنفس النبرة الساخطة :
_كم مرة أخبرتك ألا تبدل ملابسك أمامي؟! هذا الوشم "المهبب" على ذراعك يكاد يجعلني أتقيأ! يركبني ألف عفريت عندما أراه!

ابتسامته الخانعة تنجح في اصطناع الخزي وهو يرتدي قميص منامته بسرعة قائلاً :
_لا تنسين الأمر أبداً! كان هذا منذ سنوات! خطيئة استغفرت عليها الله ولن أكررها! أخبرتك أنها كانت ليلة غريبة.. بعض زملائي في العمل من صحبة السوء - سامحهم الله- ذهبوا بي لذاك المكان بعدما تناولنا مشروباً عرفت بعدها أنه كان نوعاً من الخمور.. عندما أفقت لنفسي وجدتنا جميعاً قد رسمنا الوشوم على أذرعنا.
_لو كانت واحدة غيري لشكت في سلوكك لكن هكذا أنت طوال عمرك! أهبل! كلمة تذهبك وكلمة تأتي بك؟! ضحكوا عليك؟! سقوك "شيئاً أصفر"!؟! ماذا تركت للفتيات؟!

تقولها بتهكم فظ شابه الكثير من الاستهانة وهي تتناول قميصه الذي خلعه.. تعترف سراً أنها تخاف هذا الوشم منذ رأته على ذراعه أول مرة.. حتى أنها كانت تتحاشى لمسه في لحظاتهما الحميمة لكنها أبداً لن تجهر بها.. لهذا تردف بسخرية :
_ثعبان؟! لا أصدق أن واحداً مثلك يخاف من خياله يرسم على ذراعه ثعباناً؟! لكن يبدو أنهم عندما غيبوك عن وعيك أوهموك أن رسماً كهذا قد يزرع القوة فيك وأنت من خيبتك صدقتهم! مؤكدٌ أنهم جعلوك تدفع فيه "الشيء الفلاني"! ألم نكن أنا وأولادك أولى بتلك النقود؟!
فيبتسم بسماحة ظاهرة وهو يجلس على طرف الفراش قائلاً :
_المسامح كريم يا هيام! مرت سنوات على هذا الأمر وعجزت عن إزالته.. لماذا تتذكرينه الآن ؟! أم تراك تشعرين بالغيرة كلما ابتعدت عنك؟! تخافين أن أعيد الكرة فتجذبني صحبة سوء من جديد للنساء مثلاً؟!
فتصدر ضحكة مكتومة ساخرة وهي تهز شفتيها المضمومتين يمنة ويسرة بحركة ذات مغزى هاتفة :
_"اللي خدته القرعة "! بلا حسرة!
ثم تلطم وجهها بخفة مردفة:
_من يصدق أنك أخو راغب الأكبر؟! راغب الذي تهز خطوته الحي كله! وأنت الذي لا يكاد أحدهم يراك! بلا خيبة!

يصمت دون رد كعهده معها لتتناول سرواله الذي خلعه هاتفة :
_هات جوربك كي أغسلهم كلهم..
يناولها خاصته فتتشممه لتتمتم بامتعاض :
_جوربك رائحته نظيفة كأنك ارتديته لتوك.. كذلك ثيابك تخلو من رائحة العرق رغم طول ساعات عملك..
تلتمع عيناه لمعة مفاجئة كأنما ساءته ملاحظتها لكنها تبدو غافلة عن هذا وهي تردف بنفس الاستهانة الفظة :
_يبدو أن جسدك مثلك خامل كسول حتى عن العرق.

لم تلاحظ حركة أنامله خلف ظهره وأظافره تخدش الملاءة حتى مزقتها في موضعها بينما هي تردف وهي تتحسس ظهرها:
_لا.. لا.. أنا اليوم متعبة لن أغسل شيئاً.. سأنام.. ربما ينسيني النوم شقائي معكم..

تقولها لتلقي الملابس جانباً بإهمال بينما تتأوه بخفوت وهي تتحرك نحو الفراش هاتفة بتذمر :
_عيشة تقصر العمر! كأنك اشتريتني خادمة لك ولأولادك! صحتي راحت.. منكم لله!

تستلقي على الفراش لتلتفت نحو زجاجة ماء قريبة تصب منها كوباً لتشرب نصفه ثم تترك بقيته مردفة:
_لا تشرب من زجاجتي..أشعر بالقرف! مررتها لك المرة السابقة ولن أفعل ثانية. . أستيقظ عطشى وتثور براكيني لو لم أجد الماء جواري.. اجعل الأيام التي تقضيها هنا تمر على خير.

يبقى على حاله لدقائق طويلة ينتظرها حتى تستسلم للنوم ليصله أخيراً صوتها الناعس وهي ترفع الغطاء عليها أكثر :
_أطفئ النور وابحث عن شيء تأكله ولا تحدث صوتاً عالياً مع أولادك.. لو قلقت من نومي فسأ..

ينقطع تهديدها بشخير قصير فيلتفت نحوها لتعود لنظراته شراستها في لحظة!
لحظة واحدة استعاد بها روح الكوبرا داخله!

ينهض بحذر ليستخرج من حقيبته زجاجة صغيرة حوت سائلاً شفافاً تحرك بها نحو كوب الماء جوارها..
يرفع الزجاجة ليسقط منها بعض النقاط في كوب الماء لتلتمع عيناه أكثر وهو يعيد إغلاقها..

يأخذ نفساً عميقاً وهو ينحني نحوها في نومها.. قبضته تتحرك نحو عنقها لتتوقف على بعد سنتيمترات قليلة..

_تعلمين ما الذي يمكن أن تفعله هذه القطرات الصغيرة التي وضعتها لك في الكوب؟! إنه سم شديد الخطورة صعب أن يكتشف في تحليل الدم بعد الوفاة.. لا يقتل مباشرة.. يكفي أثره ليجعلك تشعرين في البداية بأن جوفك يحترق.. أطرافك تشل فلا تستطيعين الحركة.. حتى لسانك القذر لن يعود قادراً على مجرد الهمس.. ستتمنين الموت في الدقائق التالية التي سأحرص أن تطول كي أشفي غليلي منك..

يقولها سراً دون صوت ليعلو صوت شخيرها المستسلم وتزداد معه شراسة نظراته..
يتناول الكوب ليقربه من شفتيها ببطء كأنه يتلذذ بخيالاته وقبضته تزداد قرباً من عنقها..
لكنه يتوقف أخيراً لينهض من مكانه.. يتحرك بالكوب نحو الشرفة القريبة.. يتقدم نحو السور حيث بعض أصص النباتات التي يلقي في أحدها الماء..

_ليس بعد.. ليس بعد.. من يدري؟! ربما أعد لك انتقاماً أسوأ.

يخفيها في نفسه وعيناه تشتعلان بهذه الشراسة الفتية.. يعود للغرفة ليلقي على جسدها النائم نظرة متوعدة قبل أن يغادر الغرفة نحو المطبخ حيث تجمع الصغار يتناولون بعض الطعام على مائدة المطبخ.

يبدون وكأنهم ورثوا طبع أمهم في تهميش حضوره أو ربما هو اعتيادهم طول غيابه.. أو ربما هي فطرتهم النقية تبينت حقيقة شعوره "المائع" نحوهم.. فتتحول فرحتهم المؤقتة بحضوره لإهمال وهم ينشغلون بشجاراتهم الجانبية واللعب..

يصطدم به أحدهم وهو يحاول ضرب شقيقه فينهره برفق مصطنع لا يكترث له الصغير وهو يستمر فيما يفعله كأنه لا يبالي بوجوده..
كلهم لا يبالون بوجوده..!
هو دوما "النكرة" التي لا يشعر بها أحد في "هذا العالم" !
"الفيروس" الذي ينبغي ألا يُحسّ بوجوده حتى تفترسك أعراضه!
هكذا يوقن أنه قد نجح!

_لماذا كسرت لعبتي؟! تستغل أن ماما نائمة؟! بابا سيضربك!
_بابا لا يضرب أحداً.. ماما هي من تفعل.
_اضربه يا بابا كما ضربني.
_أخبرتك أنه لن يضربني.
_إذن سأشكوك لعمي راغب.

يهتف بها الصغير المعتدَى عليه وهو يهم بالخروج من المطبخ لكن شقيقه المعتدي يعدو خلفه ليشده من ملابسه قائلاً :
_لا.. لا.. عمو راغب لا.. أنا آسف.
_وتدفع لي ثمن اللعبة التي كسرتها من مصروفك.
_أدفع.

