آخر 10 مشاركات
ومازلنا عالقون *مكتملة* (الكاتـب : ررمد - )           »          عذراء فالينتي (135) للكاتبة:Maisey Yates(الجزء 3 سلسلة ورثة قبل العهود) *كاملة* (الكاتـب : Gege86 - )           »          أطياف الغرام *مميزة ومكتملة * (الكاتـب : rainy dream - )           »          83 - عصفورة الصدى - مارغريت واي (الكاتـب : فرح - )           »          صبراً يا غازية (3) *مميزة و مكتملة* .. سلسلة إلياذة العاشقين (الكاتـب : كاردينيا الغوازي - )           »          زوجة مدفوعة الثمن (44) للكاتبة:Lynne Graham *كاملة+روابط* (الكاتـب : فراشه وردى - )           »          تشعلين نارى (160) للكاتبة : Lynne Graham .. كاملة مع الروابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          ليلة مع زوجها المنسي (166) للكاتبة : Annie West .. كاملة (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          وقيدي إذا اكتوى (2) سلسلة في الغرام قصاصا * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : blue me - )           »          ثأر اليمام (1)..*مميزة ومكتملة * سلسلة بتائل مدنسة (الكاتـب : مروة العزاوي - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى الروايات والقصص المنقولة > منتدى الروايات العربية المنقولة المكتملة

Like Tree2Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 20-01-18, 05:29 PM   #31

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


الفصل الثامن والعشرون


ـ I love you Hassan...
فاجأته.. بل صدمته.. فقد أدخلت قلبها في المعادلة.. وهذا ما لم يضعه في حسبانه..
التفت لها بحدة وقد ظهرت بعينيه نظرات غاضبة.. لا يريدها أن تحبه, بل لا يريد أن يسمع كلمة حب من الأساس.. أنه لم يتزوجها من أجل الحب وهمسات القلب, بل ليقتل ذلك القلب.. يدفنه كما دُفِنت حبيبته..
سحب سيجارة أخرى ونفث دخانها ببطء وأخذ يتأمل لورا قليلاً.. ثم همس ببرود:
" you are really pretty!"
كانت جميلة بالفعل وكأنها أخذت خلاصة الفتنة الإنجليزية والعربية.. فخصلاتها شقراء فاتحة تكاد تكون بلاتينية.. بشرة ناعمة برونزية لامعة وليست شاحبة كعادة الانجليز.. عيون رمادية خضراء كعيون القطط..
كانت لورا ستيفنز قطعة فنية راقية.. وهو ما صرح به للتو.. فهو لم يتخيلها بهذا الجمال.. بل لم يكن يرها من الأساس!
من يصدق أنه قضى ثلاث ليال بين أحضان امرأة أدرك لتوه لون عينيها!..
ارتسمت بسمة ساخرة على شفتيه دفعت لورا لسؤاله عما يضحكه.. فعاد يتأملها لثوانٍ قبل أن يسألها:
ـ أنتِ لم تخبريني بقصتك بعد.. أعني أنه من الواضح أنه كان بحياتك رجل ما..
كتفت ذراعيها وهي تتأمله بدورها تحاول معرفة سبب تغييره للموضوع وتجنبه تماماً الحديث عن تصريحها بالحب.. فأجابته وهي تهز كتفيها:
ـ هل هو الفضول أم هي مجرد أفكار شرقية عتيقة!
حرك يديه أمام وجهه وكأنه يدفع تهمة ما:
ـ أنا لا أحكم عليكِ..
قاطعته ببرود:
ـ وليس من حقك الحكم علي..
أغضبه برودها.. فكرر سؤاله مرة أخرى:
ـ أعتقد أنه من حقي أن أعلم إذا ما كان هناك زوج خفي في ماضيكِ!
ابتسمت بمرارة:
ـ تريد أن تسمع قصة وجعي.. أم تريد الهروب من وجعك أنت؟
هز رأسه بمرارة وهو ينهي سيجارته ليبدأ واحدة جديدة وغمغم بصوت خافت:
"هروب!.. نعم.. هروب"..
ورفع صوته وعينيه إليها ليعاود السؤال بهدوء.. فتحركت ببطء لتجلس بجواره على الفراش.. وتسند ظهرها إلى إحدى الوسائد.. وتغمض عينيها لتقص عليه حكايتها:
ـ كان والديّ مدمنا مغامرات مجنونة.. تسلق جبال.. رحلات سفاري.. زيارات مختلفة لغابات أفريقية.. كان يستهلكان كل ذرة سعادة يستطيعا الحصول عليها.. حتى.. كانت مغامراتهما الأخيرة.. قفزا معاً من إحدى الطائرات..
مطت شفتيها بأسى قبل أن تحاول ابتلاع ريقها وتهمس بخفوت:
ـ لم تفتح المظلة.. ولم يضع أي منهما المظلة الإضافية..
همس بتأثر لم يستشعره بالفعل.. فهذان الأخرقان اختارا الموت.. فكيف يحزن على موتهما:
ـ آسف..
سقطت دمعة وحيدة على وجنتها مسحتها بسرعة.. قبل أن تكمل وهي ترسم بسمة خفيفة على شفتيها:
ـ لا داعي لذلك.. أنا لم أفتقدهما كوالدين.. فقط افتقدت هالة المرح والإعجاب حولهما.. ولكني دائماً كنت حبة قلب جداي.. كان يكفي فقط أن أتمنى شيئاً لأجده بين يدي في التو..
التفتت له لتبتسم برقة وهي تمد يدها تداعب وجهه لتكمل بعدها:
ـ هذا لا يعني أنني كنت فاسدة.. فقط..
أكمل لها وهو يبتعد بوجهه:
ـ مدللة..
أومأت موافقة.. ثم بدا أنها تجد صعوبة في اكمال قصتها.. فقد انقبضت ملامحها الجميلة بألم وهي تكمل:
ـ جيرارد, ذلك كان اسمه..
ابتلعت ريقها بصعوبة:
ـ كانت علاقتي بجداي رائعة.. حتى.. حتى التقيت به.. كنت في السابعة عشر فقط وكان هو مبهراً.. آخاذاً.. سلب قلبي من أول لحظة.. فتنت به.. ولم أرى غيره.. ولم أعد أقتنع إلا بكلماته..
صمتت قليلاً لترى رد فعله على كلماتها العاشقة لغيره.. ولكن ملامحه بقيت كما هي.. ثابتة كقناع بلاستيكي وسط سحابة من دخان السجائر.. فهزت كتفيها لتخبره بتردد وهي ترفع عينيها إليه:
ـ كان أول رجل في حياتي.. والوحيد.. حتى جئت أنت!
قطب حاجبيه بتساؤل:
ـ ما الذي يعنيه هذا؟.
أجابته بخفوت:
ـ يعني أنني لا أقوم بعلاقات كيفما اتفق.. أنا فقط ارتبط بمن أحب حقاً..
رفع رأسه بعنف وهو يستمع إلى تلميحها بالحب.. كلا.. يجب أن تتوقف عن حشر كلمة حب كلما تحدثا معاً... فما يجري بينه وبينها ليس حباً وبالكاد يطلق عليه زواجاً.. وهو ما يجب أن تفهمه تماماً..
نهض من الفراش وهو يشير إليه ببرود:
"That”s not love... we just slept together"
نظرت إليه بألم.. ونهضت بدورها لتواجهه هامسة وهي تلف ذراعيها حول عنقه:
" No Hassan, I just made love to you"
أبعد ذراعيها عن عنقه ليبتعد عنها إلى آخر الغرفة هاتفاً بقسوة:
" Stop it ...stop saying that.. don”t"...
قاطعته بقوة:
" No, I”ll say it and repeat it.. hopping.. youlisten one day"..
مسح وجهه بكفيه بإجهاد وهو يردد:
ـ لماذا ترغبين في تعذيب نفسك وتحميلي المزيد من الذنب؟.. ألا يكفي ما أشعر به؟..
اقتربت منه لتحيطه بذراعيها برقة:
ـ لا يجب أن تشعر بالذنب.. منى لن يسعدها شعورك ذاك..
دفعها بعيداً وهو يهتف بغضب:
ـ منى ماتت.. كيف يمكن أن تسعد أو تحزن؟.. الأموات لا يشعرون.. فقط يبتعدون.. يقررون الهجر والفراق.
هتفت بذهول:
" you are blaming her!!!!"
ارتج جسده بقوة وكأنها رمته برصاصة.. وكلماتها تتردد في ذهنه مرة أخرى.. هل يلوم منى على موتها؟.. أم غطاء اتخذه عقله الباطن ليبرر لنفسه ارتباطه بلورا؟.. أو مجرد وسيلة هروب سهلة ليتمكن من النجاة من فجوة سوداء هائلة تمتص نبضاته..
أراد الهروب من أفكاره.. كلماته.. مشاعر لورا.. لا يريد مزيداً من النقاش حول منى.. حول الحب والعشق..
غير الموضوع هرباً من الاجابة:
ـ لم تخبريني ماذا حدث مع زوجك؟..
تساءلت بدهشة:
ـ زوجي!!
ـ نعم.. الرجل الذي أحببته..
ضحكت بسخرية تعجب لها:
ـ نعم.. الرجل الذي أحببته.. من خسرت بسببه احترام جداي.. من تركت بلدي وجريت خلفه لاهثة إلى باريس.. لأكتشف في ليلة سوداء.. أنه زوج.. وأب لطفلين..
ضحكة مريرة أخرى صدرت منها وحبست دموعها ببسالة:
ـ ولا داعي لذكر مجموعة منتقاة من الصديقات..
أومأ برأسه بتفهم وهو يسألها بواقعية:
ـ وبالطبع عجزتِ عن العودة لجديك.. واستقريتِ هنا..
ـ نعم.. وبعد مجهود كبير.. استطعت الحصول على غفران جدي قبل وفاته..
ـ جيد..
اقتربت منه ببطء وهي تقول بتردد:
ـ حسن.. يجب أن تعلم أن جيرارد انتهى من حياتي منذ سنوات طويلة..
قاطعها:
ـ منذ أن عرفتِ بوجود زوجته؟..
رفعت عينيها إليه وقد تجمدت الدموع بعيونها وهي تسأله:
ـ لا يمكنك أن ترى الأمور إلا بالأبيض أو الأسود!.. هل تعتقد أن المشاعر تختفي بضغطة زر؟..
تكلم بإقرار وغضب مكتوم:
ـ بقيتِ معه رغم علمك بزواجه..
هتفت بشراسة:
ـ لقد أخبرتني أنك لن تحكم علي!..
تجاهلها متسائلاً:
ـ كم استمرت علاقتك معه؟..
برقت عينيها القططية بشراسة وهي تسأل بدورها:
ـ هل ستسمح بتبادل الأدوار؟..
ضيق عينيه بحيرة.. فأكملت لتوضح له:
ـ أن أقوم باستجواب مماثل؟..
أشاح بيده:
ـ أنتِ تعلمين كل شيء عني بالفعل..
كتفت ذراعيها وهي تجاوبه بتحد:
ـ ما أعرفه عنك كان على لسان منى..
صمتت عندما برقت عيناه غضباً.. فتنهدت بإجهاد وتهالكت على الفراش لتسأله بواقعية:
ـ حسن.. هل تنوي الاستمرار في زواجنا؟...
سؤال يحتاج لاجابة.. اجابة هو لا يملكها.. على الأقل في الوقت الحالي..
*********
عدلت نيرة مرآة السيارة لتتأكد من مظهرها قبل أن تتوجه إلى الأتيليه الخاص بدنيا.. لتبدأ أولى معاركها مع من فتنت زوجها.. وتزوجته.. وسرقته منها منذ سنوات..
داعبت خصلاتها الحمراء الثائرة والتي تناثرت بفتنة لتغطي صدرها وذراعيها وظهرها أيضاً المكشوفين تماماً.. رفعت صدر ثوبها الأحمر الناري ليغطي مقدمة صدرها قليلاً.. ويظهر بعض من بشرتها الوردية اللامعة بين خصلاتها.. وعندما ترجلت من سيارتها جحظت عيون من حولها ونظراتهم تجري على ساقيها الطويلتين لتصل لنهاية ثوبها الذي ارتفع فوق ركبتيها بعدة إنشات..
ابتسمت بثقة وهي تستشعر اعجاب الرجال بها في كل خطوة تخطوها بدلال بالغ أبرزه كعب حذائها العالي..
تعلم أن مازن سيقتلها لو رآها بذلك الثوب.. ولكنها في تلك اللحظة لا تهتم.. فهو دمرها بالفعل الليلة الماضية.. وارتدائها لذلك الثوب لهو أقل انتقام تستطيعه, كما أنها ستذهب لمواجهة إحدى أيقونات الأناقة والموضة في العالم العربي.. وارتدائها لمثل ذلك الثوب الصاعق يزيد من ثقتها بنفسها.. تلك الثقة الواهية التي بعثرها حسن ثم جاء مازن ليجمعها مرة أخرى ولكن ليلقي بها في أقرب سلة مهملات وهو يخبرها بمنتهى البرود أنه متزوج من قبل حتى أن يتزوجها أو يرتبط بها..
وبين تدافع أفكارها وجدت نفسها أمام مكتب مساعدة دنيا التي رحبت بها.. وأبلغت دنيا بوصولها مما أثار تعجبها.. هل كانت تتوقعها؟..
دلفت إلى مكتب دنيا الفخم وتحركت الأخيرة لاستقبالها عند الباب مما سمح لها بتأملها جيداً... جميلة.. بل فاتنة.. تمتلك جمال شرس.. لا شك أنه يثير اعجاب العديد من الرجال.. وأولهم مازن, بشعرها الأسود الطويل والذي تصففه اليوم بجديلة فرنسية معقدة ورغم هذا يصل طولها لنهاية خصرها الذي التف بزنار فضي يجمع ثوبها الوردي اللون والذي تلتف تنورته حول ركبتيها..
كانت خامته رقيقة مما سمح بإظهار تناسق قدها الممشوق مع المحافظة على أناقتها ووقارها.. وذلك أغضب نيرة بشدة.. فدنيا ببساطتها وأناقتها تمثل ما يعجب مازن.. ما يريده ويستحقه رجلاً مثله..
أغضبها تفكيرها بشدة وهزت رأسها بعنف لتقذف منها تلك الأفكار فتناثرت خصلاتها حولها وظهر عُري ثوبها بوضوح, فزمت دنيا شفتيها بعدم رضا وهي تدعوها للجلوس على إحدى الأرائك.. ولكن نيرة هزت رأسها رفضاً وكتفت ذراعيها ووقفت بتحدي وهي تخاطب دنيا بترفع:
ـ أكيد دي مش زيارة ودية..
وأشارت بيدها بطريقة مسرحية مترفعة:
ـ وواضح أنك كنتِ منتظرها..
ابتسمت دنيا ببرود:
ـ أكيد.. الخبر النهارده في كل الجرايد..
وصمتت لحظة لتردف وقد اتسعت ابتسامتها باستفزاز:
ـ أنا لازم أشكرك.. مازن قالي أنك أشرفتِ بنفسك على توزيع البيان على الجرايد..
هتفت نيرة بحنق وقد أغاظها برود دنيا:
ـ يا بجاحتك.. ايه مش مكسوفة من نفسك؟..
قطبت دنيا بتساؤل:
ـ اتكسف!.. اتكسف من ايه؟.. أنا لا عملت حاجة عيب ولا حرام؟..
صرخت بها نيرة:
ـ أنتِ سافلة..
تقدمت دنيا خطوتين وهي تشير لها بسبابتها محذرة:
ـ يا ريت تتعاملي بأدب.. وتحتفظي بتحضرك..
ثم أضافت وهي تلوي شفتيها باستهزاء:
ـ ده لو كنتِ تعرفي يعني ايه تحضر!
هتفت بها نيرة:
ـ تحضر!.. خطفتِ جوزي وجاية تكلميني عن التحضر!!
أجابتها دنيا ببرود سيدة أعمال تدير جلسة مفاوضات غير مرغوبة:
ـ بيتهيألي مازن وضح لك أني الزوجة الأولى..
ـ ولما أنتِ الأولى وافقتِ تكوني في الضل ليه؟..
رفعت دنيا حاجبها وهي تحاول التمسك بواجهة البرود:
ـ أسبابي ما تخصكيش..
ـ لا.. خلاص.. ما عادش ينفع تقوليلي يخصك ويخصني.. دلوقتِ مصيرنا مرتبط ببعضه..
أجابتها دنيا بعجب:
ـ ايه الكلام العجيب ده.. مصيرنا ازاي مرتبط ببعضه.. أنا مصيري بإيد ربنا سبحانه وتعالى وبعدها قرارتي في إيدي.. وطبعاً بالتفاهم مع مازن.. أنتِ ليه متخيلة أنه ممكن يجبر أي واحدة على وضع مش مقبول..
هزأت نيرة منها:
ـ طبعاً.. أنتِ بقى فهماه كويس وعاملة لي فيها الصدر الحنين..
هتفت دنيا بغضب وقد بدأ برودها في التبخر:
ـ مدام نيرة.. افتكري أني قلت لك احتفظي بتحضرك..
صرخت نيرة:
ـ أنتِ جايبة البرود ده منين!.. ولا أنتِ ساذجة ومش متخيلة وضعنا الجديد..
أشارت دنيا بسبابتها محذرة:
ـ ما تعليش صوتك هنا.. وأنا مش ساذجة أبداً.. الوضع ده مستمر بقى له سنين.. أنا أقلمت نفسي معاه.. حاولي أنتِ كمان تتأقلمي.. على الأقل عشان خاطر مازن..
ضحكت نيرة ضحكة مريرة:
ـ وأنتِ طبعاً بتعملي كل حاجة عشان خاطر مازن..
ثم سألت بصرامة خافتة:
ـ بتحبيه؟..
ارتسمت على ملامح دنيا رقة عذبة وهي تجيبها معترفة:
ـ جداً..
العشق الخالص الذي استشعرته نيرة من تلك الكلمة البسيطة التي ألقتها دنيا بنبرة حالمة أشعلت الدماء في عروق نيرة لتهتف بغيظ:
ـ جداً!!.. شغلتيه ولعبتي بيه, عميتي عيونه عني وعن..
قاطعتها دنيا بغضب:
ـ عميت عيونه!!.. بيتهيألي أنتِ عارفة كويس من اللي عيونه معمية..
حاولت نيرة مقاطعتها فمنعتها دنيا هاتفة بحسم:
ـ اسمعيني كويس.. أنا ساكتة على إهاناتك وتطاولاتك لأني مقدرة الصدمة اللي بتمري بيها.. لكن مش هسمح لك تستخدميني كشماعة تعلقي عليها مشاكلك مع مازن.. أنا موجودة في حياته من قبلك.. حقيقة وواقع تقبليهم.. زي بالظبط ما أنا تقبلت احتياجه لوجودك في حياته.. احتياج أنتِ حولتيه للعنة عليكِ وعليه بدل ما تعملي منه قصة حب جميلة.. وجاية تكلميني على عمى البصر..
بهتت نيرة لهجوم دنيا الغير متوقع واشتعلت مراجل غضبها وهي تدرك قوة علاقة دنيا بمازن.. مدى تفهمها له.. وتقديرها لمشاعره..
هتفت بشراسة وهي ترغب في جرح دنيا.. رغبة أعمتها عن كل شيء:
ـ بللا بللا بللا.. أنتِ فاكرة أن كلامك ده هيقلقني.. أو حتى تهديدك بأنك في حياته.. و... وشوية الكلام الفارغ ده.. أنتِ كل اللي يهمك أنك تحتفظي به.. عشان خاطر مزاجك.. شاب وغني ووسيم.. وأصغر منك.. يعني بصراحة كده.. هتلاقي زيه منين يوافق أنه يرتبط بواحدة في سنك!.. واحدة خلاص السنين اللي باقية لأنوثتها تتعد على صوابع الأيد الواحدة..
رمشة جفن وعضلة بسيطة تحركت في جانب وجه دنيا كانا الدليل الوحيد على تأثرها الشديد بهجوم نيرة.. لكنها تمالكت نفسها وتحركت بهدوء نحو الباب لتفتحه وتشير لنيرة:
ـ اتفضلي يا مدام نيرة.. الوقت اللي حددته لزيارتك انتهى وأنا ورايا شغل كتير..
رمقتها نيرة بغضب وتحركت بهدوء لتخرج من الغرفة وهي تحاول الحفاظ على رأسها مرفوع.. لتتوقف أمامها لثوانٍ هامسة:
ـ الشركة الثلاثية دي مش هتستمر كتير.. وأنا مش هنسحب ولا ناوية أتهزم بسهولة..
وخرجت مسرعة بينما أغلقت دنيا الباب وهي تطلب من مساعدتها إلغاء كافة مواعيدها.. فهي أمامها نهار طويل من العمل والبكاء.. فلقد أصابتها جملة نيرة بمقتل..
لكنها لم تعرف أن أعماق نيرة كانت في حالة فوضى.. لم تستطع تحديد مشاعرها أو ما يجب أن تشعر به بالتحديد.. فلقد كان سبب زيارتها الأساسي لدنيا هو اظهار قوتها وتماسكها بعدما صدمها مازن بخبر زواجه.. أرادت أن تظهر لدنيا أن ذلك الزواج ما هو إلا نزوة حمقاء لمازن وهي كأي زوجة عاقلة ستتقبل جموح زوجها لفترة ثم ستعيده إلى بيته وعش زواجهما.. ولكن ما حدث هو العكس تماماً.. لقد شعرت بأنها هي الدخيلة.. بأنها هي النزوة العابرة التي تتحملها دنيا في مقابل اسعاد مازن.. لم تدري لم أغضبتها قوة مشاعر دنيا نحو مازن أكثر من فكرة أنها ستشاركها به بالفعل.. هل تغار من قدرة دنيا على احتواء مازن؟.. هل تغار من حب دنيا له رغم رغبتها العميقة بتصديق أن مشاعره لها هي وحدها, حتى لو أنكر ذلك وحاربه..
فوضى مهلكة ذلك ما تشعر به... هل أحبت مازن.. أم أحبت حبه لها؟..
هل تريد استعادته كرجل وزوج أم فقط تريد الانتصار في معركة افتعلتها مع دنيا؟.. من خلال حوارها معها أدركت أن مازن لم يخبرها بأمر الاجهاض.. فهل كان ذلك حفاظاً على خصوصية علاقته بها؟.. إذاً فهو لا يريد تشويه صورتها أمام غريمتها.. هل ما زال يحبها ولو قليلاً؟..
هاجمها هاجس خفي أرعبها, بأن مازن أخفى الأمر عن دنيا حفاظاً على مشاعرها, فهي لم تنجب منه.. كما أن سنواتها تجري وقد لا تتتمكن من الانجاب بسهولة..
بقدر ما أغضبها ذلك الهاجس بقدر ما جعل ذهنها يبرق بفكرة جهنمية.. الحمل.. ذلك هو الحل.. يجب أن تعوض مازن عن الحمل الضائع..
وحينها ستتمكن استعادته, بل وطرد دنيا من حياته...
*********
اضجع يزيد براحة على الأريكة الوثيرة بغرفة المعيشة الفخمة بفيلا ريناد..
مدد ساقيه أمامه على المائدة الصغيرة المواجهة للأريكة وأخذ يقلب في قنوات التلفاز بملل وذهن غائب.. ليس غائباً بالتحديد.. بل هو هناك معها.. فهو حتى وإن هرب من مواجهتها لكنها تسيطر على عقله بسهولة.. لا يعلم إلى متى يمكنه تأجيل المواجهة.. فهو يراعي هشاشة نفسيتها أثناء الحمل.. ولذلك يحاول الانتظار حتى يهدأ غضبه ولو قليلاً.. لا يستطيع مواجهتها وأفكاره تتصارع بين قلق يكاد يبلغ حد المرض من فقدانها, وبين غضب شديد لاخفائها أمور عنه.. بداية من وظيفة حسن وانتهاء بجريمة نيرة المقززة..
كيف أمكنها مجاراتها فيما قامت به؟.. كيف؟.. يعلم أنها تعشق الأطفال.. ولن تسمح بقتل واحد.. كيف استطاعت مساعدة نيرة على التخلص من جنينها؟..
زفر بغيظ وهو يدرك أنه كان يجب عليه مواجهتها بدلاً من هروب جبان نحو ريناد والتي بالقطع لن تساعد في اخماد حيرته.. فهو لا يتبادل معها حوارات كــتلك..
لوى شفتيه ساخراً وهو يتذكر غيرة علياء من تواجده المستمر برفقة ريناد.. آه لو تعلم فقط ما تطلقه ريناد نفسها على وجودها في حياته.. فهي تسمي نفسها.."منسقة حفلات بدوام دائم.. زوجة لحين اشعار آخر"..
تباً.. لقد أفسد حياته بالفعل وحياة من حوله.. و...
وانتفض في جلسته إثر صرخة غاضبة من ريناد:
ـ يزيــــــــــــــد.. أنت اتجننت ترفع رجليك على الترابيزة كده..
ثم شهقت بصدمة مذهولة:
ـ كمان بتحط عليها كوباية العصير من غير طبق..
قطع يزيد جملتها الغاضبة بأن جذبها نحوه ليلفها بذراعيه هامساً بشقاوة:
ـ آسف يا أبلة الناظرة.. آخر مرة..
تملصت من بين ذراعيه وهي تخبره بغضب:
ـ ابعد يا يزيد.. أنت عارف أني متعصبة منك.. أولاً..
ورفعت يدها لتعدد على أصابعها:
ـ كان لازم تعرفني بوفاة منى مرات حسن.. على الأقل اعمل الواجب.. واروح لوالدتها.. ثانياً.. نيرة كانت في المستشفى وخرجت وحصلها اجهاض.. ده كله من غير ما تقولي.. ثالثاً.. ايه اللي شلفط وشك كده؟..
دعك جانب وجهه الذي يؤلمه نتيجة لكمة مازن له وتجاهل اخبارها عنها بينما
قطب حاجبيه بحيرة:
ـ تعملي الواجب مع والدة منى!!!.. ازاي؟!.. مش ده المكان اللوكال اللي مش بتطقيه؟..
هزت كتفيها بلامبالاة:
ـ أيوه.. بس عليا راحت.. عايز الناس تفتكر أنها هي صاحبة الذوق والواجب وأنا لآ.. ولا عايزهم يفكروا أنك طلقتني وهي بقيت مدامتك الوحيدة..
لوى شفتيه بامتعاض وهو يغمغم:
ـ لا.. بجد أفحمتيني.. أسباب وجيهة فعلاً..
ثم ابتعد عنها ناهضاً وهو يدرك أنها فقدت اهتمامها بالكدمة الزرقاء بوجهه عندما قررت التركيز على نفسها.. تنهد بتعب وهو يسألها بوقاحة:
ـ يا ترى الليلة مطلوب خدماتي.. ولا ممكن أروح أنام..
أجابته بغضب:
ـ ايه الطريقة اللي بتتكلم بيها دي.. من فضلك يا يزيد حسن أسلوبك شوية..
ثم جذبته من يده ليعاود الجلوس بجوارها وأمسكت كفه تداعب أنامله وهي تسأله:
ـ عليا وافقت أن خالتو تشوف الولاد؟..
نظر إليها بطرف عينه متسائلاً:
ـ طبعاً ماما اللي طلبت منك تسأليني؟..
ألقت برأسها على كتفه ثم مرغت وجنتها حتى استقرت على صدره وداعبته بإغواء وهي تردد:
ـ يا حبيبي.. دي حاجة ما تزعلش.. واحدة ونفسها تشوف أحفادها.. شيء طبيعي.. عليا اللي مكبرة الموضوع.. والحكاية اللي حصلت زمان مستحيل تتكرر.. يعني خالتو هتعمل ايه للولاد!!.. شيء عجيب والله..
اجابها بهدوء:
ـ ولادها وهي حرة.. وخلينا نقفل على الموضوع ده.. ممكن؟..
طوقته بذراعيها وهي تحرك شفتيها على عنقه وتهمس:
ـ ايه رأيك لو أخدت اجازة يومين وسافرنا في أي مكان نغير جو.. الدكتور بيقول ده هيساعد مع النظام الجديد..
غمغم بتردد:
ـ أيوه.. بس أسافر وأسيب علياء ازاي!.. دي حامل و..
ابتعدت ريناد عنه بعنف وهي تهتف:
ـ أيوه.. حامل.. للمرة الكام؟.. التالتة.. صح؟.. أظن ممكن تنساها يومين وتركز معايا.. لأني نفسي أعرف معنى كلمة حامل..
جذبها لتجلس بجواره ثانية ويطوقها بذراعه مربتاً على كتفيها:
ـ طيب ايه رأيك نعمل حقن مجهري؟..
هزت رأسها بغضب:
ـ لأ طبعاً.. قلت لك قبل كده كتير.. لأ.. طالما الدكتور قال أني سليمة.. وممكن الحمل يتم طبيعي.. عايز ليه نلجأ للحقن المجهري؟.. أنت عارف هيكون شكلي ازاي وسط اصحابي وهما عارفين أن الهانم بتحمل ولا الأرانب.. وأنا.. اضطر ألجأ لطرق صناعية!!
هز رأسه بحيرة:
ـ ريناد.. أنتِ عايزة طفل عشان محتاجة تكوني أم.. ولا عشان لازم تكوني أم؟..
ظهرت معالم الحزن على ملامحها وبدأت تعصر عينيها لتستدعي بضعة دمعات:
ـ يعني ايه؟.. أنت بتلعب بالكلام ليه؟.. عايز تتهرب من الموضوع صح؟.. حتى مش قادر تشاركني حاجة طبيعية وبسيطة زي دي؟..
وفجأة أجهشت بنوبة بكاء.. وهي تتمتم برغبتها في طفل ينمو بداخلها.. فلم يجد أمامه بداً من الموافقة على الإجازة الاجبارية..
*********
قررت نيرة وضع خطتها في حيز التنفيذ في أسرع وقت.. فابتاعت في طريقها للمنزل أكثر أثواب النوم إثارة.. واختارته باللون الوردي كما يحب..
وأغرقت جسدها.. وشعرها بعطره المفضل.. وأضافت لمسة أخيرة من طلاء شفاه بلون الكرز.. وتمددت في فراشه بإغراء مميت.. تنتظر عودته.. وتدعو بداخلها ألا تخبره دنيا بلقائهما العاصف صباح اليوم..
لم يطل انتظارها فسرعان ما دخل مازن إلى الغرفة ليفاجئ بالمشهد المغري الذي أعدته له.. وريقات الزهور منثورة على الفراش.. والشموع المعطرة موزعة في أرجاء الغرفة المظلمة جزئياً.. وموسيقى حالمة تذيب أشد القلوب قساوة.. ووسط كل ذلك.. الشعلات الحمراء متناثرة على وسادته.. ومعذبته ترتدي ثوب وردي شفاف.. يلتصق بجسدها كجلدٍ ثاني لها..
وقف يتأملها قليلاً ورغبته الطبيعية كرجل تتحرك نحوها.. ولكن بطريقة بدائية وغريزية مقززة.. سرعان ما عبر عنها عندما جذبها بشدة ليطبع على شفتيها قبلة عنيفة.. نهمة.. تعبر عن شهوة خالصة.. استشعرتها هي على الفور.. لتدفعه عنها قليلاً وهي تهمس:
ـ سامحني يا مازن.. أنا آسفة..
أسكت شفتيها بقبلة أخرى عنيفة.. جعلتها تبتعد على الفور وهي تسأله بغضب:
ـ في ايه؟.. ليه كده؟..
ضحك بسخرية وهو يردد كلماتها:
ـ ليه؟.. مش هو ده اللي أنتِ عايزاه؟.. ده اللي قررتِ تعمليه؟.. مشهد اغواء متكامل..
ثم لوى شفتيه باشمئزاز:
ـ مشهد رخيص.. رخيص بالظبط زي مفهومك للحب.. زي ما حولتِ مشاعر حلوة.. وأحاسيس رقيقة لشيء مبتذل ورخيص.. مجرد علاقة جنسية مثيرة.. تسيطري بها تاني على الزوج الأحمق.. صح؟..
جذبها من ذراعها بقوة وهو يهمس بغضب:
ـ طول السنين اللي فاتت وأنا بحاول أصحح مفهومك عن تبادل المشاعر وتبادل الحب.. بس الظاهر ما فيش فايدة.. برضوه عقلك صورلك أن حل مشكلتنا هو علاقة سريعة تهدي بيها غضبي وتقدري تسيطري علي بالجنس..
هز كتفيه بلامبالاة:
ـ خلاص.. أنتِ قررتِ أن منزلتك ما تتعداش مكانة المومس.. مين أنا عشان أعترض..
ثم أبعدها عنه قليلاً وهو يتأمل جسدها بنظرات اشتهاء وقحة قبل أن يأمرها بحسم:
ـ اقلعي هدومك..
شهقت بقوة وابتعدت عنه وهي تحمي جسدها بذراعيها.. وتهز رأسها يميناً ويساراً بقوة رافضة كلماته المهينة..
دفعها لتسقط على فراشه وهو يخبرها ببرود بينما يخلع ملابسه:
ـ أنا هدخل آخد شاور.. أخرج آلاقيكي قلعتِ ومنتظراني في السرير..
وسكت لوهلة قبل أن يقول ببرود قاتل:
ـ أو أخرج آلاقيكي بره الأوضة خالص وتكوني نضفتِ القرف ده..
قال ذلك وهو يشير إلى الورود والشموع المتناثرة.. وأردف بوقاحة:
ـ وبعد كده ما تدخليش أوضتي إلا لو أنا طلبت منك.. ده لو احتجت خدماتك..
تركها تنفجر في نوبة بكاء هيستيري ودخل إلى الحمام ليتأمل صورته المنعكسة في المرآة.. رأى ملامحه ولكن بنظرات ميتة.. بقلب بدأ يتحول لقطعة من الصخر الجليدي.. ولكنه رغم ذلك ينتفض بعذاب مُهِلك.. فبرغم أنه أهانها وجرحها وقسي عليها ولكن قلبه الصخري كما يظن يلومه ويعاتبه على قسوته وينتفض باكياً حزناً على محبوبته..
لكم صورته في المرآة بغضب وهو يهتف:
ـ لأمتى... العذاب ده لأمتى!..
***********
وهناك عبر البحار.. وفي بلدٍ آخر.. بل قارة أخرى.. قلب آخر يريد صاحبه ذبحه.. ودفنه.. والرقص فوق بقاياه كل ليلة بين أحضان الإثارة..
يتسلل من فراشها.. ويبحث وسط أشيائه عن هاتف محمول ينتمي لحبيبة غائبة بجسدها ولكنها تحيا في قلب يريد قتله.. فيعبث بأزاره قليلاً.. ثم يسمع صوت مميز لوصول رسالة في هاتفه
ويفتح الرسالة ليجد تحيتهما المعهودة..

