آخر 10 مشاركات
أكتبُ تاريخي .. أنا انثى ! (2) *مميزة ومكتملة * .. سلسلة قلوب تحكي (الكاتـب : كاردينيا الغوازي - )           »          والروح اذا جرحت (2) * مميزة ومكتملة * .. سلسلة في الميزان (الكاتـب : um soso - )           »          كوب العدالة (الكاتـب : اسفة - )           »          خلف الظلال - للكاتبة المبدعة*emanaa * نوفيلا زائرة *مكتملة&الروابط* (الكاتـب : Just Faith - )           »          الإغراء الممنوع (171) للكاتبة Jennie Lucas الجزء 1 سلسلة إغراء فالكونيرى..كاملة+روابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          في غُمرة الوَجد و الجوى «ج١ سلسلة صولة في أتون الجوى»بقلم فاتن نبيه (الكاتـب : فاتن نبيه - )           »          قصر لا أنساه - مارغريت مايلز- عبير الجديدة -(عدد ممتاز ) (الكاتـب : Just Faith - )           »          سجل هنا حضورك اليومي (الكاتـب : فراس الاصيل - )           »          79 - قسوة وغفران - شريف شوقى (الكاتـب : MooNy87 - )           »          1 - من أجلك - نبيل فاروق (الكاتـب : حنا - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة ضمن سلاسل (وحي الاعضاء)

Like Tree5716Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 17-12-21, 12:42 AM   #3221

نرمين نحمدالله

كاتبة في منتدى قلوب أحلام وفي قصص من وحي الاعضاء ، ملهمة كلاكيت ثاني مرة


? العضوٌ??? » 365929
?  التسِجيلٌ » Feb 2016
? مشَارَ?اتْي » 2,008
?  نُقآطِيْ » نرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond repute
افتراضي


الطيف الاربعون
=====
_إبراهيم! ماذا فعلت؟! لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
يهتف بها ربيع بجزع وهو يميز شقة ابنه الخالية من أثاثها الذي باعه كله منذ أيام بثمن بخس، لكن ما أثار حفيظته هو رائحة الدخان التي انبعثت خانقة من تلك الكومة على الأرض والتي احترقت عن آخرها..

_ثيابها ،وسادتها، ملاءاتها، كلها أحرقتها، ولو استطعت لأحرقتها هاهنا.. هاهنا..
يصرخ بها إبراهيم بحرقة دمعت لها عيناه الحمراوان وهو يخبط بقبضته المضمومة على صدره ليختلج قلب أبيه بلوعة وهو يسمعه يتمتم بشرود بدا وكأنه ابتلعه عن آخره:
_كيف أحرقها هنا؟! كيف؟!
_انسها يا ابني.. انسها واكتفِ بما كان.
يقولها بصوت متهدج وهو الآخر يشعر بالحيرة بين (لوعة فراق من كان يعتبرها ابنته) و(بين غضبه منها) ، ليصرخ إبراهيم بحدة :
_ليس قبل أن آخذ منها حقي.. ليس قبل أن تدفع ثمن خديعتها.. هي جعلتني مغفلاً.. مخدوعاً.. أحمق في عيون الجميع.. وبالنهاية جعلتني قاتلاً.. جعلتني.. جعلتني..أقتل نفساً.. أقتل.. أقتل ابني.
ينهار بها جاثياً على ركبتيه وهو يخفي رأسه بين ذراعيه كأنما استنزف اعترافه الأخير كل قواه..
طوال الأيام السابقة وهو كمن يعدو في طريق طويل بكل قوته لا يريد التوقف لأنه يدرك أنه سيسقط لو فعلها!
لا يريد التفكير.. لا يريد حتى مجرد التذكر.. كأنما محى تاريخهما كله كي لا تجلده الذكرى.. صار يعيش لأجل أن ينتقم منها فحسب.. وهاهو ذا يفعل فقد أُلقي القبض عليها بالأمس بتهمة التزوير في القضية التي رفعها حسام وصارت أخيراً خلف القضبان كما أراد!
متى ستبرد هذه النيران داخله؟! ربما لو نالت حكماً بالسجن..لو فضحت أمام الجميع كما فضحته.. لو خدعها ذكاؤها وجاهها كما خدعته.. لو قتلت نفسها ندماً..!
الخاطر المتطرف الأخير يقبض قلبه بلوعة خوفه عليها..!!
لوعة يكرهها فيطلق صرخة هائلة وهو ينحني على نفسه ليخبط رأسه بالأرض لعل الدوار الذي يدوخ روحه يصيب عقله كذلك قليلاً فيرحمه من كل هذا الشتات..
يصرخ ويصرخ ويصرخ ولا يزال يخبط رأسه بالأرض فلا يوقفه سوى صوت نحيب أبيه!
يقف رغماً عنه مترنحاً والدنيا في عينيه تتلون بلون الدم، يضم أباه إليه معتذراً ومطمئناً بكلمات متلعثمة، يقبل رأسه وهو يشعر بجسده يتذبذب بين صقيع ونار..
_سنكون بخير.. سنكون بخير.. كلنا..بإذن الله سنكون بخير.
تقولها هبة التي وقفت تراقب المشهد بعينين دامعتين وهي الأخرى تشعر أنها فقدت جزءاً من روحها..
لقد ماتت سمرا..!
ماتت في عينيها وعيون الجميع..!
ماتت صديقتها التي ائتمنتها على بيتها وأدق أسرارها..
ماتت أسوأ ميتة وقد حُرمت حتى حق إكرام الميت بدفنه، فقد تركت جثتها في العراء تنهشها ذئاب الظن ويلعنها نعيق الغربان المحلقة فوقها..
قد تجد لها عذراً في إخفاء حقيقتها عن ربيع، بل وعن إبراهيم نفسه، لكن أي عذر في أن تخدعها هي.. هي التي فتحت لها قلبها قبل بيتها واعتبرتها أختها التي لم تلدها أمها؟!!
لهذا رفضت وسترفض أي تواصل معها بعد ما حدث!

_تعال معي يا خالي كي تستريح في شقتك.
تقولها وهي تجذب ذراع ربيع بحنوها الصارم كعهدها ليعترض العجوز وهو يكفكف دمعه قائلاً بصوت مرتجف:
_لن أترك إبراهيم وحده.
_نحن معه.
يقولها قيس وأخواه بجدية غريبة على هزلهم المعهود كأنما الأزمة الأخيرة أنضجت الجميع،
فيرجوه إبراهيم أن يعود لشقته واعداً إياه باللحاق به بعد (كنس القمامة) كما وصفها بنبرة ذات مغزى!

يغادر ربيع بخطوات متثاقلة وهو يشعر لأول مرة في حياته أنه خالي الكفين مع فلذة كبده.. لا يملك ما يفعله له بل ويخشى أن يزيد حمله بحمله هو الآخر!

يتحرك إبراهيم ليجمع (الرماد) المتبقي من حرق أشيائها في كيس كبير، يتحرك أبناء عمه ليساعدوه لكنه يصرخ فيهم بفظاظة غريبة على طبعه الحليم أنه سيفعلها وحده..
يحمل الكيس الضخم على ظهره ليهبط به الدرج فتجتاحه ذكرى ذاك اليوم وهو يجرها خلفه،
تحترق روحه وهو يواصل الهبوط بالحمل الذي بدا له كجبل فوق ظهره..
يتحرك بالكيس نحو مقلب القمامة القريب تلاحقه نظرات أهل الحي المشفقة فيشعر بكل نظرة كانها نصل ينغرس في صدره..
يلقي الكيس أخيراَ بعنف ليقف لاهثاً وهو يتخيل صورتها مكانه.. ليته يستطيع أن يلقيها هكذا خلفه ويرحل..!

_النعناع يا إبراهيم.

تهتف بها العجوز وهي تلوح له بالحزمة الخضراء بطيبة..
جاهلةً عن مكنون صدره فيلتفت نحوها بحدة كأنما صفعته على مؤخرة رأسه..
يركض إليها لينتزع منها ما بيدها يرفعه أمام عينيه الحمراوين كبركتين من الدم..
يتذكر عينيها الخضراوين الكاذبتين مثلها، هوسها باوراق النعناع وهي تسقط في كوبها، كيف لم يفهم وقتها أنه كان حقاً (ورقة نعناع) تضيف المذاق لمشروبها ولا ينالها في النهاية سوى الاحتراق بحرارته؟!!

وبنفس القداحة التي أشعل بها حاجياتها وجد نفسه يشعل النار في حزمة النعناع.. الأوراق الخضراء شبيهة عينيها تتوهج كخداعها.. كجرحها.. كعشقها.. ثم تتفحم.. كقلبه!

يشعر بهذا الكف على كتفه فيلتفت لصاحبه الذي يرمق ما بيده بنظرة خبيرة كأنه يعرف مذاق هذا الجرح، ليرمقه إبراهيم بدوره بنظرة غريبة وهو يشعر نحوه بمزيج من امتنان ونفور..
_لماذا كلفت نفسك مشقة الحضور؟! كان يمكنك أن تخبرني بتطورات الأمر عبر الهاتف!
فظاظته تبدو مثيرة للشفقة في قلب حسام الذي تلين نظراته وهو يراه يلقي الحزمة المتفحمة بعيداً بحدة لينقد المرأة ثمنها متجاهلاً نظرات أهل الحي، فيطلق تنهيدة حارقة وهو يتبعه نحو بيته قائلاً :
_لدي الكثير مما أريد إخبارك به.. فضلت إخبارك به وجهاً لوجه.
_دعنا نصعد للسطح.. لا أريد أن يسمع أبي كفاه ما هو فيه.. وشقتي خاوية من الأثاث.. بل.. من كل شيء.
يقولها إبراهيم بحدة قانطة صارت مرادفة لكلماته لكن حسام يعذره وهو يراه يصرف أبناء عمه الذين استقبلوهما على الدرج بعنف طالباً منهم تركه وحده مع ضيفه وأخيراً يختلي به فوق سطح البيت..
يتوجه إبراهيم عفوياً نحو الصبة الإسمنتية حيث موضع قدم شقيقه الراحل،
عبر غشاوة من دموع - لا تسقط- يراها يوم كانت معه هنا ليلة زفافهما..
تباً لها!! بل ألف تباً!! الرامية القرمزية لوثت كل حياته بصبغتها القانية فلم تذر له بعدها سوى بقايا حياة.. بقايا حقيقة.. وبقايا وهم.. كلها ملطخة بخديعتها!!

_زرت يسرا في السجن اليوم.

لوهلة ظن الاسم غريباً على أذنيه قبل أن تصفعه الحقيقة بقسوة ككل مرة يسمعه فيها!
يكز على أسنانه بقوة وهو يشعر بقلبه تمزقه مشاعر شتى.. أهونها شعوره بالغيرة من هذا الرجل خلفه والذي كان يوماً زوجها!

