آخر 10 مشاركات
السر الغامض (9) للكاتبة: Diana Hamilton *كاملة+روابط* (الكاتـب : بحر الندى - )           »          عشقكَِ عاصمةُ ضباب * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : نورهان عبدالحميد - )           »          سحر التميمة (3) *مميزة ومكتملة*.. سلسلة قلوب تحكي (الكاتـب : كاردينيا الغوازي - )           »          رسائل من سراب (6) *مميزة و مكتملة*.. سلسلة للعشق فصول !! (الكاتـب : blue me - )           »          ليلة مع زوجها المنسي (166) للكاتبة : Annie West .. كاملة (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          تريـاق قلبي (23) -غربية- للمبدعة: فتــون [مميزة] *كاملة&روابط* (الكاتـب : فُتُوْن - )           »          ارقصي عبثاً على أوتاري-قلوب غربية(47)-[حصرياً]للكاتبة::سعيدة أنير*كاملة+رابط*مميزة* (الكاتـب : سعيدة أنير - )           »          بريق نقائك يأسرني *مميزة ومكتملة* (الكاتـب : rontii - )           »          لك بكل الحب (5) "رواية شرقية" بقلم: athenadelta *مميزة* ((كاملة)) (الكاتـب : athenadelta - )           »          54-لا ترحلي-ليليان بيك-ع.ق ( تصوير جديد ) (الكاتـب : dalia - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى الروايات والقصص المنقولة > منتدى الروايات العربية المنقولة المكتملة

Like Tree2Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 20-01-18, 12:26 PM   #11

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


الفصل الثامن


انطلق يزيد بسيارته في سرعة غاضبة.. بينما علياء ترتجف على المقعد بجواره ولم تكف عيناها لحظة عن البكاء.. ولكنها كانت تكتم شهقاتها بداخلها خوفاً من الغضب العاصف الذي ارتسم على ملامحه..
وضعت قبضتها بين أسنانها كعادتها عندما تتوتر.. وحتى تمنع نفسها عن تبادل أي حوار معه.. ولكنها وجدت نفسها مجبرة على محادثته عندما وجدته يتخذ الطريق نحو الفيلا:
ـ يزيد.. بلاش نروح الفيلا.. أرجوك.. أنا مش هقدر أواجه تانت سهام دلوقتِ..
التفت لها بغضب:
ـ ليه بقى مش هتقدري تواجهيها؟.. أنتِ عملت ايه؟.. وإيه المشكلة اللي كان مازن بيحلها لكِ؟..
سكتت تماماً وازداد تدفق الدموع بعينيها.. مما أثار المزيد من غضبه لكنه غير اتجاه السيارة في صمت وهو يخبرها بحسم:
ـ مش هنروح المزرعة.. أنا عايز أفهم الأول في إيه.. هنروح مكتبي في الشركة.. مفهوم؟..
رغم أن ذكره للشركة جلب لذهنها وجودها بين ذراعيه صباحاً في مكتب والده, إلا أنها أومأت موافقة, فهي لا تريد أن تتلاقى مع سهام بأي طريقة خاصة وهي في تلك الحالة المشتتة..
وصلا إلى مبنى المجموعة ولاحظت وجود عدد بسيط من الموظفين ولم تتعجب فقد تأخر الوقت بالفعل..
اصطحبها يزيد إلى مكتبه مباشرة وأدخلها مغلقاً الباب خلفهما ووقف مستنداً عليه مكتفاً ذراعيه على صدره ليسألها بغضب لم يخف بعد:
ـ فهميني بقى في إيه؟..
بدأت الدموع تترقرق في عينيها وتعالت شهقاتها فصرخ بها:
ـ من غير بُكى.. مش عايز دموع فهميني... في إيه بالضبط؟؟..
تلعثمت الكلمات على شفتيها:
ـ كان في مشكلة وكنت محتاجة رأي مازن فيها.. هو قالي..
صرخ بها وهو يتحرك ليجذبها من ذراعها:
ـ مازن قال لك!!.. قال لك إيه إن شاء الله؟.. واشمعني هو اللي عايزاه يحل لك مشاكلك؟.. إيه عايزة تاخدي رأيه في الخطاب اللي بيترموا تحت رجليكِ!!..
هزت رأسها برفض لكلماته القاسية:
ـ ومازن إيه علاقته بالحكاية دي!.. الموضوع يخص نيرة وحسن..
ابتعد عنها قليلاً ولكنه ظل متمسكاً بذراعها وهو يردد:
ـ نيرة وحسن!!.. إزاي يعني؟..
اندفعت كلماتها سريعاً وهي تقص عليه كل ما حدث من نيرة وكيف خططت ودبرت حتى تسبب الأذى والإحراج لمنى.. وحين أنهت قصتها صرخ بها بغضب وهو يهزها بقوة:
ـ أنتِ إيه؟... واللي اسمها نيرة دي فاهمة نفسها إيه!!.. تتحكم في مصاير الناس وأكل عيشهم.. إيه كمية الشر دي!!..
انهمرت الدموع من عينيّ علياء وهي تخبره:
ـ والله أنا ما كنت موافقة يا يزيد.. أنا بالعافية لما قدرت أمنعها أنها تتهمها بالسرقة زور.. بس أنا ما أقدرش أعمل حاجة.. هي برضوه بتدافع عن حقها في خطيبها وحبيبها و..
دفعها بعيداً وهو يخبرها باشمئزاز:
ـ حقها إيه وزفت إيه!.. ده كلام بتقنعي به نفسك عشان تبرري اشتراكك في التمثيلية الحقيرة دي.. بذمتك أنتِ تقدري تبصي لنفسك في المرايا من غير ما تحسي بالقرف والاشمئزاز أنك شاركتِ في تدمير بنت بريئة..
أجهشت علياء ببكاء مرير وانهارت على الأريكة التي خلفها وهي تخبره:
ـ غصب عني.. والله غصب عني.. نيرة عدت أخدتني من هنا الصبح من غير تعرفني هي ناوية على إيه.. وأما قالت لي حاولت أمنعها.. والله حاولت.. بس هي شايفة أنه لها حق.. وطول الوقت كنت بفكر إزاي أعوض منى عن اللي حصل.. أنا ما قصدتش اآذيها.. والله ما أقصد..
تحرك ليقف بجوارها وهو يسألها بسخرية:
ـ وأنتِ كنتِ ناوية تعوضيها ازاي بقى؟.. هتبعتي لها قرشين تخدري بيهم ضميرك اللي صحي فجأة..
هزت رأسها ورفعت له عينين مغرورقتين بالدموع:
ـ لا.. طبعاً.. أنت ليه فاكر أني تافهة وسطحية قوي كده؟!.. أنا فكرت أنها تشتغل في الصالون بتاع ماما الله يرحمها.. أنا حتى كلمت تانت آمال اللي اشترت الصالون وهي وافقت أن منى تيجي تشتغل معاها وتمسك لها الحسابات.. يعني كنت بدور على حل..
تحرك ليجلس بجوارها وهو يأمرها بحزم:
ـ خلاص.. كفاية بُكى.. أنا هكلم حسن.. و...
قاطعته صارخة:
ـ لا.. ما تحكيش لحسن حاجة.. الله يخليك.. كده نيرة هتعرف و..
صرخ بها:
ـ وأنتِ خايفة منها ليه؟..
هزت رأسها بينما ازداد انهمار دموعها:
ـ ما هي تبقى صاحبتي زي ما حسن صاحبك.. ولا لازم أفقد كل حد بيهتم بيا....
هز رأسه رافضاً:
ـ حسن لازم يعرف..
أجابته بحزن:
ـ أنا كنت متأكدة أن ده هيكون رد فعلك.. عشان كده طلبت مساعدة مازن.. هو كان هيستوعب الموقف أكتر..
صاح بغضب:
ـ أفندم!!.. ورد فعل مازن هيكون مختلف ليه؟.. إيه اللي هيخليه يقدر موقفك ويفهمك أكتر..
رفعت عينيها له ببراءة:
ـ لا.. أقصد موقف نيرة.. هو بيحبها.. وعمره ما هيسمح أنها تتعرض للأذى..
سألها بغموض:
ـ وهو بقى اللي قال لك أنه بيحب نيرة؟..
هزت رأسها نفياً وهي تخبره بخجل:
ـ لا.. أنا أخدت بالي لوحدي.. من نظراته ومعاملته لها..
هتف بها بغضب:
ـ أنتِ إزاي تقولي كلام زي ده!!.. أنتِ لسه صغيرة وما تفهميش في الكلام ده.. بس أقول إيه على واحدة واخدة نيرة غيث مثل أعلى لها..
انهمرت دموعها بغزارة وهي تسأله بحزن:
ـ هو ما فيش أي حاجة بعملها بتعجبك أبداً!!
زفر بغضب.. غضب نابع من تورطها في موقف أساء لها.. وسبب الأذى لإنسانة أخرى بريئة.. ولكن ما أُلحق بمنى من أذي فحسن قادر على إصلاحه.. ولكن تورط علياء المستمر مع نيرة هو ما يغضبه بشدة..
لقد أصبح من الواضح الآن أن علاقة الصداقة بين علياء ونيرة تسبب الدمار لعلياء حتى لو كانت تظن أن نيرة تهتم لأمرها.. لكن تلك الصداقة يجب أن تنتهي.. بأي طريقة..
أدرك أن علياء ستقاوم أي محاولة لإبعادها عن صديقتها.. لذا فكر أن يحاول تدريجياً معها حتى تقتنع بالابتعاد التام عن نيرة..
التفت إلى علياء التي أخفضت رأسها أرضاً بينما لم تتوقف دموعها عن الانهمار.. ورفع ذقنها بأنامله فبرقت زرقة عينيها من خلف ساتر من الدموع:
ـ بصي يا علياء.. اللي حصل النهارده ده.. ممكن أوصفه بجريمة.. وأنتِ اتورطتِ فيها.. وبإرادتك.. ما تقاطعنيش.. كان ممكن تنهي المهزلة دي لو اتكلمتِ وقلتِ لصاحبة المحل.. أن منى مظلومة.. لكن أنتِ سكتِ واشتريتِ خاطر صاحبتك.. يعني أنتِ طرف في اللي حصل.. وده كله نتيجة أنك عايزة تحمي نيرة.. وكانت النتيجة أنك أتورطت معاها.. ويا عالم المرة الجاية هتوقعك في إيه.. أنا مش هطلب منك غير أن الصداقة دي لازم يكون لها حدود.. لازم تفكري بعقلك أنتِ وبعدين تنفذي اللي يرضي ضميرك.. كلام نيرة مش قانون ولا ملزم.. مفهوم؟..
شهقت علياء لتتغلب على دموعها وهي تومئ برأسها موافقة على كلامه وهل تستطيع معارضته..؟ خاصة وهو يكلمها بذلك الهدوء وتلك النبرة اللينة!!..
ابتسم لها راضياً عن موافقتها مما جعل قلبها ينتفض فرحاً.. ولكنه لم ينتبه لانفعالاتها وأكمل ليصل إلى ما يؤرقه بالفعل:
ـ وبعدين مشكلة زي دي ليه تلجأي لمازن؟.. هو مين الأقرب لك والأقدر أنه يحل مشاكلك؟..
أجابت بخجل:
ـ أنا ما كنتش عايزاك تزعل مني..
مد أنامله ليمسح دموعها التي غطت وجنتيها وهو يخبرها بهمس:
ـ وأنا مش زعلان منك.. بس آخر مرة تطلبي مساعدة راجل غريب.. مفهوم؟..
أرادت تخبره أن مازن ليس بالغريب ولكن أنامله التي كانت تتجول على وجنتها بحميمية أوقفت ذهنها عن العمل كالعادة فوجدت نفسها تهمس:
ـ أنا رفضت أشوف العرسان اللي عمو عصام كان بيقول عليهم..
لم يدرِ لم ذلك الشعور بالارتياح الذي سرى بداخله, فرغم يقينه من رفضها إلا أنه كان يريد التأكد.. أن يسمع الرفض بأذنيه.. لقد كان يصارع نفسه منذ أن أدخلها سيارته حتى لا يسألها عن خاطبيها وماذا أخبرت والده بشأنهم.. وها هي تمنحه الإجابة بدون حتى أن يسأل..
كيف تعلم ما بداخله بتلك الطريقة؟.. كيف شعرت بحاجته للاطمئنان أنها لن تكون ملكاً لرجل آخر؟..
لقد كان يتمزق طوال اليوم وهو يحاول منع نفسه من محادثة والده والسؤال عن الموضوع.. حتى أنه هنأ نفسه أنه لم يبادر لسؤاالها عندما أحضرها إلى مكتبه..
يبدو أن ما عاناه من فوران رغبته بها قد هدأ بعد أن حدد موعداً لزواجه.. فهي معه منذ ما يزيد عن الساعة ولم يحاول لمسها.. رغم أنها قريبة منه.. قريبة للغاية.. ولكنها لم تعد تثيره أو تحرك شيئاً بداخله, حتى لو أحاط كتفيها بذراعه هكذا.. وقربها منه أكثر هكذا.. وأجال أنامله في شعرها هكذا... ورفع وجهها ليقابل وجهه هكذا.. حتى وهو يميل عليها ليتمكن من شفتيها.. هكذا.. فهو لن يشعر سوى.. سوى.. بشعور لا يمكن وصفه إلا بالكمال وهو يستمر في تقبليها واحتضانها وشفتيه تتحرك ببطء تاركة شفتيها ليلتقط دموعها ويهمس لها:
ـ خلاص يا علياء كفاية بُكى..
غابت نظراتها في نظراته وهي تراه يميل برأسه ثانية ليقبلها.. ويضمها بقوة لصدره حتى أنه انتزعها من جلستها على الأريكة لتستقر على ركبتيه وهو يحكم من احتضانها بينما هي ترفع ذراعيها للتطوق بهما عنقه وتدعم نفسها حتى لا تسقط أرضاً..
استمر في تقبيل شفتيها.. وجنتيها.. جفنيها المغلقين.. ذقنها وعنقها.. وهي ذائبة تماماً بين ذراعيه.. كل ما فيها خاضع ليديه وشفتيه اللتين عادتا لتذوق دمعته الماسية مراراً وكأنها تكتسب في كل مرة مذاقاً جديداً ومختلفاً..
رنين هاتفه النقال هو ما أنقذهما تلك المرة.. فانتفض كلاهما عند سماع الرنين.. وحاولت علياء النهوض من فوق ركبتيه.. ولكن قدميها لم تدعماها, فساعدها لتجلس على الأريكة, بينما أسرع هو مبتعداً نحو الحمام الملحق بالغرفة ليضع رأسه تحت الماء البارد وهو يردد بداخله.. أنه يجب أن يبتعد عن علياء للأبد.. لقد كان على وشك تدميرها.. لو تأخر رنين الهاتف لثوانِ لكان وصل إلى مرحلة اللاعودة.. لن ينفرد بها أبداً بعد الآن.. سيذهب بها إلى المزرعة ويبقيها هناك حتى يقضي على افتتانه بها تماماً.. البُعد كفيل بالقضاء على ذلك الإنجذاب.. لا يجب عليه رؤيتها أو محادثتها على الأقل حتى يتمم زواجه بريناد..
عاد إلى الغرفة بعد أن جفف شعره ولكنه كان مازال يلهث متأثراً بوجودها بين ذراعيه.. ولم يساعده اطلاقاً رؤيتها منكمشة على الأريكة وهي تحتضن جسدها الذي كان ينتفض بشدة..
حاول إجلاء صوته ليقول أي شيء لها لكنه لم يستطع مواجهة عينيها الحائرتين وقد لمعت زرقتهما بشدة.. حاول ألا ينظر إلى عنقها وما ظهر عليه من آثار لما كان يفعله بها لكنه لم يستطع الابتعاد بنظره عن شفتيها الشهيتين والمنتفختين بسببه.. فوجد قدميه تتحركان نحوها بلا إرادة منه.. يريدها..
لا يستطيع الإنكار أكثر.. يحتاج أن يضمها إلى صدرة مرة أخرى..
فليحظى بقبلة أخيرة قبل أن ينفيها إلى المزرعة.. قبلة واحدة فقط وسيبتعد عنها..
تعالى رنين هاتفه مرة أخرى لينقذها منه قبل يضع أفكاره حيز التنفيذ.. فتناوله ليجد أن المتصل كان مازن.. فرد بهدوء ليخبره أنه قام بايصال علياء إلى المزرعة وسيعود للقائه هو وحسن بعد ساعتين في مطعم النادي..
أغلق الخط والتفت نحو الباب وهو يخبرها بدون أن يلتفت إليها:
ـ يلا يا علياء هوصلك المزرعة..
**************
جلس عم نصر على أحد المقاهي الشعبية مع مجموعة من أصدقائه وأهل منطقته.. عندما وجد من يربت على كتفه:
ـ مساء الخير يا عم نصر..
رفع نصر عينيه بتوقع ليواجه عيني حسن وبرفقته مازن.. فابتسم لهما محيياً:
ـ اتفضلوا يا بهوات.. نورتونا والله..
ربت حسن على كتفه:
ـ المكان منور بأهله يا عم نصر.. بس أنا كنت عايز أعزم نفسي على كوباية شاي عندك في البيت..
نهض نصر من فوق كرسيه وهو يشير إلى حسن ومازن ليتقدماه ويقول لهما بترحيب:
ـ يا ألف أهلاً وسهلاً.. ده احنا يزيدنا شرف..
تحركوا معاً حتى وصلوا إلى منزل نصر... وهنا طلب منه حسن أن يسبقهما حتى لا يدخلا على أهل البيت بدون استئذان.. فشكره نصر ممتناً له ومقدراً تصرفه..
جلس الرجال الثلاث في غرفة الضيوف والتي رغم بساطتها وقدم أثاثها إلا أنها كانت غاية في الدفء والحميمية.. يشعر أنها تشبه منى في بساطتها وأصالتها بنفس الوقت..
منى التي عانت بسببه أقسى معاناة.. وتسببت لها نيرة بإهانة جسيمة تكاد تبلغ مقام الجريمة في نظره.. لا يدري كيف تمالك أعصابه حين قص عليه يزيد ما قامت به نيرة نحو منى.. لولا أن يزيد استطاع تكبيله حرفياً لتوجه من فوره إلى نيرة ليرد لها الإهانة مضاعفة مغامراً بخسارة كل شيء.. ولم تهدئ ثائرته إلا بحضور مازن الذي اقترح عليه أن يذهب لوالد منى ويطلبها رسمياً, بدلاً من الذهاب إلى نيرة وتحطيم الخطة التي أوشكت على بلوغ هدفها..
وهذا ما فعله ويفعله على مدى خمسة أيام كاملة.. يذهب لوالد منى في كل مكان يعلم بتواجده به... ويطلب يد منى للزواج.. ويقابله عم نصر برفض محرج.. فهو يعلم علم اليقين.. رفض حاتم العدوي لهذا الزواج.. وهو لن يزوج ابنته لعائلة لا تريدها فرداً منها..
واستمر حسن في الطلب ودأب نصر على الرفض..
حتى اصطحب حسن مازن معه وقرر الذهاب إلى منزل منى.. وبداخله أملٌ خفي أن تقف بصفه.. وتنفذ وعدها بأن تسانده بكل قوتها وحبها.. يخشى فقط أن يكون لتصرف نيرة الأحمق تأثير عكسي على منى.. وترفض الزواج منه إلى الأبد..
خرج حسن من تأملاته على دخول أمل الشقيقة الصغرى لمنى وهي تحمل صينية معدنية رُص فوقها ثلاثة أكواب من الشاي وطبق به عدة قطع من الكيك الشهي..
ابتسم لها مازن بطيبة:
ـ تسلم ايديكي يا أمل..
وضعت الصغيرة الصينية وركضت مسرعة في خجل.. بينما التفت حسن إلى نصر:
ـ أنا جاي النهارده يا عمي.. ومش هتحرك قبل ما أقنع حضرتك بالموافقة..
ابتسم نصر بمودة:
ـ يا بني.. أنا متأكد أنك شاري بنتي.. وشاري خاطرها.. وإذا كان على اللي حصل لها من الآنسة نيرة..
قاطعه حسن:
ـ يا عمي.. أنا ما يهمنيش غير منى.. نيرة كل علاقة لي بها هتنتهي بكره.. وده رسمي وقدام الناس.. لكن أنا بيني وبين ربنا عمري ما فكرت في نيرة أنها شريكة حياتي..
رد نصر باحراج:
ـ يا حسن دي حاجة تخصك أنت والآنسة نيرة..
ـ يا عمي.. أرجوك اسمعني.. أنا كل اللي أتمناه من دنيتي.. أن منى تكون مراتي.. أنا عارف وجه اعتراض حضرتك.. وهو عدم موافقة والدي.. بس ده شيء خارج عن إرادتي.. اعتراض بابا بس عشان التجارة والشراكة.. لكن ده كله مش هيتأثر إن شاء الله.. وأنا كفيل بموافقته بعد كده.. بس أرجوك اعطني كلمة بالموافقة..
أطرق نصر في حيرة.. حيرة أب بين الموافقة على شاب يجمع كل ما يطلبه الرجل في زوج ابنته.. وبين ما قد تلاقيه تلك الابنة الرقيقة من تعنت من والد الزوج القاسي..
أكمل حسن وقد استشعر أن نصر بدأ يلين قليلاً:
ـ أنا مش عايزك تقلق على منى.. منى كرامتها هي كرامتي.. ما حدش هيقدر يدوس لها على طرف وهي مراتي.. أنا كان ممكن انتظر لحد ما أنهي ارتباطي بنيرة نهائي.. لكن اللي حصل منها ناحية منى هو اللي خلاني آجي لحضرتك مرة واتنين..
قاطعه نصر بابتسامة:
ـ اتنين بس قول وعشرة وعشرين..
أكمل حسن:
ـ ومستعد آجي ألف.. ألفين .. حتى مليون مرة بس منى تكون ليا..
كانت منى تستمع إلى الحوار الدائر بين حسن وأبيها _اللذان يتكلمان بصوت مسموع_ وهي جالسة في غرفة المعيشة.. تتأمل عدد مرات الاتصال والرسائل التي حاول حسن عن طريقها الوصول إليها منذ ذلك اليوم المشئوم الذي أهانتها به نيرة..
وصلها صوت حسن الدافيء وهو يتوسل والدها الموافقة.. وشعرت بميل والدها لذلك ولكن الأصول والعادات كانت تقف كعائق أمامه.. فكرت سريعاً فيما يحاوله حسن من أجلها.. من أجل أن يكونا معاً..
أنه يعشقها منذ سنوات.. صرح لها بحبه ونيته في جعلها زوجة له منذ أن فكت ضفائرها ووخطت أعتاب الأنوثة.. كان واضحاً وصريحاً.. لم يتلاعب بها أو يخدعها.. حتى خطبته لنيرة وضح لها أسبابها.. ولم يوفر جهداً للتخلص منها..
وجدت نفسها تتساءل.. ماذا فعلت هي من أجله؟.. أنها تحبه.. لا شك.. ولكن ماذا فعلت ليتوج هذا الحب ويقدس بالزواج؟..
تحركت تلقائياً نحو غرفة الضيوف وسمعت والدها يخبر حسن بتردد:
ـ بص يا بني.. ما فيش أب في الدنيا ما يتمناش شاب زيك يكون زوج لبنته.. بس عدم موافقة أبوك..
قاطعه مازن تلك المرة:
ـ يا عمي.. والدي في النهاية أب.. وأكيد لما يشوف سعادة حسن ومنى هيوافق.. هو بس عنيد حبتين.. لكن أنا أهوه كأخ لحسن يشرفني أن تكون منى مرات أخويا وأخت ليا.. حتى جدتي.. لو كانت تقدر تيجي كانت جت معانا.. ثواني هتصل بيها على التليفون..
اتصل مازن على جدته السيدة روح _والدة أبيه_.. والتي لها في قلوب ونفوس الجميع مقام كبير.. ويعرفها نصر منذ أن كان طفلاً وكان والده هو السائق الخاص بها..
ردت السيدة روح على الفور وكأنها كانت بانتظار الاتصال.. فأعطى مازن الهاتف لنصر.. وعلى الفور انطلقت السيدة روح في الكلام:
ـ ازيك يا نصر وإيه أخبار ولادك؟..
أجاب نصر باحترام:
ـ إحنا بخير.. حسك في الدنيا يا روح هانم.
ضحكت السيدة بتساهل:
ـ إيه هانم دي!.. هو احنا لسه هعرفك ولا ايه يا نصر!!..
تنحنح نصر بحرج:
ـ بس.. أصل..
قاطعته بحزم مصطنع:
ـ لا بس ولا أصل.. أنا اللي بطلب منك.. بنتك لحفيدي.. وأنت عارف لو كنت أقدر.. كنت جيت بنفسي.. أنا مش هلاقي لحسن زوجة زي منى.. أنا عارفاك وعارفها كويس.. واللي حصل من حاتم ده أنا ما عرفتش به إلا لما رجعت من الحج.. لكن ملحوقة.. والغلط مردود.. وحسن عارف ازاي هيصلح غلطه.. نرجع بقى.. للموضوع الأساسي.. امتى الفرح؟..
ضحك نصر بحرج:
ـ فرح مرة واحدة!!.. طب مش لما أعرف رأي البنت..
في تلك اللحظة دخلت منى إلى غرفة الضيوف وهي تنظر إلى الجميع وأخيراً سقطت عيناها على والدها لتخفض نظراتها أرضاً وتقول بصوت خافت ولكن واثق:
ـ أنا موافقة يا بابا.. بعد موافقة حضرتك طبعاً..
شعر حسن بعد كلمات منى الخجولة بحمل كبير ينزاح من على كتفيه.. فيكفيه أن يشعر بدعمها ومؤازرتها له.. ابتسم لها في سعادة بينما توردت وجنتاها بقوة ولم تعرف كيف واتتها الجرأة لتقوم بذلك.. فركضت هاربة إلى غرفتها.. يراقبها والدها بغرابة.. لا يدري تصرفها نابع من رغبة في الانتقام أم رغبة للمواجهة مع الجميع..
سمع صوت روح على الهاتف:
ـ خلاص يا نصر.. البنت وافقت.. أنا سمعت موافقتها.. خلي أم منى تسمعنا زغروطة..
أجاب نصر بحرج ولكن بحسم أيضاً:
ـ حسن قالي أنه هينهي ارتباطه مع الآنسة نيرة بكره.. يبقى نأجل الزغاريط لبكره إن شاء الله..
أجابته السيدة روح بتقدير:
ـ وده حقك يا بني.. مبروك علينا منى...
أغلق نصر الخط والتفت لحسن قائلاً:
ـ أنا مش هقدر أقول حاجة بعد كلام الست روح.. وبنتي أمانة في رقبتك يا حسن..
أجابه حسن:
ـ اطمن يا عمي.. منى في عينيا...
***********
تحرك حسن بخطوات واثقة نحو يزيد الذي وقف في أحد الأركان يتابع تحركات ريناد النشيطة وهي تضع آخر لماساتها ليخرج الحفل _الذي أراده حسن وطلب من ريناد مساعدته_ في أروع صورة..
وكان حسن محقاً في اختيار ريناد لمساعدته.. فهي اختارت أرقي قاعة في أغلى فنادق المدينة.. وبدأت في إعادة ديكورها حسب ما رأته مناسب.. حيث أخبرها حسن أنه يقيم حفلاً مفاجئاً لنيرة بمناسبة مرور شهرين على ارتباطهما..
ورغم أنها لا تطيق نيرة نهائياً, لكنها لم تستطع مقاومة فكرة أن تكون مسئولة عن الحفل وأن تخرجه في النهاية بصورة أفضل من حفل الخطبة الأصلي الذي تولت نيرة تنظيمه..
طلبت من حسن إطلاق يدها لتفعل ما تشاء وهو لم يعترض لكنه وضع لها أسبوعاً واحداً لتنتهي من تجهيز الحفل.. فانطلقت تصل الليل بالنهار لتنتهي قبل الموعد المحدد.. غيرت الستائر وبدلتها بأخرى من الحرير النبيذي اللون.. والذي استخدمته أيضاً كمفارش للموائد.. بدلت السجاد.. وألوان الأبواب والنوافذ.. لم تهتم بسخرية يزيد وهو يخبرها..
"أنتِ عارفة أنه القاعة ملك للفندق.. يعني مش أوضة الصالون في بيتنا ولا حاجة"..
اختارت نظام الإضاءة والصوت.. تعاقدت مع أشهر دي.جي.
ولم يمانع حسن.. فقط أخبرها بطلب واحد:
ـ عايز كل أصحاب ومعارف نيرة يكونوا موجودين.. حتى أصحاب أصحابها.. أي حد يعرفها يكون موجود.. آه.. كمان الأغنية اللي هندخل عليها تكون أغنية..".................."..
رغم ذهول ريناد إلا أنها نفذت ما اتفقا عليه وأبدعت ريناد في اخراج حفل من الأحلام.. وهو ما عبر عنه حسن ليزيد:
ـ والله برافو عليها ريناد.. الحفلة رائعة..
هز يزيد رأسه باستخفاف وأجاب بكلمة واحدة:
ـ بيرفكت..
رمقه حسن بتعجب فحاول يزيد تغيير الموضوع:
ـ ما تاخدش في بالك... المهم أنت مظبط أمورك تمام.. اتفقت مع والد منى؟..
زفر حسن بقوة:
ـ ياااه يا يزيد.. أسبوع أهوه وأنا رايح جاي عليه.. بروح له في اليوم يمكن أكتر من خمس مرات.. فهمته كل الوضع.. حتى كشفت له عن مشاعري أنا ومنى.. وهو في قمة العناد.. ورافض تماماً ارتباطي بمنى.. امبارح أخدت معايا مازن.. وكمان خليت جدتي تتدخل.. رغم أني كنت عايزها تبقى بره الموضوع.. بس كان لازم آخد موافقة عم نصر قبل الليلة.. مش هينفع أتأخر.. أي فرق في ترتيب التوقيت هيعمل مشاكل..
ربت يزيد على كتفه:
ـ ربنا معاك وييسر لك الأمور..
التفت حسن حوله يتفحص الموجودين ثم سأل يزيد بتعجب:
ـ هي عليا ما جاتش ليه؟.. ولا هي هتيجي مع نيرة..
تصلب جسد يزيد عند سماعه اسمها.. وذكرى قبلاتهما وذوبانها بين يديه يجعل الدماء تجري في شرايينه كالحمم البركانية.. لم يرد أن يتذكر ما قام به في سيارته نحوها قبل أن يتركها في المرة الأخيرة.. فهو يحتقر نفسه كلما مرت الذكرى بعقله ويزداد احتقاره لرغبته في تكرار الأمر مراراً ومراراً..
عاد حسن للسؤال وقد وضح غياب ذهن يزيد:
ـ يزيد.. هي عليا..
قاطعه يزيد:
ـ مش هتيجي... مش ممكن تكون بتظن أن ريناد هتعزمها!!.. وغير كده.. نيرة مش عارفة أنك عامل حفلة.. أنت قلت لها.. مفاجأة وبس..
نظر حسن إلى ساعته وهو يتأفف:
ـ أيوه وأهي اتأخرت كالعادة.. أنا عايز انتهي من الموضوع..
ما أن أنتهى من جملته حتى رن هاتفه المحمول.. ليجد رسالة من نيرة تعلمه أنها في بهو الفندق وأنها في انتظاره كما طلب منها..
توجه مباشرة إليها وكل أعصابه متحفزة.. والأدرينالين يضخ في عروقه حتى ينتهي من هذا الفصل بحياته.. وصل إليها ليجدها ترتدي ثوب من تلك الأشياء القصيرة التي تستهويها.. كان من الدانتيل الأسود ومبطن باللون الذهبي_حمد الله بداخله لوجود البطانة_ ولكنه بالطبع كان عاري الصدر والظهر.. لم يكن له أكمام أيضاً فأظهر بشرة ذراعيها الوردية.. والتصق الثوب بجسدها كأنه جلدٍ ثانٍ لها فأشعل لونه الأسود خصلاتها الحمراء.. وبدت كشعلة نارية متأججة.. وقادرة على اشعال الحرائق بقلوب الجميع..
اقترب منها ليرفع يدها مقبلاً إياها:
ـ مساء الخير يا نيرة..
ابتسمت له بفتنة وهي تكاد تطير من السعادة لتغيره الملحوظ نحوها:
ـ مساء النور يا حبيبي.. هنسهر فين الليلة؟..
قدم لها ذراعه لتتعلق به وأشار بيده فتحركا معاً نحو قاعة الاحتفال.. وعندما وصلا إلى مدخل القاعة صدح صوت الــ دي. جي. بأغنية عمرو دياب.."وهي عاملة ايه دلوقت"..
تجمدت نيرة قليلاً عند سماع الأغنية.. ورمقت حسن بتساؤل إلا أنه حثها على الحركة.. فتحركت قليلاً لتبهر بالقاعة واقد انهت ريناد وضع آخر لمسات الإضاءة.. فظهر اسم نيرة يتلألأ لثوانِ وينطفيء ثم يعود ليتلألأ ثانية.. وهكذا.. وقد شكلت مجموعات من الورود اسم نيرة وتناثرت على جميع الموائد.. التي اضيئت فقط بشموع عطرية انتشرت رائحتها في أرجاء القاعة..
صاحت نيرة بفرح:
ـ حسن.. مش ممكن القاعة تحفة.. إيه الجمال ده!!..
أشار حسن إلى ريناد التي تحركت باتجاههما:
ـ الجمال ده تشكري عليه ريناد.. هي المسئولة عن الحفلة من أيه تو زد..
وصلت ريناد وهي تحيي نيرة ببشاشة مصطنعة:
ـ مبروك الحفلة يا نيرة..
أجابتها نيرة من تحت أسنانها:
ـ ميرسي أوي يا ريناد.. أردها لك إن شاء الله في يوم فرحك..
جاء يزيد وقام بتحية نيرة بهدوء.. واصطحب ريناد ليبتعد بها قبل أن تشتبك مع نيرة بأحد شجاراتهما المألوفة.. بينما اصطحب حسن نيرة إلى أحد الموائد التي تتوسط القاعة.. وسحب لها المقعد حتى استقرت فيه ثم لف حول المائدة التي وضع عليها علبة مخملية صغيرة لفت بصورة هدية.. ولفتت انتباه نيرة على الفور..
ما أن جلس حتى سألته نيرة بانفعال:
ـ هو ما فيش غير ريناد اللي لقيتها تنظم الحفلة؟..
أجابها بهدوء مستفز:
ـ العفو يا حبيبتي!..
أجابت بحرج:
ـ آسفة.. بس أنت عارف أنا وريناد مش بنتفق.. شوفت الأغنية اللي شغلتها لما دخلنا!..
أجاب بنفس الهدوء:
ـ بس ده كان طلبي أنا!!..
سألته بذهول:
ـ إيه!!.. ليه؟.. تقصد بها إيه؟..
اقترب برأسه منها وهو يهمس لها:
ـ أقصد بها منى طبعاً.. أنتِ فاهمة أني مش عارف أنتِ عملتِ إيه؟..
ارتسم قناع من الذهول على وجهها.. وسرعان ما انتابها الغضب الشديد.. وحاولت النهوض فجذب يدها بسرعة ليجلسها بالقوة:
ـ اقعدي.. لسه بدري على المشهد ده.. لسه أما تسمعيني للآخر..
صرت على أسنانها وهي تخبره بغضب:
ـ أسمع إيه!.. أنت بتعرض أغنية لغريمتي.. وعايزني أقعد وأكمل معاك السهرة!..
أبعد يده عن ذراعها وهو يخبرها بقسوة:
ـ منى عمرها ما كانت غريمتك..
ارتسمت ابتسامة غرور على شفتيها سرعان ما اختفت عندما أردف:
ـ منى عُمر ما هيكون لها غريمة أو شريكة في قلبي.. هي امتلكته بالفعل ومن زمان..
كتفت نيرة ذراعيها وهي تضجع في مقعدها:
ـ أوك يا حسن.. أنت عايز تعاقبني على اللي عملته في منى.. برافو.. نجحت.. نجحت جداً.. بس مش لازم تسمعني الموال بتاع منى حبيبة عمرك وملكة قلبك.. بلا بلا بلا..
سألها بتعجب:
ـ أنتِ ما عندكيش أي إحساس بالندم على اللي عملتيه؟..
هزت كتفيها بلامبالاة:
ـ لأ طبعاً.. اللي عملته ده من حقي.. أنا بدافع عن حقي في حبيبي.. عن حياتنا سوا.. ووجودي في حياته..
رفع حاجبه بعجب وقبل أن يرد عليها أكملت هي:
ـ أنتوا يا رجالة قمة في التناقض.. أي واحد فيكوا لو راجل غريب قرب بس ناحية البنت اللي بيحبها على طول بيتحرك حامي الحمى ومسموح له أنه يعمل أي حاجة.. ضرب.. أذى.. حتى لو آذاه في شغله أو حياته.. وبتصقفوا له.. وبرافو ورجولة.. ليه بقى أنا لما اتصرفت كده.. بقيت شريرة.. و.. و.. ولازم أندم وأعتذر.. عشان أنا بنت ولازم أكون هادية ورقيقة وآخد على دماغي واسكت.. صح؟..
سألها بعدم تصديق:
ـ الكلام ده اللي بتبرري به لنفسك تصرفاتك الغبية والمؤذية؟.. أنتِ إيه بالضبط؟..
أجابته بصوت مبحوح وهي تقترب من المائدة وتمسك بأنامله:
ـ أنا بحبك..
أبعد يده وهو يعود إلى الوراء في مقعده:
ـ حتى لو أنا مش بحبك؟!..
ـ هعلمك إزاي تحبني.. وبعدين الحفلة دي بتقول إني بدأت أوصل..
ابتسم لها بسخرية لم تلحظها فقد فتنتها ابتسامته.. وسألته بأمل وهي تشير إلى العلبة الملفوفة:
ـ حتى أنت جايب لي هدية..
ضحك بقوة حتى أن معظم الحضور التفتوا لهما.. فنظر حوله راضياً وامتدت يده نحو العلبة وفك لفتها ليفتحها ويقدمها لها..
أخذت منه العلبة ونظرت بداخلها.. لترتسم أقصى علامات الذهول على وجهها وهي تسحب منها حلقة ذهبية يبدو من حجمها أنها تنتمي لرجل..
تأملت الحلقة جيداً لتدرك أنها خاصة بحسن.. وعلى وجه الدقة الدبلة التي وضعتها بإصبعه يوم خطبتهما.. نقلت نظرها إلى أصابعه لتجد إصبعه يحمل دبلة أخرى..
سألته بتعجب وهي تحاول التحكم في أعصابها:
ـ ايه معنى الهدية دي؟.. والدبلة اللي في إيدك دي بتاعة مين؟..
اقترب من المائدة ليرتكز عليها بذراعيه:
ـ الدبلة اللي في ايدي.. دي دبلة منى.. ومعنى الهدية واضح.. أنا بأنهي خطوبتنا السعيدة..
ابتسمت بسخرية:
ـ أونكل حاتم..
قاطعها بإشارة من يده:
ـ آسف.. تصحيح صغير.. أنا مجهز لك المسرح عشان تقومي بنفسك بإنهاء خطوبتنا.. ومسموح لك تسمعيني كل الكلام اللي أي خطيبة مش طايقة خطيبها ممكن تقوله.. وممكن كمان تقولي إني أجبرتك على الخطوبة.. يلا.. أنا حاسس إني كريم الليلة..
هزت رأسها بعدم تصديق:
ـ أنت بتقول إيه!!
جذب ذراعها بقوة وهو يقول بقسوة:
ـ بقول أني زهقت من مسرحية خطوبتنا.. وأن الستارة هتنزل الليلة.. بأي طريقة هتنزل..
بدأت تحاول جذب ذراعها من يده إلا أنه أطبق عليها مثل الكلابات وهو مستمر في قسوته:
ـ عارفة الغلطة كانت فين يا نيرة؟.. إنك فكرتِ أنه ممكن أتنازل وأتنازل للأبد.. وأعيش في دور الشاب الشهم الكيوت اللي مش بيكسر كلام أبوه, لكنكوا نسيتوا برضوه أني ابن أبويا.. وأعرف كويس قوي امتى أهدي قدام الموجة العالية لحد الوقت المناسب فأركبها بسرعة وأوصل للشط.. وده اللي حصل.. بصي بقى.. الحفلة دي اتعملت عشان أنهي مسرحيتنا.. قدامك حاجة من الاتنين.. إنك تقومي من كرسيكِ وبمنتهى الشياكة ترمي الدبلة في وشي.. وزي ما قلت لك.. قولي كل اللي أنتِ عايزاه.. بس طبعاً لو جبتي سيرة منى مش هيحصل طيب.. وهتشوفي مني وش يا نيرة.. أقسى من أبويا في عز جبروته..
أجابته بتحدي:
ـ ولو ما عملتش كده؟؟
أجابها بسخرية:
ـ وقتها بقى هنكون قدام اختيار نمرة اتنين... ورغم أني ما كونتش أحب ألجأ له.. لكن..
هز كتفيه بمعنى أنه لا يهتم.. فسألته وصوتها بدأ يرتجف:
ـ ايه الاختيار نمرة اتنين؟
أمسك الحلقة الذهبية وهو ينظر لها وابتسامته تتسع:
ـ وقتها أنا اللي هرمي الدبلة دي في وشك.. قدام كل أصحابك ومعارفك اللي في القاعة.. كل الموجودين هيعرفوا أني برفض نيرة هانم غيث.. وأني مش طايقها.. وطبعاً لازم بهارات للفضيحة والذي منه وده طبعاً لما أقول بأعلى صوتي.. إني لقيتك بضاعة مستعملة..
هتفت به بغضب:
ـ أنت حقير وسافل و..
أشار لها لتصمت:
ـ وفري كل ده لحد ما ترمي الدبلة في وشي.. وزي ما قولت لك.. أنتِ غلطتي لما فكرتِ أني الشاب الكيوت الأمور اللي ممكن يجري ورا ديل فستانك.. أنا اتعلمت من حاتم العدوي.. أحسن مهندس صفقات.. يلا يا حلوة.. قعدتنا طولت.. مين فينا اللي هيرمي الدبلة؟.. زي ما بيقولوا هعد لحد تلاتة وبعدها..
همست بتوسل:
ـ حسن..
أخذ يبرم الحلقة الذهبية وهو يقول:
ـ واحد..
عادت تحاول إمساك يده:
ـ أرجوك اسمعني..
حرر يده وهو يقول:
ـ اتنين..
بدأت تشعر بالدموع تهدد بالنزول وهي تلمح شفتيه على وشك التحرك...