يعود الصغيران للعب مع الثالث ببراءة وقد افترشوا أرضية المطبخ غافلين عما أيقظه حوارهم العفوي داخله..
يلتفتون نحوه بابتسامات بريئة يقابلها بسماحة ظاهرة قبل أن ينشغلوا باللعب من جديد غير منتبهين لاشتعال عينيه بهذه الوحشية المخيفة!
يعطيهم ظهره ليتحرك نحو نافذة المطبخ فيغلقها قبل أن يفتح جميع أزرار الموقد خلسة عن أعينهم ليتدفق الغاز..
يأخذ نفساً عميقاً مغمضاً عينيه لتتسرب المزيد من رائحة الغاز لأنفه فيشعر بانتشاء غريب..
هكذا يشعر يوماً عندما يدرك أنه "يد للموت" في هذا العالم..
القوة القاهرة التي تنتزع الروح من الجسد لتذره بلا حول ولا قوة..
الشعور الذي يدغدغ حواسه كما لا يفعل به أي شعور سواه!

يتحرك ليغادر المطبخ الذي يغلق بابه خلفه بإحكام قبل أن يستند على ظهره..

_لماذا لا أحمل لكم أي عاطفة؟! لأنكم أولادها هي؟! أم لأنني تعودت منذ زمن بعيد أن أدهس قلبي تحت قدمي؟! .. يقولون إن الأبوة هي أسمى المشاعر.. أغبياء! الحماقة كلها ألا يكتفي المرء بتعاسته في هذه الدنيا فيسعى لإنجاب من يورثهم شقاءه بعده.. اهربوا من هذا العالم بسرعة قدر استطاعتكم.. دعوني أساعدكم على فعلها..

يتحرك بعدها ليفتح الباب ببطء.. يراهم يسعلون مكانهم وقد احمرت وجوههم لا يفهمون ماذا يحدث..
يبدو الاختناق على ملامحهم البريئة لكن هذا لا يحرك فيه ساكناً..

_بابا!

يهتفون بها عبر أصواتهم المختنقة فيتخشب مكانه للحظات كأنما يزن القرار.. أو يستمتع بنشوة اللحظة..
يتحرك بخطوات رتيبة نحو الموقد يغلق أزراره خلسة ثم يفتح االنافذة..
يدفعهم للخروج نحو شرفة الصالة مراقباً ملامحهم وهي تعود لطبيعتها..

_ليس بعد.. ليس بعد.. ربما قريباً.. قريباً جداً..

يهمس بها لنفسه وهو ينقل بصره بينهم وبين الغرفة القريبة حيث هيام النائمة..
لماذا لا يتخلص منهم جميعاً ماداموا يسببون له كل هذا الإزعاج؟!

_لأنكم غطائي الخادع.. من يصدق أن فهمي المسكين الذي يستهين به صغاره قبل زوجته يعيش حياة أخرى بوجه الكوبرا؟!. . لأنكم اختباري.. اختباري الذي أحرص أن أنجح فيه كل مرة وأنا أتبين قدرتي على سحقكم جميعاً دون رحمة ودون تردد..ولأنكم مذاق آخر لبراعتي.. لعبقريتي.. كان يمكن أن أختفي من الحي كله دون زوجة وأبناء.. لكنني اخترت الأصعب.. التحدي الذي كسبته.. أن أقوم بالدورين معاً بنفس البراعة وبنفس الإتقان.. فهمي الساذج خيال المآتة الذي "لا يهش ولا ينش".. والكوبرا القادر على بخ سمه في عين أي أحد.. أي أحد.. أي أحد..

يكرر عبارته الأخيرة سراً بقسوة امتزجت بالفخر في مزيج مرعب لكن..
يقتحم طيفها الصورة!
فجر!

يزدرد ريقه بتوتر وهو يقبض كفيه بقوة جواره..
يكره قلبه عندما يعانده بشأنها هي وحدها..
يكرهه بقدر ما عشقها.. ويعشقها.. وسيعشقها حتى يهلك كلاهما معاً..
أجل.. هي ملكه وستبقى ملكه حتى يستأثر القبر بأحدهما..
فيستحضر طيفها كأنه يناجيه :

_تبقين أنتِ نقطة ضعفي الوحيدة..رقصة الروح الغادرة التي تعود بعدها لركودها.. مهد قلبي ولحده الذي سأسعى ألا يغادر هذه الدنيا إلا بين يديه.
======
*أصفر*
======
_عزة طلبت الطلاق من إيهاب.. أخبرتني أن الأمر نهائي لا يقبل النقاش.

تقولها رؤى بأسى امتزج بخيبتها ليعقد راغب حاجبيه بقوة مغمغماً:
_لا حول ولا قوة إلا بالله.. مسكينة هذه المرأة.. لم تخبرك بالسبب؟!

تهز رأسها نفياً لترد بأسف:
_رفضت ذكر أسباب وأنا لم أشأ الضغط عليها أكثر.. هي تقبلت محاولتي للتقرب منها على استحياء واعتبرت هذا في حد ذاته انتصاراً.. لكنها طلبت مني ألا أخبر هيام بشيء.

_كوني جوارها هذه الأيام.. لا لأجل جنة ولا لأجل هيام.. بل لأجلها هي.. لا أدري لماذا هذه "البنت" منكوبة هكذا؟! أستغفر الله العظيم.. اللهم لا اعتراض.

يقولها بضيق حقيقي أبرز معدنه الطيب لتبتسم له وهي تربت على كتفه قائلة:
_كنت سأفعلها على أي حال. . ولو أنني شعرت أنها مختلفة هذه المرة.
يرمقها بنظرة قلق متسائلة لتردف بشرود :
_ذكرتني بنفسي عندما أنقذتها من خطيبها الأول الذي كاد يعتدي عليها في غيابكم.. لازلت أذكر هذا اليوم.. خوفي من الظلام والذي قهرته بصعود السلم يومها درجة درجة.. خوفي من الوحدة والذي قاومته باندفاعي نحوهما.. وخوفي من خطيئتي والذي داويته بصدق توبتي.. وخوفي منك.. ألا تسامحني أبداً.. والذي حاربته أنت معي عندما صارحتني بحبك فور ما أفقت من إصابتي.. لازلت أذكر لحظة طعنني بالسكين.. كأنما تخلصت وقتها من روح وارتديت روحاً ثانية .. كذلك شعرت بها هي اليوم عندما كلمتها.. عزة تمردت.. ليس تمرد العنيد الغاشم بل صحوة الغافل..

تقطع عبارتها وهي تنتبه للابتسامة الكبيرة التي ملأت وجهه..
كشمس ثانية!
شمس غشيتها بدفئها وهو يغمرها بين ذراعيه.. يغمر وجهها بقبلاته لتستقر شفتاه على موضعه الأثير عند شق ذقنها مع همسه:
_هو حظي أنا يا ليمونية.. أن أحب روحك الأولى وأعشق الثانية وأهيم بالثالثة لو وجدت.. لا مانع لدي أن أحبك كل مرة كأنها أول مرة.

فتضحك بدلال وهي تزيحه ببعض الرفق هامسة باستنكار مصطنع:
_لا فائدة فيك! أنا أحدثك عن البائسة تلك وأنت تتغزل فيّ؟!
_ما حيلتي في "ست الحسن" التي تكفيني نظرة في عينيها لأكتفي بها من الدنيا؟! وأنسى بها كل الدنيا؟!

يهمس بها بعاطفة مشتعلة لم تنطفئ جذوتها رغم كل هذه السنوات لتستطيل على أطراف أصابعها تقبل رأسه بمزيد من توقير وحب..
ثم تتذكر ما كانت تحكي عنه لتتنهد قائلة:
_لن أخبر هيام فقد وعدت عزة.. لكن أمراً كهذا لن يخفى خاصة مع شهرة عزة الإعلامية ومتابعة الملايين لها مع زوجها مؤخراً.
_دعيها لوقتها.. فهمي عاد اليوم من عمله.. مر عليّ في الورشة.
يقولها بعفوية وهو يستلقي على الأريكة القريبة فتجلس جواره قائلة :
_أعرف.. رأيته منذ قليل في الشرفة يسقي الزرع.. طيبٌ فهمي.
يصدر همهمة موافقة وهو يسترخي في تمدده لتردف بتردد :
_طيب حد استضعافه من الناس.. لا أصدق أن الحاجة عفاف ربتكما معاً! هي أخبرتني أنها كانت تتعمد أن تقسو علي في أول أيام زواجنا لأنها كانت تخشى أن "آكل عقلك" مثلما فعلت هيام معه.. لكنني أثق أن الأمر لا يتعلق بالحب.. بل بالضعف.. حِلمه الغريب على فظاظة هيام المنفرة يبدو لي مبالغاً فيه.. كيف يكون هذا شقيقك؟
_تقصدين أنني جبار ومفترٍ؟!
يرفع بها أحد حاجبيه بتهديد مصطنع فتضحك وهي تقبل وجنته بنعومة قائلة :
_" فشر! "! أنت أفضل رجل في الدنيا.. أنا فقط أعني أنه دوماً خانع.. يده في المياه الباردة.. لا يأخذ قراراً ولا يحمل مسئولية.. حتى عندما صارحك برغبته في تطليقها تراجع عندما أمرته بهذا.. لازلت عند رأيي.. هو يحمل جزءاً من مسئولية ما يحدث مع هيام.