_محاميها هاتفني بالأمس، أخبرني أنه سيبذل كل جهده كي يخرجها من السجن رغم رفضها هي الدفاع عن نفسها والذي أثار دهشتي أنا الآخر، هدد بأنه سيقدم تقريراً طبياً بما فعلته أنت بها هنا وقد ضربتها وكنت سبباً في إجهاض حملها.. كما أنه سيقدم تقريراً آخر يفيد أنها غير متزنة نفسياً بعد موت ابنها الأول كي يعفيها من مسئولية التزوير.
كل كلمة يقولها حسام كانت تساوي جلدة على ظهر ابراهيم الذي كانت تتخبطه مشاعره كموج ثائر..
_إذن ابنة الصباحي ستخرج من القضية كالشعرة من العجين بدعوى كونها مختلة نفسياً بعد وفاة ابنها فتكسب تعاطف الناس وشفقاتهم وتترك اللعنات لسمرا المسكينة التي - لا ريب - ستجبرها أن تحمل الوزر كاملاً!!
يقولها من بين أسنانه ليرد حسام وهو يقترب منه :
_فكرت مثلك، لكنتي فوجئت بها تطلب زيارتي لها في السجن اليوم.
يلتفت إبراهيم نحوه بحدة وكل خلجة من خلجاته تفضح لهفته لما سيقال ليصمت حسام قليلاً ثم يغرس نظراته في عينيه ليقول أخيراً :
_ليست هي.
ينعقد حاجبا إبراهيم بشدة وهو لا يفهم ما يريد قوله ليردف حسام بنفس النبرة القوية :
_هذه المرأة التي رأيتها اليوم في السجن ليست يسرا الصباحي التي كانت يوماً زوجتي!
_بديلة ثالثة؟!
يهتف بها إبراهيم باستنكار لترتجف شفتا حسام بابتسامة واهنة لطرافة الموقف ولو كان لا يلومه في جموح خياله بعدما عرفه من غرابة قصتهما!
يهز رأسه نافياً وهو يقول بشرود مسترجعاً تفاصيل لقائه بيسرا :
_أقصد أنها تغيرت تماماً لأخرى، ظننتني سأقف أمام القديمة المتغطرسة المتعالية التي ستنشب مخالبها في وجهي، لكنني وجدتني أمام أخرى واهنة ذابلة معترفة بذنبها وتطلب العفو.
_هل غشتك أنت الآخر؟!
يصرخ بها إبراهيم بحدة ليهتف حسام بصرامة :
_أنا آخر من يمكنها خداعه بهذا الشأن.. عندما أقول لك أنني كنت واقفاً أمام امرأة جديدة كأنها تغيرت لأخرى فأنا أعني ما أقول.
صوت ساخر يشبه احتضار ذبيح يطلقه إبراهيم وهو يشيح بوجهه ليكتنف حسام كتفيه بقبضتيه ليجبره على النظر إليه قائلاً بانفعال:
_عندما طلبت مني رفع القضية كنت أكثر من مرحب وأنا أظنني سأرد لها صفعتها القديمة، ظننت مثلك أن الحكاية مجرد لعبة رغبت هي في تجربتها هنا بالعيش في وسط جديد عليها.. لكن بقيت القصة في عقلي تنقصها المنطقية.. لو كانت مجرد لعبة فلماذا ورطت نفسها في الحمل، بل والتبرع لأبيك بكليتها، يسرا الصباحي كان يمكنها ببساطة شراء أي متبرع والدفع له فلماذا حرصت أن تكون هي!!
يزداد انعقاد حاجبي إبراهيم والمشهد يطفو لذاكرته.. عندما أفاقت من تأثير البنج يوم العملية وهو يسألها :


_يؤلمك الجرح؟!
_تصدقني لو قلتلك أنه الجرح الوحيد في حياتي الذي لم يكن ليؤلم بل يداوي!!

ريشة بيضاء تسقط ناعمة على بقاياها الملطخة بصبغ خديعتها!
لكنها وحدها لا تكفي!!
فقط تشعل المزيد من النيران في صدر إبراهيم الذي يغمض عينيه بشدة كأنه يخشى أن تصرخ حدقتاه كما تصرخ روحه بالوجع!

_تذكر تلك القضية التي حبست فيها مع أبيك وأولاد عمك وذاك الفلسطيني؟! كنت محاميك فيها كذلك وتعجبت وقتها من خروجكم بتلك البساطة لكنني عرفت بمصادري الخاصة أن يسرا الصباحي كانت من خلف هذا أيضاً!

ريشة بيضاء أخرى لكنها لا تزال لا تكفي وسط كل لطخات الأحمر!!

_بماذا تريد إقناعي؟! ها؟ بماذا تريد إقناعي؟! أنها روضت شياطينها واستحالت لملاك كريم بمجرد مقامها معنا؟! هل تصدق نفسك؟! هل يتحول الإنسان بين النقيضين بهذه البساطة؟!
_لو كنت سألتني هذا السؤال منذ أسابيع فقط لأقسمت لك على العكس غير حانث.. لكنني وأنا أنا فلا أملك سوى أن أقول لك بمنتهى الصدق.. نعم.. يتحول بين النقيضين لو وجد يداً من ضميره تصافح يداً من أيادي الحب، ساعتها يقهر شيطانه مهما ظن في استحالة هذا!
يقولها بيقين هو خير من يعيشه هذه الأيام ليعاود إبراهيم الإشاحة بوجهه دون رد، فيتنهد حسام بيأس قائلاً :
_لو لم تسحب انت القضية فيقيني أن محاميها سيكسبها من أول جلسة، تلك الفتاة سمرا هي التي قد تتأذى في هذا كله.
_أبداً! لن أسحب القضية أبداً! يكفيني أن أختصمها أمام الجميع وأراها خلف القضبان.
يهتف بها إبراهيم بعناد فيطلق حسام زفرة أخرى ثم يلقي آخر بطاقاته:
_لم أخبرك بعد لماذا طلبتني يسرا.. قالت أنها تملك ما قد يعيد حق حسن.
يقولها وهو يتذكر حالة يسرا الغريبة عندما التقته..
"ميتة تتنفس"! لو كان يصح التعبير!
لم يصدق نفسه وهو يراها تبتدره باعتذارها عن إساءاتها له أيام زواجهما بنبرة مرتعدة شاحبة ،ظنها أول الأمر تستعطفه لتخرج من مأزقها لكنه - بعيداً عن إدراكه بعدها أنها لا تحتاج دعماً كي تخرج من مشكلة كهذه مع نفوذها وعلاقاتها - لمح في عينيها ندماً صادقاً هو خير من يمكنه تبينه..
أخبرته بين دموع انكسارها أنها تركت له شيئاً مع خادمتها، هذا المظروف الورقي الذي يلوح به الآن في وجه إبراهيم المتشنج في وقفته صارخاً بهياج :
_أما اكتفت من الكذب؟! أي حق ستعيده هي؟! اي حق؟!

يفتح حسام المظروف لتبدو لهما هذه (الفلاشة) التي تتعلق بها عينا إبراهيم بينما حسام يقول بنبرة تشي بخطورة ما تحمله :
_رفعت الصباحي كان من الأسماء المتورطة في قتل المتظاهرين، ليس هذا فحسب، بل يبدو أنه موصوم بما هو أكبر، هي أخبرتني أن القائمة الكاملة هاهنا، الرجل كان يؤمن نفسه وعندما مات وجدت على حاسوبه هذا الملف الخطير، الغطاء الداخلي الفاسد لمن خلفه ولو صدق ظني فالقضية لن تكون حق حسن فقط بل حق كل واحد في هذه البلد!

يرمقه إبراهيم بنظرة موصدة كأنه يخشى منحها ريشة بيضاء أخرى، فيما يشرد حسام ببصره وهو يتذكر أن رفعت الصباحي هو من أمره بإغلاق قضيته التي كانت ستوصل ل(الكوبرا)، ماذا لو كان الباب الذي فتحته يسرا لتوها هو الذي سيقودهم لمغارة الأسرار كلها؟!!

_افعل بها ما شئت.. أنا لن أتنازل عن القضية.. لا تعنيني ألاعيبها الملتوية ولن تؤثر فيّ مثقال ذرة.
يهتف بها إبراهيم بحدة ليرد حسام :
_هي أخبرتني أنها لا تنتظر صفحك فهي خير من تفهم طبعك.. وأنها لا تفعلها لأجلك إنما لتتخلص من بعض وزرها.. صدقها أو لا.. لكنني أنا أفعل.
_هل أرهبتك ؟! هددتك بنفوذها كي تتخلى عن القضية؟!
_افهم يا "بني آدم"! لا قضية!! ألف تقرير سيكتب ليثبت عدم اتزانها النفسي، ألف محام سيتبرع للدفاع عنها في قضية مضمونة، ألف قناة تلفزيونية ستوجه الرأي العام للتعاطف مع منصات التواصل لتصير في غمضة عين أول تريند! (ماذا حدث للأم المسكينة التي فقدت طفلها؟! فقدت عقلها خلفه!) قصة مثيرة تصلح دوماً لأدوار البطولة ويصدقها الناس بسهولة!
_كنت تعلم هذا من البداية فلماذا وافقت على مساعدتي؟!
يصرخ بها إبراهيم بيأس عاجز وهو يلوح بذراعيه ليزفر حسام قائلاً بصدق:
_كنت مستعداً لخوض هذه الحرب الخاسرة لأنني كنت أراها بعيني يسرا القديمة لكنني أعود لأؤكد لك.. من رأيتها اليوم ليست يسرا الصباحي التي كنت أعرفها.
يطلق إبراهيم عدة صرخات غاضبة متتابعة وهو يتوجه نحو سور السطح القريب الذي نالته قبضاته يفرغ فيها غضبه، لكن حسام كان يتفهم موقفه فتحرك ليربت على كتفه بدوره قائلاً :
_لو كنت تفعل هذا للانتقام منها فصدقني أنت لا تحتاج المزيد.. هي صارت مجرد جثة ولولا تقديري لغيرتك لأفرطت في الشرح لكنك لاريب تفهم.. أو على الأقل تشعر.. أي مكسب كانت ترجوه من معيشتها هنا.. وأي خسارة نالتها.. اسأل نفسك أو امنحها هي فرصة التفسير.. حتى لو سددت أذنيك هذه أشياء يسمعها القلب أولاً.
تشتعل ملامح إبراهيم و كلمات حسام الحارة على عقلانيتها تصطدم بأقسى صخوره ،
لا.. لن يصدق.. لن يسمع.. بل لن يسمح لنفسه سوى بأن يعيش لينال عدل قصاصه منها.. مهما كان الثمن!!

_لو جد جديد فسأخبرك.
يقولها حسام أخيراً وهو يلوح ب"الفلاشة" في يده لتقسو ملامح إبراهيم أكثر وهو يشيح بوجهه قائلاً :
_أنا قلت ما عندي.
يرمقه حسام بنظرة طويلة بين غيظ وإشفاق ليغادره بخطوات سريعة فيراقب إبراهيم ظهره المنصرف بعينين مشتعلتين..
جحيم هائل يستعر بين ضلوعه وينذر بأن يحرق دون رادع!