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-18, 12:30 PM   #12

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل التاسع


"أنا حسن حاتم حسين العدوي قبلت زواج موكلتك الآنسة منى نصر الدين عبد الله البكر الرشيد على كتاب الله وسنة رسوله ومذهب الإمام أبي حنيفة النعمان وعلى الصداق المسمى بيننا"..
رفع المأذون المنديل الأبيض من فوق يديّ حسن ونصر المتعانقتين وهو يبارك لهما الزواج الميمون وشرع في اكمال بيانات كلا العروسين, بينما تقدم يزيد ومعه أحد أعمام منى ليمهرا وثيقة الزواج بتوقيعهما كشاهدين للعقد..
وتعالت الزغاريد في أرجاء البيت بل في أرجاء الحارة التي تسكنها منى وقد شاركت سيدات المنطقة بالفرحة التي انبعثت من منزل العروس الذي قام حسن بتزيين واجهته بعناقيد ملتفة من الأنوار الملونة كما اعتاد أهل المنطقة في أفراحهم.. وأقيمت خيمة كبيرة في وسط الحارة.. اصطفت بها عشرات المقاعد وتلألأت بداخلها الأنوار الباهرة وتناثرت باقات الزهور.. وفي صدر الخيمة أقيمت كوشة للعروسين وقد زينت بأكملها بوريقات الفل الأبيض وعدد لانهائي من المصابيح المتلألئة الصغيرة.. وقد تعالت الأغاني الخاصة بالأفراح وامتزجت مع أصوات الزغاريد المتناثرة من بيوت الحي..
ما أن انتهى المأذون من اجراءات الزواج وأغلق دفتره ليصطحبه يزيد للخارج حتى نهض حسن بقوة حتى بدا وكأنه يقفز من مكانه وتوجه نحو عم نصر مخاطباً اياه برجاء:
ـ عمي.. هي منى هتتأخر؟.. كنت عايز أبارك لها.. و..
قطع جملته ارتفاع صوت الزغاريد مرة أخرى وابتسامة السعادة والفخر ترتسم على وجه نصر وهو يتجه نحو ابنته التي وقفت على عتبة غرفتها وقد ارتدت ثوب الزفاف الذي اختاره لها حسن وأرسله لها صباح اليوم..
أخذ حسن يتأملها وهي تتقدم نحوه وقد تأبطت ذراع والدها.. وهي ترفل في ثوبها الخلاب الذي احتضن صدرها والتف حوله في ثنايات رقيقة من قماش التول الأبيض وزين خصرها حزام من الألماس لتسترسل تنورة الثوب في طبقات عديدة من نفس التول الأبيض الرقيق الذي تناثرت عليه العديد من حبات الألماس البراقة.. كان الثوب عاري الصدر والذراعين ولكن منى تمكنت من وضع شال من الشيفون الأبيض لتغطي به ما ظهر من صدرها وظهرها..
تحركت قدما حسن بلا إرادة منه لتتجه نحو ملاكه الرقيق.. حلمه الذي كاد أن يفلت من بين أنامله.. لم يصدق نفسه وهو يقف أمامها.. ووالدها يسلمها له.. وهو يوصيه بالمحافظة عليها... لم تكن أي من كلمات نصر تصل إليه.. فهو كان هائماً في عيون مليكته بعد أن رفع الطرحة عن وجهها وظل لثوانٍ عديدة يتأمل جمالها النقي والرقيق.. فقد التزم طاقم التجميل الذي اتفق معه بكل أوامره ولم يسرفوا في زينة وجهها.. بل اهتموا بإبراز روعة وجمال عينيها بالكحل العربي الأسود.. فاظهروا اتساع عينيها الفاتن وهام هو في براءة نظراتها التي التقت بنظراته للحظات قبل أن تخفض عينيها أرضاً هرباً من الشوق العاصف بعينيه.. وطليت شفتيها بطبقة رقيقة من أحمر الشفاه الوردي والذي أضاف براءة لشفتيها اللاتين كانت تمضغهما بتوتر فجذبا نظره كالمغناطيس وهو يحلم بامتلاكهما تلك الليلة.. وسرح بصره نحو خصلاتها الداكنة التي أنطلقت على كتفيها وظهرها في تعرجات خفيفة تناديه ليجري أنامله بها... وكاد أن يضمها لصدره بجنون لولا صوت نصر الذي أخرجه من هيامه:
ـ مش هتبارك لعروستك ولا ايه يا حسن يا بني؟!
التفت إليه بإحراج ثم اقترب ليطبع شفتيه فوق جبهة منى هامساً:
ـ مبروك علي يا منى..
توردت وجنتيها بشدة تحت وطأة نظراته العاشقة والتي كانت تلتهم ملامحها الرقيقة حتى لكزه يزيد بخفة وهو يهمس له:
ـ خف شوية يا بني.. الناس عينيها عليكوا..
تنحنح حسن ليخرج نفسه من حالة الهيام التي أصابته وتحرك ليتأبط ذراع منى ويتحركان معاً خارج الشقة وسط الزغاريد والأغاني حتى وصلا إلى الكوشة المُعَدة لهما في صدر خيمة الزفاف..
أمسك حسن بيد منى وهو يضغط عليها برقة:
ـ مبروك يا حبيبتي.. أنا مش مصدق نفسي..
تلعثمت منى وتعثرت الكلمات على شفتيها, ولكنها كانت تريد أن تسأل.. أن تعرف.. فأخرجت نفسها من حالة الخجل التي تصيبها بها نظراته وسألته بصراحة:
ـ حسن.. ايه اللي حصل مع نيــ...
وضع إصبعه على شفتيها:
ـ هشششش.. خلاص الليلة دي بتاعتنا.. مش عايز أفكر في أي حاجة..
أزاحت أصابعه برفق وهي تهمس بتوسل:
ـ عايزة أفهم..
ـ تفهمي ايه بس؟..
وأخفض عينيه قليلاً:
ـ أنا عملت اللي كان المفروض يتعمل من زمان.. حتى أقل من اللي هي تستحقه على اللي عملته معاكِ.. بس للأسف في ظروف قيدتني..
قال كلمته الأخيرة بخفوت وهو يتذكر نظرات الألم في عينيّ شقيقه وهو يتابع ما كان يدور على مائدته هو ونيرة..
همس لنفسه..
"اللعنة.. لولا نظراتك تلك يا مازن لنالت تلك المتكبرة ما تستحقه.. آه لو أعلم ماذا بها لتعشقه؟"..
أفاق على لمسة بسيطة من منى وهي تسأله:
ـ ووالدك؟..
هز رأسه:
ـ ما تشغليش بالك يا منى.. أرجوكِ خلينا نعيش أحلى ليلة.. ده أنا ما صدقت..
أخفضت منى عينيها بخجل وهمست:
ـ عايزة أطمن..
ضغط على يدها برقة:
ـ اطمني.. طول ما أنا معاكِ اطمني..
*********
جلست علياء على السور العريض لشرفة غرفتها وهي تمسك دفتر الرسم الكبير.. وأخذت أناملها تتحرك بمهارة لتشكل لوحة لملامح يزيد..
حيرتها تلك النظرة التي تلمحها بعينيه مؤخراً.. خليط من الغضب والتوق والذنب والشوق مع عاطفة أخرى لم تستطع تحديدها, ولكن أناملها سجلتها بمهارة لتبدأ معالم وجهه في الظهور على الصفحة البيضاء.. فأخذت تحرك أناملها عليها بحب وتتلمس الدمعة الماسية المعلقة بعنقها بيدها الأخرى.. لا تعلم سر شغفه بتلك الماسة فهو كان يدأب على تلمسها بشفتيه في كل مرة قبلها فيها.. حتى في تلك المرة الأخيرة التي رأته فيها..
منذ أسبوع كامل..
أسبوع كامل لم يحاول رؤيتها أو الاتصال بها..
تساءلت بحيرة إن كان يشتاق لها أو يفكر بها كما تتحرق هي شوقاً حتى لسماع صوته الذي ضن به عليها فهو حتى لا يجيب على أي من مكالماتها..
لا تعرف بماذا تفسر ما يصدر منه نحوها.. فهو يقربها ليعود لإبعادها مرة أخرى, ولكنه تلك المرة إلتزم بكلمته تماماً وابتعد نهائياً ولم يحاول رؤيتها ولو مرة..
هل رخصت نفسها له؟؟.. وسلمت بسهولة لذلك أقبل لينال كل ما تمنحه له بسخاء؟.. هل صحيح سيتمم زواجه بريناد مثلما أخبرها؟..
لقد صدمها في الواقع فهي لم تتخيل بعد تلك العواصف التي يثيرها بها أن يصمم على اتمام زواجه.. هل كان يتلاعب بها؟.. أم أنها كانت تسلية متاحة؟.. هل سيعود مرة أخرى ليغوص بها لبحار حبه؟.. أم أنه ابتعد تلك المرة إلى الأبد؟...
أخذت أناملها تداعب ملامحه المرسومة وهي تتساءل بحيرة عن مشاعره.. وإن كانت نظرة التوق التي تلمحها في عينيه حقيقية أم لا؟..
تكاد تجزم أنها لم تلمحه ولا مرة واحدة يرمق ريناد بتلك النظرة.. ولكن ماذا تعرف هي عن لحظاتهما المنفردة معاً؟..
لم تعرف أن في تلك اللحظة بالذات كانت ريناد ترمق يزيد بتأمل وهي تسأله:
ـ مالك يا يزيد؟.. أنت متغير اليومين دول..
ـ أنا متغير!!.. لا أبداً بيتهيألك... أنتِ عملت ايه في الفيلا؟.. خلصتِ ولا لسه؟..
شهقت بقوة:
ـ خلصت؟.. خلصت ايه؟.. أنت مش عارف أني طول الأسبوع ده كنت مشغولة بحفلة حسن صاحبك.. وبعد كل التعب والمجهود اللي عملته.. يطلع كان عامل الحفلة عشان يفركش خطوبته..
ازدرد يزيد لعابه بتوتر:
ـ ايه اللي أنتِ بتقوليه ده؟.. هي مش نيرة رمت له الدبلة قدامك وقدام الناس كلها..
هتفت به بحنق:
ـ يزيد.. ما تضحكش عليّ.. أنت عايز تفهمني أنه نيرة فسخت خطوبتها لحسن وبعد ساعة واحدة بس هو اتجوز بنت السواق.. وعمل لها الفرح اللوكال ده!..
ازداد توتر يزيد وهو يسألها:
ـ قصدك ايه؟..
ـ قصدي أن كل حاجة كانت مترتبة.. لعبة وحسن لعبها صح.. وللأسف أنا ساعدته على كده من غير ما أعرف.. وأنت خدعتني عشان أساعده..
ـ أنا؟..
ـ أيوه أنت.. مش أنت اللي اتوسط له عشان أجهز له الحفلة وأنت عارف كويس قوي هو ناوي على ايه؟؟.. وبعد ده كله جاي تشهد على عقد جوازه من البنت اللي اسمها منى دي.. وجاي الوقتِ تسألني على تجهيزات بيتنا؟..
ابتسم يزيد بسخرية:
ـ آه.. قولتِ لي.. يعني المحاضرة دي كلها مش عشان نيرة.. لا عشان تفهميني أن تجهيزات البيت محلك سر.. وأنك عاوزة تأجلي الجواز طبعاً.. بس يكون في علمك.. ميعاد الفرح مش هيتغير حتى لو البيت على البلاط..
هتفت ريناد بغيظ:
ـ يزيد.. أنا مش بتحجج.. ولا بهرب.. فعلاً أنا متضايقة من الموقف اللي اتحطت فيه نيرة.. رغم أنها مش صاحبتي.. وأن علاقتنا مش قوية.. لكن اللي حصل لها النهارده ما يرضنيش أبداً.. وكونك جزء من المؤامرة دي.. بيضايقني أكتر..
تأملها للحظات.. وهو يدرك أن أفكارها القوية.. ونظرتها المباشرة للأمور والتي تعبر عنها بمنتهى الصراحة والوضوح هي ما جذبته إليها من البداية.. قد يفتقد ذلك الشغف المجنون الذي يستشعره مع علياء.. ولكنه واثق أنه سيشعر به مع ريناد بمجرد زواجه منها..
وضعت ريناد يدها على ذراعه وهي تسأله:
ـ في ايه يا يزيد؟؟. أنت برضوه سرحان!!
ـ لا أبداً.. بالنسبة لموضوع حسن ونيرة له خلفيات كتير.. لكن تأكدي أنه ما ظلمهاش.. بالعكس.. هو كان كريم جداً معاها.. وبعدين الفرح اللوكال اللي مش عاجبك ده أنتِ اللي أصريتِ تيجي معايا..
هزت كتفها بدلال:
ـ أومال كنت عايزني أسيبك تيجي هنا لوحدك؟.. أنا كنت حاسة أنه في حاجة مخبيها عليّ وطلع عندي حق..
داعب أنفها بلطف:
ـ ماشي يا ست شيرلوك هولمز!..
ضحكت برقة وهي تتعلق بذراعه وتلصق نفسها به أكثر... بينما هو يراقبها بتأمل..
"قد يرفض الرجل لمسة امرأة ما في حالة نفوره من تلك المرأة.. أو تأثره الشديد بها, ولكن في الحالة الأخيرة فإن ما يرفضه حقاً هي تلك الأحاسيس التي تفجرها تلك اللمسة"..
لا يدري هل قرأ تلك العبارة في مكان ما أم أنها قفزت إلى ذهنه وهو يستشعر الهدوء التام بأعماقه وأنامل ريناد تتشبث بذراعه الآن.. وتذكر انتفاضته كالملسوع من الجمر بعدما مست أطراف أنامل علياء ركبته في آخر مرة رآها فيها...
وكان ذلك بعدما غرقا معاً في عاطفة عاصفة بمكتبه, ثم تمالك نفسه بأعجوبة ليتظاهر بالبرود ويقرر اصطحابها إلى المزرعة..
لم يوجه إليها أي كلمة طوال الطريق حتى اقتربا من الوصول إلى المزرعة.. فأوقف السيارة على جانب الطريق قبل بوابة المزرعة بعدة أمتار والتفت لها... فابتسمت له برقة زلزلت مشاعره.. وكادت أن تحطم قناع التماسك الذي يرسمه على وجهه.. ولكنه قرر مواجهتها وانهاء الأمر قبل أن يسقطا معاً إلى عمق لن يستطيعا الهروب منه..
أخبرها بهدوء يحاول استدعائه:
ـ علياء.. أنا.. أنا.. بعد شهر هيكون فرحي أنا وريناد..
بهتت ملامحها ولاحظ الدموع التي تجمعت في مآقيها على الفور وهي ترفع أناملها إلى شفتيها المنتفختين من إثر قبلاته لها.. وحاولت استدعاء أي كلمات لتسأله بتعثر:
ـ فرحك!!.. و.. و..
هزت رأسها بحيرة وهي عاجزة عن تكوين سؤال واضح.. فزفر هو بيأس:
ـ أنا آسف.. أنا عارف أني تجاوزت معاكِ كتير الأيام اللي فاتت.. حتى كلمة آسف ما لهاش معنى قصاد غلطي في حقك..
خبط رأسه في مقود السيارة بعنف وهو يهتف:
ـ علياء.. أنتِ عارفة كويس أنه صعب.. لا ده مستحيل مش صعب بس.. وجودك بأي شكل في حياتي.. علياء..
رفع رأسه ليلمح دموعها التي بدأت تجري على وجنتيها فهتف بتوسل:
ـ علياء.. من غير بُكى..
استمرت دموعها بالانهمار:
ـ بس.. أنا.. أنا بحبـــ
قاطعها صارخاً:
ـ لا.. لا يا علياء.. أرجوكِ.. ما تصعبيش الموضوع علينا أكتر ما هو صعب..
تعالت شهقاتها واستمرت دموعها بالهطول وهي تستمع الحكم بإعدامها يخرج من بين شفتيه:
ـ علياء.. أنتِ مش عارفة ماما حصل لها ايه بعد ما عرفت بجواز بابا من والدتك.. أنا.. أنا أساساً خاطب ريناد من.. من زمان.. و..
قطع كلماته وهو يضرب المقود بقبضته وهو يرى دموعها وقد أغرقت وجهها..
فهتفت هي بتوسل من بين دموعها:
ـ وأنا ذنبي ايه في اللي حصل بين ماما وعمو عصام ووالدتك.. ليه كلكم مصرين أني أدفع التمن ده لوحدي..
عادت دموعها تجري بلا توقف وهي تهز رأسها بألم وتصرخ:
ـ ذنبي ايه؟؟؟
جذبها لصدره ليضمها بقوة وهو يدفن رأسه بتجويف عنقها ويهمس:
ـ كفاية بُكى.. أرجوكِ مش بتحمل دموعك..
تمسكت بكتفيه لتنخرط في نوبة بكاء قوية بينما هو أخذ يمسح على شعرها برقة.. يواسيها بصمت غير قادر على كسره.. فهي محقة بصراخها عليه فالجميع يحملها ذنب لم تقترفه ولكنها حملته على كتفيها بصمت.. قد تكون أحد الضحايا, ولكن والدته هي أكثر من تأذت وهو غير قادر على تجاوز ذلك..
ظل يضمها إلى صدره لفترة منتظراً أن تعود لهدوئها.. ولكن كما يحدث معه في كل مرة تكون فيها قريبة منه.. بدأت سيطرته على مشاعره تخونه خاصة وهو مازال متأثراً بما حدث بينهما منذ قليل في مكتبه.. ووجد نفسه يبعد شعرها خلف أذنها ويجمعه على أحد كتفيها ليظهر لعينيه جانب عنقها الطويل وقد تناثرت عليه مجموعة من الشامات الصغيرة مشكلة خط طويل متعرج بدأ من خلف أذنها وتابعه هو بأطراف أنامله حتى وصل إلى نهاية عنقها حيث اختفت باقي الشامات خلف ياقة قميصها فتوقفت أنامله حول عنقها لتداعب الماسة الدامعة برقة وشعر بها ترتجف بين ذراعيه استجابة للمساته.. وترفع رأسها وتواجه عينيه ونظراتها تصرخ بحبها له..
ضمها له وهو يهبط برأسه إلى شفتيها بعجز.. متنقلاً بشفتيه بين وجنتيها وشفتيها وتلك الماسة التي تفقده عقله..
ظلا يتبادلان القبلات بشغف لدقائق لم يعرفا عددها حتى سمعها تهمس:
ـ بحبك يا يزيد.. والله بحبك..
أبعدها عنه بقوة وهو يهز رأسه بعنف صارخاً:
ـ جنوووووون.. اللي بيحصل ده جنون ولازم يوقف..
حاولت لمس ركبته بأناملها.. فصرخ بها كالملسوع:
ـ لا..
أبعدت يدها تضمها إلى صدرها وعادت شفتيها ترتجف بالبكاء.. فأخذ يتأملها لثوانٍ غير قادر على اتخاذ أي قرار.. يدرك أنه لو لمسها مرة أخرى لن يتوقف.. لن يتوقف أبداً إلا بعد أن يمتلكها تماماً..
أخيراً حرك العربية ليقف أمام بوابة المزرعة ويهمس لها وهو ينظر إلى الفراغ:
ـ احنا وصلنا يا علياء..
سألته بحيرة:
ـ وصلنا!!.. أنزل يعني؟..
أومأ لها موافقاً.. فهمست من وسط دموعها:
ـ مع السلامة يا يزيد..
خرجت من السيارة وأغلقت الباب خلفها بهدوء فالتفت برأسه يتابعها بنظراته حتى دخلت إلى باب الفيلا وهمس لنفسه:
ـ الوداع يا عليائي.. مش هقدر أشوفك تاني.. يمكن.. يمكن الزمن يكون هو الحل...
أفاق على ضغط أنامل ريناد على ذراعه ليفاجئ أنه ضاع في ذكرياته مع عليائه بينما ريناد معلقة بذراعه.. كاد أن يبتسم ساخراً من نفسه.. فهو لا يستطيع الإنكار أنه يفتقدها بشدة.. ابتعاده عنها ومقاومة الذهاب لرؤيتها كان من أصعب ما قام به حياته.. يشعر بجسده يتألم وخلاياه تصرخ طالبة وصالها.. ولكنه للأسف لا يستطيع التلبية..
دوى صوت ريناد في أذنيه وهي تشير نحو حسن وعروسه:
ـ يزيد.. حسن بيشاور لك..
التفت لحسن فوجده يشير له برغبته في الذهاب.. فتحرك نحو الفرقة الموسيقية يتفق معها لتصدح نغمات الزفة الشعبية.. "دقوا المزاهر"..
فتحرك حسن مع منى ليتوجها نحو والدها ووالدتها.. التي أخذت توصيه بابنتها وتطلب منه أن يطمئنها عليها باستمرار.. فارتمت منى بين ذراعيها وبدا أن الدموع ستصبح سيدة الموقف..
ضم حسن منى إلى صدره بعدما رفعت نفسها من بين ذراعي أمها.. ليطمئن والديها:
ـ ما تقلقوش على منى.. مش هقولكوا منى في عينيه.. لا منى هي عينيه اللي بشوف بيها.. وهي قلبي اللي بيدق.. وهي عقلي اللي مش بيفكر غير فيها..
تضرجت وجنتي منى بشدة وهي تهمس بخجل:
ـ حسن!!!..
ضحك والدها بسعادة بينما شعرت والدتها بخجل ابنتها ولكنها ابتسمت براحة وهي تدعو لهما:
ـ ربنا يسعدكوا يا بني ويهدي سركوا..
وعادت لتضم منى إليها بقوة فابتعد حسن قليلاً ليسمح لهما بوداعها..
اقترب منه يزيد ليضع في راحته علاقة مفاتيح..
سأله حسن بتعجب:
ـ ايه ده يا يزيد؟.. مفاتيح ايه دي؟..
ـ مفاتيح الشاليه بتاعنا اللي في المعمورة.. أنا جهزته ومليت التلاجة.. وكمان هتلاقي في عشا ليكم.. مبروك يا كبير.. وما تنساش الجمايل دي..
ـ أنا متشكر قوي يا يزيد.. بس أنا كنت مخطط نروح الشاليه بتاعنا في الساحل..
شهق يزيد بذهول:
ـ تروح فين؟.. ووالدك؟.. أنت فاكر أنه هيعدي اللي حصل ده بالساهل.. روح الشاليه بتاعنا أفضل.. هو مش هيفكر يدور عليك هناك.. افرح وفرح عروستك يومين.. قبل ما المواجهة معاه..
أومأ حسن موافقاً:
ـ أنا عارف أنه مش هيسكت.. أكيد وصله كل اللي حصل الليلة, وطبعاً مفاجأته من تصرف نيرة لخبط له حساباته.. وكمان معرفته بجوازي في نفس الليلة.. أنا متوقع إعصار.. بس ربنا يستر..
ردد يزيد:
ـ ربنا يستر..
ـ ما فيش أخبار عن مازن؟..
هز يزيد رأسه نفياً:
ـ ما اعرفش أي حاجة.. آخر مرة كلمته قبل ما أمضي على قسيمة جوازك.. قالي.. أنه مش هيقدر يوصل في الميعاد.. وطلب مني أكون الشاهد مكانه..
ربت يزيد على كتف حسن وأردف:
ـ أنا عارف وجوده جنبك الليلة كان يفرق معاك قد ايه.. بس يا سيدي اعتبرني زي أخوك..
ـ أنت أكتر من أخ يا يزيد.. ووقوفك جانبي الليلة جميل فوق راسي.. وأنا مش متضايق من عدم وجود مازن.. بالعكس.. وجوده كان هيأثر جامد على صورته قدام نيرة.. هو ساعدني كتير.. من حقه بقى يحاول يظبط أموره شوية..
ـ يعني أنت مش متضايق من اللي نيرة عملته؟..
هز حسن رأسه:
ـ لا.. أبداً.. يمكن فوجئت.. بس كان لازم أتوقع أنها بتحب تكون الكلمة الأخيرة لها.. بس أهوه.. كله جه في مصلحة مازن..
سأله يزيد بحيرة:
ـ تفتكر فعلاً أن اللي حصل كان في مصلحته؟..
تبادلا النظرات الحائرة ولم يعلما بأن مازن نفسه كان في ذلك الوقت يرمق نيرة الجالسة بجواره بحيرة بالغة.. يتساءل عن صحة تصرفه.. عندما وافق على هذيانها المجنون..
فمنذ أن قرر حسن الرضوخ لوالده وإعلان خطبته على نيرة وهو يحرص بشدة على أن يبقى بعيداً في خلفية الصورة ويحاول اخفاء مشاعره بداخله حتى لا تسبب شرخاً بينه وبين شقيقه حتى وهو يعلم بابتعاد حسن بعقله وقلبه عن نيرة.. ولكنه الليلة وهو يلمح دموعها تبرق في عينيها وحسن يتلاعب بالدبلة الذهبية بين أصابعه لم يحتمل البقاء في الخلفية, وظهرت مشاعره واضحة على ملامحه رغماً عنه وهو يحاول منع نفسه من الاقتراب منهما ومنع حسن من التسبب بإيلامها, حتى لو تسبب ذلك في ابتعاده عنها للأبد.. حركة خافتة من يزيد وهو يمسك بذراعه أوقفته عن التقدم, فالتفت له وملامح وجهه تصرخ بالصراع الدائر بأعماقه..
لم يعلم إذا كان حسن لاحظ ما حدث ولكن الأكيد أن نيرة لمحته.. فتبدلت ملامحها في ثوانٍ وتحول بريق الدموع في عينيها إلى بريق تحدي وهي تنهض بكبرياء وتنزع خاتم خطبتها من يدها بهدوء لتلقيه في وجه حسن وهي تهتف بصوت مسموع:
ـ أنا آسفة يا حسن.. مش هقدر أكمل مسرحية خطوبتنا أكتر من كده.. أنا وافقت على الخطوبة دي بس عشان كنت عايزة أعقاب الراجل اللي بحبه.. لكني مش قادرة أكمل معاك.. أرجوك ما تجبرنيش على حاجة مش عايزاها..
وصمتت قليلاً لترقب أثر كلماتها على الحضور الذين صمتوا تماماً وكأن على رؤسهم الطير..
ثم رفعت رأسها نحو مازن وهي ترسم ملامح الأسف والعتاب:
ـ مازن.. حبيبي.. أنا آسفة على تصرفاتي المجنونة.. أرجوك سامحني.. أنا أتعلمت الدرس خلاص يا حبيبي.. مش قادرة أبعد عنك أكتر من كده..
سمعت الشهقات تتردد في كل مكان بالقاعة تقريباً وهي تعلن حبها وأسفها لشقيق خطيبها..
استمر تبادل النظرات بينها وبين مازن الذي لمح وسط بريق التحدي بعينيها نظرات استغاثة خفية.. أو ربما ذلك ما أوهم نفسه به فتخلص من ذراع يزيد وتحرك نحوها بخطوات بطيئة حتى وصل إليها ووقف أمامها تماماً ليرى نظرات الانتصار بعينيها.. ويلمح نظرات حسن الذاهلة..
شعر بجميع من في القاعة ينتظر خطوته القادمة..
هل سيوافقها في ادعائاتها ليظن الجميع أنها هي من تركت حسن بسبب حبها اليائس لشقيقه؟.. أم سيخذلها ليحافظ على كرامة أخيه ورباط الأخوة الذي يجمعهما..
أدار نظراته في القاعة ليلمح العيون المتوسعة بترقب.. وسمع الهمهمات الخافتة بين الموجودين.. ما بين شامت وحاقد ومتعاطف ولكنه مترقب للفضيحة المقبلة..
أعاد نظره إلى نيرة مرة أخرى ليلمح خفوت نظرة الانتصار بعينيها.. وظهور صرخة الاستغاثة مرة أخرى.. فما كان منه إلا أن مد يده نحوها يجذبها لصدره ويحني رأسه مقبلاً شفتيها بقوة..


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-18, 01:25 PM   #13

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل العاشر

أوقف مازن سيارته في إحدى البقع الهادئة أمام كورنيش المعادي.. والتفت إلى نيرة التي ظلت على حالة الصمت التي تلبستها بعد ما تلقت تلك القبلة المجنونة منه.. وكأن تلك القبلة كانت بمثابة مخدر لها فانساقت خلفه بهدوء وهو يسحبها خارج القاعة ويضعها بسيارته.. وكلما اقترب من منزلها.. تهز رأسها رافضة.. وتطلب منه أن يستمر في تحريك السيارة...
لقد منحه القدر الليلة فرصة لا تعوض ليكون مع حبيبته أخيراً.. بعد ما كان يفكر في أي طريقة ليتمكن من الاقتراب منها بعد انهاء شقيقه تلك الخطبة البائسة, وكان كل مرة يجد خطأ ما.. يجعله يعيد النظر مرة أخرى.. حتى قدمت هي له الطريقة المثلى ليكون معها.. بدون أن يكون في موقف ضعف أمامها والأهم أنه لن يجرح شقيقه..
فقط عليه التعامل معها حالياً بهدوء شديد حتى يمتص غضبها ويحجم من كل الأفكار السوداء التي تموج في عقلها الآن وأغلبها تتمحور حول شقيقه مذبوحاً.. أو مشنوقاً...
أخيراً التفت لها يتأمل وجهها الفاتن الذي يعشق به ملامح الكبرياء التي تحاول أن تستدعها الآن بكل قوتها..
سقطت نظراته على شفتيها, تلك التي تذوقها لأول مرة منذ قليل.. ليجد أن طلاء شفتيها يلطخ تلك المنطقة الرقيقة حولهما.. فسحب المنديل من جيب بذلته وقدمه لها بهدوء..
نظرت نيرة إلى المنديل بتعجب.. ثم لمحت اتجاه نظرات مازن.. فانطلق كل غضبها وحقدها المكبوت منذ اللحظة التي واجهها حسن بحقيقة الحفل الذي أقامه لها وحتى سحبها مازن كالشاه العاجزة بلا حول ولا قوة.. وتمثلت مشاعرها كلها في قبضتي يديها اللتين انطلقتا نحو مازن كالقنابل وهي تصرخ به:
ـ أنت خدعتني.. استغلتني.. خدعتني.. وخلتوني نكتة بين الناس..
تنهد ببرود:
ـ أنتِ قلتِ خدعتني مرتين على فكرة..
كادت أن تصرخ من جديد فعاد يخبرها بهدوء:
ـ وبيتهيألي أني لا خدعتك.. ولا ضحكت عليكِ.. بالعكس.. أنا..
صرخت مقاطعة:
ـ أنت بوستني!!..
هز كتفيه بلامبالاة:
ـ بيتهيألي برضوه أنك ما كنتيش ممانعة..
كتفت ذراعيها تسأله بغضب:
ـ والحل؟..
أعاد كلمتها باستفزاز:
ـ الحل!!
صرخت به بجنون:
ـ مازن.. أنت ناوي تجنني.. هنعمل إيه في الورطة دي؟
أخذ يتأملها لوهلة وعادت عينيه تتجه إلى طلاء شفتيها الملطخ فأمرها بحسم:
ـ نضفي الروج من على شفايفك..
مسحت شفتيها بعنف وألقت المنديل نحوه بعنف صارخة:
ـ خلاص.. ارتحت!..
هز كتفيه بخفة وهو يجيب سؤالها السابق بهدوء:
ـ أعتقد أنه أفضل حل أننا نهدى خالص ونسيب العاصفة تمر.. وبعد فترة الناس هتنسى وهيلاقوا حاجة تانية تشغلهم..
ـ قصدك فضيحة تانية؟..
هز كتفيه بهدوء مستفز.. فصرخت به:
ـ معقولة هتسكت وتسيب الناس يجيبوا سيرتي.. ويقولوا..
قاطعها بجدية:
ـ هيقولوا أن الأخين لعبوا بيكي.. ونقلوكِ بينهم.. وفي الآخر رموكِ.. بعد ما اتبسطوا شوية وبعدين زهقوا منك..
اتسعت عيناها بذعر تستشعره للمرة الأولى.. فلم تتصور في أي وقت أن تكون نيرة غيث مضغة تلوكها أفواه النميمة وجلسات السيدات التافهات.. ولكن.. هذا لن يحدث.. مازن لن يسمح بهذا.. أنه يحبها.. أم تراها قد أخطأت في قراءة مشاعره.. كلا.. كلا.. أنها متأكدة..
اعتدلت في جلستها بهدوء وهي تخبره بعجرفة:
ـ ما فيش حاجة من دي هتحصل!
سألها بتعجب:
ـ ليه بقى؟..
أشارت له بسبابتها:
ـ أنت مش هتسمح بكده!
ـ والسبب؟..
ـ أنت بتحبني..
رمتها في وجهه بقوة وكأنها تصمه بسُبة ما, فدفعه ذلك للابتسام بسخرية..
صرخت متهمة اياه:
ـ أنت بتحبني, صح؟..
أجابها بهدوء:
ـ لازم يكون في حد بيحب نيرة.. مش كده؟..
سألته بتردد:
ـ يعني إيه؟..
ـ يعني أنك دايماً بتدوري على اللي بيحب نيرة.. وإذا كان في حد لا سمح الله اتجرأ ومحبهاش يبقى لازم يحبها.. حتى ولو بالعافية!!!
ارتبكت بشدة وتعثرت الكلمات بين شفتيها:
ـ أنت عايز توصل لإيه؟
ـ عايز أعرف... ليه نيرة مش بتحب نيرة؟!..
توسعت عيناها بدهشة.. فأردف وهو يلوح بيده:
ـ كل اللي حواليكِ وبيتعاملوا معاكِ فاهمين أنك بتحبي نفسك لدرجة النرجسية.. لكن الحقيقة غير كده..
أدار وجهه لها ومد يده ليرفع وجهها ويحدق بعينيها:
ـ الحقيقة أنك مش بتحبي نفسك.. دايماً بتدوري على أي حد يحبها بدالك.. ليه؟.. ليه يا نيرة؟..
ارتسم الذهول على ملامحها.. فهي لم تعتقد أبداً أنه سيستطيع قراءة أعماقها بمثل ذلك الوضوح.. فجذبت وجهها من بين أنامله وهي تصرخ به:
ـ كفاية فلسفة يا مازن.. وقولــ..
قاطعها بهدوء وهو يبدأ تشغيل السيارة:
ـ هحدد ميعاد الجواز مع والدك وأبلغك.. أنا لحد الوقتِ ما طلبتكيش منه.. وما يصحش أنه يسمع من بره أن بنته بدلت خطيبها!..
سألته بوجل:
ـ يعني..
ـ يعني.. هنتجوز على طول يا نيرة.. لا خطوبة ولا كلام فارغ من ده..
والتفت إليها ليضغط على كل حرف:
ـ يعني ما فيش حسن.. ما فيش منى... تطلعيهم من دماغك اللي عاملة تدور على أي مصيبة تسببها لهم ولا أي كارثة تفرقهم عن بعض..
رددت بتوتر:
ـ تفرقهم!!
أجابها بهدوء:
ـ حسن ومنى اتجوزوا.. وهما دلوقتِ في طريقهم لشهر العسل..
صرخت بذهول:
ـ إيه!.. لا.. لا مش ممكن مستحيل..
جذبها من ذراعها بقوة:
ـ نيرة.. بقولك لآخر مرة.. تنسي كل حاجة عن اللي فات.. أنا مش هعرض نفسي واسمي وكرامتي لأي كلام سخيف عشان حضرتك ترضي نزعة الإنتقام اللي جواكِ.. وخليكِ فاكرة.. أني قدام أبويا وأبوكِ بقدم لهم خدمة.. يعني لو تراجعت عن جوازنا في أي لحظة نتيجة أي تصرف متهور منك.. ما فيش حد هيقولي تلت التلاتة كام.. فهماني؟..
رددت بتأكيد:
ـ بس أنت بتحبني..
أغمض عينيه بقوة.. واجابها بهدوء:
ـ أيوه.. بحبك يا نيرة.. وعارف أنك عارفة من زمان..
فتح عينيه فجأة والتفت لها:
ـ بس مش هسمح تاني أنك تستخدمي الحب ده عشان تستردي كرامتك أو تنتقمي.. كفاية قوي اللي حصل الليلة.. ولو عاوزة الحق.. أنتِ اللي استغلتيني.. مش العكس..
أدار السيارة بحركة عنيفة.. وهو يسألها:
ـ هتروحي دلوقتِ؟..
هزت رأسها نفياً:
ـ وديني عند عليا في المزرعة..
أومأ بصمت متفهم بينما هي ترمقه مذهولة بشخصيته.. بمازن الرجل الذي تواجهه للمرة الأولى وقد أدركت أنها دخلت بقدميها إلى حياته, بل هو من جرها جراً إليها..
ذلك الرجل الذي اكتشفت أنها لا تعلم عنه شيئاً.. ولكنه يعلم عنها الكثير..
****
حمل حسن منى برقة ليدخل بها إلى الشاليه الخاص بعائلة يزيد.. بينما هي تمسكت بعنقه لا إرادياً خوفاً من سقوطها أرضاً ولمحته وهو يغلق الباب بكعب قدمه.. ويتوجه بها نحو السلم الداخلي.. فهمست بخفوت:
ـ خلاص يا حسن بقى نزلني..
هز رأسه نفياً وهو يلمح تخضب وجنتيها بالاحمرار وهمس بجوار أذنها:
ـ لسه ما وصلناش للمحطة الأخيرة!..
شهقت بخجل وأخفضت بصرها لتتأمل حبات الألماس المتراصة في حزام فستانها.. قبل أن تشعر بحسن يهبط بها برقة على الفراش..
رفعت عينيها بخجل لتتلاقى بعينيه التي ترمقها بنظرة حارة وأنامله تتجول على وجهها برقة حتى أمسك بذقنها ليرفع وجهها إليه ويهمس بين أنفاسها:
ـ أخيراً.. أخيراً يا منى..
هبط برأسه ليقبل شفتيها.. فقفزت من الفراش فجأة واقفة على قدميها واتجهت نحو النافذة تثرثر بكلمات بلا معنى:
ـ الشاليه موقعه حلو قوي.. على البحر على طول.. و..
تحرك ليقف خلفها مباشرة ويضمها إلى صدره هامساً في أذنها:
ـ ما تخافيش..
التفتت لتواجهه وهي تردد بارتباك:
ـ أنا.. مش خايفة.. أنا..
أحاط خصرها بذراعه وهو يسألها بهدوء:
ـ ممكن بس نرفع الطرحة..
أومأت موافقة.. فحرك يده ليخلص خصلاتها من الطرحة الطويلة.. ومرر أنامله باستمتاع في شعرها, فشعر برجفتها الخفيفة بين ذراعيه..
ـ برضوه خايفة!!.. لا.. أنا لازم أطمنك على الآخر!!..
همس بتلك الكلمات أمام شفتيها ثم أخذهما في قبلة طويلة عبر بها عن حبه وشوقه وتملكه لحبيبته ومليكة قلبه منذ الأزل..
شعرت منى بأنفاسه الساخنة تداعبها وهو يمرغ شفتيه مقبلاً عنقها الناعم وأنامله تزيح الشال الذي يغطي كتفيها بلهفة.. وهو يسألها بتوسل:
ـ منى...
دفنت منى وجهها المشتعل في صدره وهي تمنحه إجابتها:
ـ بحبك يا حسن..
هتف حسن بفرحة وحملها بسرعة ليتوجه بها نحو الفراش.. ليبدأ تعليمها.. أبجديات الحب.. هاتفاً بعبث:
ـ دلوقتِ بقى نبدأ أول دروس.. من حبيبك وجوزك حسن العدوي..
*********
أوصل مازن نيرة إلى مزرعة الغمرواي ووجدا علياء بانتظارهما بعدما اتصل بها مازن ليخبرها بقدومهما..
نزلت نيرة من السيارة بسرعة بدون أن تنتظر مازن ليفتح لها.. وألقت بنفسها بين ذراعي علياء التي تفاجاءت من تصرفها.. فرغم طول فترة صداقتهما إلا أن نيرة لم تبادر بتصرف مثل ذلك أبداً..
سألت علياء بقلق:
ـ حصل إيه يا نيرة؟.. هي الحـفــ...
قاطع مازن كلماتها بسرعة:
ـ هسيبك مع عليا.. ما يصحش أدخل في وقت متأخر زي دا.. وزي ما اتفقنا.. هكلم والدك ونحدد ميعاد الفرح..
سكنت نيرة بين ذراعي علياء التي رمقت مازن بذهول.. وهي تردد في بلاهة:
ـ فرح مين!!
هم مازن بالاجابة ولكن سبقته نيرة عندما نزعت نفسها من بين ذراعي علياء وتوجهت لداخل الفيلا وتهتف من خلف كتفها:
ـ فرحي أنا ومازن..
ثم التفتت له بغيظ:
ـ عايزة فرح ولا ليالي ألف ليلة.. مش عايزة أسمع همسة عليّ من أي واحدة مريضة..
ثم تحركت مسرعة لتختفي من أمام أعينهما تاركة علياء غارقة في ذهولها.. بينما تحرك مازن نحو سيارته وقبل أن يدخلها سأل علياء بتهذيب:
ـ عليا.. ممكن أطلب منك تطمنيني عليها.. أنا عارف أنها مش هترد على تليفوناتي..
ـ بس.. إيه اللي حصل؟..
ـ اللي حصل يخصها لوحدها.. وهي أكيد هتحكي لك عنه.. بس لما تهدى.. قولي لها بس أنه فرحنا هيكون بعد شهر بالكتير.. تصبحي على خير..
**********
حركة خفيفة على وجنة منى كانت سبباً في إفاقتها من نومها.. فحركت يدها لتبعد ما يزعجها.. ولكن تلك الحركة استمرت بإلحاح أكبر.. فبدأت تستيقظ بالفعل, لتتذكر أن الليلة السابقة كانت ليلة زفافها وأن الذي يجاورها بالفراش الآن..هو حسن.. زوجها..
فتحت عين واحدة لتلمحه يراقبها باستمتاع فأغلقتها سريعاً.. ثم عادت تفتح عينها الأخرى لتفاجئ بقبلة ناعمة على جفنها المغلق.. فهتفت بعفوية:
ـ بلاش تبوسني في عينيه..
قهقه ضاحكاً وهو يقلد عبد الوهاب:
ـ دي البوسه في العين تفرق..
ابتسمت بدورها وهي تضع أناملها على شفتيه:
ـ ربنا ما يجيب فراق..
تحرك ليضمها لصدره وهو يهمس عابثاً:
ـ خليكِ فاكرة.. أنتِ اللي رفضتِ البوسة في العيون!!..
ثم أنقض لينهل من حبها الذي اشتاق له كثيراً..
وبعد وقت طويل كانت منى تجلس في شرفة الشاليه لتتناول غذاءً متأخراً مع حسن.. وتراقب غروب الشمس.. تمسك بيدها الوردة التي كان يوقظها بها حسن صباحاً.. وسمعته يخبرها ضاحكاً:
ـ يزيد مالي البيت أكل.. وجايب لنا وردة واحدة بس.. رومانسي قوي الواد ده!..
ابتسمت منى برقة:
ـ بس الجنينة كلها ورد.. حلوة قوي..
قرب مقعده منها وهو يمسك يدها ويقبلها.. برقة:
ـ إن شاء الله هيكون عندك جنينة زيها وأحلى منها كمان.. أنا عندي كام منى..
أخفضت منى عينيها بخجل ليهتف هو:
ـ يووووووه على الكسوف ده.. ايه رأيك أعطيكِ درس تاني من دروس حسن يمكن الكسوف يخف شويه..
ضحكت برقة.. واللون يتدافع إلى وجنتيها بسرعة شديدة.. فنهض حسن ممسكاً بيدها:
ـ طيب خلاص.. نأجل الدرس شويه.. تحبي نتمشى على البحر..
هزت رأسها نفياً وهي تخبره بخجل:
ـ عايزة أرقص معاك رقصة سلو.. زي الأفلام.. بس أنت اللي هتعلمني..
ابتسم حسن بسعادة وهو يشاكسها:
ـ وماله.. آهي كلها دروس..
تحرك ليبحث بين مجموعة الأغاني التي يحتفظ بها يزيد.. ليجدها تقف بجواره:
ـ عايزة أغنية.. باعترف..
ـ من عينيه..
أدار الأغنية.. وضمها إلى صدره ليغيبا سوياً مع كلمات الأغنية وكل منهما يهمس بها للآخر..
*********
جلس يزيد خلف مقود سيارته في شرود.. يتساءل بداخله عما دفعه للقيام بتلك الرحلة الحمقاء.. هل يرغب برؤيتها حقاً؟.. ولماذا؟.. ماذا سيستفيد برؤيته لها؟.. والأهم هل يضمن سيطرته على مشاعره إذا رآها؟..
رفع بصره إلى الشرفة البعيدة والمضيئة.. يعلم أنها مازالت مستيقظة وأن نيرة ستكون برفقتها بالطبع.. ربما هذا ما شجعه على المجئ.. أنه لن ينفرد بها.. فقط سيراها ويروي عطش عينيه بزرقة عينيها وتلك النظرة التي تحتويه بها وتصرخ بحبها له..
يدرك أنها أنانية منه.. بل أنه يستحق لقب الوغد الأكبر في الكون.. فما يفعله بها وما يرسله لها من رسائل متناقضة تقلب كيانها وتجعلها غير مدركة لمشاعره المتقلبة نحوها, لهو أكبر خطيئة قد يرتكبها على الإطلاق.. ولكنه عاجز عن فعل أي شيء سوى رؤيتها.. وإشباع روحه قبل عينيه بنظرة الحب في عينيها...
لقد مر بأسبوع كالجحيم.. فبعد ما مضى الأسبوع الأول من ابتعاده عنها بهدوء وهنأ نفسه على حُسن اختياره لقرار البعد.. إلا أن مع مرور الوقت وزيادة شعوره بالاشتياق لها جعله كالقنبلة الموقوتة يخشى جميع من حوله أن تنفجر به في أي لحظة.. فأعصابة مشدودة على الدوام.. صوته عالٍ على الجميع.. حتى ريناد نفسها لم تسلم من إحدى نوبات غضبه.. والده يرمقه بنظرة مفكرة بينما والدته تظن أن ما به توتر ما قبل الزفاف حتى أنها سخرت منه يوماً قائلة:
ـ إيه يا يزيد.. أنا أعرف أن العروسة هي اللي بتكون قلقانة ومتوترة مش العريس..
لم يجد يومها ما يجبها به سوى تبرير واهٍ حول رغبته في الإنتهاء من العمل حتى يستطيع القيام بإجازة شهر عسله بارتياح..
وبعد عدة ثورات أخرى في العمل اقترح والده عليه ببساطة أن يبدأ إجازته مبكراً حتى تهدأ أعصابه قليلاً, ولكنه رفض بقوة.. وحاول قدر استطاعته التحكم بنوبات غضبه والسيطرة على ثوراته المتعددة, وكان ذلك سبباً إضافياً في الضغط على أعصابه التي تحترق من الأساس..
لذا فقد أخذ قراره.. متخذاً من وجود بعض الأوراق الهامة بخزينة مكتب والده بالمزرعة كعذر واه للحضور إلى المزرعة, لإحضار الأوراق, ظاهرياً ومن داخله كان يتمنى أن يراها ولو من بعيد.. فقط يلمحها.. مرة.. مرة واحدة..
عاد يرفع عينيه إلى الشرفة المضاءة ليلمحها تتحرك بها.. وشعر للحظة وكأنها تتجمد وهي تلمح سيارته قرب البوابة المعدنية الكبيرة.. ثم التفت لتدخل حجرتها بسرعة..
صارخة بذهول:
ـ نيرة.. بيتهيألي عربية يزيد بره!!..
زفرت نيرة بنفاذ صبر وهي تتصفح إحدى دفاتر الرسم الخاصة بعلياء:
ـ وبعدين يا علياء.. هو كل ليلة الموال ده.. أسبوع من يوم ما جيت وأنتِ أي عربية تعدي جنب المزرعة تقومي تجري وتقولي أنك حاسة أنه سي يزيد.. خلاص.. لازم تنسيه.. جوازه مش باقي عليه إلا أسبوعين.. وريناد بتوزع الدعوات فعلاً..
أخفضت علياء وجهها أرضاً في حزن:
ـ خلاص يا نيرة.. مش لازم تفكريني كل شويه..
تحركت نيرة وتركت الدفتر ليسقط من يدها وتمسكت بكتفي علياء بقوة:
ـ أنا بفكرك عشان تكوني أقوى.. عشان ما تضعفيش.. لازم تجهزي نفسك ليوم فرحه.. وعقلك هو اللي يكون له التصرف.. ما تخليش حد يشمت فيكي.. فاهماني..
قالت جملتها الأخيرة وكأنها تذكر بها نفسها..
أومأت علياء في حزن:
ـ هو أنا أقدر أعمل حاجة غير كده..
تركت نيرة كتفي علياء والتفتت لتجلس على أحد المقاعد المريحة.. هاتفة بغيظ:
ـ أيوه تقدري.. تقــدري.. تنســـ...
قطعت كلماتها عندما لمحت الصفحة التي فتح عليها دفتر الرسم ووجه يزيد يطالعها بملامح.. غامضة.. وعينيه تلتمع بهما نظرة توق ممزوجة بنظرة رغبة واضحة.. فانحنت لتلتقط الدفتر وسألت علياء بخوف:
ـ عليا.. أنتِ رسمتِ الصورة دي ليزيد امتى؟..
رفعت علياء لها عينين تحتبس بهما الدموع وهي تتساءل بدورها:
ـ هاه.. أي صورة؟..
حركت نيرة الدفتر أمام علياء لتواجهها عينيّ يزيد تتألق بهما النظرة التي تلازمه مؤخراً كلما نظر إليها.. فهزت كتفيها بمعنى لا أدري.. فعادت نيرة لتسألها بإلحاح:
ـ هو فعلاً بيبص لك بالطريقة دي؟.. ولا دي مجرد لوحة...
ابتلعت علياء ريقها بارتباك وهي ترد على السؤال بسؤال:
ـ مش فاهمة قصدك إيه يا نيرة.. وهي هتفرق في إيه يعني؟..
قبل أن ترد عليها نيرة دوي صوت إغلاق الباب الخارجي للفيلا.. فقفزت علياء بسعادة واختفت علامات الحزن من ملامحها في ثوانٍ وهي تصيح أثناء خروجها من غرفتها:
ـ الباب.. سمعتِ الباب.. يبقى أكيد يزيد..
وانطلقت تعدو تاركة خلفها نيرة فاغرة فمها بذهول لسرعة تبدل حال صديقتها إلا أنها أجبرت نفسها على التحرك خلفها بسرعة.. فبعد رؤيتها لنظرة عينيّ يزيد في اللوحة.. لن تأمن أبداً وجوده منفرداً مع علياء.. فخرجت وهي تتمتم في غضب..
ـ لو نظرة عينيه دي حقيقية.. يبقى مش لازم ينفرد بعليا لوحدهم أبداً..
وصلت علياء إلى الطابق الأسفل من الفيلا بينما كان يزيد على وشك الدخول إلى غرفة المكتب.. فهتفت بحنين:
ـ يزيد..
تجمد يزيد لحظة أن سمع صوتها واشتدت يده على مقبض الباب وهو يحاول التحكم في جسده الذي انتفض بقوة لسماع صوتها.. فبرغم أنه حضر خصيصاً لرؤيتها والتمتع بنظرة الحب في عينيها إلا أنه خشيّ للحظة أن يلتفت لها ليجد أن تلك النظرة اختفت.. أو الأصعب أن يجدها تحتويه بحبها فيعجز عن الابتعاد عنها بدون أن يروي ظمأه منها..
عاد صوتها يناديه بتردد:
ـ يزيد؟..
التفت لها ببطء لتواجهه نظراتها المشعة وقد تناثر شعرها حولها وتضرجت وجنتيها باللون الوردي الجميل وتعالى صوت تنفسها بفعل نزولها الدرج بسرعة شديدة لملاقته..
فُتن بطلتها كالمعتاد وتحرك نحوها كالمنوم مغناطيسياً.. عندما دوى صوت نيرة لينزل عليه كدشٍ بارد يفيقه من هذيانه:
ـ حمد لله على السلامة يا يزيد.. الوقت متأخر.. كنت محتاج حاجة ضروري ولا إيه؟..
التفتت علياء لنيرة التي وقفت في منتصف السلم وهي تضع يدها بخصرها وتنظر ليزيد بتحفز.. ففسرت علياء نظراتها تلك بغضبها من دور يزيد في فسخ خطبتها من حسن.. بينما أدرك يزيد نظرات التحذير التي تلتمع في عيني نيرة بسهولة فغمغم بسرعة:
ـ كان في ورق مهم في المكتب هنا.. ومحتاجينه ضروري..
وتحرك بسرعة ليدخل غرفة المكتب ويغلق الباب خلفه.. بينما جذبت نيرة علياء الهائمة من يدها بعنف واصطحبتها إلى غرفتها بالطابق العلوي.. وأغلقت الباب خلفهما بقوة والتفتت لتصيح بها:
ـ عليا.. إيه حدود علاقتك بيزيد؟..
تلعثمت علياء وهي تجبها:
ـ مش.. أنتِ اللي قلتِ لي أقرب منه و..
قاطعتها نيرة بغضب:
ـ ايوه.. أنا قلت كده.. بس كنت فاكرة أنك فاهمة قصدي.. أنك تقربي من غير ما تتحرقي بالنار.. فاهماني يا عليا؟..
رفعت علياء لها عينين حائرتين فتنهدت نيرة بحنق:
ـ عليا في علاقة بينك وبين يزيد؟..
شهقت علياء بقوة وهي تهتف بحرج:
ـ أنتِ بتقولي إيه يا نيرة!!
تنهدت نيرة بارتياح ونصحتها بهدوء:
ـ طيب.. خلاص يا عليا.. بس دلوقتِ مش هينفع تقربي من يزيد.. خلاص فرحه ما بقاش عليه حاجة.. يعني هو قرر عايز مين.. لازم تخرجيه من دماغك وتنسيه خالص..
أجابتها علياء بحزن:
ـ إزاي بس؟.. أنا بحبه.. و..
قاطعتها نيرة بقوة:
ـ انسي الحب ده خالص.. ودوسي على قلبك.. ودوري على اللي بيحبك..
سألتها علياء بألم:
ـ زي ما أنتِ عملتِ؟.. اخترتِ مازن عشان بيحبك؟..
أشاحت نيرة بوجهها بعيداً وهي تتمتم:
ـ اخترت!!.. أيوه.. مازن بيحبني.. وهو الإنسان اللي هكمل حياتي معاه.. أنا كنت فاهمة نفسي غلط لما أوهمتها بحب حسن..
سألتها علياء بتعجب:
ـ أومال مش بتردي على تليفوناته ليه؟.. ده بيتصل بيكي كل يوم.. وأنتِ من يوم ما جيتِ من أسبوع ما ردتيش عليه..
كتفت نيرة ذراعيها أمام صدرها وهي تبحث عن إجابة لسؤال علياء.. فهي بالفعل تتهرب من الرد على مازن ليس رغبة منها في تأجيج عواطفه, ولكن خوفاً منه.. نعم.. هي تخاف مازن بشخصيته الجديدة عليها والتي لم تظن يوماً أنه يمتلكها.. لقد ظنت لوهلة وهي تلمح نظرات الحب والألم في عينيه عندما كان يخيرها حسن.. أو بالأحرى يهددها.. ظنت أنها وجدت المخرج لنفسها لتصفع حسن بشقيقه.. ولكن مازن.. أظهر لها وجهاً آخر وجهاً مختلفاً تماماً عما ظنت.. لقد هربت من الجميع ومن الأقاويل إلى مزرعة الغمراوي لتكون برفقة علياء.. ولكنها غير قادرة على الهروب من التفكير به.. وبحوارهما معاً قبل أن يصطحبها إلى المزرعة.. والذي أوضح بجلاء.. أن مازن لن يكون الرجل الذي تستطيع لفه حول إصبعها بسهولة كما تخيلت..
أخرجها من شرودها صوت علياء:
ـ نيرة!!.. روحتِ فين؟
ألتفتت نيرة لتخبر علياء بهدوء:
ـ عليا.. زي ما قلت لك.. انسي يزيد خالص.. وابعدي عنه نهائي.. أنا.. أنا هروح أنام.. أنا تعبانة وعندي إحساس أني بقالي سنين ما نمتش..
وهربت نيرة بسرعة من أمام علياء.. فهي رفضت مناقشة أي شيء يخص فك ارتباطها بحسن وقرارها السريع بالارتباط بمازن مع أي شخص حتى والدها.. الذي أخبرته أنها تريد البقاء مع علياء لفترة.. وتركت له ولأول مرة مهمة تحديد زواجها الوشيك..
استقرت نيرة بغرفتها وأغلقت بابها لتنفرد بنفسها وأفكارها حول مازن..
*******
انتظرت علياء بصبر في شرفتها حتى تستطيع رؤية يزيد قبل أن يذهب.. ولكنه لم يظهر مرة أخرى بعد دخوله إلى غرفة المكتب.. انتظرت ساعة.. وساعة أخرى.. ولكن لا أثر له..
أخيراً سحبت مئزراً منزلياً لترتديه فوق منامتها القصيرة.. وارتدته على عجل ونزلت مسرعة إلى غرفة المكتب..
وقفت ثوانٍ تلتقط أنفاسها.. ثم طرقت الباب بخفة وانتظرت لتسمع أي رد.. ولكن لم يقابلها سوى الصمت التام..
ابتلعت ريقها بقوة وأخذت نفساً عميقاً قبل أن تفتح الباب بهدوء وتدلف إلى الغرفة لتفاجئ بيزيد وقد افترش الأريكة العريضة الموجودة بالغرفة.. وذهب في نومٍ عميق..
أغلقت الباب بهدوء حتى لا توقظه, واقتربت ببطء وهي تقدم خطوة وتأخر أخرى.. حتى وصلت إليه ووقفت تتأمل ملامحه الوسيمة ولكنها كانت منقبضة بشدة وكأنه يتألم من شيء ما..
سمعته يهمس بشيء.. فهبطت على ركبتيها أمام الأريكة حتى تستطيع سماع ما يهمس به في نومه...
عاد يهمس في نومه ثانية وعقد حاجبيه بشدة.. فمدت يدها لتمسد جبهته برقة حتى تنفرج ملامحه وتعود لهدوئها.. وأخذت أناملها تتجول على وجهه برقة وكأنها تريد رسمها في خيالها.. تريد حفظها بين حنايا قلبها لتكون زادها في بعاده بعد ما قرر بحسم الإستمرار في زواجه...
ـ علياء.. علياء الفراشة..
جمدت أناملها على وجهه وهي تسمعه يهمس باسمها.. وقطبت حاجبيها في حيرة.. هل يناجيها في أحلامه؟.. إذاً لم الهجر والبعاد؟.. لم زواجه من أخرى؟..
عاد اسمها يتردد بين شفتيه:
ـ فراشتي.. عليائي.. مش قادر..
تجمدت كل خلية بجسدها وهي تلمح عينيه المفتوحة تحدق بها.. وترمقها بنظرات هائمة.. سرعان ما تحولت إلى تلك النظرة التي أصبحت تألفها في عينيه مؤخراً... وقبل أن تفكر بالتحرك وجدت ذراعه تطوق كتفيها وعنقها لتجذبها فوق صدره وهو يقبلها بشغف ورقة ويهمس باسمها بتوق شديد..
فوجدت نفسها تستسلم لعواطفه المشبوبة كعادتها دائماً.. وتحرك ذراعيها للتتمسك بكتفي يزيد الذي كان غارقاً في قبلاتها ظناً منه إنه يعيش واحدً من أحلامه التي لازمته مؤخراً..
يحلم بها.. يختطفها ليذهبا بعيداً عن الجميع.. عن كل ما يفصلهما ويمنع وجودهما معاً.. يحتضنها ويقربها منه.. يضمها إلى صدره ويقبلها كما يفعل الآن.. إلا أن تلك المرة كان الحلم حيٌ أكثر مما ينبغي.. ملموس بقوة كملمس نعومة خصلاتها بين أنامله.. ودافئ برقة كرقة شفتيها بين شفتيه.. كان حلم قريب من الواقع وهو يسمع همسها:
ـ بحبك.. بحبك يا يزيد.. ليه بتبعد عني؟..
انتفض بقوة وهو يشعر بأناملها تنغرز بين خصلات شعره.. وصوتها الهامس يتردد بين أنفاسه.. شعر أن الحلم اختلط بالواقع وأنه الآن يعيش واقعاً ملموساً..
نهض جالساً من رقدته.. وأمسك بذراعيها ليثبتها أمامه فارتكزت بكفيها على الأريكة في حين ظلت متكئة على ركبتيها وهي تلهث بقوة من عنف المشاعر التي جمعتها به..
سمعته يسألها بخشونة:
ـ أنتِ إيه اللي مصحيكِ لحد دلوقتِ؟..
علمت بسهولة أن خشونته مصطنعة فأخذت تنهل من ملامحه الحبيبة لعينيها بجوع وهي ترد بخفوت:
ـ قلقت عليك وجيت أشوفك..
تخللت أنامله بين خصلاته بقلق:
ـ أنا.. أنا.. كنت بدور على الورق.. وتعبني على ما لقيته فقلت أريح عينيه شوية قبل ما أرجع تاني القاهرة.. بس يظهر أني روحت في النوم..
رفعت أناملها لتمر بها على جانب وجهه برقة:
ـ أنت شكلك فعلاً مرهق أوي.. أنت مش بتنام؟..
مد يده ليمسك بيدها ويبعدها عن وجهه وهو يهتف بخفوت:
ـ علياء.. بلاش جنون.. احنا اتفقنا من المرة اللي فاتت أن كل ده لازم ينتهي..
رددت ببراءة:
ـ بس أنت كنت بتبوسني دلوقتِ!
أجابها بسرعة:
ـ كنت بحلم.. و..
ارتسمت على شفتيها ابتسامة رقيقة وهي تسأله:
ـ كنت بتحلم أنك بتبوسني؟..
عادت أنامله تعيد خصلاته للخلف وهو يحاول أن يتماسك من أجلهما معاً.. تلك الفراشة تتلاعب حول اللهب ولا تعلم أنه سيحرقها قبل أن يحرقه هو..
حاول أن يطلب منها بحزم ولكن طلبه خرج كتوسل رقيق:
ـ اطلعي أوضتك يا علياء.. اطلعي أوضتك واقفلي عليكِ بالمفتاح..
هزت رأسها بالنفي وهو تعاود ملامسة وجهه:
ـ قولي الأول أنت جيت ليه الليلة؟..
رفع يديه ليمسك يدها قبل أن يذوب تحت لمسة أناملها واحتفظ بها تلك المرة في كفه.. وحاول أن يتذكر سؤالها.. ليجمع بعض كلمات بلا معنى:
ـ ورق.. مهم.. كان لازم أجيبه الليلة..
هزت رأسها وكأنها غير مقتنعة بكلماته فهي تشعر بأنامله تداعب كف يدها التي يحتضنها بدفء شديد.. وأنبأتها غريزتها الأنثوية أن تلك الأوراق ما هي إلا عذر حتى يأتي إلى المزرعة ليراها.. فوجدت نفسها تلقي بذراعها خلف عنقه وتقف على ركبتيها ليكون وجهها مواجهاً لوجه وهمست بتوسل أمام شفتيه:
ـ يزيد.. أنا مش حلم.. أنا حقيقة.. يزيد.. خدني في حضنك.. حتى ولو لآخر مرة.. حتى لو كان وداع..
لم يدعها تكمل توسلها فهو يحتاجها بين أحضانه أكثر مما يحتاج الهواء الذي يتنفسه.. لقد أضناه بعاده عنها وحرقه شوقه إليها..
اعتصر جسدها الشاب بين ذراعيه.. وشفتيه تعزف لها مقطوعة من الشغف المجنون.. تتنقل بجنون بين شفتيها ووجنتيها وجفنيها ليعود ويلتهم شفتيها بقسوة جعلتها تئن بين ذراعيه وتبعد شفتيها عنه لتمرغ وجهها كالقطة في تجويف عنقه بينما سقطت شفتيه على شاماتها الصغيرة يقبلها برقة.. ويعود إلى شفتيها برقة أذابتها لترفع ذراعيها تحيط بهما عنقه مستسلمة لقدرها بين ذراعيه حيث أصبحت المقاومة بالنسبة لها خيار غير وارد, وخضع هو لسحر وجودها بين ذراعيه ومتعة الإحساس بحبها السرمدي فكانت المقاومة بالنسبة له رفاهية هو عاجز عن تحملها..
وأخيراً هدأت عاصفة حبهما وسكنت علياء بين ذراعيّ يزيد..
لم تتفتح الأبواب.. لم تتكسر النوافذ.. وبالتأكيد لم تهطل الأمطار أو تفور القهوة لتطفئ شعلة النار..
فقط كُسِرت الفراشة وحُطِمت أجنحتها...