فيتنهد بحرارة وهو يبسط كفها علي صدره.. عيناه تزوغان في الفراغ كأنه يستعيد ماضياً سحيقاً :
_أحياناً أحمد الله أنه صار كهذا.. لا تتعجبي.. أنت لا تعرفين كيف كان فهمي في صغرنا.. أمي أنجبتني بعده بما يقارب العشر سنوات فقدت فيها الأمل في الإنجاب.. دللته بأقصى ما استطاعت حتى إذا ما أتيت أنا انشغلت بي بطبيعة الحال.. تحكي لي أنه كان شديد العدوانية منذ طفولته.. عدوانية زادتها غيرته مني عندما ولدت وصار اهتمامها بي أكثر بطبيعة الحال.. حتى أنها دخلت الغرفة يوماً وأنا رضيع لتجده يضع الوسادة فوقي ويجلس فوق كلينا..

تشهق بدهشة مستنكرة :
_فهمي؟!

يبتسم لدهشتها وهو يقبل كفها بخفة مردفاً :
_أآه! لا تعرفين كم كان يذيقني الويلات في صغرنا.. من أول كراتي التي كان يمزقها.. مروراً بخنق الكتاكيت التي كنت أربيها.. وانتهاء بإحراق كتبي في المدرسة..

_فهمي؟!
تكررها من جديد باستنكار ليضحك لدهشتها قليلاً وهو يردف بشرود عاد يبتلعه :
_طبعه كان شديد الحدة.. لكنه كان شديد الذكاء وافر الطموح.. كان شديد الهوس برغبته في الالتحاق بكلية الشرطة.. بل كان يأمرني أنا ورفقائي في صغرنا أن "نضرب له تعظيم سلام" في ذهابه ومجيئه.. أمي تقول أنه كان يجبرها في صغره أن تكون ثياب العيد له هي "بدلة ضابط".. وكان يرسم لنفسه دوماً صوراً بها.. هو بالفعل قدم في كلية الشرطة لكن رفضوا أوراقه لأسباب لا داعي لذكرها كما تعلمين.. ولأنه كان شديد العناد رفض الالتحاق بأي كلية أخرى واكتفى بشهادته الثانوية يتنقل بين مهن مختلفة لكنه كان - بالكاد- يبقى في مهنة واحدة سنة كاملة علي الأكثر! إما كان يتشاجر مع صاحب العمل أو يرفضه الأخير لسوء طباعه.. فشل خلف فشل جعل منه أسوأ صورة قد تتخيلينها.. لازلت أذكر بكاء أمي كل ليلة وهي تسمع النساء يعيرنها به وبخيبتها فيه.. الخيبة التي كانت تترجمها لمزيد من تعنيفه ويترجمها هو للمزيد من العدوانية وكراهية الجميع.. أذكر أنني عدت يوماً للبيت لأجد الشقة غارقة بأكملها في الماء بعدما ترك الصنبور مفتوحاً على آخره وسد منافذ الصرف مستغلاً خروج أمي.. زعم أنه لم يقصد لكن ملامح وجهه الظافرة وقتها كانت تفضح فعلته!

_فهمي؟!! كأنك تتحدث عن واحد آخر؟!
لا تزال تكررها باستنكار لتتحول ضحكته لابتسامة بائسة وقد كسا الحزن وجهه مع استطراده:
_هو فعلاً تحول لآخر! سبحان مغير الأحوال!

_ماذا تعني؟!
تسأله برهبة غلبت فضولها والدمع يتسرب لعينيها الرقيقتين رغماً عنها ليرد بشرود :
_يالله! يبدو هذا بعيداً جداً.. كأن لم يكن.. أخبرتك أنه تنقل في المهن بفشل رغم ذكائه الشديد الذي كانوا يشيدون به لكن عدوانيته كانت تفسد كل شيء في النهاية.. حتى استقر به الحال أخيراً في العمل في حسابات سلسلة محلات كبرى يمتلكها رجل مرموق.. أظنك تعرفين اسمها.. (...)!
تهز رأسها بفضول ليردف :
_العمل الوحيد الذي استمر فيه.. العمل الوحيد الذي لم يشتكِ منه صاحبه.. العمل الوحيد الذي شعرت أنه لمع فيه حقاً.. لمع بوضوح كأنه تحول لآخر أكثر هدوءاً.. أكثر تفهماً. . كلنا انتابتنا الدهشة حتى علمنا السبب..

ترمقه بنظرة متسائلة والفضول يشعلها أكثر مع استطراده:
_الحب! ابنة الرجل الكبير صاحب سلسلة المحلات نفسه! أحبها فهمي حد الهوس وكذلك هي.. لكن تعرفين كيف تسير الأمور في مثل هذه الحالات.. رفضها أبوه رغم أن فهمي أرغم أمي وقتها أن تبيع كل مصاغها بل وتمنحه نصيبي في إرث أبي كي يقرب المسافات بينهما.. بالطبع شقيقي المجنون وقتها لم يعترف بالخسارة.. أخبرنا أنه سيهرب معها.. أمي رفضت مساعدته بالطبع واستعانت بأقاربنا ليقفوا في وجهه.. لكن.. الأحمق فعلها بعيداً عنا

تشهق بحدة مستنكرة متسائلة :
_وماذا بعد؟!
يلتفت نحوها من شروده ليزفر قائلاً:
_هذا ما لا يعرفه أحد! ظهر فجأة كما اختفى فجأة.. بعد شهور من غيابه..أرجح أن أقارب الفتاة عرفوا بمكانهما وأعادوها قسراً..لم يتحدث أبداَ عن الأمر .. عاد كأنه أسد جريح ينتظر الفرصة لينهش لحم أحدهم.. عدوانيته عادت أقسى.. شراسته صارت لا تطاق.. بعضهم أشاع أنه كان في السجن لكنه لم يقل شيئاً عن هذا.. بقي صامتاً كبركان خامد ينتظر اللحظة المناسبة كي ينفجر.. لكن هذه اللحظة لم تأتِ أبداً.. والحمد لله.. ربنا دبرها من عنده.. رزقه بفرصة للسفر ل(...) كما تعلمين.. قضى هناك ما يقارب الخمس سنوات عاد بعدها شخصاً آخر.. فهمي الذي تعرفينه الآن.. شخص منطفئ مستسلم.. يمشي"جنب الحيط" كما يقولون ولو استطاع لاختبأ خلف "الحيط" نفسه!
_غريب! الآن أتذكر.. عبد الله أخبرني شيئاً كهذا عندما تقدمت أنت لخطبتي.. أخبرني أن لك أخاً كانت له طباع صعبة لكن ربنا هداه..
تتمتم بها بإشفاق ليتنهد قائلاً:
_فعلاً غريب.. لكن "الغربة تربي" كما يقولون! لعل شعوره بالفارق الطبقي مع تلك الفتاة التي أحبها قد كسره.. لعله وجد بعض النجاح في عمله هناك.. لعله كبر وازداد تعقلاً.. أو لعلها دعوات أمي له بالهداية كما تقول!
_وكيف تزوج هيام؟!
_عادي! أمي رشحتها وذهب لرؤيتها عقب استقراره هنا.. قوة شخصيتها وتسلطها كانت واضحة بعض الشيء من البداية حتى أننا توجسنا أن يعود معها لطبعه القديم.. لكنه بدا متسامحاً مع هذا.. لا أدري لماذا شعرت أنه يرى في قوتها بقايا نفسه القديمة.. لكن الأيام مرت وتحول تسلطها لفظاظتها المنفرة التي تعرفينها.. كما تحولت رغبته للتعايش لخنوعه الآن.. المسكين.. كأنه يأس من كثرة ما خبط رأسه في الحائط! اسأليني عن قهر الرجال عندما يشعرون بعجزهم.. يبدو أنه أحب تلك الفتاة الثرية حقاً وفقد روحه بعدها.. ربما كان هذا أفضل في حالته لأن الحزن روّض شراسته.. لكن التوازن حلو.. وهو صار النقيض الخانع المثير للشفقة!