صوت بكاء خفيض يجذب انتباهه ليلتفت نحو زاوية الجدار القريب فتتسع عيناه وهو يميز الصغير "سامي" يجلس متكوراً على نفسه يبكي وقد أعطي وجهه للحائط..
يبتلع غصة حلقه وهو يقترب من الصغير، ينحني ليربت على كتفه فيلتفت نحوه هاتفاً بعينين ضارعتين :
_را.. را..
يشعر بها كجلدة أخرى على صدره الملتاع!
ماذا عساه يخبره الصغير؟!
أن المجرمة كانت تلعب!!
حياتها هنا كانت مجرد "ماكيت" ملون، عالم موازٍ أرادت تجربته من باب الطرافة!!
لم تكترث بقلوب "الكبار" التي تعلقت بها، لكن ماذا عن هذا الصغير البريئ؟!
هو الآخر كان مجرد "لعبة"؟!
_لن تعود.. انسها.. شقيقتك ستعود قريباً لتعتني هي بك.. أما الأخرى فقد ماتت.. ماتت!
يعتصر بها ذراعي الصغير الذي ينخرط في البكاء فيضمه لصدره بقوة وهو يخفي وجهه في عنقه..
تباً! لقد علقت رائحتها به!! بالصغير فحسب؟! بل بكل شيء حوله!!
كيف يعترف أنه يغبط الصغير لأنه يبكيها؟!
كيف صار مجرد البكاء عليها ترفاً لا يملكه قلبه المكلوم بين عقله المتربص وروحه الحاقدة؟!
كيف؟! كيف؟!
يرفع وجهه للسماء بدعاء لم يعد يردد غيره أن ينزعها الله من قلبه ولأول مرة يشعر أن الإجابة بعيدة.. بعيدة كما بين المشرق والمغرب.
========





_هل أنهيا جلساتهما؟!
يسأل حسام بصوت متحشرج ليرد كنان عبر الهاتف :
_نعم.. حالة سند تتطور كثيراً.. صار هو من يرغب في التعبير.. لكنه لا يزال يشعر ببعض الخوف الذي يخنق هذه الرغبة.. لا تقلق.. أظنه سيكون قريباً قادراً على النطق بصورة طبيعية.
_وهي؟!
يتهدج صوته أكثر وقبضته تشتد حول مقود سيارته ليرد كنان :
_ديمة واجهت أقسى مخاوفها.. هي صارت تدرك قدر نفسها.. توقن أنها ليست بهذا الوهن الذي كانت تتخيله.. صارت قادرة على مواجهة مرآتها دون أشباح..وأظن أنها ليست سوى خطوات قليلة تفصلها عن العيش بصورة طبيعية.. أعرف أن التجربة التي عشتها معها كانت قاسية لكنها كانت مفيدة لها حقاً.
_كانت.
يتمتم بها حسام بخفوت عبر شروده وهو يغمض عينيه كأنه يسدل الستر على الحكاية.. ليفهم كنان ما بنفسه فيقول بنبرة عملية:
_أعرف أنها صارت شديدة التعلق بك.. لا يمكنني الجزم إن كانت مشاعر حقيقية أو مجرد..
_لا يهم.. النتيجة واحدة.
يقاطعه بها بحسم ليتنحنح كنان مستفسراً فيرد حسام بنفس النبرة الصلدة :
_هذا هو ما أريده منك بالضبط للفترة القادمة.. أن تخبرني بما أفعله لأمهد لها ولسند فراقي عنهما.. بقاء ثلاثتنا معاً مجرد مرحلة مؤقتة ستنتهي بانتفاء حاجتهما إليّ.
_حسناً.. أنا أتفهم.
يقولها كنان ببعض الأسف الذي طغا على نبرته العملية ليردف :
_هما في طريقهما إليك الآن.. غادرا المركز.
يغلق حسام الاتصال معه ليراقب مدخل المكان بترقب.. يلمحهما وقد اقتربا متعانقي الكفين فيغادر السيارة نحوهما..
عيناه تتلقفان نظرة الصغير وقلبه يتلقف نظرتها هي..
يالله!
متى سيتوقف قلبه عن النبض بهذه الطريقة كلما رآهما معاً؟!
كأنه يدخر بهذا القرب زاداً لساعات الفراق التي يوقن أن ميقاتها قد بدأ عده التنازلي!
يهرع إليه سند ليعانقه فيرفعه إليه فيما يشعر بها هي تتعلق بذراعيها كليهما في ذراعه..
يشعر بنظرتها تخترقه رغم أنه يتعمد ألا ينظر إليها..

_افتقدتنا؟!
تسأله وقد استقروا معاً في سيارته بمزيج غريب من دلال وكبرياء بدأ يتسرب رويداً رويداً لشخصيتها مؤخراً كأنما تستعيد به بقايا طبعها القديم قبل هجرتها من وطنها..
مزيج يكاد يفقده عقله وهو يقاوم نفسه أن ينظر لعينيها كي يقسم أمام "حلقة الزعفران" أنه عشقها في كل حالاتها..
منطفئة ذابلة.. ومشعة متوهجة..
أنه أحبها ألف مرة.. كل مرة كأول مرة!

_كيف سارت الجلسة اليوم؟!
يغير بها الموضوع عامداً وهو ينظر للطريق أمامه فتبتسم وهي ترفع له ورقة سحبتها من حقيبة "البروكار" خاصتها والتي صارت تصطحبها معها لكل مكان..
_جلسة اليوم كانت عن الأولويات.. طلب مني دكتور كنان أن أكتب أهم عشر أشياء في حياتي.. كتبت "سند" في أول سطر..
تقول عبارتها الأخيرة وهي تلتفت نحو الصغير بقبلة طائرة في الهواء منحت مظهرها المزيد من الحيوية المستحدثة على طبيعتها..
فتختلج عضلة فكه وهو يرى أناملها المترددة تتسحب ببطء لتحط على كفه مع همسها الوجل :
_لا تريد أن تعرف البقية؟!
_المهم أن تعرفي أنتِ.
يقولها ببرود خادع وهو يسحب كفه بعيداً لتنكمش هي في مقعدها وهي تراقب جانب وجهه بحيرة..
لا تزال تحبو في طريقها الجديد.. لا تفهم حقيقة مشاعرها نحوه بالذات.. لا تعرف سوى أنها تشعر قربه بالأمان دون مسمى آخر.. عناقه يغرسها فوق أرض تمنحها الوطن.. لكنها تخشى التفكير في المزيد!
صورته وهو يرفع طرف ثوبها تجتاح ذهنها في هذه اللحظة بالذات فتغمض عينيها نفوراً وهي تكاد تنجرف للبئر القديم..
لكنها صارت تملك القوة لتستعيد توازنها!
تماماً كما الآن وهي تقول بسرعة كأنما تنتقم من كل تلك المرات التي كتمت فيها حديث نفسها :
_كتبت الكثير.. كتبت (مشغولات ديمة ضرغام السورية).. صفحة على الفيسبوك أعرض فيها أعمالي اليدوية، ستكبر يوماَ بعد يوم، يزيد العمل فأطلب فتيات للمساعدة، أعلمهن كما علمني جدي فلا يندثر هذا الفن اليدوي، تكبر الصفحة وأكبر أنا معها، لا.. لا.. لماذا أفكر بهذه الطريقة البدائية؟! صرت أملك الكثير من المال.. يمكنني الاستعانة بدعاية قوية، بل يمكنني فتح مشغل كبير، يمكنني الاستعانة بالخبراء والتصدير للخارج، كتبت كذلك التعليم، أريد استكمال تعليمي، الذهاب للجامعة، أريد أن أحمل شهادة جامعية..
تتوقف للحظة كي تلتقط أنفاسها اللاهثة بعد حديثها المتواصل فتلمح ابتسامة جانبية على شفتيه ولا يزال لا ينظر إليها ليصلها صوته بنفس (الطغيان الحاني) الذي يبدو وكأنه لا يتقنه في الدنيا رجل سواه :
_أكاد أقسم أني أعرف كل ما كتبتِه.. وسأساعدك لتنالي كل ما تريدين.
_حقاً؟!
همسها لا يحمل استنكاراً بل يكاد يقسم مثله على تصديقه.. عيناها تتعلقان رغماً عنها ب(عقدة حنجرته) التي بدت لها كعهدها صخرة كبيرة تصلح دوماً للاختباء الآمن خلفها حين تخاف.. أو لنقش أحلامها عليها حين تطمح.. أو لرفع راية حريتها فوقها حين تتمرد .. أو للركض بانتشاء حولها حين تتحرر.. صخرة لن تخذلها يوماً قسوة صلابتها لأنها توقن أنها لها لا عليها!
_كتبتِ كذلك بيتاً.. بيتاً يضمك مع سند.. تحملين أوراق ملكيته وتدفعين ثمنه.. صحيح؟!
تدمع عيناها مع قوله وهي تشعر بهذه الغصة في قلبها، فلا تعرف هل تفرح لأنه يفهمها إلى هذا الحد، أم تحزن للمعنى المبطن في كلماته.. وهي تسمعه يردف بنفس البرود الخادع :
_أرسلت لك بعض الصور على الهاتف لبيوت مناسبة كلها قريبة من بيتي في العاصمة كي يمكنني حينها زيارة سند على فترات متقاربة، اختاري الذي يعجبك وأنا سأتولى شأن أوراقه.
تزدرد ريقها بصعوبة وهي تخشى تصديق ما توحي به عبارته..
وهذه المرة تشبثت أناملها بكفه فلم تسمح له بالابتعاد!
_كتبت أيضاً..
تهمس بها بانفعال لكنه يقاطعها عامداً وهو يتوقف بالسيارة أمام باب البيت الساحلي الذي يقيمون فيه حاليا :
_وصلنا.. لا ريب أن سند افتقد قطته.
يضحك سند ضحكة رائقة فتضطر ديمة لابتلاع بقية كلماتها التي ودت لو يسمعها.. تراه يغادر السيارة مع سند الذي تعلق كفه بكفه، تغادر السيارة بدورها لتراقب سند بدورها وهي تراه يركض معه يبحثان عن قطته بالداخل، يجدانها فيلاعبانها بمرح ينتزع ضحكاتهما ودمعتها هي!
هي التي صارت تدرك أي بكاء يختفي خلف ضحكة (الذئب) الذي ظنته يوماً!
يرجع إليها وقد انشغل سند بالركض خلف قطته حول البيت ليسألها باهتمام قلق :
_لماذا تبقين هنا؟! لماذا لم تدخلي؟!
_أسمع صوت البحر.
_لم تعودي تخشينه ؟!
تهز رأسها نفياً وهي تغرس نظراتها في عينيه، حلقة الزعفران تمطره سيلاً من عاطفة يخشى تصديقها :
_منذ ذلك اليوم صرت أرى فيه صورتك.
يشيح بوجهه دون رد وهو يتذكر ما تحكي عنه، يكاد يشعر بلمسة أناملها طازجة على وجهه بعدما قبضت من ماء البحر لتلقيه على وجهه كما فعلت يومها، ليته يستطيع أن يخبرها أنها من وقتها منحته وجهاً جديداً.. وجهاً رسمته أناملها على صفحة روحه فصار يعشقه لأنه بلمستها هي.. وجهاً سيبقى آخر وجوهه التي مل تأرجحها بين بياضها وسوادها.. لو كان هو خلصها من خوفها من البحر فهي منحته الوجه الذي - أخيراً- صالح به مرآته، حتى وهو يوقن أن فراقهما قادم لا ريب!
يراها تتناول راحة يده لتبسطها.. سبابتها تتحرك فوقها فيرتجف جسده بين تأثر وترقب.. حركة أناملها تكتب اسمها تكاد تلحمه بخطوط كفه، ثم تفرد راحتها لتكتب اسمه على خطوط كفها..
تشبكهما معاً لتهمس له بخفوت :
_كتبتها هكذا اليوم عندما كاد عقلي يجرفني للسؤال القاتل.. هل يموت الماضي؟! هل يمكننا أن نهزم جيوشه متى غزتنا أوجاعها؟! هل تكون يوماً للرماد حياة؟!
_وهل وجدت الجواب؟!
يقولها وهو ينتزع كفه منها ببطء كأنه ينتزع معه روحه فتنفرج شفتاها باندفاع كأنها ستنطلق في الكلام لكنه يضغط بسبابته عليهما ليردف ببرود صارم :
_خذي مني ما تشائين حتى تنهضي من عثرتك، لكنك ستعطينني ظهرك فور ما تفعلينها، لم ولن أكون في حياتك سوى عابر سبيل، لا تصدقي إلا هذا.
تعض شفتها السفلى وهي تسبل جفنيها على نظرة حائرة، قديماً كانت كلماته هذه تريحها، تمنحها الشعور بالحرية الذي طالما افتقدته، فلماذا تخزها الآن بنصل الفقد؟!