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-18, 01:28 PM   #14

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الحادي عشر


جلس حسن بجوار منى حول مائدة على شكل نصف دائرة بإحدى الملاهي الليلية الشهيرة والملحقة بفندق خمسة نجوم.. وأمسك يدها ليضغط عليها هامساً:
ـ إيه رأيك.. أعملك امتحان دلوقتِ في دروس الأسبوع اللي فات؟..
تورد وجه منى بروعة سلبت لبه وقد ظهرت صدمتها جلية.. وهي تسأله بذهول:
ـ حسن!.. أنت بتقول إيه!!
قهقهة بشقاوة وهو يجيبها ببراءة مصطنعة:
ـ أنا قصدي دروس الرقص.. هو أنتِ قصدك حاجة تانية!
زمت منى شفتيها بفتنة تدعي الغضب.. وتجيبه بدلال أدركت عشقه له بغريزتها:
ـ أنا كمان أقصد الرقص.. بس هتكسف أرقص قدام الناس..
جذبها من يدها ليتوجها نحو حلبة الرقص:
ـ ما تفكريش في الناس.. المهم أننا سوا..
رفعت ذراعيها ليطوقا عنقه وبدآ يتحركان على أنغام الموسيقى الهادئة برشاقة..
ابتسمت منى بخجل بينما أراح جبهته فوق جبهتها وسألها بجدية:
ـ سعيدة يا منى؟..
أغمضت عينيها بحالمية وهي تهمس:
ـ سعيدة دي كلمة قليلة على اللي بحس به وأنا معاك.. حسن.. أنت أحلى حاجة في دنيتي..
ضمها إلى صدره بقوة وهو يخبرها بشقاوة:
ـ يعني المفروض أنا أعمل إيه دلوقتِ.. الكلام الحلو ده تقولهولي واحنا في بيتنا بس.. وإلا أنا مش مسئول عن تصرفاتي!..
ضحكت برقة وهي تلقي برأسها على كتفه لتستمتع بدقات قلبه التي تدوي عالياً.. سعيدة بتأثيرها عليه فهو له تأثير مماثل عليها..
ظلا يتمايلان على الموسيقى وهما بين ذراعي بعضهما.. وحسن يطلب منها كل خمس دقائق العودة إلى الشاليه وهي تضحك له بإغاظة:
ـ خلينا شوية.. أنا مبسوطة وأنا بطبق دروسك عملي.. أقصد دروس الرقص.. أنت أستاذ شاطر..
توقف عن الرقص وجذبها هامساً:
ـ أنا قلت الكلام ده يبقى في البيت.. يلا قدامي.. عندك امتحان مفاجئ في دروس تانية..
ضحكت برقة وعادا ليجلسا على مائدتهما حيث أشار حسن إلى النادل ليأتي له بالفاتورة..
عادت منى تضحك وهي تسأله:
ـ إيه رأيك أما نروح تعلمني السباحة؟..
نظر إليها نظرة غامضة:
ـ ما ينفعش.. إلا لو اشتريت لكِ بحر خصوصي!..
ضحكت بذهول:
ـ ازاي يعني مش فاهمة؟..
ـ يعني أنا مراتي مش هتلبس مايوه والناس تتفرج عليها.. أما نرجع بيتنا هعلمك في حمام السباحة بتاع الفيلا..
سألته بقلق:
ـ احنا هنعيش في الفيلا بتاعة باباك؟.. أنا كنت فاهمة غير كده..
تنهد بألم حاول أن يخفيه عنها:
ـ الأول هنعيش في شقتي.. أنا كنت بجهزها طول الفترة اللي فاتت.. لحد ما نصلح الأمور مع بابا..
مدت يدها لتتمسك بكفه وهي تخبره بدفء:
ـ إن شاء الله يا حسن كل الأمور هتتحسن..
عاد النادل وهو يخبر حسن بحرج أن البطاقة غير صالحة.. تعجب حسن بشدة ومنحه بطاقة أخرى ليعود النادل بنفس الرد.. تكرر الوضع مع بطاقتين آخرتين.. حتى شعر حسن بوجود شيء غير طبيعي.. وانتابه الحرج من الموقف وقد أدرك أن والده بدأ الحرب بالفعل..
لمح تبرم النادل الواقف أمامه.. فمد يده ليخرج بطاقة أخرى.. وهو يشكر يزيد بأعماقه, فقد أصر عليه يزيد ليأخذها منه قبل لحظات من انطلاقه بالسيارة ليلة زفافه وهو يخبره أنها لن تضره, بل قد تنفعه فالظروف غير مضمونة..
ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيه وهو يفكر بأن يزيد كان محقاً وكما يبدو أنه توقع تصرف والده بتلك الطريقة..
انتهى الموقف المحرج وخرجت منى تتأبط ذراع حسن وهي تسأله بقلق:
ـ حسن.. هو في إيه؟..
ربت على يدها مطمئناً:
ـ ما تقلقيش يا منى..
ـ إزاي بس؟.. طيب واللي حصل ده معناه إيه؟
أطرق حسن بحزن:
ـ معناه أن قدامنا حرب جامدة مع حاتم بيه العدوي..
ثم رفع رأسه وحرك ذراعه ليحيط كتفيها به ويضمها بشدة.. فضمت نفسها له أكثر وهي تطمئنه:
ـ أنا معاك وجنبك يا حسن.. دايماً معاك..
طبع قبلة رقيقة على جبينها.. واصطحبها إلى شاليه يزيد وهو يشكره للمرة الثانية فيبدو أن والده لم يعلم مكانه بعد.. وإلا كان شرفه بالزيارة.. فحاتم العدوي.. لا يتهرب من المواجهة قط...
***********
استيقظت نيرة في التاسعة تتأفف من آشعة الشمس التي تزعجها كل صباح وأخذت تتساءل للمرة المائة.. لم تشرق الشمس مبكرة هكذا في تلك المزرعة؟!..
تثاءبت للمرة الخامسة وهي تحاول العودة للنوم مرة ثانية ولكنها ما لبثت أن شعرت بافتقاد إزعاج من نوع آخر.. فــعلياء عادة ما تأتي لإيقاظها في السابعة.. نعم السابعة... من يصدق أن تلك الصغيرة قادرة على سحب نيرة غيث من الفراش في السابعة!!.. وذلك حتى يمتطيا الخيل معاً.. ثم تعودان لتناول الطعام سوياً..
"فين عليا؟"..
سؤال تردد بذهنها مع انقباضة مفاجئة بقلبها.. فأزاحت الغطاء من فوقها بقوة وقد قررت الذهاب إليها لتعرف سبب تأخرها..
طرقت باب غرفة علياء عدة مرات ولم تتلقَ أي إجابة.. ازداد قلقها وفتحت الباب لتجد الغرفة خالية تماماً.. ولكن ما جعل عينيها تتسعان بخوف هو الفراش ذو الغطاء الوردي المرتب تماماً.. والذي يعلن صراحة أن علياء لم تمضي الليلة بغرفتها..
حاولت دفع الهاجس الذي يتردد بذهنها بالبحث عن علياء في غرفة يزيد.. فهي لا تتخيل أن تجرؤ علياء على ذلك.. ولكنها لم تستطع.. فتوجهت مسرعة لتفتح كل غرفة موجودة بالطابق العلوي, ولكن جميع الغرف كانت خالية كما عهدتها طوال الأسبوع.. فــجد يزيد يقطن في غرفته في الطابق الأرضي.. ولا يغادرها مطلقاً, بل لا يغادر فراشه من الأساس..
قررت التوجه نحو الإصطبل علها تجدها الطفلة الحمقاء هناك.. ولكن لمحة خاطفة من أحد نوافذ الطابق السفلي أكدت لها أسوأ مخاوفها والتي حاولت جاهدة ألا تفكر بها.. فسيارة يزيد ما زالت بالخارج, التفتت لتحدق بفزع بباب غرفة المكتب المغلق..
تحركت ببطء شديد نحو الباب وصوت دقات قلبها التي تعالت وتيرتها يكاد يصم أذنيها, وأمسكت بمقبض الباب.. كادت أن تتراجع عن فتحه.. لكنها عادت وقررت أنه يجب عليها القيام بتلك الخطوة, فبعد كل شيء قد تكون مخطئة..
حركت المقبض وفتحت الباب ببطء لتجد المشهد الذي توقعته وحاولت الهرب منه بقوة فأغلقت عينيها عن مشهد الجسدين المتعانقيين والغارقيين تماماً في نومٍ عميق..
أغلقت الباب ببطء وهي تتنفس بسرعة.. لا تدري ما الذي عليها فعله.. هل تدخل لتجر علياء من بين ذراعي يزيد قبل أن يراهما أحد؟.. أم تنتظر علياء في غرفتها؟.. لا تدري!!.. فقط تريد الصراخ وهي تشعر بموجات هائلة من الغضب العاصف.. غاضبة من الحمقاء التي تجاهلت حديثهما ليلة أمس.. ومن الحقير الذي تود قتله لاستغلاله شغف علياء به بتلك السفالة.. ومن مازن الذي طاوعها وأتى بها إلى المزرعة من البداية.. الأحمق لم لم يأتِ حتى الآن؟.. هل صرف نظر عن خطبتهما أم ماذا؟.. يكتفي بمكالمة تليفونية يعلم أنها لن تجبها.. لقد ظنت أنه قد يأتي لرؤيتها.. أو..
يا إلهي.. ما الذي تفكر به؟.. هزت رأسها بعنف.. تحاول تنقية أفكارها.. والتركيز على الكارثة خلف باب المكتب.. عندما سمعت صوت يأتي من خلفها..
ـ صباح الخير يا نيرة.. واقفة عندك بتعملي إيه؟..
**********
دلف مازن إلى غرفة جدته بدون استئذان بعد أن جذبته الأصوات العالية بالغرفة.. فوالده على ما يبدو يخوض في نقاش حامٍ مع جدته..
وصله صوت الجدة روح وهي تهتف بابنها:
ـ حاتم.. بلاش قسوة قلبك دي.. حسن وخلاص اتجوز.. والبنت كويسة.. وبنت ناس..
سخر حاتم بقسوة:
ـ بنت السواق!!.. اللي طمعانة في اسم العدوي وفلوسه استحالة تكون مرات ابني..
هتفت روح بدورها:
ـ بس هي خلاص فعلاً بقت مراته.. وأظن هو أثبت قد إيه هو عاوزها ومتمسك بيها..
لمعت عينا حاتم بمكر:
ـ أما نشوف هيقدر يتمسك بيها للآخر ولا لأ.. وهي كمان هيكون تصرفها إيه بعد ما كل امتيازات العدوي تختفي فجأة..
سألته روح بتوجس:
ـ أنت عملت إيه يا حاتم؟..
رد عليها مازن الذي توسط الغرفة مواجهاً والده:
ـ بابا وقف حساب حسن البنكي وحسابي كمان.. ولغى توقيعي من على الشيكات..
رد والده بقوة:
ـ أيوه.. حتى الشقة بتاعته بعتها بموجب التوكيل اللي معايا.. وأما تشوفه ابقى بلغه أنه مالوش شغل عندي.. وكمان يسلم مفتاح عربيته في أقرب وقت..
رمقه مازن بقهر بينما سألته روح بذهول:
ـ جبت القسوة دي كلها منين يا ابني؟.. ومازن ذنبه إيه هو كمان؟..
ـ دي مش قسوة يا أمي.. ده إجراء ضروري عشان حسن يرجع لعقله.. وأول ما يطلق البنت اللي اتجوزها دي.. كل شيء هيرجع لأصله..
وتوجه إلى مازن بالكلام:
ـ أنا وقفت كل امتيازاتك المادية عشان عارف أنك هتساعده من غير تفكير.. وما تفتكرش أنك ممكن تتهرب من جوازك من نيرة.. الفضيحة اللي عملتوها لازم تتلم بسرعة.. وأبوها عايز يشوفك بأسرع وقت..
قاطعت روح حديثه وهي تأمره بحسم:
ـ حاتم.. رجع كل شيء زي ما كان.. وسيب ابنك ومراته في حالهم.. بلاش الظلم.. وإلا أنت عارف غضبي هيكون شكله إيه..
ـ يعني إيه يا أمي؟.. هو حسن ده مش ابني برضوه وأنا عايز مصلحته..
ـ لأ.. أنت عايز أوامرك تتنفذ بس.. وأوامر بأوامر بقى يا حاتم.. اسمع كلامي وابعد عنه وعن مراته.. وبلاش أذية..
أجابها حاتم بحسم قبل أن يخرج من الغرفة:
ـ أوعدك أني مش هأذي البنت ولا أهلها.. لكن فلوس لأ.. خلاص هو اختار.. يتحمل نتيجة اختياره.. وده اللي أقدر عليه.. غير كده ما أقدرش أقولك غير زي ما حضرتك بتطلبي مني أنفذ أوامرك, أنا من حقي برضوه أطلب من ابني أنه يسمع كلامي.. عن إذنك..
تهاوت روح على أريكتها فسارع مازن لاسنادها وسمعها تغمغم:
ـ رحمتك يا الله.. رحمتك يا الله..
***********
التفتت نيرة ببطء لتواجه القادم.. وهي ترد التحية بكلمات متعثرة:
ـ صباح الخير يا أونكل عصام... أنا.. أنا..
شعر عصام بالحرج وقد ظن أن تلعثم نيرة يعود إلى الزوبعة التي أثيرت حول ارتباطها الحديث بمازن العدوي.. فغمغم مرتبكاً:
ـ مبروك خطوبتك أنتِ ومازن..
لفت نيرة يديها خلف ظهرها وهي تضغط على المقبض بقوة حتى ترك بعض العلامات بكفيها.. وبالكاد استطاعت الرد على تهنئة عصام.. فكل ما كانت تفكر به أن تبعده عن الكارثة الموجودة بغرفة المكتب..
فسألته بلهفة:
ـ حضرتك فطرت؟.. أنا لسه ما فطرتش.. تحب تشرب شاي؟..
وتحركت بسرعة محاولة جذبه وتشتيت انتباهه بعيداً عن غرفة المكتب.. إلا أنه اعتذر منها بلطف.. وتحرك ليمسك مقبض الباب.. فوقع قلبها بين قدميها وهي تسمعه يسألها:
ـ أومال عليا فين؟.. ما صحيتش معقولة لحد دلوقتِ؟..
ابتلعت ريقها بصعوبة ولم تستطع الرد فعاود سؤالها:
ـ ويزيد كمان؟.. أنا شايف عربيته بره.. أكيد وصل متأخر فنام هنا ليلة امبارح.. بس غريبة أنه لسه نايم؟.
كان على وشك فتح الباب فلم تجد نيرة بداً من محاولة جذب ذراعه بشدة وهي تكاد تصرخ:
ـ عمو.. اتفضل حضرتك معايا نشرب شاي وبعدين ندور عليهم..
تسبب صوت نيرة العالي في ايقاظ يزيد.. ففتح عينيه ليجد علياء نائمة بين ذراعيه.. وشعرها متناثر بعبث يغطي وجهها الذي دفنته بصدره العاري..
انسحب الدم من أطرافه عندما أدرك هول ما قام به.. وعاودته ذكريات الليلة الماضية بقوة.. تتزاحم برأسه صور ثلاثية الأبعاد.. قبلاتهما الشغوفة والتي تحولت إلى جنون مطلق وهو يشعر بها بين ذراعيه.. دقات قلبها تدوي كصدى لقلبه هو.. ويديه تتجول على جسدها وقد أفلتت سيطرته عليهما بينما هي تلامسه بخجل وبخبرة ضئيلة اكتسبتها منه هو شخصياً.. انهارت مقاومته أخيراً.. ووجودها أمامه راغبة في منحه كل ما يرغب لم يساعده.. وما ظنه حلم في البداية كان واقعاً ملموساً ومغرياً حد الجنون.. لم يستطع مقاومة أخذها, فهي له.. خلقت من أجله وها هي تعترف بذلك هامسة له بحبها.. وبملكيته لقلبها.. هو وحده.. من يستطع مواجهة امرأة تجعله السيد الأول على كلٍ قلبها وعقلها وجسدها.. أنه لم يخلق من صخر حتى لا يخضع لسحر اللحظة.. ذلك السحر الذي انقلب في نور الصباح إلى لعنة.. وهو يدرك فداحة ما قام به..
عاد صوت نيرة يدوي مرة أخرى.. وسمع صوت والده يجيبها بشيء ما.. فجف حلقه وهو يحاول ايقاظ علياء.. بينما فُتِح باب الغرفة ليدلف والده الذي تجمد على عتبة الغرفة وهو يرى ربيبته الصغيرة بين ذراعي ابنه وقد بدا جلياً ما حدث بينهما..
لم يستطع يزيد مواجهة عينيّ والده.. فهو لم يتخيل يوماً أن يوضع في موقف كهذا.. شعر بطاقة رهيبة من الغضب تجري بعروقه.. وظهرت بوضوح وهو يحرك علياء بقسوة حتى تستيقظ..
ـ علياء..
ثم رفع صوته أكثر ورفع شعرها عن وجهها:
ـ علياء.. اصحي..
فتحت علياء عينيها ببطء لتلتقي بالقسوة الخالصة في عينيّ يزيد المطلة عليها.. فحدقت به للحظات قبل أن تدرك وضعها.. بين ذراعيه.. فأطلقت صرخة قصيرة قبل أن تحاول الابتعاد عنه بحركة سريعة.. أحبطها هو على الفور بعد أن ضغطها بين ذراعيه.. فقد كان ما يغطي جسدهما معاً هو القميص الخاص به فقط.. بينما رقد ردائها الممزق في مكانٍ ما بالغرفة..
لم يحتمل عصام المشهد الذي كاد أن يصيبه بأزمة قلبية.. فصرخ بقسوة:
ـ نيرة.. هاتي لها أي حاجة من أوضتها تلبسها..
شهقت علياء بعنف بعدما سمعت صوت عصام ولم تستطع لف رأسها لمواجهته ورؤية الصدمة وخيبة الأمل بعينيه.. بينما ارتفع صوته بهيسترية وهو يصرخ بيزيد وقد اقترب منهما.. والتقط بنطال ابنه ليلقيه بوجهه:
ـ ابعد عنها حالاً..
ثم أدار وجهه عنهما.. وهو عاجز عن قول المزيد..
عادت نيرة بسرعة ومعها مئزر طويل لعلياء التي لفت نفسها به بسرعة..
ومرت لحظات في صمت تام.. وعلياء منكسة وجهها بالأرض.. بينما يراقبها يزيد بنظرات غامضة ممتزجة بغضب مستعر.. قطع والده الصمت بأن طلب من نيرة بصوت حاول جهده التحكم به:
ـ نيرة.. من فضلك.. خدي عليا فوق..
ثم أخفض صوته بشبه توسل:
ـ اللي شوفتيه يا بنتي.. يا ريت يفضل بينا إحنا بس..
أومأت نيرة بصمت وهي تحتضن علياء لتحركها خارج الغرفة تكاد تحملها حملاً.. وما أن خرجتا وتأكد عصام من ابتعادهما حتى أغلق الباب والتفت إلى ابنه بغضب عاصف.. بينما رفع يزيد رأسه محاولاً الكلام:
ـ بابا... أرجوك.. أنا..
قطع والده كلامه بصفعة قوية نزلت على وجهه وهو يهتف به:
ـ أنت حيوان.. ابني أنا.. لحمي ودمي.. حيوان بيلعب بأعراض بنات الناس.. ويعتدي على حرماتهم..
وضع يزيد كفه فوق مكان الصفعة بينما تكورت قبضته الأخرى في قبضة غاضبة..
ـ بابا..
قاطعه والده بصراخ:
ـ أنا مش عايز أسمع صوتك.. ولا حتى أشوف وشك..
وخبط على المكتب بعنف:
ـ من إمتى؟..
رمقه يزيد بحيرة.. فأعاد السؤال مرة أخرى:
ـ أنت على علاقة بها من إمتى؟..
غمغم يزيد بخفوت:
ـ امبارح بس.
تغاضى عصام عن النظر إلى الأريكة التي تحمل الدليل على صحة كلام ابنه.. وصاح به في غضب:
ـ إزاي؟.. وليه؟.. فجأة كده عليا اللي كنت مش طايق وجودها ونازل فيها أوامر وشخط وزعيق.. فجأة احلوت في عينيك؟.. ولا كنت بتسلي نفسك لحد ما تتجوز؟..
هتف يزيد بقوة محاولاً الدفاع عن نفسه:
ـ بابا...
قاطعه والده:
ـ ده أنت فرحك بعد أسبوعين.. إيه مش عارف تتحكم في نفسك أسبوعين!!.. ذنبها إيه المسكينة اللي أنت نهشت لحمها دي..
صرخ به يزيد وقد فلت غضبه من عقاله:
ـ بلاش نتكلم عن الذنوب!
ـ قصدك إيه يا ولد..
ـ لو اتكلمنا على الذنوب.. فأنت أول واحد لازم يتحاسب.. ذنبها إيه أمي في جوازك عليها بعد عشرتها ليك فوق الخمستاشر سنة يكون جزائها زوجة تانية.. ذنبي إيه أنا أسمع شكوتها وألمها من ظلمك وخيانتك ليها.. ذنبي إيه وأنا مش عارف إزاي أراضيها ولا أواسيها.. ذنبي إيه وأنا بحاول معاها ترحم نفسها من المهدئات اللي كانت هتدمرها.. ذنبي إيه وأنا بمنعها أكتر من مرة أنها تنهي حياتها.. مرة قطع شرايين.. ومرة جرعة منوم زايدة.. وكل ده لأنك قررت أنها مش كفاية لك كزوجة.. كـــست.. وأنثى واتجوزت عليها.. وبعد ده كله.. جبت علياء.. وعملت حواليها ألف سور وألف جدار.. وتحذيرات كأنك بترسم لي وضع معين ما ينفعش أغيره.. دي أختك الصغيرة.. أختك الصغيرة.. أختي إزاي ومنين؟.. مش فاهم!..
قاطعه والده بذهول:
ـ ده انتقامك مني ومنها على جوازتي من أمها؟!.. أنك تحطم الأسوار وتكسر الجدران اللي عملتها عشان مصلحتك قبل مصلحتها.. أنك تغتصب البنت الأمانة اللي في رقابتي واللي أنا مسئول عنها قدام ربنا..
توسعت عينا يزيد بذهول وهو يهتف بغضب:
ـ اغتصبها!!..
لم يلتفت عصام إلى ذهول ابنه وواصل اتهامه له:
ـ ده انتقامك مني.. أنك تدمر البنت!.. عشان كده أصريت أنك تيجي امبارح المزرعة.. عشان تنفذ اللي بالك.. ويا ترى الست والدتك عارفة بخطتك؟.. أكيد لأ.. وإلا ما كانتش جننتني من امبارح عشان ابنها الحيلة اللي بات بره البيت!..
هتف يزيد بعنف:
ـ لا.. ده مش انتقام.. يا ريته كان كده.. بس كمان مش اغتصاب..
سخر والده بعنف:
ـ بعد كده هتقولي أنه هي اللي اعتدت عليك!
رفع يزيد رأسه وهتف بوالده بصرامة:
ـ اللي حصل.. حصل.. وأنا مش هتكلم عنه.. كل اللي عايزه أنك تبعت تجيب المأذون.. هتجوز علياء حالاً..
صمت والده للحظات.. ثم قال:
ـ ما هو أنت أكيد هتتجوزها.. أنت فاهم أني هرضى بحل تاني؟..
رمقه يزيد ساخراً وغاضباً من نفسه فقد سقط في الفخ كالأحمق.. وصمت وهو يتوعد علياء سراً.. الصغيرة المغوية اللعينة.. لم تنصت إليه واستدرجته بهمساتها حتى عجز عن مقاومتها أو مقاومة نفسه..
تنهد يزيد بيأس عندما سمع والده يسأله:
ـ وهتعمل إيه في ريناد؟.. وفرحك ووالدتك؟..
تهالك يزيد على أقرب مقعد:
ـ مش عارف.. مش عارف..
خيم الصمت عليهما لفترة قطعه والده برفع سماعة الهاتف ليقوم بعدة اتصالات.. التفت بعدها ليزيد:
ـ المأذون هيكون هنا حالاً..
أومأ يزيد في صمت.. فعاد والده يسأله ثانية:
ـ هتكمل جوازتك من ريناد؟
أغمض يزيد عينيه بألم ولم يجب على سؤال والده الذي هز رأسه بغيظ:
ـ يعني هتجوز الاتنين؟
فتح يزيد عينيه ورفعهما إلى والده ساخراً:
ـ من شابه أباه فما ظلم!..
ـ وأنت مش هتظلم يا يزيد؟
رد عليه يزيد بجواب غامض:
ـ ما حدش عارف مين الظالم ومين المظلوم!
*************
تكومت علياء في ركنٍ منزوٍ بأحد الأرائك في غرفة نيرة ودموعها تهطل بلا توقف منذ أن صعدت بها نيرة من غرفة المكتب ورغم صراخ نيرة عليها ونعتها لها بالغبية الحمقاء التي أضاعت كل شيء.. لكنها لم ترد عليها إلا بجمل مبهمة.. أخذت ترددها كالتعويذة.. "هي عندها حق".. "أنا فاجرة".. "بس أمي ما كانتش كده".. "أمي مظلومة"..
لم تفهم نيرة ما تردده علياء.. وحاولت الاقتراب منها وإخراجها من هذيانها.. ولكن أوقفتها جملة أخيرة خرجت من شفتي علياء.."سهام عندها حق.. أنا فاجرة"..
صرخت بها نيرة بغضب:
ـ اسكتي يا عليا.. ما تقوليش على نفسك كده..
أخذت علياء تردد بشرود.."أنا فاجرة.. أنا فاجرة"..
تحركت نيرة وجذبتها من جلستها بقوة:
ـ قلت لك اسكتي.. أنتِ خلاص بقيتِ مراته.. وما فيش مخلوق هيعرف باللي حصل..
رفعت علياء عينيها إلى نيرة بانكسار:
ـ هو عارف.. وأنا عارفة..
وحررت نفسها من قبضتي نيرة وهي تتهاوى على الأريكة وتنكس رأسها أرضاً هامسة:
ـ أنا فاجرة..
صرخت بها نيرة مرة أخرى:
ـ أنتِ ضحية.. هو اللي مجرم مغتصب..
ـ مش كفاية أفكار وخطط بقى يا نيرة هانم!!..
سمعت نيرة صوت يزيد من خلفها فالتفتت إليه بعنف:
ـ إيه اللي جايبك هنا؟.. وبعدين المفروض تخبط قبل ما تدخل...
أحنى رأسه في أسف ساخر:
ـ آسف كنت عايز المدام بتاعتي في كلمتين..
رفعت علياء عينيها إليه لتطالعها نفس النظرة القاسية التي لمحتها في عينيه من قبل.. خيل إليها للحظات ظهور لمحات من حنان ورقة على ملامحه فرمشت لتجلي عينيها من الدموع ولكن ما رأته كان تعابير مبهمة لا توضح الأفكار التي تجول برأسه.. ورغم ذلك تعلقت عينيها بعينيه تبحث عن نظرات التوق واللهفة التي أذابتها الليلة الماضية.. ولكن ما لمحته كان الغضب.. الغضب الخام الممزوج بقسوة ظاهرة..
قطعت نيرة تواصلهما البصري هاتفة:
ـ لو كنت فاهم أني هسيبها لوحدها معاك تبقى غلطان.
ابتسم ساخراً وأخبرها بتهكم:
ـ متأخر قوي الشو ده.. ودلوقتِ عن إذنك عايز أقول لمراتي كلمتين على انفراد..
خرجت نيرة كالعاصفة وتجاهلت إغلاق الباب ووقفت أمام عتبة الغرفة مكتفة ذراعيها, فذهب هو وأغلق الباب في وجهها بمنتهى البساطة.. والتفت إلى علياء التي عاودت النظر إلى الأرض بشرود فهتف بها:
ـ إرفعي راسك..
هزت رأسها نفياً وكأنها قررت بينها وبين نفسها أنها تستحق البقاء منكسة الرأس إلى الأبد..
تحرك نحوها ليرفعها من كتفيها وهو يسألها من بين أسنانه:
ـ أنتِ ضحية وأنا مجرم مغتصب!!.. دي خطتكوا الجديدة؟.. بس ليه ما الخطة الأصلية نجحت.. بعد ما نيرة هانم سحبت أبويا لحد المكتب وظبطنا بالجرم المشهود.. برافو.. نجحتِ وبقيتِ مراتي.. صحيح مبروك يا مدام.. نسيت أبارك لك..
وحرك إحدى يديه ليجذبها من شعرها مقبلاً شفتيها بقسوة.. قبل أن يدفعها بقوة فتسقط على الأريكة التي خلفها بعنف وهي تضع وجهها بين كفيها.. وتنخرط في موجة جديدة من البكاء لتخبره من وسط دموعها:
ـ حرام عليك يا يزيد.. ليه بتقول الكلام ده..
هتف بغضب بها:
ـ ليه!!.. يعني تدخلي عليا وش الفجر.. وتصحيني من نومي.. ترمي نفسك في حضني.. وأنتِ عارفة كويس إيه اللي ممكن يحصل بينا.. وأنا نبهت عليك وطلبت منك تبعدي.. وأنتِ مصرة.. وبعد ما اللي حصل حصل.. افتح عينيه آلاقي أبويا في وشي.. وعايزة تفهميني أن دي مش خطة عشان تبوظي جوازي من ريناد!!..
هزت رأسها بألم وقد خنقتها الدموع وهي تردد بعذاب:
ـ حرام عليك.. والله حرام عليك..
صرخ بجنون وقد أصابته دموعها في مقتل فهو لا يحتمل رؤية دموعها.. لابد أنه جن بالفعل:
ـ وقفي الدموع دي.. حالاً..
هزت رأسها بيأس وكأنها غير قادرة على ايقاف دموعها بينما سمعته يخبرها:
ـ بالنسبة لأمي.. هنبلغها أن جوزانا.. مؤقت وعلى الورق حماية ليكي من أعمامك.. لحد ما أوصل لها الحقيقة تدريجي.. مفهوم؟..
أومأت موافقة.. بينما تردد هو قبل أن يخبرها بكلمات موجزة ولكن حاسمة:
ـ جوازي من ريناد.. هيتم في ميعاده.. هي ما لهاش ذنب في الجنون اللي حصل..
رفعت عينيها إليه وقد ظهر الألم فيهما بوضوح.. والتمع سؤال حائر بهما قرأه بسهولة ولكنه لم يمتلك له إجابة.. فهو غير قادر على تحديد وضعها من حياته.. فهرب من عينيها ليكمل باقي كلماته:
ـ أهم حاجة.. علاقتك بنيرة دي تتقطع نهائي.. أظن كفاية قوي اللي حصل لحد دلوقتِ..
ـ نيرة!!.. وهي دخلها إيه؟..
ـ عايزة تفهميني أنها مش صاحبة الفكرة والتخطيط؟!.. يمكن كانت فاهمة أنها بتضرب عصفورين بحجر واحد تنتقم من ريناد.. وبالمرة نتجوز أنا وأنتِ..
لم تحتمل نيرة_التي ألصقت أذنها بباب الغرفة_ سماع المزيد من اتهماته الظالمة.. وانتابتها نوبة غضب مجنونة فالتقطت أقرب ما وصل إليه يدها وكان تمثال خشبي صغير لحصان يمتطيه فارس ملثم.. وفتحت باب الغرفة بقوة فأصدر صوتٍ عالٍ فالتفت يزيد على الفور لتفاجئه بإلقاء التمثال في وجه مباشرة ليصيب أنفه بقوة.. وترتد رأسه للخلف قليلاً.. حتى كاد أن يفقد توازنه بينما هي تصرخ به:
ـ هي مين دي اللي خططت ورسمت؟.. الخطط دي تعرفها أنت وأصحابك والهانم خطيبتك المحترمة.. ولا أنت ناسي؟.. أنت عايز ترمي غلطتك على أكتاف أي حد غيرك وخلاص!.. خططنا إزاي أنا وعليا؟.. هااه.. فهمني!!.. هو مين كان يعرف أنك هتيجي المزرعة؟.. ولا أنه أونكل عصام هيجي وراك؟.. وأيوه أنت مجرم.. أنت هتكدب الكدبة وتصدقها.. ولا هي كانت شربتك حاجة أصفره قبل ما ترمي نفسها في حضنك.. زي ما بتقول..
تجمد يزيد من هجوم نيرة المفاجئ ولم يجد ما يجبها به بينما سمع صرخة خافتة من علياء وهي تهتف:
ـ يزيد أنت بتنزف.. مناخيرك بتنزف..
رفع يده إلى أنفه ليشعر بتدفق الدماء وألم حارق بدا أنه شعر به للتو.. وأحس بعلياء تجذبه من ذراعه لتجلسه على الأريكة وهي تخبره من وسط دموعها التي لم تجف:
ـ ميل راسك لقدام.. لا .. لا.. قدام مش ورا.. عشان الدم ما ينزلش في حلقك.
صرخت بها نيرة:
ـ أنتِ خايفة عليه!!.. سامعة كل الكلام الفارغ اللي بيقوله وما ردتيش بــأي كلمة.. ودلوقتِ خايفة عليه.. أنتِ هتجنينني!!..
تحركت علياء بسرعة لتجهز له كمادة باردة وهي تخبر نيرة بتعجب:
ـ ده بينزف يا نيرة!
نظرت نيرة إليها بذهول وهي تضع الكمادة الباردة على أنفه وتحاول إسناد رأسه برقة بينما بدا على الحقير الإستمتاع باهتمامها به.. وكأنه يريد الاثبات لنيرة أنه هو الأهم عند علياء..
صاحت نيرة بغيظ وهي تخرج من الغرفة:
ـ يا ربي.. أنتِ مجنونة.. والله العظيم مجنونة.. أنا هكلم مازن يجي ياخدني من بيت المجانين ده..
ظلت علياء جالسة على ركبتيها أمام يزيد تحاول ايقاف نزيف أنفه.. أما هو فكان يتأمل كلمات نيرة التي صدمته أكثر من صدمة التمثال الطائر..
بأعمق أعماقه يدرك أنها محقة بطريقة معينة.. ولكن ترتيب الأحداث بتلك الطريقة يشعره أنه أحمق سقط في الفخ بأقدم الطرق.. وذلك يدفعه إلى الجنون.. كما تفعل جلستها الآن بين يديه كما فعلت ليلة أمس تماماً.. يبدو أن نيرة محقة.. فالحمقاء الصغيرة مهتمة بإيقاف نزف أنفه فقط وغير مدركة لما تفعلها جلستها تلك به.. هل تظن أن الجنون الذي قد عصف بهما قد انتهى بما حدث الليلة الماضية؟.. حاول بصعوبة السيطرة على فوران جسده الذي يحثه على ضمها إلى وتقبيل كل إنش في وجهها وجسدها.. وتلك المرة سيأخذ وقته بالكامل.. فهي أصبحت له.. صوت خافت من أعماقه هتف به أن يترك الفتاة وشأنها ويكفي ما حدث.. ولكنه أسكته على الفور.. لقد تزوجتها للتو.. أليس كذلك؟.. أين الخطأ إذاً؟..
قطعت همستها أفكاره بعد أن نجحت في ايقاف نزف أنفه:
ـ خلاص النزيف وقف..
حاولت النهوض من جلستها فمنعتها يديه التي تشبثت بذراعيها وهو يتأمل وجهها الذي أغرقته الدموع.. مد يده ببطء ليمسح دموعها برقة شديدة أصابتها بالذهول.. ما الذي يفعله؟.. هل ينوي القضاء على عقلها وقلبها الذي ينتفض تحت تأثير لمساته.. وتلك النظرة.. آه.. أنها تلتمع في عينيه مرة أخرى..
رفعها يزيد ليتمكن من احتضانها جيداً وهو يخبر نفسه.. أنه لم يخطئ فهي أصبحت زوجته بالفعل.. بينما هي رفعت ذراعيها لتطوق بهما عنقه وتبادله قبلاته كما تعلمت منه وهي تفكر أنها كانت محقة فيزيد يعاني بالتأكيد من الشيزوفيرنيا!..