_سبحان الله! صرت أشفق عليه فعلاً.
تقولها رؤى ليزفر مغمغماً ببعض الأسى:
_ماذا لو عرفتِ أن الفتاة التي أحبها توفيت بعد زواجه من هيام بفترة؟! حادث سيارة كانت تستقلها مع عائلتها وانقلبت بهم في الماء.. أظن هذا أيضاً كانت القشة الأخيرة التي قصمت ظهره وجعلت منه هذا الرجل المستسلم الذي تعرفينه الآن .. لهذا لا نقسو عليه أنا وأمي كثيراً.. هو في النهاية رجل خاسر.. خسر حلمه في كلية الشرطة التي كان مهووساً بالالتحاق بها.. وخسر حلمه في الفتاة التي أحبها بجنون.. والحمد لله أنه لم يخسر أكثر.

تهز رؤى رأسها بإشفاق لتسأله:
_هل تعلم هيام كل هذا؟!
_لا أحد منا أخبرها.. ولا أظنه هو الآخر قد فعل! أظنه نسي الماضي وتعايش مع خسارته كما ترين.
يقولها راغب ليسمع كلاهما صراخ هيام من جديد يأتي من شقتها فيتبادلان نظرة مختلفة هذه المرة..
ليزداد إشفاق رؤى على.. "الرجل الخاسر"!
======





*بنفسجي*
======
_ما هذا المكان؟! لماذا أتيت بنا إلى هنا؟!
تهتف بها ديمة بخوف وقد غلبها "أزرقها" بينما هي جالسة في سيارته التي أوقفها أمام أحد البيوت على شاطئ ساحلي منعزل..
ورغم رضاه عن خروجها عن صمتها الذي تتشبث به منذ تلك الليلة التي كاد يتركها فيها لكنان.. لكن حسام يتجاهل سؤالها للحظات وهو يلتفت نحو سند الذي استكان في حضنها ليسأله باهتمام :
_تحب البحر؟!
لا يبدو الصغير مهتماً سوى بالصندوق الصغير الذي جلبه حسام معهم والذي انبعث منه صوت مواء قوي فيكتفي بابتسامة راضية..

يترجل حسام من السيارة ليفتح البيت أولاً ثم يعود إليهما..
تتشبث ديمة بمكانها في السيارة ونظراتها الزائغة تفضح المزيد من خوفها..
لماذا جعلهما يتركان بيته في العاصمة؟!
ولماذا أتى بهما لهذا المكان وحدهم؟!
تراه يفكر في طريقة لعقابها؟!
تراه يؤذيها؟!
لهذا منع كنان من اصطحابها معه تلك الليلة؟!
يريد أن ينتقم منها بطريقته بعدما انتقمت منه بطريقتها؟!
الخوف يحتكر خفقات قلبها حد الجنون.. لكن..

_كفاكِ تفكيراً في "الانتقام" يا ديمة.. دعي عنكِ وزره فليس لكتف مثل كتفك.. استفتي قلبك.. هو يعرف خريطة كنز سكينته.

لا يزال شبح هالة الأبيض باقياً معها.. يعرف متى يتدخل!

تشعر بكفه يمتد نحوها فترفع إليه عينين حائرتين قبل أن تجد نفسها تمد كفيها كليهما لتتشبث به..!
تبدو وكأنها حركة بسيطة كأنه يساعدها في الترجل من السيارة لكنها كانت عظيمة الأثر لكليهما!

يتحرك بها نحو الداخل لتتوقف خطواتها رغماً عنها أمام البيت..
هدير البحر حولها.. رائحته التي تمتزج في أنفها برائحة الموت.. باب البيت الذي لا تدري ماذا يخفي خلفه..
كم بيت دخلت منذ غادرت سوريا؟!
لا تحسب.. كيف يمكنها أن تحسب؟!
غربة خلف غربة تقطع المزيد من جذور شجرتها وتنذرها بالسقوط!
لكنه يبسط ذراعه الحر على كتفيها هامساً:
_خائفة؟!
_اكتفيت من البحر.. اكتفيت من البيوت الغريبة.. كفى.. كفى..
تكررها عدة مرات بصوت يعلو تدريجياً مع خفقات قلبها لتصل عبارتها حد الصراخ في المرة الأخيرة رغماً عنها وكفاها يتركان كفه لتدفن فيهما وجهها وقد بدت على شفا انهيار جديد..

لكنه يفهمها حقاً هذه المرة.. ليس فقط بتأثير توجيهات كنان إنما بحدس قلبه الذي صار عالماً بأدق تفاصيلها..
لهذا ينزع كفيها عن وجهها ببطء.. يربت على وجنتيها اللتين اشتعل النمش فيهما كشهود على ندوب الماضي..

_جربي هذه المرة.. ثقي بي.

لا يزال "طغيانه الحاني" يلقي أثره في روحها..
خاصة وقد تخلص من غروره القديم ليلتحف بهذا الوجع الذي تدرك أنها سببه!
هل سامحها؟!
هل سامحته؟!
لا تريد التفكير.. فلتلقي له زمام روحها يوجهه كيف شاء!

تلقي أولاً نظرة متفحصة علي سند الذي انزوى في ركن بعيد داخل صالة البيت يلاعب القطة الجديدة التي أحضرها حسام معه..

_أين.. ؟!
تكاد تسأله عن جراء سلطانة لكن.. يذبحها السؤال فتعض شفتها قاطعة عبارتها!
لكنه من جديد يقرأ صمتها..

_أبقيتهم لدى فهد حتى نعود..خشيت أن يسأل سند عن وجودهم وحدهم دون سلطانة.

كلماته تذبحها أكثر فتجهش في البكاء وهي تتذكر ما فعلته دون وعي!
لكنها تشعر به يقربها نحوه.. قبضتاه تعتصران ذراعيها.. يشير بعينيه نحو ندوب ذراعه حيث كان يطفئ سجائره وهمسه شديد الخفوت بالكاد تسمعه لكنه يدوي داخلها هادراً كالرعد :
_ترين هذه الندوب؟! أنا من أحدثتها.. كل ندبة تساوي جلدة من ضميري عقاباً على ذنب قد اقترفته.. كل هذه السنوات.. كل هذا الذكاء الذي ظننتني أملكه.. كل خبرتي في التعامل مع البشر.. كلها لم تكن كافية لأدرك أي أحمق كنت عندما تركت الندم يسيرني للطريق الخطأ.. ولن أسمح أن أراكِ نسخة أخرى مني..


_أنا..أنا أريد أن أتكلم.. أن تسمعني.. الكثير هنا.. وهنا.. الكثير.. الكثير.. الكثير..
كلماتها المتحشرجة بانفعالها متخبطة حارة تائهة وهي تشير لرأسها ثم لصدرها بعجز أدمى قلبه مردفة:
_لكن.. كل الكلام يذوب على شفتي.. يخنقني وهو محبوس داخلي.. ويهددني لو خرج من فمي.. إلى متى سأصبر أنا؟! إلى متى ستصبر أنت؟!

تقولها لترفع إليه عينيها الدامعتين اللتين تتسعان ببطء..
عقدة حنجرته تبدو لها كصخرة تصلح للاختباء خلفها..
لإسناد ظهرها المتعب عليها..
ولنقش رسم من رسومها الطفولية فوقها.. رسم لطائر يفرد جناحيه كي.. يحلق!

لكنه يهزها من جديد بين ذراعيه بقوة وهمسه الخافت يزلزل كيانها :
_لا تتكلمي.. ابقي حبيسة صمتك كما شئت.. أو اصرخي.. املئي الدنيا صخباً لو أردتِ..لكن لا تستسلمي مثلي.. لا تضيعي المزيد من العمر.. كنتِ تريدين الشعور بقوتك؟! الآن أظنك تفعلين.. كفي عن رثاء ذاتك إذن وأدركي ما بقي من أيامك.. أظنك الآن تفهمين كم تشابهت خطايا ماضينا.. أظنك الآن تفهمين كيف يمكن أن نرتكب ذنباً لم نتعمده.. كيف هو شعور من يفيق ليجد ذنبه يحاصره وهو عاجز عن إصلاح ما اقترفته يداه.. ليجد الندم قاسياً.. قاسياً جداً.. لكنه لا يجدي..