بينما يعطيها ظهره كأنه يهرب من كل هذا ليندفع نحو الداخل بخطوات متثاقلة، يطلب من الخادمة الاعتناء بسند وبها ريثما ينهي بعض أعماله..
يدخل غرفته ليغلقها خلفه، فليشغل نفسه بشأن آخر لعله يتجاوز هذه الغصة في حلقه، يستخرج الفلاشة التي منحته إياها يسرا ليضعها في حاسوبه المحمول..
تضيق عيناه وهو يتابع البيانات التي ظهرت له على الشاشة ليبتسم بظفر وهو يراجع الأسماء التي تعلوها صور أصحابها مع بياناتهم ونقاطهم السوداء التي يبدو أن رفعت الصباحي كان يستغلها ضدهم، هذا إذن هو الغطاء الداخلي للكوبرا داخل جهاز الشرطة والأجهزة الأمنية العليا والذي يعينه على التوغل بتنظيمه داخل الدولة!
ضربة قاصمة ستمكنه من تجاوز خطوات كثيرة لمعرفة هوية ذاك الرجل ومن خلفه ولو أنه يظن أن الأمر سيفوق أكثر توقعاته خطورة!
تضيق عيناه أكثر وهو يتابع المزيد من الأسماء والصور لكنهما تتسعان بصدمة وهو يميز الاسم الأخير الذي لحقته صورة صاحبه بملامحه المميزة كما عرفها وإن اختلف الاسم المذكور..
_أنت؟!! معقول؟!!
يتمتم بها مذهولاً فقد كانت الصورة أمامه لضابط من جهة أمنية عليا يعرفه جيداً.. وإن كان باسم آخر..
أديم!!
========





_صديقك لا يزال يماطل في توقيع العقد.
يقولها إيلان مخاطباً يولاند وقد جلس معها في أحد المولات التجارية الضخمة القريبة من المركز الطبي الذي يتولى هو إدارته، لتشرد يولاند ببصرها وهي تختلس نظرة نحو ذاك المشتعل هناك والذي كان يراقبهما من بعيد بنظرة حانقة كادت تحرقها مكانها..
ريان!!
لقد شعرت أنه سيتتبعها عقب خروجها من المركز مع إيلان، وها هو ذا يفعل!!
تشعر بذبذبات جسده المتشنج مكانه على منضدة تبعد عنها قليلاً رغم تعمدها التظاهر أنها لا تراه..
لقد نجحت بداية خطتها.. ولا يزال هناك المزيد..
لن تهنأ حتى تسقيه سم انتقامها كاملاً وقد جعله طمعه يبتلع أول طُعْم!
عيناها تتعلقان بمحل طعام ذي علامة تجارية شهيرة يبيع وجباته مع ألعاب مميزة فترتجف شفتاها رغماً عنها وهي تتذكر أصغر أبنائها، كيف كان يحب شراء هذه الوجبة بالذات كي ينال اللعبة!
نائم!
ابنها لا يزال نائماً بعدما غنت له غنوتها!
ينتظرها كي تعود وتحكي له حكاية يولاند.. يولاند التي عادت لتنتقم وتأخذ بثأرها لنفسها ولهم.. يولاند التي لم تحترق وسط الرماد بل عادت منه عنقاء فاردة جناحيها وستبطش بهما بكل قوتها..
ساعتها فقط.. ستزور قبورهم من جديد.. ستصدق أنهم ماتوا.. كما ماتت فدوى!
_يولاند.. أنا أحدثك من دقيقة كاملة.
يهتف بها إيلان بعتاب فتتكلف ضحكة تعمدتها عالية وهي تهز كتفيها العاريين مستعرضةً أنوثتها بعدما فقدت الكثير من وزنها، تشعر بأنظار الحضور تلتفت نحوها لكنها لم تكن تكترث سوى بنظرات ذاك المشتعل هناك!
_جائعة.. تعرف طبعي.. لا أجيد الكلام ومعدتي خالية.
تقولها بدلال مرح فيمسك كفها بحركة بدت شديدة الرقة لولا هذا اللوم في نظراته بهمسه شديد الخفوت:
_لا تلعبي معي هذه اللعبة.. أعرف أن ريان تتبعنا إلى هنا.. وأعرف أنك تعرفين كذلك.. دعيه يحترق بغيرته وانتبهي لما أقول.
تعود لتتصنع ابتسامة خفيفة وهي تهز رأسها ليعاود قوله :
_كنت أحدثك عن صديقك جهاد.. لماذا لم يوقع عقد عمله معنا بعد؟! أنا أتحمل عمله معنا في المركز على مسئوليتي الخاصة لكن مماطلته في التوقيع على العقد لا تريحني.. أفعلها لأجلك.
_لا يا عزيزي.. أنت لا تفعلها لأجلي.. أنت تدرك جيداً قيمة أن يكون جهاد بالذات معكم في المركز.. سمعت عن المؤتمر الطبي الذي ستقيمونه قريباً والذي ستذيعه كل قنوات العالم.. وجود طبيب فلسطيني في طاقم العمل بالمركز سيمنحكم دعاية شرعية والمزيد من القبول لدى الشعوب المعترضة.
تقولها بذكاء لا ينقصها ليطلق زفرة قصيرة وهو يقترب بجذعه منها عبر المائدة قائلاً بحماس:
_لن أناقشك فذكاؤك كعهده لا يخذلني.. أنا حقاً أريده هو بالذات واجهة لمركزنا الطبي هنا.
_إذن.. اصبر.. مجرد وجوده هناك في المركز شططاً لم أكن أنا نفسي أتوقعه.. ولولا شعوره بعدم الاتزان بعد كل الضربات التي تعرض لها لما كان وافقني على ما أردته.
_لا أعرف سبباً لهذا سوى تعنت العرب المتشدد كالعادة.. يرفضون الشيء لأجل الشيء فحسب دون تفكير.. رباهم آباؤهم أن إسرائيل هي العدو فلم يعودوا يصدقون سوى هذا.. العصر تغير.. المفاهيم تغيرت.. نحن نفسنا تغيرنا.. إسرائيل لم تعد مرادفاً للدبابات والمدافع التي تقصف الأرض.. بل صارت واجهة حضارية للتعايش والتكيف مع جميع الشعوب.. أنا أريتكما كيف صارت الحياة هناك.. ثم إنني احترمت عقيدته الدينية فأحضرت له فتوى من المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية بجواز عمله معنا لعلاج المسلمين وغير المسلمين.. فماذا يريد أكثر؟!
تتنهد بحرقة حقيقية وهي تشعر بالأسى نحو جهاد.. تعرف كم يعاني منذ وصلا إلى هنا.. تعرف كم يكتم غضبه مما يراه.. تشعر بهذا التيه الذي تتخبط فيه روحه.. والذي تكاد تشاركه فيه..
لكن.. اقتربت لحظة الخلاص..
جهاد يظنها مجرد خطة لتوريط ريان في العمل بالمركز تاركاً عمله في المشفى القديم ثم يفاجئوه بالطرد من المركز في الوقت المناسب ليخسر كل شيء.
لكنها وحدها تعلم أنها لن تقنع بمجرد خسارته لعمله.. هو حرمها كل شيء ولن تهدأ حتى تفعل المثل!
عيناها تشتعلان بمزيج غريب من حقد ووجع لا يليق بامرأة سواها.. فيما تختلس نظرة خفية نحو ريان الذي بدا كأنه يتقافز على مقعده من فرط توتره..لتتكلف من جديد ضحكة عالية وهي تقترب من إيلان هامسة :
_لا تقلق بشأن جهاد.. أخبرني ماذا فعلت بشأن رفيدة؟!
تلتوي شفتاه بابتسامة ماكرة وهو يتناول كفها بين راحتيه قائلاً بنبرة موحية :
_دخلت المصيدة بسهولة.. لم تتبق سوى الخطوة الأخيرة.
_بل الخطوة الأهم.
تهمس بها من بين أسنانها وهي تكور منديل المنضدة بكفها الحر حتى يتجعد في قبضتها تماماَ، فيتناول هاتفه ليطالع شاشته للحظات.. قبل أن يرفع حاجبيه بقوله :
_هي نفذت بأسرع مما توقعت.
تختطف منه الهاتف لتطالع رسالة رفيدة الأخيرة التي أرسلتها له منذ لحظات..