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-18, 02:04 PM   #15

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الثاني عشر


تأمل يزيد وجه والدته والذي ظهرت عليه علامات الشحوب والألم.. أغمض عينيه محاولاً الهروب من عينيها التي ترمقه بذهول غير مصدقة الخبر الذي ساقه لها منذ دقائق فقط... جسد وجهها المعنى الحقيقي للألم والصدمة وهي تحاول استيعاب كلماته.. غير قادرة على تكوين جملة واحدة تعبر بها عما يجول بصدرها وعقلها من شعور قاسٍ بالخيانة.. كيف يفعلها ابنها؟.. كيف تخونها قطعة منها؟.. كيف تفقد زوجها وابنها لنفس المرأة؟.. نعم نفس المرأة.. بأعماق سهام لا فرق بين نادية وعلياء ابنتها..
لقد عانت منذ سنوات الشعور القاتل بإهمال زوجها لها.. بأنها غير كافية له.. كانت تسمع منه تذمره وشكواته المتتالية من انشغالها في جمعياتها الخيرية.. أو حفلاتها وإهمالها في حقوقه.. تلك الحفلات التي كانت تقيمها له ومن أجله حتى تتسع أعماله وتتعمق علاقاته تحولت لتصبح عذره وذريعته ليخونها بدلاً من المرة.. مرات.. وهو يظنها غافلة عن عبثه ومجونه.. لكنها كانت تعرف.. في كل مرة يفعلها ويخون عهود زواجهما كانت تعرف.. وهل هناك أقرب للرجل من امرأته لتشعر بوجود أخرى, بل أخريات في حياة زوجها..
ومع كل خيانة يأتي إليها باكياً معتذراً.. طالباً عفوها وغفرانها متعذراً بأزمة منتصف العمر التي يحاول جاهداً التخلص منها.. لكنها مع كل صك عفو تمنحه يموت بداخلها جزء.. تتجمد مشاعرها ويتحول حبها له إلى لامبالاة كريهة.. فلم يتبقَ لها إلا كبرياء أنثوي أجوف اغتاله بإعلانه خبر زواجه من نادية.. وسحب منها كل حق لاختيار الابتعاد والمحافظة على ما بقي من كرامتها عندما أخبرها بما تعانيه نادية من مرض عضال.. فالزوجة الجديدة.. الجميلة والرقيقة.. تصارع الموت.. الذي يطرق بابها كل يوم..
كيف يمكنها صب غضبها على امرأة تحتضر؟.. كيف تصرخ بزوجها وتطالبه بالاختيار بين وفاء لزوجة أولى.. رفيقة الدرب وأم الولد.. وشفقة على زوجة ثانية تسحب منها أنفاس الحياة؟.. لابد أن تكون شيطان حتى تفعل هذا!.. حتى اختيارها لتكون ذلك الشيطان سلبها إياه عندما اصطحبها بخدعة لتقابل نادية.. التي أصرت على مقابلتها طالبة عفوها قبل أن تسلم روحها إلى خالقها..
وبعد موت نادية بعدة أيام دخل عليها عصام مصطحباً طفلة ضئيلة الحجم ليفاجأها بصدمة جديدة:
ـ سهام.. دي تبقى عليا.. بنت نادية الله يرحمها.. وهتعيش معانا من النهادره
نظرة واحدة إلى علياء لتجدها نسخة مصغرة من أمها.. وأيقنت أن القدر رحمها أخيراً ومنحها رفاهية الكراهية.. الكراهية في أقسى صورها للطفلة الصغيرة التي لم ترى فيها سوى خيانة عصام وفجور نادية..
أساءت معاملتها.. لا تنكر.. أهملتها وهمشتها.. وأخيراً نفتها إلى المزرعة لترافق الجد القعيد..
مرت السنوات وهي تحاول أن تتناسى الجرح والصفعة المؤلمة لأنوثتها, ليأتي ابنها اليوم ويطعن أمومتها بإخبارها أنه تزوج من الفتاة الصغيرة!..
لم تهتم لسماع تفسيره لتلك الزيجة أو تبريره لما قام به.. لم تدري بنفسها إلا وصراخها الهيستيري قد ملأ المنزل رفضاً واعتراضاً..
كلا لن ترضخ تلك المرة.. لن تترك ابنها لتلك الفتاة لتلف حبائلها حوله لتفقده مثلما فقدت أباه..
حاول التوضيح لها بهدوء:
ـ ماما.. يا ماما أرجوكِ اسمعيني..
دفعت يده بعيداً وهي تهمس بغضب:
ـ عايز مني إيه؟؟.. روح للهانم اللي اتجوزتها..
ابتلع ريقه بصعوبة وهو يلقي بكذبته المفضوحة:
ـ قلت لك ده كتب كتاب بس عشان نحميها من طمع أعمامها.. ونرجع أرضها..
وأضاف بعجلة:
ـ ده كان رأي المحامي.. عشان تتنقل الوصاية المالية من أعمامها..
سخرت أمه وادعت تصديق كذبته قائلة:
ـ وهو ما فيش غيرك!.. أي واحد بيشتغل عند أبوك كان قام بالمهمة.
انقبض قلبه بشدة لمجرد تخيل علياء تنتمي لرجلٍ آخر.. فغمغم قائلاً:
ـ ما ينفعش طبعاً.. لازم حد يكون ثقة..
قاطعته أمه:
ـ وريناد؟..
تردد قليلاً فهتفت أمه بغيظ:
ـ ايه هتلغي جوازك من بنت خالتك عشان الهانم ولا إيه؟!.. أنت مش كنت هتجنن عشان نقدم ميعاد الفرح؟..
ـ أيوه يا ماما.. بس..
صرخت أمه بقوة:
ـ عايز تفضح بنت خالتك بعد ما وزعنا دعوات الفرح والبيت بيتفرش.. عايز تسيبها وتخلى بيها؟..
ـ لا يا ماما.. أنا ما قلتش كده.. أنا بس خايف أن ريناد ترفض.. ده قصدي.. لكن أنا هكلمها وأقنعها و..
قاطعته أمه بحسم:
ـ لا.. أنا اللي هكلمها وهقنعها كمان.. بس جوازك من اللي اسمها عليا دي.. ما فيش حد يعرف عنه أي حاجة.. أنت فاهم ولا لأ؟..
ـ لأ طبعاً.. جوازه من عليا هيكون معلن.. ومعروف للجميع.. ولا أنت لك رأي تاني يا يزيد؟
ألقى عصام جملته وهو يدلف إلى حجرة سهام متجاهلاً معالم الانهيار البادية على وجهها ومركزاً نظراته على يزيد فقط الذي غمغم بهدوء:
ـ لا يا بابا.. حضرتك عندك حق.. الجواز لازم يكون معلن..
قاطعه عصام بغضب مكبوت:
ـ أيوه.. أنا حتى كنت ناوي أعملها فرح, بس هي رفضت..
صرخت سهام بهلع:
ـ إيه.. فرح!!.. مش هو كتب كتاب وبس عشان الأراضي..
أجابها عصام وهو يرمق ابنه بنظرة نارية:
ـ اسألي ابنك!..
عاد صوت سهام يعلو وهي تلتفت ليزيد الذي رمق والده بنظرة متوسلة.. فهو أدرك أن والدته على وشك الإصابة بإحدى النوبات الهيستيرية.. والتي اعتاد عليها بعد زواج والده.. فحاول عصام حل الموقف قائلاً:
ـ لازم إشهار.. علشان نقدر نرفع القضية ونرجع أرضها.. وعشان كمان لو اتقدم لها حد تاني يكون في عندنا سبب للرفض.. البنت كبرت وبيجيلها كل يوم عرسان.. وخلاص.. أنا أساساً اتصرفت ونشرت خبر جوازهم في كام مجلة اجتماعية..
شحب وجه سهام وهي تتصور شقيقتها وابنتها تتلقيان الخبر عن طريق المجلات.. فهتفت:
ـ اخرجوا بره انتوا الاتنين.. وسيبوني أدور على طريقة أتفاهم بيها مع أختي..
أومأ عصام وخرج بهدوء بينما ترافقه نظرات القهر والألم من عيني سهام.. فهو لم يتغير.. يجرح قلبها ويطعن كرامتها ولا يتذكر حتى أن يراضيها بكلمة إلا بعد أن تنهار حزناً..
لمح يزيد والدته تسحب بعض أقراص من قارورة صغيرة وتبتلعها.. فتحرك بسرعة نحوها:
ـ أقراص إيه دي يا ماما؟
ربتت على كفه بهدوء:
ـ ما تخافش يا يزيد.. دي هتخليني أنام شويه.. بس أعصابي تهدى عشان أعرف أكلم ريناد واتفاهم معاها..
*************
جلس مازن على الأرجوحة الخفيفة بشرفة الفيلا الخاصة بعامر غيث.. ينتظر وصول نيرة وهو ينفث دخان سيجارته بكسل عندما سمع صوتها يأتي من خلفه:
ـ ما كنتش أعرف أنك بتدخن..
لف رأسه نحوها ليراها قادمة بقامتها الهيفاء وقد ارتدت فستان فيروزي قصير التصق بجسدها متمسكاً بعنقها بشريط يلتف حوله.
أخذ يتأملها بنظرة تقدير ذكورية جعلت معدتها تنقبض وهي تلمح عينيه تجري على شعرها الأحمر الذي جمعته بطريقة عشوائية تاركة بعض خصلات تداعب بشرة عنقها الطويل, وأكملت عينيه جولتهما على بشرة كتفيها الوردية وصدرها الممتلئ الذي أظهره نحافة خصرها ووركيها الدقيقين.. مروراً بساقيين مرمريتين وملفوفتين باغراء.. ثم عادت عينيه لترتفع إلى عينيها.. وتلك النظرة مازالت تسكنهما..
تساءلت في صمت عن تلك النظرة التي تلمحها في عينيه لأول مرة أم ربما كانت موجودة من قبل وهي لم تنتبه لها..
سألته مرة ثانية لتقطع الصمت:
ـ من إمتى بتدخن يا مازن؟
هز كتفيه بلامبالاة:
ـ يمكن من... وأنا في ثانوي.. ليه في حاجة؟..
توسعت عيناها بشدة.. ما بال هذا الرجل!.. هل كانت عمياء لتغفل عن تفاصيله؟.. أم أن حبها لحسن أعمى عينيها عن أي شيء آخر..
هزت كتفيها تحاول تبني لامبالاة مماثلة:
ـ لا ما فيش حاجة.. بس دي أول مرة أشوفك تدخن!
ـ في حاجات كتير ما تعرفيهاش عني يا نيرة.. بس بكره هتعرفيها.. أنا هعلمك..
برقت عيناها بقوة وهي تفهم التلميح المزدوج الذي سبب لها رعشة خفيفة, وبخت نفسها بشدة.. ماذا أصابها لتتفتت أعماقها تحت تأثير ذلك الرجل؟.. ألم تقرر في لحظة مجنونة وحسن يهدد ويتوعد أن تنتقم منه ومن أخيه سوياً..
هل لاعترافه بحبها أثر في ذلك الإرتباك الذي أصبح يصيبها في وجوده؟..
هزت رأسها لتنفض عنها ذلك الضباب الذي سبب لها نوعاً من الغباء.. وتحركت لتجلس ملتصقة به على الأرجوحة وتحركها بخفة.. شعرت على الفور برد فعل جسده استجابة لجسدها الملتصق به مما عزز ثقتها بتأثيرها عليه..
اقتربت منه لتلف كفيها حول ذراعه وتلقي برأسها على كتفه.. بينما يراقبها من أسفل رموشه بصمت.. منتظراً خطوتها التالية.. ولم تتأخر بالفعل وهي تسبل له برموشها وتسأله بصوت ناعم:
ـ هو صحيح اللي أنا سمعته؟.
أمسك يدها قبل أن تصل أصابعها العابثة إلى زر قميصه العلوي.. وحاول التحكم في أنفاسه اللاهثة وهو يسألها:
ـ سمعتِ إيه؟
ترددت قليلاً:
ـ امممم.. أن أونكل حاتم حرم حسن من كل حاجة حتى الشغل؟
نغزة قوية شعر بها في قلبه عند سماعه اسم حسن يخرج من شفتيها.. شعور لا إرادي بالغيرة اجتاح عروقه.. يعلم أنه تقدم لخطبتها وهو مدرك تماماً لمشاعرها أو لما تظنه مشاعر ناحية شقيقه.. ولكنه لا يعلم إذا كان سيمكنه التغلب على ذلك الألم في كل مرة ستنطق بها اسمه..
أفاقه صوتها المتألم وهي تهمس:
ـ آه.. مازن سيب إيدي..
نظر بذهول ليجد أصابعه تضغط على يدها المستريحة على صدره بقوة كادت أن تحطم أناملها النحيلة..
نهض من مكانه فجأة يتأملها وهي تفرك أناملها حتى تخفف من الألم.. فغمغم بسرعة:
ـ أنا آسف.. ما قصدتش..
لم تهتم بألم يدها.. بقدر اهتمامها بالوصول إلى غايتها.. فنهضت بدورها لتقترب منه وهي تحط بكفيها على كتفيه وتلتصق به هامسة:
ـ وأنا كمان ما قصدتش اللي أنت فهمته..
ثم سمحت لأناملها بالتجول قليلاً على وجنته وذقنه وأكملت:
ـ أنا أقصد أن دي فرصتك دلوقت عشان تكون الكل في الكل وتسيطر على إدارة الشركة..
لمحت نظراته المستنكرة فاستدركت:
ـ تحت إشراف أونكل حاتم طبعاً..
أخذ مازن يتأمل ملامحها.. التصاقها الشديد به.. أناملها التي تسعى إلى إغوائه وإلهائه بلا هوادة حتى يغيب عنه المغزى الحقيقي لسؤالها أو لاهتمامها بأمور عمله.. إنها تريد الإنتقام لكرامتها.. يكاد أن يقرأ غرضها الحقيقي بأحرف كبيرة لامعة مرسوم في عينيها.. وهي تغطي ذلك بغطاء محترم يمثل لهفة الخطيبة على مصلحة خطيبها..
لفها بذراعه ليضغطها على جسده قليلاً ويرفع ذقنها لتواجه عيناها عينيه.. وأخذ يرمقها للحظات بنظرات غير مفهومة قبل أن يمد يده ليمسك كفها الذي يتجول على وجهه بلا رادع ويدس به شيئاً ما.. هامساً في أذنها:
ـ شبكتك يا حبي!
بسطت يدها لتجد بها علبة مخملية صغيرة.. فتحتها فلمحت خاتم من الذهب تعتليه ياقوتة حمراء دائرية الشكل تحيطها عدة ماسات صغيرة.. لتشكل حبة الياقوت قلب زهرة وقطع الماس الصغيرة هي أوراقها...
شهقت نيرة إعجاباً بالخاتم وأسرعت تضعه في إصبعها وتتأمل شكل يدها به..
ـ وااااااو.. مازن.. ده تحفة.. كأنه متصمم علشاني..
وافقها قائلاً:
ـ فعلاً.. هو اتصمم علشانك..
رمت ذراعيها حول عنقه هاتفة:
ـ وااااو.. ميرسي يا حبيــ..
وضع أصابعه على فمها ليمنعها في الاسترسال:
ـ أما تقولي كلمة حبيبي.. لازم تقصديها.. دي مش كلمة تتقال بدل شكراً ولا ميرسي.. ماشي..
رمقته بغيظ.. فهو يدللها بيد وبالأخرى يمسك لها العصا.. ولكن رغم هذا.. لن يستطيع الإفلات من سحرها.. لن تكون نيرة غيث إن لم تجعله كخاتم آخر في إصبعها بجوار خاتمه المذهل هذا..
زمت شفتيها قائلة:
ـ أنا زعلانة منك..
ـ ليه؟..
ـ يوم ما كلمتك من المزرعة عند عليا وقلت لك عايزة أروح.. فاكر؟..
ـ أيوه.. قلتِ عايزة أروح بعت لك السواق وروحك.. فيها إيه دي؟..
ابتعدت عنه فجأة وهي تضع يدها بخصرها وقد انساها بروده دور المغوية الذي تحاول تقمصه وهتفت بحنق:
ـ ليه بعت لي السواق؟.. ما جيتش أنت ليه؟..
تحرك ليواجهها وهو يخبرها باستفزاز:
ـ كنت مشغول..
برقت عيناها بغضب وسمعته يسألها:
ـ أنتِ كمان ما ردتيش على تليفون واحد من تليفوناتي..
همست بغيظ:
ـ كنت مشغولة..
أرجع رأسه للخلف وهو يطلق ضحاكات عالية.. ثم مد يده ليداعب ذقنها:
ـ مشغولة بتكسري مناخير يزيد!
سألته بتوجس وهي تبعد ذقنها عن متناول يده:
ـ هو قالك ايه؟..
ـ قالي على اللي حصل..
شهقت بخوف وهي تتلعثم:
ـ ايه.. قالــ..
قاطعها:
ـ قالي إن خطيبتي المجنونة اتنرفزت عليه وكسرت مناخيره.. علشان رفض يرجعها معاه في العربية.. مش هو ده اللي حصل برضوه؟
ضغطت نيرة على أسنانها بعنف.. فلولا ولائها لعلياء لكانت فضحت هذا اليزيد.. ولكنها لا تستطيع المجازفة بسمعة الغبية الصغيرة..
كادت أن تومئ موافقة على الكذبة التي أخبره بها يزيد.. إلا أنه سبقها قائلاً:
ـ خلاص يا نيرة.. أنا مقدر إخلاصك لعليا.. هي بنت كويسة وأكيد يزيد هيقدر يحميها بعد ما بقيت مراته..
هزت رأسها بعجز.. كيف تخبره أن علياء بحاجة لمن يحميها من يزيد وجنونه خاصة بعد زواجه منها وامتلاكه الحق في التواجد بحياتها بكل الطرق الممكنة.. والأدهى من سيحميها من جنون سهام عندما تعرف الحقيقة..
شعرت بيده تربت على كتفها:
ـ ما تقلقيش على عليا.. صدقيني.. يزيد كفيل بأنه يحافظ عليها كويس قوي..
ثم نظر في ساعته ليتحرك معها نحو باب الفيلا مردفاً:
ـ بكره.. هعدي عليكِ نروح نشوف الفيلا اللي اخترتها.. وبالمرة ننقي العفش..
ـ إيه!!.. بسرعة كده..
ـ نيرة.. أنا وضحت لك قبل كده أني مش عايز الكلام يكتر.. كل ما هنطول مدة الخطوبة كل ما الأسئلة هتزيد..
ودعها بقبلة دافئة على وجنتها قبل أن يتوجه إلى سيارته وينطلق بها.. تاركاً إياها تفكر أنها استمتعت حقاً بأول لقاء لها مع خطيبها الجديد.. وأنها أيضاً لم تحصل منه على إجابة تخص استيلائه على إدارة الشركة.. حتى تضمن أن تضع رقبة حسن تحت أصابعها.. لتلويها فتكسرها.. أو تعفو عنه بعد أن يعود معترفاً بخطئه..
***********
جلست منى تنتظر عودة حسن في قلق.. تخشى أن يعود من مقابلة العمل وهو يحمل نفس الرد.. اعتذار مُحرج من صاحب الشركة مع نصيحة ودودة بتسوية خلافاته مع والده..
أسبوع كامل منذ عودتهما من الأسكندرية.. وحسن يخرج يومياً باحثاً عن عمل بلا جدوى.. وبدا من الواضح أن والده أغلق أمامه جميع المنافذ بإحكام.. فالمؤسسات الكبيرة رفضت استقباله من البداية.. بينما أصحاب الشركات الأصغر اكتفوا باعتذار مقتضب عن مقابلته.. ولم يبق إلا المكاتب الصغيرة والمبتدئة والتي بدأ حسن بطرق أبوابها منذ يومين ولم يحقق نتيجة إلى الآن..
تذكرت قول حسن لها بأنهما على وشك الدخول في حرب ضروس مع والده.. وأيقنت أنه بالفعل عدو شرس لا يرحم.. فبخلاف إيقافه لكل الامتيازات المالية لحسن.. وتدخله الواضح لمنعه من العمل في أي مكان.. فقد سلبه شقته التي أعدها حسن من أجل زواجهما.. واضطرهما ذلك للمكوث في إحدى الشقق المفروشة.. والتي اقترض حسن إيجارها من جدته.. السيدة روح.. والتي تمده سراً بالأموال وتحاول مساعدته خفية عن والده.. وذلك يسبب غضب حسن الشديد.. فهو رافض لمبدأ الاقتراض وطلب المساعدة.. ولكن يده مغلولة ووالده يحكم عليه الخناق مع مرور الوقت.. حتى سيارته.. تم سحبها منه.. ولجأ حسن للمواصلات العامة في بحثه اليومي عن عمل لائق..
سمعت صوت الباب يغلق فتحركت مسرعة لتستقبل حسن الذي بدا على وجهه ملامح الإحباط الشديد.. فاقتربت منه لتحيطه بذراعيها بقوة وقد أدركت أنه في حاجة إلى المواساة:
ـ معلش يا حسن.. بكره الظروف هتتحسن..
ضمها إلى صدره وهو يغمر وجهه في شعرها.. مستمتعاً بنعومة ملمسه ومستمداً من دفئها وحنانها قوة هو في أمس الحاجة إليها..
همس لها:
ـ أنا لقيت شغل..
ابتعدت عنه قليلاً:
ـ بجد يا حسن!.. أومال مالك؟.. شكلك زعلان!..
أحاط كتفيها بذراعه واصطحبها ليجلسا على إحدى الأرائك:
ـ هو مكتب هندسي صغير.. ومش هشتغل باسمي.. هجهز التصميم.. وصاحب المكتب هو اللي هيحط عليه اسمه..
ـ بس كده يا حسن مجهودك وشغلك كله هيضيع.. ما فيش حل تاني؟..
ـ الحمد لله إني قدرت أوصل لكده.. بس..
ـ بس إيه يا حسن؟..
ـ المرتب مش هيكون كبير قوي.. يعني مش هيكفي حتى إيجار للشقة دي..
ترددت منى قليلاً قبل أن تهمس بخفوت:
ـ يا حسن أنا ممكن أشتغل وأساعد.. بلاش تنشف دماغك.. إحنا لازم نساعد بعض..
انتفض حسن هاتفاً بغضب:
ـ منى.. اقفلي على الموضوع ده نهائي.. أنا مش ممكن أسمح أن مراتي تتبهدل عشان أنا مش قادر أصرف عليها.. أنتِ متجوزة راجل.. فاهمة!..
اقتربت منه تحتوي غضبه برقة وهي تطوق عنقه بذراعيها وتداعب ذقنه بعبث:
ـ تعرف أني كده هزعل منك.. أنا فاهمة أني متجوزة راجل وسيد الرجالة كمان, لكن أنت ما تنساش أني كنت بشتغل قبل ما نتجوز وده لا قلل مني ولا قلل من أبويا.. ولا إيه؟..
أحنى رأسه خجلاً:
ـ أنا ما اقصدش طبعاً يا منى.. أنا كل اللي بفكر فيه أني لازم أحميكِ وأكون قادر على أني ألبي كل طلباتك.. افهميني.. احساسي أني مقصر..
رفعت أناملها لتضعها أمام شفتيه لتقطع كلماته:
ـ يا حبيبي.. أنا يكفيني اللي أنت عملته عشان نكون مع بعض..
رفعها بين ذراعيه لتصبح عينيه في مواجهة عينيها:
ـ أنتِ بس تقوليلي يا حبيبي.. وهموم الدنيا كلها تختفي في ثواني...
همست أمام شفتيه:
ـ حبيبي..
ضغط شفتيه على شفتيها بتوق يزداد مع اقترابه منها.. مع وجودها بين ذراعيه.. عمق قبلته ليرتوي من شهد حبها.. وكأنه سيرتوي يوماً!..
**************
فتحت عينيها لتجد نفسها وحيدة في الفراش.. تثاءبت بكسل وهي تلمح أثر رأسه مازال مطبوعاً على الوسادة بجوارها.. ثم ما لبثت أن وصلتها رائحة التبغ لتدرك أنه مازال معها في الغرفة..
دعكت عينيها بظاهر يدها لتلمح قامته بطولها المميز وقد وقف يدخن سيجارته في النافذة مرتدياً بنطاله فقط.. وبدا بعيداً بأفكاره..
سحبت نفسها من الفراش ولفت جسدها العاري بالمفرش الحريري.. وتوجهت نحوه لتحيط صدره بذراعيها وتمرغ أنفها في ظهره بعبث.. ثم تسحب اللفافة المحترقة من بين أصابعه لتضعها بين شفتيها مطلقة عدة أنفاس قبل أن تهمس جوار أذنه:
ـ ايه اللي شاغلك؟.. برضوه بتفكر فيها؟..
سمعت صوته ينهرها بعنف:
ـ دنيا.. احنا اتفاقنا كان واضح.. أنتِ حاجة وهي حاجة تانية.. ومافيش داعي تجيبي سيرتها كل شويه..
لفت جسده بين ذراعيها وهي تضمه إليها بشغف وتهمس بتوسل:
ـ آسفة.. يا حبي..
سكت ولم يرد عليها.. فأحاطت عنقه بذراعيها وهي ترفع نفسها لتطبع على شفتيه قبلة استجاب لها بعد عدة لحظات.. بينما هي تهمس بين أنفاسه:
ـ مازن.. بات الليلة هنا.. عشان خاطري ما تروحش...


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-18, 03:05 PM   #16

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الثالث عشر

دخلت سهام إلى فيلا شقيقتها بعدما اصطحبها يزيد إليها واشترطت هي عليه الانتظار في السيارة حتى تقوم باستدعائه..
استقبلتها ريناد بوجه شاحب واجم.. ودموع متجمدة في مقلتيها.. فتحت سهام ذراعيها فارتمت بينهما ريناد على الفور لتنفجر عاصفة الدموع المحتبسة خلف أجفانها..
احتضنتها سهام لفترة حتى شعرت بها تهدأ بين ذراعيها.. فأبعدتها قليلاً.. ومسحت بعضاً من عبراتها.. واصطحبتها بحنان لتجلسها على إحدى الأرائك وتجلس بجوارها.. تربت على كتفها برقة:
ـ في إيه بس يا حبيبة خالتو؟.. هو أنا مش كلمتك وفهمتك.. ليه بقى الدموع دي؟..
أجابتها ريناد من وسط دموعها:
ـ بتسأليني برضوه يا خالتو!.. ده التليفون ما بطلش رن من الصبح وكل صحباتي بيسألوني.. والباقي إما شماتنين أو صعبانة عليهم..
ـ هو أنا مش فهمتك كل حاجة.. والحكاية مجرد لعبة عشان يردوا للبنت دي أرضها..
برمت ريناد شفتيها بنزق:
ـ يعني أنا المفروض أقعد أفسر لكل واحد أصل الموضوع ولا إيه؟
اقتربت منها سهام وهي تخبرها ببطء ضاغطة على كل حرف:
ـ لا طبعاً.. سيبيهم يقولوا اللي يقولوه..
انتفضت ريناد من مكانها بعنف:
ـ ازاي بس يا خالتو.. يعني أسمع بوداني التريقة والشماتة.. وإن حتة عيلة صغيرة خطفت مني خطيبي قبل جوازنا بأسبوعين واسكت!
وتحركت لتمسك مجموعة من العلب المخملية.. لتضعها أمام سهام وهي تشير اليها بحزن:
ـ خلاص يا خالتو.. دي الهدايا بتاعته وشبكته.. وربنا يهنيه معـ.. معها..
جذبتها سهام من ذراعها بعنف لتجلسها بجوارها على الأريكة مرة أخرى:
ـ اقعدي كده.. واعقلي.. بلاش الاندفاع ده.. حكمي عقلك يا ريناد.. عايزة تهدي كل حاجة عشان جوازه فشنك.. وتأكدي الكلام اللي بيتقال.. وإنها قدرت تاخده منك فعلاً.. وأنك بعد فترة الخطوبة دي كلها معرفتيش تحافظي على خطيبك؟؟!!.. ولا نتمم الفرح في ميعاده.. وساعتها الناس هتتكلم عليها هي.. والعيب هيكون فيها هي.. وخاصة لما المصلحة تخلص ويطلقها.. وتبقي أنتِ وقتها اللي عرفتِ تحافظي على بيتك وجوزك.. والناس زي ما اتكلمت هتسكت وهتنسى..
تأملت ريناد خالتها في دهشة.. فهي لم تفكر في الموضوع بتلك الطريقة أبداً..
فلو تم الأمر مثلما تقول خالتها.. فمن ستكون مضغة في الأفواه علياء, وليست هي.. و..
لكن.. لا.. لا.. حتى هذا لا يجعلها توافق على أن تكون زوجة ثانية على الأقل في عيون الناس.. حدثت نفسها بعنف:
"لا.. لا.. مش ممكن.. مستحيل أوافق!"
لم تدرك أنها تكلمت بصوتٍ عالٍ إلا بعد أن سمعت خالتها تجاوبها بقوة:
ـ إيه يا ريناد؟.. ناوية تسيبي يزيد لها ولا إيه؟.. والنهارده جواز على ورق بكره يبقى حقيقي.. ويبقى يزيد ضاع مني.. أقصد مننا.. ده غير الإشاعات اللي هتطلع عليكِ.. والكل هيدور على الغلط اللي فيكي اللي خلا خطيبك يسيبك قبل جوازكوا بأسبوعين!
شهقت ريناد بقوة وهي تنهض مرة أخرى وتهتف بخالتها بعنف:
ـ أنتِ اللي بتقوليلي الكلام ده يا خالتو, أومال باقي الناس هتقول ايه!.. وكمان عايزاني أقبل أكون زوجة تانية.. إزاي ترضيهالي بس!.. إزااااي!!..
تحركت سهام لتضمتها إلى صدرها وهي تهمس لها باقناع:
ـ فين التانية دي!.. ما قلنا جواز صوري.. على ورق.. يعني أنتِ هتكوني الأولى في كل حاجة.. أنتِ أول حب.. وأول خطيبة.. وأول فرحته.. أنتِ ناسية هو كان هيتجنن قد إيه عشان يقدم ميعاد الفرح.. ده كان قرب يتهبل وأنتِ بتسويه على نار هادية..
رددت ريناد بتردد:
ـ أيوه يا خالتو.. بس اهوه اتجوزها.. و..
قاطعتها سهام تحاول اقناعها بما تظن أنه الحقيقة:
ـ عصام هو اللي أجبره.. لو تشوفيه وهو واقف قدام باباه مش قادر يعارضه وهو بيقوله أنه أعلن خبر الجواز, كان صعب عليكِ.. يزيد اتعذب بيني وبين أبوه كتير.. كل ما يقرب مني ويراضيني يحس أنه بيظلم أبوه, وكل ما يطاوع أبوه.. آجي أنا وأعمل أزمة.. يزيد محتاجك يا ريناد.. لازم تقفي جنبه.. حتى عشان يقدر يتخلص من مصيبة عليا اللي عصام أجبره عليها دي..
حاولت ريناد أن تتكلم ولكن عادت سهام لمقاطعتها:
ـ شوفي.. هو مستني بره الفيلا.. قاعد على نار منتظر أنك تسامحيه.. أنا هكلمه وأقوله ياخدك يعزمك على العشا في مطعم فايف استارز.. لسه فاتح امبارح.. وهكلم كام صحفي من اللي بيغطوا لي أخبار الجمعيات الخيرية عشان ياخدوا كام لقطة حلوة وأنتوا سهرانين مع بعض.. وبكده هيكون كأنه تكذيب لخبر جوازه المشئوم ده.. ولو حد سألك عن الخبر اضحكي.. واسكتي.. وبكده.. أي حد شمتان ولا حاقد ولا.. ولا.. هيكون مش قادر يصدق خبر ارتباطه بعليا.. وهيكون كأنه إشاعة هتعدي وتمر.. خاصة لو أكدتِ على ميعاد جوازكوا.. فاهماني يا ريناد؟.. ما تخليش الناس تشمت فيكي ولا تضحك عليكِ..
سألتها ريناد بخفوت وقد بدا أنها اقتنعت بكلامها:
ـ طيب وأتعامل معاه إزاي؟.. هقوله إيه؟..
ـ ولا تجيبي سيرة البنت دي نهائي.. ولا تفكريه بيها.. ما هو أنتِ كل ما هتسألي.. كل ما الموضوع ممكن يكبر في دماغه.. اتعاملي عادي.. اضحكي وابتسمي.. وأنا هقوله أنك سامحتيه وقدرتِ ظروفه... وده من شدة حبك له.. كمان هخليه ياخد أجازة من الشغل الكام يوم اللي جايين دول ويكون معاكِ في كل حاجة عشان تجهزوا الفيلا بتاعتكم.. ماشي يا رورو؟..
أومأت ريناد موافقة وقد اتسعت عيناها قليلاً وهي تتخيل اللحظة التي تنتهي تلك الأزمة وتعود هي الوحيدة في حياة يزيد..
وبالفعل نفذت ما اتفقت عليه مع سهام بالحرف فضغطت على أعصابها حتى لا تصرخ بوجهه أو تفاتحه بشيء.. كان عقلها يحترق بكثير من الأسئلة تخشى أن تعرف اجابتها.. أو لعلها تعرفها ولكنها تكذب احساسها..
حاولت قدر استطاعتها التعامل معه بطريقة عادية, بل أنها زادت في دلالها وغنجها معه ولكن تلك المرة كان بناء على نصيحة من أمها والتي أوصتها أن تشغل عقله بكل الطرق حتى لا يفكر لحظة في استغلال الزواج الصوري بينه وبين علياء..
كانت قد قررت أن تقوم بذلك بالفعل, ولكن ما يقلقها أنه لم يعد يتلقى دلالها وحبها الذي بدأت تظهره له بوضوح بنفس اللهفة والشغف القديم.. بل تشعر أنه يفتعل الانسجام والتفاعل معها.. ولكنه في أحيانٍ أخرى يكون غاية في الرقة والحنان.. لعلها تظلمه فهي لا تنكر أنها أصبحت تنفعل عليه وبشدة.. وتصرخ به بعصبية زائدة.. لأتفه الأسباب.. والآن والزفاف قد أصبح على بعد عدة أيام عادت الهواجس تنتابها من جديد.. ولم تجد لها أذناً لتسمع إلا خالتها سهام.. التي كانت بدورها تفكر بكل الطرق كيف تبعد يزيد عن علياء.. ومعاً.. توصلتا لفكرة ماكرة.. وبقي فقط التنفيذ..
**************
تجمدت ملامح عامر وهو يقرأ الكارت الذي قدمته له مديرة مكتبه.. وهي تخبره بأن سيدة في الخارج ترغب في رؤيته..
تأمل حروف اسمها بحنين قاتل.. ولولا وجود مديرة مكتبه لقبل الكارت..
فريدة هنا!.. في مكتبه وتريد رؤيته!.. هل عادت أخيراً؟.. من ملكت قلبه وهربت به.. تاركة له جزء منها.. ابنتها صبا..
أشار إلى مديرة مكتبه:
ـ قولي للمدام تتفضل..
خطت فريدة داخل مكتبه بثقة.. لمحة سريعة جعلته يدرك التغيير الذي حل بها.. بداية من كعبيها الشاهقيين إلى تنورتها القصيرة.. وصولاً إلى البلوزة الحريرية ذات الأكمام الطويلة وقد جمعت شعرها الأشقر في ربطة متحفظة خلف عنقها.. لقد تغيرت الفتاة الصيبيانية ذات السروال الجينز والتيشيرتات القطنية.. وتحولت إلى امرأة ناضجة, رائعة قادرة على ايقاف قلبه ولعاً بها.. لكن ذلك التغيير لم يؤثر على الجاذبية التي تجمعهما معاً, والتي شعر بها فور دخولها إلى المكتب..
نهض من خلف مكتبه ليرحب بها:
ـ أهلاً يا فريدة.. حمد لله على السلامة.. اتفضلي..
وضعت فريدة يدها بيده الممدودة وهي تتوقع الرعشة التي سرت في جسدها للملامسته لها..
له ذلك التأثير عليها.. هي تدرك ذلك, ولكن ما يعزيها قليلاً أنها تملك نفس التأثير عليه.. ولم يخب ظنها وهي تشعر بإرتجافه خفيفة من جسده..
جلست على المقعد المواجه لمكتبه بينما عاد هو إلى مقعده يسألها بصوت حاول أن يجعله ثابتاً:
ـ أخبارك إيه؟.. صبا بتقولي أنك مرتاحة في باريس..
أومأت موافقة:
ـ الحمد لله.. فعلاً أنا مرتاحة في باريس قوي.. ده غير كمان أن شغلي هناك كويس جداً..
ـ والله!!.. طب كويس.. بس إيه حكاية اللي اسمه غسان ده؟!.. ده لازق لك في كل حتة؟..
هزت كتفيها بلامبالاة:
ـ عادي.. هو يبقى مدير أعمالي.. مش صبا قالت لك؟..
ـ أيوه قالت لي.. بس ده مش مبرر أنه يظهر في كل صورة ويكون موجود معاكِ في كل مكان!
رفعت فريدة حاجباً واحداً وهي تسأله باستمتاع:
ـ ياااه.. أنت متابعني للدرجة دي؟..
ـ أنتِ ناسية أنك أم بنتي؟!
ـ لا مش ناسية طبعاً.. وعشان كده أنا جيت النهارده..
ـ أنتِ رجعتِ مصر خلاص ولا دي زيارة؟
ـ لا كده ولا كده..
ـ أومال إيه؟..
ـ يعني.. تقدر تقول شغل.. موضوع معرضي الجاي.. عن المرأة الشرقية.. وهقوم بجولة كده على كام محافظة.. في حاجة معينة في دماغي وعارفة إني هالاقيها على ملامح ستات مصر..
سأل بتعجب:
ـ وإيه بقى الحاجة دي..
ابتسمت بسخرية:
ـ القهر!.
ردد خلفها مذهولاً:
ـ القهر!!
أومأت:
ـ أيوه.. الست هنا.. دايماً مقهورة.. البيت, الأهل, الزوج, المجتمع, عادات وتقاليد.. ولو قدرت تتغلب على كل ده.. بتيجي مشاعرها هي اللي تقهرها..
ـ قصدك أنها ضحية في كل الأحوال؟..
ـ أكيد مش في كل الأحوال, بس في معظمها.. وعامة أنا بعمل معرض فني.. مش تحقيق صحفي..
ـ تمام.. بس برضوه ما فهمتش.. إيه علاقة صبا بده كله؟..
ـ عايز آخد صبا معايا..
ـجاء رفضه قاطعاً:
ـ لأ طبعاً.. أنتِ ما بتقدريش تراعيها وهي معاكِ في نفس البيت.. هتاخديها وتلفي بيها بلاد الله..
هبت بغضب:
ـ أنت بس اللي معتقد أني مش هقدر أراعيها.. ومانعها أنها تيجي تقعد معايا في باريس.. بتنتقم مني بيها..
أجابها بغضب مماثل:
ـ والله أنتِ اللي سبتيها من البداية وما بصتيش وراكِ وسبتيني وبعدتِ.. وبعدين ده كلامها هي.. مش مجرد اعتقاد مني..
تهالكت على مقعدها بألم:
ـ إيه!.. صبا بتقول أني مش بعرف أراعيها.. هي اللي بترفض تيجي لي؟..
تحرك ليربت على كتفها وقد قتله حزنها ولام نفسه لتسرعه الشديد ولكنه حمد ربه على عدم انتباهها لزلة لسانه:
ـ أكيد هي مش قصدها كده بالظبط.. بس هي بتحس أن وقتك مشغول ووجودها بيسبب لك حمل زيادة..
رفعت فريدة إليه عينين دامعتين وهي تتوسله:
ـ أرجوك يا عامر.. أرجوك وافق أنها تيجي معايا في الجولة دي.. أنا فعلاً حاسة أنها بعيد عني.. محتاجة أني أقرب منها..
ـ يا فريدة.. أنتِ هتكوني مشغولة قوي.. هتقدروا تقربوا إزاي؟
ـ مش هكون مشغولة للدرجة.. أنا مش هرسم اللوحات هنا.. أنا بس بدور على موضوعات.. لو رسمت هتكون اسكتشات مبدئية.. أرجوك يا عامر..
تنهد عامر مستسلماً:
ـ طيب.. إيه رأيك تيجي تتغدي معانا النهارده ونعرض عليها الموضوع ونشوف رأيها؟..
أومأت موافقة بامتنان:
ـ إن شاء الله هتوافق.. أنا هقنعها..
**********
كاد يزيد أن يفقد أعصابه وصوت ريناد الصارخ يكاد يصم أذنيه وهي توجهه ليعدل من وضع إحدى اللوحات التي يقوم بتعليقها بينما هو معلق على سلم متحرك.. يحاول التحكم في اللوحة الضخمة التي أصرت هي على شرائها وتعليقها على ذلك الحائط بالذات..
حاول أن يعدل من وضعها.. فعاد صوتها يدوي:
ـ لأ.. لأ يا يزيد.. اللوحة معوجة..
التفت لها وهو يهتف بحنق:
ـ ريناد.. دي تالت مرة أطلع أعدلها.. خلاص أنا زهقت..
وترك اللوحة كما هي ونزل ليواجهها:
ـ أنا تعبت.. كفاية لوحات وأنتيكات بقى.. أنا حاسس أني في متحف مش بيت!
هتفت ريناد به في غضب:
ـ وأنت زعلان ليه؟.. في حد يكره الشياكة والفخامة.. ولا أنت عايز تعيش في الـــ...
قطعت كلامها فجأة والتفتت لتبتعد عنه إلا أن يده تمسكت بذراعها بقوة قبل أن تتحرك وهو يسألها:
ـ سكتي ليه؟.. كملي كلامك..
ترددت قليلاً:
ـ أنـــا.. أنـ..ا.. ما اقصدش حاجة..
قاطعها قائلاً:
ـ لا.. تقصدي يا ريناد.. وبلاش نقعد نلف حوالين المشكلة بدون ما نواجهها.. ماما طلبت مني أني ما اتكلمش ولا أفاتحك في أي حاجة.. وأكيد طلبت منك كده.. والنتيجة خناقات وخلافات يومية بدون سبب.. لأننا سايبين جوهر المشكلة من غير ما نتكلم فيه.. أنا مش بحب نظام تخبية الراس في الرمل.. ده أساس المشاكل بين بابا وماما.. يا ريت يا ريناد نتكلم بصراحة..
التفتت له ريناد ببطء:
ـ أنا ما عنديش كلام..
ضيق عينيه متعجباً:
ـ ريناد.. بلاش تدي ودانك لماما وخالتي.. أنتِ مش كده.. دي مش شخصيتك.. مش ريناد اللي عرفتها طول حياتي.. اتكلمي معايا.. واسمعيني.. و..
قاطعته بقوة:
ـ ياااه يا يا يزيد.. ريناد بتاعة زمان!!.. أنت متوقع تلاقيني نفس ريناد القديمة.. طب إزاي؟.. أنا لسه بحاول استوعب اللي حصل.. بحاول أكون ريناد اللي بتحكم عقلها وتفكر كويس وتقرر بدون تهور ولا اندفاع.. بحاول أكون فعلاً ريناد اللي أنت أعجبت بشخصيتها دي.. مش فاهمة أنت كنت عايز إيه؟.. عياط وهيستريا وموقف عنيف.. ما انكرش أن ده رد فعل طبيعي.. وفعلاً فكرت أني آخد الموقف ده.. لكن على رأي خالتو.. معقولة أخسر خطيبي وحياتي عشان جوازه فشنك!.. عارف أكتر حاجة ضايقتني إيه؟؟ إنك لغيتني خالص من تفكيرك.. حتى لو أونكل عصام أجبرك على الموضوع فكان لازم تيجي تكلمني ونتفاهم ونتفق.. مش تاخد قرارك من نفسك..
أشاح يزيد بوجهه بعيداً.. فكما يبدو أن والدته أقنعتها أنه مجبر على الوضع, لذلك هي راضية صامتة.. ولكن شيء ما بأعماقه شعر بنفور شديد من منطقها وعقلانيتها.. نفور جعله يفكر للحظة أن يخبرها أنه ليس مجبراً وأن الزواج تم بإرادته, وأنه زواج دائم وليس لفترة كما يبدو أنها تعتقد, ولكنه وجدها قسوة شديدة منه.. وبكل الأحوال هو غير راغب في التعامل مع هيستريا أنثوية في تلك اللحظة..
زفر بحنق وهو يمسح وجهه بكفه فسمعها تسأله:
ـ يزيد.. لو عايز تفسخ الخطوبة قول على طول وما فيش داعي للف والدوران؟..
هز رأسه نافياً:
ـ لا.. أنا مش عايز أفسخ الخطوبة.. بس كنت أتمنى أننا نتكلم ونواجه بعض بصراحة.. تسمعيني واسمعك..
ـ أنا مش عايزة أفتح أي كلام في الموضوع ده.. أنا بحاول أتجاهله على قد ما أقدر.. أرجوك ما تجرحنيش أكتر من كده.. واحترم قراري ده..
ـ ما عندكيش أي فضول؟.. أي سؤال؟..
هزت رأسها بألم:
ـ السؤال اللي عندي مش عايزة أسمع اجابته..
ـ وأنا تحت أمرك لما تحبي تسألي وتسمعي الأجوبة.. وتأكدي إني مش هقولك إلا الحقيقة..
************
تأفف مازن بحنق وهو يحاول تسوية قميصه بعدما فصل بين يزيد وشاب ما.. كان يزيد يكيل له اللكمات بعنف.. واضطر مازن أن يغير طريقه بعدما كان متوجهاً إلى مطعم النادي ليلاقي نيرة هناك.. فتحرك مسرعاً ليبعد يزيد عن هذا الشاب الذي لا يدري بماذا أغضبه حتى يلكمه بمثل هذا العنف..
وما يثير غيظه أن يزيد التفت نحوه بغضب وهو يهدر به:
ـ أنت السبب.. أنت ورقصتك الملعونة..
ثم ابتعد عنه مسرعاً بدون أي كلمة أخرى.. بينما ضرب مازن كفيه ببعضهما وهو يتحسر على عقل صديقه الذي طار بالفعل منذ الرقصة الملعونة كما يسميها...
دلف إلى مطعم النادي المكيف وهو يبحث بعينيه عن شعلته الحمراء.. فلمحها على الفور.. جالسة مع فتاة ما على إحدى الموائد الجانبية.. ظن في البداية أنها علياء حيث كانت توليه ظهرها ولكن ما أن تقدم منهما.. حتى أدرك أنها لم تكن علياء, بل كانت دنيا.. دنيا خاصته..
**************
وصل يزيد إلى المزرعة وشياطين الإنس والجن تتلاعب أمام وجهه.. يتذكر ذلك الشاب الأحمق.. رمق قبضته للحظة وهو يتذكر لحظة أن أقحمها في وجه الشاب بغضب شديد.. ولكنه يستحق.. ذلك الأحمق يستحق.. فذاك أبسط عقاب لمن يجرؤ على خطبة امرأة من زوجها!..
نعم.. فالأحمق تقدم منه ليخبره أنه لا يهتم بما ذكر من شائعات عن علياء.. وأنه معجب بها جداً ويريد التقدم لخطبتها.. فهي شغلت عقله وقلبه منذ أن رآها ترقص مع مازن!..
الأحمق يريد خطبة زوجته!!.. إن اللكمة التي تلقاها أقل مما يستحق..
ولكن عن أي شائعات يتحدث!!.. هل تحول خبر زواجه من علياء الذي أشرف والده على توزيعه على المجلات إلى شائعة؟.. كيف؟..
زفر بحنق.. لو وافقت الحمقاء على إقامة حفل زفاف.. لعلم الجميع أنها له.. ملكه.. وتراجعوا على الفور.. ولكن.. ماذا عن أمه؟.. وريناد..
كيف يحل تلك المعضلة؟.. كيف يعلم الجميع أنها له؟.. لقد أدرك الآن حكمة والده من إعلان الخبر.. وعليه الآن أن يوصل الحقيقة إلى أمه بالتدريج.. قبل أن يحاول أحمق آخر خطبتها..
بدأ يبحث عنها في المزرعة وقد انتابه القلق.. فهي غير موجودة بأي مكان... ساورته الشكوك وهاجمته المخاوف.. أين ذهبت الحمقاء الصغيرة.. لقد مر على اصطبل الخيل ولم يجدها هناك.. يعلم أنها غاضبة منه.. ولها كل الحق.. فإذا كان يشعر بالغضب والحنق من نفسه ومما يفعله بها.. فهو الآن لا يستطيع تخيل مشاعرها نحوه..
تذكر كلمات والده بأنها رفضت أن يقام لها زفاف.. لقد ذُهل وقتها من رفضها.. فهو كان يحاول اقناع نفسه بكل الطرق أنها نصبت له الفخ وسحبته ليقع به بكامل إرادته, ولكن جاء رفضها القاطع للحفل الزفاف كصفعة مؤلمة له.. تنبهه أن يكف عن إلحاق الظلم بفتاته الصغيرة..
حاول بعدها الاتصال بها مرات عديدة, ولكن هاتفها كان مغلقاً.. ويبدو أنها ترفض استقبال أي مكالمة منه.. لا يلومها.. فمَن تلك التي سترغب في سماع صوته أو رؤيته بعد الطريقة التي غادرها بها آخر مرة..
وصل أخيراً إلى غرفة بخلفية الفيلا.. كانت قد استأذنت والده أن تستخدمها كغرفة للرسم.. وبالفعل حولتها إلى غرفة تحمل بصمتها في كل شيء.. وزعت بها شتلات القرنفل الذي تعشقه.. وتناثرت به بعض وسائد بعدة أحجام ونقوش مميزة.. مقاعد صغيرة مريحة وعدة بُسط بألوان ناعمة.. ذلك بخلاف اللوحات المتناثرة والتي تدل على موهبة علياء التي قررت تجاهلها منذ فترة.. خضوعاً لأوامر والدته..
كما ظن وجدها جالسة في حجرتها الصغيرة حيث كومت نفسها على أريكة متوسطة الحجم بدون ظهر وقد ألصقتها بالنافذة التي كانت تحدق إليها في شرود وصوت نجاة الذي تعشقه علياء يصدح في الخلفية..
"القريب منك بعيد والبعيد عنك قريب..
أخذ يتأملها وهي شاردة تردد كلمات الأغنية بقلبها قبل شفتيها..
بينما تتذكر آخر مرة رأته بها بعدما أوقفت نزيف أنفه, حيث لم يستطع مقاومة رغبته بها واكتسحها بعاطفة مجنونة لم تستطع مقاومتها أو حتى تذكر سبب واحد لرفضها لها.
وعندما أفاقت من غفوة بسيطة لم تجده بجوارها بل كان يرتدي ملابسه في صمت.. أخذت تراقب جسده الضخم الذي كان يحتويها منذ دقائق.. بينما يهمس في أذنيها بكلمات لم تحلم للحظة أن تسمعها منه.. وهو يعاملها بعاطفة مشحونة بالجنون والرقة معاً.. لكنه الآن يرحل في صمت!..
كل ده وقلبي اللي حبك لسه بيسميك حبيب.."
شهقة خفيفة ندت عنها جمدت جسده بالكامل قبل أن يلتفت لها وهو يخفض رأسه أرضاً ويهرب بعينيه بعيداً عن نظراتها المتسائلة والحائرة..
وأخيراً همس:
ـ آسف.. يا علياء..
رددت بذهول:
ـ آسف!!..
عدل كلماته:
ـ أقصد إني آسف عشان أزعجتك.. أنا مضطر أمشي الوقتِ..
عادت تردد كلماته كالببغاء الأبله:
ـ أزعجتك!.. أمشي!
أومأ برأسه موافقاً.. وتحرك ببطء حتى وصل إلى باب الغرفة تحت نظراتها المتجمدة.. ثم التفت فجأة وعاد إليها بسرعة ليطبع قبلة طويلة ودافئة على شفتيها ويهمس لها:
ـ خدي بالك من نفسك..
"حبيب عينيّ حبيب أحلامي حبيب دموعي وهنا أيامي..
أهون عليه أسهر بألامي وأتوه نجوم الليل بظلامي..."
أغمضت علياء عينيها وسمحت لبعض دمعاتها بالتسابق على وجنتها تتذكر خروجه السريع في ذلك اليوم.. لم تره من بعده لعدة أيام, ولكن على ما يبدو أنه كان يشغل وقته كله مع خطيبته الرسمية.. حيث أرسلت لها سهام عدة مجلات تحتوي على عدة لقطات مختلفة ومقالات صفراء تتساءل عن صحة خبر زواجه بها.. وهل كانت مجرد نزوة عابرة عاد بعدها وريث الغمراوي إلى خطيبته الحسناء؟.. أم أن الفتاة التي يكفلها عصام الغمراوي قد حاولت نسج شباكها حول ابنه لتنهج مسلك أمها في اختطاف رجل من زوجته أو تلك المرة خطيبته؟..
كانت تلك كلمات سهام.. هي متأكدة.. كلمات حقيرة.. تهين أمها وتتنال من شرفها.. تنتقم من أمها بها.. وهي من منحتها الوسيلة..
تلعن نفسها مرة على حبها له وألف مرة لاشتياقها المجنون لرؤيته.. تحلم به في الليلة ألف مرة.. وفي النهار تتخيل مئات الصور لهما معاً.. تتأمل صوره مع ريناد وتشعر بآلام غير مفهومة.. لم بدأت تغار من ريناد؟.. الوضع لم يتغير.. تجاهلت أحاسيس لم تدرك كنهها وهي تخبرها أن الوضع تغير وأنها بدأت تشعر نحوه بالتملك.. لذا ظهرت الغيرة.. لكن لا.. لا يحق لها أن تغار.. أنها هي من جارت على حق ريناد وليس العكس.. فعشقها لمن ليس لها لعنتها وحدها ويجب أن تدفع ثمنها بمفردها.. لذا فكرت بأن تبتعد ولكن إلى أين؟.. فأغلقت هاتفها هرباً منه وهرباً من الجميع..
كيف تكون بتلك العقلانية وذلك الجنون في نفس الوقت فهي تنتظر زيارته التالية.. لا.. لا تنتظرها.. بل تتوقعها.. فقد بدأت مقاومتها بالتلاشي.. وصمودها الواهي اختفي.. وهي على وشك تشغيل هاتفها والاتصال به..
"يا رايح للي فايت لي عيوني سهرانة ولا داري
أمانة اوصف له دمع عيوني طول ليلي ونهاري"
وهو.. هو لاه عنها أو على أقصى تقدير يتناساها.. معتقداً أنه قام بما عليه نحوها.. فهي أغوته وهو تزوجها.. هذا ما يعتقده.. متناسياً ما حدث في الليلة المشئومة.. تراجعها المذعور.. وهمسه المسعور بأن آوان التراجع فات..
"آه منك آه منك"
ورغم ذلك تدرك أنها لو اتصلت به الآن طالبة حضوره.. سيأتي.. ليغرقها بلحظات مجنونة يعقبها عقاب لها ولذاته.. ولكنها لا تملك سوى أن تحبه.. تعشقه.. تنتظره..
" "كل ده وقلبي اللي حبك لسه بيسميك حبيب
هزت رأسها ببؤس فتناثرت المزيد من الدمعات مع تناثر خصلاتها.. ولمح شفتيها تردد الجملة الأخيرة.. فانطلق منه السؤال لا إرادياً:
ـ ويا ترى أنا لسه حبيبك يا علياء؟..
انتفضت في مكانها وهي تلف وجهها نحوه فعاد شعرها يتناثر مرة أخرى مسبباً تشتيت انتباهه ومشاعره.. تأملته لفترة وهي تشعر بقلبها ينتفض وكأنه عجز عن مجاراة حبها المجنون وفرحتها برؤيته.. فسألته بخفوت:
ـ أنت جيت امتى؟..
رد عليها بآخر ما تتوقعه:
ـ ليه رفضتِ يتعملك فرح؟..
أشاحت بوجهها بعيداً لتواجه النافذة مرة أخرى:
ـ أنا ليا أسبابي!
كتف ذراعيه وهو حريص على أن يظل بعيداً:
ـ أقدر أعرفها؟..
التفتت له ولاحظ ارتجافة شفتها السفلى فأدرك أنها تقاوم نوبة من البكاء.. فنادى بتحذير:
ـ علياء..
هزت رأسها وهي تخبره بخفوت:
ـ مش هتفهمني.. عمو عصام اعتبرني واحدة مجنونة.. ويمكن عنده حق..
ـ طيب جربي تقنعيني؟..
ـ أنت جاي عشان كده بس؟..
وضعت يدها على فمها بسرعة بعدما أدركت المعنى الغبي لسؤالها الأحمق وهي تلمح نظرة عينيه اللامعة وتسمع إجابته:
ـ جاي اطمن عليكِ.. أنتِ قافلة الموبايل ومش بتردي على التليفون الأرضي..
همست:
ـ فيك الخير..
هتف:
ـ ليه؟
ـ ليه قافلة التليفون؟
ـ ليه بتهربي من الواقع؟.. خلاص جوازنا واقع.. و..
قاطعته بغيرة تظهرها للمرة الأولى:
ـ وجوازك من ريناد واقع..
وتحركت لتمسك مجموعة من المجلات المكومة في أحد الأركان لتضعها بين يديه.. وهي تكمل:
ـ تانت سهام وصلتِ لي المعلومة كويس قوي.. أنا عارفة أني غلطانة.. بس ما كانش له لازمة تيجي سيرة ماما في الموضوع..
ألقى المجلات بعنف وقد فهم أخيراً كيف تحولت الحقيقة إلى شائعة:
ـ دي شوية ناس تافهة.. وده كله حصل عشان أنتِ رفضتِ الفرح اللي كان هيقطع ألسنة الناس..
سألته بذهول:
ـ أنت موافق على فكرة الفرح؟.. أنا..
قاطعها بذهول أشد:
ـ أنتِ رفضتِ عشان خفتِ أني أنا اللي أرفض؟..
هزت رأسها نفياً:
ـ لا.. مش عشان كده.. أنا رفضت عشان ماما..
هز رأسه بعدم فهم:
ـ مامتك!!.. إزاي؟..
ـ مش هتفهمني.. و..
قاطعها وقد بدأ يشعر بالغضب:
ـ اتكلمي يا علياء..
كورت يدها في قبضة لتضعها بين أسنانها كعادتها كلما توترت وأخذت تتحرك بلا هدف في الغرفة وكأنها تحاول ترتيب أفكارها.. وأخيراً تكلمت لينتابه الذهول وينتفض قلبه مع كل كلمة تقولها:
ـ أنا.. أنا أما كنت صغيرة وماما الله يرحمها كانت عايشة.. زي أي طفلة ماما كانت تكلمني إزاي نفسها تشوفني عروسة.. وأنها هتفصلي فستاني بإيدها.. ماما كانت خياطة شاطرة.. حتى أنها اشترت القماش قالت أنها هتعينه لأنه كان حلو قوي.. وصممت كمان موديله.. وأنها يوم فرحي.. هتلبسني بايدها.. هتعدلي الطرحة.. هتسلمني لعريسي وهي بتوصيه عليّ.. وتوصيني كمان عليه.. وبعد أما.. ماما ماتت..
سكتت لحظة لتبتلع عبراتها واكملت:
ـ بعد موتها.. بقيت أقول أنها ما سابتنيش ومش هتنساني يوم فرحي.. وإنه أكيد روحها هتكون معايا.. بتبتسم لي.. وفرحانة بي.. وأني هبقى حاسة بيها حواليا.. يمكن كمان أشم ريحتها أو أحس ببوستها على جبيني.. لكن.. بعد اللي حصل مني..
سكتت وهي تاخذ نفس عميق:
ـ بعد اللي حصل استحالة أقدر ألبس فستان فرح.. هقول لأمي إيه؟.. هنتظر روحها يومها إزاي وأنا.. أنا.. فرطت في أمانتها..
وانخرطت في بكاء حاد قطع نياط قلبه فضمها لصدره بقوة.. وبداخله رغبة عارمة في محو بكائها وتحويله لفرحة ولكن كيف؟.. كيف وهو من سرق منها أمانتها؟.. سلبها باسم الحب ثم ألقى بالذنب فوق كاهلها لتتحمله وحدها.. ولكنه يحترق هو الآخر بذنبه نحوها.. وذنبه نحو أمه..
همس في أذنها:
ـ خلاص يا علياء.. أنتِ سلمتِ الأمانة لصاحبها.. وأنا الوقتِ المسئول عنك.. انسي الليلة دي.. انسيها وأنا هنساها.. ونبدأ من جديد..
ازداد بكائها ونحيبها.. كيف يبدآن من جديد؟.. كيف وهو سيتزوج من ريناد؟..
عاد يهمس:
ـ علياء.. كفاية.. أنتِ عارفة أن دموعك نقطة ضعفي..
رفعت رأسها عن صدره وهي تحركه غير مصدقة ما سمعته للتو وتحركت بعيداً عنه.. بينما تجمد هو الآخر وكأن كلماته خرجت بدون إرادته..
ـ أنت عايز تجنيني يا يزيد.. صح.. قبل كده قلت لك بطل الشيزوفيرنيا دي.. وزعلت مني؟.. بس أنت فعلا هتجنني.. نبدأ إزاي؟.. وفرحك اللي بعد كام يوم؟.. أنا كنت فاهمة أن جوازنا مؤقت.. وأنك هتنتظر لحد ما عمو عصام يهدى وتطلقني..
رفض بعنف:
ـ لا.. ما فيش طلاق..
ـ وتانت سهام.. وريناد.. و..
مسح وجهه بكفه وهو يزفر بحيرة:
ـ كل شيء هيتحل في وقته.. لكن طلاق.. ما فيش.. فاهمة.. واستعدي بعد ما تخلص قصة الفرح دي.. أنك هتتنقلي القاهرة.. أنا وصيت مازن يدور على شقة كويسة..
فتحت عينيها بذهول غير مصدقة ما يقوله:
ـ أنت بتتكلم جد!
ـ أكيد مش بهزر في حاجة زي كده..
ـ بس..
ـ ما فيش بس.. ده اللي هيحصل.. وعلى ما نكون جهزنا الشقة هتكون الصورة وضحت عند الناس كلها..
صمتت ولم تعرف بم ترد.. فما يقوله يعني أنها ستصبح زوجة ثانية.. أو أولى.. لا تعرف ماذا تطلق على نفسها؟.. ولكنها تعلم أن سهام ستقتلها وستقيم حفل شواء على جسدها وستساعدها ريناد بلا شك!..
كانت غارقة في أفكارها فلم تشعر أنه اقترب إلا بعد أن لف خصرها بذراعه وهو يهمس لها:
ـ وباقي إجابة سؤالك.. أنا جيت لأنك وحشتني.. وحشتيني قوي..
وعاد صوت نجاة يصدح..
"ياللي آمر من بعدك لقاك ياللي أمر من هجرك رضاك
يا غربتي وأنت بعيد عني يا غربتي وأنت قريب مني"
ضمت نفسها لجسده أكثر وهي تجيبه بمثل همسه:
ـ واجابة سؤالك أنت هتفضل حبيبي لآخر لحظة في عمري..
"يا حب.. أقول له ايه؟.. يا حب.. أسامحه ليه؟.
دا العذاب هو اللي يسامحه والسهر هو اللي يسامحه
والدموع هي اللي تسامحه"