يتحشرج صوته في هذه اللحظة كأنه يكتم بكاء يخنق روحه فلا تشعر بنفسها وكفاها يرتفعان ليتشبثان بذراعيه كما يفعل هو..
ترى انعكاس صورتها في عينيه فتود لو بقيت هذه فقط.. مرآتها الجديدة!
نقمت عليه يوماً لأجل ذنبه القديم واليوم يجيد القدر تبديل الكراسي لتجد نفسها قاعدة مكانه!!
وأمامها كان هو يشعر هو برجفة جسده..
هذه الرجفة التي تبدو وكأنها تخصها وحدها!
رجفة رجاء أن تقترب.. تلتصق..بل تخترق.. تسكن روحه فلا تغادر..
وأن تبتعد.. تحلق.. تتلاشى.. تختفي في سماء حرة لا يقيدها عجز رجل مثله..
فيالسخرية! بل ياللصراع!

حلقة الزعفران في عينيها تعود لوهجها الباهت لكنه يكفيه ليشعر أنها.. تراه!

فيعود ليغرس همسه في كيانها :
_لو كنتِ تنتظرين مني أن أعاملك كضحية تستحق الشفقة فلن أفعل.. ولو كنتِ تنتظرين مني أن أقتص منك كجانية تستحق العقاب فلن أفعل كذلك.. أنتِ في عيني صورة مرآتي.. المزيج الرمادي الذي ضل طريق الأبيض ونفر من طريق الأسود.. لهذا سأبذل كل جهدي لأعيدك لذاتك.. قلتها وأقولها وسأبقى أقولها حتى يسدل الفراق القادم ستره بيننا أنا معك)

"أنا معك" الساحرة!
كيف تخبره ما الذي تصنعه فيها هذه العبارة؟!
تحييها بعد عدم!!

_لماذا تفعل معي هذا؟! لماذا تساعدني؟! لماذا تدعمني كل هذا القدر؟!

أسئلتها تتوالى تباعاً وعيناها تبحثان في عينيه على الإجابة التي تكاد توقن فيها..
عقدة حنجرته تتحرك بارتباك فتبدو لها كسرب فراشات يغريها بمطاردته حتي حدود السماء..
رجفة جسده بين كفيها تزداد وشفتاه تنفرجان كأنه على وشك الإجابة..
لكنه يزمهما بقوة للحظات وهو ينظر من بعيد لسند المنشغل بملاعبة قطته..
قبل أن تصلها كلماته وهو يشير بعينيه للصغير :
_لأجل هذا! أريده ألا يحنق عليّ عندما يكبر.. لو عرف الحقيقة يوماً وأدرك أنني كنت سبباً في فقده لأمه ليدرك كذلك أنني كنت سبباً في بقاء أخرى.. أجل.. أنت أمه الثانية التي سأفعل أي شيء كي تبقى له.. ومعه.

_فقط؟!
عيناها ضارعتان بالسؤال.. وعيناه فائضتان بالجواب..
لسانها زاخر بالأسئلة.. ولسانه عاجز عن الرد..
فتبقى القلوب موصدة على ما فيها!
لا تزال مشتتة.. لا تفهم ماذا تريد.. كل هذه الفوضى داخلها تربكها..
فتترك نفسها للاستسلام لعقيدة واحدة..
أنها "تحتاج" البقاء معه.. بل.. "تريد" البقاء معه..
الآن.. على الأقل!

_أحضرت لك هذا هنا.. أظنك تحتاجينه.
يهرب بها من رغبته العارمة في هذه اللحظة أن يضمها لصدره وهو يزيح كفيها عن ذراعيه برفق مشيراً للنول الخشبي هناك الذي ترمقه هي بلهفة قبل أن تتحرك نحوه..
تتحسسه بأناملها بحنين شارد لتشعر بكفه على كتفها..
وبهمسه يراقص خفقات قلبها :
_لن تخافي من البحر بعد الآن.. لن تخافي من البيوت الجديدة.. لن تخافي من أشباح الماضي.. لن تخافي من ذنوبك.. أناملك ستتعلم كيف تغزل ثوب تعافيها كما تعلمت غزل الحرير.

ابتسامتها شديدة الوهن تكاد لا تراها عيناه.. إنما بكل اللهفة رآها قلبه.. بل تلقفها!
يعلم أن طريق شفائها لا يزال طويلاً.. لكنه يثق أنه سيكملها معه حتى آخره..
ساعتها فقط سيفتح لها باب الخروج من حياته..
حريتها التي تستحقها بعد كل ما ذاقته من ويلات..
حتى لو كان قلبه هو القربان!

ربما لهذا وجد على شفتيه ابتسامة تشبهها وهو يلتفت نحو سند ليسألها :
_لم أسمِّ له القطة الجديدة.. اختاري أنتِ اسمها.

يفاجئها السؤال فتهز كتفيها بتردد لكنه يعود ليهمس بحسم :
_اختاري.. اختاري اسمها.

عيناها تشردان في الفراغ للحظات قبل أن تهمس بخفوت :
_وعد..أمل.. أو.. ربما فجر.

ينعقد حاجباه بشدة مع وقع الاسم الأخير عليه ليتمتم بشرود :
_فجر؟! ياله من اسم!
_لماذا هو بالذات ما جذب انتباهك؟!
يتنهد بحرارة وهو يطرق برأسه قائلاً :
_تعلمين أنه كان اسم أختي الراحلة؟!
_كان لك أخت؟!
تسأل ببعض الدهشة وقد ظنت أنها عرفت تفاصيل حياته كلها فيرد ولا يزال مطرقاً برأسه :
_ابنة عمي وأختي في الرضاعة.. ماتت في حادث منذ سنوات طويلة مع عائلتها.. لو كانت هناك امرأة في الدنيا أحبتني كأمي لكانت هي بلا منازع.

كفها يعانق كفه في مواساة صامتة لكنه يتنحنح متجاوزاً مشاعره وهو يسمع هاتفها.. صوته يعلو بالأذان حسب تطبيق الصلاة..
يعرف أنها لم تعد تؤخرها.. توجيهات كنان من ناحية ورغبتها هي في استعادة روحها المفقودة من ناحية أخرى..
لهذا لم يتعجب سلوكها وهو يراها تنسحب نحو ركن قريب تستقبل القبلة لتصلي كأنها لا تشعر بأحد..

يراقبها من بعيد برضا لكنه يشعر بكف سند يمسك كفه فيخفض بصره نحوه ليشير الصغير برأسه نحو ديمة..
ينحني إليه حسام ليسأله بصبر :
_ماذا تريد؟! تريدها؟! هي تصلي.. عندما تنتهي ستعود إليك.
لكن الصغير يهز رأسه وهو يعاود الإشارة نحوها متشبثاً بكفه هو أكثر فيحاول حسام فهمه:
_تريد الصلاة مثلها؟!
يهز سند رأسه ثم يشير بسبابته لصدر حسام فيرتفع حاجبا حسام بهمسه:
_تريد الصلاة معي؟!

يبتسم الصغير وهو يهز رأسه لتتجمد ملامح للحظات وهو يشعر بانتفاضة قلبه داخله..
يصلي!
هو لم يفعلها منذ عهد بعيد يكاد لا يذكره!
ذنوبه قيدته وهو انساق خلفها راضياً بقناع شيطانه!!
حتى عندما أدى صلاة الجنازة على أمه فعلها بقلب غائب مراعاة للناس..
والآن ؟!
هل له من عودة؟!
هل هي الخطوة الأولى ل"وجهه الأبيض"؟!

يشده الصغير من طرف قميصه ليجذبه من شروده فيلتفت نحوه بتشتت مغمغماً :
_انتظر.. فقط.. قليلاً.. كي..
يقولها شاعراً بوزره يثقل كتفيه لكن الصغير يشده أكثر بإصرار ليرمقه بتردد لم يدم سوى للحظات قبل أن يحسم قراره بسرعة بما يناسب شخصاً مثله.. :

_دعني أعلمك كيف تتوضأ أولاً.

يخاطب بها الصغير وهو يتحرك معه نحو الحمام القريب.. يفتح صنبور الماء لتدمع عيناه وهو يشعر لأول وهلة بملمسه البارد على جرح قلب ملتهب كقلبه!

يقشعر بدنه وهو يعلم الصغير الوضوء فيقلده الأخير في حركاته بحماس قبل أن يركض بلهفة طفولية نحو المنشفة القريبة فيعود بها إليه.. يشير سند له أن ينحني فيستجيب حسام بتأثر وهو يرى الصغير يقلب الأدوار فيجفف له وجهه وذراعيه!
لا يشعر بنفسه إلا وهو يضمه إليه بقوة دافناً تأوهه في كتفه الصغير الذي يشعر الآن أنه يسع العالم!