(أجهضت الجنين كما اتفقنا، لنكون معاً دون ذيول للماضي)


تقف مكانها دون وعي لتوجه بصرها نحو المحل إياه.. تتعلق عيناها باللعبة التي تصاحب الوجبة فتطلق ضحكة عالية أقرب لصرخة!!
صرخة قصيرة بدت كأنها صيحة انتصار.. وربما عويل هزيمة..
بعض الحروب مغنمها كمغرمها.. كلاهما تملأ مرارته الحلق العمر كله!!
هو قتل أولادها.. وهي جعلت زوجته تقتل ابنه!
أليس هذا بالعدل؟!
يقف ريان بدوره مكانه وهو يراقبها بنظرة غريبة وقد بدا له تصرفها متطرفاً.. ماذا سمعت من ذاك الرجل لتصدر رد فعل كهذا؟!
يسمع بعض التعليقات من الرجال حوله اجتذبتهم حركتها الأخيرة فمضوا يمتدحون جمالها الغربي وأناقتها فيلتفت نحوهم بنظرة حادة وهو يتوجه نحوهم لينهرهم وقد تأهب للشجار..
_وما شأنك أنت؟! زوجها؟! أم حارسها الشخصي؟!
يتهكمون بها وسط صيحاتهم فيلكم أقربهم إليه باندفاع مجنون فجرته انفعالاته ليتكالب بقيتهم عليه فيتحول الأمر لمشاجرة يفضها رجال الأمن ليجبروا الجميع على مغادرة المكان..
ولم يكد ريان يغادر "المول" بخطوات مترنحة حتى سمع رنين هاتفه برقم رفيدة..
_لا تنقصني حماقاتك.
يتمتم بها سراً وهو يغلق الاتصال دون رد لكنها تبدو مصرة فيفتحه أخيراً ليصله صوتها المنهك :
_فقدت الجنين.. أدركني.. أنا في المشفى.
=======
أمام مرآته يقف جهاد عاري الجذع يهذب ذقنه ، عيناه الزرقاوان تتوهجان بقسوة جريح.. وليس أشد من قسوة جريح لو تعلمون!
هل يتوه المرء عن صورة مرآته ؟!
والجواب ..كثيرا!
عندما يجبرك الغدر أن تغمض إحدى عينيك لتبقى الأخرى قاصرة تستجدي كمال الصورة !
عندما يجبرك العجز أن تغلق إحدى فتحتي أنفك فتبقى الأخرى تشتاق لعبق الماضي !
عندما يجبرك الوجع أن تسد إحدى أذنيك فتبقى الأخرى تتلهف لسماع اسمك من شخص يقسم أنه يعرفك !
وعندما تجبرك بقايا الكبرياء أن تتجاهل هذا كله فترضى بنصف صورة ..بنصف عطر ..بنصف صوت ..بنصف شخص كان يوما ما "أنت"!
_روق يا "ضاوي"!
لا يزال يذكرها كما قالها لريان آخر مرة عندما فوجئ به الأخير في المركز الطبي هنا..
هل يكذب زاعماً أن تلك النظرة المذهولة في عيني ريان بين ذنب واتهام أرضت كبرياءه المخدوع ؟!
هل أراحه الانتقام وهو يرى نفسه قد رد لصاحبه الخائن بضاعته فوقف يشاهده وهم يخدعونه بهذا العمل المزعوم في المركز كي يترك عمله الآخر ثم يركلونه خارجاً بعدها ليجرب شعوره الذي عاشه طوال الشهور السابقة؟!
هل أراحته صحبة يولاند؟! هل منحها الدعم الذي كانت تحتاجه كي لا تنكص على عقبيها؟!
هل أراحه ذاك الإعجاب الأنثوي الذي تغمره به لارا مرضيةً جوعه العاطفي؟!
هل أراحه عمله الجديد المرموق - بعدما أغلقت في وجهه سابقاً كل الفرص - في المركز الطبي الذي ينال اهتماماً خاصاً من جميع الجهات بحكم كونه أول مثال نموذجي للتطبيع مع إسرائيل رغم كونه مؤقتاً وأنه لم يجد الجرأة ليوقع معهم عقداً بعد؟!!
لا.. لا.. لا..!!
إذا كانت "لا" هي الجواب الصحيح لكل هذه الأسئلة فأين يجد راحته؟!
يجرح ذقنه فيطلق تأوهاً خافتاً وهو يطهر الجرح البسيط ليرمق وجهه في المرآة بنظرة تائهة قبل أن يغسل وجهه ليتحرك فيرتدي ملابسه استعداداً للنزول..
يتناول سرواله فتسقط منه ميدالية "حنظلة" ليرمقها بنظرة مصدومة وهو يشعر بقلبه ينخلع من صدره بسقوطها..
ينحني ليلتقطها بسرعة، يرفعها لعينيه،
لا يزال حنظلة الأبيّ يعطي العالم ظهره.. أما هو فيشعر أن العالم كله هو ما أعطاه ظهره..
كلاهما خاصم الدنيا.. وخاصمته الدنيا!

يضم الميدالية لصدره شاعراً ببركان من الغضب والعجز يترجمه ل"تيه" رهيب..
طالما اعتنق أن اليهود من بني اسرائيل قد عوقبوا على خطاياهم بالتيه.. فهل هو عقابه الآن؟!
أن يدور خلف الطائفين حول صنم الوهم مدعياً خشوعه؟!
أين حقيقته؟! أين؟!

تتردد أنامله وهو يتم ارتداء ملابسه ليخفي ميدالية حنظلة في جيبه كما اعتاد.. تصطدم عيناه ب"شاله الفلسطيني" الذي علق على مشجبه في خزانة ملابسه فينتفض قلبه بمزيج موجع من حنين وغضب..عجباً! كيف صار بياض "فطرته" يمتزج بسواد "حقده" تماماً كما في لوني القماش!

عندما يمزق الخذلان خيوط هويتنا.. فما الذي يبقى لنا من أنفسنا؟!

يسمع هذه الطرقات علي باب غرفته فيرمق شاله الفلسطيني بنظرة زائغة.. لكنه يغلق باب الخزانة أخيراَ كأنه يغلق معه المزيد من خواطره..

_لارا!
يقولها ببعض الضيق الذي لا يفهمه كلما استبان عاطفتها الجلية في عينيها.. خاصة وهي تضحك هذه الضحكة التي تزيد أنوثتها وهي تقترب منه قائلة:
_يولاند وإيلان ينتظرانك في حديقة الفندق كي تناقشا بعض الأمور.. لكنني اردت أن تبدأ صباحك بي أنا.. ما رأيك؟!
يبتعد عدة خطوات متعمداً وهو يغمض عينيه قائلاً ببرود :
_في ماذا؟!
_في صباح يبدأ بي؟!
تقولها بدلال ولا تزال تقترب لكنه يبسط راحته بينهما يمنعها المزيد من الدنوّ ليقول بنبرة جادة متجاهلاً تلميحها:
_دعينا لا نتأخر عليهما.
_لا تزال تحبها؟!
تهتف بها بانفعال وهي تراه يتجاوزها ليغادر الغرفة فيتوقف مكانه للحظات قبل أن يفهم مغزى سؤالها..
فتتحرك لتقف قبالته مردفة ببعض الحدة :
_طالما سمعت أن الرجال يولعون بالمرأة التي يخسرونها.. لكنني ظننتك مختلفاً.. قلبك ليس بهذا الكبرياء الذي تبدو عليه أفعالك.. كم طعنة تنتظرها منها كي ترضى أن تنتزع خنجرها من صدرك للأبد؟! هل يرضع الفلسطينيون الذل كما نسمع إذن؟!


تشحب ملامح وجهه كثيراً لدقيقة كاملة حتي تشعر أن جسده كله قد غادرته الدماء فتهمّ باعتذار مناسب لكن الدماء تعود لتتدفق كالحمم في عروقه رويداً رويداً حتى يصير وجهه كجمرة من نار فتشهق بخوف وهي ترى كفه يندفع نحو خدها بصفعة!
صفعة توقفت على بعد سنتيمتر واحد من بشرتها فلم تنلها!
_جهاد!
كانت هذه يولاند التي ظهرت فجأة في المشهد لتجذب لارا نحوها، توبخها بحدة وقد سمعت الحوار من أوله فتنسحب لارا باكية بخطوات راكضة..

_أعتذر.. أعتذر نيابة عنها.. لارا شديدة العاطفية وعندما تنفعل لا تكاد تميز ما تقول.. أرجوك يا جهاد لا تغضب منها.
تقولها بالعربية كأنها تسترضيه بها فتبقى ملامحه الهادرة على عهدها للحظات،
تدمع عيناها بلوعة حقيقية وهي تدرك طبعه عندما يزداد غضبه إلى هذا الحد الذي يفقد فيه قدرته على الكلام..
تكرر اعتذاراتها الراجية لمرات لم تدرِ عددها حتى تراه يتجاوزها ليهبط الدرج دون انتظار المصعد..
درجة تلو درجة يهبطها فلا يشعر أن روحه أفضل حالاً.. كلاهما يهبط!!

_صباح الخير دكتور جهاد.

يقولها إيلان بالعربية مهادناً وهو يستقبله في حديقة الفندق فيتخذ جهاد مقعده لتلحق به يولاند فتجلس جواره..

_ماذا تريد؟!

لم يستطع التحكم في نبرة العدائية التي فاحت من حروفه في هذه اللحظة، ليتبادل إيلان ويولاند نظرة ضائقة قبل أن يقول إيلان بنبرته الودود :

_لم توقع معنا عقد العمل بعد.. كنت أفكر في طريقة غير تقليدية نعيد لك فيها اعتبارك.. يولاند أخبرتني عن قضية الإرهاب التي زج فيها اسمك زوراً والتي كانت سبباَ في رفض العديد من المؤسسات التعامل معك.. لكننا نختلف عن غيرنا.. وهذا ما أريدك حقاً أن تؤمن به.. نحن ننظر دوماً ل(الإنسان) دون تمييز بين جنس وجنس او دين ودين..

تلتوي شفتا جهاد بشبه ابتسامة ساخرة بينما يردف إيلان بتفهم :
_أعرف كيف نشأ جيلك وسائر الأجيال العربية على كراهيتنا.. أعرف كيف غرسوا فيكم أننا العدو منزوع القلب الذي لا هم له سوى إبادتكم.. بل وأعترف ببعض الأخطاء التي ارتكبها قومي في بلدكم.. لكن صدقني. كل هذا صار ماضياً.. الجيل الجديد منا صار يدرك قيمة التعايش والاعتراف بالآخر.. نحن نريد السلام أكثر منكم.. نكره الحرب بأكثر مما تكرهونها..

_دعك من الحديث عن شعبي وشعبك وتكلم فيما يخصنا كأفراد.

يقولها جهاد بخشونة باردة وهو يشعر بعقم الحديث الذي يكاد يجثم على صدره.. فيقول إيلان بابتسامة لا تقل برودة :
_حسناً.. كما تريد.. فكرنا في أن نقيم مؤتمراً صحفياً بمناسبة التعاون المشترك الذي أثمر عن المركز الطبي لنا هنا.. وكي نثبت لك أننا نقدرك حق قدرك ولن نظلمك كما فعل غيرنا فسنقدمك بصورة تليق بتاريخك ومهارتك المشهودة في عملك.. شيء كهذا سيفيدك كثيراً حتى لو تركت العمل معنا.. سيمحو النقطة السوداء في ملفك كما يقولون.

ينعقد حاجبا جهاد وكلمات إيلان ترده لأقسى مشاهد ماضيه ظلمة..
السجن.. الظلم.. الخوف.. الإقصاء.. النبذ.. والغدر!!
يتذكر كل الأبواب التي أغلقت في وجهه.. لا في العمل فحسب بل في العيش..
فيشعر بهذه الغشاوة تسدل على ناظريه..
هو حقاً يحتاج لرد اعتبار!

_المؤتمر الصحفي سيتم بثه على الهواء محلياً وعالمياً.. سيحضره ممثلون من دول عربية وأجنبية.. سنقدم فيه لخطتنا البحثية وخدماتنا وطاقم العمل معنا بما فيهم أنت..اسمك سيعود ليظهر على الشاشات كإثبات لتفوقك.. لا أظنك تحتاج لأكثر من هذا كي تتجاوز عثرات ماضيك وتجد معنا مستقبلك.