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-18, 03:49 PM   #17

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الرابع عشر


وقف مازن وقد فرج ساقيه وكتف ذراعيه على صدره تشع من حوله طاقة من الغضب تعكسها عيناه بوضوح وهو يتأمل دنيا التي جلست على أحد المقاعد وقد شبكت أناملها, تهز ساقها بلامبالاة وقد وضعتها فوق الأخرى فانكمش طول التنورة القصيرة من الأساس فكانت تصل بالكاد إلى منتصف فخذها...
قطعت دنيا حلقة الصمت وسألته بهدوء بارد:
ـ هتفضل ساكت كده كتير؟
خرج صوته يضج بغضب مكتوم:
ـ بحاول أفهم إيه اللي حصل النهارده ده؟..
نهضت بغتة من جلستها وواجهته بغضب مماثل:
ـ أوعى عقلك يوديك لحتة غلط.. أنت عارفني كويس.. وعارف أنه مش أنا اللي أعمل كده..
فك ذراعيه ولم يرد بأي شيء بينما أظهرت عيناه غضب مشتعل.. فرفعت دنيا سبابتها ووكزته بها في صدره عدة مرات وهي تهتف به:
ـ علاقتك بها ما تهمنيش في حاجة.. وبكررها تاني أنا ما اعملش كده.. لو كنت من النوع ده صدقني كانت حاجات كتير اتغيرت وأنت عارف كده..
فك ذراعيه وقلل من تحفزه قليلاً وقد شعر بالندم لأنه جدد جراحها من جديد:
ـ أنا آسف يا دنيا.. بس لازم أفهم.. إزاي أنتِ ونيرة اتقابلتوا وليه؟
ـ نيرة هي اللي اتصلت بيا وحددت الميعاد.. عايزاني أصمم لها فستان الفرح
ـ هه..
قالها بسخرية مستفزة جعلت درجات غضبها ترتفع للسماء فهتفت به:
ـ أظن أني ما كدبتش عليك ولا مرة طول السنتين اللي فاتوا.. ومش هاجي أعملها النهارده.. وأكيد برضوه هي قالت لك هي كانت معايا ليه.. ولا إيه؟
هدأ غضبه قليلاً وهو يتذكر ثرثرة نيرة في السيارة عن المُصممة التي على وشك دخول أبواب العالمية وعن اتفاقها معها لتصمم ثوب زفافها.. كانت كلماتها تتبخر فوق مراجل غضبه من دنيا فلم يركز في حديثهما إلا قليلاً..
عاد صوت دنيا يهتف به:
ـ أنت روحت فين؟.. مازن.. أنت لسه مش مصدقني؟..
غمغم بتعجب:
ـ وإيه اللي يخلي نيرة اللي بتطلب هدومها مخصوص من باريس, تطلب منك تصميم فستانها!
كتفت ذراعيها وهي تجيبه ساخرة:
ـ ميرسي على المجاملة!
مسح وجهه بكفيه وهو يعتذر ثانية:
ـ أنا آسف.. ما اقصدش..
قاطعته بإشارة من يدها:
ـ بص يا مازن.. أنا هوضح الموضوع عشان مش عايزة أي سوء تفاهم بينا.. نيرة اتصلت بيا الصبح وطلبت تقابلني.. حددت لها ميعاد بعد أسبوع أكون رجعت من سفرية لبنان.. لكن هي أصرت على مقابلة فورية.. وأظنك عارف قد إيه خطيبتك ممكن تكون مقنعة..
لوى شفتيه ببسمة ساخرة بينما أكملت هي:
ـ حددنا الميعاد في النادي لأني مش هقدر أروح الأتيليه النهارده.. وآه.. هي سمعت عن العرض الأخير بتاعي في لبنان وأنت فاكر طبعاً سمَع إزاي.. وكمان في كذا ممثلة مشهورة لبست تصميماتي في المهرجان الأخير.. اسم دنيا الموجي مش أقل من أي مصمم معروف, ومش هسمحلك أنك تقلل من شغلي تاني..
سألها مستفهماً:
ـ طيب ليه وافقتِ تقابليها؟.. طالما عرفتِ هي مين, إيه لازمة المشاكل؟..
أشارت له بسبابتها موضحة:
ـ هي اتصلت بي عشان شغل.. شغلي خط أحمر.. ما فيش أي علاقات هتأثر على شغلي.. أظن أن ده كان ضمن اتفاقنا..
ـ يعني هتصممي لها الفستان؟..
ـ أكيد..
هز رأسه بصمت فهو يعرف كم هي عنيدة ولا تتراجع عن قراراتها وخاصة أن كانت تتعلق بعملها.. أجلى صوته وهو يسألها بتردد:
ـ وطلبت فستان شكله إيه؟
ابتسمت وهي تخبره:
ـ عايزه فستان تبهر بيه عريسها.. وما تحاولش تعرف تفاصيل أكتر..
ارتسمت على وجهه ابتسامة هادئة:
ـ كل اللي هطلبه أن موقف زي بتاع النهارده ما يتكررش تاني.. ممكن؟
هزت رأسها موافقة:
ـ أكيد يا مازن.. صدقني لو كنت أعرف أنك هتقابلها في النادي كنت غيرت مكان المقابلة..
ـ بس ما كنتيش هتبلغيني, صح؟..
أومأت موافقة وهي تلقي بحذائها العالي الكعبين بعيداً.. وتخلع سترة بذلتها لتظهر بلوزة ضيقة بلا كمين حددت معالم فتنتها بدقة وامتدت يدها لتحرر خصلات شعرها الطويل فانسدل كشلال أسود وصل لما بعد خصرها.. وتحركت نحوه بحركات مدروسة حتى اقتربت منه فأمسكت ذقنه بأناملها وهي تهمس:
ـ تؤ.. زي ما قلت شغلي منفصل عننا.. تمام يا حبي..
ورفعت نفسها حتى وصلت لشفتيه فقبلته بشغف.. وهمست له بصوت أجش:
ـ بس طالما إحنا هنا دلوقتِ.. ممكن أسمح لك تقنعني أني أقولك هقابلها تاني امتى؟..
لف خصرها بذراعه وهو يطبع قبلة خفيفة على وجنتها:
ـ مش فاضي دلوقتِ يا دنيا.. أنا متأخر على اجتماع مجلس الإدارة..
لم تسمح له بالابتعاد ولفت ذراعيها حول عنقه:
ـ مازن.. أنا مسافرة الليلة.. و..
قطع كلماتها جرس هاتفه.. فأبعدها قليلاً:
ـ شوفتي.. ده أكيد حاتم بيه.. عايز يخرب بيتي و..
توسعت عيناه وهو يرمق شاشة الهاتف:
ـ نيرة!..
لم يجب على الهاتف حتى سكت الرنين.. فسألته دينا بفضول:
ـ ما ردتش عليها ليه؟..
منحها نظرة لتصمت ولكنها لم تهتم.. وأكملت:
ـ ممكن تدخل تكلمها من جوه.. ولا أقولك أنا اللي هدخل عشان تكون براحتك.
تعالى صوت هاتفه مرة أخرى.. وقبل أن يغلقه.. أسرعت دنيا وأوقفته بغمزة من عينها:
ـ التقل صنعة يا بشمهندس.. بس بلاش تزودها.. رد على التليفون براحتك..
فتح مازن الخط ليجد صوت نيرة في أقصى حالات اضطرابه.. فهتف بها بقلق:
ـ في إيه يا نيرة؟.. اهدي بس وفهميني..
سكت قليلاً ليستمع إلى نبرتها المضطربة ثم طمئنها بهدوء:
ـ طيب.. خلاص.. ربع ساعة وهكون عندك..
رفع عينيه إلى دنيا فوجدها تبتسم بغموض ثم توجهت نحوه وطبعت قبلة خفيفة على وجنته:
ـ هسلم عليك بقى دلوقتِ لأن طيارتي كمان أربع ساعات.. أشوف وشك بخير..
أحاط خصرها بذراعه وهو يقبلها مودعاً:
ـ أشوف وشك بخير يا دنيا.. أول ما توصلي طمنيني..
أومأت برأسها موافقة وخرج هو ليلحق بموعده مع نيرة.. بينما ارتسمت ابتسامة حزينة على شفتيّ دنيا وهي تغمغم:
ـ يا بختها بيك يا مازن.. يا ريت بس ما تكسرش قلبك..
فقد كان يتردد في رأسها باقي جملة نيرة والتي لم تخبره بها..
"عايزة فستان أبهر بي خطيبي.. وأقهر بي خطيبي الأولاني ويندم ألف مرة على أنه فرط فيا"..
************
كان حسن يعمل على إنهاء بعض الرتوش النهائية بإحدى التصميمات التي كلفه بها صاحب المكتب الهندسي عندما جاءته منى بكوب من الشاي وبعض قطع الكيك, ووقفت بجواره وهي تداعب خصلات شعره وتهمس:
ـ حسن.. أنت لسه زعلان؟..
أخفض رأسه فوق لوحته وهو يكتم ابتسامته.. فهي تحاول مراضاته منذ ساعات وهو مستمر في التظاهر بالغضب.. فقط حتى يستمتع بدلالها له..
لفت ذراعها حول كتفه وهي تقترب منه أكثر وتهمس:
ـ أنا مش فاهمة بس مين اللي يزعل من التاني!!.. يعني بعد ما أجهز لك الغدا.. تغضب وتسيب الأكل وكمان مش عايز تكلمني ولا ترد عليّ..
ظل صامتاً ولم تسمع منه أي رد.. فسحبت ذراعها بهدوء وأولته ظهرها وهي تغمغم بحنق:
ـ براحتك.. أنا في الصالة لو..
وقبل أن تكمل كلامها وجدت نفسها تسحب للخلف بسرعة فشهقت بخوف وحسن يرفعها ليحشرها بين جسده ولوحة التصميم.. وهو يخبرها بضحكة مكتومة:
ـ بقى بذمتك الشيء اللي كان في الأطباق ده اسمه غدا؟!..
أخفضت رأسها وأحاطت عنقه بذراعيها وهي تخبره بصبر:
ـ يا حبيبي.. دي اسمها بصارة.. وبعدين دي طعمها حلو جداً.. ومفيدة كمان.. أنت قمت وسبت الأكل حتى من غير ما تدوقها!..
جلس حسن من جديد على مقعده وأوقفها بين ساقيه وهو يسألها بتردد:
ـ يعني الشيء الأخضر اللزج ده طعم كويس معقولة؟!.. طيب بتتعمل من إيه البتاعة دي..
ـ من الفول.. و..
قاطعها قبل أن تكمل:
ـ فول!!.. فول تاني!.. هيبقى فول في الفطار والغدا كمان.. ما هو البصارة من الفول والفول من البصارة يا مسعودي..
وكزته في كتفه وهتفت بحنق:
ـ بقى كده يا حسن بتتريق عليّ.. طيب أنا بجد بقى زعلانة.. و..
ضاعت باقي كلماتها بين شفتيه وهو يهمس:
ـ زعلانة يبقى لازم أصالحك.. دي المصالحة هي أحلى حاجة في الزعل..
وضعت رأسها على كتفه وهي تبتسم:
ـ أنت مش هتتكلم جد أبداً..
ـ لا يا ستي هنتكلم جد.. أنتِ تدخلي تغيري هدومك وأنا هعزمك على أحلى عشا.. بدل الغدا النص كم بتاعك..
ابتلعت منى سخريته من الطعام البسيط بدون أن تعلق عليها.. فهي تحاول معه تدريجياً حتى يكف عن بعثرة الأموال خاصة وأن راتبه مع العمل الإضافي الذي يقوم به بالكاد يكفي تكاليف الطعام.. ولولا أن جدته دفعت ايجار الشقة لهذا الشهر لأصبحا في أزمة بالفعل, وهو مُصر بعناد شديد على ألا يسمح لها بالعمل.. ولكنها لم تكف عن التفكير في حل لمشكلتهما.. وأخيراً وجدت حلاً معقولاً ولكنها لا تعرف كيف ستكون ردة فعل حسن عليه.. فكرت قليلاً ثم همست بأذنه:
ـ طيب أنا عندي اقتراح تاني.. هعملك عشا أحلى ألف مرة من بتاع بره وهنسهر سوا هنا لأني عايزاك في موضوع مهم..
غمزها بشقاوة:
ـ تصدقي وأنا عايزك برضوه في نفس الموضوع ده..
انفجرت بالضحك وهي تتملص من بين يديه:
ـ أشك أنه نفس الموضوع.. على العموم خلص شغلك هيكون العشا جاهز..
وبالفعل أعدت له عشاء شهي مضحية بما كانت تنوي طهوه لغذاء اليوم التالي.. لكنها كانت ترغب في إرضائه حتى يستمع إليها بهدوء ودون غضب..
وبالفعل كان في مزاجاً رائقاً بعد أن تناولا العشاء.. رقصا معاً وهما يستعيدا ذكريات شهر العسل.. وحينما قاربت الموسيقى على الانتهاء, شعرت منى أن حسن على وشك حملها إلى غرفتهما ليلقنها أحد دروسه اللذيذة.. ابتعدت عنه قليلاً وهي تسحبه إلى الأريكة ليجلسا معاً واضعة رأسها على صدره وهي تداعبه بلطف:
ـ حسن.. عايزة أقولك على حاجة..
أجابها بهمس رائق:
ـ قولي يا حبيبة حسن..
شجعها مزاجه على الكلام فتحدثت بسرعة:
ـ حسن.. أنا فكرت في مكان نعيش فيه.. ما فيش داعي للشقة دي.. وخاصة أنه إيجارها عالي قوي.. وأنت قلت إنك مش هتقبل فلوس تاني من جدتك..
اعتدل حسن في جلسته وهو يسألها بجدية:
ـ مكان إيه اللي فكرتِ فيه يا منى؟.. إوعي تكوني فكرتِ أننا نروح نعيش عند باباكِ.. ده مستحيل..
ابتلعت منى ريقها فهي تعلم صعوبة ما ستقترحه على نفسه:
ـ حسن.. أوعدني أنك هتسمعني للآخر.. وهتفكر كويس في اقتراحي..
هز رأسه بحيرة ولكنه أجابها:
ـ أوعدك يا منى..
ـ شوف يا سيدي.. في فوق السطح في البيت عند بابا أوضتين مقفولين.. ما فيش حد بيستعملهم.. أنا أما كنت عندهم آخر مرة طلعت وبصيت عليهم.. لقيتهم محتاجين شغل بسيط.. ووهيكونوا مناسبين..
قاطعها حسن:
ـ مناسبين لإيه يا منى؟..
ـ حسن.. اسمعني للآخر.. إحنا لازم ندبر نفسنا وإلا هيجي الشهر الجديد واحنا مش معانا إيجار الشقة دي.. مش عيب ولا حرام لو قعدنا في أوضة فوق السطوح.. أنت دايماً كنت بتقول المهم نكون سوا.. وعشان ده يتحقق لازم نضحي.. أنا عارفة أنك ضحيت كتير وخسرت كتير.. بس معلش يا حسن هنضغط على نفسنا فترة لحد ما الأمور تهدى وتقدر ترجع لشغلك أو على الأقل تمسك شغل مناسب.. أرجوك فكر يا حسن.. أنا مش فارق معايا أني أعيش في فيلا.. أو شقة فخمة أو فوق سطوح..
بدا الإمتعاض الشديد على وجه حسن وهو يتصور حياته في غرفة فوق سطح منزل بحي شعبي.. وقرأت منى بوضوح امتعاضه هذا ولكنها لم تيأس..
فاقتربت منه وهي تضع بصوتها كل ما تملكه من دلال وغنج:
ـ عشان خاطري يا حسن.. عشان خاطري.. تيجي معايا نشوفها بس.. وبعدين تقول رأيك..
لم يجد حسن بداً من الموافقة على رجائها الحار وهو يعتصر عقله بقوة بحثاً عن حل.. عن مكان مناسب ليقيم به هو وزوجته.. بدون أن يرضخ لتهديد والده المستمر.. أو لاغرائاته المستترة.. والتي بدأت اليوم بالذات بعرض مبتذل حمله صاحب المكتب الذي يعمل به.. بموافقة والده على حل وسط.. وهو عودته إلى عمله القديم.. على أن يجعل زواجه من منى زواجاً سرياً..
سمع صوتها المتوسل:
ـ حسن..
ضمها إلى صدره وهو يدفن وجهه بخصلات شعرها:
ـ ماشي يا منى.. هاجي معاكِ بكره نشوف السطوح.. أنا عندي كام منى..
********
خيم الصمت التام على سيارة مازن الذي وضع كل تركيزه في القيادة بينما أخذت نيرة تتلاعب بقماش ثوبها ذو الأوان المتعددة والذي أجبرها مازن على ارتدائه في بداية السهرة.. رمقته بغيظ وهي تتذكر سعادتها وهي تتهادى بثوب سهرة من قماش الشيفون الأبيض له فتحة صدر مربعة.. وقد التصق قماشه بصدرها ثم تهدلت طبقاته حتى نهاية ساقيها.. مع كمين طويلين يكاد يصل طولهما لطول الفستان الأساسي.. كانت تبدو كحورية ملائكية.. ابتسمت بخبث.. بل كانت تبدو كعروس..
خطت عدة خطوات حتى وصلت إلى مازن الذي كان يجلس على الأرجوحة بالشرفة ويوليها ظهره كعادته.. كانت تغضب من حركته تلك في البداية.. إلا أن غضبها قد تحول سريعاً إلى لهفة لترى تلك النظرة بعينيه في كل مرة يلتفت بها نحوها وعيناه تكاد تحتوي ملامحها بنظرة شوق ولهفة.. إلا أنه تلك المرة.. لم يلتفت نحوها.. بل أخبرها بهدوء:
ـ اطلعي غيري الفستان يا نيرة..
هتفت بدهشة:
ـ أغيره!.. ليه؟.. أنت حتى ما شوفتوش.. والله مقفول ومش قصير..
شعرت به يبتسم رغم أنها لم ترى وجهه ولكنها سمعته يسألها بهدوء:
ـ بس أبيض صح؟
ضربت قدمها بالأرض غضباً وهي تهتف بحنق:
ـ عرفت إزاي؟
هز رأسه وقد ظهرت ضحكته تلك المرة:
ـ اطلعي غيريه يا نيرة.. وبلاش تلبسي واحد فضي.. الليلة فرح ريناد.. وهي العروسة..
هتفت بعناد:
ـ مش هغيره..
هز كتفيه وهو مازال يوليها ظهره:
ـ يبقى مش هنروح الفرح..
عادت تضرب قدمها بالأرض غضباً وهي تلتفت لتصعد إلى غرفتها وتغير ثوبها الأبيض بذلك الذي ترتديه الآن والذي يضم عدة درجات من اللونين الأزرق والأحمر, ولكنها اختارته تلك المرة عاري الصدر والذراعين والظهر أيضاً.. وكأنها تريد أن تثبت أنها صاحبة الكلمة الأخيرة..
التفتت له وهي تتأمل ملامحه عاجزة عن تفسير مشاعرها نحوه.. لا تنكر وسامته الواضحة.. فهي كانت تراه وسيماً دائماً.. لكن ما يجذبها نحوه ليست تلك الوسامة.. تشعر أنه مثل اللهب.. وهي ترى نفسها لأول مرة كالفراشة التي تنجذب بدون تفكير نحو شعلة قد تكون سبباً في هلاكها.. ولكن كيف؟.. كيف وهو يمتلك تلك القدرة الغير معقولة على فهمها.. واحتوائها أيضاً.. فلم تنسى يوم اتصلت به وهي في أقصى حالات الاضطراب لظنها بأن دعوة أبيها لفريدة لتناول الغذاء ما هي إلا مقدمة لعودتها الدائمة إلى حياتهم جميعاً.. ولم تهدأ إلا بعد أن أقنعها مازن بالجلوس مع ضيفتها على مائدة الغذاء والقيام بواجبات الضيافة كما يفترض بها كسيدة صغيرة لبيت والدها.. ورضخت نيرة لطلبه بنزق بعدما وعدها بأن يتواجد معها في تلك الجلسة.. والتي أدركت بعدها.. أن فريدة لن تعود لتصبح جزء من أسرتها ثانية.. رغم استشعارها بغريزتها الأنثوية.. أن فريدة مازالت غارقة في حب والدها.. إلا أنها كما بدا واضحاً.. قد قررت أن تتجاوز تلك المشاعر أو على أفضل تقدير.. تتجاهلها.
أخرجها من ذكرياتها توقف السيارة.. فسألت مازن بقلق:
ـ هي العربية عطلت ولا إيه؟.. إحنا لسه ما وصلناش المزرعة؟..
التفت لها وهو يجيبها بهدوء:
ـ المزرعة قريبة قوي.. والعربية سليمة.. بس أنا حبيت أقولك ما فيش داعي تحكي لعليا على أي حاجة شوفتيها في الفرح.. يعني الكلام بتاع البنات ده..
ضغطت على أسنانها بغضب:
ـ هو أنت شايفني معدومة الإحساس للدرجة دي!
ـ ما اقصدش يا نيرة.. بس ممكن الكلام ياخدكوا وتحكي من غير ما تقصدي.. وممكن هي كمان تسأل..
ـ اطمن.. أنا فاهمة كويس.. وعليا مش هتسأل هي أكيد مموتة نفسها عياط دلوقتِ..
أومأ موافقاً وهو يهمس:
ـ مسكينة..
سألته بغضب:
ـ إيه صعبانة عليك قوي؟..
تأملها لثوانِ ولم يتمالك نفسه من سؤالها:
ـ معقولة.. دي غيرة؟..
تجمدت بالكامل عندما سمعت سؤاله.. غيرة!.. معقول نيرة تغار؟.. تغار عليه؟.. رمشت عينيها بسرعة وهي تحاول.. فهم ما يدور بأعماقها.. ولكنها
لم تجد سوى فوضى مشاعر لم تفهمها.. وقررت ألا تحاول فهمها الآن على الأقل.. فقررت تغيير الموضوع..
فسألته:
ـ أنت اتضايقت من الكلام اللي قلته ليزيد وريناد؟..
أدرك أنها تتهرب من سؤاله.. ولكنه مررها تلك المرة وهو يبتسم ساخراً.. متذكراً ملامح يزيد ونيرة تلقي بقنبلتها فوق رأسه قائلة..
"ألف مبروك يا ريناد.. الفستان تحفة.. بسيط ومش مبهرج.. لايق عليكِ جداً.. أنا آسفة كان نفسي اقعد لآخر الحفلة.. بس عليا لوحدها الليلة.. وأكيد حالتها النفسية صعبة.. لازم أروح لها اهون عليها شوية"...
والتفتت إلى يزيد بنظرة صاعقة..
"مبروك للمرة التانية يا عريس"
عاد مازن إلى جميلته الجالسة بجواره وهو غير قادر على كتم ضحكاته التي تعالت وهو يتخيل الليلة العظيمة التي ينتظرها يزيد..
تأملته ضحكاته فابتسمت بدورها قائلة:
ـ يعني مش متضايق.. أنا عملت كده عشان خاطر عليا..
رمقها بنصف عين:
ـ خاطر عليا؟!
أشاحت بوجهها بعيداً:
ـ أيوه.. اطلع بقى بالعربية.. عشان اتأخرت عليها..
تأملها للحظات ثم أدار محرك السيارة ليقلها نحو المزرعة.. لتقضي ليلتها مع علياء الغارقة في أحزانها...
***********
وصل يزيد وريناد إلى الجناح الخاص بالعروسين والذي قام بحجزه ليقضيا فيه ليلة زفافهما قبل أن ينطلقا في الصباح إلى مدريد لقضاء شهر العسل كما اتفقا من قبل..
حاول يزيد أن يحملها ليدخلا إلى الجناح كما هو متبع ولكنها تخطته ودخلته بمفردها..
خطت عدة خطوات حتى توقفت في منتصف الصالة الخارجية للجناح.. عدة مقاعد تلتف حول أريكة وثيرة.. تتوسط الغرفة عربة طعام رصت فوقها عدة أطباق مغطاة يبدو أنها تحتوي على العشاء.. زجاجة من الشامبانيا توسدت دلو ملئ بقطع الثلج.. الأضواء هادئة وحسية ووريقات من الجوري الأحمر والأبيض تناثرت لتكون عدة قلوب صغيرة متناثرة على أرض الغرفة وتبدو أنها تمتد حتى غرفة النوم.. أجواء مثالية لليلة زفاف حالمة.. كما تمنت يوماً.. ولكن.. لكن ليس الليلة...
جالت عيناها في كل ركن بالجناح ماعدا المكان الذي وقف به يزيد الذي وقف يتأملها بفستان زفافها.. كانت جميلة.. مبهرة برقي خاص بها فقط.. شعرها جمعته خلف رأسها في تسريحة راقية.. وتناثرت زهيرات بيضاء صغيرة بين خصلاته.. زينة وجهها كانت بسيطة بخلاف المعروف عن زينة العروس.. فملامحها التي تميل للجمال الغربي لم تكن تحتمل الزينة الكثيفة.. لم تستخدم طرحة زفاف.. فلم تكن تتماشى مع الثوب الذي اختارته بعناية ليحدد معالم جسدها المغرية.. حيث احتضن جزئه العلوي صدرها وغطى ذراعيها بقماش التول الخفيف المطعم ببعض وردات من الدانتيل الأبيض أحاطت عنقها ونهديها بحميمية لتترك ظهر الفستان عارياً بالكامل بينما التف جزئه السفلي حول جسدها بإحكام وأحاطت خصرها بزنار ذهبي رفيع..
تصادمت نظراته -التي تظهر تأثره بالجمال الخارق الذي تجسده- مع نظراتها الباردة والتي تحمل حيرة شديدة ممزوجة بالعديد من الأسئلة والتي سببتها بالطبع جملة نيرة المقصود منها إثارة المتاعب..
قرر تجاهل هالة البرود المحيطة بها واقترب منها بهدوء طابعاً قبلة رقيقة على جبهتها تقبلتها بسكون مما شجعه أن يحيط خصرها بذراعه ليوزع قبلات صغيرة على وجهها حتى وصل لشفتيها فأخذهما في قبلة عميقة وهو يهمس في أذنها:
ـ مبروك.. يا ريناد.. يا أحلى وأرق عروسة..
تجاوبت ريناد مع قبلاته في البداية تحاول أن تجاري شغفه الواضح.. ولكن جملة نيرة عادت تدق في أذنيها كنواقيس عالية التردد.. فدفعته عنها فجأة وارتدت للخلف تحتضن نفسها بذراعيها وهي تهز رأسها برفض أصابه بالحيرة فقد كانت تتجاوب معه منذ قليل ولكنها فجأة سحبت نفسها منه وقد ظهر الرفض على كل ملمح من وجهها..
حاول أن يخطو خطوة نحوها ولكنها أوقفته بإشارة من يدها واستمرت حركة رأسها الرافضة.. فحاول طمأنتها:
ـ ما تقلقيش يا ريناد.. ما فيش داعي للخوف..
انطلق سؤالها فجأة بدون إرادة منها:
ـ جوازكوا صوري فعلاً؟
قطب يزيد حاجبيه وهو يسألها بهدوء:
ـ تفتكري ده وقت السؤال؟
تمالكت ريناد نفسها قليلاً ورفعت ذقنها بكبرياء:
ـ إيه.. عايز تعيش دور العريس؟.. يعني ما عشتوش قبل كده!
ـ ريناد.. أنا طلبت قبل كده أنك تستفسري على أي حاجة وأنتِ رفضتِ.. والليلة جاية تسألي!
ـ أنت قلت لي أنك هتجاوبني في أي وقت..
اقترب منها متجاهلاً إشارتها له بالابتعاد وأمسك كتفيها بيديه:
ـ ريناد.. الليلة فرحنا.. ليلة بينتظرها كل عريس وعروسة.. أوعدك أرد على كل أسئلتك بعدين..
نفضت يديه عنها.. وعادت تبتعد عنه من جديد وهي تتهمه بوضوح:
ـ وأنت زي كل عريس كنت منتظر ليلة فرحك؟.. بس المهم فرحك على مين فينا؟..
ـ ريناد..
عادت تهتف:
ـ صوري ولا حقيقي؟..
زفر بحنق وهو يفك ربطة عنقه ويخلع سترته ليلقي بها بعشوائية.. واتجه نحو نافذة الغرفة ليفتحها يعب من الهواء النقي.. برغم وجود التكييف البارد إلا أنه شعر بإختناق شديد..
استند بكفيه على زجاج النافذة المفتوحة وهو يسأل بدون أن يلتفت نحوها:
ـ كل ده تأثير كلمة نيرة؟
عادت تكرر وبدت كما أنها لم تسمعه:
ـ صوري ولا حقيقي؟..
أجابها بتردد:
ـ ريناد..
والتفت ليواجهها ليفاجئ بزجاجة الشامبانيا تطير بالقرب من أذنه وترتطم بالإطار المعدني للنافذة لتسقط مهشمة إلى قطع صغيرة ويسيل السائل الذهبي على قدميه..
رفع عينيه اليها بذهول.. فتلك الواقفة أمامه بخصلاتها الذهبية القصيرة.. والتي تناثرت حول وجهها ولمعت عينيها الذهبية بلمعة شيطانية لم تكن تشبه ريناد التي يعرفها بشيء.. كانت صورة لامرأة مثيرة للغاية.. ولكنها مرعبة للغاية أيضاً..
ـ ريناد..
قالها متردداً.. ولكنها ابتسمت ساخرة بمرارة:
ـ خلاص يا يزيد.. أنت جاوبت.. ويا ترى بقى الجواز مؤقت برضوه زي ما فهمتني؟
أخذ نفساً عميقاً قبل أن يقول:
ـ أنا ما قلتش أبداً أنه مؤقت.
ـ بس ما قولتش أنه مستمر.
زفر بحنق:
ـ أنتِ سمعتِ اللي كنتِ عايزة تسمعيه.. وصدقتِ اللي كنتِ عايزة تصدقيه..
وصفق يديه ببعضهما وهو يكمل:
ـ واخترتِ اسوأ وقت عشان تواجهي الحقيقة..
هزت رأسها بغضب:
ـ لأنها ليلة الفرح اللي كنت منتظرها, صح؟..
رد بدون أن يعي ما يقوله:
ـ لأن وقت التراجع فات!
برقت عيناها بألم عاصف ووجدت شفتيها تصرخان:
ـ طلقني..
مسح وجهه بكفه وهو يشيح برأسه بعيداً:
ـ ادخلي نامي يا ريناد.. عندنا طيارة الصبح..
التفتت لتمسك إحدى المزهريات المنتشرة في الجناح لتلقي بها نحو واحدة من المرآة المعلقة على الحائط خلفه وتتناثر قطع الزجاج في كل مكان مرافقة لصرختها:
ـ طلقني بقولك.. سامعني ولا لأ!..
لم يرد عليها وحاول أن يتحرك نحوها.. ولكنها أسرعت لتلتقط مزهرية أخرى لتلقي بها نحوه تلك المرة فاضطر للانحاء حتى يتفادها.. وقبل أن يعتدل وجد وسادة طائرة ترتطم بوجهه بعنف.. وريناد ما زالت تصرخ:
ـ طلقني يا يزيد..
هتف بها بغضب:
ـ اعقلي يا ريناد.. بلاش جنان.. أنتِ عارفة إيه معنى واحدة تطلق ليلة فرحها..
اعتصرت عينيها بقوة حتى لا تتساقط دموعها أمامه وقد تغلغلت جملته بين خلايا عقلها.. فكتفت ذراعيها بقوة وهي تقول بعنف:
ـ طلقها هي..
تنهد يزيد بقوة وهو يخبرها بهدوء قاطع:
ـ لأ..
برقت عيناها بغضب شديد وهي تلتفت حولها بجنون.. لتتناول كل ما تطاله يديها وتلقي به نحوه.. أو في المكان التي كانت تظن أنه واقف به فهو تحرك بعيداً عن مرمى أهدافها الطائرة ولكن الدموع التي كانت قد بدأت تتساقط من عينيها متمردة على إرادتها أعمت عينيها وأسالت زينتها على وجهها فلم تعد ترى أي شيء حولها سوى الغضب الحارق.. استمرت بتحطيم كل ما طالته يداها حتى تجمدت فجأة عندما لمحت نفسها في المرآة..
اقتربت قليلاً لتتأمل وجهها في المرآة المحطمة.. فشهقت بعنف وهي ترى مسخ لامرأة كانت فاتنة منذ دقائق قليلة.. فعيونها حمراء.. جفونها محتقنة بشدة.. والكحل الأسود حفر خطوط سوداء على وجنتيها.. طلاء شفتيها اختفى ولم تعد تذكر السبب.. وخصلاتها مشعثة وثائرة كعش طائر صغير..
سحبت نفساً عميقاً وتوجهت برأس مرفوعة نحو غرفة النوم وأغلقت الباب خلفها بشدة بدون أن تلقي نحوه نظرة أخرى... غابت قليلاً.. وعندما خرجت من جديد سمعت شهقة يزيد المكتومة وتنفسه السريع.. فابتسمت بسخرية وهي تدرك أنها حققت ما تريد.. فقد اختارت أقصر ثوب للنوم وأكثرهم إثارة وارتدته وحده بدون الروب الخاص به.. مشطت شعرها بسرعة.. لمسة أخيرة من طلاء شفاه أحمر قاني كالغضب الذي يتقافز أمام عينيها.. وانهت مظهرها برشة عطر تعلم أنه يفضله.. كادت أن تصيبه بأزمة قلبية.. وهي سعيدة بذلك فهو يستحق فقد مرغ كرامتها وكبريائها في الوحل.. بين أحضان تلك الحقيرة التي فضلها عليها.. لمحت عينيه تلتهم كل جزء من جسدها.. وتجري عليه بسرعة.. وشعرت بذبذبات الرغبة تشع من حوله بقوة.. فاتسعت ابتسامتها
وهي تجذب عربة الطعام وتكشف الأطباق واحداً تلو الآخر وتتناول طعامها بهدوء وتلذذ وسط حطام الجناح وتحت نظرات يزيد المذهولة.. أنهت طعامها سريعاً.. وتوجهت نحو غرفة النوم لتتوقف في منتصف المسافة وهو يسألها:
ـ على فين؟!
هزت كتفيها بلامبالاة:
ـ هدخل أنام عندنا بكره الصبح طيارة..
اختفت من أمام عينيه وتجمد هو حائراً.. هل يلحق بها أم يقضي ليلة زفافه على الأريكة.. صوت المفتاح الذي دار ليوصد بابها منحه الإجابة سريعاً فيما وصلت لأذنيه صوت طرقات على الباب.. فاتجه ليفتحه ووجد أحد عمال الفندق ينظر له بحرج وهو يخفض عينيه أرضاً:
ـ أنا آسف يا فندم.. أنا عارف أن الليلة فرح سعادتك.. ألف مبروك.. وربنا يسعدك ويقويك.. بس النزلاء اللي في باقي الدور بيشتكوا من الدوشة..
ألقى الرجل كلماته بحرج شديد ليفاجئ بأغرب رد فعل من يزيد الذي انفجر ضاحكاً بهيستريا...