يحمل الصغير ليتحرك به نحو الخارج من جديد.. يضعه أرضاً ثم يوجهه نحو القبلة.. يقف أمامه وهو يأمره أن يقلد حركاته فيهز سند رأسه بطاعة..
يبدأ في الصلاة..

(الله أكبر)

يشعر برهبتها تشطر قلبه نصفين في موضع كهذا!
هل يقبله (الملك المهيمن القهار العزيز المنتقم) بعد طول إعراضه؟!
نعم.. يقبله (الرحمن التواب الغفور الرحيم الودود)!

يغمض جفنيه على دمعة خاشعة وهو يستمر في صلاته شاعراً بحركات الصغير خلفه يقلده..
حتى إذا ما استوى جبينه "الذي طال غروره" بالأرض شعر ساعتها أنه حقاً قد بلغ غايته..
أنه أبداً لن يعود لطغيانه القديم.. أبداً!

قلبه يلهج بدعاء لا يفقهه لسانه إنما يوقن أنه لن يخفى عن خالقه..
(ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)؟!

ينهي صلاته ليسلم شاعراً أنه مع إيماءة رأسه نحو كل من كتفيه قد أزاح معها وزراً طالما أنهكهما..
ليته عرف الطريق من زمن.. ليته!

_الحمد لله.. الحمد لله..
للمرة "الثالثة" في حياته يشعر بها بمذاق مختلف..
المرة الأولى كانت عندما أنقذ دعاء من الانتحار فوق السطح..
والثانية عندما نجح في كبح جماح نفسه عن ديمة وهي حلاله..
والآن.. لا تقل أثراً عن كليهما..
كأنها المطر الذي تنتظره أرضه الجدباء.. لتنبت!

_إنها أول مرة يطلب فيها أن يصلي.

تهمس بها ديمة وهي تراقبهما من علوّ وقد كانت قد فرغت من صلاتها.. فيسبل حسام جفنيه على دمعة تأثر!
يهرع الصغير إليه ليحتضنه فيضمه بقوة وهو يهمس في أذنه بينما أصابعه تتخلل شعره بصوت خنقه تأثره:
_يوماً ما ستذكر أنني أول من علمتك الصلاة؟!
يرفع سند عينيه إليه بابتسامة بريئة تشبهه..
ابتسامة يغمض هو عينيه عليها كأنه يحتفظ بها كنزاً بين جفنيه وهو يهمس لنفسه سراً :
_أما أنا فلن أنسى أبداً أنك من أعادني إليها.
=======








_هو بالداخل؟!
يسأل الكوبرا بما يوازي "تحصيل حاصل"!
فهو يعلم أن الرجل الذي طلب إحضاره قد أتى به رجاله مقيداً داخل الغرفة..
يرد رجله غليظ الهيئة بتوقير مبالغ فيه:
_كما أمرت سيدي.. أحضرناه حياً..هذا لو لم يكن الرعب قد قتله في هذه اللحظات.

يبتسم برضا وهو يصرف الرجل ليدخل الغرفة وحده ويغلق بابها الحديدي خلفه..
تطالعه عينا الرجل المقيد بذعر ليهتف بهلع:
_أعتذر يا سيدي.. أعرف أنني قد أخطأت.. لكنهم أجبروني.. أرجوك يا سيدي.. أنا رجلك منذ زمن بعيد.. أنا خدمتك كثيراً.. أنا..

_أنت خائن.
يقاطعه بها ببرود وهو يتناول "مشرطاً" حاداً من على مائدة قريبة يتقدم به نحوه.. هذا الذي جعل عيني الرجل تجحظان برعب وهو يحاول تحرير قيود جسده شبه العاري على مقعده إنما.. دون جدوى!

بينما يسحب الكوبرا كرسيه ليجلس قبالته مردفاَ بنفس البرود :
_أحب الخائنين في العادة.. هم وقود مهنتنا يا صاحبي.. الخائن لدينه.. لوطنه..لأهله.. لمبادئه.. بمن سوى هؤلاء تظن كياننا يكبر؟! لكن المشكلة عندما ينقلب النصل ليصوب نحو صدري.. ساعتها أغضب.. أغضب كثيراً.. فلا أراني أستحق الخيانة.. أنا أمنحكم بسخاء كل ما تريدونه ولا أطلب في المقابل سوى القليل.. أحب الخيانة يا صاحبي لكن.. أكره الجحود!

يصرخ الرجل صرخة مباغتة والمشرط الغادر يجرحه في ذراعه فجأة ليعود لرجاءاته ومنظر الدم النازف يثير هلعه أكثر :
_أرجوك.. أنا مستعد لإخبارك بكل شيء.. كل شيء عن..

يصرخ من جديد قاطعاً عبارته والمشرط يصيب فخذه هذه المرة بينما يقول الكوبرا بنفس البرود :
_أنا أعرف ما أريده بالفعل.. ما رأيك أن أخبرك أنا بقصة لطيفة؟!
يرمقه الرجل بنظرة مرتعبة تبعتها صرخة أخرى والنصل ينال من صدره هذه المرة..
بينما يبدو الكوبرا غير مكترث كأنه لا يفعل شيئاً وهو يغمغم بنفس النبرة الباردة :
_كان يمكن أن أمرهم بقتلك.. أو أن أقتلك أنا مباشرة.. لكنني فضلت هذه الطريقة.. سأصفي دمك حتى الموت.. لماذا؟! أولاً.. كي تكون عبرة لمن خلفك.. وثانياً.. لأنني في أحيان قليلة.. قليلة جداً.. أرغب في الكلام مع من مثلك.. في سرد حكايتي وأنا مطمئن ألا يفشي السامع سري.. هذه اللحظات التي تفصل بين الموت والحياة مقدسة.. مقدسة جداً يا صاحبي.. ولن أجد أفضل منها كي أشاركك فيها حكاية رجل عظيم مثلي.

_أنت مجنون.. مجنون..

يصرخ بها الرجل وقد غلب ألمه خوفه ليبتسم الكوبرا وهو يصفعه صفعة قوية زلزلت وعيه للحظات قبل أن يطلق الرجل صرخة مكتومة وهو يكتشف ما أصابه النصل هذه المرة..
لسانه!

_هكذا أضمن.. مادمت سأحكي لك حكايتي. . لا أحب المفاجآت ولا أثق دوماَ باللحظة القادمة.

الدم يختلط بالدموع المقهورة علي وجه الخائن لكن الكوبرا يرتخي في جلسته عاقداً ساعديه أمام صدره مغمضاَ عينيه ليقول بنفس البرود الذي شابته أخيراً لمحة مشاعر :
_من أين أبدأ؟! من الطفولة؟! هل يمكن أن تصنع طفولة عادية رجلاً عظيماَ مثلي؟! أشك! أذكر أنهم كانوا يعاملونني جيداً كما أستحق حتى جاء ذاك المزعج الصغير الذي جذب انتباههم كله.. كانوا يظنونني أبله.. يشترون لي الألعاب ويخبرونني أنه هو من اشتراها.. كبر الصغير المزعج وكبرت معه المقارنة.. هو دوماَ الطيب وأنا الشرير.. هو الصالح وأنا الفاسد.. لهذا كنت أسعى دوماً لتحقيق العدالة معه.. كنت أفسد أشياءه.. أقلب عليه أصحابه.. أشي به عند أبويّ.. وعندما كبرت قليلاً علمت أن العدالة التي أريدها تحتاج لسلطة.. لنفوذ.. لهذا اجتهدت قدر استطاعتي في الدراسة حتى أحقق هدفاً لن يقدر هو على تحقيقه.. كنت أعلم أنه غبي.. أنا الأذكي.. الأمهر.. حصلت على مجموع عالٍ وقدمت في كلية الشرطة كي أحقق ما أريد.. لكن.. تعلم كيف تسير الأمور في العادة.. ركلوني ككلب أجرب والسبب "غير لائق اجتماعياً"..

يقولها وهو يتحرك فجأة ليصيب نصله ذراع الرجل الآخر فيطلق الأخير صرخة مكتومة وقد بدأ الوهن يغزوه بأثر النزف..

لكن الكوبرا يعود لمكانه من جديد بنفس البرود.. ليكمل :
_أغبياء! ظنوني تخليت عن حلمي ب"العدالة" لمجرد أن حرموني من كلية الشرطة.. ظنوني قد أقنع ب"الأقل".. هراء! كنت أعرف أنني سأصل.. أنا دوماً الأذكى والأمهر.. صحيح أنني تنقلت بين المهن الحقيرة التي لا تلائم طموحي.. لكن كفاني منها أنها أوصلتني في النهاية.. إليها هي.. فجر!