كيف هز جهاد رأسه بالموافقة؟!
هل هو طيف زهرة يعيره بضعفه؟!
طيف ريان يطعنه بالغدر؟!
طيف يولاند يستصرخه بالدعم؟!
كلها.. كلها فعلت!!

_حسناً.. سأعد العدة للأمر.. سيتم توقيع العقد على الهواء مباشرة كما اتفقنا.
يقولها إيلان برضا وهو يقف ليغادر، ينتظر يولاند لكنها تبقى جالسة بقولها:
_سأبقى مع جهاد قليلاً.. أريد التحدث معه بشأن يخصنا.
تبدو بعض الغيرة على ملامح إيلان لكنه يتحكم فيها وهو يبتسم لها قبل أن يتركهما وحدهما..

يلتفت لها جهاد بتساؤل فتدمع عيناها وهي ترفع لها شاشة هاتفها..
_هذه.. هذه ظهرت لي اليوم على تطبيق "الفيسبوك".. ذكرى منذ عامين.. عامين فقط..

يبتلع غصة حلقه وعيناه تدمعان هو الآخر.. فعلى الشاشة كانت صورتهم جميعا في احتفال بيوم مولد أحد أبنائها وقد وقف هو ضاحكاً امام كعكة عيد الميلاد التي اشتعلت شموعها يحوطه أولادها بحركاتهم المشاكسة وفي خلفية الصورة كان ريان يبسط أحد ذراعيه فوق كتفها والآخر فوق كتفه هو..

_يالله.. أين كنا.. وأين صرنا ؟!

يتمتم بها ببكاء دهس ضلوعه وأبت أن تظهره ملامحه،
فاختنقت به حروفه..
ليسمعها تهتف بين شهقاتها الباكية :
_أنا أعرف أين كنت وأين صرت.. أنا.. أنا قتلت ابنه كما قتل أولادي.
_ماذا؟!
يصرخ بها بفزع وهو ينتفض مكانه مردفاً :
_ماذا فعلتِ؟! ماذا فعلتِ؟!
_هما من فعلا.. هي وهو.. هما من سرقا عمري وأولادي.. أليس العدل أن أنتقم بالمثل؟! ألم يرضَ أن يخونني؟! أنا جعلتها تخونه! ألم يحرمني من أولادي؟! أنا حرمته من ابنه! ألم يرتضها زوجة تعلي مكانته وقدره؟! أنا جعلتها تلطخ شرفه!
تصرخ بها بانفعال وهي تقف بدورها فيهز رأسه مصدوماً، لتحكي له عبر دموعها تفاصيل خطتها مع إيلان.. كيف أوقع برفيدة مستغلاً حقارتها وما عرفه عن سوء خصالها وكيف دفعها بإيعاز من يولاند للتخلص من الجنين كي تطلب الطلاق من ريان دون وجود روابط بينهما.

_أنت ؟! أنت فعلتِ هذا؟!
_لماذا تبدو مستاء هكذا؟! ألم يكن اتفاقنا أن ننتقم منه؟!
_الأعراض شيء آخر! الأعراض! أنتِ انتهكتِ حرمته!
_وهو ؟! ألم ينتهك حرمتي؟! ألم يمص دمي وعمري وهويتي؟!
_لا أصدق! لا أصدق! ظننت الأمر مجرد حرمانه من عمله! أنتِ دبرتِ كل هذا؟!
_ عدت قوية كما تركني.
_بل صرتِ مجرمة مثله!
كان الحوار أغرب ما يكون بين العربية والفرنسية وكلاهما يصر أن يتحدث بلغته رغم فهمه للآخر.. كأنه يتشبث بما بقي من هويته..
كلاهما يصرخ بحدة وداخله يبكي بانهيار..
كلاهما يرى في وجه الآخر بشاعة صورة الخذلان..
مسخ!
كلاهما صار مسخاً مشوهاً لضحية صارت جانية.. فلا أراحها انتقام ولا عاد يفيدها ندم.
=======





*نيلي*
======
_من الجيد أنك حضرت.. أنت الوحيد الذي يمكنه إقناعها بالعدول عما تريد فعله.
يقولها بروفيسور "روبرت" مخاطباَ صهيب الذي بدا عليه القلق وهو لا يحتاج لسؤاله عن الأمر فالمشفى كله يتحدث عما ترغب زهرة في فعله بعد تداعيات الوضع التي تضخمت اليوم في فلسطين..
إذ قامت القوات الإسرائيلية بقصف حي شهير إجباراً لأهله على التهجير القسري في تصرف مفاجئ همجي هز أوساط العالم كله..


_زهرة تريد الخروج بجميع المرضى هنا في تظاهر سلمي لأشهر الشوارع هنا في برلين.. تحدثهم عن الأمر منذ الصباح بحماس بدا وكأنه هزم فجأة يأسها السابق.. في البداية سعدت بهذه اللهفة التي بدت منها مقارنةً بحالتها الأيام السابقة، لكنني أخشى عليها مغبة أمر كهذا.. صحتها لن تحتمل وأخشي أن تنتكس حالتها بعد التقدم الطفيف الذي حققناه.
يقولها روبرت بضيق ليهز صهيب رأسه بتفهم وهو يعده بالحديث معها..
يغادر غرفته ليحاول طلب لقائها لكنه يفاجأ بها واقفة في حديقة المشفى وسط بقية النزلاء، جسدها الذي ازداد نحوله كثيراً حتى كادت تبدو كشبح يناقض هذه القوة التي كانت تتحدث بها وسطهم..
ولم تكد تلمحه حتى نادته بلهفة ليقترب منها فتهتف له برجاء:
_لغتي الألمانية لا تسعفني كثيراً.. أرجوك.. قم بالترجمة..
_زهرة.. اهدئي بالله عليك.. تعالي نتحدث وحدنا أولاً..
_لن أهدأ.. غزة تحت القصف. . الناس هناك يموتون..رجال ونساء وأطفال.. يهدون بيوتهم فوقهم.. أي ظلمٍ هذا؟! يسرقون أوطانهم ويدفنونهم فيها!!

يهز رأسه بأسف وهو الآخر يشعر بالأسى مع المشاهد الحية التي تتناقلها وكالات الأنباء منذ الأمس..
لتردف وهي ترفع معصمها حيث سوار ابنه الذي صنعه لها بالشريط القماشي لعلم فلسطين مضفراً باللؤلؤ :
_كنت تطلب مني أن أعيش بالأمل..لو بقي من عمري القليل فهذا هو ما اريد العيش لأجله.. من يدري ؟! ربما قضى الله بحكمته أن أمرض كي آتي إلى هنا فيكون لصوتي قيمة مع كل هؤلاء.. كلمهم يا صهيب.. احكِ لهم الحكاية.. الحكاية التي يدلسها الإعلام المضاد ليطمس معالم الحقيقة.. أرجوك.. أرجوك.. على الأقل يسمعون القضية من الطرف الآخر..
_أتفهم شعورك لكن صحتك لن تسعفك فيما تريدين..
_ولو بقي في صدري نفس واحد.. ليكن لها.
تقولها بحسم فيتردد قليلاً وهو ينقل بصره بينها وبين غرفة روبرت..
ليحسم أمره أخيرا فينفذ لها ما أرادت.. يسمعها تتكلم بحماسة فيترجم لهم :
_إنها حكاية شعب لم يُقهر.. لم تطمس هويته الظروف.. شعب يعيش ليعلم الناس كلها معنى الصمود..الانتفاضة.. معنى الموت لأجل الحياة..أوقفوا مجازر الجيش الاسرائيلي..أوقفوا قتل الأطفال والنساء والعزل.

كلماته مع إحساس زهرة الجارف يلهب صدورهم خاصة مع المشاهد الحية التي تنقلها الشاشات.. ليتطور الأمر بسرعة في خلال ساعات..

تظاهرٌ سلمي كبير بدأ بمجموعتهم الصغيرة في المشفى وانضم له العديد من غيرهم وقد رفعوا اللافتات المُدينة بالعدوان الغاشم على المدنيين..
المتظاهرون الذين قادهم صهيب وزهرة يتجمعون في ميدان كبير ببرلين لينال اجتماعهم شهرة كبيرة بحكم طبيعة مرضهم..

(لن يهزم أجسادنا السرطان.. ولن تهزم إسرائيل صمود غزة )


الهاشتاج باللغة الألمانية يتصدر منصات التواصل الاجتماعي لينضم المزيد والمزيد من المتظاهرين بعدما شغلت القضية الرأي العام تعاطفاً مع المرضى..

_زهرة.. يكفيكِ هذا.. الآخرون سيبقون هنا.
يقولها صهيب بقلق بعد ساعات وهو يلاحظ تسارع خفقاتها وشحوب نظراتها فتبتسم ابتسامة واهنة وهي تنظر للجموع حولها..
نظراتها تتعلق باللافتات البيضاء التي بدت لها كشموس صغيرة وسط الظلمة..
كلها تحمل اسم فلسطين وتندد بالاحتلال الاسرائيلي..

(أنت بدربك في جهاد.. وأنا بحبك في جهاد)

تتمتم بها بخفوت وأناملها تعتصر دبلته المعلقة في عنقها..
تترنح مكانها لتشعر بالأيادي تتلقفها..
تغمض عينيها على صورته بابتسامة تتسع بحجم القلب الذي أحبه يوماً حبه للحياة نفسها..
هل تسقط ؟!
أم تحلق؟!
لا يهم..
"النيلية" لا تزال تمنح قرابينها لنهر العطاء حتى ولو كان باب الموت ينتظرها لتفتحه و.. تغادر!
=======