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-18, 04:00 PM   #18

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الخامس عشر


تمدد يزيد على فراشه بأحد أشهر فنادق مدريد.. فندق ذو مبني أثري يعود للقرن الثامن عشر.. قام بالحجز به خصيصاً بعد اكتشافه هوس ريناد الحديث بالأنتيكات والتحف, ولكن الغريب أنه لم يلاقِ استحسانها على الإطلاق.. ولولا وجود التسهيلات والكماليات الحديثة.. من ساونا.. وقاعات للمساج والتجميل وبعض محلات الملابس ذات الماركات المعروفة لأصرت على ترك الفندق..
انتبه لها تخرج من الحمام وقد ارتدت بنطال جينز ضيق وفوقه قميص كريمي من الشيفون المبطن.. وجمعت شعرها للخلف مع زينة خفيفة جداً.. جاهد ليلملم بعض اللهفة نحوها ويظهرها على وجهه وهي تقترب منه وتطبع قبلة خفيفة على شفتيه لتخبره ببساطة:
ـ حبيبي.. أنا نازلة عندي جلسة مساج..
ـ تاني يا ريناد.. امبارح ساونا والنهارده مساج..
هزت كتفيها بلامبالاة:
ـ وإيه يعني.. هو مش شهر العسل ده عشان الاستجمام!
زفر بضيق:
ـ أيوه نستجم سوا.. نخرج سوا.. مش كل واحد لوحده..
رمقته بنظرة قاتلة.. ثم أخبرته بهدوء:
ـ بعد المساج, أنا هروح أعمل شوبينج.. تحب نتقابل على العشا؟.. أقولك ابقى كلمني ونتفق.. باي..
وخرجت من الغرفة تتهادى بحذائها العالي الكعبين بينما ترافقها نظراته الحانقة.. فبعد ليلة زفافه المدمرة ظهرت في صباح اليوم التالي بأبهى صورة لها.. وتعاملت معه وكأن الليلة السابقة لم تمر بهما أبداً.. لم يكن بحاجة لكثير من الذكاء ليدرك أن تحولها ذاك لمحادثة تليفونية طويلة أجرتها مع والدته ووالدتها.. لم يعرف بتفاصيل المكالمة بالطبع.. ولكن وصله نتيجتها.. وهي استعدادها الكامل للاستمرار في زواجهما بكل ما تعني الكلمة من معنى..
لم يعرف لم أصابه ذلك بالقلق على علياء وخاصة من والدته التي بالتأكيد وصلتها حقيقة الزواج.. الآن هو في مدريد غير قادر على حمايتها كما يجب.. وحتى والده لن يستطيع محادثته فهو بالكاد يحادثه منذ ذلك الصباح في غرفة المكتب بالمزرعة.. ولن يستطيع مطالبته بالحفاظ على علياء وحمايتها من والدته.. فذلك كفيل بخلق مشاكل لا حصر لها بين والديه..
لذا فقد قام بالشيء الوحيد الممكن وهو مطالبة نيرة_عن طريق مازن بالطبع_ أن تقنع علياء بالإقامة معها.. لحين عودته.. وهو ما رحبت به نيرة بشدة, فهي بحاجة إلى علياء لمساعدتها في تجهيزات زفافها.. وها هو الآن يحاول الاتصال بها.. للمرة المائة أو أكثر فقد تعب من كثرة العد.. ولكن كما توقع هاتفها مغلق.. متى وكيف تعلمت الصغيرة تلك القسوة؟.. إنه فقط يريد الإطمئنان عليها.. لم تحرمه حتى من صوتها؟.. مشتاق لها بشدة.. يحتاج فقط لسماع صوتها وهي تهمس باسمه.. لا يدري تفسيراً لمشاعره.. حاول كثيراً أن يجد مسمى لما يشعر به نحوها.. أو حتى نحو ريناد.. الذي ازداد ارتباطه بها بعد اكتمال زواجهما.. ولكنه لم يجد تفسيراً لمشاعره المرتبكة..
لا ينكر أن علياء تشعل مشاعره وجسده وتصل به إلى حالة مسكرة من النشوى لم يعرفها إلا معها.. ولكن قد تكون صدمة ريناد بما أخبرها به في ليلة زفافهما هي ما تجعلها تعامله بذلك الجمود البارد.. جمود يفقد وصالهما لذته.. ويقضي على لهفته الطبيعية نحوها كامرأة جميلة.. جميلة جداً في الواقع.. ولكن.. ولكنها تريده, بل تطالبه-حتى في أقصى أوقاتهما حميمية- أن يعاملها كتحفة نادرة وثمينة.. غير قابلة للمس.. فما بالك العبث بها.. وكأنها تتعطف عليه بوجودها في حياته..
مرت بذهنه ذكرى أول قبلة لهما.. فهمس.."كماء البحر..."
زفر بحنق وقد تاق لتواصل حقيقي فحاول مرة أخرى الاتصال بعلياء.. ليقابله نفس الرد.. الهاتف مغلق.. لذا قرر الاتصال بمازن.. الذي أجاب على هاتفه بعد فترة.. وهو يضجع على مقعده براحة ويمد قدميه أمامه على مكتبه:
ـ مبرووك يا عريس.. حلوة مدريد صح؟
رد يزيد بحنق:
ـ أنت بتستهبل يا مازن!.. مش بترد على تليفونك ليه؟
ضحك مازن باستمتاع:
ـ آسف.. كنت بسلم على نيرة وعليا قبل ما يمشوا!..
قفز يزيد من فراشه وهو يهتف:
ـ إيه!.. علياء عندك؟.. خليها تكلمني!
ـ عندي فين يا عريس!!.. بقولك روحوا خلاص.. هيعدوا على دنيا في الأتيليه..
وقبل أن يكمل مازن جملته سمع صراخ يزيد:
ـ دنيا!!.. دنيا دنيا!..
ـ أنت اتجننت يا يزيد؟.. هو إيه اللي دنيا دنيا؟!
هتف يزيد بغضب:
ـ مازن.. ابعد علياء عن دنيا.. أنا مش فاهم أنت موافق ازاي أن نيرة تتقرب منها!
أجابه مازن بغضب مكتوم:
ـ ما تتدخلش يا يزيد..
صرخ يزيد بغضب حارق:
ـ ما اتدخلش ازاي؟!.. بص أنت حر.. أنا ما يهمنيش غير علياء.. ابعدها عن دنيا.. وأنت حر مع خطيبتك..
أجابه مازن بغضب مماثل حاول التحكم فيه:
ـ ويا ترى العروسة سمعاك وأنت بتصرخ وبتقول أنه ما يهمكش غير عليا..
أجابه يزيد بنفس رده السابق:
ـ ما تدخلش يا مازن..
ـ ماشي يا يزيد.. كنت محتاج حاجة تانية؟..
سأله يزيد:
ـ طيب هي شافت الشقة اللي أنت قلت لي عليها؟..
ـ لأ..
زفر يزيد بغضب:
ـ ليه؟.. أنا مش فاهم إيه نوبة التمرد اللي جات لها دي؟.. أكيد كله من نيرة.. ما هي أصلها عايشة في دور حماتي!..
ـ أنت غبي يا يزيد.. ليه بتسميه تمرد؟.. ببساطة هي عايزة تشوف الشقة معاك.. أظن ده حقها..
صمت يزيد للحظات ثم سأله بصوت هامس:
ـ وهي أخبارها إيه.. وحالتها؟.. نفسيتها عاملة إيه؟.. بتعيط ولا..
قاطعه مازن بسرعة:
ـ حيلك.. حيلك.. وأنا هعرف ده كله ازاي.. أنا بس عرفت موضوع الشقة من نيرة..
ـ ماشي يا مازن.. بس أرجوك تاني أبعدها عن دنيا.. أنا مش ناقص تلعب في دماغها..
ـ حاضر يا يزيد.. هحاول..
أغلق الخط مع يزيد وهو يفكر في قلقه من علاقة علياء بدنيا.. يدرك قلق يزيد من تلك العلاقة.. فدنيا بطبيعتها الودودة والمنفتحة قد تقص على علياء قصتها.. وذلك لن يكون في مصلحة يزيد على الاطلاق...
************
تكومت منى على أحد المقاعد الوثيرة وهي ترمق شاشة التلفاز بشرود.. شرود حزين وغاضب, فالتوتر بينها وبين حسن على أشده.. خاصة بعد اتهامها له بالصيبيانية أمام رفضه المتعنت لاقتراحها بالانتقال إلى غرفة السطح فوق منزل والدها.. وصراخه عليها وقتها..
ـ أنتِ يا منى مش حاسة أنا بتعذب وبتبهدل قد إيه.. وجاية تقترحي عليّ حل تعجيزي..
رددت بذهول:
ـ أنا يا حسن مش حاسة بيك!!.. ده اللي أنت شايفه.. اللي أنت حاسه؟
زفر بحنق:
ـ يا منى.. افهميني.. أنا ضهري بيتحني على لوحة الرسم 18 ساعة في اليوم.. وفي الآخر حتى مش اسمي اللي بيظهر على التصميم.. ده غير التصليحات اللي بعملها لباقي المهندسين في المكتب.. ونزولي المواقع.. وبعد ده كله صاحب المكتب بيرمي لي الفلوس كأنه بيعطيني حسنة..
أغمضت عينيها تحاول حبس آلامها مع دموعها:
ـ وأنا مقدرة ده كله..
قاطعها قائلاً بغضب:
ـ عارف أن الفلوس قليلة وأنه ناقصك كتير.. وعارف أني مقصر.. كفاية أني مش قادر أعملك بيت ليكي لوحدك.. يكون بتاعك.. بس أنا حاسس أني باحرت في بحر.. شغل ليل ونهار من غير فايدة.. بس اعمل ايه؟.. قولي الحل؟..
حاولت مقاطعته لكنه أكمل بغضب حاد:
ـ والحل مش السكن في أوضة فوق سطوح.. ده حل ما ينفعنيش.. وما تقوليش أني مرفه أو بدور على الحاجة السهلة.. لأني لو كنت كده, كنت قبلت..
قطع كلماته فجأة وعاد ينفث أنفاسًا غاضبة.. مما جعل منى تسأله بوجل:
ـ كنت قبلت إيه يا حسن؟.. أنت مخبي عني حاجة؟..
أشاح بوجهه عنها:
ـ ما فيش يا منى.. أنا اتأخرت ولازم أنزل الشغل..
هتفت به:
ـ حسن ما تهربش مني..
ـ أنا ما بهربش.. بس اتأخرت.. الساعتين اللي ضيعتهم على حاجة مالهاش لازمة.. هعوضهم أربع ساعات في المكتب..
صرخت بغضب وصوتها يرتفع للمرة الأولى:
ـ لا مش هتنزل.. مش هتنزل إلا لما أعرف.. أنت مخبي عني إيه..
رد بحزم غاضب:
ـ صوتك عالي يا منى..
ـ أيوه يا حسن.. لازم يعلى علشان تسمعني..
ارتفعت نبرة صوته قليلاً:
ـ سامع.. وعارف وفاهم.. وبطحن في الصخر عشان أوفرلك..
قاطعته غاضبة:
ـ ما تقولش أوفرلك.. زي ما أكون باتعمد اطلب منك طلبات فوق طاقتك.. أنت اللي..
سكتت وأمسكت لسانها.. فقد أوشكت على اتهامه بانعدام المسئولية.. والدلال.. لكنه فهم ما كانت تنوي قوله.. فرمقها غاضباً:
ـ أنا اللي..!!.. بعد ده كله أنا اللي... وهو عشان أثبت لك رجولتي.. وتحملي للمسئولية لازم أوافق أعيش في..
كان دوره ليسكت.. هو الآخر.. فهو كان على وشك إهانتها وإهانة المكان الذي يقيم به والدها.. ومن الألم البادي في عينيها.. أدرك أنها فهمت ما لم يقله.. فهمس معتذراً وهو يمد يده لها بتوسل:
ـ منى..
لكنها نفضت يده بعيداً وهي تخبره بجمود:
ـ أنت اتأخرت على شغلك يا حسن..
عاد يهمس:
ـ خلينا نتفاهم..
أجابت وهي على نفس جمودها:
ـ مع السلامة يا حسن..
تركها وخرج بسرعة ولأول مرة يتجاهل معانقتها قبل خروجه.. ابتسمت بحزن وهي تعود لواقعها.. فحسن مازال على عناده وغضبه ورفضه للخضوع للواقع نهائياً.. وهي.. رغم ذلك الهاجس الذي بدأ يراودها بأنه بدأ يمل.. ييأس.. يتسرب من بين يديها.. إلا أنها قررت ألا تبادر بمراضته تلك المرة.. ليس قبل أن يختار على أرض الواقع ماذا يريد بالفعل..
****************
وصل يزيد ومعه ريناد إلى فيلا والدته التي استقبلته بشوق كبير.. وعتاب أكبر وهي تهمس له:
ـ ضحكت عليّ يا يزيد.. استغفلت أمك..
قاطعها يزيد بتوسل:
ـ ماما.. أرجوكِ.. مش وقته الكلام ده..
ربتت على كتفه:
ـ ماشي يا حبيبي.. هنأجل الكلام..
ثم عانقت ريناد وهي تسألها بمودة عن رأيها في مدريد.. وماذا رأت هناك.. وانخرطتا معاً في حديثٍ هامس سبب قلق متصاعد ليزيد وقبل أن يستفهم عما تتحدثا بشأنه.. دخل والده إلى الغرفة ورحب بريناد بجفاف.. والتفت إلى يزيد:
ـ عايزك في المكتب يا يزيد..
ثم خرج بسرعة مثلما دخل فلم يجد يزيد بداً من الذهاب خلفه.. بينما همست سهام لريناد:
ـ ما تقلقيش.. أنا أقنعت عصام.. وهو هيكلم يزيد.. وأول ما تبعدوا.. أنا هنفذ اللي اتفقنا عليه.. المهم هو كويس معاكِ؟
اومأت ريناد موافقة:
ـ أيوه.. هو كويس..
وأكملت بداخلها.. "بس هو مش معاي"..
دخل يزيد خلف والده إلى مكتبه.. ليفاجئه بسؤال سريع وصريح:
ـ أنت بتروح عند عليا المزرعة؟..
رد يزيد بصراحة:
ـ أيوه..
ـ ليه؟..
رفع يزيد أحد حاجبيه ولم يجب بشيء.. خبط والده على المكتب بقوة وهتف به:
ـ ومش مكسوف من نفسك يا أخي.. يعني أنت اتجوزتها عشان كده.. عشان..
قاطعه يزيد بسرعة:
ـ علياء مراتي.. وما فيش حاجة تخليني اتكسف.. وجوازي بيها معلن.. وشقتها موجودة.. لسه بس تيجي تشوفها..
سأله والده:
ـ ومراتك؟..
ـ ما أنا لسه بقول أنها مراتي.. هو أنا أنكرت..
رمقه أبوه بنظرة غامضة.. فاستدرك يزيد:
ـ آه حضرتك تقصد.. ريناد؟.. أنا فهمتها أن جوازي من علياء حقيقي ومستمر.. وتقريبا الوضع استقر..
ـ لا طبعاً.. الوضع مش مستقر ولا هيستقر.. بص يا بني.. عليا مراتك آه.. ومش هينفع يكون في تراجع.. بس البنت لسه صغيرة.. ومشاعرها بتغلبها.. ومش بتحكم عقلها.. ظهورك المستمر قدامها ووجودك جنبها.. والأكتر من كده معاملتك لها كزوجة.. مش في مصلحتها.. ولا مصلحتك.. ده غير أنك عقدت الوضع بإصرارك على جوازك من بنت خالتك.. وما فيش حد هيقدر يبني بيتين مع بعض وفي نفس الوقت..
ـ يعني إيه يا بابا.. مش فاهم؟..
ـ ابعد عن عليا.. سيب لها وقت تكبر فيه ومشاعرها تنضج.. وأنت ركز مع ريناد طالما تممت الجوازة..
هتف يزيد بغضب:
ـ أنا مش هطلق علياء.
ـ وأنا ما قولتش تطلقها.. أنا بقول تبعد.. وتعطوا نفسكوا فرصة.. أنتوا التلاتة.. لأن الوضع كده استحالة يستقيم.. شوف.. أنا هفتح فرع جديد للشركة في دبي.. وبعد تفكير.. قررت أنك تسافر تباشر تأسيس الفرع من البداية..
ـ أيوه يا بابا.. بس..
ـ ما فيش بس.. ده حل كويس.. مؤقت على الأقل.. البنت وراها كلية لازم تشوف مستقبلها.. وأنت عندك زوجة ظلمتها في طريقك.. وده أفضل حل قدرت أتوصل له...
حاول يزيد مناقشة والده:
ـ أنا مش همنعها من كليتها.. وهعطيها كل الوقت اللي محتاجاه.. و..
قاطعه والده:
ـ أنت روحت لها المزرعة كام مرة بعد كتب كتابكوا؟..
احتقن وجه يزيد وأخفض عينيه حرجاً.. فأكمل والده:
ـ ده قصدي.. أنت مش سايب لها فرصة أنها تتحكم في مشاعرها وتفكر في حياتها.. وأنت كمان محتاج أنك تهتم بريناد أكتر.. مش لازم تكرر مآساة قديمة..
رفع يزيد عينيه لوالده.. فتبادلا نظرات متفهمة لثوانٍ.. أجاب يزيد بعدها:
ـ هفكر يا بابا.. أوعدك هفكر كويس.. عن إذنك...
*************
أراحت علياء رأسها على للخلف وأغمضت عينيها لتسترخي على فراشها قليلاً.. فالليلة سيعود يزيد من سفره.. صححت لنفسها وهي تبتسم بمرارة
"هيرجع من شهر العسل"..
سقطت دمعة على وجنتها تلتها أخرى وأخرى.. فهي أخيراً سمحت لنفسها بالتفكير به.. وبزواجه.. وسفره.. واتصالاته التي لا تنقطع ولكنها ترفض الاجابة عليه.. أو بمعنى أدق.. نيرة أجبرتها على رفض مكالماته بعدما سرقت منها هاتفها خفية.. ولم تمانع علياء كثيراً.. فهي مدركة لضعفها الشديد نحوه.. ولن تحتمل أن تكون معه على الهاتف بينما ريناد بجواره فعلياً.. مدركة هي لمشاعر الغيرة التي تعصف بكيانها.. والتي تصور لها مشاهد ولقطات حية ليزيد مع ريناد.. تلك المشاعر التي تدفعها للبكاء كل ليلة حتى تسقط في نوم مرهق مليء بصور له معها هي.. صور تعذبها وتطحن مشاعرها بقسوة.. فتستيقظ باكية ضعفها وحبها وقلبها الأحمق الذي ينتفض لكلمة منه.. ولولا انشغالها مع نيرة الفترة الماضية لجنت شوقاً له وغيرة عليه..
اليوم فقط أعادت نيرة لها الهاتف لتفاجئ بكم المكالمات والرسائل التي أرسلها لها..
ابتسمت بهيام وهي تقرأ رسائله التي تشي بمدى افتقاده واشتياقه لها.. ثم ما لبثت أن قطبت حاجبيها بغضب.. هل معنى هذا أنه سيفتقد ريناد عندما يتواجد معها هي؟..
داعبت أناملها الدمعة الماسية المعلقة بعنقها.. وتذكرت جنون يزيد بها لتهمس لها برقة..
"يا ترى وحشك زي ما وحشني.. وحشتني ابتسامته.. وضحكته وحشني حبه.. وقلبه وجنانه.. حتى الشيزوفيرنيا بتاعته وحشتني!"..
ضحكت في صمت وهي تسترجع كلمات نيرة لها قبل أن تقلها إلى المزرعة..
"البسي يا علياء وظبطي نفسك.. احنا اشترينا هدوم كتير حلوة اليومين اللي فاتوا.. احرقي مشاعره وولعيها.. وما تخليهوش يطول منك حاجة.. لوعيه شوية خليه يحس بقيمتك"..
هزت رأسها في يأس, وهي تعلم صعوبة اتباع نصيحة صديقتها.. فكيف تستطيع إلهاب مشاعره بينما مشاعرها هي تغلي في انتظار رؤيته من جديد..
نهضت من فراشها ببطء وأخذت تتأمل ثيابها الجديدة.. وبعد طول تفكير سحبت إحدى الغلالات الناعمة لترتديها, ووقفت تتأمل صورتها المنعكسة في المرآة بذهول.. فأمامها كانت امرأة مغرية ترتدي غلالة شفافة بلون السماء, ذات فتحة صدر واسعة وظهر عاري تماماً.. غطته خصلاتها السوداء الطويلة.. بينما اتسعت عيناها بخوف وهي تحدث نفسها بحنق..
"معقولة!.. ألبس حاجة زي دي؟!.. ده حتى قلته أحسن!"..
وعلى الفور بدلت ثوب النوم المغري بمنامة قطنية قصيرة بيضاء اللون ذات حمالات رفيعة على الكتفيين ومطبوع عليها صورة كبيرة لتويتي.. استعرضت نفسها مرة أخرى في المرآة.. وهي تحدث نفسها..
"ايوه كده.. دي علياء اللي أنا عارفاها"..
عادت تستلقي على فراشها وهي تتساءل إذا كانت ستراه الليلة.. فما أن علمت بموعد عودته حتى أصرت على ترك فيلا نيرة والعودة إلى المزرعة..
هاجس خبيث تملكها لتعلم مدى لهفته لرؤيتها.. هل سيأتي للمزرعة على الفور أم سيرابط جوار زوجته الأخرى.. وإذا أتى كيف تستقبله؟.. هل تعبر عن شوق أم غضب؟.. احتضنت دمية محشوة على شكل تويتي وتاهت في وسط أفكارها لتسقط في نومٍ عميق فلم تشعر بسيارة يزيد عند وصوله وصعوده الدرج الداخلي بسرعة.. ليصل إلى غرفتها فيفتح الباب بهدوء.. يريد مفاجأتها.. ليفاجئ هو بها مستغرقة في نوم عميق.. تساءل للحظات إذا كان والده محق.. ويجب عليه الابتعاد عنها ليترك مشاعرها لتنضج قليلاً..
ولكن متى استمع يزيد لصوت العقل!!..
تحرك ببطء ليندس بجوارها في الفراش متذمراً من صغر حجمه.. ألصق ظهرها بصدره الضخم ليضم جسدها بين ذراعيه متغلباً على حجم الفراش الطفولي.. همس بأذنها لتستيقظ ولكنها تململت بإنزعاج ولم تفتح عينيها.. إزاح خصلاتها برقة ليكشف جانب عنقها لاثماً إياه ببطء ممتع وهو يهمس مرة أخرى:
ـ عمري ما شفت فراشة نومها تقيل كده!..
عادت تتململ مرة أخرى وهو لم يرحم نعاسها.. وظل يطبع قبلاته على طول عنقها باحثاً بشفتيه عن ماسته الدامعة.. وأخيراً وصلت شفتيه لمبتغاها فعانق الماسة الصغيرة بشفتيه وهو يهمس مرة أخرى:
ـ علياء..
شعر بها تتحرك بين ذراعيه.. فرفع رأسه لتواجهه عينيها.. وقد تحولت زرقة السماء بهما إلى لون منتصف الليل.. رمشت عدة مرات كأنها تتأكد من حقيقة وجوده بجوارها.. وابتلعت ريقها بارتباك وهي تهمس بضعف:
ـ حمد لله على السلا..
لم يدعها تكمل كلماتها فضاعت بين شفتيه وهو يتناولهما بشوق هامساً:
ـ دوختيني.. روحتلك عند نيرة ما لقتكيش..
همست بدورها:
ـ أنا.. قلت استناك هنا أحسن..
طبع قبلة خفيفة على شفتيها:
ـ ذكية..
عاد يقبلها من جديد ويديه تتحسسان جسدها بحميمية بدأت تعتادها منه ولكن يده اصطدمت بدمية تويتي.. فرفعها بيده في ذهول:
ـ إيه ده؟..
أجابته ببراءة:
ـ ده تويتي.. بتاعي..
رفع أحد حاجبيه بتعجب وأمسك بالدمية ليلقي بها بعيداً.. وهو يهمس بتملك:
ـ ما حدش ينام في سريرك غيري..
رمقته بذهول وقبل أن ترد عليه كان قد لمح الرسمة على منامتها.. وفي ثوانٍ كان صوت تمزيق الحمالات الرفيعة يدوي بالغرفة.. لتلحق المنامة بالدمية الصغيرة.. فلا شيء يشارك يزيد فراش زوجته.. لاشيء على الاطلاق..
*****
لمسات خفيفة شعرت بها تتنقل على عينيها ووجنتيها وشفتيها لتعود إلى عينيها مرة أخرى.. ففتحتهما لتجد يزيد يبتسم لها مشاكساً:
ـ بقى لي ربع ساعة باصحي فيكِ..
تململت علياء بين ذراعيه ولكنه لم يسمح لها بالابتعاد عنه فابتسمت بخجل وهي ترمش بعيونها عدة مرات وتضغط بكفيها على كتفي يزيد هامسة:
ـ أنت حقيقي!..
داعب أنفها بأنفه وهو يهمس له بعتاب مصطنع:
ـ أكيد الليلة اللي فاتت ما كانتش حلم..
ابتسمت بخجل ولم تجبه.. فهي لا تستطيع إخباره عدد المرات التي استيقظت بها وهي تحلم أنها بين ذراعيه.. لتدرك أنه حلم.. سراب.. كذبة تعيشها في خيالها بينما هو.. هو كان يقضي شهر عسله مع أخرى..
انقبضت ملامح وجهها عندما مر ذلك الخاطر بذهنها.. وظهرت في عينيها دموع حبيسة.. حاولت كبحها ولكنها هزمتها لتتساقط من بين أجفانها التي كان يقبلها منذ قليل.. وهمست لنفسها:
ـ غبية..
قطب حاجبيه وهو يكرر:
ـ غبية!!.. ليه يا علياء؟..
حركت وجهها لتبعده عن مرمى نظراته وحاولت التملص من بين ذراعيه.. إلا أنه منعها بقوة وهو يكرر:
ـ ليه يا علياء؟.. غبية ليه؟..
رفعت عينيها لتصدم بوجه قريب جداً منها وعينيه بها نظرات قلق عاصفة.. وقد قطب حاجبيه بشدة.. وكرر:
ـ ليه؟!
وجدت نفسها تتكلم بعفوية وكأنها تتحدث مع نيرة:
ـ أنا أول ما شوفتك نسيت ألمي وزعلي ودموعي والجرح اللي جوايا منك.. كل الكلام والعتاب والغضب اللي جوايا دابوا في لحظة.. أول ما شوفتك ما فكرتش غير أني اترمي في حضنك واتأكد أنك حقيقي جنبي.. أنا حاسة أني بضيع من نفسي.. ماعدتش فاهمة حاجة ولا عارفة الصح فين.. أنا غبية.. غبية.. رخصت نفسي..
أحنى رأسه قليلاً ليحرك شفتيه أمام شفتيها بدون أن يمسهما:
ـ هشششش.. اوعي تقولي الكلمة دي.. أنتِ غالية قوي.. قوي يا علياء..
أبعدت وجهها عنه ودموعها مازالت تتساقط وهمست:
ـ غلاوة عشيقة!..
شتم بصمت.. لقد كان على حق عندما طلب من مازن أن يبعدها عن دنيا.. فلابد أنها ثرثرت أمامها بأفكارها المجنونة.. لتطبقها الحمقاء على حياتهما معاً..
لف وجهها نحوه هامساً:
ـ أنجح زوجة اللي ما تخجلش أنها تكون عشيقة لجوزها..
سألته بتوجس:
ـ وبيحترمها؟..
ـ أكيد.. لو ما احترمهاش يبقى مش هيحترم نفسه..
رمقته للحظات طويلة بنظرات متسائلة حائرة.. ثم أبعدت وجهها عنه وهي تتملص من بين ذراعيه:
ـ سيبيني أقوم يا يزيد..
أطلقها من أسر ذراعيه فنهضت ببطء لتذهب إلى الحمام.. وقبل أن تغلق الباب خلفها سألته بألم:
ـ لما هي غالية وهو بيحترمها أومال ليه بيحتاج غيرها؟..
ترك رأسه لتسقط على الوسادة وهو يفكر في كلماتها.. حوارهما معاً.. برائتها.. عفويتها معه.. تحادثه كأنه صديق.. همس بداخله يكمل جملته لها..
"أنجح زوجة هي اللي ما تخجلش تكون عشيقة لزوجها.. وبعفويتها وبرائتها تكون له كمان صديقة"..
جالت عينيه في غرفتها.. غرفتها الوردية.. فكل ما يحيط به وردي.. عرائس ودمى محشوة وردية.. وذلك التويتي.. لم يرَ تويتي وردي من قبل.. حتى غطاء الفراش الذي يتدثر به.. كان وردي اللون.. غرفة غاية في الطفولية والبراءة..
براءة سلبت منها في لحظة لتدخل عالم الكبار.. عالم لا تعرف قواعده.. ولا قوانينه.. يشعر بها حائرة ومشتتة.. تحواره كناضجة.. ولكن بداخلها طفلة تائهة.. يبدو أن والده كان على حق.. يجب عليه أن يمنحها بعض الوقت لتنضج وتستقر.. سيبتعد قليلاً.. قليلاً فقط.. ويعود ثانية.. فقط يجب أن يخبرها بسفره إلى دبي..
*************
فوجئت منى بدخول حسن إلى المنزل في وقت مبكر جداً عن موعده وهو يحمل عدة أكياس بين يديه.. أخذت تتابع تحركاته وهو يتجه إلى المطبخ.. لتسمع بعدها عدة أصوات وضوضاء عالية.. أطباق تتصادم ببعضها.. وأكواب تتهشم.. ثم صوت مياه جارية مختلط بسباب محتشم.. أخيراً ظهر حسن وعلى وجهه معالم انتصار.. وفي يده كوب به سائل أحمر اللون..
وضعه أمامها بفخر قائلاً:
ـ عصير الفراولة اللي بتحبيه..
رمقته في تساؤل عن حقيقة الأمر.. فهو ذهب إلى عمله صباحاً وهو ما زال غاضباً منها.. فما الذي حدث في ساعتين ليغير رأيه.. سمعته يجيب على الأسئلة التي لم تطرحها:
ـ هدنة؟..
أومأت موافقة فهي تريد أن تعلم ماذا به.. ولماذا أتى من عمله مبكراً.. رفع الكوب ومده نحوها.. فأخذته منه على الفور.. وسألته بتوجس:
ـ جيت بدري ليه يا حسن؟..
أغمض عينيه بألم.. ومرت في ذهنه مواجهته الأخيرة مع أبيه منذ دقائق.. حين اقتحم مكتب أبيه ليخبره صراحة رأيه فيما يقوم به نحوه من تصرفات متعسفة.. كان آخرها فقده لعمله.. حيث استغنى صاحب المكتب عن خدماته.. وأخبره صراحة.. أنه لن يجد بعد الآن من يقبل بتوظيفه حتى يسوي أموره مع والده... وإذا أراد أن يعمل بعيداً عن نفوذ والده, فليختر عملاً بعيداً عن تخصصه كمهندس ناجح.. ويبحث عما يسد به رمقه.. وإلا فليخضع لما يريده والده أياً كان ذلك..
اقتربت منى منه بتردد وهي تستشعر بألمه الداخلي.. وما يكتمه داخل صدره..
ربتت على كتفه بحنان:
ـ في إيه يا حسن؟.. هتخبي عليّ؟..
أحنى رأسه أرضاً.. وأجابها متردداً:
ـ منى.. أنا..
سكت ولم يتكلم فحثته ليكمل:
ـ أنت إيه؟..
ابتلع ريقه بصعوبة:
ـ أنا عايز أقولك على حاجة.. قرار أخدته.. وبتمنى تساعدني فيه.. ويا ريت اللي هعمله ده ما ينزلنيش من نظرك...