"تصبح على خير.. لا اله الا الله"..

ويرد هو برسالته..
"استنيني يا ملاكي أنا هفضل أحلم بيكي ليل ونهار"..
وأردف برسالة أخرى

"محمد رسول الله"...




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-18, 05:47 PM   #32

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل التاسع والعشرون


"أنا حامل!"
جملة ترددت أكثر من مرة, وما بين فرحة طاغية لقلق عارم وخوف من المستقبل وبرود وصل لحافة الصقيع.. تباينت مشاعر مُلقيها ومتلقيها..
فبمنزل مازن ودنيا..
جلست دنيا على حافة المغطس وجسدها يرتعد بأكمله وهي ترمق العصا البلاستيكية الراقدة بسلام على طرف المغسلة القريب منها.. وكلما رفعت يدها لتلتقطها, أعادتها بسرعة لتضعها على شفتيها لتكتم شهقة بكاء خافتة..
تخشى تكرار خيبة أمل المرات السابقة.. بداخلها تتصارع رغبتان متضادان, غريزتان طبيعيتان قد تتوازيان بقلب كل أنثى, إلا هي.. هي فقط تلاعبت بها الأقدار لتتعارض غريزة الأمومة بداخلها مع عشقها اليائس لرجل ليس لها..
عادت ترمق العصا البلاستيكية برهبة وقلق وكأنها تتساءل عما يمنعها من التقاطها وانهاء الأمر.. إما بخيبة أمل قد تعوض عنها الشهر القادم.. أو خيبة أخرى تستمر لآخر العمر..
انتفضت في جلستها عندما وصلها صوت مازن يتساءل في قلق:
ـ في ايه يا دنيا؟..
رفعت إليه عينين حائرتين.. فلم تعلم منذ متى وهو واقف هكذا بمدخل الحمام يتأمل دموعها بقلق..
اقترب منها ليجلس على ركبة واحدة ويمسك بيديها يقبلهما في رقة متسائلاً:
ـ تحليل جديد؟..
أومأت برأسها موافقة.. فسألها مرة أخرى:
ـ عايزاني أشوف لك النتيجة؟..
أومأت بالموافقة مرة أخرى وبدأت دموع القلق تنساب على وجنتيها بصمت وهي تلمحه يتناول العصا ببساطة ويتأملها للحظات بعدها ارتسمت لى وجهه ابتسامة غامضة, ورفع وجهها بإبهامه هامساً:
ـ مبروك يا أحلى مامي..
رفعت نظراتها له بأمل وهمست:
ـ أنا حامل!
ثم انفجرت في نوبة بكاء قوية, رفعها مازن بين ذراعيه ليضعها على الفراش برفق ويلتقط دموعها بشفتيه وهو يطمئنها بكلمات رقيقة.. ويخبرها كم يتمنى فتاة جميلة وقوية كأمها, ولكن دموعها لم تتوقف وشهقاتها زادت ولم تقل فضمها بقوة وهو يقبل شعرها.. بينما زادت هي من تمسكها به فدفنت رأسها بعنقه وغرزت أظافرها في ظهره بقوة حتى كاد أن يطلق آهة ألم.. شعرت هي على الفور بألمه الصامت فخففت من مسكتها قليلاً ونظرت إليه بحرج.. وهمست من بين دموعها بصوت متحشرج:
ـ آسفة..
أبعدها قليلاً ومسح دموعها مرة ثانية وهو يسألها:
ـ ليه كل ده بس يا دنيا؟..
تواصلت شهقاتها وعجزت عن إجابته فهي لا تعرف كيف تفهمه أنها تبكي سعادتها وحزنها.. ربحها وخسارتها.. أغلى ربح.. وأحلى خسارة..
همست بألم:
ـ مش مصدقة.. التلات شهور اللي فاتوا كانوا خيبة أمل كبيرة.. فكرت.. فكرت..
وازداد بكائها.. وهي تخبره بألم:
ـ فكرت للحظة أن فرصتي في الحمل انتهت عشان السن و..
قاطعها بقبلة دافئة على شفتيها:
ـ هششش.. بلاش كلام فارغ.. سن ايه وعبط ايه.. أنتِ أم بالفطرة يا دنيا.. وهتكوني أحن أم.. سوبر ماما..
ابتسمت من وسط دموعها وهي تسأله:
ـ بجد!.. بجد يا مازن؟.. يعني خبر الحمل أسعدك؟
لف بجسده ليجاورها في الفراش ثم رفعها لتجلس على ركبتيه وهمس بأذنها:
ـ كلمة سعيد مش كفاية.. أنا سعيد وفخور وطاير في السما وهبقى أب.. والبركة فيكي بعد ربنا طبعاً.. أخيراً.. أخيراً.. أب..
تهدج صوته في آخر كلمة حتى ظنت دنيا للحظات أنه على وشك البكاء هو الآخر.. فوضعت رأسها على صدره برفق.. ثم أمسكت يده لتضعها على بطنها ليتحسسها برقة.. ولحظتها لم يستطع تمالك نفسه فسقطت دمعة وحيدة مسحها بسرعة وزاد من ضم دنيا التي همست بتردد:
ـ مازن.. لازم نتكلم في موضوع الانفصــ...
قاطعها بوضع إصبعه على شفتيها هامساً:
ـ مش دلوقتِ يا دنيا.. بنتي مش هتتولد بين أب وأم منفصلين.. ده حقها علينا.. بعد الولادة هنتكلم..
رددت بعجب:
ـ بنتك!..
ضحك ليخبرها:
ـ أيوه.. بنتي.. يكون في علمك أي حاجة غير بنوتة عيونها بسواد الليل وشعرها أنعم من ورق الورد مش هستلم!..
ضحكت هي الأخرى بنعومة وربتت بيدها فوق يده وكأنها تخبره بصمت أنها توافقه في رغبته... وسكنت بين أحضانه لفترة خيم الصمت فيها عليهما ولم يُسمع في الغرفة إلا صوت دقات قلبيهما يتواصلان سوياً بطريقة غير مألوفة كحياتهما معاً.. عدل وضعها لتنام بين ذراعيه وأخذ يملس على خصلاتها برقة حتى نامت بوداعة بين ذراعيه وعلى شفتيها ارتسمت ابتسامة رقيقة..
أغمض عينيه محاولاً النوم ولكن ذكرى عيون زبرجدية مازال يعشقها إلى الآن طاردته بقسوة وكأنها تذكره أنه أصبح سبباً لوجعها على الدوام مثلما كانت هي سبباً لنحره حياً.. فهي لم تيأس ولم تكف عن محاولاتها الخرقاء لاسترجاعه.. مرة عن طريق البكاء ومرات باستخدام إغراء أنوثتها التي أصبح يرفضها على الدوام مما يسبب لها الجنون.. فهي راهنت من البداية على افتتانه بها.. وهو سقط في فخها بكامل إرادته ولكنه الآن أصبح يكره نفسه.. يحتقرها.. ويشمئز من جسده الذي يطالبه مرات عديدة بالرضوخ لها.. ولكن بقايا عقل وإرادة ما زال يتمتع بهما هما ما يحميانه من السقوط بفخها ثانية.. وإن غيرت تكتيكاتها الآن وأصبحت تلعب دور الزوجة الهادئة الصبورة المطيعة.. حتى أنها تقوم الآن بغسل ثيابه وكيها.. وهو يعلم أنها خطة جديدة.. وهي تعلم أنه يعلم.. ولكنهما مستمران في الدوران بحلقة مفرغة لعلهما يصلا يوماً إلى ثغرة الهروب.. أو العودة...
**
وبمقر مجموعة الغمراوي..
كان يزيد يتأمل شاشة هاتفه وابتسامة ساخرة ترتسم على شفتيه وهو يعيد قراءة الرسالة التي وصلته من ريناد..
"يزيد.. أنا حامل!.."..
حاول جاهداً البحث عن لمحة سعادة أو لهفة للذهاب إليها وتهنئتها على حمل انتظرته طويلاً.. ولكن للأسف.. لا شيء.. حتى أنه شكر ربه لاختيارها تلك الطريقة الباردة لإخباره فهو لم يجد بنفسه حتى القدرة على التظاهر بالسعادة, بل كان يشعر بالغضب.. نعم الغضب.. غاضب من ريناد.. ومن علياء.. ومن نفسه بالطبع فكل ما يقلقه الآن إحساسه بأن مشاعر الأبوة لديه تتجه لأولاده من علياء فقط.. يخشى أن يرث طفل ريناد انعدام مشاعره نحو أمه.. فكل ما يفكر به حالياً.. أن ريناد ستعتقه من رحلات الأطباء وما يتبع ذلك من أنظمة وجداول ومواعيد تربطه بها.. وفكرة أخرى تساوره.. أن أمه أخيراً ستُمتع نفسها بحفيد من ريناد..
زفر بحنق وهو يفكر بالسبب الثاني لغضبه.. ريناد.. ورغبتها المسعورة في الحصول على طفل.. حتى وإن كانت لا تحب والده..
نعم.. أنه يعلم الآن وهي وأيضاً تعلم أين يكمن قلبه.. ولكنها لا تبالي.. وهي من أوضحت له تلك الحقيقة في إجازتهما الأخيرة.. حيث كانا يتمشيان على الشاطئ الخاص بالفندق الذي يقيمان به عندما سألته ريناد فجأة:
ـ أنت ليه ما وافقتش أننا نسكن في شاليه المعمورة؟..
صمت للحظات ولم يجد ما يجبها به.. ثم أخيراً أجابها:
ـ أكيد الإقامة في الفندق أريح لك.. و..
قاطعته بواقعية:
ـ والشاليه حكر على عليا بس..
همس بتردد:
ـ أنا..
قاطعته مرة أخرى:
ـ أنت عاطفي قوي يا يزيد.. عارف في أول خطوبتنا لما كنت بتقولي أنك مش عارف الحب ده بيوصفوه ازاي.. وأننا طالما مرتاحيين مع بعض يبقى مشاعرنا ضروري هتتوافق.. كنت بكون مرتاحة ومبسوطة أنك مش هتحملني فوق طاقتي..
قاطعها بتعجب:
ـ فوق طاقتك!!
أومأت موافقة:
ـ ايوه.. كلام الحب والغزل.. أنت عارف.. نظام الأغاني والمشاعر وكده..
نظر إليها بدهشة.. فأكملت:
ـ بص يا يزيد أنت فاهمني كويس وعارف أفكاري ماشية ازاي.. أنا واقعية.. بحب أحسبها 1+1= 2.. في بداية علاقتنا لما أنت ما صرحتش بكلام حب وعشق.. اكتفيت بالغزل بس.. كنت مرتاحة جداً.. وكنت فاهمة أن جوازنا هيكون مثالي, لحد فرح حسن.. وقتها حسيت أنك اتغيرت.. أعماقك اتغيرت.. وكان عندي حق..
هز يزيد رأسه بحيرة وهو يتمتم:
ـ أنا مش فاهم أنتِ عايزة ايه؟..
التفتت لتواجهه وأمسكت وجهه بين يديها لتجاوبه بصراحة واقعية:
ـ كل اللي عايزة أقوله.. أن أسلوب جوازنا مناسبني جداً.. وجود عليا في حياتك رغم أنه كان في البداية جارح ومهين لكرامتي, إلا أنه دلوقتِ مريح جداً.. لأني اكتشفت أنك مش الشخص العملي اللي كنت متصوراه..
وهزت رأسها بلامبالاة:
ـ أنت عاطفي قوي..
كادت الدهشة أن تعقد لسانه من تصريحاتها الواقعية وسألها بسخرية:
ـ وبعد المصارحة الرومانسية دي متوقعة أني أكمل.. لآ.. وكمان نخطط عشان الحمل؟!..
هتفت بدهشة:
ـ أيوه طبعاً.. ايه علاقة كلامنا ده بالحمل!.. هما كل اتنين متجوزين لازم بينهم قصة رومانسية!.. اللي بينا أكبر وأعمق.. في تفاهم وتوافق.. أفكارنا وخلفيتنا واحدة.. وفي ما بينا احترام وود.. مش ناقص غير الطفل عشان نكون أسرة مثالية..
عاد إلى واقعة وجملة "أسرة مثالية".. تتردد في ذهنه, فأمسك هاتفه ليتصل بريناد ويقوم بما عليه كزوج مثالي ويهنئها بحملها..
حاول تلوين صوته ببعض السعادة وهو يهتف:
ـ ريناد.. ألف مبروك..
أجابته بهدوء:
ـ ميرسي يا يزيد.. الحمد لله الدكتور الأخير طلع شاطر قوي..
أجابها بتأنيب مستتر:
ـ كله بأمر الله..
ـ أيوه طبعاً.. الحمد لله..
ـ طيب تحبي أجيب لك حاجة معايا وأنا جاي.. بتتوحمي على ايه؟..
هتفت باشمئزاز:
ـ أتوحم ايه بس يا يزيد!.. أنت بتصدق في الكلام الفارغ ده.. وبعدين أنا مش في البيت.. الدكتور طلب راحة تامة.. وماما اخدتني عندها..
غمغم براحة:
ـ بجد.. أنتِ عند خالتو.. طيب بلغيها سلامي.. ولو احتجتِ أي حاجة كلميني.. سلام..
أغلق الهاتف بهدوء.. وهو يردد..
"ونعم الـأسرة المثالية.. يا بنت خالتي"..
**
انطلق حسن بسيارته الرينو الصغيرة متجهاً إلى مقر عمله بالقرب من الحي اللاتيني بجنوب باريس حيث تقطن معظم الجالية العربية.. وكان ذلك من أهم الأسباب التي دفعته لإختيار ذلك الحي لإقامه مشروعه.. حيث قام بافتتاح مطعم للمأكولات العربية وشاركه فيه غسان مدير أعمال فريدة والتي كانت همزة الوصل بينهما بعدما قرر غسان اعتزال عالم الفن وقرر الابتعاد عن حياة فريدة تماماً فهو أدرك أخيراً أن قلبها ومشاعرها مرتبطة بوالد ابنتها حتى لو انقطعت علاقاتهما الرسمية..
فكان قرار إقامة المطعم بمثابة بوابة لهروب الرجلين من مشاعر وذكريات تقتات على أعماقهما.. ولحسن حظهما لقي المشروع نجاحاً باهراً بمجرد افتتاحه.. وكان حسن يقتل نفسه حرفياً في عمله.. يتابع كل كبيرة وصغيرة به حتى أنه أحياناً ما كان يدخل المطبخ ليراقب ويتعلم صنع الأطباق العربية المميزة.. كان يهرب من حياته السابقة ويقطع كل صلته بها.. حتى نجاحه السابق واسمه اللامع كمهندس معماري عبقري والذي دفع ثمنه من قبل عرقاً وجهداً تنازل عنه راضياً.. ولم يهتم بأي من العروض التي انهالت عليه لإدارة فروع لشركات عديدة في معظم أنحاء أوروبا.. ومن سخرية القدر أن تكون شركة والده من أبرز تلك الشركات..
لمح إشارة المرور تتحول إلى الأحمر.. فأوقف السيارة وأغمض عينيه وهو يتذكر ذلك اليوم منذ أكثر من ثلاثة أشهر حين أيقظته طرقات قوية على باب شقته.. وما هي إلا لحظات حتى دخلت لورا إليه لتخبره بقلق:
ـ حسن.. والدك بالخارج.. أنه يبدو.. يبدو غاضباً بشدة..
نهض من فراشه بتثاقل, فهو لا يتركه إلا لتناول الطعام فقط.. واقترب من لورا يسألها بغضب:
ـ هل أهانك أو أساء إليكِ؟..
هزت رأسها نفياً وأخبرته:
ـ فقط نظراته.. أنها مهينة للغاية..
ربت على شعرها برقة:
ـ آسف على ذلك..
ارتدى ملابسه وتحرك ليخرج لوالده.. ولكنه عاد إليها يخبرها بهدوء:
ـ قد تعلو أصواتنا.. لا تدعي ذلك يقلقك.. إنها فقط طريقتنا في المناقشة..
خرج لوالده الذي وقف يتأمل الشارع من نافذة غرفة المعيشة.. وأخذ يتأمله للحظات.. سنوات لم يلتقيا.. سنوات تغير فيها كلاهما بشدة.. فبقدر القسوة والجليدية التي تغلف بها قلب حسن بقدر ما ظهر الضعف ومرور العمر على ملامح والده الذي انحنت كتفاه وبدا بطريقة ما أنه أكبر من سنوات عمره الستون..
قطع حسن الصمت أولاً:
ـ أهلاً وسهلاً يا حاتم بيه.. زيارة غير متوقعة بصراحة..
تنحنح حاتم ليجلي صوته وتأمله ولده للحظات أدرك فيها مدى التغير الذي أصابه:
ـ البقاء لله يا حسن.. و..
هز حسن رأسه برفض مطلق:
ـ حاتم بيه بنفسه جاي يعزيني!!.. معقولة!.. نزل من برجه العاجي عشان يعزي في بنت السواق بتاعه!.. آسف يا حاتم بيه.. لو هتقدم تعازيك تقدمها لعم نصر والد منى.. بس يا ترى هتقدر؟.. هتقدر تحط عينيك في عينيه وأنت عارف أنه ما قدرش يودع بنته في لحظاتها الأخيرة بسبب غطرستك وكِبرك.. بسبب أنك قفلت كل الأبواب في وشنا لحد ما هربنا وسيبنا لك البلد باللي فيها.. هتقدر يا سعادة البيه!..
نهره حاتم بقوة:
ـ حسن!.. ازاي تكلمني بالطريقة دي..
صاح حسن بدوره:
ـ جاي ليه يا حاتم بيه؟.. أكيد مش عشان تقدم تعازيك..
ـ جاي علشان أعقلك.. عشان ترجع بلدك وبيتك وشركتك..
تأمله حسن للحظات ثم بدأ يضحك.. ويضحك.. ويضحك.. ضحك هيستيري بدا أنه غير قادر على السيطرة عليه فدمعت عيناه واحتقن وجهه بشدة ولكنه استمر في ضحكاته الخارجة عن السيطرة حتى أجبره والده على التوقف بصفعة خاطفة على وجنته.. لم تكن صفعة قوية ولكنها أخرجته من نوبة هيسترية كان على وشك الانخراط بها.. تلمس وجنته بألم وهتف بصرامة:
ـ اللي أنت جاي له مات.. حسن مات واندفن مع منى.. اللي قدامك ده.. شبح.. مسخ..
وتحرك نحو باب الشقة ليفتحه مردفاً:
ـ أحسن الله عزاؤك يا حاتم بيه..
هتف حاتم بدهشة:
ـ بتطرد أبوك من بيتك يا حسن؟..
أجابه حسن:
ـ سبق وطردتني من دنيتي كلها..
هزه حاتم بقوة:
ـ يا بني بلاش القسوة دي.. أنا ماليش غيرك أنت وأخوك.. وأخوك بهدل الدنيا واتجوز على مراته و..
صفق حسن كفيه بقوة وهو يهمس بيأس:
ـ ما فيش فايدة.. ما فيش فايدة يا حاتم بيه.. كارتك الكسبان اتحرق.. قومت جريت جري تدور في دفاترك القديمة.. بس أحب أقولك أن الدفاتر دي اتحرقت هي كمان وما بقاش فيها إلا الرماد..
هز حاتم رأسه بنفي:
ـ أنت ازاي بقيت كده.. ازاي يا حسن..
اجابه حسن بمرارة:
ـ كتر البعاد بيعلم الجفا..
أفاق حسن على أصوات السيارات لتنبهه لتحول الإشارة إلى الأخضر.. وكأنها تنبهه أن زيارة والده كانت إشارة البدء لحياته الجديدة.. فبعد خروج والده العاصف أخذ يتأمل حياته للحظات.. فرأى نفسه مجرد.. فاشل.. عاطل.. يعيش عالة على زوجته.. لم يستطع تحمل مواجهة الصورة المنعكسة أمامه, فخرج هائماً في شوارع باريس.. أفكاره تدور في دوامات.. تتخبط روحه بين شوارع لا نهاية لها كما يتخبط جسده بين أجساد بشر يمرون به.. لا يراهم ولا يعرفهم ولكنه يلمح نظرات منى اللائمة.. نظرات خيبة أملها به تبرق في أعينهم وكأنها آلاف الأسواط المُعَذِبة لروحه الجريحة..
وجد نفسه في النهاية أمام شقة فريدة.. حيث كانت تلك نقطة الانطلاق حين التقى هناك بغسان شريكه في المطعم.. والآلام..
عادت أصوات السيارات تدوي من حوله وتصاحبها بعض الأصوات العالية.. وقليل من السباب الفرنسي الأنيق, فانطلق بسيارته إلى عمله ليدفن به ما تبقى من نهاره.. أما الليل فهو يفنيه بين ذراعي لورا التي تبذل كل جهدها لترضيه وتسعده وتنسيه.. وهو ينهل من حبها.. من مشاعرها التي تغرقه بها بكرم وصبر في انتظار اللحظة التي يبادلها فيها مشاعرها.. لحظة يعلم علم اليقين أنها لن تأتي أبداً.. ولكنه بكل أنانية يقتات على حب لورا له ليحيا.. يتنفس.. يستمر على قيد الحياة, ولكنه أبداً لن يعيش ثانية..
وصل إلى مطعمه ليلمح سيارة لورا متوقفة خارجه, انتابه القلق الشديد.. فلم تركت عملها الذي تعشقه في منتصف نهار عمل!.. ترجل من سيارته بسرعة وانطلق نحو مكتبه ليجدها تنتظره في مكتبه وما أن لمحته حتى أنطلقت لتتعلق بعنقه هاتفة بسعادة:
ـ Hassan, I’mpregnant..
هتف بدهشة:
ـ what???
اجابته والسعادة تغمرها:
ـ I’m pregnant .. we will have a baby
نظر إليها بصدمة بالغة ولم يعرف بم يجبها وبداخله سؤال يتردد بعنف
"لم اختار ابنه أن يسكن رحمها هي؟.. لم؟.. لم؟.."..
************
أخذ يزيد يراقب علياء التي كانت جالسة براحة تتابع أحد البرامج على التلفاز.. كانت تبدو فاتنة للغاية وهي ترتدي واحدة من تلك المنامات القطنية القصيرة والمطبوع عليها صورة ذلك التويتي الذي يمقته بشدة.. مسدت بأناملها فوق بطنها التي تكورت بفتنة وعلى شفتيها ابتسامة ناعمة.. عاودته للحظات لحظة معرفته بحمل ريناد وهز رأسه يأساً.. فهو مع كل حمل لعلياء يصل لعنان السماء من فرحته.. بل يكاد يخرج إلى الشرفة ليقف فوق سورها ضارباً صدره بقبضتيه كرجل الغاب في إعلان صريح وواضح أنه قادر على منح الأطفال لامرأته..
ابتسم بحنين وهو يتذكر وجودها بين ذراعيه.. وجود مر عليه وقت طويل.. طويل جداً.. وهو مشتاق.. يقتله شوقه وحاجته إليها بينما هي تجافيه.. تبعده.. وتصر على عقابه.. عقاب يستحقه فهو أثبت غباءه بجدارة.. ولا يعلم حتى الآن كيف ظن أنها قد تشارك نيرة في جريمتها.. ولكنه للأسف وقتها كان غضبه ما يحركه ويسيطر على عقله فواجهها بشكوكه وجن جنونها.. واتهمته بكل ما ورد في القاموس من الغباء إلى النذالة.. وطردته من غرفتها بكبرياء وهي تخبره أن عليه أن يعود للنوم في حجرة التعذيب ذات الفراش الوردي..
شعرت علياء بوجوده فرفعت عينيها لتجده متكئاً على حافة الباب يراقبها بشغف وقد ارتسمت في عينيه نظرات جعلت وجنتيها تشتعلان بالحمرة.. فانطلقت ضحكاته بقوة وهو يرمي بجسده إلى جوارها ويلقي برأسه على صدرها هامساً بتوسل:
ـ مش هتسامحيني بقى!
امتدت أناملها لتداعب شعره بلا إرادة منها.. وسرعان ما أدركت ما قامت به.. فهتفت بغضب وهي تبعد أناملها عن شعره:
ـ وحد قالك أني زعلانة.. أنت اللي مُختفي.. ويا دوب بتيجي تبص على الولاد وتمشي..
رفع رأسه إليها وهو يرمقها بدهشة فهي من ألقت به خارج غرفتهما.. رأى الحمرة مازالت تلون خديها وعينيها تلتمع بنظرات أنثوية ماكرة.. فابتسم بخبث وأحاط كتفيها بذراعه وهو يدفن رأسه بجانب عنقها يقبلها بمتعة بينما يديه تداعب بطنها برقة وهو يهمس لها:
ـ هو تويتي ده ما بيخلصش.. ما بتلاقيش منه على قمصان حرير!..
انطلقت ضحكتها بنعومة وهي تستسلم لقبلاته المجنونة.. ليضمها إليه هامساً باحتياجه وشوقه إليها.. وما هي إلا لحظات حتى وجدت نفسها تتمدد في فراشها وهو يجاورها هامساً:
ـ أنا آسف..
رمشت بعيونها بقوة:
ـ امممم.. بس؟!...
أكمل اعتذاره وأنامله تتلمس شفتيها باغواء:
ـ آسف على غبائي.. عشان موضوع نيرة.. ما كانش لازم أفكاري توصل لكده.. أنا غبي.. غبي ومجنون.. مجنونك..
ابتسمت برقة:
ـ الجنون مش مبرر يا يزيد.. أنت عارفني كويس.. ليه فكرت كده؟..
أجابها بعفوية:
ـ كنت بدور على سبب عشان أبرر غضبي منك!..
اتسعت عيناها بدهشة:
ـ ايه؟!..
هبط رأسه إليها وضمها بقوة إلى صدره وهو يعاود سؤاله الذي لم تجبه منذ شهور:
ـ علياء.. ممكن في يوم تسيبيني؟.. أو تكوني لحد تاني غيري؟..
لفت عنقه بذراعيها تضمه إليها بشدة وهي تهمس في أذنه:
ـ آه لو تعرف..
همس بتساؤل:
ـ أعرف ايه؟..
ابتعدت عنه قليلاً لتنظر في عينيه بهيام مرددة:
ـ آه لو تعرف يا حبيب قلبي وأنت معايا باحس بإيه
خلي شوية لبكرا يا قلبي الحب ده ما اقدرش عليه
بص في قلبي يا عيون قلبي شوف كام حاجة بتتمناك
فرحة وشوق وأماني كبيرة وليالي حب بتستناك
بحبك حب خلاني بخاف من فرحتي جنبك
يشوفها حد يحسدها ويحسدني على حبك
وبحبك حب يا ويلي منه..
مسهرني محيرني وروحي فيه
وبحبك حب يا ويلى..
مدوبني وحبيته واخذت عليه
آه لو تعرف..
كاد قلبه ينتفض بين ضلوعه ليلقي بنفسه بين يديها طائعاً مستسلماً لسيدته الوحيدة.. من منحته قلبها بلا شروط.. بلا مقابل.. فقط حباً خالصاً.. حباً حقيقياً وليس حسابات باردة وكلمات جوفاء عن تفاهم روتيني قاتل..
حرك شفتيه ليخبرها أنها حبيبته الوحيدة ولكن صرخة قوية انطلقت من بين شفتيها سمرته في مكانه:
ـ آآآآآآه...
ظن في البداية أنها ستكمل كلمات الأغنية, ولكن تعالت الصرخة مرة أخرى:
ـ آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآ آآآه..... يزيد.. أنا بأولد يا يزيد..
وبعد عدة ساعات..
انطلقت صرخات..
"حازم" و"حمزه"..
توأمي علياء ويزيد
لينضما إلى أسرتهما الكبيرة الدافئة..
ويتبعهما بعد سبعة أشهر صرخات شقيقهما
"رامي"
والذي أصرت ريناد على تسميته بأقرب الأسماء إلى اسمها
وبعدها بساعات كان مازن يضم بين ذراعيه
صغيرته الجميلة والتي تشبه أمها تماماً
والتي أصرت على تسميتها
"عِشق"..
لتكن.. هي عِشق دنيا وابنته الوحيدة..
وهناك على بعد مئات الأميال
كان حسن يسجل اسم ابنته التي ولدت منذ ساعات
"منى حسن العدوي"..
*****