_ألغِ هذا المؤتمر يا إيلان أو أجله على الأقل .. الوضع محتقن بعدما حدث في غزة.
تقولها يولاند بتوتر وهي تجلس جواره في غرفته بالمركز الطبي تتابع تداعيات الأمر على شاشة حاسوبها المحمول، ليرد إيلان بانفعال :
_على العكس.. هذا هو التوقيت المناسب بالضبط.. لو تراجعنا الآن فسنثبت ضعف موقفنا.. يجب أن يفهم الجميع أننا ندافع عن أنفسنا ضد إرهاب الفلسطينيين الذين يترصدوننا بصواريخ مقاومتهم.. ماذا ينتظرون منا؟! أن نقف مكتوفي الأيدي وهم ينقضون عهدهم بالسلام معنا؟! القضاء الدولي سيثبت أحقيتنا بهذه الأرض محل النزاع.. نحن لا نهاجم.. نحن ندافع عن حقنا.
_من تخدع يا رجل؟! الصور تتوالى حية من هناك على جميع القنوات والمنصات الإعلامية!
تهتف بها باستنكار ليرد بحمية مؤكداً :
_ندافع عن حقنا ضد الإرهاب.. انتِ لا تعرفين ماذا يدور في الكواليس.. هم الذين يقطعون سبل السلام بيننا.
تعقد حاجبيها بعدم اقتناع لتقول بتردد وهي تستعيد شجارها الأخير مع جهاد والذي تركها بعده غاضباً :
_تظن جهاد سيستمر في الأمر بعدما حدث؟!
_لا خيار لديه.. يبدو أنك لا تفهمين هؤلاء الناس جيداً.. أبناء عروبته لفظوه لمجرد شبهة في تهمة وصار مع كل كفاءته المشهود بها مجرد عاطل.. نحن فقط من نفتح ذراعنا لهؤلاء.. تظنينه جاء إلى هنا لدعمك فحسب مراعاة لحق صداقتكما القديم؟! هراء! هو يوقن كغيره أن الغد لنا والمستقبل معنا.
يقولها بيقين لتتشتت نظرتها وهي تشعر بالحيرة..
لا تزال تشعر ان الأرض تحتها رخوة.. خطواتها مترنحة تفتقد الثبات!!
_ماذا فعلت مع رفيدة؟!
تسأله لتغير الموضوع وهي تشعر أن ترياق الحقد هو ما بقي ليشفيها من سم الوجع.. ليرد مطمئناً:
_أخبرتني أنها طلبت الطلاق من ريان.. وبعدها نمضي نحن في اتفاقنا بخصوص عمله هنا.. نلفق له خطأ نطرده بعده ويبقى وصمة في ملفه.
تبتسم برضا فيقترب منها ليحيط كتفيها بقبضتيه قائلاً بنبرة قوية:
_أظنكِ الآن صرتِ توقنين.. أن مفاتيح اللعبة معنا.. وما فعلته معكِ ليس سوى نقطة في بحر.. نحن من نعزف لحن القوة.. بل نحن من نسخر الآذان لتسمعه.. هذا ما اختلفنا عليه أنا وأنتِ في الماضي.. والآن أظنك صرتِ تؤمنين به معي.. إسرائيل ليست دولة.. إسرائيل كيان نتشرف بالانضمام تحت جناحه القوي.
تزدرد ريقها بتوتر وهي تشعر باختناق لا تملكه.. هي عاشت عمرها السابق كله ضد الصهيونية رغم كونها يهودية.. عاشت ترى اسرائيل وحشاً مغتصباً يسيئ لدينها قبل أي دين آخر.. فكيف الآن يريدها أن تراها كياناً تعترف به وتعمل لأجله؟!
كلامه مقنع.. وأفعاله أكثر إقناعاً.. إنما..!!

_سيدي.. القاعة جاهزة لعقد المؤتمر.. حضر الطاقم الطبي للمركز كله.
يقولها أحدهم وهو يدلف إلى الداخل.. فتسأله بلهفة :
_هل حضر دكتور جهاد؟!
_لا.. هو الوحيد المتغيب.
يقولها الرجل بأسف لتلتفت هي نحو إيلان بنظرة ذات مغزى لكنه يبتسم بثقة قائلاً :
_سيحضر.. ثقي بي.. أنا أعرفهم جيداً.

يتحرك ليغادر معها الغرفة نحو القاعة الفخمة حيث سيعقد المؤتمر..
تدخل معه لتصطدم بعيني ريان الحمراوين والذي جلس أول الصف..
هذه المرة لا تختلس نظرة خفية نحوه.. بل تقذفه بسهام نظراتها..
تقترب ومع هذا تشعر أنه يبتعد.. يصغر.. يصغر.. حتى يصير في عينيها كما صار في قلبها بحجم الحصاة!

_فدوى!
يستوقفها بها هامساً بوهن فضحته كل خلجة من خلجاته ليردف وهو يميل على أذنها :
_أرجوك.. اريد التحدث معك بعد المؤتمر.. أرجوكِ.
_مسكين! طالما لا تزال تناديني "فدوى".. طالما لا تزال تظن بيننا حديثاً.. طالما لا تزال تطمع أن تؤثر فيّ رجاءاتك.. فأنت مسكين حقاً.
تهمس بها بالفرنسية لترفع رأسها بكبرياء ناسب خطواتها بعدها وهي تعاود السير جوار إيلان لتعتلي معه منصة كبيرة صممت بشكل فخم وقد وضع على أحد جانبيها علم اسرائيل وعلى الآخر علم البلد..
يشير إيلان لأحدهم فيبدأ البث المباشر الذي يذاع عبر قنوات عديدة..
يفتتحه إيلان بحديثه عن ضرورة التعايش السلمي وتقبل الآخر.. عن فخره بالعقول المتفتحة التي جنحت للسلم "متعمداً ذكرها بالعربية كما وردت في القرآن".. ومعرباً عن أسفه لما يحدث الآن في غزة لينهيها بقوله :
_اسرائيل ستعيش ترعى السلام وتحفظ حق الجوار.. لكننا لن نتسامح مع الإرهاب الذي ينخر كالسوس في عصا تقدمنا.. كلنا مستاءون للدماء البريئة التي تراق.. لكننا لن نقف مكتوفي الأيدي أمام من.. يهاجمون أمننا.
يتلعثم في عبارته الأخيرة قليلاً وهو يلمح جهاد الذي دخل أخيراً من باب القاعة، ليلتفت نحو يولاند بابتسامة ذات مغزى فتتنهد كأنما استسلمت لسلامة منطقه..

_هنا خير مثال.. في هذا المركز الطبي الذي ضم جميع التخصصات ومن جميع الجنسيات بالتعاون مع مركزنا الاسرائيلي الذي أبدى استعداده لتقديم الخدمات لجميع المرضى دون تفرقة بين جنس وجنس او دين ودين.. مضى عهد العنصرية البغيضة وحان الأوان لفتح آفاق جديدة نحو رؤية مشتركة وعالم آمن يتسع للجميع.


يصفق الحضور من الأطباء الذين حملوا جنسيات مختلفة، ليبدأ أحدهم في التعريف بالطاقم الطبي بينما يتنحى إيلان ليتقدم نحو جهاد الذي بدا على عهده من الحيرة..

_من الجيد أنك ارتديت شالك الفلسطيني فوق المعطف الأبيض.. ستكون هذه شارة جيدة وبرهاناً لما كنت أحكي عنه.
يقولها إيلان باستحسان ليهز جهاد رأسه فيردف الأخير وهو يربت على كتفه:
_خشيت أن تؤثر أحداث الأمس على قرارك.
_وما الجديد؟! ما حدث بالأمس يحدث منذ زمن طويل.. ولن يتوقف قبل زمن طويل.
_بالضبط.. دع السياسة للساسة.. لسنا محكومين سوى بمصالحنا فحسب.. لن أناقشك في عقيدتك كما لست مستعداً لمناقشة عقيدتي.. لم تخيب ظني في ذكائك يا دكتور جهاد.. تقدم وخذ مكانك الذي تستحقه.. حان أوان رد الاعتبار.. حان أوان العودة.
_أجل.. حان أوان العودة.
يقولها جهاد بحسم وهو يتحرك ليلحق بدوره في الموكب الذي يتم التعريف به..
تصطدم عيناه بنظرة ريان الذي رمقه بنظرة غريبة.. كأنه يتهمه بما فعله هو قبله.. فيطرق جهاد برأسه ليتخذ مكانه..
_دكتور جهاد الريحاني.. طبيب فلسطيني.. حاصل على دكتوراة في (....) من جامعة (...) بالإضافة ل..
يقولها المسئول وهو يستعرض كفاءات جهاد العديدة وشهاداته العلمية لينهي حديثه بقوله :
_دكتور جهاد بالذات إضافة كبيرة لهذا المركز.. ودليل على أننا تجاوزنا مرحلة وتخطيناها لأخرى..لهذا فضلنا أن يوقع هو بالذات عقد عمله معنا على الهواء مباشرة في رسالة واضحة للعالم..تفضل بالقدوم يا دكتور.
يتقدم جهاد منكس الرأس وأنامله تتحسس ميدالية حنظلة في جيبه..
يصعد الدرجات القليلة نحو المنصة، يتناول القلم ليشعر بنظرات الحضور تكاد تخترقه.. ليس الحاضرون فحسب.. بل كل هذه الكاميرات التي تبث الحدث باعتباره من أول واضخم مشاريع التطبيع..

_حدث عظيم يستوجب التأريخ.. لهذا أريد التحدث قبل توقيع العقد وأرجو ألا ينقطع البث لأي سبب..
يبتسم إيلان بثقة فيما تشعر يولاند ببعض القلق من ملامح جهاد التي تعرفها.. أما ريان فيكاد يقسم على ما سيفعله جهاد بحكم صداقتهما القديمة..
جهاد الذي رفع ميدالية حنظلة أمام الحضور ليقول بنبرة قوية :
_هذا حنظلة..رمز المقاومة الفلسطينية الذي جعله صاحبه طفلاً يعطي العالم ظهره.. أما أنا فلن أعطي العالم ظهري.. أنا سأواجه.. سأطالب بحق وطني وعيني في عيون الجميع.

يبدأ إيلان في الشعور بالتوتر مع قراءته للغة جسد جهاد الذي ضم شاله الفلسطيني على كتفيه مردفاً:
_لا مجال للعداوة مع اسرائيل.. التعايش هو الحل.. السلام هو الخيار الوحيد الذي يضمن الأمن للجميع..
يرتخي جسد إيلان بارتياح وهو يستمع لكلماته لكن ما بقي من حديث جهاد كان كصفعة على وجهه:
_هذا ما يحاولون إقناعنا به.. هذا ما حاولوا جعلنا نصدقه طوال فترة سابقة ليأتي حادث الأمس ويفضح ادعاءاتهم.. وصواريخهم تنهمر على رؤوس العزل والضعفاء من النساء والأطفال تكذّب كل ما أرادوا التشدق به وتكشف اللثام عن وجههم المخادع.
يشير إيلان للرجل كي يوقف البث لكن جهاد يهتف بجسارة :
_هناك كاميرا أخرى تبث مباشرة تابعة لأحد معارفي.. ليبقَ هذا هو المشهد الأخير الذي يراه الناس..
يقولها ليرفع العقد فيمزقه هاتفاً بأعلى صوته :
_لا تطبيع.. ستبقى اسرائيل عدواً نحاربه بكل سبيل.. لسنا إرهابيين بل أصحاب حق.. نحن الشعب الذي تزرع نساؤه الورد في فوارغ القنابل كي تعلم أبناءها كيف تنمو الحياة من قلب الموت.. سأبقى ومن مثلي حنظلة الذي لا يعطي العالم ظهره بل يواجهه بالحقيقة حتى ينال حقه أو يهلك دونه.

تضج القاعة باللغط والهتافات متباينة الشدة والرأي، يندفع الحرس نحو جهاد ليكبلوا حركته باحثين عن الكاميرا التي تبث المشهد كي يتم إيقافها، تندفع يولاند نحوه لكن إيلان يجذبها إليه مكبلاً حركتها بقوله الصارم المشتعل بغيظه :
_كان ينبغي ان أعرف أنك غبية وكل أصدقائك أغبياء مثلك.. أفسدتم الحدث.. لا.. لا.. لم يفسد.. ألف واحد سيشغلون وظيفته. . ألف واحد سيرضون أن يوقعوا مكانه.. ألف واحد سيصرخون بعكس ما تفوه به.. كلامه سيُنسى .. سيندثر.. وكلامنا سيحتل الصدارة.. نحن من نحدد من يعلو صوته ليسمعه الناس ومن يخفت صوته للأبد.