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-18, 04:03 PM   #19

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل السادس عشر

فتح يزيد باب الشقة وسمح لعلياء بأن تتقدمه.. قبل أن يغلقه خلفها.. ثم مد يده يقبض على أناملها الرقيقة بقوة ويسحبها خلفه.. وهو يصف ويعدد لها مزايا الشقة التي اختارها بناء على نصيحة مازن لتكون شقة الزوجية الخاصة بهما.. كان يرص الكلمات بسرعة وغضب وهو يمر بها من غرفة لأخرى.. حتى وصل بها إلى المطبخ الذي كان واسعاً جداً.. كست جدرانه عدة دواليب خشبية.. قدرت علياء أنها صنعت من خشب الأرو.. وتوسطته خزانة كبيرة مستطيلة ومتوسطة الطول.. غطتها قطعة رخامية عريضة..
ارتكزت علياء بكفيها على القطعة الرخامية وقد قررت التوقف عن التجوال بالشقة.. وسمعته يسألها:
ـ ايه رأيك في الشقة؟..
وقبل أن تجيبه ارتفع رنين هاتفه.. بنغمة معينة جعلت علياء تدرك على الفور أن ريناد هي المتصلة.. فلم تملك إلا التأفف في صمت وهي تراه يسحب الهاتف ليتحرك بعيداً ويجيب عليه.. تذكرت لحظة خروجها من الحمام في الصباح وقد لفت جسدها بمنشفة ضخمة وأخذت تبحث في خزانتها عما ترتديه حتى تعثرت ببنطال جينز وقميص قطني.. عندها سمعته وهو يتحدث معها على الهاتف.. لينتابها إحساس مؤلم بالمهانة وحارق بالغيرة.. شعرت بالفعل وكأن جسدها يئن ألماً من عنف الغضب الذي عصف بها.. لتجد يدها تمتد غريزياً إلى أحد الأثواب الصيفية الذي ابتاعته برفقة نيرة.. فسحبته بقوة ودخلت الحمام مرة أخرى لترتديه.. كان ثوباً خفيفاً.. ذو فتحة صدر مربعة.. جزئه العلوي ضيق ويلتف تحت صدرها مباشرة زنار عريض ذو لون وردي مشرق.. وهو نفس لون الورد المنتشر بالفستان ذو الأرضية الكريمية اللون وطوله يصل إلى ما بعد ركبتيها مباشرة..
لمحت نفسها في مرآة الحمام.. لترى أن مظهرها تغيير بفعل ذلك الثوب المغري.. شكرت صديقتها في صمت قبل أن تخرج إلى الغرفة لتجده انتهى من مكالمته الهاتفية وجلس بانتظارها.. فهتفت بعجلة:
ـ أنا جاهزة عشان نروح نشوف الشقة..
لم يسمعها وعيناه تلتهمان تفاصيلها في ذلك الثوب المهلك.. وقد رحل ذلك الجزء من عقله الذي أقنعه منذ قليل أن يبتعد قليلاً ليمنحها فرصة النضوج.. تساءل في جنون.. أي نضوج أكثر من هذا؟!.. يكاد يقسم أنها لو نضجت أكثر لأنفجر هو فوراً..
سألها بصوت أجش وهو يقترب منها ويتحسس الثوب وما يخفيه الثوب بجرأة بالغة:
ـ نروح فين؟.. وجاهزة ايه!!.. روحي البسي..
دفعت يديه بعيداً ووضعت يدها بخصرها فارتفع الثوب لأعلى وهتفت هي بغيظ:
ـ أنا لابسة فعلاً.. وفستاني جديد..
قالت جملتها الأخيرة بحرقة طفلة غاضبة فابتسم قليلاً:
ـ جديد!.. وجه امتى؟..
ـ جبته مع نيرة عشان الكلية..
قفز.. بل طار فعلياً في مكانه فذكرها بحبة ذرة تتقافز فوق صفيح ساخن وهو يصيح:
ـ كلية!!.. أنتِ عايزة تروحي الكلية بده.. أومال تروحي السرير بايه؟!!!
غمغمت بحنق:
ـ قلة أدب!
صرخ بها:
ـ ايه!.. مش سامع قولي تاني كده..
هتفت في وجهه بتمرد يلمحه للمرة الأولى:
ـ بقولك ما تقوليش كده.. دي قلة أدب!..
حاول كتم ابتسامته.. وحادثها بهدوء:
ـ علياء.. ايه اللي مضايقك؟.. ليه مش بتسمعي الكلام؟..
رمقته بنظرة نارية وكتفت ذراعيها وجلست فوق الفراش هاتفة:
ـ خلاص.. مش عايزة أشوف الشقة.. روّح يلا.. شكلك مستعجل!..
لم تدري ماذا أصابها!.. أو ما يدفعها للتصرف بذلك الإنفعال والغضب.. إنها تشعر فقط بحرقة قاتلة في صدرها وغضبها وصراخها عليه.. يريحها للغاية..
تأملها قليلاً يحاول معرفة ما بها.. فهي لم تمر بهذا المزاج العاصف من قبل.. بل أنها قبل قليل كانت تذوب بين أحضانه ثم تركته باكية.. لتذهب إلى الحمام.. ثم.. آه.. الهاتف.. لقد سمعت مكالمته مع ريناد.. وهي تشعر بالغيرة..
ابتسم بإشراق وقد أسعده غيرتها عليه.. فرمقته بغيظ:
ـ أنت بتضحك ليه؟..
اقترب منها بهدوء ثم رفعها من فوق الفراش.. ليضعها أمام خزانتها:
ـ غيري هدومك بسرعة..
سحبت ثوباً آخر لترتديه ولكنه لمح في آخر لحظة الحمالات الرقيقة.. فجذبه منها بعنف:
ـ وده برضوه للكلية؟..
ـ لأ.. للبيت..
حرك رأسه في ألم وهو يتخيله على جسدها.. إنه لم يكتفِ منها بعد.. وبدأت رغبته بها تتحول لألم جسدي يحتاج ما يسكنه بسرعة.. هل يرمي كل قرارات العقل ويسحبها إلى فراشها الوردي.. أم يلتزم العقل ويخرج بها من غرفة النوم فوراً..
أخيراً سمعها تسأل بحنق:
ـ أنت بتدور على ايه؟.. كده لخبطت كل الهدوم على بعضها!..
أخذ يبحث داخل خزانتها حتى وجد ثوب غاية في الاتساع.. والحشمة.. فقذفه إليها:
ـ البسي ده..
حاولت الإعتراض لكنها هتف بحسم:
ـ يلا.. لسه هنشوف العفش..
غابت ثواني وعادت بالثوب الذي اختاره بنفسه.. وقد أخفى تفاصيلها تماماً.. ليجد خياله ينشط بشدة ليجسد له تلك التفاصيل بصور حية أكثر مما ينبغي..
من قال أن الخيال أخف وقعاً من الواقع, فهو أحمق بالتأكيد.. فهو يحترق الآن كرد فعل على الخيال..
التفت لخزانتها ليعبث بها مرة أخرى.. وأخرج قميصاً وتنورة واسعة وطويلة.. وهما ما ترتديه الآن.. قميص أحمر يحتوي تفاصيلها بدقة حاول الإعتراض عليه ولكنها تمسكت به وكأنه ماء المُحاياه.. ما يحيرها بالفعل هو اختفاء معظم ثيابها الجديدة منذ تلك اللحظة ولا تعرف ماذا فعل بهم وأين أخفاهم..
ضغطت بكفيها بقوة على الرخام البارد حتى تستمد بعضاً من برودته.. لتتماسك.. فهي تعلم ما يرغب في مصارحتها به فقد وصلها حواره مع ريناد.. عندما كانت في الحمام صباحاً.. فهو كان بقمة انفعاله ولم ينتبه لارتفاع صوته.. ولكنه حتى الآن لا يعلم بمعرفتها تلك.. والأدهى أنها تشعر به يقاوم بقوة ليبتعد عنها.. ولكنها تدرك أيضاً هشاشة مقاومته تلك..
سمعته وهو ينهي مكالمته.. وهدأت قليلاً لأنه بدا نزقاً في أسلوبه مع الأخرى وكأنه رافض لمكالماتها المستمرة له في الوقت الذي خصصه لعلياء..
كان يراقب انفعالاتها كما يراقب حركاتها المتململة والتي انتهت بفرد كفيها وضغطهما على قطعة الرخام فالتصق القميص أكثر بحناياها ليجسد خيالاته المرهقة له أمامه مباشرة فأغلق الهاتف بسرعة وتحرك نحوها وقد قرر الابتعاد عن التعقل مؤقتاً..
شعرت به يحاوطها من الخلف ويضمها بقوة دافناً شفتيه في عنقها.. فأدركت أن مقاومته تحطمت.. حاولت التملص من قبضته إلا انه زاد من ضغط ذراعه.. واستمر في تقبيل عنقها.. هامساً:
ـ استرخي يا علياء.. أنا مش عارف أنتِ فجأة بقيتِ عصبية.. و..
قاطعته:
ـ مش عارف!!
همس بابتسامة لم يستطع كبحها:
ـ غيرانة؟..
لفت جسدها لتواجهه وحاولت أن تدفعه عنها إلا أنه رفض التزحزح.. بل أنه أحنى رأسه ليتمكن من شفتيها.. وأنامله تتسلل أسفل قميصها بخبث.. لتشهق بقوة عندما شعرت بمداعبته لبشرتها الدافئة.. بينما هو يعاود تقبيلها بشغف هامساً:
ـ العقل هيجنني.. أنا مش قادر أكون عاقل أكتر من كده..
وبسرعة لم تتخيلها كانت ملابسها تتكوم تحت قدميها ليرفعها فوق العارضة الرخامية ويصعد معها.. ليعيش أقصى خيالاته جنوناً..
وبعد فترة ليست بالقصيرة..
حاولت الابتعاد عنه ودفعه عنها.. إلا أنه أحكم ذراعيه حولها هامساً في عبث:
ـ يا مجنونة هنقع!..
استكانت قليلاً.. ثم عادت تهمس:
ـ ابعد..
هز رأسه رافضاً وبدأ في توزيع قبلاته على وجهها مرة أخرى ليهمس بجنون:
ـ أنا أساساً ما صبحتش على الألماسة بتاعتي النهارده!
وهبط بشفتيه يداعب ألماسته بقوة.. وأنامله تعيث جنوناً بجسدها وهمساته تضيع عقلها.. لتستسلم له مرة ثانية.. ويأخذها هو بشغف لا حد له.. باحتياج لا ينتهي.. بجموح مجنون.. واحساس بالاكتمال هي فقط من تمنحه له.. هدأت أخيراً وألقت رأسها على صدره.. لتسمع همسه المحذر:
ـ اوعي تنامي!..
رمقته بذهول فضحك بقوة:
ـ أنا والله خايف لتقعي.. مش أكتر من كده..
عادت تهمس له بتوسل تقريباً:
ـ ابعد..
كانت تريده بالفعل أن يبتعد.. فهي تخشى حالة الهوس التي أصابته منذ أن لمحها بفستانها الخفيف صباح اليوم.. حينها قرأت بعينيه أي جنون سيجتاحها به.. جنون هي غير مستعدة له خاصة الآن وقرار الفراق على بعد لحظات.. أنها فقط تريد سماع قراره بالابتعاد.. تحتاج أن تكون متيقظة لكلماته لا أن تكون مأخوذة به ومنه على الدوام.. أخذ يتأمل انفعالاتها المتوالية.. غضبها وحزنها.. لقد أبدت السعادة لرؤيته الليلة الماضية فقط لاشتياقها له.. ذلك ما لا يستطيع إنكاره.. ولكن منذ أن فتحت عينيها صباح اليوم وهي يلفها حزن غريب..
أخذ يداعب خصلات شعرها المنتشرة على كتفيها بجرأة.. ليستشعر تأثرها به ولكنها تعانده بإصرار شديد.. محاولاتها الدؤوبة للابتعاد عنه مستمرة..
عاود مشاكستها وهو يلف إحدى خصلاتها الناعمة على إصبعه:
ـ زعلانة على فساتينك الجديدة؟
سألته بسرعة:
ـ ودتهم فين؟.. قطعتهم؟..
ابتسم بعبث:
ـ في حد عاقل يقطع حاجات حلوة زي دي برضوه.. أنا بس قفلت عليهم في مكان أمين.. وبعد كده أنا هشوف ايه اللي يعجبني واطلعهولك تلبسيه.. بس ليا أنا بس..
رمقته غاضبة بينما ارتسم على وجهها كل ما تفكر به حوله.. حتى أنه خشي للحظة أن تصارحه بكل ما يدور بعقلها خاصة في نوبة الاندفاع التي أصابتها..
أخيراً سألها بوضوح:
ـ في ايه؟.. فهميني؟.. ايه اللي جرى لك؟..
نجحت أخيراً في الابتعاد عنه فقط لتلتف على جانبها ويلصق ظهرها بصدره.. ويهمس في أذنها بتصميم:
ـ اتكلمي..
أخذت تتملص منه حتى تمكنت من الابتعاد لتجلس فوق العارضة الرخامية وقد ضمت ركبتيها إلى صدرها واحتضنتهما بذراعيها بشدة..
أغمضت عينيها وهي تحاول أن تخرج أفكارها إلى كلمات.. ولكنها كالعادة كانت أجبن من أن تغضبه أو تغضب منه.. فهمست أخيراً لتغير الموضوع:
ـ حلوة الشقة.. عجبتني..
قفز أرضاً ليتناول قميصه ثم ساعدها لترتديه.. وجلس بجوارها ليضمها نحوه وهو يداعب خصلاتها:
ـ عارفة كمان أظرف حاجة فيها ايه.. أنها قدام مبنى المجموعة على طول.. يعني هجيب منظار وأقعد أراقبك ليل ونهار..
هنا لم تستطع الاستمرار في التظاهر.. فغمغمت بمرارة:
ـ هو في منظار ينفع تشوفني بيه من دبي!..
أخيراً فهم السبب وراء جنون تصرفاتها..
سأل بهدوء لا يشعر به:
ـ تعرفي ايه عن موضوع دبي؟..
ـ هتسافر وتاخدها.. وتسيبني..
ـ يا علياء دي فترة بسيطة.. وأنتِ عندك دراسة.. يعني مش هينفع تسافري..
قفزت إلى الأرض ولفت قميصه حولها وأخذت تجول في أنحاء المطبخ.. تريد البكاء والصراخ وإخباره أنه يعرضها لظلم شديد.. فهو سيتركها للجميع لمن يجرح, ويهاجم بل, ويتطاول..
تحرك خلفها ليضمها بقوة قبل أن تبتعد.. وهمس لها:
ـ بصي.. البداية بابا عرض عليّ العرض ده.. وكان تبريره أني أسيب لك الوقت والمساحة أنك تقرري وكنت بفكر فعلاً أوافق على العرض.. بس النهارده اتأكدت أنه صعب..
همست وقد استكانت على صدره:
ـ صعب!.. بس صعب؟..
ـ وظلم.. ظلم ليكي وليّ..
سألته بتوتر:
ـ وبعدين؟ ايه الحل؟..
ـ الحل هو الطيارة.. أومال الطيارة اخترعوها ليه.. باقي أني أحاول توزيع وقتي..
لفت لتواجهه وسألته باتهام:
ـ أنت اخترعت الكلام ده كله دلوقتِ صح؟
أومأ موافقاً:
ـ ايوه.. بس ده مش كلام.. ده قرار..
كتفت ذراعيها:
ـ وليه القرار ده؟
ضمها إليه وهو يبتسم بخبث:
ـ عجبتني النومة على الرخامة قوي!..
اتسعت عيناها ذهولاً وهو يرفعها مرة أخرى ليثبت لها كلماته!!.. وأيقنت أن لحظات جنونه لم تنتهي لذلك اليوم...
*********
تمدد مازن على الأريكة الوثيرة ملقياً برأسه في حضن دنيا التي كانت تضع بين شفتيه إحدى حبات العنب بعد أن خلصتها من قشرتها الرقيقة كما يفضل تناوله.. كانت تتبع كل حبة بقبلة خفيفة على شفتيه.. مع ابتسامة ناعمة على شفتيها.. وأناملها تتسلل باغواء لتداعب ما ظهر من بشرة صدره..
همست في أذنه:
ـ أنت مش معايا خالص..
داعبت أنفه بأنفها الصغير لتعاود الهمس:
ـ ايه اللي شاغل بالك؟..
عدل من وضع رأسه على ركبتيها.. ومد يده ليتمسك بيدها التي تداعبه بلا توقف, بل أنه ساعدها لتفتح بعض أزرار قميصه.. وتركها للتجول بأناملها كما تشاء.. وهو يرد عليها:
ـ حاتم بيه بيضغط على حسن قوي.. الموضوع تخطى خوف أب على ابنه..
أكملت هي:
ـ وصلوا لمرحلة العند لمجرد العند, صح؟.
ـ اممم..
أطعمته حبة عنب أخرى.. وعادت تسأله:
ـ وأنت ناوي تعمل ايه؟..
مد يده ليجذب رأسها مطالباً بقبلته.. فمنحتها له بسخاء.. وسمعته يجيبها:
ـ حسن مكتفني ومانعني اتدخل نهائي.. ومن جهة تانية مراقبة بابا لحسابي في البنك وأي مصاريف مقيداني تماماً..
كانت أناملها تتداعب صدره بلا هوادة.. وهو عدل من وضع جسده ليرفع رأسه قليلاً ويحيط خصرها بإحدى ذراعيه, فعلمت أنه على وشك حملها إلى غرفتهما.. فسارعت بالقول:
ـ مازن.. أنا تحت أمرك.. و..
قاطعها قبل أن تكمل:
ـ دنيا.. ما تفتحيش موضوع أنتِ عارفة ردي عليه كويس.. مش هيحصل أبداً أني أمد إيدي على فلوسك..
هبطت برأسها لتمنحه قبلة رقيقة تمتص غضبه بسرعة وفاعلية تامة.. وتهمس:
ـ متفقين يا حبي.. بس عندي فكرة.. ممكن تسمعها؟..
كان قد رفع رأسه ليضعه على حاجز الأريكة ومد يده الحرة ليفتح أزرار الفستان الخفيف الذي ترتديه دنيا.. وبينما بدأ جولة عابثة بأنامله.. سألها وقد بدأ تركيزه في الاضمحلال:
ـ امممم... فكرة ايه؟..
عنبة مقشرة أخرى.. تليها القبلة التي لا يتنازل عنها... ثم أخبرته:
ـ هي فكرة ملتوية شوية.. أنا هزود على فاتورة فستان نيرة.. مبلغ معين.. المبلغ اللي أنت تحدده.. وتعطيه لحسن أخوك.. ويبقى كده حلينا المشكلة.. ولو مؤقتاً.. ايه رأيك؟..
لف جسده بالكامل نحوها.. ليتمكن من ضمها كما يريد وقد تحركت أنامله العابثة من فتحة صدرها لتتسلل إلى عنقها ثم إلى خصلاتها السوداء.. فيبعثرها بعبث ليجذب رأسها في قبلة طويلة وهو يهمس أمام شفتيها:
ـ رأيي أنها فعلاً فكرة ملتوية.. بس حاتم بيه مش هينفع معاه غير كده.. نفذي يا ملاكي..
أطلقت ضحكة ناعمة وهي تراوغ شفتيه وتمنحه إحدى حبات العنب بدلاً من القبلة التي يبحث عنها.. فالكلام مازال له بقية.. رفع نظره مبتسماً بمكر:
ـ بعدين هتعود على الدلع ده!..
ضحكت برقة وقد عادت تمرر أناملها برشاقة بين طيتي قميصه المفتوحتين:
ـ هو أنت لسه ما اتعودتش.. أنا شكلي بوظتك.. ونيرة الغلبانة مش هتقدر عليك.. في حد بياكل العنب مقشر!..
ابتسم بسخرية عندما سمعها تلقب نيرة بـ "الغلبانة".. وقبل أن يرد عليها سمعها تقول بضحكة مكتومة:
ـ بمناسبة نيرة.. أنا قلت لك قبل كده أني مش هتكلم على تفاصيل فستانها.. بس.. بس.. في معلومة صغيرة.. بيتهيألي لازم تعرفها..
رفع رأسه وهو ينظر لها بتوجس:
ـ أكيد الفستان مفتوح من كل حتة..
ابتسمت بغموض:
ـ المعلومة مش على الموديل.. عن اللون!
ردد بغباء:
ـ اللون.. ما هو أكيد أبيض.. فستان فرح هيكون لونه...
قطع كلماته ونظرة شقية تتألق في عينيها.. بينما قفز هو هاتفاً:
ـ أحمر.. هتفصل فستان أحمر صح؟..
أطلقت دنيا ضحكة أنثوية عالية لو كان سمعها مازن في وقت آخر لكان سحبها على غرفة النوم مباشرة ولكنه تلك المرة قفز يبحث عن هاتفه ليتصل بنيرة ويختفي في إحدى الغرف.. بينما تلاحقه ضحكات دنيا العذبة التي خفتت قليلاً لتتحول إلى ابتسامة شاردة وهي تتخيل كلامه مع نيرة الآن..
قد يكون من الطبيعي أن تشعر بالغيرة من نيرة.. المرأة التي ستشاركها رجلها قريباً.. ولكنها لا تفعل.. كيف تغضب من حبه لها؟!.. وذلك ما جذبها له من البداية.. ومن غيرها هي.. دنيا.. يدرك عذاب عشق بلا أمل.. أو مستقبل.. عشق يطحن صاحبه.. ويستهلكه.. يقتات على نبضات القلب حتى يكاد يوقفه.. رحمةً بالعاشق من عذابه.. عشق عاشت مثيله, بل أقوى مع سامر..
سامر.. حركت شفتيها باسمه.. لتشعر بمرارة ذكرياتها تجري بها مجرى الدم..
سامر.. جارها.. رفيق طفولتها.. توأم روحها.. كانت قصتهما أبسط من البساطة.. قصة تقليدية يتعثر بها الجميع يومياً.. فلا تلفت انتباه أحد..
الجار الوسيم.. وجارته الصبية الرقيقة ذات الجدائل.. وخطبة غير رسمية.. فالفتاة لم تكمل عامها الخامس عشر.. ولكن فتاها متعجل.. يريد الاطمئنان أن رقيقته.. ستكون له..
ولكن ما حدث لم يتوقعه الشاب.. فقد دار الزمن دورته.. والصبية الرقيقة.. تحولت لأنثى متفجرة.. خطفت أبصار الرجال قبل الشباب في حيهم البسيط.. بل وخارج الحي أيضاً.. وهي كانت سعيدة.. وكيف لا؟!.. وهي تشعر بتفتح أنوثتها.. بالقوة التي منحتها اياها تلك الأنوثة.. سطوة الجمال لا يُعلى عليها.. وإن اقترن بذكائها فهو خلطة مبهرة.. مدمرة.. مخيفة.. وسكن الخوف قلب سامر.. ليزيح الحب شيئاً فشيء.. زاد تحكمه.. كثرت أوامره.. تعالى صوته.. وهي بذكاء الأنثى الفطري استشعرت خوفه.. فارتعبت خوفاً من فقده.. حبيب العمر.. كيف يفكر أنها تنظر لرجل آخر؟.. أنها فقط تستعذب تغزل الآخرين بجمالها.. بفتنتها الوليدة.. لكنه هو.. رجلها الأوحد.. لا ترى آخر ولا تريد غيره هو.. وهو لا يهدأ.. يصرخ.. فتصمت.. يأمر فتطيع.. يتحكم.. فتخضع.. ولكن قلبه لا يرتاح.. عقله تقتله الهواجس.. وهي تزداد فتنة.. أنوثتها قاتلة.. وخضوعها له جرأه.. ليمد يده.. ليس مغازلاً.. كلا.. بل متعدي.. ضربها.. صفعها..
وهي ثارت ثائرتها.. برز جموحها وفقد سيطرته عليها..
خرجت من شرنقة أحكامه وأوامره.. ليعاقبها بارتباطه بفتاة باهتة.. ولكنها مطيعة عن حق.. خانعة بالطبيعة وليس التطبع..
قتلها بكلمته ليلة زفافه..
"أنتِ ما تنفعيش للجواز.. هتتتسببي في جنون أي راجل تكوني ملكه"..
تزوج هو.. تزوج من تريح باله ولا يقلق على ثبات عقله معها.. وانطلقت دنيا.. حاولت التحرر من حبه.. لم تفلح.. فتحررت من روابطها.. وقيودها.. اقتحمت سوق العمل.. ولم يكن أي عمل.. عملت بالإعلان.. فتاة اعلانات.. عارضة.. أو كما يدعونهن.. موديل..
نجحت.. تلألأت.. ظهر وجهها على صفحات المجلات.. نالت بعض الشهرة.. سعت بكل جهدها لتقهر حبها له.. لتتناسى ضعفها نحوه.. تضحياتها التي كادت أن تشمل كل شيء.. ولم يرض.. ولم تنسَ..
ليظهر هو.. سامر..
عاد مطالباً بها.. يذكرها.. بالعشق القديم.. بعهود الهوى.. وكأنها نسيت!.. وكأنها لم تنتظر عودته نادماً.. في كل لحظة.. في كل نجاح تحققه.. كل خطوة تخطوها نحو الشهرة.. كانت تفعلها من أجله.. لتريه أنها لم ولن تتحطم.. وهو جاء أخيراً.. ليعلن استسلامه.. كلا.. ليطالبها هي مرة أخرى بالخضوع.. لتطاوع هواه.. بلا قيود.. بلا روابط أو مسميات.. طالب بها كعشيقة.. وصرخت هي..
"مش ممكن أكون عشيقة باسم الحب"..
طردته.. وتزوجت.. لم تهتم بمن يكون.. فقط.. سيصل بها لأحلامها..
فقد اعتزلت الغرام...
يصدح نجمها في عالم تصميم الأزياء.. وأموال زوجها تمنحها الحماية.. تفتح الأبواب الموصدة.. وتزداد الشهرة.. ويموت الزوج... لتزداد الثروة.. ومعها الطموح..
دار أزياء راقية.. فرع هنا.. وفرع هناك.. ويتألق اسمها.. وتتسع أعمالها.. حتى التقت به.. لم تتوقع أن تقابل من يقهر صدفة تقوقعها.. من يصل إلى الأنثى المتعطشة بداخلها.. من يقتحم أسوار امرأة الأعمال البارزة.. وسيدة التصميم الأولى كما تطلق عليها الصحف..
مازن.. ذلك الشاب المتقد ذكاء ورجولة.. هو المهندس المسئول عن مجمع الأزياء الذي تنوي انشائه.. وشعرت بالضعف.. ضعف لم يصادفها منذ سامر.. ليس حباً.. فحبها لسامر.. فقط.. حتى لو لوثه.. لكنها تمنح قلبها مرة واحدة.. وهي منحته لسامر ولم تسترده أبداً.. لكن مازن يدغدغ أنوثتها.. يجعلها تتفتح بنظرة شقية من عينيه.. ابتسامة هادئة كسولة تسبب لها عقدة في معدتها.. لا حل لها.. احتياج.. لم تعرفه من قبل..
ولكن كيف؟.. أنه يصغرها بتسع أعوام.. كلا.. لم يعجبها وقع العبارة.. هي تكبره.. كلا.. جملة سيئة أخرى.. بينهما تسعة أعوام.. فارق من العمر وليس في صالحها.. وهو عاشق ولكن ليس لها.. اعترف بها.. فقد تعمقت علاقتهما.. ولم تستطع الابتعاد.. وسمته صديق.. وصديقها عاشق.. وهب قلبه لمن ليست له..
باحت له بسرها.. أخبرته عن معشوقها الذي شوه العشق ولوثه خوفاً من جموح معشوقته..
جموح لم يخشه مازن بل اقتحمه.. وفاجئها بعرض زواج..
تجمدت.. صعقت ورددت:
ـ ليه؟..
ببساطة وقحة أجاب:
ـ أنا عايز أكون معاكِ.. ومتأكد أن دي رغبتك برضوه.. واحنا الاتنين أرقى من أي علاقة بره الجواز..
رفضت.. ليس لأن الزواج سري.. فيكفيها أنه لم يطلبها لفراشه.. باسم الحب.. كما فعل سامر.. فرق السنوات كان سبب الرفض السري بداخلها.. ولم يخضع مازن لرفضها.. ليفاجئها باصطحابها ذات ليلة.. إلى أحد المحاميين.. وهناك كان يزيد صديقه الأقرب.. وأحد شهود زواجها..
عامين مرا على معرفتها به.. وعام ونصف على زواجهما.. وكلاهما يحافظ على الاتفاق.. يلتقيان عندما يريدا.. يحتاجا التواجد معاً.. وليس بالضرورة احتياج جسدي مع أنه أساس الاتفاق.. فقط.. يمنحان الراحة لبعضهما..
"صديق ذو فائدة"..
" هكذا يطلقون على علاقتهما.. Friends with benefits"
وهكذا سيبقيان.. لا مجال للمشاعر.. لا ذكر للعشق.. فقط حاجة.. رغبة.. أو شهوة.. ولكنها.. لم تستسلم لها باسم الحب..
عاد صوت صراخ مازن على نيرة ليجذبها من شريط ذكرياتها.. فتسمعه يهتف بغضب:
ـ يا ستي أنا راجل تقليدي.. وعايز أشوف عروستي بفستان أبيض وطرحة.. صمت قليلاً وهو يذرع الأرض أمامها جيئة وذهاب.. مستمعاً إلى نيرة.. فيقطب حاجبيه بشدة.. ثم يرد صارخاً بجنون:
ـ والله يا نيرة لو عملتِ فستان فرحك أحمر لآجي لك لابس بدلة فوشيا!..
وأغلق الهاتف بغضب ليرميه بعيداً.. بينما تعالت ضحكات دنيا المغوية.. ليجذبها إلى غرفة النوم.. ولم تنسَ اصطحاب.. حبات العنب معها.. فهو يحبها.. مقشرة.. ناعمة.. ومليئة بالاغراء..
*************
رمقت منى حسن وقد تعلق على سلم خشبي متحرك وهو ينهي طلاء آخر بقعة بسقف الغرفة.. التي قررا الانتقال لها.. تلك الغرفة التي رفضها حسن سابقاً, ولكنه لم يجد بُداً من القبول بها الآن.. خاصة مع تغير أحوالهما..
عادت منى بذاكرتها إلى عشرة أيام أو أكثر مضت.. عندما ألقى حسن على مسامعها تلك الجملة التي زلزلت كيانها.. وكادت أن توقف قلبها هلعاً..
"أنا عايز أقولك على حاجة.. قرار أخدته.. وبتمنى تساعدني فيه.. ويا ريت اللي هعمله ده ما ينزلنيش من نظرك"..
الجملة تتردد في عقلها.. ومعها عشرات التفسيرات.. وكلها تنتهي بالتنازل.. بالفراق..
ابتلعت ريقها في توتر وهي تسأله بتردد:
ـ قرار ايه يا حسن؟.. خليك صريح.. أنت مش محتاج للمقدمات دي معايا..
أغمض عينيه بألم شديد:
ـ آسف يا منى.. استحمليني شوية.. اللي هكلمك فيه مش سهل عليّ..
سكت قليلاً ليلمح وجهها وقد شحب تماماً.. فشهق بعنف وقد استوعب ما فهمته من كلماته:
ـ منى.. أنتِ متخيلة أني هتخلى عنك.. أو هطلب الفراق مثلاً.. معقولة تكوني مش عارفاني للدرجة دي!..
أخذت منى نفساً عميقاً وأغرورقت عيناها بالدموع وهمست:
ـ حسن.. من غير مقدمات الله يخليك..
تحرك حسن ورفعها من على مقعدها ليضمها إلى صدره بقوة:
ـ والله ما أقدر أبعد عنك.. معقولة تكوني مش حاسة باللي جوايا ناحيتك.. إذا كنت ما قدرتش أعملها واحنا لسه على البر.. يبقى هعملها بعد ما قربت منك وعرفتك أكتر وأكتر.. معقولة أقدر أفتح عينيه وما لاقيش أحلى عيون كحيلة بتضحك في وشي..
ابتسمت وسط دموعها:
ـ أنت كده بتقلقني أكتر يا حسن.. لأن معنى كلامك أنك ناوي تضحي بزيادة.. وتتنازل أكتر..
أبعد رأسها عن صدره ليرفع ذقنها بسبابته وإبهامه ويتأمل عينيها:
ـ أنتِ فاهماني كده ازاي؟..
رفعت راحتيها لتحيط بهما وجهه:
ـ لأنه أنت أنا..
اتكأ بجبهته فوق جبهتها وهو يحرك رأسه قليلاً:
ـ حبيبتي... أنا ممكن أبيع عمري مش بس شهادة الهندسة عشان تكوني ملكي للأبد وقدام الناس كلها.. مراتي.. وحبيبتي.. وأم ولادي كمان..
أسكرتها حلاوة كلماته فسكنت بين أحضانه للحظات.. حتى تغلغلت معاني كلماته بين خلايا عقلها.. فأبعدت نفسها قليلاً لتسأله:
ـ يعني ايه يا حسن؟.. يعني ايه تبيع شهادة الهندسة؟.. ايه معنى الكلام ده؟..
جذبها من يدها ليعاود الجلوس على الأريكة وهي بجانبه ويخبرها ببطء ووضوح:
ـ هو ده القرار اللي عايزك تسانديني فيه.. أنا خلاص قررت أني أنسى مؤقتاً.. لقب مهندس..
حاولت منى مقاطعته إلا أنه أوقفها ليكمل:
ـ سيبيني أتكلم يا منى.. بصي.. من صغرنا وبابــ.. أقصد حاتم بيه.. بيُصر أننا نبدأ من الصفر.. يعني مع البنايين والعمال عشان نفهم ونستوعب الشغل.. وما حدش يقدر يخدعنا أو يستغفلنا.. اشتغلنا كل حاجة.. نجارة.. سباكة.. كهربا.. محارة.. نقاشة.. كل ما يتعلق بالبنا والمقاولات.. موجود كله جوه خلايا مخي..
رمقته منى في صمت ولم تعلق.. فأكمل بمزاح ساخر:
ـ محسوبك أحسن أسطى نقاش عرفته مجموعة العدوي..
توسعت عينا منى وقد فهمت ما يرمي إليه حسن:
ـ حسن.. أنت تقصد.. قصدك.. أنك..
أومأ حسن موافقاً:
ـ أيوه يا منى.. يا ترى نظرتك لحسن هتتغير لو طلق شهادة الهندسة دي.. واتحول ولو مؤقتاً.. للأسطى حسن؟..
وضعت وجهها بين كفيها وهي تحركه يميناً ويساراً:
ـ لا يا حسن.. أنا ما اقبلش.. مش ممكن أوافق أنك تقدم التضحية الكبيرة دي.. ولو حتى عشاني..
رفع وجهها ثانية ليهمس لها:
ـ فين التضحية دي.. أنا بآخد خطوة لمستقبلنا.. يمكن مش لقدام.. أو مش هنتقدم بيها كتير.. يعني هنبدأ من الصفر..
ابتسم بهدوء حتى يطمئن القلق المرتسم في عينيها:
ـ أو يعني قبل الصفر بشوية.. بس هنخرج من حصار حاتم بيه..
عادت منى تهز رأسها برفض تام للفكرة:
ـ لا يا حسن.. كده كتير.. كتير قوي.. أنت رفضت أوضة السطوح.. دلوقتِ عايز.. عايز تشتغل نقاش!
ابتسم حسن بمرارة لم يستطع اخفائها:
ـ يمكن قبل كده فكرت أن فكرة سكننا فوق السطوح تضحية كبيرة مني.. مش هكدب عليكِ يا منى.. وأنتِ بنفسك وصلك الإحساس ده.. لكن لحظة.. ما كان الاختيار بينك وبين مستوى ومظهر اجتماعي مالوش عندي ريحة اللازمة.. ما اترددتش لحظة..
سألت باستفهام:
ـ يعني في اختيار اهوه.. أرجوك يــ...
وضع أنامله على شفتيها يمنعها عن الكلام:
ـ صدقيني.. أي اختيار ما يكونش ليكي الأولوية فيه.. مش حل بالنسبة لي..
ابتعدت منى عنه وأولته ظهرها لتحاول تكوين جملة تعرف أنها ستقتلهما معاً:
ـ حسن.. رجعني بيت أبويا.. وكل..
لفها نحوه بقوة يقطع كلماتها القاتلة بقبلة عاشق وهمس أمام شفتيها:
ـ لو تقدري تقوليها.. أنا ما اقدرش أسمعها.. أنا محتاجك يا منى.. حسن هيتولد على أيديكِ من جديد.. وأنا محتاج قوي اتولد من تاني.. مش هقدر اقتحم الحياة الجديدة دي إلا معاكِ..
في لحظة تذكر تجبر والده عليه.. وهو يطلب منه طلاق منى.. فمثلها تتخذ عشيقة وليست زوجة.. على حد قول حاتم بيه.. تلك النار التي مرت في شرايينه.. أحرقت كل احترام كان يكنه لوالده.. وأشعلت بلهيبها التحدي بحبه لمنى.. ورغبته أن تكون.. له.. حلاله.. في النور.. وأمام الجميع..
عاد ليضغط بجبهته فوق جبهتها:
ـ المشوار صعب.. ومحتاج لك يا منى.. لأنه في طلب تاني.. طلب يخصك..
عادت لتبتعد قليلاً إلا أنه لم يسمح لها فظلت بين دائرة ذراعيه.. لتسمعه يهمس:
ـ ممكن تقدمي طلب اعتذار عن السنة دي.. أو حتى التيرم الأول.. أنا.. الظروف في الأول مش هكون ضامن قوي أني..
قاطعته قبل أن يكمل.. وحتى ترفع عنه الحرج:
ـ ده أنا كنت ناوية أعمله من غير ما تطلب.. كنت عايزة اتفرغ لحياتي كزوجة شوية.. يعني لحد ما اتعود..
عاد ليريح جبهته فوق جبهتها ليتأمل ملامحها ويسألها بخوف ممزوج بأمل:
ـ وموضوعنا الأساسي.. رأيك ايه؟..
رفعت ذراعيها لتتعلق بعنقه وقد جرت دموعها على وجنتيها بلا توقف.. كم تريد الاستجابة لنداء استغاثته.. وكم تخشى موافقته على تلك الخطوة.. تخشى عودة حسن المدلل مرة أخرى.. فعودته ستلقي على كاهلها وهي فقط ذنب تحول حسن.. البشمهندس حسن العدوي ليصبح.. مجرد عامل نقاشة.. ووقتها سيكون حبه لها تبخر بفعل نار الواقع وهو لن يغفر.. ولن يرحم..
يا الله.. ما هو الصواب وما الخطأ؟.. أأبتعد واتركه لحياته المرفهة أو أمد يدي إليه فيولد بين يدي.. حسن جديد كما يقول هو.. ليس عاشقاً فقط.. بل قادراً على حماية معشوقته..
شعرت بيديه تضمها إليه اكثر وهو يطالبها باجابة على سؤاله المنطوق ومؤازرة لقراره المغامر.. للحظة واحدة غاب عقلها.. واختفى منطقها.. لينتصر القلب الذي استجاب لنداء معشوقه.. فضمت نفسها نحوه.. وهي تفتعل ابتسامة باهتة:
ـ لازم اختبر مهاراتك.. في فن النقاشة بنفسي.. الأوضة هتحتاج توضيب ودهان.. وأنا هكون بليه بتاعك.. ايه رأيك بقى؟..
بادلها الابتسام فأردفت هي:
ـ يعني عايز تتعلم حاجة وأنا ما اكونش عارفاها.. ما فيش أسرار بينا يا بيه.. وهساعدك يعني هساعدك..
اتسعت ابتسامته لتصبح واحدة حقيقية بالفعل والتفت ليتناول كوب عصير الفراولة ويضعه في يدها:
ـ أنا موافق بس بشرط.. تقولي لي بقى رأيك في كوباية العصير المحترمة دي..
تناولت منى رشفة واحدة من العصير لتتسع عيناها قليلاً.. وهي تحاول ابتلاعه على مضض.. بينما حسن يصر عليها أن تتناوله عن آخره..
ابتلعت ما في فمها وهي تكمل باقي الكوب وترمق حسن من خلف حافته راجية الله أن تكون مهارته في النقاشة أفضل من صنع العصير.. فهو أغرق العصير بالملح بدلاً من السكر.. ولكنها تناولته كله وهي تبدي استمتاعها بمذاقه الرائع.. فإذا كان هو سيتخلى عن حياة كاملة من أجلها ألا تضحي هي بابتلاع فراولة بالملح!...
عادت إلى واقعها الآن لترمق زوجها وهو ينهي آخر بقعة من سقف الحجرة في مهارة لم تكن تعتقد أنه يمتلكها ولكنه أثبت لها الأسبوع الماضي أنها كانت على خطأ في اعتقادها.. فقد استطاع تحويل غرفة السطح ببضع لمسات فنية من فرشاة الطلاء خاصته إلى منعزل هادئ خاص بهما فقط.. عش رقيق ليحافظ على حبهما.. منحه حسن لمسة رقي خاصة به لتكمل منى بوضع لمساتها الدافئة والحميمة.. فأصبح لديهما شقة تتكون من غرفة نوم واحدة ومطبخ وحمام.. وغرفة تصلح للمعيشة أو تناول الطعام وحتى لاستقبال الضيوف.. وامتلأ البيت الصغير بعدة قطع متنافرة من الأثاث.. جمعتها منى من حيث لا يدري ولكنها بلمسات بسيطة منها.. مفرش هنا.. ووسادة صغيرة هناك.. بساط ذو ألوان غير معلومة.. لوحة عجيبة لفنان أعجب.. لكنها منحت الغرفة لقب مسكن.. بل أن لمساتها امتدت لتحول السطح خارج الغرفة إلى حديقة صغيرة.. تشبه تلك التي أعجبتها بشاليه يزيد بالمعمورة.. وأخيراً ضمهما عش كما تمنيا طويلاً..
بالفعل هو عش.. ضيق للغاية ولكنه أيضاً يموج بالعشق الصافي والتضحية المتبادلة..
وقفا ينظرا إلى صنع أيديهما بفخر شديد ومد حسن ذراعه لها فدست منى نفسها تحته على الفور لتلتصق به وترفع له وجه يعبر عن حب صافٍ:
ـ مبروك علينا شقتنا يا حسن..
همس في أذنها:
ـ أسطى حسن!..
*************
رمق مازن عروسه وهي تتهادى فوق الرواق الطويل الخاص بالفندق الذي سيقام بها زفافهما.. وبالطبع كان نفس الفندق الذي شهد خزيها على يد حسن.. ورغم غضب مازن من طلبها ذاك في البداية إلا أنه أدرك أهميته لتسترد كرامتها وكبريائها أمام أصدقائها ومعارفها.. لذا نفذ طلبها بدون نقاش لرغبته أيضاً في وأد أي شائعات أو أقاويل في مهدها.. وقبل أن تؤثر على حياتهما معاً..
أخذ يتأملها تقترب رويداً.. رويدا.. عيناه تعلقت بعينيها وكأنها يطالبها بالتقدم وعدم الالتفات لأي همس يجري من حولها.. اقتربت قليلاً عندها بدأ يلحظ تفاصيل الثوب..
مبهرة.. أقل ما يمكن أن يقال عنها اليوم.. أبدعت دنيا بالفعل في تصميم ثوبها.. وكأنها هديتها له.. فقد تحولت به نيرة إلى حورية خيالية طالما داعبت أحلامه.. همس في نفسه..
"فهماني يا دنيا.. فهماني قوي"..
كان الثوب عاري الصدر والظهر والكتفين.. يتمسك قسمه الأعلى بصدرها وقد تراصت حبات عديدة من الألماس حتى بدا وكأن ضوء النهار سيسطع منه وامتدت تلك الحبات المتراصة بشكل مثلث لتلتقي بقسمه السفلي الذي يتكون من طبقات لا نهائية من التول الخفيف وقد تناثرت قطع الألماس بعشوائية مبهجة ثم عادت لتنتظم بشكل وريدات عديدة تمركزت فوق قطع من الدانتيل وتركزت على ذيل الفستان حيث امتدت فروعها للتشابك معاً مكونة شبكة مذهلة من الدانتيل والتول والألماس.. وأكملت الطرحة مظهرها الخرافي.. حيث تعلقت في شعرها الذي جمعت بعض خصلاته وتركت المعظم حراً.. وامتد طول الطرحة ليصل إلى طول الفستان الذي امتد خلفها عدة أمتار..
أجبر نفسه على الخروج من حالة السحر وحرك قدميه حتى يلاقيها.. ويتسلم تلك الأميرة الخرافية من والدها.. وسمعه من بعيد يوصيه عليها.. لم يكن يرى غيرها.. أو يسمع سوى صوت أنفاسها.. ولم يشعر بنفسه إلا وقد اقترب منها للغاية.. ليقبلها.. ولكن ليس فوق جبهتها كما هو معتاد, بل على شفتيها.. ولم يبتعد إلا بعد أن تحولت الهمهمات المذهولة إلى صيحات تعجب واستنكار.. حينها رفع شفتيه ليغمز بعينه هامساً بشقاوة:
ـ عشان اللي فاتته البوسة الأولانية.. يلحق يتفرج على التانية!
احمرت وجنتاها بفتنة وكادت أن تنهره بعبارة مستفزة.. ولكنها توقفت عندما لمحت نظرات الحضور البراقة وكأنها تحسدها على عريسها المتيم... وسمعت بضعة آهات من مجموعة من الفتيات إعجاباً بحركة مازن الجريئة... فابتسمت ابتسامة خبيثة تحولت في لحظة إلى ابتسامة خجولة وهي تخفض عينيها أرضاً في حياء تاركة مازن يتأبط ذراعها.. ليعبرا معاً باقي الممر.. ويدخلا إلى القاعة تناجي آذانهم موسيقى كلاسيكية هادئة.. وناعمة تماماً..
بعد أن استقرا في مقعديهما همس مازن في أذنها:
ـ بصراحة.. ما ينفعش أطلب تشغيل أي أغاني.. أنتِ مبهرة بصورة خيالية.. هتخلي حتى أعظم سيمفونية جنبك.. شيء باهت.. أشك أن أي حد في القاعة نزل عينه من عليكِ..
سكت لحظة وهو يتأمل إشراقة وجهها لمغازلته الخفيفة ثم بنبرة مختلفة:
ـ صحيح.. هو الفستان ده مالوش حاجة تغطيه؟..
هتفت بنزق:
ـ مازن!..
ضحك بشقاوة فهو كان يشاكسها فحسب وأمسك اناملها ورفعها إلى شفتيه ليقبلها برقة.. ثم ساعدها لتنهض.. هامساً مرة أخرى:
ـ الأغنية دي بس استثناء..
وعلى الفور تصاعدت موسيقى..
"Everytime we touch"
I still hear your voice, when you sleep next to me.
I still feel your touch in my dream.
Forgive me my weakness, but I don't know why
Without you it's hard to survive.
تعلقت نيرة برقبته بينما ضمها هو لصدره بقوة.. ولفها بذراعيه.. يتحركان على أنغام الأغنية ربما.. أو أنغام أخرى خيالية يسمعها هو فقط فتدفع به إلى عنان السماء.. غاب في عينيها الزبرجدية.. فأخفضتهما أرضاً.. بخجل ربما غير مصطنع.. فهمس لها:
ـ ارفعي وشك.. عايز اشوف عيونك..
نفذت أمره بخجل وهي تغرق بدورها في عيونه البنية.. بلون حبات البن اللامعة.. وملامحه الرجولية الوسيمة.. خاصة ذقنه المنحوتة والعريضة.. وسمعته يهمس عابثاً:
ـ لو فضلتِ تبصي لي كده.. أكيد الناس مش هتتفرج على بوسه بس..
وبالفعل وبدون تصنع شهقت نيرة حرجاً وخجلاً من وقاحة كلماته.. وتورد وجهها بأكمله خجلاً من نظرة عينيه المتلألئة.. فأخفته بحرج في كتفه لتبتعد عن نظراته التي تربكها بشدة وتحاول استجماع نفسها لما هو قادم...
وفي ركن آخر بالقاعة كانت علياء تستمع إلى كلمات الاغنية.. ودموعها تسيل بلا إرادة منها.. تشتاق إليه.. وتحتاجه.. تحلم به كل ليلة.. مئات الأحلام.. تتبادل معه آلاف الحوارات.. كم ترغب في رؤيته.. في اخباره..
'Cause everytime we touch, I get this feeling.
And everytime we kiss, I swear I could fly.
Can't you feel my heart beat fast, I want this to last.
Need you by my side.
وهاتفها لا يكف عن إصدار أصوات الرسائل.. فيزيد أصابه الجنون عندما أصرت هي على الذهاب الى زفاف نيرة.. قبل ذهابها جعلها تصف ثوبها خيط.. خيط.. وبالطبع لم يعجبه.. وصرخ بها لتخلعه.. لكنها بعناد جديد عليها.. تمسكت بثوبها الأبيض الناعم ذو النقوش الزرقاء.. وحينما علم يزيد بأنه عاري الكتفين.. تكاد تقسم بأن دبي بأسرها سمعت صراخه, بل أن صوته وصل لأبي ظبي أيضاً..
عادت لتسرح مع كلمات الأغنية مرة أخرى..
'Cause everytime we touch, I feel the static.
And everytime we kiss, I reach for the sky.
Can't you hear my heart beat so...
I can't let you go.
تعبيرات وجهها كانت تتتابع من الألم والحزن إلى الفرح البائس والاشتياق المجنون.. مما جذب عينين حادتي التركيز إلى تلك التعبيرات على الفور.. لتجذب فريدة قلم الكحل من حقيبتها الصغيرة وتسحب منديل المائدة وتبدأ في رسم عدة بورتريهات سريعة لوجه علياء.. بكل ما تحمله من أسى أنثى قهرها عشقها وخذلها كبريائها.. كانت يديها تخط ملامح علياء بسرعة وهي تخاطب صبا بتعجب واندفاع:
ـ تخيلي الفكرة اللي قلبت عليها نجوع وقرى مصر الأسبوعين اللي فاتوا آلاقيها هنا.. في فرح تافه من أفراح الطبقة الناعمة..
قطعت كلماتها وقد شحب وجه ابنتها.. فرفعت رأسها لترى عامر وقد احتقن وجهه غضباً.. فاعتذرت منه بحلاوة:
ـ آسفة حبيبي.. ما أقصدش أنت عارف لساني.. و..
قطعت جملتها عندما قرأت بسهولة علامات الذهول على وجهه.. لتدرك بعد فوات الآوان.. أنها.. نادته.."حبيبي".. تزاحمت الدماء لتصل إلى وجنتيها.. وقد غمرها الحرج الشديد فأخفضت رأسها هاربة من عينيه لتنهي إحدى بورتريهات علياء.. وتسحب منديلاً آخر للمائدة لتكمل الرسم..
أخذ عامر يتأملها لبرهة.. ثم أشار إلى أحد الندل.. وطلب منه أن يأتي بمجموعة من الأوراق البيضاء... وعدة أقلام رصاص...
شكرته فريدة هامسة بحرج:
ـ متشكرة قوي.. مالوش لزوم..
نهض فجأة قبل أن تكمل جملتها.. وعيناه مركزة على باب القاعة.. حيث وقف حسن برفقة منى زوجته التي بدت مترددة جداً في الدخول..
فتحرك عامر على الفور ليمنع أي تشابك محتمل بين حسن ووالده.. ولكن ما لم يفكر به هو ابنته نفسها.. فقد لمحت نيرة حسن ومنى يدخلان القاعة.. فنزعت نفسها من بين ذراعي مازن.. لتتجه نحوهما بإصرار.. حتى واجهتهما.. لترفع صوتها فوق الجميع:
ـ يا أهلاً وسهلاً.. بمنى هانم.. بنت السواق.. والعاملة في بوتيك درجة خامسة... نورتينا والله..
كان مازن قد وصل إليها لحظتها.. فجذبها من ذراعها بقسوة ليبعدها عن منى إلا أنها جذبت ذراعها منه وهي تلقي بباقي كلماتها:
ـ ومين شرفنا معاها كمان.. البشمهند... آه.. آسفة.. أقصد الأسطى حسن.. نقاش درجة عاشرة..
تحكم مازن بأعصابه بقوة خارقة حتى لا يضربها أمام الجميع.. فسحبها من ذراعها بقوة وهو يهتف:
ـ يلا بينا.. الفرح خلص بالنسبة لك..
ضحكت بسخرية :
ـ فعلاً.. لازم نمشي.. الفرح بدأ يلم..
جذبها ليخرجها من القاعة وهو يرسل نظرات اعتذار وتوسل صامتة لحسن.. كلمات صامتة تحركت بها شفتاه.. "سامحني يا أخويا"..
فقد قامت نيرة للتو بذبحه ورقصت فوق أشلاء كبريائه..
***********
سحب مازن نيرة وألقى بها في سيارته وانطلق بسرعة غاضبة.. بينما أخذت تصارع هي حتى تعدل من وضع ثوبها وأخيراً سألته:
ـ هو احنا رايحين فين؟.. مش المفروض أننا حاجزين الليلة في الأوتيل!
رمقها بنظرة نارية إلا أنها لم تصمتها:
ـ رد عليّ يا مازن!
غمغم من بين أسنانه:
ـ يا برودك!
هتفت به:
ـ ايه!!.. أنت بتقول ايه؟..
لم يرد عليها.. فقد كان وصل إلى الفيلا الخاصة بهما.. فأوقف السيارة ونزل منها تاركاً نيرة بها تصارع ثوبها والباب وحذائها ذو الكعب العالي حتى خرجت وتبعته غاضبة.. أيجرؤ ان يتركها بالسيارة وحدها في ليلة زفافها..
دخلت إلى بهو الفيلا تتبعها أعاصيرها لتجده خالياً.. تلفتت حولها تبحث عنه.. حتى سمعت صوتاً خافتاً من الطابق العلوي فتوجهت نحوه لتجد مازن في غرفتهما.. وقد بدأ في تبديل ملابسه بالفعل..
هتفت بذهول:
ـ أنت بتعمل ايه؟..
رمقها بسخرية وقد تخلص من قميصه وأخذ يبحث عما يرتديه.. فتوسعت عيناها بذهول وهي ترمق صدره العضلي الضخم وقد غطاه شعر ناعم خفيف حتى معدته ليمتد في خط مستقيم ويختفي داخل بنطاله..
ابتلعت ريقها بصعوبة.. وهي تستشعر تأثير رجولته عليها.. فابتسم هو بسخرية مدركاً ما أصابها.. وسمعها تسأله:
ـ احنا مش هنروح الفندق؟
ـ لأ..
كلمة واحدة قصيرة..
عادت تسأله مرة أخرى:
ـ ومش هنسافر بكره؟..
قطب جبينه:
ـ نسافر ليه؟
أجابت بارتباك ينجح هو فقط في تطويقها به:
ـ عشان.. عشان شهر العسل..
أطلق ضحكة عالية:
ـ آآآآآه.. شهر العسل!..
هتفت بحنق:
ـ أنت بتتريق عليّ!
ثم تحركت لتبتعد عنه إلا أنه جذبها بعنف نحوه لترتطم بصدره العاري وتتمسك به حتى لا تسقط.. ولكنه بدا غير منتبه للمستها الخاطفة له وهو يهمس لها بصوت أجش غاضب:
ـ أنا سبق ونبهتك أنك تطلعي حسن ومنى من حساباتك.. ووضحت لك أني مش هسمح أنك تستخدميني عشان تأذيهم..
وارتفع صوته بغضب حارق:
ـ كرامتك.. وحافظت عليها.. كبريائك ومتصان.. دلعك ومستحمله.. كل طلباتك مجابة..
ثم دفعها عنه لتسقط فوق الفراش:
ـ وبعدين كانت ايه النتيجة.. أخويا..
وتعالى صراخه ليرج المنزل:
ـ أخويااااااااااا.. يتهان وقدام عينيا وهو ضيفي.. هو ده احترامك لاسمي ولكرامتي.. فاهمة عشان اعترفت لك بحبي تبقي خلاص ملكتيني.. لا.. لا يا هانم.. بدري قوي على ما تقدري تملكيني.. بدري قوي..
كانت ترمق غضبه بعيون متسعة وقد تملكها الرعب بالفعل من أن يفقد واجهته المتحضرة ويبدأ في ضربها.. إلا أنه هدأ فجأة وهو ينحني نحوها فتجمدت تماماً وهي تشعر بأنفاسه تحيط بوجهها وهو يقترب بشفتيه من شفتيها حتى كاد يلامسهما.. لتسمعه يهمس لها:
ـ أما بالنسبة لرحلة شهر العسل.. فأما يكون في عسل.. هبقى أفكر في السفر.. تصبحي على خير يا عروسة..
وخرج صافقاً الباب خلفه تاركاً إياها وحيدة في ليلة زفافها..
***********
وقفت علياء بعيداً عن باب الفندق كما طلب منها السائق الذي كلفه يزيد بمرافقتها في كل تحركاتها.. وكان ذلك إحدى قراراته الغير قابلة للنقاش.. فالسائق يذهب بها إلى كل مكان حتى لو احتاجت إلى "باكو لبان".. تلك تعليماته الصارمة قبل أن يسافر برفقة زوجته الأخرى ويتركها هي متعذراً بدراستها وترك مساحة حرية لها لتنضج قليلاً.. فقرار توزيع وقته بين البلدين والزوجتين لم يُعلم به أحد غيرها.. تساءلت ساخرة.. أي حرية تلك التي يتركها لها وهو يتصل بها كل ساعة تقريباً لتسمعه تقرير مفصل عما قامت وتقوم وسوف تقوم به.. ارتسمت بسمة خجولة على شفتيها واحمرت وجنتاها وهي تتذكر مكالماته الليلية.. وجرأته اللامعقولة معها.. حتى أنها تعودت على إغلاق الهاتف في وجهه كلما تمادى في جرأته معها.. ضمت هاتفها لصدرها وهي تتوعد السائق الذي تأخر أكثر من المعتاد.. فهي تريد الذهاب إلى المزرعة حتى تحادثه وتطمئنه على وصولها.. وتستمتع ببعض جرأته التي أدمنتها..
من بعيد كانت عيون سهام تراقب وقفتها المتململة وهي تبتسم في انتصار.. قبل أن تتصل برقم ما.. وتهمس:
ـ البنت واقفة لوحدها دلوقتِ وبعيد عن أمن الفندق.. ممكن تتحركوا..
وفي لمح البصر كانت سيارة تمر بسرعة لتبطئ فجأة أمام علياء التي أفزعها توقف السيارة فلم تنتبه لمن تسلل خلفها بهدوء ليدفع بمنديل ذو رائحة نفاذة أمام وجهها ويلصقه به لعدة لحظات.. فتتهاوى ساقيها ويتلقاها الرجل بهدوء قبل أن تسقط ارضاً.. ويدخلها إلى السيارة لتنطلق بهم بعيداً..