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-18, 05:49 PM   #33

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الثلاثون

جلس مازن إلى مائدة الطعام يتناول إفطاره بصمت مطبق, صمت فرضه على نفسه وعليها في الشهور الماضية مغلقاً أمامها كافة السبل للاقتراب منه وتوسل مغفرته.. ولا يدري كيف يمكنها انتظار تلك المغفرة وهي ما زالت تمتلك تلك الفكرة المشوهة عن التقارب بين الأزواج.. فكل مفهومها للتعامل معه هو الإغراء ثم الإغراء ثم الإغراء حتى وصل الأمر معه إلى مرحلة الابتذال, بل النفور.. فتعود للبكاء والانعزال لفترة قصيرة تليها مرحلة أخرى من تبني دور الزوجة المهتمة بشئونه.. فإذا لم تجد منه الاستجابة التي ترجوها ينتابها السأم والزهق لتعود إلى تقوقعها وانعزالها الاختياري, وفجأة يطفو الإغراء على السطح مرة أخرى.. وهكذا.. نوبات ومراحل أصبحت محفوظة ومكررة.. وبدأ في اعتيادها بالفعل.. ولكن الجديد هو ما تمر به منذ فترة.. وبالتحديد منذ انجاب دنيا لـ "عشق".. وهي تمر بحالة صمت غريبة, بل أنه يكاد يقسم بأنه لمح دموع حبيسة في عيونها.. تفلت أحياناً من سيطرتها فتتساقط بعضاً منها على وجنتيها.. كما يحدث الآن فتسارع لتمسحها قبل أن يراها, ولكنه تلك المرة أسرع بإمساك يدها قبل أن تصل إلى وجنتها ليسأل بفضول:
ـ ممكن أفهم ايه اللي بيحصل؟.. والدموع دي ليه؟
أجابت بخفوت:
ـ ما فيش دموع.. أنت بيتهيألك.. دي عيني دخل فيها حاجة!
أسقط يدها وعاد بظهره في مقعده ليسألها مرة ثانية:
ـ ليلة امبارح كنتِ بتعيطي في أوضتك.. أيوه سمعتك بالليل.. ودلوقتِ مش عارفة تتحكمي في دموعك.. عايز رد صريح ومباشر.. في ايه؟.. ايه اللي بيحصل معاكِ اليومين دول؟..
فاجئت نفسها قبل أن تفاجئه بنوبة بكاء هيستيرية.. ولم يعرف كيف يسيطر عليها.. تأملها بعجب.. فهو لم يرها تدخل في نوبة كتلك منذ زمن بعيد.. حتى عندما تركها حسن لم تنفعل بتلك الطريقة..
تنهد بحيرة وهو يعاود السؤال:
ـ ممكن افهم فيه ايه؟..
نظرت إليه نيرة من بين دموعها.. وبأعماقها صراعات عدة..
أتخبره بما تشعر به؟.. بالحيرة المريرة التي تعيشها؟.. فهي تشتاق له.. لغزله.. نظراته التي تحتويها.. حبه الذي منحه بلا حدود وهي كانت من الحمق لتعتبره من المسلمات.. تشتاق لكلمة طيبة منه, بل أنها حتى تشتاق لهمسة خاطفة.. لقرب حقيقي منه.. قرب لم تعد تعلم كيف تحققه؟.. فهي أضاعت بغبائها فرصتها لتكون الوحيدة في مملكته, بينما نجحت دنيا في تحقيق حلمه وأنجبت له "عشق" التي يتغنى برقتها وجمالها ونعومتها طوال الوقت.. لقد حاولت أن تسأله عنها.. فهي تعلم أن خطوة كتلك ستقربها منه وتهدم هوة كبيرة بينهما, ولكنها لم تستطع.. فقط لم تستطع.. حُبِست الكلمات على لسانها.. ولم تُخِرج حرفاً.. حاولت وضغطت على نفسها فكادت أن تصاب بأزمة قلبية.. فما شعرت به من وجع كان لا يحتمل.. فلجأت للانعزال والتقوقع.. فهي كانت تحتاج لوقت مستقطع لتستعيد أفكارها وتقرر خطوتها التالية.. تلك الخطوة التي يرفض هو مشاركتها بها, بل وينفر حتى من أي محاولة منها للتقرب منه..
خطوة ظنت لأعوام أنها تمتلك القرار للبدء بها لتباغتها فجأة.. وتضيع أيضاً منها فجأة.. فقد ظلت تؤجل الحمل لسنوات.. حتى فاجئها بدون توقع وأضاعته هي بغبائها.. والآن يبدو أنها حُرمت منه تماماً..
شهقت بعنف عندما وصل تفكيرها لتلك النقطة ليعاود مازن السؤال بغضب مكبوت:
ـ في ايه يا نيرة؟.. ولا دي طريقة جديدة للاستعطاف؟!
آلمها غضبه.. وآلمها أكثر سوء ظنه بها.. يا الهي ماذا يحدث معها؟.. كيف أصبحت بهذه الهشاشة؟..
انتفضت عندما صاح غاضباً:
ـ نيرة.. ردي عليّ.. أنا مش فاضي لألاعيب جديدة!
ولدهشته.. انفجرت باكية مرة ثانية.. ليصفق بكفيه بحيرة هاتفاً:
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله!.. ايه اللي بيحصل..
اندفعت كلماتها بلا رابط وهي تردد بيأس:
ـ روحت للدكتور.. طلب مني تحاليل وفحوصات.. وقالي.. قالي.. أنه هيكون في صعوبة في الحمل عشان الإجهاض عمل مشاكل.. و..
قاطعها:
ـ حمل ايه!.. ودكتور ايه؟..
أجابت وسط دموعها:
ـ أنا روحت لدكتور.. لأني عايزة.. عايزة يكون لنا طفل و..
هب من جلسته بغضب:
ـ دي لعبة جديدة صح؟.. طفل ايه اللي بتدوري عليه!.. ما أنتِ قتلتيه.. ولا فاكراني نسيت!..
هتفت بجنون:
ـ قلت لك ميت مرة ما قتلتوش.. ما قتلتوش.. أنا كنت خايفة.. مرعوبة.. مش عارفة أعمل ايه.. أنا اتصرفت بجنون.. و.. و..
قاطعها بإشارة من يده:
ـ انتهينا من الموضوع ده..
صرخت ومازال الجنون يتملكها:
ـ أنت اللي انتهيت منه.. ومش عايز تصدق.. اعمل ايه؟.. اعمل ايه عشان تصدق..
أشاح بوجهه بعيداً وهو يشعر بداخله يتمزق ألماً.. فاتجهت نحوه لتتمسك بذراعه هامسة بتوسل:
ـ كفاية يا مازن.. ارحمني وارحم حالك.. أنا عقابي دلوقتِ بقى مضاعف..
التفت نحوها ليخبرها بمرارة:
ـ لو تعرفي قد ايه نفسي أصدقك.. بس للأسف.. مش قادر.. مش عارف إذا كان حزنك سببه فعلاً صعوبة حملك في المستقبل.. ولا مجرد لعبة جديدة حسيتِ أنك بتخسريها..
نزلت دموعها بصمت وحاولت أن تجبه.. فأوقفها وهو يتحرك ليخرج من المنزل.. توقف لحظات قبل أن يخبرها:
ـ عامةً.. الموضوع ده ما يفرقش معايا.. علاقتنا مش هتتغير.. ومش هيكون في فرصة دلوقتِ ولا حتى بعدين عشان أمنحك الطفل.. أو اللعبة الجديدة اللي أنتِ شبطانة فيها...
صرخت بجنون غاضب:
ـ مااااااااااااااااازن..
لكنه لم يتوقف.. ولم يستمع.. فهو يخشى أن يصدق.. يخشى بشدة من ذلك الخافق بين ضلوعه..
****
بينما ينهي يزيد ارتداء ملابسه, وصله صراخ رامي المستمر.. بكاء دائم.. هذا ما يفعله ذاك الصغير.. لا يكل ولا يمل.. وبدا أن المربية التي أصرت ريناد على استخدامها عاجزة عن التعامل مع الرضيع الذي ارتفع صوت بكائه أكثر وأكثر, فاتجه يزيد إلى غرفة الصغير ليجد المربية تحاول تهدئته ولكن بلا جدوى..
تقدم ليتناول منها الصغير محاولاً هدهدته كما اعتاد رؤية علياء تفعل ذلك مع أطفالهما فهدأ الطفل قليلاً لتدخل ريناد في تلك اللحظة وتلمح رامي بين ذراعي يزيد فتظهر علامات الامتعاض على وجهها وتشير للمربية بغرور أن تحمل الصغير.. وتجذب يزيد خارج الغرفة لتهتف بلوم:
ـ مش معقول يا يزيد.. كام مرة أقولك سيب الولد للمربية تتعامل معاه بطريقتها.. هي مؤهلة ومعاها شهادات معتمدة في تربية الأطفال.. مش كل أما يعيط شوية تجري تشيله وتطبطب عليه.. كده مش هنخلص..
كتف ذراعيه ليخبرها ساخراً:
ـ طيب لما هي مؤهلة ومعاها شهادات, ما فكرتيش تتعلمي منها ازاي تربي ابنك!
تأففت بسأم:
ـ يوووه.. مش هنخلص من الموضوع ده..
ـ لا طبعاً مش هنخلص.. أنتِ خلفتِ طفل عشان ترميه لمربية تربيهولك!
رمقته باستفزاز:
ـ عارف يا يزيد أنت هترتاح امتى؟.. أما تبطل تقارن بيني وبين عليا هانم.. الأيدول بتاعك في تربية الأطفال.. حاول تفرق شوية.. أنا ده مش طريقتي ولا ده أسلوبي.. والمربية اتوجدت عشان تراعي الطفل.. أنا مش هضيع عمري أرضع وأغير بامبرز.. فاهمني يا حبي!..
تأملها لوهلة ليجد أنها ارتدت ملابسها استعداداً للخروج بالفعل, فابتسم ساخراً:
ـ وواضح طبعاً أن الهانم هتخرج دلوقتِ..
أومأت موافقة وهي تعدد على أصابعها:
ـ ايوه.. هروح الجيم, وبعديه جلسة ايروبكس.. واحتمال اتغدى في النادي..
وتحركت لتبتعد عنه وهي تحيه باستفزاز:
ـ تشاو يا حبي.. ما تقلقش على رامي.. المربية بتاعته بتراعيه كويس..
تركته وخرجت بالفعل ولم يحاول استبقائها, فهو يعلم أن تواجدها كعدمه تماماً فهي تعتمد كلياً على المربية للعناية برامي, بينما كل ما يشغل بالها استعادة رشاقتها المفقودة كما تعتقد...
عاد إلى غرفة الصغير ليجد المربية قد وضعته في فراشه بالفعل, فاقترب منه وملس على شعره برفق وهو يتأمل شبه الواضح بريناد خاصة بخصلاته الشقراء الناعمة.. بينما لم يرث منه هو إلا لون عينيه الأسود..
قبله على جبينه.. فعبس الصغير قليلاً ثم عاد إلى نومه ثانية..
خرج يزيد من الغرفة ليتوجه إلى عمله.. يؤرقه ذنب مبهم نحو صغيره.. ففي البداية كان يخشى ألا يتمكن من منح الصغير مشاعره كأب.. حتى بالتواجد الرمزي نتيجة ابتعاده بمشاعره عن ريناد.. ولكن اتضح أن معاناة الصغير الحقيقية هي امتلاكه أم_لا أم.. فريناد أنجبت منه فقط حتى تنال لقب أم.. وانتهى دورها بعد الولادة.. فهي لا تمنح رامي أي اهتمام أو رعاية.. بل ألقت به للمربية منذ اليوم الأول لولادته.. وبدا أن الصغير ورث بالفعل انعدام مشاعر والدته نحو الجميع..
وفي مقر الشركة لم يتمكن من التركيز في أعماله.. واكتشف أنه نسى احضار بعض الأوراق التي اصطحبها معه إلى المنزل ليراجعها.. فقرر العودة مرة أخرى واستغلال الفرصة ليجالس رامي قليلاً..
وما أن وصل إلى منزله حتى وصله صوت صراخ ابنه بصورة هيستيرية وما أثار غضبه الشديد هو صوت المربية وهي تصرخ به بصوت أعلى فيزداد صراخ الطفل ويعلو صوت بكائه أكثر وأكثر, تحرك بسرعة نحو غرفة رامي ليجد المربية تهزه بشدة وهي تصرخ به:
ـ اسكت بقى.. اسكت.. أنت ايه ما بتتعبش..
قطعت الفتاة صراخها عندما وجدت يزيد أمامها وهو يختطف الصغير من بين يديها صارخاً بها:
ـ امشي اخرجي بره.. أنتِ مالكيش شغل هنا..
حاول تهدئة الصغير الذي استمر على بكائه ولم يهدأ لحظة واحدة بينما هتفت المربية بحنق:
ـ الحمد لله.. يعني بتطردني من الجنة.. ابنك ما بيسكتش.. أربعة وعشرين ساعة عياط وزن..
تركته ورحلت لتجمع ملابسها وتترك الفيلا.. بينما هو يحاول جاهداً تهدئة الصغير واسكاته.. ولكن بلا جدوى.. فالبكاء مستمر ولا أمل في ايقافه..
فكر في إطعام الصغير ولكن لم يعرف كيف.. وحاول تغيير ملابسه ففشل أيضاً.. فلم يجد بد من الاتصال بريناد, ولكنه وجد هاتفها مغلقاً.. بالطبع.. فالسيدة المصون في جلسة الأيروبكس..
لم يعرف كيف يتصرف فوجد نفسه يحمل الصغير ويجمع بعض أغراضه ويتوجه إلى شقة علياء التي وقفت ترمقه بدهشة وهو يخطو إلى غرفة المعيشة حاملاً رامي بين ذراعيه متسائلاً بيأس:
ـ أنا مش عارف اسكته ازاي.. مش بيبطل عياط.. يادوب نام ربع ساعة في العربية و..
قاطعته وهي تتناول الصغير الباكي من بين يديه وتحاول تهدئته قليلاً.. وهي تستمع ليزيد وهو يقص عليها ما حدث ويختتم كلماته قائلاً:
ـ أنا عارف أني بطلب منك حاجة فوق طاقتك.. بس مش عارف أتعامل معاه.. ومش ممكن اسيبه مع المربية.. دي ممكن تموته وهي بتهزه بالطريقة البشعة دي..
نجحت علياء في تهدئة الصغير قليلاً وطلبت من "أم علي" تجهيز الحليب الخاص الذي أتي به يزيد معه.. وجلست على إحدى الأرائك بإرهاق وهي تداعب خصلات الصغير الذي بدأ يستكين لمداعبتها وحنانها الفطري:
ـ اسمه رامي, صح؟.. يشبهك على فكرة..
سألها هامساً:
ـ بجد!.. مع أن..
قاطعته وهي تداعب الصغير وتهدهده:
ـ عشان يعني شعره وكده.. بس ملامحه هي ملامحك..
جلس بجوارها وهو يتأملها بحنان واقترب منها ليلفها بذراعه ويطبع قبلة دافئة على وجنتها هامساً:
ـ آسف..
التفتت له بدهشة:
ـ اعتذراتك كترت يا يزيد.. بتعتذر ليه المرة دي؟..
هز رأسه وهو يخبرها:
ـ مش عارف.. ما فيش حاجة معينة.. وفي نفس الوقت في حاجات كتير..
وقبل أن تجبه تعالى بكاء رامي مرة أخرى, فضمته علياء إليها أكثر وحاولت تهدئته ولكنه لم يستجب لها وارتفع صوت بكائه مرة أخرى لتجد نفسها تضمه إلى صدرها أكثر وتبدأ في ارضاعه تحت أنظار يزيد المذهولة وهو يهتف بها:
ـ أنتِ.. أنتِ هترضعيه بجد؟؟؟
رفعت رأسها إليه:
ـ أومال يعني هسيبه يتفلق من العياط..
عدلت وضعه وبدأ الصغير يرضع في نهم وهو يرمق علياء بنظرات ممتنة.. وعلياء تبادله نظراته لا تعلم كيف تشعر تحديداً.. فهي تحتضن بين ذراعيها ابن زوجة زوجها.. أغمضت عينيها لتهمس بداخلها ابن ريناد ويزيد.. حفيد سهام.. هي عاجزة عن ايجاد سبب واحد يجعلها تضم ذلك الصغير لصدرها بل وتعامله كأحد أولادها.. لم لا تلفظه بعيداً كما فعلوا بها؟. لم هي عاجزة عن طرده هو وأبيه واخباره أن يأخذ الطفل لريناد فهي أولى بابنها.. أو حتى إلى سهام, فهو الحفيد المعترف به في عرفها.. لم رق قلبها للصغير؟.. هل لأنه ابنه, قطعة منه.. وهي تعشق الكل فكيف تلفظ الجزء!.. أم هي تلك النظرة المستغيثة في عينيّ الرضيع.. لم تفهم كيف ترتسم نظرة كتلك في عينيّ طفل لم يفقه من أمر الدنيا شيئاً.. لعله شعور الحرمان أو الاحتياج الذي طالما عانت منه على يدي سهام.. ربما شعورهما المشترك باليتم هو سبب ذلك الاتصال الروحي الذي شعرت به نحو رامي.. وكأنه ينتمي لها.. لذا لم تشعر بنفسها وهي تضمه لقلبها وترضعه مثل أخويه حمزه وحازم.. كان تصرفاً عفوياً منها ولم تستوعبه حقاً إلا بعد رؤية نظرات يزيد المذهولة..
شعرت لحظة بتوقف الصغير عن الرضاعة وعودته للبكاء.. ففتحت عينيها ترمقه بحنان.. وهي تداعب خصلاته الشقراء هامسة:
ـ هتغلب قلوب البنات معاك يا ابن يزيد..
عاد الصغير للرضاعة بهدوء بينما تحرك يزيد لينزل على ركبتيه ويواجهها ممسكاً بكفها ليرفعه إلى شفتيه ويقبله بدفء هامساً وعيناه غارقة بعينيها:
ـ يا رب يكون محظوظ زي يزيد.. ويلاقي اللي تملا قلبه زي يزيد..
ابتسمت برقة وكادت تهتف بسعادة "وبيلومني في حبك يا مجنون"..
ثم ألقى رأسه على ركبتيها وهو يتمم بغيرة:
ـ هو ينفع أقولك أني غيران من رامي دلوقتِ وعايز أجره من شعره الناعم ده!
انطلقت منها ضحكة ناعمة وهي تهتف بصوت عال:
ـ مجنوووون..
ارتكز على ركبتيه ليضمها هي ورامي إلى صدره ويحيطها بذراعيه هامساً في تجويف عنقها بشغف:
ـ مجنون بيكي.. وكل ما تمر السنين جناني بيزيد أكتر وأكتر..
انطلق صراخ رامي مع دخول علي كالقنبلة ليلف ذراعيه حول والده هاتفاً:
ـ يزييييييد.. أنت جيت من الثغل بدري ليه؟..
ابتعد يزيد عن علياء وهو يهمس:
ـ جه مفرق الجماعات..
ثم التفت إلى علي ليلفه حول كتفه وهو يسأله بحزم مصطنع:
ـ رجعت امتى من المدرسة؟..
جاوبه علي بشقاوة:
ـ اثمها الحضاااااااانة..
ثم التفت إلى أمه التي نجحت في تهدئة بكاء رامي بعدما استعادت تواصلها البصري معه وقد أثار ذلك دهشتها وقلقها في نفس الوقت.. ولكن دخول نادية إلى الغرفة وقد بدلت ملابس الحضانة بثوب طفولي وردي اللون واتجهت إلى والدها لتستوطن ركبتيه وهي تسأله بدلال:
ـ جبت الشوكولاة لندوش؟..
قبلها يزيد بقوة على وجنتها وهو يهتف:
ـ ندوش تؤمر..
ابتسمت علياء للمشهد أمامها, فيزيد يحاول أن يغير من نفسه.. يحاول بالفعل.. قد ينجح مرة ويفشل مرات إلا أنه يحاول الاقتراب من أولاده.. يسعى جاهداً ليثبت لها أنه تغير.. أنه يهتم.. وهي تحاول مساعدته قدر استطاعتها.. وبقدر ما تسمح به خبرتها المحدودة في الحياة..
تردد فجأة صوت علي وقد أضناه التفكير:
ـ مين النونو اللعبة اللي على رجل لولو ده؟.. أنتوا غيرتوا حمزه وحازم بنونو ملون!..
كتمت علياء ضحكتها بصعوبة بينما غمر الذهول يزيد من السؤال.. ذهول أضيف له شعور مبهم بالغضب.. فكيف لم يفكر لحظة واحدة في تعريف أولاده على بعضهم؟!.. كيف يجهل الأخ أخاه؟!..
أفاقه من شروده همسة علياء وقد سطرت على ابتسامتها واستشعرت غضب يزيد واتجاه تفكيره:
ـ ما تضايقش يا يزيد.. الولاد لسه صغيرين.. وأكيد أما يكبروا هيعرفوا بعض..
ربنا يخليك لهم وتجمعهم دايماً..
رفع يزيد عينيه إليها في امتنان.. وبداخله حاجة حارقة لأخذها بين ذراعيه.. فقط لتمنحه ذلك الشعور بالاطمئنان والراحة..
وسمعها تنادي نادية وتجلسها بجوار علي لتشرح لهما ببساطة وهي تشير إلى رامي الذي أنهى طعامه وأغمض عينيه لينام:
ـ النونو الجميل ده اسمه رامي.. وهو يبقى أخوكوا.. زي أدهم وحمزه وحازم.. بس هو عنده ماما تانية..
قاطعها علي:
ـ طيب ليه مامته مش بتأكله من اللبن بتاعها؟.. ليه جاي ياكل اللبن بتاع حمزه وحازم؟
وأسرعت نادية لتلقي سؤالها هي الأخرى:
ـ يعني هو النونو ده..
ثم صححت كلمتها:
ـ رامي.. هيعيش معانا هو ومامته؟..
جذبها يزيد لتجلس على ركبتيه بعدما أسند ظهره إلى أحد المقاعد وسألها بغموض:
ـ أنتِ عايزاهم يعيشوا معاكوا؟..
رمقته علياء بدهشة بينما أجابت نادية ببراءة:
ـ رامي بس يعيش معانا.. هو شكله حلو.. عامل زي باربي بتاعتي.. بس مامته لأ.. احنا عندنا لولو.. مش عايزين غيرها..
ونهضت بسرعة لتتسلق الأريكة وترمي بذراعيها حول عنق علياء وتبعها علي وهو يصدر بعض الأصوات المزعجة كعادته فضمتهما علياء بحرص حتى لا تسقط رامي من فوق ركبتيها.. وبعينيها سؤال ملح توجهه ليزيد عما قصده بسؤاله.. عن إقامة رامي ووالدته معهم!!.. ولم تستطع منع السؤال الذي انطلق من بين شفتيها بقلق:
ـ يعني ايه يا يزيد؟. تقصد ايه بكلامك ده؟..
رمقها يزيد لوهلة وآلمه رؤية معالم الخوف والقلق على وجهها, فاستدعى "أم علي".. وطلب منها الانتباه للأولاد ووضع رامي بغرفة أخويه حمزه وحازم..
ثم سحب علياء إلى غرفتهما كعادته بدون انتظار رأيها.. ولم تعترض هي تلك المرة فأفكارها كانت تدور في فلكٍ آخر.. لا تريد مجرد التفكير في كلمات يزيد وأنه من الممكن أن يجمعها بريناد في منزل واحد!.. أنه مجنون ولكن ليس لتلك الدرجة..
انتبهت له وهو يخرج بعض الأوراق من خزينة خاصة به في حجرتهما ثم سحبها مرة أخرى ليجلسها على ركبتيه كما اعتاد ولف ذراعه حولها وهو يهمس:
ـ ما فيش حاجة من اللي بتفكري فيها دي هتحصل.. أنا كان قصدي حاجة تانية..
تجنبت عبث أنامله التي بدأت تعيث جنوناً بثباتها وسألت بقلق:
ـ اتكلم بصراحة يا يزيد.. أنا مش حِمل ألغاز وفوازير..
أومأ موافقاً:
ـ حاضر يا ستي.. اتفضلي..
ووضع في يدها الأوراق التي أخرجها لتوه من الخزينة.. فألقت عليها نظرة سريعة متسائلة:
ـ ايه دول!.. ورق ايه ده؟..
سكت للحظات قبل أن يخبرها بهدوء:
ـ دي عقود ملكيتك للمزرعة.. لأ.. لأ.. ما تقاطعنيش واسمعيني للآخر.. المزرعة دي حق من حقوقك.. أنا قبل كده اتنازلت عن أرضك لأعمامك.. اتجوزتك من غير مهر.. و..
قاطعته بسرعة:
ـ المزرعة أكبر من أرضي ومن مهري.. و..
كان دوره لمقاطعتها:
ـ بس هي بيتك.. أنا عارف أنك بتحبيها.. ومن جواكي دايماً بتعتبريها بيتك.. حتى لو كنتِ بتفكري فيها أنها المنفى اللي بعدتك فيه ماما.. بس رغم كده لها مكانة مختلفة جواكي..
ثم غمز بشقاوة:
ـ وبعدين الولاد محتاجين مكان واسع يلعبوا فيه يمكن أعرف أخطفك لنفسي شوية!..
رغم تساقط دموعها إلا أنها ابتسمت بحنان.. فلم تتصور أنه بدأ يفهمها.. يستوعب علياء الطفلة الخائفة المتنكرة في جسد علياء الأنثى التي تسلب عقله وتزعزع ثباته.. لقد منحها عن قصد صك أمان كانت في أمس الحاجة له ولم تعلم بحاجتها تلك إلا وعقد ملكيتها لمنزلها الخاص بين يديها..
لفت ذراعيها خلف عنقه هامسة:
ـ ربنا يخليك ليا.. بس ده كتير.. كتير قوي..
ضمها لصدره بقوة:
ـ ما فيش حاجة تغلا عليكِ..
زادت وتيرة بكائها وتعالت شهقاتها وهي تضم نفسها له أكثر وأكثر فشاكسها مداعباً:
ـ ايه البكى ده كله.. ليكون في باشا جديد هيشرفنا.. أنتِ انفعالاتك بتزيد في الحمل..
وكزته في كتفه بقوة وهي تمسح دموعها:
ـ أنت ما تعرفش تكملها جد أبداً..
أخذ نفساً عميقاً وهو يصطنع الجدية:
ـ ايه ده.. يعني ما فيش نونو جاي.. طيب تعالي بقى نشوف حل للموضوع ده..
رفعها بين ذراعيه وتوجه بها نحو الفراش وهي تطلق ضحكات عالية وتهتف به لينزلها أرضاً..
وضعها على الفراش برقة وأسقط نفسه بجوارها ليهمس في أذنها:
ـ عندي اعتراف أخير..
سألته بقلق:
ـ خير؟..
أبعد بصره عنها ليخبرها بخفوت:
ـ أنا سجلت المزرعة باسمك أول ما وصلتِ واحد وعشرين سنة.. بس.. بس اترددت أقولك..
توسعت عيناها بدهشة ولكنه أكمل بسرعة:
ـ عارف أنك هتقولي عليّ أناني.. بس خفت تبعدي عني.. خفت تفكري أنه بقى عندك مكان تختفي فيه عني..
سألته بغموض:
ـ وايه اللي اتغير؟..
هز كتفه بحيرة:
ـ مش عارف.. يمكن بدأت أفهم أنك لو اختفيتِ هتختفي معايا مش عني..
لفت ذراعيها حول عنقه لتجذب رأسه نحوها وتقبله بدفء:
ـ كلامك ده هو مهري الحقيقي.. والمزرعة اكتبها للأولاد و..
قاطعها بحزم:
ـ المزرعة بتاعتك.. ملكك يا علياء.. ومش هينفع تفرطي فيها.. تمام؟..
أومأت برأسها موافقة فرفع حاجبيه بعبث:
ـ نرجع لموضوعنا بقى..
وقبل أن يعاود تقبيلها بدأت عاصفة من الطرقات المزعجة على باب الغرفة وصوت علي ونادية يرتفع بكلمات متفرقة.. فهما منها أخيراً..
"رامي صحي وبيعيط جامد"..
قفزت علياء من الفراش وتبعها يزيد.. وهو يحاول استبقائها هامساً:
ـ خليكي أنتِ.. أنا هسكته..
ولكن علياء كان يشغل ذهنها أمراً آخر.. فكرة هاجمتها فجأة وأرادت التأكد منها.. فذهبت خلف يزيد إلى غرفة الأطفال... لتجده رفع رامي بالفعل بين ذراعيه يحاول تهدئته حتى لا يوقظ أخويه.. حتى أنه كان يردد أغنية طفولية طالما سمعها منها, ولكن الصغير لا يبدي أي استجابة..
هزت علياء رأسها بحزن وخطت ببطء حتى وقفت أمام يزيد وتناولت منه الرضيع لتضمه إلى صدرها وتحرك رأسه برقة حتى التقت عيناهما فابتسمت له بحنان.. بينما هدأت صرخات رامي وعلياء تضمه إليها بصمت..
رفعت عينيها إلى يزيد وطلبت منه حقيبة رامي حتى تقوم بتغيير حفاظه.. وما أن خرج يزيد من الغرفة حتى بدأت باختبار نظريتها ففرقعت بأصابعها بجوار أذنيّ رامي.. مرة بعد مرة.. ولكن.. كما توقعت.. لا استجابة..
أغمضت عينيها بألم وقد تأكد حدسها.. وأخيراً أدركت السبب وراء نظرات الاستغاثة.. وياله من سببٍ قاسٍ..
*************
اتكأت دنيا على مدخل الغرفة وهي تتأمل مازن الذي تمدد على الفراش ضاماً "عشق" بين ذراعيه.. وعلى وجنتها سقطت دمعة خائنة.. فمشهد كهذا لن يتكرر مرة أخرى.. أو هي لن تكون متواجدة لتشاهده يتكرر.. فالقرار الذي اتخذته قبل حملها بـ "عشق".. آن وقت تنفيذه.. حتى لو رفض مازن.. وخلق ملايين الأعذار لتأخير المحتوم.. هي ستصر على طلبها.. لن تتحمل أن تستمر في سلسال استنزاف المشاعر هذا.. لقد خدعت نفسها طويلاً.. وبنت صرحاً بخيالها عن أب وأم و"عشق".. أسرة رسمتها في خيالها كما تتخيل تصاميمها, والفارق أنها يمكنها تنفيذ تلك التصاميم على أرض الواقع ولكنها لن تستطيع خلق تلك الصورة المثالية لأسرتها.. ومع مرور الوقت تتأكد من ذلك.. فالمثالية التي يصفها الناس لا تناسبها.. قد يخدعها قلبها, يوهمها خيالها, يصور لها حياة سعيدة وبيت مستقر.. ولكن عقلها دائماً كان كجرس إنذار يحذرها من مغبة التمادي وتناسي الواقع.. الواقع الذي صدمها به مازن اليوم بشدة وهو يقص عليها ولأول مرة ما دار بينه وبين نيرة.. لقد صدمها ذلك.. صدمها بشدة لتدرك أنها مازالت مجرد صديقة.. فقط.. صديقة.. رغم وجود "عشق" بينهما.. ولكنها تحولت بمعجزة ما من صديقة ذات فائدة ومصدر للراحة إلى زوجة وأم في زواج تقليدي لا يشترط الحب كأحد أركانه, فقط الراحة والحنان.. وهي لن ترضى بذلك.. ليست هي.. ليست دنيا.. وبالتأكيد لن تقوم بذلك مع مازن.. مازن الرجل الذي عشقته وهي في قمة أنوثتها ونضجها برغم أنه يصغرها بعدة أعوام.. إلا أنها تعلمت أنه لا شروط في الحب ولا قواعد.. وبالتأكيد.. لا زواج مبني فقط على أساس وجود ابنة.. حتى لو كانت "عشق"..
عادت تتأمل المشهد السرمدي أمامها.. تريد طبعه في ذهنها.. قبل أن تتحرك ببطء وتتجه إلى مازن لتوقظه بهمس:
ـ مازن.. اصحى يا حبيبي.. عايزين نتكلم شويه..
فتح عينيه ببطء والتفت ليلمح "عشق" نائمة بين ذراعيه.. فابتسمت دنيا برقة وهي تخبره:
ـ يظهر أنك كنت تعبان.. لعبت معاها شوية.. ونمتوا أنتوا الاتنين..
ضحك بسعادة وهو يعتدل ليقبل "عشق" فوق جبينها هامساً:
ـ الوقت معاها بيطير.. بس حلو.. حلو قوي..
ربتت دنيا على كتفه برقة:
ـ ربنا يخليك لها.. يا رب..
تمسك بكفها ليقبله إلا أنها سحبته منه بحرج.. لتكرر جملتها:
ـ مازن.. لازم نتكلم..
زفر بغيظ:
ـ وإذا كنت رافض أسمع الكلام ده!
هزت رأسها وهي تخبره:
ـ أنا في الفترة اللي فاتت كنت بدور على بيت منفصل.. واسع وكده ومناسب لعشق.. يعني عشان أما تكبر..
ابتسم مازن وهو يرمق ابنته بنظرة محبة.. ثم سألها:
ـ كويس ولقيتِ حاجة؟..
أومأت موافقة:
ـ أيوه.. وهخلص كل حاجة بعد يومين..
ـ طيب.. جميل.. بلغيني بالميعاد بالظبط.. و..
قاطعته دنيا:
ـ مازن..
رفع عينيه لها وقد أدرك ما تريد قوله.. ولكن كان سماعه مؤلم أكثر مما تخيل يوماً:
ـ البيت ده علشان "عشق" وعشاني.. احنا.. أنا.. أنا عايزاك تنفذ وعدك..
هتف بتوسل:
ـ دنيا..
هزت رأسها لتقاطعه:
ـ لا.. لا يا مازن.. مش هينفع تخدرني بكلمتين زي كل مرة.. "عشق" دلوقتِ عدت الخمس شهور.. يعني نقدر ننفصل بهدوء.. وأنت عارف ومتأكد أنه لك مكان في أي وقت كأب لــ "عشق"..
وابتلعت ريقها بصعوبة:
ـ وصديق عزيز...
سألها بألم:
ـ صديق!.. متأكدة يا دنيا؟..
مسحت دمعة خائنة هربت من حصار جفونها وهي تنهض من أمامه لتبتعد عن نظراته الحزينة وهي تهمس بتوسل:
ـ مازن.. عشان خاطري بلاش.. بلاش تستغل حبي ليك وتجبرني على وضع بيقتلني من جوه..
همس بألم:
ـ أجبرك!..
أكملت وكأنها لم تسمع همسته الحزينة:
ـ أنت متأكد من مشاعري ناحيتك..
فردت كفيها بعجز:
ـ أنا بحبك.. حب أقوى من أي مشاعر مريت بيها قبل كده.. والحب ده بيولِد تملك وغيرة.. مشاعر بتطحن فيا.. زي النار بتاكل كل حاجة حلوة.. ومش عايزاها تقضي على الحب اللي جوايا.. حبي ليك هيعيش حتى لو مش متبادل.. واحنا الاتنين عارفين مين اللي في قلبك.. ومش هقدر أقولك خرجها منه ولا أنت هتقدر, وإلا كنت قدرت أنا ومسحت حبي ليك عشان نقدر نكمل سوا..
سكتت لحظة وأكملت بصوت متهدج:
ـ مازن.. علشان خاطري.. ما تجبرنيش أني أعري مشاعري أكتر من كده.. أنا بطالبك بتنفيذ وعدك.. وأنت طول عمرك راجل.. وعمرك ما رجعت في كلمتك..
تحرك مازن من الفراش ليقف في مواجهتها.. ويحيط وجهها بين كفيه هامساً:
ـ اطلبي أي حاجة تانية يا دنيا.. أرجوكِ.. ادينا فرصة تانية.. و..
ركنت جبهتها على ذقنه لتهمس ودموعها تهطل بدون توقف:
ـ طلقني يا مازن..
أخذ نفساً عميقاً قبل أن يهمس متسائلاً:
ـ يعني ما فيش أي أمل؟
همست:
ـ ما حدش بيتسول الحب..
أغمض عينيه بقوة ليهمس بوجع وكأن روحه تنتزع من بين حناياه:
ـ أنتِ طالق يا دنيا..