يهز بها جسدها بعنف فترمقه بنظرة مرتعبة وهي ترى الحرس يسحبون جهاد الثائر إلى خارج القاعة..
تتملص من بين ذراعي إيلان لتركض خلف جهاد الذي اندفع خارج المكان..



_جهاد.. انتظر..
تناديه بها بلهفة وهي تحاول اللحاق به لتدركه بصعوبة فتسأله من بين أنفاسها اللاهثة:
_لماذا ؟!
_تسألين لماذا؟! أنا الذي أسأل لماذا؟! كيف في لحظة ضعفت؟! كيف سقطت؟! كيف كدت أسقط في الشَرَك الذي لم أكن لأقوم منه أبداً؟! كدت أصدق ضلالات صديقك.. كدت أنسى من أنا ولمن أعيش.. وجاء حدث الأمس ليصفعني على وجه غفلتي.. ليذكرني بمن هو العدو.. ليعيرني بسقطتي.. أنا جئت هنا لأجلك ظننت نفسي قوياً لأعصمك من الزلل.. لكنني لن أبقى لأسقط من جديد معك.. هي معركتك وحدك يا يولاند.. خوضيها والحقي بي أو انسيني مع ما نسيتِه.
يقولها ثائراً فتشعر أنه حقاً عاد جهاد القديم.. خلع عنه قناع الحقد الذي لم يكن يليق به لتعود له طبيعته التي طالما عرفتها.. فهل تسعد بعودته لذاته طامحة لنفسها بنهاية شبيهة؟! أم تنقم عليه لأنه يتركها وحدها تتأرجح على حافة حيرتها؟!!
ترمقه بنظرة مشتتة وهي تراه يبتعد، شيء بداخلها يكاد يجبرها قسراً أن تلحق به.. أن تدرك معه الطريق الذي ترى فيه الحق..
لكنها تلمح ريان يغادر المركز بدوره فتشتعل نظراتها من جديد كأنما تلبسها ألف شيطان!!
لا..!
لن تترك المباراة قبل الشوط الأخير..
ليس قبل أن تشهد النهاية التي ترتضيها.. لتسدل الستار بعدها للأبد على ما بقي من "فدوى"!
========





يجوب جهاد الشوارع شارداً وهو يشعر بالقهر وقد استنزفت الأحداث الأخيرة ما بقي من طاقته..
لا يريد العودة للفندق الذي يقيم فيه.. لا يريد رؤية أي أحد ولا أي شيء..
هو عاد لنفسه بعد طول تيه ولن يسمح بالمزيد من الضلال..
لكن.. أين يذهب ؟! لمن يلتجئ؟!
يرفع وجهه للسماء بدعاء خفي وهو يشعر بالأبواب كلها مغلقة في وجهه..
يصادف أحد " الكافيهات" فيشعر بحاجته للراحة بعد ساعات لا يذكر عددها من المشي..

_شاي أخضر.

يطلبها من النادل الذي يرمقه بنظرة طويلة كانه تعرف عليه وقد شاع ما فعله عبر القنوات فيشيح بوجهه بضيق ليشرد ببصره وهو يستعيد الساعات السابقة..
يستغفر الله بخشوع ثم يحمده أن عاد لرشده في الوقت المناسب فلم يدنس نفسه بخيانة!
ورغماً عنه تزوره عيناها الحبيبتان فيتأوه بخفوت وهو يتشبث بشاله على كتفيه.. زهرته الغادرة!
إذا كانت هي قد وجدت القوة لتنسى حبه فلماذا لم ينسَ هو؟!
يتناول هاتفه ليطالع آخر الأخبار فيختلج قلبه بلوعة وهو يميز مشاهد الدمار في بلاده.. يبتسم ساخراً بمرارة وهو يقرأ عن تعهد اسرائيل بوقف إطلاق النار..
منذ متى يوفي هؤلاء بعهد؟!
يتجاوز الأخبار مجبوراً وهو يطالع الشاشة الكبيرة التي كانت تعرض بعض الأخبار العالمية في المقهى لتتسع عيناه بصدمة وهو يميز ملامحها..
هل يتوهم ؟!
هي! هي!
ازدادت نحولاً لكن هل يخطئ مثله مثلها؟!
ينتفض واقفاً مكانه ليقترب من الشاشة يريد التأكد مما يراه ليقرأ الخبر..

(تظاهرات سلمية في العديد من الدول تنديداً بما فعلته قوات الاحتلال، أغربها ما قام به نزلاء أحد المراكز الطبية لعلاج السرطان في برلين تزعمتهم الفتاة العربية في الصورة لتسقط بعدها على مشارف الموت)

ينقبض قلبه بهلع والحقيقة تصفع رأسه!!
يرى الشاشة شغلتها صورتها وحدها وقد سقطت على الأرض جوار لافتة بيضاء باسم فلسطين!
تزأر روحه بجنون والكاميرا تقترب أكثر من ملامحها ليميز سلسلة عنقها ب.. "دبلته الملونة"!
_لا.. لا.. لا..
يصرخ بها هادراً وهو يكاد يحطم الشاشة ليعلو صوت هاتفه باتصال في هذه اللحظة..
ترتجف أنامله وهو لا يعرف ولا يشعر كيف فتح الاتصال ليصله الصوت المهيب معرفاً بنفسه :
_أنا عاصي الرفاعي.
من عاصي الرفاعي؟!
صدمته تلجم لسانه وهو يشعر أنه لم يعد يعي شيئاً مما حوله، بل لا يكاد يذكر من عاصي الرفاعي هذا..

_ابنتي تماثلت للشفاء تماماً.. رأيت أنه يجب أن أشكرك لأنك نصحتنا بالطبيب المناسب..
لا يزال عاجزاً عن الرد وصورة زهرة الساقطة أرضاً تحول بين دموعه والرؤية، لكن عاصي يقول أخيراً بنبرة رجل لا يجيد الاعتذار إلا بطريقة عملية :
_أعرف أن بيننا تاريخاً ليس بجيد.. لكنني أريد أن أرد لك صنيعك معي.. هناك ما كان يجب أن تعرفه منذ زمن طويل بشأن الآنسة زهرة.
=======
انتهى الفصل الاربعون


نرمين نحمدالله غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 17-12-21, 12:43 AM   #3222

Hoba82

? العضوٌ??? » 456696
?  التسِجيلٌ » Oct 2019
? مشَارَ?اتْي » 66
?  نُقآطِيْ » Hoba82 is on a distinguished road
افتراضي



Hoba82 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 17-12-21, 01:32 AM   #3223

Malak assl

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وقاصة وقلم مشارك في منتدى قلوب أحلام وحارسة وكنز سراديب الحكايات ونجمة كلاكيت ثاني مرة و راوي القلوب وقاصة هالوين

 
الصورة الرمزية Malak assl

? العضوٌ??? » 387951
?  التسِجيلٌ » Dec 2016
? مشَارَ?اتْي » 1,870
?  نُقآطِيْ » Malak assl has a reputation beyond reputeMalak assl has a reputation beyond reputeMalak assl has a reputation beyond reputeMalak assl has a reputation beyond reputeMalak assl has a reputation beyond reputeMalak assl has a reputation beyond reputeMalak assl has a reputation beyond reputeMalak assl has a reputation beyond reputeMalak assl has a reputation beyond reputeMalak assl has a reputation beyond reputeMalak assl has a reputation beyond repute
افتراضي

اول رد مني .... اشتاقيتلج كووومات وربي

الفصل فوووق الخرااافي ..
نفسي اصورلج ردود افعالي ..
عشتي وعاش قلمج المبدع


Malak assl غير متواجد حالياً  
التوقيع
ملاك عسل
رد مع اقتباس
قديم 17-12-21, 01:43 AM   #3224

نرمين نحمدالله

كاتبة في منتدى قلوب أحلام وفي قصص من وحي الاعضاء ، ملهمة كلاكيت ثاني مرة


? العضوٌ??? » 365929
?  التسِجيلٌ » Feb 2016
? مشَارَ?اتْي » 2,008
?  نُقآطِيْ » نرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة malak assl مشاهدة المشاركة
اول رد مني .... اشتاقيتلج كووومات وربي

الفصل فوووق الخرااافي ..
نفسي اصورلج ردود افعالي ..
عشتي وعاش قلمج المبدع
حبيبتي يا ميرو تسلميلي وانا افتقدت تعليقاتك المميزة 💙


نرمين نحمدالله غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 17-12-21, 01:44 AM   #3225

سحر الفقي

? العضوٌ??? » 485213
?  التسِجيلٌ » Feb 2021
? مشَارَ?اتْي » 112
?  نُقآطِيْ » سحر الفقي has a reputation beyond reputeسحر الفقي has a reputation beyond reputeسحر الفقي has a reputation beyond reputeسحر الفقي has a reputation beyond reputeسحر الفقي has a reputation beyond reputeسحر الفقي has a reputation beyond reputeسحر الفقي has a reputation beyond reputeسحر الفقي has a reputation beyond reputeسحر الفقي has a reputation beyond reputeسحر الفقي has a reputation beyond reputeسحر الفقي has a reputation beyond repute
افتراضي

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .

سحر الفقي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 17-12-21, 01:46 AM   #3226

Omsama

? العضوٌ??? » 410254
?  التسِجيلٌ » Oct 2017
? مشَارَ?اتْي » 867
?  نُقآطِيْ » Omsama is on a distinguished road
افتراضي

الفصل روووعه احداث ناريه تغيبى وترحعى بقوه ياملكة الابداع

Omsama غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 17-12-21, 01:53 AM   #3227

زيني فاطمة
 
الصورة الرمزية زيني فاطمة

? العضوٌ??? » 496049
?  التسِجيلٌ » Dec 2021
? مشَارَ?اتْي » 3
?  نُقآطِيْ » زيني فاطمة is on a distinguished road
افتراضي

الفصل رائع شكرا لمجهودك ومرحبا بعودة الفصول ❤️❤️❤️

زيني فاطمة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 17-12-21, 02:02 AM   #3228

موناليزا ابو الفتوح

? العضوٌ??? » 482460
?  التسِجيلٌ » Dec 2020
? مشَارَ?اتْي » 43
?  نُقآطِيْ » موناليزا ابو الفتوح is on a distinguished road
افتراضي

عودة قوية ،فصل ملحمي من الدرجة الأولى

موناليزا ابو الفتوح غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 17-12-21, 02:06 AM   #3229

منةالله ياسر

? العضوٌ??? » 485562
?  التسِجيلٌ » Feb 2021
? مشَارَ?اتْي » 11
?  نُقآطِيْ » منةالله ياسر is on a distinguished road
افتراضي

تحفة اوووى الفصل اكثر من رائع ارجو الا توقفى ابدااا عن الكتابة ♡♡♡

منةالله ياسر غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 17-12-21, 02:26 AM   #3230

ماماسماح

? العضوٌ??? » 495260
?  التسِجيلٌ » Nov 2021
? مشَارَ?اتْي » 76
?  نُقآطِيْ » ماماسماح is on a distinguished road
افتراضي

روعه روعه روعه تسلم ايدك نيموو فصل رهيب ياقمر

ماماسماح غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:40 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.