يسقط المشرط من يده أرضاً فتتسع ابتسامته وهو يتأمله مكانه..
كأنما يليق بها أن يفقد كل سيطرته على جسده ولو بأثر اسمها فحسب..

_لن أصفها لك.. فأنا نفسي أعجز أحياناً عن تذكر ملامحها الحقيقية.. هي في عيني شمس.. شمس يبهرك شعاعها فلا يمكنك تبين تفاصيل حدودها.. عندما رأيتها لأول مرة شعرت أنها يجب أن تكون لي.. ملكي.. رغم كل الفوارق بيننا فقد كانت ابنة صاحب العمل الأخير الذي استقررت فيه..هي أحبتني.. أحبتني كما أستحق.. أحبتني بكل البراءة التي عرفها قلبها الطيب.. رأت فيّ العبقري الذي أراه في مرآتي ولم يكن يؤمن به وقتها سوانا أنا وهي.. رسمت معي الغد الذي أحببته لأجلها..آمنت بي وكانت مستعدة للوقوف في وجه الجميع لأجلي.. لأجلها احتملت سخافاتهم وأنا الذي لم أحافظ علي عمل واحد لأكثر من بضعة أشهر.. لأجلها هادنت أمي وأهلي كي يزللا العقبات بيننا.. لأجلها عرفت معنى التضرع والتذلل لأهلها كي يوافقوا على زواجنا.. لكن الأوغاد كلهم رفضوا.. كلهم.. هي الحسيبة النسيبة وأنا من جديد "غير لائق اجتماعياً".. كلهم حالوا بيننا.. واحد فقط من أهلها هو من دعمنا.. "حسام القاضي".. كان ابن عمها وأخاها في الرضاعة.. لماذا فعلها ؟! ربما لأنه كان يحبها حقاً وقد شعر بحبها لي؟! وربما لأنه كان واقعاً هو الآخر في حب خادمة؟! وربما لأنه - كما قال لي وقتها- كان يرى فيّ إمكانيات تفوق أصلي المتواضع؟!.. لكن دعمه لنا لم يفد شيئاً أمام جبروت أهله.. فلم يكن أمامي إلا أن أهرب بها..

تختفي ابتسامته.. ويختفي معها بروده وهو ينحني ليتناول المشرط من جديد ليرتجف جسد الرجل ارتجافة واهنة مرتعبة وهو يلوح به في وجهه وإن بدا وكأنه لا يراه..

_أخذتها سراً لمكان بعيد في محافظة أخرى نائية.. لم أفعل ما أستحق العقاب عليه.. هي ملكي..كانت وستبقى ملكي.. لم أخبر أحداً من أهلي فقد وقفوا جميعهم وقتها ضدي.. تزوجتها.. عشت معها خمسة عشر يوماً يساوون عمري كله.. حتى كان ذاك اليوم المشئوم.. اضطررت لتركها وحدها في البيت البسيط المنعزل الذي استأجرناه كي أحضر بعض الأشياء.. عدت لأجدها ممتقعة الوجه تخبرني أن صاحب البيت طرق بابها وهي وحدها يسأل عني وأن نظراته لها كانت مخيفة.. فار الدم في عروقي وكدت أذهب إليه كي أتشاجر معه لكنه فاجأني بحضوره في نفس الساعة.. فتحت الباب لأراه أمامي.. ليس وحده بل خلفه أربعة رجال أشداء لا يبدو الخير على وجوههم.. لأول مرة في حياتي شعرت بالخوف.. ليس على نفسي بل عليها.. كنت أحلم دوماَ أن أحتفظ بسلاح لأجل لحظات كهذه.. لكن الواقع دوماً يأتيك بالأسوأ مهما توقعت السيء.. هل أحكي لك ماذا فعلوا؟!

لم يكد ينتهي منها حتى فاجأ الرجل بضربة من نصل المشرط نحو فخذه السليم.. ثم بطنه.. ثم صدره..
لتطيش بعدها ضرباته فلا يفكر أين تكون..
كما طاش عقله في فيوض الذكرى وهي تلهبه بقسوتها.. فيزداد صوته انفعالاً حتى يصل حد اللهاث :

_أسوأ ما في الماضي أنه لا يموت.. يزورك كضيف ثقيل تزداد قسوته مرة خلف مرة.. أراهم الآن كما فعلوا ليلتها..يهتفون بسخرية حقيرة أنهم يعرفون أنها ليست زوجتي.. أو أنها هاربة معي على أفضل تقدير.. أصرخ بهم ألا شأن لهم لكن أحدهم يدفعني هاتفاً ألا سبيل لسترنا إلا لو تقاسمناها.. ألعنه وأنا أندفع لألكمه في وجهه لكن ثلاثة منهم يتقاتلون معي.. والاثنان الباقيان يقيدانها هي.. تصرخ هي فأشعر أن الدماء نيران في عروقي.. ضربت اثنين منهما لكن الثالث غافلني بضربة على عنقي.. لا.. لم تفقدني وعيي وليتها فعلت.. أنا فقط سقطت.. سقطت لأراهم مكاني وقد أغلقوا الباب.. كمموا فمها بوشاحها.. مزقوا ثيابها.. عروها أمامي ليتناوبوا انتهاكها أمام عيني.. كنت أحاول النهوض لكنهم كانوا قد كسروا ساقي وذراعي.. كنت أحاول حتي الاستغاثة لكن صوتي لم يغادر حلقي.. جاهدت ألمي بكل طاقتي وزحفت نحوهم.. لكنهم كانوا يبتعدون بها في كل مرة كأنهم يتلذذون بمحاولتي البائسة.. أحدهم يهتف بصاحبه أن يضربني ضربة تخلصهم مني لكنه يرد عليه أن يتركني أرى ما يفعلون حتي أعرف مقامي..حتى أعرف مقامي.. أبكي.. أبكي.. لأول مرة في حياتي أبكي.. الألم الذي زرعوه في جسدي المطحون لم يكن يساوي شيئاً أمام شعوري بعجزي عن حمايتها.. ينتهون منها.. ينتهون منها وأنتهي أنا من كل شيء..


يقطع حديثه فجأة بعبارته التي بدت وكأنها تخرج من أعمق أعماق روحه.. لتتوقف معه حركة نصله الغاشم فوق جسد الرجل الذي يسقط رأسه فوق جسده فلا يبالي إن كان حياً أو ميتاً..
دمعة حارة في عينيه لا يسمح لها أن تسقط فيبقيها حبيسة جفنيه بينما تعود نبرته لبرودها وهو يسترخي في مقعده مردفاً:
_ ذاك الوقت الذي تدرك فيه أن حياتك لن تعود أبداً كما كانت.. وأنك ستعيش بوجه آخر جديد غير الذي كان لك من قبله.. وأنك ستفعل أي شيء.. أي شيء..كي لا تعيش هذا القهر من جديد.. كي ترى الخوف في عيون أعدائك.. ماذا حدث لها؟! أهلها علموا بما حدث بعد دخولها للمشفى واتهموني بأنني أنا السبب.. أجبروني على تطليقها وأخذوها معهم للصعيد وحبسوها هناك كي يداروا الفضيحة.. أما أنا فلفقوا لي تهمة ما وألقوني في السجن.. بضعة أشهر فقط عرفوا كيف يجعلوها جحيماً آخر عشته.. هناك عرفت كيف تمتهن كرامة الرجل.. كيف يدهس عرضه.. كيف يبتلع الظلم كحذاء قديم.. والذنب الوحيد أنني تطلعت لما ليس لي.. لما ليس من مقامي.. وأنني كنت "غير لائق"..

يقولها ليتحرك فيهز رأس الرجل الذي يصدر أنيناً خافتاً منبئاً بكونه لا يزال على قيد الحياة..
فيبتسم بقسوة باردة وهو ينظر لبركة الدماء تحته مردفاً :
_مثابر أنت يا صاحبي.. تذكرني بنفسي.. آخر من فعلتها معه فقد وعيه بعد عشر دقائق فحسب.. تستحق سماع بقية الحكاية..