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-18, 05:58 PM   #34

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الحادي والثلاثون


جلس يزيد على أحد المقاعد في غرفة رامي.. وهو يضم الصغير إلى صدره بعدما نجح بجعله يخلد إلى النوم..
رمق صغيره بحزن وعجز.. لا يعلم كيف يساعده ولا يستطيع تصور مدى الخوف والهلع الذي يعاني منه الصغير.. خوف يهدئه فقط التواصل البصري كما اكتشفت علياء..
لم يصدق علياء في البداية عندما أخبرته بشكوكها, لم يصدق عينيه وهي تفرقع بأصابعها بجوار أذني رامي عدة مرات ولم يلمح استجابة واحدة.. لم يصدق أذنيه عندما انطلق رامي في البكاء لافتقاده تواصله البصري مع علياء ولم تفلح أي أغنية أو تهويدة في اسكاته.. لم يصدق نفسه وهو يردد بقهر
"ابني ما بيسمعش"..
لم يشعر سوى بعلياء تضمه هو ورامي إلى صدرها هامسة:
ـ بلاش نفترض الأسوأ.. الأول نشوف دكتور مختص.. في واحدة زميلتي في الكلية والدها دكتور أنف وأذن كبير ومشهور.. هحجز لرامي عنده..
أومأ موافقاً بعجز فهو كان حريصاً على تحديد علاقاتها بزميلاتها من أيام الكلية.. ولكن لا مفر أمامه الآن.. فهو يحتاج إلى كل عون ممكن أن يحصل عليه..
لم يشعر في حياته بمثل ذلك العجز.. كيف يتمكن كائن وردي صغير ذو خصلات ذهبية بقهره وإحساسه بعدم الحيلة هكذا..
دوي صوت ريناد الذي لم يكتشف مدى ازعاجه إلا الآن وهي ترمق الصغير بين يديه:
ـ أوووووه.. هو أنت لسه ماسك فيه من الصبح!.. اللي يشوف كده يقول أنك ما خلفتش غيره!..
رمقها بغضب:
ـ ما لسه بدري!.. طول اليوم بره؟..
أشارت له باستخفاف:
ـ طيب سيب الولد ينام في سريره بدل ما يصحى من أصواتنا..
أجابها بمرارة ولم يشعر بذرة شفقة واحدة وهو يخبرها مباشرة وبدون مواربة:
ـ لا.. اطمني.. أصواتنا عمرها ما هتقلقه.. عارفة ليه؟..
توسعت عيناها بقلق بينما هو يصرخ بقهر:
ـ لأن ابنك ما بيسمعش..
ارتدت للخلف بعنف وهي تستوعب معنى جملته.. وهتفت تتساءل بلهفة:
ـ ما.. ما بيســ.. معش!!.. ازاي؟.. عرفت ازاي؟..
صمت قليلاً أمام صدمتها.. ثم أخبرها باختصار ما حدث منذ طرد المربية.. وحتى اكتشاف علياء لإعاقة رامي.. وقبل أن ينتهي من سرد ما حدث فوجئ بها تصرخ بقوة:
ـ أيوه طبعاً.. علياء هانم.. فجأة قلبها حن على ابني.. وكمان ايه هي اللي اكتشفت أنه ما بيسمعش.. لا.. قلبها طيب بصراحة!..
هتف بها بحزم:
ـ بلاش سخافة وغيرة ستات فاضية.. بقولك ابنك احتمال يكون ما بيسمعش, وأنتِ كل اللي همك أن علياء هي اللي اكتشفت الموضوع.. ما قلقكيش للحظة أنها اكتشفت في خمس ساعات اللي أنتِ ومربيتك اللي معاها شهادات ما اعرفش ايه ما عرفتوش تلاحظوه في خمس شهور..
صمت لحظة وهو يشيح بوجهه:
ـ احمدي ربنا أنه حط في طريقه أم زي علياء..
صاحت بغضب:
ـ افندم.. يا يزيد.. نعم.. قول كمان الهانم شحنتك بإيه؟..
وضع ابنه في مهده برقة تناقض معالم الغضب المرتسم على وجهه ودثره بحنان طابعاً قبلة فوق جبينه فهو يعلم أنه سينام لمدة طويلة بعدما أرضعته علياء مرة أخرى قبل ذهابه.. وأعدت له عدة وجبات بسيطة وخفيفة ليطعمه اياهم لو استيقظ جائعاً...
ترك اضاءة هادئة في الغرفة ثم التفت نحو ريناد يجذبها بعنف نحو غرفتهما ليلقي بها فوق الفراش بعنف هاتفاً:
ـ أنتِ إيه!!.. ايــــــــــــه!!!.. ممكن يحصل ايه أكتر من ابنك هيكون معاق لباقي عمره عشان تحسي؟.. ايه ما قلقتيش حتى؟!.. ما اتوجعتيش!
نهضت من الفراش بغضب وسألته باتهام:
ـ وليه ما تقولش أن الهانم مراتك بتنتقم مني أنا وتانت سهام عشان كده عملت حاجة في الولد ودمرت سمعه..
برقت عيناه بغضب وحشي وهو يتقدم نحوها, فتقهقرت للخلف تحاول اخفاء خوفها وهي ترى ذراعه ترتفع في قبضة مخيفة جعلتها تخفي وجهها بيديها بينما شعرت بقبضته ترتطم بالحائط خلفها بعنف وهو يهتف بحسم:
ـ اسمها.. مايتكررش على لسانك تاني.. مفهووووووووم... أفكار الإنتقام والأذى دي مش علياء اللي هتفكر فيها..
مرت من تحت ذراعه وهي تهتف بدورها:
ـ طبعاً.. أنت عمرك ما هتغلطها ولا تلوم عليها.. ولا كأنها سرقت مني خطيبي وأحلامي وفرحتي.. هي البريئة الملاك اللي ما بتغلطش واحنا كلنا العصابة اللي بيتآمروا عليها..
هتف بها من تحت أسنانه:
ـ ما تدخليش الأوراق في بعضها.. احنا بنتكلم في ايه وأنتِ بتسحبيني لسكة تانية..
ضحكت بمرارة:
ـ كل الطرق بتوصل لبعضها.. أنا ليه بعيش حياتي بره البيت مع أصحابي, في النادي, في الجيم والجمعيات.. هييه, ليه؟.. لأني لوحدي.. زوجي العزيز.. موجود ومش موجود, كل أفكارك وكيانك هناك عندها.. عند ولادك منها.. لكن أنا مجرد موظفة استقبال بلقب زوجة.. وأنت حولت نفسك لبنك للنطف متواجد تحت أمري.. تفتكر لولا وجودها في حياتنا كنا هنكون كده.. ولا..
قاطعها:
ـ ولا ايه؟.. كنتِ هتبعدي عن حياتك القديمة؟.. عن المدار اللي بتدوري فيه مع أمي وخالتي؟.. كان اهتمامك بكمالية ومثالية الصورة اللي بنعكسها كزوجين هيقل وهتهتمي أكتر بمشاعري واحتياجاتي كزوج.. وطلبات ابنك وتتعاملي كأم؟.. خليكي صريحة مع نفسك.. واعترفي.. إن لولا وجود علياء في حياتي.. لولا مشاعري ناحيتها كان هيكون عندي بدل العشيقة اتنين وتلاتة.. وأنتِ كنتِ هتعرفي وتسكتي وتكملي.. صورة كربون من حياة عصام بيه وسهام هانم.. احمدي ربنا.. أنه مشاعري ناحية علياء تمنعني من مجرد تفكير أني آذيها بوجود أي ست تانية..
رمقته بغضب وهي تسمع تصريحاته المتوالية بمشاعره نحو علياء والتي يطلقها بصراحة للمرة الأولى.. ولكنها رفضت أن تظهر له تأثرها, وبعد بحث سريع في أعماقها وجدت أنها لم تتأثر فعلاً.. فكتفت ذراعيها وهي تسأله بنزق:
ـ وبعدين؟..
سألها مباشرة:
ـ تحبي تتطلقي؟..
شهقت بقوة:
ـ أنت اتجننت!!.. عايز الناس تقول أنك طلقتني عشان ابني ما بيسمعش ويفتكروا الغلط من عندي!
رفع عينيه للأعلى وهو يزفر بيأس:
ـ يا الله..
حاولت تصحيح كلماتها فمنعها بإشارة من يده وهو يخبرها بحسم:
ـ بصي.. آخر فرصة قدامك عشان تثبتي أنك ممكن تكوني ست وأم.. رامي, أنتِ اللي هتراعيه وتاخدي بالك منه.. ما فيش مربيات ولا دادات.. الولد مريض وهيحتاج أمه..
سكت قليلاً وهو يلمح توسع عينيها بتمرد ولكنها لم تعترض, فأردف:
ـ علياء..
ثم كرر بصوت أعلى عندما لمح اعتراضها:
ـ أيوه.. علياء حجزت لرامي عند دكتور كبير متخصص.. وميعادنا بعد يومين.. لحد ما نروح للدكتور ونعرف ايه أبعاد الموضوع ما تفارقيش الولد لحظة.. فاهمة يا ريناد.. دي فرصتك الأخيرة.. وإلا هيكون لي تصرف تاني..
سكت لحظات وهو يضغط على حروفه:
ـ تصرف مش هيعجبك.. ولا هيعجب سهام هانم..
ثم ألقى إليها جملتها الصباحية وهو يسخر بقوة:
ـ الأيدول بتاعك كزوجة.. وأم..
****
وقف مازن يرتشف كوباً من القهوة الدافئة وهو شارد بعينيه غافلاً عن روعة المشهد أمامه, مساحات خضراء واسعة تظهر خلالها مجموعات متفرقة من تجمعات زهرية مختلفة, بينما يمر أمام نافذة المنزل غدير ضيق يصل صوت جريان المياه به لسكان المنزل كموسيقى هادئة, يبدو أنهم اعتادوا عليه بينما هو لم يغمض له جفن وهو ينصت لأصوات الليل المختلفة.. أو لعله كان يهرب من راحة يمنحها له النوم.. يهرب من حياة قُلِبت رأساً على عقب ولم يعد يعرف وسيلة لاصلاحها.. يهرب من عجزه عن حب دنيا, ومن حبه لنيرة.. فحالياً يبدو أنه لا أمل لحل تلك المعضلة..
ربتة خفيفة على كتفه جعلته يلتفت نحو حسن الذي أمسك بدوره قدحاً من القهوة الساخنة وارتكز على سور الشرفة هامساً بدفء:
ـ صباح الخير.. ايه صاحي بدري يعني؟..
هز مازن رأسه:
ـ ما عرفتش أنام.. يمكن عشان مش متعود على المكان..
رفع حسن حاجباً غير مصدق وتساءل بطريقة مباشرة:
ـ وحشتك "عشق"؟..
ابتسامة حزينة كانت اجابة مازن الذي رفض استدراج شقيقه له لمناقشة طلاقه من دنيا.. فبادره بسؤال:
ـ غريبة قوي أنك تسيب باريس وتنقل للريف.. عملت ايه في شغلك؟..
مرر حسن مرواغة أخيه بتفهم وهو يجبه:
ـ فتحنا فرع تاني للمطعم هنا, غسان بيدير فرع باريس وأنا حبيت أبعد عن دوشة المدينة..
ثم وكز أخيه بود:
ـ ما هو أنت لو بتسأل كنت عرفت!
ارتسمت الجدية على وجه مازن وهو يسأل:
ـ أنت مش ناوي ترجع مصر؟... يعني عشان أزور أخويا لازم آخد طيارة لباريس وبعدها مشوار تاني عشان نوصل لبيتك.. امتى هترجع يا حسن؟..
غامت ملامح حسن بحزن قاتم وهمس بخفوت حازم:
ـ وأنا باقي لي ايه في مصر عشان أرجع له!
عاتبه مازن بألم:
ـ ولا حتى أنا!..
ـ أنت عندك "عشق".. ربنا يخليها لك.
زفر مازن بضيق:
ـ أنت مُصر تفتح الموضوع!
واجهه حسن بصراحة:
ـ أنت جاي مجرد هروب وبُعْد.. ولا فضفضة.. ولا بتدور على حل؟..
هز مازن رأسه بمعنى لا أمل:
ـ الفضفضة مش هتريح لأنه للأسف ما فيش أمل ولا حل.. دنيا مُصرة على موقفها.. حاولت معاها كتير.. وللأسف مش لاقي حل..
بسمة ساخرة ارتسمت على شفتي حسن وهو يجبه:
ـ غريبة!.. مع أن الحل واضح قدام عينيك, ده لو كنت عايز تشوفه!.. أقصد طبعاً حل يخليك تحتفظ بــ "عشق"..
وسكت لحظة وأكمل بلهجة ذات معنى:
ـ وأم "عشق"!..
نظر إليه مازن بدهشة:
ـ حل!!.. حل ايه؟..
صمت حسن لحظات قبل أن يخبره بحسم:
ـ تطلق نيرة!
برقت عينا مازن بعدم تصديق فأكمل حسن بتقرير:
ـ شوفت.. دهشتك دي بتقول أنه فكرة انفصالك عن نيرة ما مرتش ببالك.. حتى لو كان ده تمن وجودك جنب بنتك..
وضع كفه على كتف مازن يواسيه بحزن:
ـ أنا مش عايز أقول أنه حبك لها لعنة.. أو سحر أسود أنت ابتليت به.. بس للأسف دي الحقيقة.. حبك لها ذنب وأنت مش عارف تتوب منه..
وقبل أن يجيب مازن ارتفع صوت لورا تطلب منهما الحضور لتناول الافطار..
جلس مازن إلى مائدة الافطار وكلمات أخيه تدوي في أذنيه كأجراس ضخمة تهز كل ثوابته.. وتوجه حسن ببساطة ليأتي بطفلته أولاً.. ثم جلس ووضعها على ركبته بينما ظهرت علامات الألم على وجه زوجته.. ولكنها أخفتها بسرعة وبراعة أيضاً.. ورسمت على وجهها ابتسامة واسعة وهي تخبر مازن:
ـ إنه هكذا على الدوام.. يضع "مونا" فوق ركبتيه في كل وقت.. حتى أنه أحياناً يصطحبها معه إلى عمله..
ابتسم مازن بمجاملة بينما دوى صوت حسن ببرود هادئ:
ـ إنها تُدعى "منى" وليست "مونا"..
أخفضت لورا بصرها وأخذت تعبث بمحتويات طبقها وهي تتظاهر بتناول الطعام بينما شحب وجهها تماماً.. وبدا حسن غافلاً أو متغافلاً عن الإحراج الذي سببه لزوجته وهو يداعب طفلته الصغيرة لتطلق ضحكات طفولية رائعة.. بقدر ما أسعدت مازن بقدر ما أوجعت قلبه وهو يتذكر ابنته وضحكاتها البريئة.. ترى هل استيقظت الآن؟.. هل تناولت طعامها؟.. هل تفتقده؟..
زادت تساؤلاته من أوجاع قلبه, فحاول جاهداً الخروج بأفكاره من دائرة زوجتيه ومشاكله معهما.. استرق النظر نحو أخيه الذي يهمل وجود زوجته تماماً رغم محاوتها المستميتة لارضائه وجذب انتباهه.. تلك المحاولات التي لاحظها هو على الفور منذ وطأت قدماه منزل أخيه.. حيث لاحظ على الفور التغير الكلي في ملابسها.. فهي لم تكن ترتدي ملابس فاضحة من قبل, ولكنها لم تكن المثال الكامل في الاحتشام.. بعكس الوضع الآن فملابسها محتشمة أكثر من نيرة زوجته, بل أنها تفوق دنيا احتشاماً.. صوتها أكثر هدوءً.. ويبدو أنها حسنت من لغتها العربية وإن كانت غالباً ما تلجأ إلى الإنجليزية.. وأكثر من ذلك ما علمه من أخيه بتركها لعملها وتفرغها لإدارة شئون منزله ورعاية طفلتهما.. يبدو أنها تقدم الكثير والكثير لتستحوذ على قلب أخيه المتمرد.. أنها تشبه دنيا في هذه الناحية, لكن ما يفرقها عن دنيا هو ذاك الشموخ الذي تتمتع به الأخيرة.. شموخ جبار وكبرياء أنثوي دفعها لتركه حتى تحتفظ بحبه في قلبها كأيقونة عشق.. مثلما أطلقت على ابنته, فهي بالنسبة لها "عشق" مازن.. وله هي هدية عشقها له..
الآن فقط استوعب اصرارها على الاسم.. وصاحب استيعابه ذاك إدراك لعذاب لورا عندما أصر حسن على إطلاق اسم "منى" على ابنتهما.. خاصة وهو كما يبدو ملتصقاً بالطفلة على الدوام..
تأمل ملامحها للحظات وقد ظهرت معالم الألم على وجهها وراقب محاولاتها المستميتة لاخفائه وهو يتساءل بداخله عن قدرتها على تحمل جفاء أخيه الواضح نحوها, وإذا ما كانت ستقرر يوماً الابتعاد حفاظاً على كبريائها.. و... قلبها... كما فعلت دنيا.. تباً.. تدور أفكاره في دوائر مغلقة وتعود لترسو عند دنيا وحياته معها, تلك الحياة التي يفتقدها بشدة.. كما يفتقد "عشق" الصغيرة حد الألم.. نظر إلى ساعته وقرر أن الوقت ملائم ليهاتف صغيرته, فاستأذن متوجهاً إلى غرفته ووصله صوت أخيه يخبره:
ـ مدام فريدة اتصلت تعزمنا كلنا على افتتاح معرضها الجديد..
أومأ مازن موافقاً وهو يتسلق درجات السلم الداخلي بسرعة ليسمع صوت ابنته.. حتى لو كانت أصوات أنفاسها أو بكائها..
وعلى مائدة الافطار رفعت لورا عينين حزينتين إلى حسن وهي تسأله بلوم:
ـ لماذا تعمدت احراجي أمام أخيك؟..
استمر حسن في مداعبة "منى" الصغيرة ولم يجبها فصرخت بصوت أعلى:
ـ حـــــســــــــــــــــن!!
رفع نظره إليها وهو يجبها ببرود:
ـ اخفضي صوتك..
اتجهت إلى الحديث بعربية ضعيفة تحاول اجادتها من أجله:
ـ حسن.. ليه أنت عايز تجرح أنا دايماً؟.. ليه قسوة؟
تأملها بحيرة وهو عاجز عن اجابتها.. فمعاملته معها بالفعل شابها بعض القسوة والجفاء منذ ولادة "منى" الصغيرة..
"منى" التي ولدت بخصلات فضية كوالدتها وعيون زمردية كعينيه وبشرة برونزية ناعمة.. ربما يلومها لأنه أراد "منى" خاصته.. بعينيها الكحيلة وخصلاتها السوداء.. لا ينكر أنه فوجئ بجمال ابنته الأوربي ولكنه وبدون أن يدري وجد نفسه غارقاً في حبها.. وكأنها فتحت أمامه أبواباً من مشاعر مختلفة تماماً عن أي مشاعر أخرى عاشها.. وكأنها منحته مشاعر الأبوة والبنوة والأهل والوطن في ابتسامتها الناعمة.. وهو بأنانية مطلقة أراد الإنفراد بتلك الأحاسيس.. أراد ابعاد لورا عن فتاته.. بأعماقه يموج إحساس مخيف بوجوب معاقبة لورا, والأكثر فزعاً أنه يريد معاقبتها لانجابها "منى" له.. بل لموافقتها على الزواج من البداية.. يلقي بكل الذنب على كاهلها وهو مدرك لخطئه ولكنه لا يبالي..
عاد صوت لورا يتردد بحزن وقد أقلقتها قسوة نظراته:
ـ حسن!..
رمش بعينيه وكأنه يحاول العودة من غيبوبة أفكاره.. وأخبرها بحسم:
ـ أنا لم أتعمد احراجك.. ولكنكِ دائماً ما تخطئين عمداً في اسم منى..
تحركت من مقعدها لتقترب منه وتتمسك بكتفيه:
ـ حسن.. أنا أحبك.. وقسوتك تلك تؤلمني..
أجابها بعملية وهو يبتعد بجسده عنها:
ـ أنا أحترم مشاعرك, لورا.. لكنكِ تعلمين جيداً طبيعة العلاقة التي تربطنا فلا تطالبيني بالمزيد.. فلم أعد أمتلك قلباً قادراً على الحب..
أوجعتها كلماته فهمست متسائلة بألم:
ـ ووجود الطفلة لا يؤثر في مشاعرك؟..
رد بسرعة:
ـ وجودها يمنحنا لقب أسرة.. وهذا كل ما أستطيع تقديمه..
ـ ولكن..
قاطعها وهو يضع منى بين ذراعيها:
ـ أعدي منى للخروج.. سنصطحب مازن في جولة في القرية.
سألته بلهفة:
ـ هل سآتي أنا أيضاً؟..
صمت عدة لحظات قبل أن يقول:
ـ لا داعي.. نحن لن نتأخر..
حملت الطفلة وتوجهت نحو غرفتها وقلبها ينتفض مهزوماً بحبه.. بينما هو راقب خطواتها حتى اختفت ثم توجه للنافذة لتشرد عيناه بعيداً..
*********
مد إياد يده بقدح من القهوة المُرة إلى فريدة التي جلست بإنهاك بعدما أشرفت بنفسها على شحن لوحاتها إلى المعرض..
وأخبرته بتعب:
ـ آه هموت من التعب.. ولسه يا دوب دي أول خطوة.. لسه ترتيب اللوحات في المعرض.. و..
قاطعها إياد بمشاكسة:
ـ أنتِ اللي كبرتِ وعجزتِ يا فيري..
رفعت حاجباً مغتاظاً:
ـ والله.. طيب.. ورينا النشاط يا أبو الشباب..
رفع ذراعيه لتتساوى قبضتيه بجانب وجهه وهو ينفخ عضلاته:
ـ طبعاً أبو الشباب..
ضحكت بتفكهة:
ـ اللي يسمعك يقول لسه في العشرينات.. مش عديت الأربعين..
ضحك بشقاوة وهو يتأمل ملامحه في المرآة ويفرك ذقنه بقوة.. ويمسد خصلات شعره الطويل نسبياً بأنامله.. لمح صورتها تنعكس في المرآة فغمز لها:
ـ الشباب شباب القلب..
ضحكت موافقة وهي تتأمل ملامحه الوسيمة, خصلات سوداء داكنة وإن ظهر بها على استحياء بعض الخيوط الفضية.. عيون زرقاء تبرق بعبث دائم.. ربما عيونه هي ما تجذب الفتيات نحوه.. وأخيراً الذقن الغير حليقة والتي تمنحه مظهر غجري مثير.. كان إياد.. وسيماً, بل وسيماً بخطورة محببة للفتيات وهذا يقلقها.. وبشدة..
سمعت صوته وهو يتحرك ليخرج من الاستوديو الخاص بها:
ـ هتحرك أنا عشان أوصل للمعرض.. أنتِ هتيجي ولا هتستني صبا؟..
ردت بسرعة:
ـ طبعاً هنستنى صبا.. وإياك تبدأ ترتيب إلا لما توصل!
تظاهر بالتأثر وهو يهز رأسه بألم مصطنع:
ـ معقولة مش واثقة في قدرات مدير أعمالك.. أومال أنا بعمل ايه؟!
رمقته بنظرة تحذيرية وهي تقول بجدية:
ـ إياد.. أنت عبقري في التسويق.. فلتة في الدعاية.. لكن ترتيب المعرض ده حسب دماغي وبس.. ولو أي حد هيتدخل تبقى صبا.. فاهم؟..
أومأ لها متفهماً:
ـ خلاص.. خلاص.. والله ما أقصد.. أنا كنت عايز أساعد ونكسب وقت.. بس خلاص ننتظر البرنسيسة صبا..
زمجرت فريدة:
ـ إياد.. وبعدين مش كل مرة تعصب البنت.. وتتخانقوا وأنا أسيب شغلي وأقعد أفصل بينكم..
ضحك برقة:
ـ بحب أشوفها متعصبة.. بتفكرني بيكي وأنتِ في سنها..
ضربته بقوة على كتفه فتأوه بشدة:
ـ بالذمة في فنانة أيديها جامدة كده..
وتوجه مسرعاً نحو الباب قبل أن تناله ضربة أخرى, ولكنه توقف فجأة بجوار الباب وهو يشير نحو لوحة مغطاة بمفرش أبيض كبير:
ـ شوفتِ!.. أهو في الزحمة والسرعة نسينا لوحة..
نزع المفرش بقوة قبل أن يصله صوت فريدة الزاعق:
ـ لا يا إياد.. دي مش للمعرض..
لم يستمع إياد إلى كلمات فريدة فقد أسرت عيناه ملامح صاحبة الصورة.. مزيج نادر من الحب والشوق والحزن والألم والحرمان والقهر.. ملامح امرأة تتوجع من حبها.. وفي نفس الوقت تستعذب ذلك الوجع وتستلذ به.. امرأة مشتاقة حد الوجع.. وعاشقة حتى الثمالة..
همس إياد مشدوهاً وأنامله تجري على الملامح المعبرة بهوس:
ـ دي حقيقية؟..
أجابته فريدة:
ـ حقيقية جداً..
فقد كانت تلك صورة علياء التي سرقت عينيّ فريدة منذ سنوات.. ولكنها لم تطلب الأذن بعرضها حتى الآن.