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-18, 04:05 PM   #20

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل السابع عشر


اضجع مازن في فراشه واضعاً ذراعه تحت رأسه ورفع هاتفه بيده الأخرى وأخذ يعبث به للحظات حتى ظهر اسم حسن على الشاشة.. أخذ يتأمل رقم شقيقه للحظات.. رقم يحفظه عن ظهر قلب إلا أن استخدامه له أصبح نادراً.. توترت علاقته بشقيقه في الفترة الأخيرة لا ينكر هذا.. يكتفيان باتصالات أصبحت رسمية وروتينية..
الغيرة شعور بشع.. ولا يملك إلا أن يعانيه بصمت.. صمت أجبره عليه شعور مميت بالخجل.. والآن تحول الخجل إلى خزي مؤلم.. كيف يواجه شقيقه وقد حولته نيرة مرتين لخنجر تنحره به؟!!..
والليلة.. الليلة تأكد من أنها مازالت تحمل له مشاعر.. حتى ولو كانت كراهية إلا أنها تظل مشاعر.. فهي لم تأبه بحفل زفافها أو الفضيحة التي افتعلتها مقابل أن تؤلمه.. وهذا لا يصدر إلا عن عاشقة ناقمة.. وهو ما لن يستطيع نسيانه أو غفرانه بسهولة...
عبث بهاتفه قليلاً.. ورفعه إلى أذنه.. ولم ينتظر طويلاً حتى وصله صوت يزيد مجلجلاً:
ـ يخرب بيت عقلك.. إيه اللي بيخليك تتصل دلوقتِ!.. عايز تعليمات ولا شرح؟!!.. أومال بتعمل إيه مع دنيا بقى لك سنة وزيادة!!
هتف به مازن بحنق:
ـ لِم نفسك يا يزيد.. أنا مش ناقصك!
ـ واضح.. إيه اللي حصل؟. دنيا طربقتها على دماغك.. ولا..
قاطعه مازن:
ـ أنت مش ناوي تسكت وتلم الدور!
ـ حصل إيه يا مازن؟
تنهد مازن وقص كل ما حدث في حفل الزفاف على يزيد الذي صمت للحظات قبل يستفسر يزيد بذهول:
ـ وحسن فعلاً قرر أنه يشتغل نقاش؟
ـ أيوه.. قرر وصمم كمان.. رافض أي مساعدة مننا.. وكمان مش عايزني أبلغ جدتي.. دماغه ناشفة..
أجابه يزيد:
ـ عايز يحقق هدف معين.. ربنا معاه..
خيم الصمت عليهما لفترة قبل أن يعاود يزيد السؤال:
ـ وموقف والدك.. سكت وهو شايف اللي بيحصل؟..
هز مازن رأسه بحيرة:
ـ مش عارف يا يزيد.. في لحظة حسيت أنه هيتدخل ويوقف المهزلة دي.. وبعدين اختفى.. مش عارف..
كانت الجملة الحائرة الأخيرة تطالب يزيد بحل.. أي حل.. فقال بحزم لا يتعامل به كثيراً:
ـ روح لأخوك يا مازن.. الزيارة اتأخرت..
زفر مازن بحزن:
ـ عارف..
عاد يزيد يردد:
ـ مش هينفع تتأخر عن كده.. وحاول معاه في موضوع النقاشة دي..
ـ هروح له بكره..
ـ سلم لي عليه..
خيم الصمت عليهما.. فسأله يزيد بسخرية:
ـ أنت شكلك ناوي تقضيها تليفون الليلة.. ما تقوم تروح لدنيا..
تمنى مازن بالفعل لو يستطيع الذهاب لها, ولكنه يعلم أنها سترفض استقباله.. فهي لن تكون البديل الجاهز الذي ينفث به إحباطاته.. لم تكن تلك طبيعة علاقتهما.. ولن تكون.. كما أنه لن يهجر منزله ليلة زفافه.. يكفيه أن يهجر فراش عروسه.. ولكن ما بينهما.. يظل حبيس جدران المنزل.. ولولا احتياجه للفضفضة ما حادث يزيد.. لكنه يعلم أن حديثه مع يزيد كحديثه مع نفسه..
قطع أفكاره صوت يزيد يسأل بلهفة:
ـ شوفتها الليلة يا مازن؟.. عاملة إيه؟
ابتسم مازن بسخرية فكلٍ يغني على ليلاه.. فكر أن يراوغه قليلاً ولكنه أجابه:
ـ جميلة.. حزينة ووحيدة..
صوت تنهيدة يزيد كاد أن يصم أذنه.. قبل أن يجيبه مسرعاً:
ـ طيب اقفل بقى عشان أكلمها.. أنت أخدت أكتر من وقتك!..
أغلق يزيد وحاول الاتصال بعلياء عدة مرات ليجد أن الهاتف مغلق في كل مرة.. زفر بحدة وهو يعيد المحاولة مرة بعد مرة لتقابله نفس الرسالة الصوتية..
لابد أنها غاضبة.. أو تمر بإحدى نوبات تمردها التي ازدادت في الآونة الأخيرة.. وخاصة بعد سفره.. حسناً.. ليس تمرد بالمعنى المفهوم وإنما تذبذب مهلك في الانفعالات والمشاعر.. وهو لم يبتعد إلا أسبوعين.. وينوي العودة إليها بعد يومين وأخبرها بذلك بالفعل قبل ذهابها للزفاف.. لم تغضب وتغلق هاتفها إذاً؟..
تحرك ليدخل إلى غرفة نومه _التي أغلقتها ريناد على نفسها منذ سمعت صوت الهاتف لظنها أن علياء هي المتكلمة_ اندس بجوارها في الفراش ووجدها توليه ظهرها كالعادة.. حاول أن يضمها برقة.. فوصله صوتها:
ـ هي الساعة كام دلوقتِ؟..
أبعد ذراعيه ليضعهما تحت رأسه:
ـ الساعة اتنين..
ـ وأنت بعد ما خلصت وشوشة مع الهانم.. جاي دلوقتِ تحضني؟..
أجابها بصبر وكأنه يكرر أكليشيه يومي:
ـ أنا هنا معاكِ.. وهي بعيد.. طبيعي أني اطمن عليها.. وبعدين مش هي اللي كانت على التليفون.. ده...... حسن..
ـ برضوه الوقت اتأخر.. تصبح على خير..
رفعت الغطاء على كتفها حتى غطى أذنها وهي تغمض عينيها في قوة.. هرباً من رغباته التي لا تنضب ولا تقل.. لقد أصابها الملل بل الاشمئزاز من حالته تلك.. حتى أصبحت ترحب بمكالمته المستمرة لتلك الحمقاء الأخرى.. فتتخذ من غضبها ذريعة لرفضه مرة بعد مرة وهي مطمئنة أنه لا يستطيع الهرب نحو الأخرى.. وأن لا ملجأ له إلا هي.. فلتستمتع بقوتها تلك حتى تروض رغباته تماماً.. راحت في نومٍ عميق بالفعل وهي تتلذذ بتلك الفكرة.. تهذيب يزيد.. وتحجيم رغباته..
***********
أطلت منى من شباك الغرفة لتتأمل حسن الشارد والصامت تماماً منذ غادرا حفل زفاف شقيقه.. كان جالساً وسط حديقتها الصغيرة خارج الغرفة ناظراً إلى لاشيء.. وبدا الغضب على ملامحه.. غضب ممزوج بشيء لم تفهمه.. أهو التصميم أم الندم؟.... تساءلت والحيرة تتآكلها هل حانت لحظة الندم؟.. لكنها أتت بسرعة شديدة.. حتى أنها لم تتهيأ لها.. ذهابها برفقته إلى الزفاف كان مخاطرة ولكنها أخذتها بشجاعة.. وكانت متأكدة من تحرش نيرة بها.. فهي أنثى وتدرك عمق الجرح بداخل أنثى مثلها.. وتصورت أنها ستكون محط انتقام نيرة.. ولكن ما لم تفكر به هو هجوم نيرة على حسن نفسه.. واهانته بتلك الطريقة الفجة.. وهو.. بدا متجمداً وكأن كلمات تلك المتكبرة كانت كسياط وشمت جلده بما لا يمكن محوه.. والمشكلة أنه بدا متباعداً ورافضاً أي تسرية أو مواساة منها.. ردوده قصيرة ومقتضبة.. عيناه تتهرب من مواجهة عينيها.. ويلجأ للصمت متجنباً إجابة أسئلتها المنطوقة والصامتة.. وأخيراً.. اعتكف وحيداً وسط جنتها الخضراء.. ولكن بنفسية سوداء كالجحيم..
خرجت له أخيراً تحاول فك عزلته وسألته بخفة:
ـ حبيبي.. أجهز لك عشا خفيف؟
هز رأسه رافضاً بدون أي كلمة.. عادت تشاكسه مرة أخرى:
ـ طيب أعمل لك عصير فراولة.. بالسكر المرة دي..
أجاب باقتضاب:
ـ أنا مش محتاج حاجة يا منى.. شوية وهدخل أنام.. تصبحي على خير..
وأشاح وجهه بعيداً عنها.. يشرد عنها في عالم بعيد.. رافضاً وللمرة الأولى مشاركتها بأفكاره.. وهمومه..
اقتربت منه بصمت لتضم رأسه الى صدرها .. تحتفظ بها طويلاً قريباً من قلبها.. ثم قبلته على جبينه برقة وتركته كما طلب ودخلت إلى غرفة نومهما.. وفي أعماقها تشعر بحزن وجرح منه.. فهو انغمس في أحزانه على نفسه ولم ينتبه لألمها ومعانتها هي الأخرى من الإهانة التي ألحقتها بها نيرة على السواء.. إهانة كانت تتوقعها وقررت أن تتلقاها بشجاعة مقابل أن يشارك شقيقه ليلة زفافه.. ولكنه للأسف.. لم يفكر إلا بنفسه.. بألمه.. بكرامته.. وكبريائه..
وفي تلك الليلة ولأول ناما.. وكل منهما يولي ظهره للآخر.. ملتحفاً بأفكار مقلقة.. وحيرة حول المستقبل.. منى دموعها تجري بصمت وخوف رهيب يعتصر قلبها.. وحسن مصاب بحالة من الجمود.. جمدت كل أفكاره ومشاعره.. يشعر أنه في فقاعة عازلة ويخشى بشدة الإتيان بأي حركة خشية تمزق الفقاعة ومواجهة ما يحيط به..
ظلا كلا منهما يحاول ادعاء النوم بلا فائدة.. حتى شعرت منى بحسن يلتف ليلتصق بها.. فالتفتت له منى لتندس بين أحضانه وتغرز وجهها في صدره بينما تعصرها ذراعاه ليقربها منه أكثر فأكثر لتزداد دموعها ويمسحها هو بشفتيه هامساً:
ـ آسف.. يا منى...
استرخت منى بين ذراعيه وابتسامتها تخترق دموعها ورأسها يتوسد صدره.. تتجاوب برقة مع همساته واعتذراته المتكررة التي يلقي بها في أذنيها... وقلبها ينتفض سعادة بعدما كان يعتصر حزناً.. فحبيبها لم يحتمل أن تغفو وهي مجروحة منه.. فما الذي تريده بعد ذلك؟..
***********************
اقتحمت نيرة غرفة مازن وهي تغلي من الغضب... وظهر ذلك على معالم وجهها الجميل الذي احتقن بشدة.. وارتجف صوتها حنقاً وهي تسأل مازن الذي كان قد وصل لتوه من الخارج:
ـ تقدر تقولي كنت فين من الصبح؟.. أنا صحيت لقيت البيت كله فاضي وأنا لوحدي!..
رفع حاجبيه بسخرية:
ـ ما كنتش أعرف أنك بتخافي!
ضربت قدمها في الأرض بغضب:
ـ أنا ما بهزرش.. ازاي تخرج لوحدك يوم صبحيتنا ومن بدري كمان وما ترجعش إلا على العصر.. كنت فين؟..
تحرك ليقترب منها قليلاً وسألها ببرود:
ـ ده اسميه إيه.. قلق عليّ ولا قلق على برستيجك؟..
فكرت نيرة أن تتحدى بروده وتخبره أنها لا تهتم إلا بمظهرها الاجتماعي.. ولكنها تراجعت عندما داهمتها تلك اللحظة التي اكتشفت فيها عدم وجوده بالبيت.. والهلع الذي أصابها لظنها أنه سأم منها وقرر إنهاء ارتباطه بها.. فتحت فمها لتهادنه بكلمات رقيقة عن قلقها عليه.. ولكنه أوقفها:
ـ قبل ما تكدبي كدبة واحتمال تصدقيها.. افتكري أنك ما اتصلتيش مرة واحدة تسألي وتشوفي أنا فين..
رمشت بأهدابها عدة مرات وابتلعت ريقها بصعوبة.. تحاول أن تصلح من موقفها.. فهي فكرت بالاتصال به بالفعل عدة مرات.. ولكنها كانت تتراجع في كل مرة خوفاً من أن يبلغها أنه ترك المنزل ولن يعود..
وقبل أن تجد أي كلمات تجبه بها.. سمعته يخبرها:
ـ أنا جبت معايا أكل عشان الغدا.. ممكن توضبي السفرة؟.. بكره الخدم هيرجعوا لشغلهم.. وآه قبل ما أنسى.. يا ريت تجمعي هدومي من أوضتك وتنقليها الأوضة دي....
فغرت فاهها من كلماته ولم تستوعب إلا جملته بنقل ملابسه من حجرتهما.. فرددت بذهول:
ـ إيه اللي أنت بتقوله ده!
ـ بصي يا نيرة.. أنا مش عايز أفشل في حياتي.. أنا واحد ما بيعرفش يفشل.. امبارح كان سهل جداً أني أوصلك على بيت عمي عامر بدل ما أجيبك بيتنا.. لكن زي ما قلت لك.. كده أبقى فشلت.. في نفس الوقت صعب أقبل تصرفك امبارح..
كتفت ذراعيها بتوتر وهي تسأل:
ـ يعني إيه؟.. هنعمل إيه؟..
ـ مش هنعمل أي حاجة.. أنا محتاج أفكر في وضع جوازنا وفرص نجاحه..
صرخت بغضب:
ـ ما تتكلمش عن جوازنا زي ما تكون بتتكلم على صفقة ولا عملية جديدة للشركة.. وبتفكر فيه من ناحية المكسب والخسارة..
ابتسم بسخرية:
ـ أنتِ اللي حولتيه لكده بتصرف غبي.. ويا ريت يكون مش محسوب.. لأنه لو كان مدبر.. صدقيني هيكون تصرفي غير متوقع..
اقتربت منه.. اقتربت أكثر من اللازم.. ووضعت كفيها على صدره.. لتشعر بضربات قلبه تهدر تحت ضغط يدها.. فابتسمت بغنج:
ـ خلينا نبدأ من جديد..
لم يكن قربها منه بتلك الطريقة في صالحه.. خاصة مع توقه الشديد بأن يجعلها له.. ذلك الشوق الذي دفعه إلى الهرب منها ومن الفيلا بأكملها ليغرق نفسه في دوامة العمل.. حيث أنهك جسده فعلياً وأحرق رغبته بها في بوتقة الأعمال والتنقل بين المواقع.. وللغرابة لم تكثر الأقاويل حول خروج العريس إلى عمله يوم صبحيته.. فقد كان أغلب المدعووين في الزفاف من موظفي الشركة ولابد أنهم استنتجوا ما حدث بعد المشهد الوقح الذي افتعلته نيرة بالأمس..
انتبه فجأة على لمساتها وقد انتقلت أناملها لتمس ذقنه العريض والتي تفتنها بشدة ولكنها تبقي افتتانها بها سراً.. ولكنها وجدته يبعد يدها عن وجهه ويبتعد هو الآخر.. وإن فضحت سرعة تنفسه تأثره بها.. بينما كان هو يلعن ويسب ضعفه بداخله.. فهو يحاول التمسك بالبرود والجمود.. يريد أن يوجعها ولو قليلاً.. أن يسترجع ولو أقل القليل من كرامته التي مزقتها شر تمزيق..
فأخبرها ببرود يحاول اصطناعه:
ـ عشان نبدأ من جديد.. لازم نلاقي نقطة.. ولو صغيرة نبدأ منها.. نقطة نتقابل فيها.. وزي ما أنا عايز أوصل للنقطة دي لازم تكون دي كمان رغبتك.. ولحد ما ده يحصل, أنا هنام في الأوضة دي.. الجواز مش بس أننا ننام في نفس الأوضة ونفس السرير..
ابتلع ريقه بصعوبة وهو يردف.. مدركاً صعوبة كلماته على نفسه أولاً قبل أن تكون عليها:
ـ الجواز اللي أنا عايزه.. إن الواحد يكون عنده استعداد يقدم كل حاجة.. مقابل أنه يمتلك قلب حبيبه..
هتفت مقاطعة في غضب:
ـ هو أنا لازم أضحي واتنازل عشان أنفع أكون زوجة لك!
هز رأسه بحسم:
ـ مش تنازلات يا نيرة.. أنا مش بطلب تنازلات.. ولا هقدم تنازلات تاني.. لأنه لو كانت العلاقة صادقة وقوية مش هيكون في تنازلات.. منى امبارح جت فرحك وهي متأكدة أنك هتحاولي اهانتها.. لكن جت عشان تكون جنب حسن.. وما فكرتش أنها بتتنازل عشان ترضيه.. لا.. فكرت بس أنها تكون جنبه.. مش تنازل ولا تضحية.. بس صدق في المشاعر.. عشان كده بنت السواق زي ما قلتِ عليها امبارح.. ملكت قلب أخويا.. يا ريت تكوني فهمتِ أنا عايز أقول إيه..
غمغمت من بين أسنانها:
ـ برضه منى.. حتى أنت بتعطيني بها المثل.. كل ده عشان كلمتين قلتهم.. وكنت عايزة أرد بيهم شوية من كرامتي اللي بعترها أخوك.. خلاص.. هو من حقه يجرح ويهين وأنا لو رديت أبقى وحشة وما انفعش زوجة..
هز رأسه بيأس:
ـ تبقي لسه مش فهماني.. للأسف.. لسه.. واضح أنه الطريق طويل..
ثم لف مولياً إياها ظهره وتوجه نحو باب الحمام الملحق بالغرفة.. وهو يجبها بحسم:
ـ نيرة.. من فضلك قبل ما تدخلي أوضتي بعد كده.. تبقي تخبطي الأول..
توسعت عيناها في وسط وجهها حتى بدا كشاطئ أبيض يحيط ببركاتين فيروزيتين... وهي تدرك المعنى المؤلم لكلماته التي حولتها إلى إنسانة غريبة عنه وليست زوجته التي تمناها طويلاً..
وقبل أن يدخل إلى الحمام أردف ببطء:
ـ أنا عندي مشوار بعد المغرب.. هخلصه واعدي عليكِ نروح نزور جدتي.. هي عايزة تشوفك وتبارك لك.. أنتِ عارفة طبعاً أنه صحتها ما تتحملش أنها تحضر أفراح..
قال كلمته ودخل إلى الحمام مغلقاً بينهما باب...
***************
صفعة قوية وألم شديد نتيجة جذب شعرها بقوة كانا ما آفاقا علياء من غيبوبتها الإجبارية.. فتحت عينيها لتحاصرها قسوة عيون توسطت وجوه حجرية تعرفت فيها على عمها الأكبر صالح, وزوجته, وعمها سالم وهو الأوسط في ترتيب الأشقاء.. ولا يبدو أنه يهتم بما يدور أمامه.. وأصغر أعمامها مهدي والذي التمعت في عينيه نظرات ذنب ممتزجة بالشفقة والعجز.. ثم لمحت القسوة والتجبر الذي تجسد واضحاً في عينيّ عمتها سعاد, وأخيراً صاحبة الصفعة ومن تجذب خصلاتها بلا هوادة.. "الحاجة مُنتهى".. عمة والدها..
صفعة أخرى.. تلتها جملتها الظالمة:
ـ فاجرة.. دي آخرة الجاعدة في مصر.. البت عيارها فلت..
سالت دموعها وهي تحاول استيعاب ما يدور حولها والحاجة منتهى تبرم خصلاتها بقسوة وكأنها تريد انتزاعها من رأسها بالفعل..
وعادت تردد:
ـ ما هتخرجش من الدار لآخر يوم في عمرها.. ابعت المأذون يا ولد أخوي.. دي دواها الجواز.. ابن عمها يعجد عليها..
شهقت عمتها سعاد وهي تلطم صدرها:
ـ يعجد عليها!.. وأمل بنتي.. مرته..
لتتدخل زوجة عمها صالح:
ـ أنا هبعت لأم عواد الداية.. ولو طلع كلام الست سهام دي صُح.. يبجى نرميها لأي أجير من اللي بيفلحوا الأرض..
شهقت علياء بقوة وابتلعت دموعها مع المرار الذي يجري بحلقها وهي تتساءل بذهول عن علاقة سهام بأعمامها.. لما يذكرونها الآن؟.. ماذا يحدث حولها؟.. هل سهام هي من سلمتها لهم.. وماذا أخبرتهم؟.. أنها لا تعلم ما حدث بينها وبين يزيد قبل الزواج.. فماذا أخبرتهم لتشعل غضبهم بتلك الطريقة؟..
رددت بهمس مذهول:
ـ داية!!.. يعني إيه؟.. وليه؟.. هتعمل فيّ إيه؟..
ارتفع صوتها قليلاً:
ـ يا عمي.. اسمعني.. والله أنا..
لطمة قوية نزلت فوق عينها تلك المرة لتختفي الرؤية أمامها للحظات وهي تسمع عمها صالح ينهرها:
ـ أنتِ تسكتي ساكت.. ما اسمعش حسك ده أبداً.. بس دي غلطتي لما وافجت تجعدي في بيت الراجل الناجص ده..
نهضت من الفراش وهي تترنح لتحاول التمسك بكف عمها وتتوسله:
ـ يا عمي.. اسمعني.. ارجوك..
أزاحها بعنف فسقطت أرضاً.. بينما صوت زوجته يدوي في شماتة:
ـ هي اللي جليلة شرف.. منتظر إيه من واحدة تربية صالة رجص.. وأمها..
صرخت عليا بقوة:
ـ ما تجبيش سيرة ماما.. ما حدش يجيب سيرة ماما..
تلك المرة جذبها عمها من شعرها لتتوالى الصفعات على وجهها وهو يصرخ بها:
ـ يا جليلة الشرف والرباية.. تروحي تلفي على الراجل اللي لمك في بيته وبعد ما أمك خربت بيته مرة.. جاية أنتِ تكملي عليه وتجري رجله للحرام والمعصية.. لا دين ولا أخلاج.. ولا رباية.. أنتِ في موتك رحمة..
كانت الكلمات موجعة بقدر الصفعات بل ربما أكثر وجعاً.. فرحبت بغياب وعيها وهي تتبين أخيراً.. المكيدة التي حاكتها سهام لها.. فهي لم تخبرهم بزواجها من يزيد بل أقنعتهم بأنها على علاقة غير مشروعة.. بــ عصام.. زوج أمها ووالد يزيد.. وهم صدقوها.. تلك الغريبة التي لم يروها أو يعرفوها قط.. صدقوها.. وحكموا عليها هي.. ابنتهم.. وبقي موعد وكيفية تنفيذ الحكم..
هل دمائهم تجري في عروقها بالفعل؟.. تشك بقوة.. لا عجب أن أباها هرب منهم ليتزوج أمها!.. من يستطيع تحمل تلك القسوة من أقرب الناس إليه؟.. طالما حذرتها أمها منهم.. ومن تحجر قلوبهم.. والآن.. ذهب والدها ومن بعده أمها.. ولم يتبقَ لها أحد.. إلا حبيب ونصف زوج.. تشك في إمكانية إنقاذه لها.. وأقارب يشاركونها اسم العائلة وبضعة فدادين من الأراضي الزراعية هي كل ما يهتمون بها...
****************
عاد حسن من عمله مع آذان العشاء وهو يحمل عدة أكياس بين يديه.. تحتوي على بعض مل طلبته منى.. ليفاجئ بشقيقه جالساً وسط حديقة منى الصغيرة يحتسي كوباً من الشاي وقد جلس معه عم نصر وبدا أنهما منهمكين في حديث طويل...
التفت مازن فجأة لتصطدم عيناه بعينيّ حسن التي ضاقت في تركيز وكأنه يحاول تبين سبب وجود شقيقه_العريس الجديد_ هنا في منزله بدلاً من تواجده مع عروسة.. بينما جرت عينا مازن على ملامح أخيه يلتهمها في شوق واضح.. وقد بدا تأثره من الإرهاق البادي على ملامح حسن.. وملابسه التي فقدت رونقها واحتفظت ببعض أناقتها السابقة.. نهض ببطء ليتوجه نحو شقيقه ولكن منى التي شعرت بعودة زوجها كانت قد خرجت من شقتهما الصغيرة وتوجهت نحو حسن فقطع التواصل البصري بينه وبين شقيقه.. والتفت لزوجته يمد يده إليها بالأكياس ويهمس لها بضعة كلمات فتومئ بصمت وهي تأخذ منه حقيبة صغيرة.. خمن مازن أنها تضم الملابس التي يعمل بها حسن.. ولمح يد منى تضغط برفق ورقة على كتفه قبل أن تدخل إلى الشقة مرة أخرى..
لم يسمعا عم نصر وهو يستأذن متعذراً بموعد صلاة العشاء.. وظلت نظرات الشقيقين معلقة ببعضها.. تحرك حسن قليلاً وفتح ذراعيه على وسعهما فاندفع مازن إليه ليلتقي الشقيقان في عناق ترحيب وعتاب طويل..
وأخيراً همس حسن:
ـ مبروك يا مازن..
ابتعد مازن وهو يخفض بصره أرضاً ويهمس بدوره:
ـ لسه زعلان مني يا حسن؟..
ـ أنا مش زعلان.. ليه بتقول كده؟.
ـ مش أنا اللي بقول.. العتاب في عينيك هو اللي بيقول..
وضع حسن يديه في جيبي بنطاله وتحرك قليلاً حتى وصل إلى سور السطح.. فرمى بنظره إلى الأفق وهو يقول بصدق:
ـ يمكن ليلة امبارح زعلت شوية.. لكن قبل كده لأ..
ـ بس أنت بعدت قوي يا حسن.. همشتني جامد بعد جوازك.. في أوقات كتير حسيت أن يزيد أقرب لك مني أنا أخوك.. حتى أنه اتحول لشبه مرسال بينا..
هز حسن رأسه بنفي تام:
ـ يا مازن أنا بعدت عشانك أنت.. عشان سعادتك مش عشان زعلان منك..
قاطعه مازن بمواجهة آن أوانها:
ـ ليلة الحفلة واللي أنا عملته.. ما ضايقكش.. ما زعلتش أني طاوعتها وخذلتك؟..
سأله حسن بتقرير:
ـ أنت بتحبها.. مش كده؟..
لمحة من عذاب حي التمعت في عينيّ مازن قبل أن يخفيها بسرعة.. ولكن حسن التقطها بقدرة عاشق وفطرة أخ يبحث عن سعادة شقيقه.. فربت على كتف مازن بحنان:
ـ أنت اتصرفت صح.. لو أنا مكانك وجت لي الفرصة أني أكون مع الإنسانة اللي بحبها ما كنتش هتردد لحظة.. وده فعلاً اللي عملته.. أنا خاطرت بكل حاجة في سبيل أني أكون مع منى.. ليه بتلوم نفسك على نفس المخاطرة؟
أجابه مازن بسرعة:
ـ لأن...
ثم سكت وكأنه انتبه إلى شيء ما.. وسأل حسن بخفوت:
ـ أنت كنت عارف أني.. أني.. أني بحبها؟..
هز حسن رأسه بنفي:
ـ عرفت متأخر.. متأخر قوي.. ياريت كنت صارحتني من البداية.. كان حاجات كتير اختلفت..
عادت لمحات العذاب تمر بعينيّ مازن ولم يستطع إخفائها تلك المرة:
ـ ما كانش ينفع.. هي بتحــ.. أقصد كانت بتحمل لك كشاعر و..
قاطعه حسن:
ـ هي موهومة.. وأنت عارف كويس.. بص.. دي مش نقطة نقاشنا دلوقتِ.. لا أنا بلوم عليك سكوتك.. ولا زعلان من موقفك يوم الحفلة.. لكن..
سكت حسن وبدا متردداً في قول ما عنده.. ثم حسم أمره ليقول:
ـ أنت متأكد أنها هتسعدك؟..
أخفض مازن نظره وأسبل جفونه ليغطي على ما ظهر في عينيه من تعبير حائر.. ثم ربت على كتف حسن ورفع نظره إليه وقد غطى قناع من الجمود ملامحه:
ـ ما تقلقش عليّ.. أنا عارف هتعامل معاها إزاي..
لم يبدو على حسن أنه يصدقه وظهر على وجه سؤال حائر.. لم يستطع كبته فانطلق منه بدون إرادة:
ـ ليه؟..
هز مازن رأسه وارتسمت على وجهه ابتسامة حزينة:
ـ من غير ليه!.. أنت ممكن تلاقي ألف مبرر للاعجاب.. لكن لو وقفت لحظة وقدرت تحدد سبب للحب.. يبقى اتحول لأي حاجة تانية.. غير الحب..
تجمد حسن للحظات.. ثم غمغم بهمس:
ـ للدرجة دي يا مازن!..
لم يجبه مازن.. وأدار وجهه بعيداً.. قبل أن يقرر تغيير الموضوع:
ـ ما تشغلش بالك بيّ.. خلينا في الأهم.. أنت لسه مصر على موضوع النقاشة؟..
تكتف حسن بإحساس من على وشك دخول معركة:
ـ مضايقك الموضوع ده في حاجة؟..
ـ أكيد في حلول تانية..
أومأ حسن موافقاً:
ـ أكيد.. بس ده أسرع!
ردد مازن بعجب:
ـ أسرع؟؟
ـ أيوه يا مازن أسرع.. أكيد أنا مش هستمر نقاش طول عمري..
هز مازن رأسه بحيرة وكأن حسن ألقى اليه بــلغز عميق:
ـ فهمني أنت ناوي على إيه؟.. أنا ممكن أدبر لك..
زجره حسن:
ـ مازن.. خلاص.. أنا لازم أفكر أني أدبر لنفسي.. وأحل المشاكل اللي نتجت عن قراراتي.. مش هينفع حد تاني يحمل همي.. أو يحل مشاكلي..
ـ فهمني يا حسن.. أنت بتقلقني بكلامك مش بتطمني..
أخرج حسن زفرة حارة قبل أن يقول:
ـ أنا ناوي على السفر يا مازن..
ـ سفر!
أكمل حسن وكأن مازن لم يقاطعه:
ـ والسفر محتاج مصاريف.. مصاريف كتير.. خاصة أني لازم آخد منى معايا.. مش هينفع أسيبها هنا لوحدها..
ـ وأسرع طريقة هي النقاشة؟..
غمز حسن بعينه:
ـ أنا نقاش شاطر!..
وأكمل مازن عنه:
ـ و...
ابتسم حسن:
ـ و... وبس..
بادله مازن الابتسام:
ـ هو عصبي جداً من بعد ما وصله الموضوع.. درجة عصبيته 44 وشرطة..
ابتسم حسن بمرارة:
ـ قلقان على مظهره قدام الناس واسمه في السوق..
ـ ممكن..
وتردد قليلاً قبل أن يكمل:
ـ امبارح.. امبارح.. تقريباً قربت أصدق أنه كان قلقان عليك أنت.. بس.. أنت عارف.. صعب أني أحدد.. بس يا حسن.. مش معنى كده أني موافق أنك تتبهدل لمجرد إثبات موقف..
ـ لا يا مازن.. مش مجرد إثبات موقف بس.. زي ما قلت لك.. السفر هو هدفي.. النقاشة مجرد وسيلة.. اطمن أنا مركز كويس..
ربت مازن على كتفه وهو يتحرك متوجهاً نحو باب السطح:
ـ ماشي يا حسن.. براحتك.. بس افتكر دايماً.. أن مجموعة العدوي.. لك فيها حق زي.. وأكتر كمان.. و..
قاطعه حسن راغباً في تغيير الموضوع:
ـ أنت هتتعشى معانا الليلة..
ابتسم مازن بتفهم واجاب بهدوء:
ـ الليلة هتعشى مع جدتي.. عايزة تبارك لي..
ـ سلم لي عليها يا مازن..
أومأ مازن برأسه.. وتحرك ليخرج من باب السطح.. ثم عاد ليعانق شقيقه بقوة:
ـ أنا آسف يا حسن.. والله آسف..
وكزه حسن بخفة:
ـ عيب يا ولد.. أخوك الكبير يا ولد..
ابتسما معاً.. وعيونهما يغشاها الدمع..
*************
لم تعرف كم غابت عن الدنيا ولكنها استيقظت على وكزة قوية من زوجة عمها وهي تخبرها بعنف:
ـ جومي.. أم عواد جت.. وهتشوفك دلوجت..
دعكت علياء عينيها بظهر يدها وهي تحاول التحرك فتمنعها آلام جسدها المتفرقة.. وشعرت بقماش ناعم يلقى بوجهها.. فأمسكته لتكتشف جلباب واسع أسود اللون.. أخذت تتأمله بدهشة بينما هتفت بها زوجة عمها:
ـ جومي.. اجلعي المسخرة اللي أنتِ لابساها.. والبسي ده.. أم عواد مستعجلة..
سألت علياء بتردد:
ـ مستعجلة ليه؟.. هي هتعمل إيه؟..
ـ البسي بس..
خرجت وتركتها وحدها فبدلت علياء فستانها بالجلباب الأسود.. رتبت فستانها برقة وهي تتذكر صراخ يزيد عندما وصفته له وتوعده لها بأنه سيمزقه.. ولكن ليس قبل أن يعاينه على جسدها أولاً.. هزت رأسها بخوف.. ماذا سيحدث لها الآن؟.. وهل سيعلم بمكان وجودها؟.. كيف سيعلم ومن سيخبره؟.. وهل سيأتي؟.. هل يهتم بما يكفي ليأتي؟.. أم....
قطع تسلسل أفكارها.. دخول عمتها وزوجة عمها مع سيدة أخرى.. تبدو ملامح وجهها هادئة نوعاً.. ولكنها ملابسها السوداء تبدو مقبضة بشدة..
أمرتها زوجة عمها بخشونة أن تستلقي على ظهرها.. ولكنها تجمدت في مكانها تحت النظرات المتفحصة من المرأة الغريبة حتى فوجئت بعمتها تدفعها بقوة لتسقط على الفراش.. حاولت النهوض ولكن زوجة عمها لفت حول الفراش من الناحية الأخرى لتجذبها وتكبلها كلا السيدتين من كل جهة.. بينما تعرضها تلك السيدة سوداء الملابس لابشع انتهاك قد تمر به أنثى..
تعالت صرختها التي أخرستها لطمة قوية من عمتها وهي تنهرها:
ـ اخرسي يا فاجرة..
ثم وجهت كلماتها الى أم عواد:
ـ وأنتِ كمان.. خلصينا..
انتهت السيدة من فحصها المؤلم وألقت بالغطاء فوق علياء التي تكومت على نفسها متخذة وضع الجنين وهي تشهق ببكاء مكتوم وجسدها ينتفض مع كل شهقة.. أغمضت عينيها علهن يختفين من أمامها.. فهي لم تعد قادرة على تحمل سواد ملابسهن والأصعب قلوبهن الحجرية.. فلم تنتبه لحركة تلك السيدة الغريبة وهي تشير برأسها لعمتها وتقترب منها لتهمس في أذنها بشيء ما جعل عمتها تلطم خديها وتخرج مسرعة.. ليعود معها بعد ذلك عمها صالح وقد التمع الشر والأذى في عينيه ليجرها كعادته من شعرها ولكن تلك المرة تسقط من فوق فراشها وهي تصرخ بألم.. وصفعاته تتوالى على كل ما تصله كفه الضخمة من جسدها.. وتنطلق منه كلمات السباب والشتائم لم تسمعها من قبل وهو يصفها بأبشع ما ذكر في معاجم اللغة.. فأخذت تردد بدون توقف:
ـ مظلومة.. والله مظلومة.. أنا متجوزة.. يزيد اتجوزني.. يزيد.. يزيد..
تصرخ بأعلى صوتها بينما يتجبر عمها ولا يصدق:
ـ اتجوزك.. تلاجيه كان بيصلح غلطة أبوه.. عيلة واطية.. وأنت اوطى يا بنت..
صرخت مقاطعة وصفعة أخرى تسقط على وجنتها فأسالت الدماء من جانب وجهها:
ـ والله يزيد جوزي.. والله..
هم بصفعها من جديد عندما تدخلت زوجته لتمنعه:
ـ بيكفي يا صالح.. هتموتها في ايدك..
ـ موتها حلال..
ـ عايز توسخ يدك بدمها النجس.. ولا تروح أنت جصادها.. دي تربية بنادر وما نعرفش مين هيسأل عليها.. احنا نرميها للواد عبده العلاف.. ونبجى سترنا عرض أخوك..
هتفت علياء بهم:
ـ متجوزة والله أنا متجوزة.. يزيد.. يز..
أخذت تردد اسمه بخفوت.. وكأن ترديد اسمه ما سيحميها من قسوتهم وحكمهم الجائر...
دخل لحظتها مهدي العم الأصغر.. وسمع كلمات علياء المتفرقة فتوجه لأخيه:
ـ طيب يمكن يا خويا تكون صادجة ومتجوزة صُح.. ما نسعل ونتوكد..
سخر صالح منه:
ـ صدجتها يا خوي.. جلبك الطيب حن!
ـ ما هنخسرش حاجة.. مش احسن ما نجوزها وتطلع على ذمة راجل تاني.. ده غير أوراجها كلها عند اللي اسمه عصام ده..
فكر صالح في كلمات أخيه قليلاً:
ـ عندك حق يا أخوي.. والأرض لازم ناخدها بيع وشرا الأول جبل أي حاجة وبعدين نشوف هنعمل معاها إيه..
ثم أشار إلى علياء المتكومة على الأرض وهو يحدث زوجته:
ـ ما تخرجش من الأوضة.. واكلها عيش وميّ..
ربتت زوجته على كتفه وهي تطمئنه:
ـ اطمن يا حاج صالح.. أنا فاهمة هعمل إيه..
خرجوا جميعاً من الغرفة وتركوها وحيدة.. ملقاة على الأرض فلم تملك القوة حتى للزحف لتعود إلى فراشها.. لم تشعر بمعنى اليتم كما شعرت تلك اللحظة.. وحيدة تماماً رغم وجودها وسط أهلها.. غريبة وسط أقارب يهاجهمونها ويتهمونها بما لا تعلم.. يبادرون ليس لحمايتها ولكن لانتهاكها..
وهو.. معذبها الأول.. أول من انتهك.. وأول من ابتعد.. وأول من تركها وحيدة وسط قطيع من ذئاب ينهشها ولا تملك ما تدافع به عن نفسها.. سوى كلمتها والتي يرفض الجميع سماعها..
وبين اليقظة والهذيان شعرت بمن يدخل الغرفة.. ويقترب منها.. لتلمح نصل حاد يلمع في الضوء.. قبل أن تغيب تماماً عن الوعي.. ولسانها يردد اسمه كتعويذة سحرية ربما تحميها من قسوتهم الباردة...
************
على الجانب الآخر كان يزيد يحاول يائساً ولثلاثة أيام كاملة الاتصال بعلياء بلا جدوى.. فهي لا ترد على هاتفها المحمول.. ولا هاتف المزرعة.. وحتى حاول الاتصال بها على هاتف شقتهما_والتي قررت ألا تنتقل اليها إلا وهو معها_ ولكنه أيضاً فشل في الوصول إليها..
كان يظن في البداية أنها غاضبة عليه بسبب صراخه عليها.. ولكن الآن أدرك أن الأمر يتخطى نوبة غضب عابرة.. فيبدو أن حضورها زفاف نيرة أشعل بداخلها الحنين ليكون له زفافها الخاص.. وهي إما غاضبة تلومه ومحرجة من مطالبته بحفل خاص بها.. أو أنها غاضبة لأنه لم يستطع العودة في الموعد الذي أخبرها به.. وقررت أن تعاقبه بخصام.. زفر بحنق فهو كان ينوي العودة إليها بالأمس.. ولكن والده كبله بمجموعة من المهام والأعمال ستستغرق أسبوعاً على الأقل...
حاول مرة أخرى أن يتصل بها.. لتأتي له الرسالة المسجلة التي سأمها.. فاتصل بوالده مباشرة:
ـ بابا.. علياء فين؟..
ـ عليااا؟.. عليا موجودة.. هتروح فين؟
لهفة يزيد الشديدة لم تمكنه من التقاط التوتر في صوت والده.. فأردف بسرعة:
ـ أنا بيتهيألي أنها زعلانة أو ممكن محرجة وبتفكر يكون لها حفلة وفرح.. لو سمحت يا بابا بلغها أني موافق.. واللي هي تطلبه هنفذه.. بس خليها تفتح الموبايل.. عايز اطمن عليها..
لم يعرف والده بم يجبه فهو قرر إخفاء أمر اختطاف علياء عنه.. ففي البداية لم يكن يعرف ما حدث لها.. فقط أنها لم تصل إلى المزرعة بل تغيبت طوال الليل ولم تظهر أبداً..
عند عصر اليوم التالي.. لم يجد بداً من الذهاب إلى الشرطة.. وبعدما استمع له مأمور القسم.. لفت نظره بطريقة غير مباشرة.. بسؤال أعمامها.. أو التحري لديهم أولاً.. ولكنه لم يحتج لذلك.. فقد وصله اتصال من عمها في اليوم التالي.. وكان فحوى الاتصال من أغرب ما يمكن.. وأكال له الرجل اتهامات ووصمه بما لم يخطر على باله.. وعندما أوضح له أن علياء أصبحت زوجة لابنه يزيد.. تعالت صيحات عمها بالتهديد له وليزيد بالانتقام وغسل العار.. أي عار يتحدث عنه هذا الرجل؟.. هل أخبرتهم علياء بفعلة يزيد نحوها قبل الزواج؟.. وهل تذكروا الآن فقط ابنتهم؟.. وفكروا في حمايتها والثأر لشرفها!
صوت يزيد أخرجه من شروده وهو يؤكد:
ـ خلاص يا بابا هتبلغها؟..
صمت عصام للحظات.. ثم حسم أمره.. واجاب بحزم:
ـ هو احنا مش اتفقنا أنك تبعد عنها لفترة.. اللي بتعمله ده اسمه إيه.. البنت محتاجة وقت تراجع فيه نفسها.. حضورها فرح نيرة أثر عليها جامد زي ما قولت.. سيبها تروق على مهلها.. وهي هتبقى تكلمك..
وأغلق الخط بسرعة.. يعلم بأن اخفائه الحقيقة عن يزيد قد يعرض علياء للخطر, ولكنه أب.. يخشى على ابنه من تهديدات أعمام الفتاة.. وعزائه أن عمها اتصل ثانية فاتحاً مجال للتفاوض.. وموضحاً أنهم يهتمون بالأراضي وميراث علياء من والدها.. وهو يحاول معهم جاهداً ليصل إلى حل ينقذ به الفتاة قبل فوات الأوان...

***************


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:59 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.