يقولها ليعود ويسترخي في مقعده مردفاً :
_حسام القاضي زارني في السجن.. أخبرني بانفعال ساخط أنني قد خذلته بهروبي بها وأنه نادم على دعمه لي في السابق لكنني رأيت في عينيه هذه النظرة التي سأبقى ممتناَ لها ما حييت.. نظرة أشعرتني أنه - رغم غضبه-يقدر هذا الجرح الذي مزق روحي..أنه يعذر عجزي وقلة حيلتي.. أنه يرى مثلي أن العيب لم يكن في الحلم بل في قسوة العالم الذي أجهضه.. كانت هذه آخر مرة رأيته فيها قبل أن أخرج من السجن واعداً نفسي بالثأر.. لم أكن أعرف بداية الطريق حتى سافرت.. التقيت هناك بصحبة ما ظننتهم مجرد رفقاء عمل.. كراهيتي للبلد وأوضاعها لم تخفَ على أحد.. وقد كان هذا هو مفتاح دخولي للمنظمة.. السلم الذي صعدته من أسفل درجاته وحتى قرب أعلاها.. الباب السحري الذي تدفقت معه مواهبي الكامنة.. هم علموني كيف أقتل قلبي.. كيف أذبح مشاعري.. كيف أروض خوفي..لا ولاء لأي شيء.. لا دين ولا وطن ولا عواطف.. أول اختبار لي كان بقتل صديقي الوحيد هناك.. ونجحت فيه.. تلقيت تدريبات كثيرة وسافرت بلاداً عدة بأغطية مختلفة.. حتى قرروا أن أعود لمصر لأكون تحت رئاسة الزعيم الذي سبقني.. (جاسم الصاوي) لو كنت قد سمعت عنه.. عدت لمصر.. بوجهي الجديد.. بل بوجهيّ الجديديْن.. فهمي الخانع المستكين الذي هداه الله بعدما تلطم في بلاد الغربة.. و"الكوبرا" الذي صمم أن يأخذ مكان رئيسه.. غلطات جاسم كانت كثيرة.. لم يكن من الصعب عليّ أن أزيحه من مكانه.. والدرس الذي تعلمته أن أعرف دوماَ نقطة ضعف خصمي كي أجيد منازلته.. ونقطة ضعفه كانت زوجته.. لم يكن إغواؤها صعباَ خاصة والرجل يسافر كثيراً ويتركها لوحدتها.. وفي الليلة التي قررت فيها تدنيس فراشه أعددت كاميرا خفية لتصوير الفيديو.. لم أحسب حساب ابنه الذي عاد فجأة ليطاردني ويقتل المرأة.. القدر حالفني ومات جاسم الصاوي دون أن يفيدني ذاك الفيديو لكن السنوات مرت وكان هذا مفيداً بشأن ابنه.. صرت بعده الزعيم.. يد المنظمة هنا..
فجر؟! تريد أن تعرف ماذا فعلت معها؟!

يقطع حديثه ليمسك معصم الرجل متفقداً نبضه المحتضر..
ليردف ببروده القاسي:
_أول ما فعلته عند عودتي أن انتقمت من مغتصبيها.. قتلتهم وقطعت أوصالهم ورميتها لكلاب الطريق.. دبرت ذاك الحادث لقتل أهلها لكنني لم أعلم أنها كانت معهم فقد كانوا يحبسونها في العادة ولا يخرجون بها.. جن جنوني عندما علمت بما حدث لها.. ظننتها قد ماتت لكن القدر كان يدخر لي الجائزة الأكبر.. ظنوها قد ماتت وتكفلت أنا بإقناعهم بهذا.. ثم أخذتها لبيتي حيث ستبقى معي لآخر يوم في عمر أحدنا.. صحيح أنها لا تذكر شيئاً.. لكن ما يعنيني؟! على العكس لا أريدها أن تذكر قسوة الماضي من جديد.. صحيح أنها لا ترى.. لكن ما يضيرني؟! لا أريدها أن تعرفني ولا أن تراني.. كفاني أنني أفعل.. أنها صارت كما كان ينبغي أن تكون من البداية.. معي. ملكي.. فجري الذي قد لا أستحق براءته لكنه يجب أن يكون لي..

يسكن جسد الرجل تماماً فيتفقد نبضه من جديد ليتنهد بحرارة وهو يلقي المشرط جانباً..
يلقي نظرة عابرة علي بركة الدم تحته ليربت على رأسه قائلاً ببرود :
_وداعاً.. وشكراً يا صاحبي.. كنت مستمعاً جيداً.. خشيت أن تموت قبل أن أنهي كلامي..رأيت كم هو عظيم الحديث مع من مثلك؟! هؤلاء الذين أضمن ألا يفشوا الأسرار!
=======
انتهى الفصل الثامن والثلاثون


نرمين نحمدالله غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-08-21, 12:32 AM   #3122

دانه عبد

? العضوٌ??? » 478587
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 513
?  نُقآطِيْ » دانه عبد is on a distinguished road
افتراضي

يا إلهي يا إلهي كمية الألم الحزن الحقد الكراهية والعنف انسان تتجمع فيه كل هذه المشاعر لينتج عنها هذا الشخص فهمي او الكوبرا إبدعتي يا دكتوره فصل حاسم كشف الكثير من الخبايا 💚💚💚

دانه عبد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-08-21, 12:32 AM   #3123

بنت سعاد38

? العضوٌ??? » 403742
?  التسِجيلٌ » Jul 2017
? مشَارَ?اتْي » 524
?  نُقآطِيْ » بنت سعاد38 is on a distinguished road
افتراضي

فصل اكتر من رااائع

بنت سعاد38 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-08-21, 01:06 AM   #3124

zezo ali
 
الصورة الرمزية zezo ali

? العضوٌ??? » 400366
?  التسِجيلٌ » May 2017
? مشَارَ?اتْي » 171
?  نُقآطِيْ » zezo ali has a reputation beyond reputezezo ali has a reputation beyond reputezezo ali has a reputation beyond reputezezo ali has a reputation beyond reputezezo ali has a reputation beyond reputezezo ali has a reputation beyond reputezezo ali has a reputation beyond reputezezo ali has a reputation beyond reputezezo ali has a reputation beyond reputezezo ali has a reputation beyond reputezezo ali has a reputation beyond repute
افتراضي

أنت عظيمة جدا يا أستاذة مشهد الصلاة بتاع حسام وسند حسيت وانا بقرأه أنه لمس روحي خصوصا اني مش ملتزمة في الصلاة وأن ربنا فعلا غفور رحيم

zezo ali غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-08-21, 01:09 AM   #3125

سبنتي أسعد

? العضوٌ??? » 491112
?  التسِجيلٌ » Aug 2021
? مشَارَ?اتْي » 203
?  نُقآطِيْ » سبنتي أسعد is on a distinguished road
افتراضي

فصل جميل
سلمتي
وحشتنا يسرا


سبنتي أسعد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-08-21, 01:13 AM   #3126

imy88

? العضوٌ??? » 456123
?  التسِجيلٌ » Oct 2019
? مشَارَ?اتْي » 111
?  نُقآطِيْ » imy88 is on a distinguished road
افتراضي

فهمي ، 💔💔💔💔🥺🥺🥺🥺🥺🥺🥺

imy88 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-08-21, 01:22 AM   #3127

مريم ابو السعود

? العضوٌ??? » 477851
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 38
?  نُقآطِيْ » مريم ابو السعود is on a distinguished road
افتراضي

يا الله علي الوجع ...😭😭😭... دموعي سبقتني..... شكرا يا نيمو بارت رائع ... 👏💪❤❤❤❤...

مريم ابو السعود غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-08-21, 01:25 AM   #3128

السامورااي
 
الصورة الرمزية السامورااي

? العضوٌ??? » 474059
?  التسِجيلٌ » Jun 2020
? مشَارَ?اتْي » 71
?  نُقآطِيْ » السامورااي is on a distinguished road
افتراضي

يالله ايه كل المٵسي اللي شافه فهمي يكفي حادثة زوجته امامه كسر ليه ومهانة لرجولته و اقسی درجات العجز
مشهد صلاة حسام مۇثر جداااا


السامورااي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-08-21, 01:25 AM   #3129

Mummum

? العضوٌ??? » 441364
?  التسِجيلٌ » Feb 2019
? مشَارَ?اتْي » 462
?  نُقآطِيْ » Mummum is on a distinguished road
افتراضي

يا الله با نيموو رهيب رهيب رهيب الفصل بجد تسلم ايدك حبيبتي

Mummum غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-08-21, 01:50 AM   #3130

Mai aboelmaged

? العضوٌ??? » 454989
?  التسِجيلٌ » Sep 2019
? مشَارَ?اتْي » 119
?  نُقآطِيْ » Mai aboelmaged is on a distinguished road
افتراضي

ابدعتي يا نيمو بجد
ايه العظمه دي بجد 🥺🥺💙💙


Mai aboelmaged غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:16 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.