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-18, 07:13 PM   #35

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الثاني والثلاثون


تمسك يزيد بكلتا يديه بمقود السيارة بغضب مكبوت محاولاً عدم الالتفات إلى ثرثرة ريناد الجالسة بجواره والتي تعبر عن امتعاضها من الطبيب المختص الذي تركا عيادته للتو برفقة ابنهما رامي..
ثرثرتها لا تنتهي حول الطبيب وعدم كفائته وقلة ذوقه.. بالطبع فعلياء هي من اقترحته.. لذا يجب أن يكون عديم الكفاءة.. بينما الرجل كان في قمة الاحترافية وهو يفحص رامي بدقة شديدة.. وبعد عدة أسئلة لم تمتلك ريناد أي اجابة عنها, فكان يزيد يجيب بدلاً منها.. موضحاً كيف ومتى اكتشف المشكلة التي يعاني منها الطفل.. صمت الطبيب عاجزاً عن التعبير عما يجول بخاطره عندما علم بأن زوجة الأب هي من اكتشفت علة الصغير.. وأخيراً طلب منهما عدة تحاليل وفحوصات وراثية نظراً لوجود صلة قرابة وثيقة بينهما, فقد اتجهت ظنون الرجل لوجود خللاً وراثياً سبب ضعف السمع الشديد الذي يعاني منه ابنه.. واقترح بداية استخدام جهازاً سمعياً مؤقتاً حتى يتبين مدى الضعف الذي يعاني منه الصغير..
نعم.. فالحمد والشكر لله.. والفضل كان لعلياء في اكتشاف الحالة في وقت مبكر نسبياً..
"وإن كان من الممكن الاكتشاف في وقتِ بدري شوية"..
كانت تلك كلمات الطبيب.. والتي أكسبته عدواة ريناد على الفور.. فكلماته تتضمن اتهاماً ضمنياً لها بالاهمال.. وهو ما كان موقن منه الطبيب.. وظهر جلياً من طريقته الجافة في الاجابة عن أسئلتها السخيفة والتي كان أعظمها سخافة سؤالها عن جهاز السمع ومدى توافره بألوان راقية وأحجام لا تجعله مرئياً حتى لا تلمحه صديقاتها.. ولكن تلك السخافة لم تعادل قسوة سؤالها عن وجود مؤسسات متخصصة لاستقبال حالات كحالة رامي.. لحظتها بدا الطبيب على وشك القائها خارج مكتبه بينما تكورت قبضة يزيد بالفعل وكانت معجزة بحق أنه لم يلكمها في وجهها.. كما يستحق كائن أناني مثلها..
زاد من ضغط يديه على المقود حتى ابيضت سلميات أصابعه وثرثرتها تضرب أذنيه بقسوة مطالبة اياه بالبحث عن طبيب آخر أكثر تهذيباً وأكثر قدرة على التعامل مع من هم في مركزها..
ـ احنا لازم نفكر كويس في خطوتنا الجاية.. وهنتصرف ازاي مع رامي و..
قطع كلماتها توقف السيارة المفاجئ أمام الفيلا ليصطدم رأسها بالزجاج الأمامي وتصرخ غاضبة:
ـ يزيد!.. أنت اتجننت!!..
لم يجبها بينما التفتت إلى الخلف ليطمئن على رامي فوجده مازال نائمًا.. يبدو أن فحوصات الطبيب قد سببت له الاجهاد.. داعب وجنته بحنان وقد مرت بعقله فكرة استساغتها نفسه سريعاً فاتخذ قراراً فورياً وترجمه بكلمات قليلة ألقاها نحو ريناد:
ـ ريناد.. أنا هاخد رامي يلعب مع أخواته شوية..
زمجرت غاضبة:
ـ تاخد رامي لأخواته ولا تروح تترمي في حضن الهانم!.
هز كتفيه بلامبالاة وهو يرمقها بغضب مكتوم:
ـ حتى لو كان.. ايه الجديد عليكِ!.. أنا مش برتاح إلا مع علياء.. أنتِ عارفة ده كويس ومتقبلاه..
أغمضت عينيها للحظة تبتلع صراحته الفجة ثم همست:
ـ أنت مش ملاحظ أنك بقيت صريح لحد القسوة؟..
ردد بسخرية:
ـ قسوة!.. لا أبداً.. هو زي ما بتقولي أنا بقيت صريح قوي..
ثم صمت للحظة ليخرج صوته بارداً:
ـ لكن القسوة الحقيقية.. لما تبقى في ست.. المفروض أنها أم.. والمفروض ابنها في عز احتياجه لها.. لكن هي كل اللي بتفكر فيه ازاي تتخلص منه في مؤسسة ولا مركز طبي..
شحبت ملامحها لحظة ورددت بقلق:
ـ أنا...
قاطعها ببرود:
ـ أنتِ تروحي تكلمي خالتي في التليفون وتبلغيها أن ابني هيفضل جنبي.. ومش هبعده لأي مكان.. عايزة أنتِ بقى تفضلي جنب ابنك.. أهلاً وسهلاً.. مش عايزة.. براحتك!..
سألته بتوجس:
ـ يعني ايه؟..
أدار السيارة مرة أخرى كإشارة لها بالترجل منها وهو يغمغم:
ـ كلامي واضح.. عن إذنك!..
تركت السيارة والغضب يتملك كل خلية من خلاياها واندفعت داخل الفيلا لتتصل بوالدتها على الفور وهي تصرخ بها غاضبة:
ـ شوفتِ آخر نصايحك أنتِ وخالتي!.. خلاص البيه بقى يقولها في وشي بصراحة ومن غير ما يتكسف.. هو مش بيرتاح غير مع الهانم التانية.. وغير كده.. بيخيرني بين أني استمر معاه خدامة لابنه المريض, و..
قاطعتها أمها:
ـ وبين ايه؟..
دعكت ريناد جبهتها بتعب:
ـ مش عارفة.. ما قالش بس أكيد الطلاق..
غمغمت أمها بقلق:
ـ طلاق!..
هتفت ريناد بانزعاج:
ـ ماما.. أنا مش عارفة اعمل ايه!.. هو رامي صعبان عليّ.. بس مش متخيلة نفسي أم لطفل معوق زيه!
صمتت أمها لفترة.. قبل أن تخبرها بهدوء:
ـ خلاص.. يبقى تخلفي ابن سليم.. ورامي ترعاه أي مربية متخصصة..
صرخت ريناد بها:
ـ أنتِ بتقولي ايه بس!!.. طفل تاني!.. أنتِ ناسية أنا اتعذبت قد ايه عشان أخلف رامي؟!.. وبعدين أساساً الدكتور شاكك في مشاكل وراثية.. يعني ممكن الطفل الجديد ده يكون مريض زي رامي أو حتى أسوأ..
زفرت أمها بغيظ:
ـ مشاكل وراثية!.. ايه الحظ ده!.. طيب أنتِ ناوية على ايه؟
ـ مش عارفة يا ماما.. اليومين اللي فاتوا كنت هتجنن من القعدة مع رامي.. صحيح يزيد كان موجود.. وحتى هو اللي كان بيعمله أغلب طلباته.. بس الوضع مش هيستمر كده على طول..
ـ عندك حق.. أنا مش عارفة أفكر.. بس فكرة أنك تتنازلي عن وضعك كزوجة ليزيد الغمراوي قرار مش سهل.. برستيج ونفوذ وفلوس.. طيب حاولي تقنعيه بموضوع المربية.. واهو كده ممكن تستمروا زي ما أنتوا.. صحيح هو الولد فين؟..
ـ أخده وراح للهانم مراته..
هتفت أمها:
ـ طيب ما الحل موجود اهوه.. يربي ابنه المعاق ده وسط ولاده من عليا وهي مش هيفرق معاها.. خمس ولاد من ستة..
ـ امممم.. تفتكري؟.. طيب ويزيد هيوافق؟..
ـ ده ما هيصدق.. بس زي ما قلت لك.. فكري في طفل جديد.. خليه المرة دي تلقيح صناعي ولا أنابيب.. عشان نحاول نتجنب أي مشاكل وراثية..
برقت عينا ريناد بحماس:
ـ تصدقي فكرة كويسة قوي..
وأغلقت الخط مع والدتها وهي تفكر في وسيلة فعالة تقنع بها يزيد بفكرة الطفل الجديد.. طفل سليم.. تفتخر بوجوده وسط صديقاتها.. ويمكنها التعامل معه بسهولة.. وفي المستقبل.. يكون هو مستقبل عائلة الغمراوي.. ووريثها..
************
جلست نيرة على الأريكة الوثيرة بغرفة المعيشة في شقة علياء تراقب تلك الأخيرة وهي تحتضن صغيرها حمزه وهي ترضعه وتهمس له بحنان بينما أناملها تداعب خصلات شعره القصيرة وابتسامة رقيقة ترتسم على شفتيها..
دمعة مفاجئة جرت على وجنة نيرة فسارعت لتمسحها بسرعة وهي تتصور نفسها تحتضن طفل مازن بين ذراعيها.. ترضعه وتهمس له كما تفعل علياء..
أمنية بعيدة المنال.. وحلم أضاعته بإيديها.. حتى بعدما علمت بخبر انفصاله عن دنيا.. ظنت لوهلة وجود أمل ما أمامها ليفاجئها بخبر سفره إلى شقيقه.. وكأنه يهرب من أي مستقبل يجمعه بها.. أو حتى مجرد فكرة لمستقبل..
زفرت بحزن وهي تسأل علياء:
ـ هو يزيد ما يعرفش مازن هيرجع امتى؟..
هزت علياء رأسها نافية بصمت وهي تتذكر ابتعاد يزيد في اليومين الماضيين.. وانغماسه الكلي في مشكلة رامي.. تقدر هي وضعه وتمنحه العذر بالكامل, إلا أنها تفتقده بشدة.. تحتاج تواجده حولها الآن وقد كبر أولادهما وأصبح احتياجهم له أقوى وأشد..
سمعت صوت نيرة يسألها بتردد:
ـ تفتكري ممكن يكون ليا فرصة مع مازن؟..
التفتت علياء نحوها وهي تعدل من وضع حمزه لتسألها بوضوح:
ـ نيرة.. خليكي صريحة مرة واحدة مع نفسك.. أنتِ عايزة مازن ليه؟.. عشان هو جوزك اللي بعد عنك فجأة واتجوز غيرك وعايزة تعلني انتصارك عليها؟.. ولا عشان هو الراجل اللي بتحبيه واللي يستحق أنك تحاربي عشانه؟..
أخفضت نيرة بصرها للأسفل وهي تغمغم:
ـ مازن طلق دنيا..
شهقت علياء بصدمة وقد اتسعت عيناها ذهولاً.. ولكن ذهولها وصل لمنتهاه ونيرة تردف:
ـ دنيا هي اللي بلغتني.. الست دي غريبة قوي.. تخيلي أنها كانت بتوصيني على مازن.. وبتقسم لي أنه لسه بيحبني بس محتاج مني شوية تضحية وتعب.. الست دي مجنونة ولا خيالية؟.. دي تقريباً من عالم تاني..
غمغمت علياء بحزن:
ـ هي بس بتحبه قوي.. بس الانسان كده.. دايماً يضيع الحاجة الحلوة اللي في ايده وهو بيجري ورا سراب..
رمقتها نيرة بنظرة حادة ولكنها لم تعلق.. فما تقوله علياء بقدر ما ينطبق على مازن فهو ينطبق عليها أيضاً..
رمقت علياء بتردد وهي تسألها:
ـ اعمل ايه يا عليا؟.. ارجعه ازاي؟..
ـ بتحبيه يا نيرة؟..
ابتسمت نيرة بشجن وكأنها تتوقع السؤال:
ـ مش عارفة يا عليا!.. هو الحب ايه؟.. مشاعري لحسن كانت حب؟.. ولا اللي بحسه مع مازن هو الحب؟.. أما حسن سابني واتجوز منى حسيت بوجع في كرامتي.. كبريائي اتدمر وكنت غضبانة قوي.. وغضبي استمر لحد ما منى ماتت.. فرحت بموتها.. بس عشان حسن هينحرم منها ويرجع ضعيف ووحيد تاني.. جوازه السريع على قد ما صدمني على قد ما فوقني.. إنما مازن.. مازن جوازه بدنيا كسرني.. فكرة وجود ست تانية في حياتة على قد ما ولعت قلبي نار.. على قد ما شلتني وبقيت مش عارفة اتصرف ولا اتعامل معاه.. ودلوقتِ بعد ما خرجت من حياته.. هو بيهرب مني.. حاسة بوجع لدرجة أني مش قادرة أتنفس..
ابتسمت علياء برقة:
ـ حاولي معاه تاني يا نيرة هو مش هيفضل بعيد على طول.. أكيد هيرجع..
قبل أن ترد نيرة عليها فوجئت بدخول يزيد وقد انقبضت ملامحه فور رؤيته لنيرة وغمغم بضيق:
ـ مساء الخير..
ابتسمت له علياء برقة:
ـ مساء النور يا حبيبي..
وسألته عندما لمحت رامي بين يديه:
ـ أنت جبت رامي معاك؟.. الولاد هيفرحوا قوي.. كل يوم بيسألوا عليه..
أومأ برأسه قائلاً:
ـ أنا هدخل للولاد أوضتهم..
تركهما معاً وانطلق نحو غرفة الأولاد بينما استئذنت نيرة في الذهاب وودعتها علياء بعدما أوصتها بمحاولة الاتصال بمازن:
ـ يا نيرة اسمعي الكلام.. حاولي تحسسيه أنك عايزة وجوده جنبك.. محتاجاه.. ما تسيبيهوش لأفكاره وحزنه..
أومأت نيرة موافقة وودعت علياء معتذرة:
ـ أنا آسفة يا عليا.. يزيد شكله متضايق.. تقريباً أنا عملت لك مشكلة بالزيارة دي..
ربتت علياء على كتفها بحنان:
ـ ما تقلقيش يا نيرة.. أنا هتفاهم مع يزيد..
خرجت نيرة بينما توجهت علياء إلى غرفة الأولاد لترى رامي وقد غط في سبات عميق.. فوضعت حمزه في فراشه ودثرته بحنان.. وتوجهت نحو غرفتها, وما أن فتحتها حتى وجدت يزيد قد تمدد بعرض الفراش تاركاً قدميه لتتدلى على الأرض وأغمض عينيه تماماً.. فاقتربت منه بهدوء لتجلس ملتصقة به وهي تمد أناملها برقة لتداعب صدره وهي تسأله:
ـ حصل ايه عند الدكتور؟..
ظلت جفونه مطبقة لثوانٍ.. ثم حكى لها باختصار ما قاله الطبيب.. فربتت أناملها على جانب وجهه مواسية:
ـ إن شاء الله خير.. ولو في أي حاجة ممكن نعملها عشان نقدر نرفع من قدرته على السمع.. تمارين؟... نظام أكل؟.. أكيد في حاجات مساعدة.. ولا ايه؟..
فتح عينيه وهو يرمقها بحنان.. يريد أن يخبرها أن ما يحتاجه رامي لن يجده عند أي شخص سواها.. ولكن هل يمكنه أن يكون بهذه الأنانية؟. هذه القسوة؟.. أن يطلب منها أن تضم ابن غريمتها تحت جناحها وتربيه مع أولادها!.. تضحية كبيرة.. لا يستطيع طلبها منها.. برغم كل حبها له.. ورغم تيقنه أنها لن تمانع أبداً.. فهي أم بالفطرة.. ولكنه لا يستطيع.. فقط لا يستطيع..
شعر بأناملها تتجول بدفء على صفحة وجهه وصدره.. ثم اقتربت منه لتقبله قبلة دافئة على شفتيه هامسة:
ـ وحشتني قوي..
لفها بذراعه ورفعها لتصبح فوقه فتناثرت خصلاتها السوداء على وجهه.. حركت رأسها لتتحرك معها خصلاتها وتداعب وجهه بعبث جعله يشهق متشمماً رائحته العطرة وهو يضغط جسدها عليه بقوة ويديه تتحرك على ظهرها بحميمية وعبث حتى وصلت إلى عنقها فثبته ليلتقط شفتيها وكأنه تائة في صحراء لسنين وأخيراً وصل إلى نبع عذب..
رفعت رأسها قليلاً وهي تلهث بعنف هامسة:
ـ مالك يا يزيد؟..
عاد يخفض لها رأسها ليقبلها برقة ناعمة وهو يهمس:
ـ وحشتيني أنتِ كمان..
حركت إحدى ذراعيها والتي كانت قد حشرت بينهما لتطوق بها رأسه وتركت أناملها تداعب خصلاته وتتغلغل بها وهي تهمس ثانية:
ـ مالك يا يزيد؟.. لو ما قلتش لعلياء هتقول لمين؟..
أخذ يتأملها للحظات وهو يرى الرقة والعذوبة ترتسم على ملامحها.. وهي تعاود سؤاله للمرة الثالثة عما به.. فما كان منه إلا أن قلبها فوق الفراش ليعتليها هو تلك المرة ويقبلها بقوة وكأن حياته تعتمد على تلك القبلة.. وكأنه يبثها قلقه الذي لم يمر به من قبل.. يريدها أن تزيل تلك المخاوف التي تتلبسه.. يحتاجها أن تتفهمه كما تفعل دائماً.. كان يضمها بقوة لصدره, يلتهم شفتيها التهاماً.. يصرخ بقبلاته لها بما يوجع قلبه ويزعج عقله بشأن مستقبل ابنه الغامض.. لم يظن يوماً أنه قد يخاف إلى تلك الدرجة.. أن يصاب بالهلع والحنق لأن رامي قدر له أم مثل ريناد.. لم يشعر لحظة بالقلق على ابنائه من علياء.. فهو موقن من أنوثتها الممزوجة بأمومة رائعة.. تلك التي تلفه بها الآن وهي تمنحه الطمأنينة لمجرد وجودها بين ذراعيه..
رفع رأسه قليلاً ليرتكز بجبهته فوق جبهتها وأنفاسه اللاهثة تجري على صفحة وجهها بينما غرقت عيناه في عينيها لتتحد النظرات لثوانٍ وكأنها تتبادل رسائل خاصة بهما فقط لتهمس علياء:
ـ أنا موافقة..
توسعت عيناه بدهشة واعتدل في جلسته ليرفعها معه مجلساً إياه بين ذراعيه وهو يردد بذهول:
ـ لا.. لا يا علياء.. أنا ما اقدرش أطلب منك تضحي تضحية كبيرة كده.. حتى ولو عشاني..
رفعت نظرها له بتساؤل:
ـ خايف عليه مني؟..
هز رأسه مستنكراً:
ـ أنتِ بتقولي ايه بس!.. لا طبعاً.. لكن..
وضعت أناملها على شفتيه وهي تخبره بحنان:
ـ رامي ابني زي حمزه وحازم.. ما تقلقش.. واطمن.. عارفة أنها حاجة غريبة وما بتحصلش لكن ربنا زرع حبه في قلبي.. ده أكيد لحكمته سبحانه وتعالى.. غير كده كمان هو هيرضع مع أخواته.. وكده هيبقى ابني بالرضاعة.. يعني كمان شرعي..
لدهشتها وجدته يضيق عينيه قليلاً ثم يهمس بفحيح غاضب:
ـ بمناسبة الرضاعة.. ليه ترضعي حمزه قدام نيرة.. ليه ترضعي قدام أي حد من أساسه.. مش كفاية العيال اللي مش بتبطل رضاعة دي..
انطلقت ضحكاتها بقوة وكأنها تطرد بها التوتر الذي غلفهما منذ قليل.. وارتكزت على ركبتيها وأسندت كفيها على كتفيه وتهمس له بحب:
ـ أيوه كده.. ارجع يزيد المجنون اللي بحبه..
جذبها بشدة فارتمت على صدره بينما هو يتوعدها بعبث ممرغاً وجهه بعنقها وصدرها:
ـ المجنون.. هاااه.. مجنون..
انطلقت ضحكتها صافية وهي تحتضن وجهه بين كفيها:
ـ أنا بحب يزيد بكل حاجة فيه.. بعقله وجنونه.. حنانه ورقته وحتى أنانيته.. ورامي حتة منك.. ما تقلقش عليه أبداً.. بس..
ـ بس.. بس ايه؟..
ترددت قليلاً قبل أن تسأل بتلعثم:
ـ ريناد..
ضحك بمرارة تقريباً وهو يضجع للخلف ليستند على ظاهر الفراش ساحباً علياء معه فألقت برأسها على كتفه لتسمعه يجيب بألم:
ـ ريناد هتوافق.. ما تقلقيش..
ابتسمت بحزن وتلك الوخزة المؤلمة التي تشعر بها كلما ذكرت ريناد تهاجمها بقوة.. أصبحت لا تغار منها الآن.. وهي تتعجب من ذلك.. لا تشعر نحوها سوى بمرارة لا تستطيع التغلب عليها..
ألصقت نفسها به أكثر وكأنها تريد أن تشعر به بجوارها هي حقاً.. لا تريده أن يبتعد نحو ريناد حتى بفكره, فزاد هو من ضمها لجسده بينما بعقله تتردد فكرة واحدة..
"لازم ينهي الأمر"..
**********
وقف مازن بصحبة حسن وزوجته أمام إحدى لوحات فريدة يتبادلون معها حواراً مجاملاً حيث قام الأخوان بشراء عدة لوحات مجاملة لها بينما هي أصرت على دعوتهم جميعاً على العشاء:
ـ مش هقبل أعذار.. دي فرصة نتجمع كلنا مع بعض يا حسن.. حتى صبا موجودة كمان..
والتفتت حولها لتبحث عن ابنتها بينما تبعتها نظرات الجميع لتقع أعينهم على الفتاة المنشودة حين أشار مازن:
ـ آه.. صبا هناك أهي..
أومأت فريدة برأسها وهي تشير لابنتها لتتقدم وتحيي ضيوفها المميزين.. فابتسمت صبا برقة وتحركت لتستجيب لدعوة أمها حين اصطدمت بإياد الذي خرج من إحدى الغرف فجأة فأحاطها بذراعيه حتى لا تتعثر وتسقط أرضاً وهو يهتف بها:
ـ أوووبا.. مش تاخدي بالك يا ست صبا.. كويس أنها جت فيا أنا!..
ضيقت عينيها بتهديد وهي توبخه بنزق:
ـ والله.. يعني أنا اللي غلطانة!.. ولا سيادة مدير الأعمال المختفي؟.. وكمان مضيع عقله من الصبح.. غسان كان..
وضع أصابعه على شفتيها مقاطعاً:
ـ هششششش.. خلاص.. مش هندخل في موال غسان.. ارحميني.. أنا مش على بعضي من الصبح.. بقولك.. بتقبلي رشاوي لحد كام!
أطلقت صبا ضحكة عالية جذبت انتباه الحضور إليها لتتابعها عينان خضروان ضاقتا بغضب عندما اقتربت صبا من إياد لتستند عليه:
ـ والله ده يتوقف على اللي أنت عايزه!..
لف خصرها بذراعه وهو يحاول سحبها معه إلى الخارج:
ـ مش هينفع كلام هنا.. تعالي معايا..
قاطع كلماته وصول فريدة ومن معها وهي تهتف بصبا:
ـ ايه يا صبا!.. بشاور لك بقى لي فترة..
ضحكت صبا برقة:
ـ اعمل ايه يا فري.. الأستاذ إيدي مش عايز يسبني في حالي..
والتفت لتصافح مازن بود:
ـ حمد لله على السلامة يا مازن.. يا ترى دنيا وعشق معاك؟..
هز مازن رأسه نافياً وهو يصافح صبا بمحبة مستفسراً عن أحوالها.. ثم تحولت صبا لتحيي لورا برقة.. وأخيراً صافحت حسن مصافحة سريعة.. فهي لاحظت نظراته الغاضبة التي انصبت عليها منذ تعالت ضحكاتها مع إياد الذي صافحهم بدوره سريعاً ثم استئذن على الفور ليتابع أعمال المعرض حين هتفت صبا:
ـ ايوه كده روح شوف أكل عيشك..
ضحك إياد بغيظ ووخزها بقوة في خصرها فانتفضت بقوة صارخة لترتطم بكتف حسن الذي كان يجاورها وقوفاً.. فامتدت يده تلقائياً لتحيط بخصرها محاولة منه لابعادها عنه..
لم يفهم لما ارتعش جسده لتلك الملامسة البسيطة.. لما تأهبت حواسه لرائحتها الغريبة.. مزيج من رائحة الفانيلا وزهر المشمش.. نعم لقد أصبح يميز الروائح ببراعة بعد زواجه من لورا.. فهي تغرقه كل يوم بعبق جديد ورائحة مختلفة.. ولكن صبا كانت مختلفة.. عبق أنوثة مختلط بطفولية محببة.. هزته بقوة..
ارتجافة جسده المتأثر بها سببت له الغضب الشديد.. غضب من نفسه ومنها أيضاً.. وخاصة حينما تعالت ضحكتها العابثة وهي توبخ إياد:
ـ عيب عليك في السن ده!!..
وانطلقت ضحكاتها الرائقة لتتوقف فجأة حين اصطدمت بنظرات حسن التي تحولت من الغضب إلى الاحتقار وهو يشيح بوجهه عنها وكأنها مجرد النظر إليها يؤذيه ويغضبه..
ازدادت وتيرة تنفس صبا وغضبها يتصاعد لعنان السماء وهي تلمح تلك النظرات التي لم تجد لها تفسيراً وكادت بالفعل أن تصرخ به مطالبة بتوضيح فوري لسلوكه المنفر.. ولكن ما لم تدركه صبا البريئة بسنواتها العشرين هو الصاعقة التي أصابت حسن فور تلامسها معه, سماعه لضحكاتها مع إياد, رؤيته لها.. لم يصدق نفسه.. وكادت عينيه تقفزان من محجريهما وهو يرى صبا الصغيرة ذات الضفيرة الطويلة المشعثة وتقويم الأسنان المعدني وقد تحولت إلى فراشة رقيقة الألوان بداية من خصلاتها الكستنائية الداكنة والمتموجة, إلى عينيها الرماديتين الشقيتين والحزينتين في مزيج غريب لم يلمحه إلا في نظراتها.. مروراً بضحكتها الناعمة وبشرتها البرونزية والتي تحسدها عليها نجمات السينما, حتى قوامها الممشوق والذي أوضح ثوبها الفضي والذي إلتصق به كم تتمتع من رشاقة ونعومة تتهافت عليها أعين الرجال.. كما كان يفعل ذلك المدعو إيدي.. لقد صُعق حسن من التحول الذي أصاب الفتاة الصغيرة لتتحول إلى تلك المرأة التي هزت كيانه بشدة.. نعم.. فبقدر مفاجئته بجمال صبا البري بقدر انزعاجه لذلك التأثير الذي امتلكته على مشاعره.. على رجولته.. وقلبه..
نظراتها الحزينة الشقية اخترقت الدرع الفولاذي الذي شيده حول قلبه ليجده يرتجف نشوة لسماع ضحكاتها اللذيذة ومزاحها مع ذلك البغيض إيدي..
"تباً.. تباً.. ماذا يحدث؟!"..
هو لا يتأثر بالنساء.. لا يلتفت لدلالهن وضحكاتهن وصخبهن ومحاولتهن لجذب الانتباه.. قلبه توقف عن الدق بعد منى.. عينيه عُميت عن رؤية غيرها وأذنيه صُمت عن سماع تنهدات وضحكات سواها من النساء.. إذاً لما رجفة القلب الآن؟.. لم يستجيب كيانه وجسده.. عقله وقلبه لفتاة لطالما رآها كأخت صغيرة.. وفي أحسن الأحوال طفلة رقيقة محببة ووديعة.. متى تحولت الوداعة إلى تلك الأنوثة المتوحشة التي تهاجمه بضراوة..
غاب حسن في أفكاره وفي محاولاته لتفسير مشاعره المختلطة ولم يدرِ بنفسه إلا وهو جالساً على مائدة العشاء ولورا بجواره ترمقه بقلق وقد لاحظت شروده.. وتواجهه مَن شتت أفكاره وبعثرت كيانه وهي مندمجة في حديث طويل مع مازن حيث بدا أنه أخبارها بإنفصاله عن دنيا فاتسعت عيناها الرماديتين دهشة وارتعشت شفتيها المكتنزتين تأثراً وهي تعض على السفلى منهما بحزن كاد ينتزع تأوهاً منه.. فأغمض عينيه وهو يطلق على نفسه أحقر الأسماء والأوصاف.. بل كاد يشك أنه تناول xxxxاً أصابه بلوثة ما أو في أسوأ الأحوال منشط ما أثار هرموناته الذكورية..
هل ابتعد عن زوجته فترة طويلة لتلك الدرجة حتى تصبح نفسيته ومقاومته بتلك الهشاشة؟.. كلا.. لم يحدث.. فلورا امرأة دافئة وعاطفية وتتفنن في ارضائه ومنحه السعادة.. إذاً ماذا!!.. ماذا به؟..
وصل إلى مسامعه صوتها وهي تحادث مازن:
ـ اديها فرصة يا مازن.. أنتوا الاتنين غلطانين.. نيرة اتغيرت كتير بس أنت مش ملاحظ.. أو مش عايز تلاحظ.. بتدوروا حوالين مشاعركوا وبتهربوا من المواجهة.. لحد امتى هتقدروا تتحملوا الحياة كده!
غمغم مازن من بين أسنانه:
ـ صبا.. أنتِ ما تعرفيش..
قاطعته بسرعة:
ـ مين قالك!.. السنة الي عدت دي أنا قربت من نيرة قوي.. هي بتحاول.. يمكن مش هتتحول لملاك زي عليا.. ولا ست دافية زي دنيا.. بس هي بتحسن من نيرة.. نيرة اللي أنت حبيتها..
دوى صوت حسن بسخرية:
ـ نيرة اللي اتهمت بنت بريئة ظلم عشان تنتقم بس!..
التفتت له صبا بغضب لتلمح نفس النظرات الغاضبة تقفز من عينيه فهتفت به بالفرنسية:
ـ أعتقد أنه يفضل الحديث بالفرنسية حتى تفهم زوجتك ما تقوله!
تكلمت لورا برقة وبعربية ضعيفة:
ـ لا.. صبا.. لا.. أنا أفهم كل اللي أنت قولوه.. وموافق معاك كتير..
ضغط حسن على أسنانه بغيظ بينما ابتسمت صبا بانتصار والتفتت لمازن لتكمل حوارها:
ـ صدقني يا مازن.. نيرة محتاجة وجودك جنبها.. وأنت خلاص حسمت أمرك وطلقت دنيا.. يبقى ايه اللي يمنع تبدأوا من جديد؟..
غمغم حسن ساخراً:
ـ اللي يمنع أنها نيرة غيث.. والنمر مش بيغير جلده..
هتفت صبا بغيظ:
ـ هو أنت لا بترحم ولا بتسيب رحمة ربنا تنزل.. في ايه!.. ما أنت اتجوزت وخلفت تاني بعد..
قطعت كلماتها فجأة وهي تنتبه إلى شحوب وجه لورا.. فاعتذرت منها:
ـ آسفة قوي يا لورا.. بس جوزك خرجني عن مشاعري..
أومأت لورا بلطف:
ـ مش تضايق صبا.. حسن مش يقصد.. هو منفعل كتير..
ربت حسن على يد لورا بهدوء:
ـ لورا.. آسف.. لكن أي كلام عن نيرة بيسبب لي إزعاج..
ثم التفت إلى شقيقه:
ـ آسف يا مازن.. بس..
أخفض مازن رأسه متفهماً:
ـ خلاص يا حسن.. أساساً.. أي موضوع يخصني أنا ونيرة هناقشه ما بينا..
ثم التفت نحو صبا مغيراً الموضوع:
ـ أنتِ طمنيني.. أخبارك ايه؟.. هتتخرجي السنة دي صح؟..
أومأت صبا موافقة بهدوء:
ـ إن شاء الله.. أنا مش مصدقة امتى أخلص بقى.. نفسي بجد اشتغل في مجالي..
تردد سؤال حسن:
ـ اللي هو ايه بقى؟..
ضحك مازن ببشاشة محاولاً التغافل عن الجو المتوتر حول المائدة:
ـ ايه يا حسن أنت مش عايش معانا على الأرض!.. صبا هتكون مدرسة أطفال خطيرة.. ولاد يزيد العفاريت دول بيموتوا فيها..
أطلق حسن صفيراً صغيراً قبل أن ترتفع إحدى شفتيه مستهزئاً:
ـ مدرسة أطفال!.. يعني حتى ما أخدتيش موهبة مامتك ولا احترافية باباكِ.. هتعملي ايه بوظيفة مدرسة أطفال في مؤسسة العدوي_غيث..
غمغمت صبا بسخرية مريرة وقد اشتعل وجهها غضباً:
ـ هقول لدادي يشتري لي حضانة مليانة أطفال ويخليها جزء من المؤسسة..!
تعالت ضحكات مازن القوية واحتقن وجه حسن غضباً وقبل أن يجيب على وقاحتها وصله صوت فريدة التي وصلت للتو ويرافقها ذلك اللزج المسمى إياد وهي تعتذر بلهفة:
ـ آسفة اتأخرت عليكوا.. بس كان في شوية شغل كده بخلصهم مع إياد..
جلست فريدة بجوار مازن وقبل أن يجلس إياد.. جذبته صبا من يده هاتفة:
ـ قوم خلينا نرقص.. الموسيقى حلوة قوي وأنا محتاجة اهدي أعصابي.. الجو هنا خنقة..
تحرك معها إياد نحو حلقة الرقص وظلا يرقصان معاً طوال السهرة وبدا أن صبا تمتلك طاقة لا تنضب فلم تدع إياد يعود لمائدة العشاء إلا بعد مرور أكثر من ساعة كاملة.. وكان الجميع بدأ بتناول العشاء بالفعل.. وما كادت تجلس على المائدة حتى نهض حسن فجأة معتذراً من الجميع ومتعللاً برغبته في الاطمئنان على طفلته الصغيرة..
**********
دلف حسن إلى غرفة صغيرته فور أن وصل إلى منزله.. حملها من فراشها وظل محتفظاً بها قرب قلبه.. يتشمم رائحتها الطفولية العذبة ويتلمس خصلاتها البلاتيتية الناعمة هامساً..
"يا قلب وعيون وروح بابا.. خليكي جنبي.. رجعي لبابا ثباته.. هدوئه.. مشاعره اللي اتبعترت الليلة"..
جلس على المقعد المجوار لمهد الصغيرة وظل يحتضنها طويلاً حتى شعر بيد لورا تتحس كتفه هامسة:
ـ حسن.. دع مونا تنام.. لا تزعج نومها..
وضع طفلته بالفراش بحنان واصطحب زوجته إلى غرفتهما وهو يدرك أنه الآن في أضعف حالاته وفي أشد الاحتياج لوجود أنثى مثلها تمتلك كل المقومات لارضائه واخراج أي امرأة حية من عقله.. فما أن أغلق باب الغرفة خلفهما حتى سحب لورا بين ذراعيه منقضاً على شفتيها تحركه رغبة حارقة في النسيان.. لقد نجحت من قبل في تخدير جروحه.. وستنجح مرة أخرى في اخراج أي أنثى عابثة من محاولة اقتحام قلبه.. زاد من عنف قبلته وامتدت يديه ليمزق قماش ثوبها الرقيق تاركاً أثار أنامله القاسية فوق بشرتها الناعمة.. ولكنها لم تهتم.. فهي كانت مأخوذة بعنف عاطفته.. شغفه الذي تستشعره ربما للمرة الأولى.. فاستجابت له بقوة وبادلته عاطفته بضراوة مماثلة وهي تلف عنقه بذراعيها, ترتفع على أطراف أصابعها ليتمكن من الوصول لشفتيها واختراقهما.. ولم تشعر بنفسها إلا وهي بالفراش وهو فوقها يهتف من أعماقه
"اطرديها يا لورا.. اطرديها قبل ما تتمكن من أعماقي.. اطرديها"..


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-18, 07:24 PM   #36

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الثاني والثلاثون


تمسك يزيد بكلتا يديه بمقود السيارة بغضب مكبوت محاولاً عدم الالتفات إلى ثرثرة ريناد الجالسة بجواره والتي تعبر عن امتعاضها من الطبيب المختص الذي تركا عيادته للتو برفقة ابنهما رامي..
ثرثرتها لا تنتهي حول الطبيب وعدم كفائته وقلة ذوقه.. بالطبع فعلياء هي من اقترحته.. لذا يجب أن يكون عديم الكفاءة.. بينما الرجل كان في قمة الاحترافية وهو يفحص رامي بدقة شديدة.. وبعد عدة أسئلة لم تمتلك ريناد أي اجابة عنها, فكان يزيد يجيب بدلاً منها.. موضحاً كيف ومتى اكتشف المشكلة التي يعاني منها الطفل.. صمت الطبيب عاجزاً عن التعبير عما يجول بخاطره عندما علم بأن زوجة الأب هي من اكتشفت علة الصغير.. وأخيراً طلب منهما عدة تحاليل وفحوصات وراثية نظراً لوجود صلة قرابة وثيقة بينهما, فقد اتجهت ظنون الرجل لوجود خللاً وراثياً سبب ضعف السمع الشديد الذي يعاني منه ابنه.. واقترح بداية استخدام جهازاً سمعياً مؤقتاً حتى يتبين مدى الضعف الذي يعاني منه الصغير..
نعم.. فالحمد والشكر لله.. والفضل كان لعلياء في اكتشاف الحالة في وقت مبكر نسبياً..
"وإن كان من الممكن الاكتشاف في وقتِ بدري شوية"..
كانت تلك كلمات الطبيب.. والتي أكسبته عدواة ريناد على الفور.. فكلماته تتضمن اتهاماً ضمنياً لها بالاهمال.. وهو ما كان موقن منه الطبيب.. وظهر جلياً من طريقته الجافة في الاجابة عن أسئلتها السخيفة والتي كان أعظمها سخافة سؤالها عن جهاز السمع ومدى توافره بألوان راقية وأحجام لا تجعله مرئياً حتى لا تلمحه صديقاتها.. ولكن تلك السخافة لم تعادل قسوة سؤالها عن وجود مؤسسات متخصصة لاستقبال حالات كحالة رامي.. لحظتها بدا الطبيب على وشك القائها خارج مكتبه بينما تكورت قبضة يزيد بالفعل وكانت معجزة بحق أنه لم يلكمها في وجهها.. كما يستحق كائن أناني مثلها..
زاد من ضغط يديه على المقود حتى ابيضت سلميات أصابعه وثرثرتها تضرب أذنيه بقسوة مطالبة اياه بالبحث عن طبيب آخر أكثر تهذيباً وأكثر قدرة على التعامل مع من هم في مركزها..
ـ احنا لازم نفكر كويس في خطوتنا الجاية.. وهنتصرف ازاي مع رامي و..
قطع كلماتها توقف السيارة المفاجئ أمام الفيلا ليصطدم رأسها بالزجاج الأمامي وتصرخ غاضبة:
ـ يزيد!.. أنت اتجننت!!..
لم يجبها بينما التفتت إلى الخلف ليطمئن على رامي فوجده مازال نائمًا.. يبدو أن فحوصات الطبيب قد سببت له الاجهاد.. داعب وجنته بحنان وقد مرت بعقله فكرة استساغتها نفسه سريعاً فاتخذ قراراً فورياً وترجمه بكلمات قليلة ألقاها نحو ريناد:
ـ ريناد.. أنا هاخد رامي يلعب مع أخواته شوية..
زمجرت غاضبة:
ـ تاخد رامي لأخواته ولا تروح تترمي في حضن الهانم!.
هز كتفيه بلامبالاة وهو يرمقها بغضب مكتوم:
ـ حتى لو كان.. ايه الجديد عليكِ!.. أنا مش برتاح إلا مع علياء.. أنتِ عارفة ده كويس ومتقبلاه..
أغمضت عينيها للحظة تبتلع صراحته الفجة ثم همست:
ـ أنت مش ملاحظ أنك بقيت صريح لحد القسوة؟..
ردد بسخرية:
ـ قسوة!.. لا أبداً.. هو زي ما بتقولي أنا بقيت صريح قوي..
ثم صمت للحظة ليخرج صوته بارداً:
ـ لكن القسوة الحقيقية.. لما تبقى في ست.. المفروض أنها أم.. والمفروض ابنها في عز احتياجه لها.. لكن هي كل اللي بتفكر فيه ازاي تتخلص منه في مؤسسة ولا مركز طبي..
شحبت ملامحها لحظة ورددت بقلق:
ـ أنا...
قاطعها ببرود:
ـ أنتِ تروحي تكلمي خالتي في التليفون وتبلغيها أن ابني هيفضل جنبي.. ومش هبعده لأي مكان.. عايزة أنتِ بقى تفضلي جنب ابنك.. أهلاً وسهلاً.. مش عايزة.. براحتك!..
سألته بتوجس:
ـ يعني ايه؟..
أدار السيارة مرة أخرى كإشارة لها بالترجل منها وهو يغمغم:
ـ كلامي واضح.. عن إذنك!..
تركت السيارة والغضب يتملك كل خلية من خلاياها واندفعت داخل الفيلا لتتصل بوالدتها على الفور وهي تصرخ بها غاضبة:
ـ شوفتِ آخر نصايحك أنتِ وخالتي!.. خلاص البيه بقى يقولها في وشي بصراحة ومن غير ما يتكسف.. هو مش بيرتاح غير مع الهانم التانية.. وغير كده.. بيخيرني بين أني استمر معاه خدامة لابنه المريض, و..
قاطعتها أمها:
ـ وبين ايه؟..
دعكت ريناد جبهتها بتعب:
ـ مش عارفة.. ما قالش بس أكيد الطلاق..
غمغمت أمها بقلق:
ـ طلاق!..
هتفت ريناد بانزعاج:
ـ ماما.. أنا مش عارفة اعمل ايه!.. هو رامي صعبان عليّ.. بس مش متخيلة نفسي أم لطفل معوق زيه!
صمتت أمها لفترة.. قبل أن تخبرها بهدوء:
ـ خلاص.. يبقى تخلفي ابن سليم.. ورامي ترعاه أي مربية متخصصة..
صرخت ريناد بها:
ـ أنتِ بتقولي ايه بس!!.. طفل تاني!.. أنتِ ناسية أنا اتعذبت قد ايه عشان أخلف رامي؟!.. وبعدين أساساً الدكتور شاكك في مشاكل وراثية.. يعني ممكن الطفل الجديد ده يكون مريض زي رامي أو حتى أسوأ..
زفرت أمها بغيظ:
ـ مشاكل وراثية!.. ايه الحظ ده!.. طيب أنتِ ناوية على ايه؟
ـ مش عارفة يا ماما.. اليومين اللي فاتوا كنت هتجنن من القعدة مع رامي.. صحيح يزيد كان موجود.. وحتى هو اللي كان بيعمله أغلب طلباته.. بس الوضع مش هيستمر كده على طول..
ـ عندك حق.. أنا مش عارفة أفكر.. بس فكرة أنك تتنازلي عن وضعك كزوجة ليزيد الغمراوي قرار مش سهل.. برستيج ونفوذ وفلوس.. طيب حاولي تقنعيه بموضوع المربية.. واهو كده ممكن تستمروا زي ما أنتوا.. صحيح هو الولد فين؟..
ـ أخده وراح للهانم مراته..
هتفت أمها:
ـ طيب ما الحل موجود اهوه.. يربي ابنه المعاق ده وسط ولاده من عليا وهي مش هيفرق معاها.. خمس ولاد من ستة..
ـ امممم.. تفتكري؟.. طيب ويزيد هيوافق؟..
ـ ده ما هيصدق.. بس زي ما قلت لك.. فكري في طفل جديد.. خليه المرة دي تلقيح صناعي ولا أنابيب.. عشان نحاول نتجنب أي مشاكل وراثية..
برقت عينا ريناد بحماس:
ـ تصدقي فكرة كويسة قوي..
وأغلقت الخط مع والدتها وهي تفكر في وسيلة فعالة تقنع بها يزيد بفكرة الطفل الجديد.. طفل سليم.. تفتخر بوجوده وسط صديقاتها.. ويمكنها التعامل معه بسهولة.. وفي المستقبل.. يكون هو مستقبل عائلة الغمراوي.. ووريثها..
************
جلست نيرة على الأريكة الوثيرة بغرفة المعيشة في شقة علياء تراقب تلك الأخيرة وهي تحتضن صغيرها حمزه وهي ترضعه وتهمس له بحنان بينما أناملها تداعب خصلات شعره القصيرة وابتسامة رقيقة ترتسم على شفتيها..
دمعة مفاجئة جرت على وجنة نيرة فسارعت لتمسحها بسرعة وهي تتصور نفسها تحتضن طفل مازن بين ذراعيها.. ترضعه وتهمس له كما تفعل علياء..
أمنية بعيدة المنال.. وحلم أضاعته بإيديها.. حتى بعدما علمت بخبر انفصاله عن دنيا.. ظنت لوهلة وجود أمل ما أمامها ليفاجئها بخبر سفره إلى شقيقه.. وكأنه يهرب من أي مستقبل يجمعه بها.. أو حتى مجرد فكرة لمستقبل..
زفرت بحزن وهي تسأل علياء:
ـ هو يزيد ما يعرفش مازن هيرجع امتى؟..
هزت علياء رأسها نافية بصمت وهي تتذكر ابتعاد يزيد في اليومين الماضيين.. وانغماسه الكلي في مشكلة رامي.. تقدر هي وضعه وتمنحه العذر بالكامل, إلا أنها تفتقده بشدة.. تحتاج تواجده حولها الآن وقد كبر أولادهما وأصبح احتياجهم له أقوى وأشد..
سمعت صوت نيرة يسألها بتردد:
ـ تفتكري ممكن يكون ليا فرصة مع مازن؟..
التفتت علياء نحوها وهي تعدل من وضع حمزه لتسألها بوضوح:
ـ نيرة.. خليكي صريحة مرة واحدة مع نفسك.. أنتِ عايزة مازن ليه؟.. عشان هو جوزك اللي بعد عنك فجأة واتجوز غيرك وعايزة تعلني انتصارك عليها؟.. ولا عشان هو الراجل اللي بتحبيه واللي يستحق أنك تحاربي عشانه؟..
أخفضت نيرة بصرها للأسفل وهي تغمغم:
ـ مازن طلق دنيا..
شهقت علياء بصدمة وقد اتسعت عيناها ذهولاً.. ولكن ذهولها وصل لمنتهاه ونيرة تردف:
ـ دنيا هي اللي بلغتني.. الست دي غريبة قوي.. تخيلي أنها كانت بتوصيني على مازن.. وبتقسم لي أنه لسه بيحبني بس محتاج مني شوية تضحية وتعب.. الست دي مجنونة ولا خيالية؟.. دي تقريباً من عالم تاني..
غمغمت علياء بحزن:
ـ هي بس بتحبه قوي.. بس الانسان كده.. دايماً يضيع الحاجة الحلوة اللي في ايده وهو بيجري ورا سراب..
رمقتها نيرة بنظرة حادة ولكنها لم تعلق.. فما تقوله علياء بقدر ما ينطبق على مازن فهو ينطبق عليها أيضاً..
رمقت علياء بتردد وهي تسألها:
ـ اعمل ايه يا عليا؟.. ارجعه ازاي؟..
ـ بتحبيه يا نيرة؟..
ابتسمت نيرة بشجن وكأنها تتوقع السؤال:
ـ مش عارفة يا عليا!.. هو الحب ايه؟.. مشاعري لحسن كانت حب؟.. ولا اللي بحسه مع مازن هو الحب؟.. أما حسن سابني واتجوز منى حسيت بوجع في كرامتي.. كبريائي اتدمر وكنت غضبانة قوي.. وغضبي استمر لحد ما منى ماتت.. فرحت بموتها.. بس عشان حسن هينحرم منها ويرجع ضعيف ووحيد تاني.. جوازه السريع على قد ما صدمني على قد ما فوقني.. إنما مازن.. مازن جوازه بدنيا كسرني.. فكرة وجود ست تانية في حياتة على قد ما ولعت قلبي نار.. على قد ما شلتني وبقيت مش عارفة اتصرف ولا اتعامل معاه.. ودلوقتِ بعد ما خرجت من حياته.. هو بيهرب مني.. حاسة بوجع لدرجة أني مش قادرة أتنفس..
ابتسمت علياء برقة:
ـ حاولي معاه تاني يا نيرة هو مش هيفضل بعيد على طول.. أكيد هيرجع..
قبل أن ترد نيرة عليها فوجئت بدخول يزيد وقد انقبضت ملامحه فور رؤيته لنيرة وغمغم بضيق:
ـ مساء الخير..
ابتسمت له علياء برقة:
ـ مساء النور يا حبيبي..
وسألته عندما لمحت رامي بين يديه:
ـ أنت جبت رامي معاك؟.. الولاد هيفرحوا قوي.. كل يوم بيسألوا عليه..
أومأ برأسه قائلاً:
ـ أنا هدخل للولاد أوضتهم..
تركهما معاً وانطلق نحو غرفة الأولاد بينما استئذنت نيرة في الذهاب وودعتها علياء بعدما أوصتها بمحاولة الاتصال بمازن:
ـ يا نيرة اسمعي الكلام.. حاولي تحسسيه أنك عايزة وجوده جنبك.. محتاجاه.. ما تسيبيهوش لأفكاره وحزنه..
أومأت نيرة موافقة وودعت علياء معتذرة:
ـ أنا آسفة يا عليا.. يزيد شكله متضايق.. تقريباً أنا عملت لك مشكلة بالزيارة دي..
ربتت علياء على كتفها بحنان:
ـ ما تقلقيش يا نيرة.. أنا هتفاهم مع يزيد..
خرجت نيرة بينما توجهت علياء إلى غرفة الأولاد لترى رامي وقد غط في سبات عميق.. فوضعت حمزه في فراشه ودثرته بحنان.. وتوجهت نحو غرفتها, وما أن فتحتها حتى وجدت يزيد قد تمدد بعرض الفراش تاركاً قدميه لتتدلى على الأرض وأغمض عينيه تماماً.. فاقتربت منه بهدوء لتجلس ملتصقة به وهي تمد أناملها برقة لتداعب صدره وهي تسأله:
ـ حصل ايه عند الدكتور؟..
ظلت جفونه مطبقة لثوانٍ.. ثم حكى لها باختصار ما قاله الطبيب.. فربتت أناملها على جانب وجهه مواسية:
ـ إن شاء الله خير.. ولو في أي حاجة ممكن نعملها عشان نقدر نرفع من قدرته على السمع.. تمارين؟... نظام أكل؟.. أكيد في حاجات مساعدة.. ولا ايه؟..
فتح عينيه وهو يرمقها بحنان.. يريد أن يخبرها أن ما يحتاجه رامي لن يجده عند أي شخص سواها.. ولكن هل يمكنه أن يكون بهذه الأنانية؟. هذه القسوة؟.. أن يطلب منها أن تضم ابن غريمتها تحت جناحها وتربيه مع أولادها!.. تضحية كبيرة.. لا يستطيع طلبها منها.. برغم كل حبها له.. ورغم تيقنه أنها لن تمانع أبداً.. فهي أم بالفطرة.. ولكنه لا يستطيع.. فقط لا يستطيع..
شعر بأناملها تتجول بدفء على صفحة وجهه وصدره.. ثم اقتربت منه لتقبله قبلة دافئة على شفتيه هامسة:
ـ وحشتني قوي..
لفها بذراعه ورفعها لتصبح فوقه فتناثرت خصلاتها السوداء على وجهه.. حركت رأسها لتتحرك معها خصلاتها وتداعب وجهه بعبث جعله يشهق متشمماً رائحته العطرة وهو يضغط جسدها عليه بقوة ويديه تتحرك على ظهرها بحميمية وعبث حتى وصلت إلى عنقها فثبته ليلتقط شفتيها وكأنه تائة في صحراء لسنين وأخيراً وصل إلى نبع عذب..
رفعت رأسها قليلاً وهي تلهث بعنف هامسة:
ـ مالك يا يزيد؟..
عاد يخفض لها رأسها ليقبلها برقة ناعمة وهو يهمس:
ـ وحشتيني أنتِ كمان..
حركت إحدى ذراعيها والتي كانت قد حشرت بينهما لتطوق بها رأسه وتركت أناملها تداعب خصلاته وتتغلغل بها وهي تهمس ثانية:
ـ مالك يا يزيد؟.. لو ما قلتش لعلياء هتقول لمين؟..
أخذ يتأملها للحظات وهو يرى الرقة والعذوبة ترتسم على ملامحها.. وهي تعاود سؤاله للمرة الثالثة عما به.. فما كان منه إلا أن قلبها فوق الفراش ليعتليها هو تلك المرة ويقبلها بقوة وكأن حياته تعتمد على تلك القبلة.. وكأنه يبثها قلقه الذي لم يمر به من قبل.. يريدها أن تزيل تلك المخاوف التي تتلبسه.. يحتاجها أن تتفهمه كما تفعل دائماً.. كان يضمها بقوة لصدره, يلتهم شفتيها التهاماً.. يصرخ بقبلاته لها بما يوجع قلبه ويزعج عقله بشأن مستقبل ابنه الغامض.. لم يظن يوماً أنه قد يخاف إلى تلك الدرجة.. أن يصاب بالهلع والحنق لأن رامي قدر له أم مثل ريناد.. لم يشعر لحظة بالقلق على ابنائه من علياء.. فهو موقن من أنوثتها الممزوجة بأمومة رائعة.. تلك التي تلفه بها الآن وهي تمنحه الطمأنينة لمجرد وجودها بين ذراعيه..
رفع رأسه قليلاً ليرتكز بجبهته فوق جبهتها وأنفاسه اللاهثة تجري على صفحة وجهها بينما غرقت عيناه في عينيها لتتحد النظرات لثوانٍ وكأنها تتبادل رسائل خاصة بهما فقط لتهمس علياء:
ـ أنا موافقة..
توسعت عيناه بدهشة واعتدل في جلسته ليرفعها معه مجلساً إياه بين ذراعيه وهو يردد بذهول:
ـ لا.. لا يا علياء.. أنا ما اقدرش أطلب منك تضحي تضحية كبيرة كده.. حتى ولو عشاني..
رفعت نظرها له بتساؤل:
ـ خايف عليه مني؟..
هز رأسه مستنكراً:
ـ أنتِ بتقولي ايه بس!.. لا طبعاً.. لكن..
وضعت أناملها على شفتيه وهي تخبره بحنان:
ـ رامي ابني زي حمزه وحازم.. ما تقلقش.. واطمن.. عارفة أنها حاجة غريبة وما بتحصلش لكن ربنا زرع حبه في قلبي.. ده أكيد لحكمته سبحانه وتعالى.. غير كده كمان هو هيرضع مع أخواته.. وكده هيبقى ابني بالرضاعة.. يعني كمان شرعي..
لدهشتها وجدته يضيق عينيه قليلاً ثم يهمس بفحيح غاضب:
ـ بمناسبة الرضاعة.. ليه ترضعي حمزه قدام نيرة.. ليه ترضعي قدام أي حد من أساسه.. مش كفاية العيال اللي مش بتبطل رضاعة دي..
انطلقت ضحكاتها بقوة وكأنها تطرد بها التوتر الذي غلفهما منذ قليل.. وارتكزت على ركبتيها وأسندت كفيها على كتفيه وتهمس له بحب:
ـ أيوه كده.. ارجع يزيد المجنون اللي بحبه..
جذبها بشدة فارتمت على صدره بينما هو يتوعدها بعبث ممرغاً وجهه بعنقها وصدرها:
ـ المجنون.. هاااه.. مجنون..
انطلقت ضحكتها صافية وهي تحتضن وجهه بين كفيها:
ـ أنا بحب يزيد بكل حاجة فيه.. بعقله وجنونه.. حنانه ورقته وحتى أنانيته.. ورامي حتة منك.. ما تقلقش عليه أبداً.. بس..
ـ بس.. بس ايه؟..
ترددت قليلاً قبل أن تسأل بتلعثم:
ـ ريناد..
ضحك بمرارة تقريباً وهو يضجع للخلف ليستند على ظاهر الفراش ساحباً علياء معه فألقت برأسها على كتفه لتسمعه يجيب بألم:
ـ ريناد هتوافق.. ما تقلقيش..
ابتسمت بحزن وتلك الوخزة المؤلمة التي تشعر بها كلما ذكرت ريناد تهاجمها بقوة.. أصبحت لا تغار منها الآن.. وهي تتعجب من ذلك.. لا تشعر نحوها سوى بمرارة لا تستطيع التغلب عليها..
ألصقت نفسها به أكثر وكأنها تريد أن تشعر به بجوارها هي حقاً.. لا تريده أن يبتعد نحو ريناد حتى بفكره, فزاد هو من ضمها لجسده بينما بعقله تتردد فكرة واحدة..
"لازم ينهي الأمر"..
**********
وقف مازن بصحبة حسن وزوجته أمام إحدى لوحات فريدة يتبادلون معها حواراً مجاملاً حيث قام الأخوان بشراء عدة لوحات مجاملة لها بينما هي أصرت على دعوتهم جميعاً على العشاء:
ـ مش هقبل أعذار.. دي فرصة نتجمع كلنا مع بعض يا حسن.. حتى صبا موجودة كمان..
والتفتت حولها لتبحث عن ابنتها بينما تبعتها نظرات الجميع لتقع أعينهم على الفتاة المنشودة حين أشار مازن:
ـ آه.. صبا هناك أهي..
أومأت فريدة برأسها وهي تشير لابنتها لتتقدم وتحيي ضيوفها المميزين.. فابتسمت صبا برقة وتحركت لتستجيب لدعوة أمها حين اصطدمت بإياد الذي خرج من إحدى الغرف فجأة فأحاطها بذراعيه حتى لا تتعثر وتسقط أرضاً وهو يهتف بها:
ـ أوووبا.. مش تاخدي بالك يا ست صبا.. كويس أنها جت فيا أنا!..
ضيقت عينيها بتهديد وهي توبخه بنزق:
ـ والله.. يعني أنا اللي غلطانة!.. ولا سيادة مدير الأعمال المختفي؟.. وكمان مضيع عقله من الصبح.. غسان كان..
وضع أصابعه على شفتيها مقاطعاً:
ـ هششششش.. خلاص.. مش هندخل في موال غسان.. ارحميني.. أنا مش على بعضي من الصبح.. بقولك.. بتقبلي رشاوي لحد كام!
أطلقت صبا ضحكة عالية جذبت انتباه الحضور إليها لتتابعها عينان خضروان ضاقتا بغضب عندما اقتربت صبا من إياد لتستند عليه:
ـ والله ده يتوقف على اللي أنت عايزه!..
لف خصرها بذراعه وهو يحاول سحبها معه إلى الخارج:
ـ مش هينفع كلام هنا.. تعالي معايا..
قاطع كلماته وصول فريدة ومن معها وهي تهتف بصبا:
ـ ايه يا صبا!.. بشاور لك بقى لي فترة..
ضحكت صبا برقة:
ـ اعمل ايه يا فري.. الأستاذ إيدي مش عايز يسبني في حالي..
والتفت لتصافح مازن بود:
ـ حمد لله على السلامة يا مازن.. يا ترى دنيا وعشق معاك؟..
هز مازن رأسه نافياً وهو يصافح صبا بمحبة مستفسراً عن أحوالها.. ثم تحولت صبا لتحيي لورا برقة.. وأخيراً صافحت حسن مصافحة سريعة.. فهي لاحظت نظراته الغاضبة التي انصبت عليها منذ تعالت ضحكاتها مع إياد الذي صافحهم بدوره سريعاً ثم استئذن على الفور ليتابع أعمال المعرض حين هتفت صبا:
ـ ايوه كده روح شوف أكل عيشك..
ضحك إياد بغيظ ووخزها بقوة في خصرها فانتفضت بقوة صارخة لترتطم بكتف حسن الذي كان يجاورها وقوفاً.. فامتدت يده تلقائياً لتحيط بخصرها محاولة منه لابعادها عنه..
لم يفهم لما ارتعش جسده لتلك الملامسة البسيطة.. لما تأهبت حواسه لرائحتها الغريبة.. مزيج من رائحة الفانيلا وزهر المشمش.. نعم لقد أصبح يميز الروائح ببراعة بعد زواجه من لورا.. فهي تغرقه كل يوم بعبق جديد ورائحة مختلفة.. ولكن صبا كانت مختلفة.. عبق أنوثة مختلط بطفولية محببة.. هزته بقوة..
ارتجافة جسده المتأثر بها سببت له الغضب الشديد.. غضب من نفسه ومنها أيضاً.. وخاصة حينما تعالت ضحكتها العابثة وهي توبخ إياد:
ـ عيب عليك في السن ده!!..
وانطلقت ضحكاتها الرائقة لتتوقف فجأة حين اصطدمت بنظرات حسن التي تحولت من الغضب إلى الاحتقار وهو يشيح بوجهه عنها وكأنها مجرد النظر إليها يؤذيه ويغضبه..
ازدادت وتيرة تنفس صبا وغضبها يتصاعد لعنان السماء وهي تلمح تلك النظرات التي لم تجد لها تفسيراً وكادت بالفعل أن تصرخ به مطالبة بتوضيح فوري لسلوكه المنفر.. ولكن ما لم تدركه صبا البريئة بسنواتها العشرين هو الصاعقة التي أصابت حسن فور تلامسها معه, سماعه لضحكاتها مع إياد, رؤيته لها.. لم يصدق نفسه.. وكادت عينيه تقفزان من محجريهما وهو يرى صبا الصغيرة ذات الضفيرة الطويلة المشعثة وتقويم الأسنان المعدني وقد تحولت إلى فراشة رقيقة الألوان بداية من خصلاتها الكستنائية الداكنة والمتموجة, إلى عينيها الرماديتين الشقيتين والحزينتين في مزيج غريب لم يلمحه إلا في نظراتها.. مروراً بضحكتها الناعمة وبشرتها البرونزية والتي تحسدها عليها نجمات السينما, حتى قوامها الممشوق والذي أوضح ثوبها الفضي والذي إلتصق به كم تتمتع من رشاقة ونعومة تتهافت عليها أعين الرجال.. كما كان يفعل ذلك المدعو إيدي.. لقد صُعق حسن من التحول الذي أصاب الفتاة الصغيرة لتتحول إلى تلك المرأة التي هزت كيانه بشدة.. نعم.. فبقدر مفاجئته بجمال صبا البري بقدر انزعاجه لذلك التأثير الذي امتلكته على مشاعره.. على رجولته.. وقلبه..
نظراتها الحزينة الشقية اخترقت الدرع الفولاذي الذي شيده حول قلبه ليجده يرتجف نشوة لسماع ضحكاتها اللذيذة ومزاحها مع ذلك البغيض إيدي..
"تباً.. تباً.. ماذا يحدث؟!"..
هو لا يتأثر بالنساء.. لا يلتفت لدلالهن وضحكاتهن وصخبهن ومحاولتهن لجذب الانتباه.. قلبه توقف عن الدق بعد منى.. عينيه عُميت عن رؤية غيرها وأذنيه صُمت عن سماع تنهدات وضحكات سواها من النساء.. إذاً لما رجفة القلب الآن؟.. لم يستجيب كيانه وجسده.. عقله وقلبه لفتاة لطالما رآها كأخت صغيرة.. وفي أحسن الأحوال طفلة رقيقة محببة ووديعة.. متى تحولت الوداعة إلى تلك الأنوثة المتوحشة التي تهاجمه بضراوة..
غاب حسن في أفكاره وفي محاولاته لتفسير مشاعره المختلطة ولم يدرِ بنفسه إلا وهو جالساً على مائدة العشاء ولورا بجواره ترمقه بقلق وقد لاحظت شروده.. وتواجهه مَن شتت أفكاره وبعثرت كيانه وهي مندمجة في حديث طويل مع مازن حيث بدا أنه أخبارها بإنفصاله عن دنيا فاتسعت عيناها الرماديتين دهشة وارتعشت شفتيها المكتنزتين تأثراً وهي تعض على السفلى منهما بحزن كاد ينتزع تأوهاً منه.. فأغمض عينيه وهو يطلق على نفسه أحقر الأسماء والأوصاف.. بل كاد يشك أنه تناول xxxxاً أصابه بلوثة ما أو في أسوأ الأحوال منشط ما أثار هرموناته الذكورية..
هل ابتعد عن زوجته فترة طويلة لتلك الدرجة حتى تصبح نفسيته ومقاومته بتلك الهشاشة؟.. كلا.. لم يحدث.. فلورا امرأة دافئة وعاطفية وتتفنن في ارضائه ومنحه السعادة.. إذاً ماذا!!.. ماذا به؟..
وصل إلى مسامعه صوتها وهي تحادث مازن:
ـ اديها فرصة يا مازن.. أنتوا الاتنين غلطانين.. نيرة اتغيرت كتير بس أنت مش ملاحظ.. أو مش عايز تلاحظ.. بتدوروا حوالين مشاعركوا وبتهربوا من المواجهة.. لحد امتى هتقدروا تتحملوا الحياة كده!
غمغم مازن من بين أسنانه:
ـ صبا.. أنتِ ما تعرفيش..
قاطعته بسرعة:
ـ مين قالك!.. السنة الي عدت دي أنا قربت من نيرة قوي.. هي بتحاول.. يمكن مش هتتحول لملاك زي عليا.. ولا ست دافية زي دنيا.. بس هي بتحسن من نيرة.. نيرة اللي أنت حبيتها..
دوى صوت حسن بسخرية:
ـ نيرة اللي اتهمت بنت بريئة ظلم عشان تنتقم بس!..
التفتت له صبا بغضب لتلمح نفس النظرات الغاضبة تقفز من عينيه فهتفت به بالفرنسية:
ـ أعتقد أنه يفضل الحديث بالفرنسية حتى تفهم زوجتك ما تقوله!
تكلمت لورا برقة وبعربية ضعيفة:
ـ لا.. صبا.. لا.. أنا أفهم كل اللي أنت قولوه.. وموافق معاك كتير..
ضغط حسن على أسنانه بغيظ بينما ابتسمت صبا بانتصار والتفتت لمازن لتكمل حوارها:
ـ صدقني يا مازن.. نيرة محتاجة وجودك جنبها.. وأنت خلاص حسمت أمرك وطلقت دنيا.. يبقى ايه اللي يمنع تبدأوا من جديد؟..
غمغم حسن ساخراً:
ـ اللي يمنع أنها نيرة غيث.. والنمر مش بيغير جلده..
هتفت صبا بغيظ:
ـ هو أنت لا بترحم ولا بتسيب رحمة ربنا تنزل.. في ايه!.. ما أنت اتجوزت وخلفت تاني بعد..
قطعت كلماتها فجأة وهي تنتبه إلى شحوب وجه لورا.. فاعتذرت منها:
ـ آسفة قوي يا لورا.. بس جوزك خرجني عن مشاعري..
أومأت لورا بلطف:
ـ مش تضايق صبا.. حسن مش يقصد.. هو منفعل كتير..
ربت حسن على يد لورا بهدوء:
ـ لورا.. آسف.. لكن أي كلام عن نيرة بيسبب لي إزعاج..
ثم التفت إلى شقيقه:
ـ آسف يا مازن.. بس..
أخفض مازن رأسه متفهماً:
ـ خلاص يا حسن.. أساساً.. أي موضوع يخصني أنا ونيرة هناقشه ما بينا..
ثم التفت نحو صبا مغيراً الموضوع:
ـ أنتِ طمنيني.. أخبارك ايه؟.. هتتخرجي السنة دي صح؟..
أومأت صبا موافقة بهدوء:
ـ إن شاء الله.. أنا مش مصدقة امتى أخلص بقى.. نفسي بجد اشتغل في مجالي..
تردد سؤال حسن:
ـ اللي هو ايه بقى؟..
ضحك مازن ببشاشة محاولاً التغافل عن الجو المتوتر حول المائدة:
ـ ايه يا حسن أنت مش عايش معانا على الأرض!.. صبا هتكون مدرسة أطفال خطيرة.. ولاد يزيد العفاريت دول بيموتوا فيها..
أطلق حسن صفيراً صغيراً قبل أن ترتفع إحدى شفتيه مستهزئاً:
ـ مدرسة أطفال!.. يعني حتى ما أخدتيش موهبة مامتك ولا احترافية باباكِ.. هتعملي ايه بوظيفة مدرسة أطفال في مؤسسة العدوي_غيث..
غمغمت صبا بسخرية مريرة وقد اشتعل وجهها غضباً:
ـ هقول لدادي يشتري لي حضانة مليانة أطفال ويخليها جزء من المؤسسة..!
تعالت ضحكات مازن القوية واحتقن وجه حسن غضباً وقبل أن يجيب على وقاحتها وصله صوت فريدة التي وصلت للتو ويرافقها ذلك اللزج المسمى إياد وهي تعتذر بلهفة:
ـ آسفة اتأخرت عليكوا.. بس كان في شوية شغل كده بخلصهم مع إياد..
جلست فريدة بجوار مازن وقبل أن يجلس إياد.. جذبته صبا من يده هاتفة:
ـ قوم خلينا نرقص.. الموسيقى حلوة قوي وأنا محتاجة اهدي أعصابي.. الجو هنا خنقة..
تحرك معها إياد نحو حلقة الرقص وظلا يرقصان معاً طوال السهرة وبدا أن صبا تمتلك طاقة لا تنضب فلم تدع إياد يعود لمائدة العشاء إلا بعد مرور أكثر من ساعة كاملة.. وكان الجميع بدأ بتناول العشاء بالفعل.. وما كادت تجلس على المائدة حتى نهض حسن فجأة معتذراً من الجميع ومتعللاً برغبته في الاطمئنان على طفلته الصغيرة..
**********
دلف حسن إلى غرفة صغيرته فور أن وصل إلى منزله.. حملها من فراشها وظل محتفظاً بها قرب قلبه.. يتشمم رائحتها الطفولية العذبة ويتلمس خصلاتها البلاتيتية الناعمة هامساً..
"يا قلب وعيون وروح بابا.. خليكي جنبي.. رجعي لبابا ثباته.. هدوئه.. مشاعره اللي اتبعترت الليلة"..
جلس على المقعد المجوار لمهد الصغيرة وظل يحتضنها طويلاً حتى شعر بيد لورا تتحس كتفه هامسة:
ـ حسن.. دع مونا تنام.. لا تزعج نومها..
وضع طفلته بالفراش بحنان واصطحب زوجته إلى غرفتهما وهو يدرك أنه الآن في أضعف حالاته وفي أشد الاحتياج لوجود أنثى مثلها تمتلك كل المقومات لارضائه واخراج أي امرأة حية من عقله.. فما أن أغلق باب الغرفة خلفهما حتى سحب لورا بين ذراعيه منقضاً على شفتيها تحركه رغبة حارقة في النسيان.. لقد نجحت من قبل في تخدير جروحه.. وستنجح مرة أخرى في اخراج أي أنثى عابثة من محاولة اقتحام قلبه.. زاد من عنف قبلته وامتدت يديه ليمزق قماش ثوبها الرقيق تاركاً أثار أنامله القاسية فوق بشرتها الناعمة.. ولكنها لم تهتم.. فهي كانت مأخوذة بعنف عاطفته.. شغفه الذي تستشعره ربما للمرة الأولى.. فاستجابت له بقوة وبادلته عاطفته بضراوة مماثلة وهي تلف عنقه بذراعيها, ترتفع على أطراف أصابعها ليتمكن من الوصول لشفتيها واختراقهما.. ولم تشعر بنفسها إلا وهي بالفراش وهو فوقها يهتف من أعماقه
"اطرديها يا لورا.. اطرديها قبل ما تتمكن من أعماقي.. اطرديها"..
الفصل الثالث والثلاثون
جلس حسن أمام غسان يراجعان معاً حسابات المطعم ويتناقشان في التطوارت التي اقترحها غسان بشأن فرع المطعم الذي يديره حسن..
اقتراحات يرفضها حسن بضراوة فهو يريد الحفاظ على الطابع الريفي للمطعم.. وإضافة حلقة رقص كما يقترح غسان ستدمر سحر المكان..
ـ غسان.. أنت عارف رأيي.. وجود حلقة رقص وبار وكلام من ده مرفوض..
هتف غسان بتعجب:
ـ بار!!.. أنا قلت بار..
رمقه حسن بتساؤل:
ـ يعني مش دي الخطوة الجاية؟..
ـ لا طبعاً.. ده مش هيحصل أبداً.. وبعدين أنا ما أقصدش قاعة رقص بالمعنى اللي جه في بالك..
قطب حسن بتساؤل:
ـ أومال؟..
ـ jukebox
صمت للحظة وأكمل:
ـ جهاز الموسيقى اللي بالعملة.. تحط الكوين وتختار الأغنية.. ومساحة واسعة بين الكراسي للي عايز يرقص.. فاهمني؟..
أومأ حسن برأسه.. وهو ينهض ليتحرك في الغرفة الضيقة حتى وقف مواجهاً للنافذة الزجاجية الواسعة والتي تحتل حائطاً بأكمله وتسمح لمن في الغرفة بمتابعة أعمال المطعم في الخارج..
التفت إلى غسان وهو يشير إلى النافذة متابعاً حلقة الرقص بالخارج ذات الأضواء الخافتة الرومانسية وقد تناثرت بها عدة أزواج من الراقصين:
ـ مش هتكون زي دي؟..
هز غسان رأسه نافياً:
ـ لا طبعاً.. كل مكان لازم يبقى له الطابع المميز له و..
لم يعد حسن يستمع لأي من هذر غسان وغاب عقله تماماً وعيناه تلمحان خصلات كستنائية متمردة هاجمت أحلامه مراراً في الليالي الماضية.. وهو يغلغل أنامله بها تارة, يتشممها تارة أخرى, يمرغ وجهه به مرة ثالثة.. تباً.. أنه مريض.. بل منحرف خائن ويجب القصاص منه.. كيف يفكر بها بتلك الطريقة!!.. كيف؟..
هاجس خفي يهمس له..
"لكنك لا تفكر هكذا.. أنها مجرد أحلام.. هل يُحاسب على الأحلام!"..
أفاق على صوت غسان وهو يهتف مشيراً إلى معذبة أحلامه:
ـ ياااا.. دي صبا هناك اهيه ومعاها إياد كمان..
ضغط حسن على أسنانه بشدة وعيناه مازالت ملتصقة بها وقد تعلقت بكتفي إياد يتمايلان معاً على أنغام إحدى الأغنيات.. وقد غرقا تماماً في حوار هامس.. رفع ضغط دمه.. وأثار جنونه لدرجة أنه كاد أن يخترق تلك النافذة الزجاجية ليسحبها من بين يدي ذلك الحقير الذي يستغل صغر سنها ولا يحترم كونه موظفاً لدى والدتها..
فوجئ حسن بغسان يجذبه من يده قائلاً:
ـ تعالى هنروح نسلم عليهم و..
قاطعه حسن بسرعة:
ـ لا.. زي ما قلت لك أنا مشغول.. يا دوب هروح المطار.. صاحبي اللي كلمتك عنه.. فاكر.. اللي حجزت له عند خبير في علاج الصمم عشان ابنه.. هيوصل بعد ساعة.. تمام..
ثم ودع غسان وانطلق هارباً وكأن الشياطين تطارده.. فهو يحاول منذ أسابيع الهروب من تلك المشاعر التي داهمته بدون موعد.. مشاعر عاصفة.. جامحة ومجنونة..
"منى.. سيبتيني ليه؟!"..
كان يهتف بها بداخله وهو يدلف إلى سيارته متجهاً إلى المطار ليستقبل يزيد وأسرته.. وعقله يسترجع كل ذكرى له مع منى لتكن درعاً واقياً له من جنون ألم به ولم يعرف له علاجاً, كانت ذكرياته تلك هي خط دفاعه الأخير أمام عاصفة عاتية تجتاحه وتطيح بعقله قبل قلبه.. فهو لا يجد تفسيراً منطقياً لذلك الغضب الأعمى الذي انتابه فقط لرؤيتها تتمايل راقصة بين يدي رجل آخر.. قوة إرادة رهيبة تلك ما جعلته ينطلق خارجاً من المطعم قبل أن يسحبها سحباً من بين ذراعي إياد.. هل تلك غيرة!.. هل أصبح يغار عليها؟!.. كيف؟.. ومتى؟.. ولما؟.. تباً.. أنها صبا.. الفتاة الحلوة الرقيقة.. كيف تؤثر به هكذا؟ حتى أن لورا بكل أنوثتها الطاغية وكل حبها الذي تغرقه به لم تستطع نزعها من خلايا عقله.. من أفكاره وخيالاته.. وأحلامه...
إذاً فليحتمي خلف ذكرى منى فهو وإن صدم نفسه بزواجه من لورا إلا أنه كان يتذرع دائماً بحالته المتخبطة بعد موت منى.. وعندما بدأ يستفيق قليلاً وجد لورا حاملاً بالفعل وأصبح الفراق خيار غير وارد.. لكن ما عذره الآن ليترك قلبه ينجرف نحو عاطفة لا يدرك لها أفق.. فعشقه لمنى برغم قوته إلا أنه كان هادئاً ناعماً كمياه البحر الرائقة في يوم مشمس تشعرك بالراحة والسعادة ولكن تلك الصبا تجتاحه كإعصار مدمر يقتلعه من جذوره, كمياه المحيط.. ثائرة ولكنها تغويه للانغماس بها.. وبرغم عذاب تفكيره بها بقدر المتعة التي تمنحه إياها تلك الأفكار, إحساسه بقلبه ينبض من جديد.. بفكره يتوه مع حركة أناملها الرقيقة.. بخياله يجمح ليقربها منه.. تباً.. لقد افتقد الحب.. كلا.. كلا.. خطأ.. ما يحدث هو خطأ.. خيانة.. فالحب هو منى.. قلبه دفن مع منى.. كيف يسمح بدقة قلبه خادعة تغافله ليتوق للحب من جديد.. نعم.. أنه يتوق للحب وليس لوجود امرأة.. فالوجود الأنثوي بحياته تغطيه لورا ببراعة.. ولكن.. ماذا يفعل وهي تجتاحه ولا تدري عن أمره شيئاً, بل الأدهى أنها ساخرة ومندفعة.. قوية وعنيدة.. لسانها لا يسكت عما تفكر به.. كما أنها تبدو متحررة الفكر للغاية ومتورطة بعلاقة مشبوهة مع ذلك الإياد.. هي كل ما يرفضه في المرأة, فلم تمتلك تلك السطوة عليه.. لم تتسارع نبضاته كلما مر طيفها بباله.. لم أصبح يغمر نفسه بالعمل حتى لا يفكر بها وفي نفس الوقت يبحث عن لحظات مسروقة يغمض بها عينيه ليتخيل عينيها تبتسم له هو فقط..
تباً.. تباً.. يجب أن يتوقف عن التفكير بها.. عن تصورها و...
"تباً"..
صرخها تلك المرة بصوت عال وهو يلكم المقود بعنف بالغ محاولاً إقناع نفسه بتحريك السيارة والابتعاد عن المكان بكل ما يحويه من جنون, وبالفعل أدار المحرك ليعود ويوقفه على الفور ويخرج من السيارة كالعاصفة مقتحماً المدخل الأمامي للمطعم ومتجهاً نحو عذابه المتمايل بين ذراعي آخر فيسحبها من مرفقها بسرعة ويوقف تحرك إياد بإشارة حاسمة من يده هاتفاً:
ـ خليك مكانك وما تدخلش أنت.. دي مسألة عائلية مالكش فيها..
توسعت عينا إياد على آخرهما بعدما وصله ذلك التحذير العنيف, ولكن سرعان ما ارتسمت ابتسامة ساخرة على ملامحه وهو يراقب الموقف بتسلية بالغة بينما حاولت صبا التملص من قبضة حسن الذي زاد من ضغط قبضته عليها هامساً من بين أسنانه:
ـ اتحركي معايا وبلاش فضايح..
تسمرت قدماها بالأرض رافضة التحرك وقد ظهر على وجهها إمارات التمرد وشعت نظراتها بالغضب وهي تهمس له بدورها:
ـ لو مش عايز فضايح بجد سيب إيدي.. وإلا أقسم بالله..
قطع كلماتها إياد وهو يقول بنبرة ظهرت فيها التسلية واضحة:
ـ خلاص يا قطتي.. البشمهندس يوصلك.. أنا كمان افتكرت ميعاد مهم.. تشاااااو..
كانت كلمة "قطتي" بتلك الطريقة ونبرة الدلال بها فوق احتمال حسن فلم يشعر بنفسه إلا وهو ينطلق كالسهم خارج المطعم وهو يسحب صبا خلفه هاتفاً بحنق:
ـ مش عايز اسمع كلمة واحدة وإلا أقسم بالله لاكون مخرجك من هنا على كتفي..
لحظات وكانت صبا تجلس في المقعد الأمامي لسيارة حسن وهي تتنفس بسرعة شديدة وقد تملك الغضب من كل خلية بجسدها حتى أنها عجزت عن الصراخ بوجه حسن الذي أدار السيارة بغضب عاصف والكلمات تنطلق من بين شفتيه بعنف:
ـ أنتِ ازاي بقيتِ كده!..
فوجئت بعنف كلماته واتهام ينطلق من بين شفتيه قبل أن تجبه بكلمة:
ـ صبا البنوتة الرقيقة تربط نفسها بعلاقة مشبوهة مع واحد عمره ضعف عمرها!.. هاه.. ازاي فهميني..
برقت عينا صبا بدهشة بالغة وقد استوعبت ما يدور بذهنه من أفكار سوداء فحلت عقدة لسانها لتردد بذهول:
ـ علا.. علاااقة!!.. أنت اتجننت!!.. أنــ
قاطعها بعنف:
ـ تقدري تفهميني ايه اللي يربطك به؟.. رقص وخروج ودلع و..
صرخت به وقد وصل غضبها لمنتهاه من تدخله الغير مرغوب به:
ـ وأنت مالك!.. مين مات وعملك وصي على تصرفاتي..
غمغم من بين أسنانه مفسراً:
ـ والدتك لها جميل في رقابتي..
قاطعته وهي تكتف يديها على صدرها:
ـ وأنت اهوه رديت الجميل.. وأنقذت بنتها من أنياب الديب الشرير.. ميرسي يا بشمهندس..
ضرب المقود بعنف فانتفضت في مكانها مجفلة وهي ترمق قبضته بقلق لتسمعه يهمس باستفزاز:
ـ ما تخافيش..
هتفت بحنق:
ـ ما بخافش على فكرة.. أنا أعرف أحافظ على نفسي كويس..
تملكه الغضب مرة أخرى ليعاود اتهامه لها:
ـ واضح.. عشان كده بتورطي نفسك مع اللي اسمه إياد..
التفتت نحوه وهي تشير بسبابتها نحوه:
ـ ما يخصكش.. فاهمني.. علاقتي بإياد زي ما بتقول.. ما تخصش حد غيرنا..
هتف بها وقد خرج غضبه عن سيطرته:
ـ ليه؟!.. ليه تدمري حياتك؟..
لفت نفسها لتواجه النافذة تلك المرة وهي تخبره من بين أسنانها:
ـ هو تدمير الحياة بقى حكر عليك بس؟..
انتفض جسده في مكانه بقوة وكأنها رمته بالرصاص.. فجملتها أصابت أعمق مخاوفه وأسوأ كوابيسه.. عندما حرم منى الحياة الطبيعية بجوار والديها وابتعد بها بعيداً لتنتهي حياتها وحيدة.. غريبة..
لاحظت صبا صمته فلفت رأسها لتفاجئ بإنقباض ملامحه وشحوب وجهه.. أصابتها الحيرة بشدة.. فهو يظهر الآن تأثراً لما ألحقه بنيرة منذ سنوات..
حاولت فتح شفتيها لتعدل من كلماتها حتى لا يظن أن نيرة مازالت تدور في فلكه.. ليصلها صوته وهو يحاول اصباغ بعض الهدوء عليه:
ـ بصي يا صبا.. بلاش تحاولي تكوني أي حد غير نفسك.. ما تخليش تجربة سيئة أو حتى شخص مر في حياتك يأثر فيها لدرجة أنك تاخدي قرارات مصيرية تندمي عليها بعدين...
تأملته صبا بذهول لتخرج همستها قبل أن تستطيع إيقافها:
ـ أنت بتقول لنفسك ولا بتقولي الكلام ده..
شرد يتأمل الطريق أمامه ليهمس بكلمات لم تسمعها:
ـ يمكن بقولوه لنا احنا الاتنين..
ابتلعت كلماتها وسكتت وهي تلف برأسها للنافذة الجانبية متسائلة:
ـ ايه ده!.. احنا رايحين فين؟..
قبل أن يجبها تعالى رنين هاتفه, فالتقطه ليجب بسرعة:
ـ أيوه يا يزيد.. نص ساعة وهكون عندك.. آسف على التأخير..
ثم رمق صبا بنظرة خاصة:
ـ مشكلة صغيرة عطلتني.. لا.. لا.. هآجي.. دقايق وأكون عندك..
أغلق الخط والتفت إلى صبا معتذراً بحرج يتناقض تماماً مع ثورة غضبه السابقة:
ـ أنا آسف.. بس لازم أروح أجيب يزيد من المطار.. والوقت يا دوب.. صعب أني أوصلك الأول.. تحبي أوقف لك تاكسي أو..
لم تسمع صبا باقي جملته المعتذرة وهي ترمقه بدهشة بالغة عاجزة عن استيعاب تحوله من الغضب المستعر إلى حالة من الحزن والشجن لتنقلب إلى نوع ما من الوداعة والحرج وصلت به حد الاعتذار منها!..
من يكون هذا الرجل؟!.. أهو الغاضب الأحمق أم الحزين الغامض؟.. أم المهذب الرقيق؟!..
والأغرب ردة فعلها نحوه.. لم تهاجمه باستمرار؟.. لم لم تخبره بمن يكون إياد حقاً بدلاً من الاستماع إلى اتهاماته الحمقاء؟.. لم تشعر بتلك البهجة الخفية والتي تحاول الهروب منها جاهدة..
يا الهي.. لقد ظنت أن ذلك الافتتان القديم قد مات.. لا تنكر أنه كان نجم مراهقتها.. حتى أنها قفزت فرحاً عندما حل ارتباطه بنيرة.. فلم تكن تحتمل أن يكون معشوق مراهقتها هو زوج شقيقتها.. ولكن.. لكن ذلك كان عهداً قديماً وانقضى.. عهداً كفرت عنه مطولاً بتغاضيها عن معاملة نيرة البشعة, حتى بدأت تلك الأخيرة في التقرب منها وبدء علاقة صداقة خفيفة معها.. فلم يحدث هذا الآن؟.. لم يرمقها بتلك النظرات الحائرة وكأنه يتساءل من أنتِ؟..
لم وهما تصادفا مراراً في السنوات الماضية.. لم تشعر أنه رآها بالفعل تلك الليلة في معرض فريدة؟!..
سمعت نبرته المترددة:
ـ صبا!!..
التفتت له لتغرق نظراتها في نظراته.. للحظات أو ثوانٍ لم تدركها رأت حيراتها تنعكس في نظراته.. وكأن سؤالاً بلا إجابة يحلق فوقهما..
"وماذا بعد؟!"..
كانت هي أول من ابعدت عينيها وهي تجيب على سؤاله المسموع وليس ذلك المبطن:
ـ هاجي معاك المطار.. يزيد معاه عليا والولاد.. وأكيد هيحتاجوا مساعدة لحد ما يستقروا..
لم يعقب على جملتها وتوجه مباشرة للمطار حيث كان ينتظر يزيد مبدياً تأففه من تأخر صديقه بينما علياء _التي كانت تحمل رامي بين ذراعيها رافضة وضعه في عربة أطفال كأخويه_ تحاول تهدئته:
ـ خلاص يا يزيد.. قالك أنه جاي في السكة.. اهدى شوية..
رمق يزيد رامي المتشبث بذراعيها ونظراته تلاحق حركة شفتيها وملامحها بافتتان وهمس لها:
ـ الواد باينه وقع في حبك!
التفتت له بغيظ:
ـ أنت.. أنت..
لم تستطع أن تكمل كلماتها وهي تراه يقترب منها غامزاً بعبث:
ـ معذور!..
جاء من خلفه صوت حسن يداعبه:
ـ يعني أنت سايب مصر كلها وجاي تغازل في باريس!
التفت سريعاً ليلتقي بعيني حسن الحزينتين رغم كل شيء.. ففتح له ذراعيه على الفور ليغيبا الصديقان في عناق طويل بينما علياء احتضنت صبا بمودة وسعادة هاتفة:
ـ معقولة المفاجأة الحلوة دي..
هزت صبا كتفيها بحرج وهي تحاول تبرير وجودها حين سارع حسن بالتوضيح:
ـ أنا قابلت صبا بالصدفة في مطعم غسان.. وطلبت منها تيجي معايا عشان تساعد عليا مع الولاد.. و.. ووافقت..
رمقتها علياء بامتنان:
ـ بصراحة.. وجودك جه في وقته.. الأولاد جنوني..
والتفتت حولها لتلمح علي ونادية يتسلقا عربة الحقائب ومعهما أدهم يحاول تقليدهما بتصميم عنيد..
ابتسمت صبا وهي تشير لهم بحماس فينطلق علي كالسهم ويحط بين ذراعي صبا فترفعه عالياً وهو يصيح:
ـ بيبو.. وحشتيني.. هترجعي الحضانة امتى؟!..
بينما رفعت نادية عينيها لصبا وهي تدور حول نفسها بأنوثة:
ـ شوفتي فستاني الجديد يا بيبو..
كانت عيني حسن تراقب صبا وكأن نظراته التصقت بملامحها بينما هي حاولت الاندماج مع أطفال يزيد هرباً من تلك النظرات التي لم تفهمها وما لم تعلمه أنه عاجز عن فهم نفسه.. عاجز عن منعها من استراق تلك النظرات منها.. أخيراً نجح في الانتباه ليزيد ومنحه بعضاً من تركيزه لينخرطا في حوارٍ طويل وهما ينقلان الحقائب ويساعدا الجميع على الاستقرار بالسيارة.. فجلست علياء بالخلف ومعها صبا والأولاد جميعهم ما عدا نادية التي تمركزت على ركبتي أبيها الجالس بجوار حسن وهما مازالا يتهامسا سوياً.. حتى سمعا صوت علياء الضاحك:
ـ يا سلام.. اللي يشوف كده يقول بقى لكوا سنين ما شوفتوش بعض.. ويزيد كان هنا من كام شهر بس..
قهقه الصديقان ويزيد يهتف بإغاظة:
ـ كل ده عشان أنا شوفت منى الصغيرة وهي لأ..
ضحك حسن بسعادة وهو يخرج عدة صور لطفلته ويعرضها على علياء بفخر أبوي واضح فهتفت بانبهار:
ـ ما شاء الله.. زي القمر.. ربنا يخليها..
تناولت صبا الصور وهي تتأمل فتنة منى الصغيرة وتهمس:
ـ جميلة فعلاً.. ازاي فريدة ما رسمتهاش!..
ابتسم حسن بفخر وهو يخبرها:
ـ هي طلبت كتير ترسمها.. بس أنا قلت نستنى أما تكبر شوية..
ناولته الصور فتلامست أطراف أناملهما ليسحباها على الفور فتتناثر الصور على ركبتي علياء التي جمعتها بسرعة لتناولها لحسن وهي تمنح صبا نظرة متمعنة ومتسائلة هربت منها بتعمد وهي تجاري ثرثرة علي التي لا تنتهي وهو يقص عليها كل ما مر به في رحلته الأولى بالطائرة.. بينما عادا حسن ويزيد لحوارهما الهامس الذي لم يمنع حسن من الاستمرار في مراقبة صبا والاستماع إلى همسها مع أدهم وعلي ذلك الشقي الذي لم يكتفِ بالجلوس على ركبتيها فقط ولكنه أيضاً لم يكف عن تقبيل وجنتيها وهو يخبرها كم يفتقد وجودها في مدرسته..
مما دفع حنق حسن لآخره وهو يظبط نفسه يغار من طفل!.. طفل عابث في السادسة أو أكثر ولكنه محظوظ لعين يملك الحق بملامستها والاقتراب منها بل وتقبيلها أيضاً..
ـ علي واخد على صبا قوي!..
تباً.. لقد انطلقت أفكاره على لسانه.. منذ متى يحدث هذا معه؟.. منذ متى يفقد السيطرة هكذا!..
بدا يزيد غير منتبه لمعاناته وهو يجبه ببساطة:
ـ صبا بتتدرب في المدرسة عند علي.. غير كده هي ونيرة مع علياء معظم الوقت..
صمت حسن وهو يستمع ليزيد ليتأكد للمرة الثانية من تعمق العلاقة بين صبا ونيرة... فهل صبغتها نيرة بخبثها وانعدام ضميرها إذاً ذلك تفسير إقامتها علاقة مع ذلك المدعو إياد؟!.. أم هي من بذرت براعم التغيير في أعماق نيرة كما زعم مازن قبل سفره..
تنهد بعمق وأفكاره تسحبه من دوامة لأخرى.. حتى توقف بالسيارة أمام المنزل الذي استأجره ليزيد أثناء اقامته بفرنسا.. ورتب معه أمر الذهاب إلى الطبيب المختص وكافة الأمور الأخرى.. ثم عرض على صبا أن يقلها للمدينة فرفضت بحسم مفضلة المكوث مع علياء لوقتٍ أطول وبعد جدال طويل كاد يطحن به أسنانه حنقاً من تصرفاتها وهي تخبره بإغاظة:
ـ أنا هستنى مع عليا والولاد.. وهكلم إيدي يوصلني بالليل!..
هتف حسن متسائلاً:
ـ إيدي!
هزت كتفيها بمكر:
ـ أيوه.. إياد..
لحظتها صرخ حسن بها وسط دهشة علياء التي حضرت النقاش:
ـ إيدي.. إياد.. براحتك.. ابقي خليه ينفعك..
وانطلق تصحبه أعاصير غضبه بينما صبا تهز كتفيها بلامبالاة مصطنعة وهي تهمس بغضب مكتوم:
ـ أكيد هينفعني..
رمقتها علياء بنظرة متسائلة:
ـ صبا؟!!..
غلغلت يدها في خصلاتها وهي تخبر علياء:
ـ ما تاخديش في بالك.. يلا نروح للولاد..
بعد فترة اتجه يزيد ليطمئن على الأولاد ليجد علياء تدثر رامي وتقبل جبهته بحنان فالتفت ذراعه حول خصرها وهو يسألها هامساً:
ـ صبا روحت؟
أومأت برأسها موافقة:
ـ طلبت تاكسي.. قالت أنها متعودة على كده..
اتجهت نحو مهد حمزه لتدثره هو الآخر بينما يزيد يزداد التصاقاً بها:
ـ الأولاد كلهم ناموا؟..
أومأت مرة أخرى وهمست وهي تشعر بشفتيه تعبثا بعنقها:
ـ يزيد.. الله يخليك.. بلاش جنانك ده.. مش في أوضة الولا....
ضاعت كلماتها في شهقة ناعمة وهو يرفعها بين ذراعيه ويتحرك بها نحو غرفتهما ليغلق الباب خلفهما ويتجه نحو مقعد عريض فيجلس ويضعها على ركبتيه كعادته مقرباً اياها من جسده ويرفع يده لتمر أنامله برقة على جانب وجهها ويمسك بوجهها ليواجه عينيها وإبهامه يتحرك برقة على شفتيها ليشعر بابتسامتها الرقيقة وهي تسأله:
ـ ايه حكايتك بالظبط؟..
كانت إجابته أن جذب رأسها نحوه ليأخذ شفتيها في قبلة مجنونة تركتهما يلهثان معاً وسمعته يمهس أمام شفتيها:
ـ احنا في باريس بقى لنا ساعات ودي أول بوسة!..
ابتسمت وهي تلمه بذراعيها وترمي برأسها على كتفه:
ـ أنا مش مصدقة أني طاوعتك في الجنان ده!
شبك أصابعه بأصابعها وهو يهمس:
ـ ايه الجنان في أني عايز اعمل شهر عسل مع مراتي..
ضحكت بعذوبة:
ـ شهر عسل مع مراتك ونص دستة أطفال..
قهقه بقوة:
ـ اعمل ايه بقى هي دي ضريبة تأخير شهر العسل!
اقترب برأسه منها يتشمم شعرها بهوس لتعاجله هي:
ـ عارف لو اعتذرت أنا هاخد أول طيارة على مصر.. أنت بقى لك فترة كل ما تشوفني تعتذر..
ابتسم لها وهو يقرب شفتيه من عنقها هامساً:
ـ طيب ينفع أقول شكراً..
ـ لو هتتكلم على رامي..
قاطعها:
ـ شكراً لأنك في حياتي.. لأنك اتحملتيني كتير.. لأنك حبيبتي.. ومراتي.. مراتي الوحيدة..
أبعدت رأسها عن كتفه ورفعت نظراتها إليه ببطء وبعينيها يلمع سؤال خشيت أن تسأله.. ليجبها هو بقبلة دافئة وهو يزيد من ضمها لصدره هامساً بتنهيدة:
ـ قرار اتأخر.. اتأخر كتيييير.. وأنتِ حبيبتي اتحملتيني كتير.. وصبرت عليَّ كتير..
همست له بتساؤل:
ـ علشان رامي؟.. تصرفاتها و..
تنهد بقوة وعدل من جلستهما ليخبرها بوضوح:
ـ أكيد ده سبب مهم.. لكنه مش السبب الوحيد.. كان ممكن أسيبها على ذمتي.. بدون أي التزام مني ناحيتها.. على فكرة ده كان طلبها..
سكت قليلاً يراقب رد فعل علياء على كلماته.. ولكنها لم تجبه بكلمة فقط أخفضت بصرها وتنهدت بقلق, فاقترب يزيد برأسه منها ورفع ذقنها ليواجه عينيها:
ـ ما ينفعش.. قلت لها ما ينفعش..
رمشت علياء بعينيها تنفض عبرات لم تعرف لها سبباً بينما هو يكمل:
ـ ما هو ما ينفعش أسمح لها تكون في حياتي أكتر من كده.. ما ينفعش أساويها بيكي حتى ولو بالاسم.. ما ينفعش بعد ما عرفت يعني ايه كلمة حبيبتي..
قبلة دافئة همس بعدها:
ـ حبيبتي أنتِ..
همسته فكت أسر عبراتها ولكنها أخيراً كانت تبكي راحة.. وسعادة...
**************
حول مائدة كبيرة في ركن قصي لمطعم حسن.. حيث دعا الجميع على الغذاء.. بداية من غسان الذي كان يسترق نظرات خاطفة نحو فريدة وهي تبتسم لرامي الجالس على ركبتيها وبجوارها صبا وعلياء يحملان التوأمين.. بينما حسن يحتضن ابنته وبجواره لورا التي أخذت تثرثر بعربيتها المحدودة مع علياء.. وعينيها تراقب نظرات زوجها التي تحوم حول صبا بإصرار بينما الأخيرة تهرب بنظراتها لتطوف في كل مكان عدا ذاك الجالس به حسن..
كانت تتساءل بحيرة عن طبيعة العلاقة بينهما.. أنها تثق بحسن.. تدرك كم هو صادق ونزيه.. كما أنها تعلم علم اليقين أنه عاجز عن الإحساس بالحب.. لقد أخبرها أكثر من مرة وبكلمات واضحة.. أن قلبه مات ودفن مع منى.. وما يحمله نحوها هي من ود واحترام هو أقصى ما يستطيعه من مشاعر.. بقدر ما آلمتها كلماته بقدر ما احترمته لصراحته وصدقه معها..
إذاً لم ذلك الهاجس الغامض الذي يهمس لها بشيطنة.. أن قلب حسن عاد للحياة.. وأنه يدق مرة أخرى وبعنف أيضاً؟!..
دار أغلب الحوار على المائدة حول المطعم وتصميم حسن له.. حتى أنه جهز جزء خاص للأطفال بحديقة المطعم الواسعة.. وقتها غمغم حسن بفخر:
ـ وقت ما كنت بجهز المطعم اتولدت منى.. ولقيت عقلي لوحده بيفكر في التصميم بحيث أنه يناسب الأسر.. وبالذات لو في أطفال صغيرين..
والتفت إلى غسان قائلاً:
.jukebox ـ يمكن عشان كده مش قادر اقتنع بفكرة الــ
التفتت له صبا التي كانت تستمع للحوار في صمت لتهتف بحماس:
ـ وايه المشكلة... بيتهيألي وجود حلقة رقص بسيطة هتكون إضافة حلوة.. الأهل يتمتعوا برقصة ناعمة هنا والأولاد يلعبوا برضوه في الجزء الخاص بيهم..
ابتسمت فريدة تعقيباً على كلمات ابنتها:
ـ صبا بتموت في الرقص.. بكل أنواعه..
توردت وجنتا صبا بينما تكمل علياء بتعليق متعمد وهي ترمق يزيد بنظرة ذات مغزى:
ـ صبا بترقص تانجو حلو يا حسن.. حلو قوي.. هتستنى برضوه لم يكون في مازن عشان يرقص معاها!
وقبل أن يجيب حسن بكلمة فُتِح باب المطعم ليدخل علي منطلقاً كالقذيفة ويهبط فوق ركبتي والده هامساً:
ـ يزيد.. عايز أقعد على رجل صبا..
أسكته يزيد بحزم:
ـ أنت سيبت أختك لوحدها؟
هز علي رأسه نفياً وهو يخبره ببراءة:
ـ لا.. هي معاها أدهم.. بيلعبوا سوا..
أجابه يزيد:
ـ وينفع برضوه أنك تسيب أخواتك الصغيرين لوحدهم؟
التفت علي لوالده وهو يفكر في حل لمعضلته الصغيرة.. ثم انفرجت ملامحه وهو يهمس لوالده:
ـ عايز صبا تيجي معايا عندهم..
لم يتمالك يزيد نفسه من الابتسام وهو يرى تصميم ابنه على طلبه.. بينما همس له حسن بغيظ:
ـ بس صبا بتتغدى يا علي..
التفت علي إليه يراقبه للحظات وكأنه يدرسه عن قرب ولكن سرعان ما لفت انتباهه وجود منى الصغيرة على ركبتيه فهتف:
ـ بص يا يزيد.. نونو ملونة زي رامي.. بس دي شعرها طويل..
ضحك الجميع عندما وصلتهم جملة علي فهو رفع صوته تلك المرة.. وأجابه يزيد ببساطة:
ـ دي بنوتة يا علي.. اسمها منى.. ايه رأيك فيها حلوة؟..
ضحك علي ببراءة:
ـ حلوة يا يزيد.. عينيها لون الشجر اللي في المزرعة..
أحاط حسن ابنته بكلتا ذراعيه وزمجر في يزيد:
ـ ايه يا بني.. ابنك بيغازل وهو لسه في ابتدائي.. ابعد أنت وهو عن بنتي.. آه.. أنا بقولك اهوه.. ولقد أعذر من أنذر..
قفز علي من فوق ركبتي أبيه ليهتف بحسن:
ـ هي حلوة صح.. بس عِشق أحلى منها.. ما تزعقش ليزيد..
ثم أخرج له لسانه بغيظ طفولي وسط ضحكات الجميع وتوجه نحو صبا ليجذبها قائلاً:
ـ تعالي معايا عند الملعب يا بيبو..
رفعت صبا حمزه من فوق ركبتيها لتناوله ليزيد وخرجت برفقة علي وهي تكاد تركض هرباً من نظرات حسن وعلياء..
"آه.. يا علياء يا ترى تقصدي ايه بكلامك العجيب ده"..
كان يزيد يردد نفس سؤال صبا وهو يتمشى مع علياء في حديقة المطعم.. حيث عرضت فريدة مجالسة التوأم ورامي أيضاً الذي راح في سبات عميق..
وتوجه حسن مع لورا إلى مكتبه ليناقش غسان في بعض التفاصيل..
أعاد يزيد سؤاله بقلق:
ـ تقصدي ايه يا علياء؟.. أنتِ لسه بتفكري في موضوع ريناد؟..
هزت رأسها نفياً:
ـ أقصد حسن.. حسن وصبا يا يزيد..
توقف هاتفاً بدهشة:
ـ ايه!.. حسن وصبا!
اقتربت منه لتضع كفها على شفتيه هامسة:
ـ هشششششش.. وطي صوتك..
أمسك بكفها ليقبل باطنه باستمتاع ويحيط خصرها بذراعه مقبلاً وجنتها وقبل أن يسترسل في عواطفه المجنونة كعادته أوقفته هاتفة بحنق:
ـ أنت شكلك ناوي تعمل فضيحة.. احنا في عز النهار وفي مطعم صاحبك..
همس بإذنها عابثاً:
ـ احنا في شهر العسل..
هزت رأسها يائسة:
ـ ما فيش فايدة فيك.. عمرك ما هتعقل..
ألصقها به وهو يتصنع الجدية:
ـ طيب نتكلم بالعقل.. ايه موضوع صبا وحسن؟.. وازاي؟.. أنتِ ناسية أنه متجوز؟..
هزت رأسها بحيرة:
ـ مش عارفة.. بس أنت مش حاسس بالتوتر اللي بينهم.. زي ما يكون في حاجة.. كيميا.. شرارة مشاعر..
اقترب ليداعب أذنها بشفتيه:
ـ متأكدة أنها بينهم.. بيتهيألي أنا الكهربا عندي 4000
حاولت تبتعد عنه وهي تهمس حانقة:
ـ يا ربي..
وبينما كانت علياء تتدلل على يزيد كانت عيني لورا تراقبهما من نافذة مكتب حسن الذي أنهى أعماله مع غسان.. لتلتفت لحسن متسائلة:
ـ شوف.. شوف حسن.. ألياء "علياء" ويازيد "يزيد".. هو مش مكسوف يقرب منها..
رمقها حسن بتساؤل فانتقلت إلى اللغة الإنجليزية لتعبر بطلاقة:
ـ أنه لا يخشى إظهار حبه أمام الناس.. كنت أظن أنكم لا تفضلون ذلك!..
رمقها بتساؤل:
ـ نحن؟!..
أجابت بارتباك:
ـ أقصد الشرقيين..
رفع حسن حاجبيه ليتساءل ثانية:
ـ لم أعتقد للحظة أنكِ من أولئك الذين يصنفون البشر!.. يبدو أنني كنت مخطئاً..
هزت رأسها بارتباك:
ـ كلا.. كلا... أنا لم أقصد..
قاطع كلماتها بحسم:
ـ اعتقادك صحيح.. نحن لا نفضل إظهار عواطفنا في العلن.. إلا في حالات العشق الإستثنائية..
رمشت بعيونها للحظة قبل أن تصدمه بسؤالها:
ـ هل قبلت منى يوماً علانية.. أمام باقي الناس؟
رفع نظراته إليها للحظات مرت بها أكثر مشاهده جنوناً مع منى.. ولكنه لم يفقد يوماً السيطرة ليقبل منى علانية كما يفعل يزيد الآن وهو يضم علياء ويقبلها بلا خجل.. أو ربما هو فقط لم يظن بوجود عيون مراقبة أو بالأحرى متلصصة.. عند تلك النقطة جذب لورا من يدها:
ـ يزيد مجنون.. لا تأخذي تصرفاته كمقياس لباقي الرجال..
تنهدت لورا بحنين هامسة:
ـ أنه ليس مجنوناً, بل عاشق بجنون..
والتفتت لتلقي نظرة أخيرة عليهما قبل أن تغلق النافذة كما أمرها حسن لتفاجئ بيزيد العاشق وهو يصرخ بوجه إياد بغضب شديد وبلحظة منحه لكمة خاطفة ولكن من القوة لتتسبب بترنح جسد إياد.. قبل أن يلحقه يزيد بلكمة أخرى غاضبة.. حينها صرخت لورا وهي تشير للنافذة:
ـ حسن.. انظر..
راقب حسن المشهد الغاضب الذي يدور في حديقة مطعمه.. وبداخله إحساس غامض بالسعادة لرؤية يزيد يكيل اللكمات لذلك الإياد.. ولكن موقعه كمسئول أجبره على التحرك سريعاً لفض النزاع حتى لا يثير قلق رواد المطعم..
أبعد يزيد عن إياد الذي كان تكوم أرضاً ولمح بطرف عينيه فريدة وصبا تنحنيان نحوه بلهفة وهما تطمئنان على جروحه.. كاد حسن أن يلتفت نحوه ليكمل ما بدأه صديقه فالوغد يغوي الفتاة وأمها بنفس الوقت فكلتيهما تنتفضان قلقاً عليه.. ولم يدرِ كيف سيطر على غضبه وصوت صبا يرتفع بغضب:
ـ يزيد.. أنت اتجننت.. ازاي تضربه كده؟.. ليه تمد ايدك عليه؟..
كان يزيد في أوج غضبه وبدا حسن يعاني وهو يحاول السيطرة عليه بينما يزيد يرمق إياد بعنف وهو يصرخ بكلمات غير مترابطة:
ـ أنا اللي مجنون!!.. وده.. البني آدم ده تسميه ايه؟!.. ده.. كان.. ده عايز.. علياء..
تملص من بين يدي حسن ليلتفت خلفه ويحتضن جسد علياء المرتعش:
ـ هشششش.. حبيبتي.. آسف.. ما تقلقيش.. ده تقريباً مجنون..
اقترب حسن من يزيد مجبراً فهو إن ترك العنان لغضبه لانتزع الحياة من ذلك الإياد الذي يبدو فعلاً كالمعتوه وهو يرمق علياء بشرود غريب.. بل أن حسن يكاد أن يقسم أنه سمعه يهمس:
ـ مش همسة فعلاً.. هي مش همسة.. الصورة هي اللي تشبه همسة..
همس حسن ليزيد:
ـ في ايه بالظبط؟.. فهمني..
ظل يزيد محتفظاً بعلياء بين يديه وهو يقص على حسن باختصار كيف اقترب منهما إياد وعرف عن نفسه بهدوء واحترام:
ـ إياد منصور.. مدير أعمال فريدة وأخوها..
ثم اقترب من علياء.. اقتراب يتخطى كل الحدود الحمراء.. ليهمس بافتتان:
ـ فيكي شبه كبير منها.. لكن الصورة أقرب لها..
ابتعدت علياء عنه ليزمجر يزيد بغضب:
ـ افندم!..
ليعاود إياد الهمس بشجن:
ـ علياء سعيدة..
ويمد أطراف أنامله يكاد يلمس ملامح علياء ويردد:
ـ ملامح علياء سعيدة..
عندها فقد يزيد كل تعقله ليهجم على إياد موسعاً إياه ضرباً..
أنهى يزيد كلماته وهو يهتف بحسن:
ـ يعني عايزني أعمل ايه يا حسن؟.. المجنون كان عايز يلمسها!
لم يجب حسن بكلمة واحدة على يزيد فكل ما كان يتردد بذهنه تلك اللحظة جملة واحدة.."أخو فريدة".. إذاً هو خالها.. هو خالها وهي تركته يظن بها الظنون.. راقبت غضبه ولوعته وغيرته.. نعم يعلم أنها تدرك غيرته.. تلك اللحظات بالسيارة كانت كاعتراف متبادل.. اعتراف بعدم الاعتراف.. اعتراف بهروب واجب.. وابتعاد قصري.. ولكنه لا يسامحها لتركه ينكوي بنار إياد.. لن يسامحها أبداً.. ولن يفوتها لها..
التفت فجأة ليلتقي بعينيها ويأسرهما بغضب نظراته.. وكأنه يصيح بها..
"نعم.. عرفت الحقيقة".. و"نعم أخرى لن أفوتها"..
ـ حســـــــن!!..
جاءت صيحة يزيد الغاضبة بعدما شعر بشرود صديقه.. فالتفت إليه حسن وهو يسلخ نظراته من بين نظراتها ويحاول السيطرة على انفعالاته:
ـ اهدى يا يزيد.. أعتقد الأستاذ إياد ممكن يفسر لنا الموضوع..
كانت فريدة هي من تكلمت:
ـ آسفة يا حسن.. وكمان مرة آسفة يا يزيد.. بس عليا فيها شبه بسيط من واحدة..
تردد قليلاً قبل أن تكمل:
ـ واحدة معرفة قديمة لنا.. وفي صورة عندي في الاستوديو.. صورة قديمة من سنين رسمتها لعليا.. كانت وقتها تشبه همسة قوي..
غمغمت علياء بحيرة:
ـ صورة!.. همسة؟..
أومأت فريدة:
ـ أيوه.. صورة أيام فرح نيرة ومازن.. ما أسعدنيش الحظ أنها تكمل.. بس فعلاً ملامحك دلوقتِ مختلفة.. زي ما إياد قال.. سعيدة.. بس..
أكما إياد عنها وهو يعتدل واقفاً:
ـ بس همسة لسه.. همسة لسه تعيسة... وأنا..
أكملت علياء وقد أدركت الموقف:
ـ بتحبها...
رفع عينيه إليها فتحرك يزيد تلقائياً ليحجبها عن عينيه.. فأخفض إياد بصره معتذراً:
ـ أنا آسف.. أنا آسف يا جماعة.. مش عارف ايه اللي حصل بالظبط.. أنا أول مرة أفقد السيطرة على تصرفاتي كده..
وتوجه إلى يزيد مصافحاً:
ـ أرجوك.. اقبل اعتذاري..
تردد يزيد لثوانٍ أمام يده الممدودة ليشعر بوكزة خفيفة من علياء دفعته لمد يده ليصافح إياد هامساً:
ـ حصل خير..
والتفت إلى علياء هاتفاً بحزم:
ـ يلا يا علياء.. كفاية كده النهارده.. نروح بقى..
أوقفه إياد بإشارة بسيطة:
ـ مالوش داعي تبعدوا.. أنا كنت جاي لفريدة في شغل بسيط كده.. دقيقتين وهمشي.. أرجوك.. ما تمشيش..
أومأ يزيد موافقاً واصطحب علياء بعيداً ليذهبا إلى أولادهما.. بينما رافقت فريدة إياد إلى غرفة المكتب الخاصة بحسن وذهبت لورا معهما لتطمئن على ابنتها.. وحين حاولت صبا التحرك لمرافقتهم وجدت مرفقها سجين قبضة حسن وهو يهمس من بين أسنانه:
ـ استني.. لنا حساب مع بعض..
حاولت التحرك لتلحق بأمها وبداخلها هاجس يصرخ بها أن تبتعد.. أن انفرادها به في تلك اللحظة هو جنون.. جنون مازال يخيم على الأجواء.. وهلوسة إياد تتردد في عقليهما..
جذبها من ذراعها بقوة حتى وصلا إلى منطقة كثيفة الأشجار.. فالتفت نحوها ليقبض على ذراعها الآخر ويثبتها على جذع إحدى الأشجار مشرفاً بطوله الفارع عليها وصدره يتحرك بسرعة مخيفة مع لهاثه العنيف.. تبادلا النظرات لفترة من الزمن, نظراتها شجاعة رغم مسحة الخوف بأعماق عينيها ولكنها كانت تواجهه بتحدي عنيف.. بينما كانت نظراته تضج بغضب أعمى.. تساؤل مجنون "لم؟".. تساؤل عبر عنه وهو يدفعها على جذع الشجرة بقوة وينفض قبضتيه منها متسائلاً بهمس حارق:
ـ ليه؟..
رمقته صبا بغضب حارق:
ـ قلت لك قبل كده.. ما يخصكش..
مرر أنامله بين خصلاته بعشوائية وكأنه محموم:
ـ ما يخصنيش.. ما يخصنيش..
ثم صمت لوهلة وهو يدرك مرارة الكلمة بجوفه.. بالفعل.. هي لا تخصه.. لا شأن له بأي من أمورها.. حتى لو كان إياد رجلاً حقيقياً بحياتها لم يكن ليستطيع فعل شيء.. ولكن.. لكن هل يريد التدخل؟.. هل يريد جعلها إحدى شئونه؟.. تحت أي مسمى إذاً؟.. صديقة؟.. أم..
لحظتها قطعت صرختها أفكاره وكأنها خمنت أين جمح به خياله:
ـ ابعد.. ابعد عايزة امشي..
التفت لها فجأة ليسألها بلا إرادة منه:
ـ عايزة تروحي تطمني عليه؟..
هتفت به بيأس:
ـ ده خالو!..
هز رأسه بغضب:
ـ ويا ترى على ضهره لوحة مكتوب عليها خالو؟!..
دفعته في صدره بقوة لتمر ولكنه لم يتزحزح لتهتف به:
ـ أنت اللي أفكارك قذرة؟..
قبض على كتفيها براحتيه ليعود ويلصقها بجذع الشجرة متسائلاً:
ـ وليه سيبتيني أظن كده؟..
هتفت من بين أسنانها:
ـ ما تهمنيش أفكارك!
اقترب بوجهه من وجهها حتى تلاقت العيون وهو يسألها مجدداً:
ـ ليه يا صبا؟..
حاولت منحه نفس الاجابة ولكن تعثرت حروفها تحت أنظاره المستعرة:
ـ عشان.. عشــ...
ارتكز بجبهته فوق جبهته ليهمس ثانية:
ـ ليه يا صبا؟..
حاولت التملص منه لتسمعه يردد بحيرة وكأنه يخاطب الكون الواسع:
ـ ليه يا صبا... ليه أنتِ.. ليه دلوقتِ؟.. ليه يا صبا؟
لم تفهم عما يتساءل بالتحديد ولم تعرف كيف تجبه فقط كانت غريزتها تخبرها بأن تهرب.. فحاولت التملص منه بقوة لتسمعه يهمس بشراسة:
ـ اثبتي.. ما تتحركيش..
حرقتها أنفاسه الساخنة, بل الحارقة.. وهي لم تعرف من أين تأتي النيران من قربه الحميم أم من أعماقها هي..
لمحته يقترب أكثر..
يا الهي.. لقد جُن بالتأكيد كما جنت دقات قلبها وهي تتسابق وكأن قلبها يعلن بكل بساطة رغبته في القفز من بين ضلوعها ليستقر طائعاً خاضعاً بين يديه.. كان قريباً منها بخطورة.. بجنون دفعها لمحاولة الإفلات ثانية ليعاود همسه الحارق وإن شابت نبرته بعض الوهن:
ـ ما تتحركيش يا صبا.. أرجوكِ..
عادت لمحاولة الهرب وتلك المرة مستخدمة الكلمات لتهتف بتوسل واضح:
ـ حسن.. حسن..
قطع كلماتها تلاقي العيون.. نظراته حائرة.. خائفة.. قلقة بشرود.. قرأت التيه والضياع بعيونه بسهولة وهو يهمس:
ـ حسن بيدور على بر الأمان.. حسن محتاج بر الأمان...
هو يريدها.. كلا.. الأمر أكبر وأعمق..
ما يشعر به ليست رغبة حمقاء عابثة بامرأة.. ذلك الطوفان الهادر بداخله لا يمكن تفسيره برغبة جسدية.. هو يحتاجها.. يحتاج جنونها.. جموحها.. يريد قلبها وحبها.. يرغب ببرائتها وعبثها.. يكاد يتسول حنانها وعطفها الأمومي الفطري.. يتوق لروحها...
يريد.. ويحتاج.. ويرغب..
ويشعر.. نعم هو يشعر من جديد..
*********
انطلق مازن بسيارته يحاول جاهداً الهروب من الاختناق المروري حتى يقضي بعض الوقت مع عشق قبل أن يعود إلى منزله مع نيرة..
زفر بضيق لا يريد الخوض في ذكريات مشاجراتهما المستمرة منذ عودته من باريس.. والمناقشات بينهما لا تنتهي وغالباً ما تختمها بنوبة بكاء هيستيرية كما حدث صباح اليوم..
قطع شريط أفكاره رنين الهاتف المستمر.. رمق الشاشة بحيرة عندما لمح رقم لم يتعرف على صاحبه.. ففتح الخط ليصل لمسامعه صوت السيدة أنيسة مديرة منزله وهي تبكي بهيستيريا:
ـ مازن بيه.. ألحقني.. يا بيه.. الست نيرة..
وانهارت السيدة في نوبة هيستيرية حادة دفعته للصراخ بها:
ـ في ايه يا ست أنيسة؟.. نيرة جرى لها ايه؟..
جاءه صوت أنيسة الباكي:
ـ الست نيرة موتت نفسها...


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-18, 07:28 PM   #37

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الرابع والثلاثون


استند يزيد بظهره على باب الغرفة المغلق وقد كتف ذراعيه ليراقب صورة علياء المنعكسة في المرآة.. تبدو فاتنة تلك الليلة.. وقد ابتعدت قليلاً عن طبيعتها الخجول لترتدي غلالة جريئة بلون السماء الصافية.. ووضعت بعض الزينة الخفيفة على وجهها.. وأطلقت خصلاتها التي تعدى طولها خصرها الرقيق رغم ولادتها لخمس أطفال..
كاد أن يطلق ضحكة عالية وهو يراها تتأمل صورتها لثوانٍ ثم لسبب ما قررت ارتداء مئزر محتشم ليخفي الكثير مما كشفته غلالتها..
ابتسمت برقة عندما لمحت وقفته يتأملها ثم تحرك بخفة ليحيطها بذراعيه ويطبع قبلة خفيفة على شعرها هامساً بتأثر:
ـ الجمال ده كله ملكي..
ثم مرر كفيه على ذراعيها فارتعشت تأثراً وأسبلت أهدابها بخجل لتسمعه يهمس بأذنها:
ـ افتحي عينيكِ يا علياء..
لفها لتواجهه وهو يرفع ذقنها بأنامله يتأمل ملامحها المتوردة ولكنها مع ذلك تحمل لمحة غامضة دفعته ليتساءل:
ـ في ايه؟.. أنتِ مش طبيعية؟..
هزت رأسها فتراقصت خصلاتها حولها ولم تجبه بشيء فعاد يكرر سؤاله:
ـ في ايه؟.. هو اللي حصل النهارده في مطعم حسن ضايقك؟.. أنتِ مش طبيعية من وقتها!..
بسمة غامضة ارتسمت على شفتيها وهي تهمس:
ـ أول مرة أحس أنك بتغيير عليَّ حقيقي.. وأن..
قاطعها بذهول:
ـ أول مرررررة!!..
غمغمت بارتباك:
ـ يعني الغيرة من الولاد.. و..
قاطعها ثانية وهو يقربها منه ويهمس بحرقة:
ـ أنا بغير من ولادك.. من نيرة.. من صبا.. حتى من أم علي.. من الهوا اللي بيلمسك.. أوعي يكون عندك شك أني كان ممكن أقتل اللي اسمه إياد ده النهارده لو كان اتجرأ ولمسك فعلاً..
شهقت بنعومة وهو يغيبها معه بقبلة مجنونة ليهمس بعدها:
ـ حبيبتي..
ابتسمت برقة مرتبكة وأنامله تداعب وجنتيها لتزحف نحو عنقها ثم كتفيها محاولاً نزع المئزر من فوقهما ولكنها تملصت منه بلطف وابتعدت قليلاً وهي تفرك يديها بتوتر جعله يقترب ليقربها منه ويسألها بقلق:
ـ ليه التوتر ده بس؟..
رفعت نظراتها إليه وهي تخشى أن تخبره بما يوترها فعلاً.. ولكن هتافه النافذ الصبر باسمها جعلها تبوح بما لديها على الفور:
ـ مدام فريدة.. مدام فريدة..
هتف بها:
ـ مالها؟.. في ايه؟..
تلعثمت وهي تخبره:
ـ صبا.. قالت لها.. قالت لها أني بحب الرسم وكده.. وهي دعتني للاستديو بتاعها.. وطلبت مني أعرض عليها حاجة من انتاجي.. أنا قلت لها هقولك وده.. قبل.. قبل..
قاطعها بتقرير:
ـ قبل ما اتخانق مع أخوها..
أومأت موافقة وهي تفرك يديها وتعض على شفتها السفلى بتوتر.. فاقترب يضغط إبهامه على شفتيها بقسوة طفيفة متسائلاً وقد شابت نبرته قليل من الغضب:
ـ والنيولوك ده عشان تقنعيني؟..
هتفت ببراءة مغوية:
ـ لا طبعاً.. أنا لبست كده.. لأنك حسستني النهارده أني.. أني ست بجد وأنك بتغيير عليا.. و..
اقترب منها ليحتضنها بقوة:
ـ معقولة يا علياء.. معقولة تكوني بتشكي في حبي ليكي؟..
أراحت رأسها على كتفه هامسة:
ـ أنا عارفة أنك بتحب تكون معايا.. و..
قاطعها:
ـ وأني بحبك يا علياء.. أنا عمري ما فكرت أني أحلل مشاعري أو أصنفها.. كنت باكتفي بكلمة "بحبك" منك لأنها كانت بتعني أنك هتكوني معايا على طول.. بس.. متأخر قوي.. فهمت أني لازم أعطي زي ما أخدت.. صدقيني.. أنا دلوقت بقولك بحبك وفاهم وحاسس بالظبط معناها..
دمعت عيناها وهي تستمع لاعترافاته لأول مرة وهزت رأسها عاجزة عن التعبير بأي كلمة عما تشعر به لتسمعه يعيدها مرة أخرى:
ـ بحبك يا علياء.. بحبك يا فراشتي..
نزلت دموعها بغزارة وهي تهمس بدورها:
ـ وأنا وكمان والله بحبك يا يزيد.
أحاط وجهها بكفيه ليمسح دموعها بإبهاميه وهمس أمام شفتيها:
ـ ويزيد ما يهونش عليه فراشته يكون نفسها في حاجة ويحرمها منها.. كلمي مدام فريدة وحددي معاها ميعاد للزيارة..
ابتعدت عنه قليلاً لتهتف:
ـ بجد.. بجد يا يزيد..
ثم خفت حماسها قليلاً:
ـ أنت عارف أنه في اللاستوديو هيكون أخوها موجود؟
أومأ موافقاً:
ـ عارف.. وموافق..
تعلقت بعنقه وهي تضحك بسعادة وقد امتزجت ضحكاتها بدموعها ومرغت وجهها بجانب كتفه فامتدت أنامله ليزيح المئزر هامساً:
ـ أوعي تكوني مخبية تويتي تحت الروب!
وقبل أن تجبه بشيء رفعها بين ذراعيه هامساً بعبث:
ـ أنا هتأكد بنفسي...
*****************
جلست صبا ساهمة تحدق بشرود بنافذة الطائرة.. لا تدري هروبها منه أو من نفسها.. وهل منه هروب؟.. كيف يمكنها نسيان تلك اللحظات المجنونة التي جمعتهما؟.. كيف تتغلب على تلك النبضة الرقيقة بداخلها والتي وصمها باسمه؟.. بل كيف خدعتها تلك النبضة ألم تعاهد قلبها ألا يعرف الحب يوماً؟.. ألم تقسم على البعد عن دوامات المشاعر بجنونها وجموحها؟..
كيف تترك العنان لمشاعرها لتنطلق بلا سيطرة منها لتعانق جنون مشاعره.. هو.. هو متزوج وعاشق لزوجة راحلة لم يتغلب على فقدانها بعد.. أي جنون ورطت نفسها به؟.. وأي اجتياح يهدد أمان قلبها؟..
لا تعلم هل تشكر جنون نيرة الذي أمن لها هروباً مبرراً؟.. أم تلعن ذلك الضعف الذي اجتاح شقيقتها لتحاول انهاء حياتها هرباً من تعاسة كان حسن هو من خط أول خطوطها؟.. تباً.. هل تلومه الآن وهي تعلم أنه كان إحدى ضحايا نرجسية نيرة؟.. هل تبحث عن أعذار تختفي ورائها كما استخدمت إياد كحاجز تحتمي به؟..
أغمضت عينيها لتتذكر آخر لحظاتها معه عندما بدا أنه على وشك فقدان السيطرة على مشاعره وهو يناجي روحها إنقاذه هامساً..
"حسن محتاج بر الأمان"..
لتشتعل عيناه بنظرات احتياج صارخة وتشعر اقترابه بخطورة وقبضتيه تضغط على ذراعيها بقوة حتى ظنت للحظة أنه على وشك تحطيمها بين ذراعيه, ليطلقها فجأة ويبتعد مولياً إياه ظهره وهاتفاً بوجع مس روحها:
ـ ابعدي من هنا يا صبا..
ظلت مسمرة في مكانها وجسدها بأكمله يرتعد لا تدري ما العمل.. حتى سمعت همسته الحارقة:
ـ صباااااااا.. ابعدي.. أرجوكِ..
لحظتها انطلقت هاربة من حديقة مطعمه بل من باريس بأكملها وقد تذرعت بوجود شقيقتها بالمشفى مبررة سبب سفرها المفاجئ لفريدة وبداخلها تدرك أنها هاربة منه.. ولكن إلى أين يمكنها الهروب من قلبها!!...
*********
وقف مازن خارج غرفة العناية المركزة وقد ألصق وجهه بالنافذة الزجاجية الكبيرة يراقب جسد نيرة الراقد بسكون وقد أحاطت بها العديد من الأجهزة الطبية.. بداخله طوفان هادر من المشاعر المختلطة..
شعور هائل بالذنب مختلط بألم رهيب وشعور آخر بالخوف, خوف يكاد يصل إلى الرعب فقط عندما يفكر أنه على وشك فقدانها..
يا الهي هل من الممكن حقاً أن تختفي من حياته للأبد.. قد يبتعد عنها.. يجافيها.. يهجرها, بل أنه تحمل مرة أن يراها تحمل خاتم شقيقه.. ولكنها كانت موجودة حوله ومعه... يتنفس من هواء لمس ملامحها مرةً.. والآن هي زوجته يملك الحق ليقترب أو ليختار البعاد.. يمكنه أن يتلمسها يستنشق رائحتها الخاصة بها فقط.. يمتلك السيطرة على قوة عنفوانها وجنون مشاعرها الأنانية وغبائها المطلق وهي تعتقد أنها تحمل مشاعر لشقيقه بينما هي تذوب من لمسته هو.. يستشعر غرورها المضحك عندما تبتسم بزهو لنجاحها في إغوائه بينما هي تسقط بين ذراعيه وتتوغل بحياته أكثر وأكثر...
كيف سمح لكلمات حسن بالتغلغل في عقله ليفكر في الانفصال عنها!.. كلا.. الذنب ليس لحسن وحده.. فهو راقبه مع لورا.. طوال فترة إقامته معه كان يراقب ويفكر.. يلاحظ حب لورا, واهتمام حسن.. قد يكون اهتمام هادئ, بل بارد.. ولكنه على الأقل شعر بروح أسرية وحياة عائلية يحاول الاثنان توفيرها لابنتهما.. اتخذ قراره وقتها.. وحسم أمره ليحقق ما هو أفضل لطفلته.. فإذا كان حسن عض على جرحه واستمر بزواج مشوه ليمنح طفلته أماً, فانفصاله عن نيرة التي لم تمنحه يوماً شعرة مما منحته منى لحسن لهو ثمن هين لتعيش عشق بين أبويها..
اتخذ قراره بالفعل وحاول مفاتحة نيرة عدة مرات ولكنه لم يستطع.. فعند عودته وجد نيرة مختلفة.. ليست كثيراً ولكنه رغماً عنه لاحظ الاختلاف.. مازالت تمتلك نفس الطبيعة النارية التي تفتنه ولكنها تمكنت من فرض سيطرتها على طبيعتها النرجسية.. سيطرة بسيطة ولكنه لاحظها على الفور.. بعض الهدوء الخافت احتوى شخصيتها المندفعة القوية.. والأهم.. سؤالها عن حسن وأسرته بطريقة بدت طبيعية للغاية حتى أنه هو نفسه صدق أنها تسأل من باب اللياقة.. واللياقة فقط.. تصرفاتها العفوية والتي عبرت عن رغبتها بالبدء بصفحة بيضاء جديدة ألجمته لأيام عن التصريح بقراره.. حتى كان لقاءه بيزيد قبيل سفر الأخير إلى باريس عندما أخبره أنه انفصل نهائياً عن ريناد.. وقتها هتف به مازن..
"ازاي يا يزيد.. أنت كنت بتشتري هدوء علاقتك مع عيلتك بجوازك بريناد"..
وكانت إجابة يزيد الحاسمة..
"علياء وولادنا هما عيلتي"..
لحظتها أدرك بحتمية حسم الأمر.. وأن الأولوية هي لأسرته الصغيرة.. وقرر تسوية أموره مع نيرة قبل أن يطلب من دنيا العودة إليه..
وبالفعل كانت لحظة المصارحة أمس.. لحظة حاسمة وقد حان وقتها, بل قد تكون تأخرت.. ذلك ما أخبره لها باختصار.. اختصار بلغ حد القسوة وهي ينهي كلماته..
"الحياة أولويات.. وأنا لفترة كبيرة أولوياتي اتلخبطت.. لكن الموضوع ببساطة هو الاختيار بين حياة موجودة بالفعل ومحتاجة وجودي عشان تكبر.. وبين رماد بنحاول نخلق منه حياة"..
لحظتها تجمدت تعابير وجهها وكأنها تحولت لتمثال شمعي.. تمثال جميل تلتمع عينيه بالدموع.. وترتسم معالم الفجيعة على وجهه..
اقتربت منه ببطء مميت لترفع يدها وتترك أناملها تتلمس جانب وجهه برقة بالغة.. لمسات كانت بخفة ريشة ولكنها كانت تلهب أعصابه كشعلة حارقة.. ختمت اقترابها بقبلة هادئة على وجنته وابتعدت بدون أن تتفوه بكلمة واحدة.. فقط تركته وصعدت لغرفتها.. لم يعرف وقتها بأنها كانت تودعه.. تلك الحمقاء الغبية كانت تقبله مودعة..
يشعر أن قلبه غادر صدره ليرافقها في غيبوبتها.. خواء.. وفراغ هائل يحتله.. يشعر بأنفاسه تتردد بصدره ولكنه ميت.. هو ميت بدونها.. برغم الهجر والخصام والبعاد.. حتى وهما يقضيان سوياً دقائق معدودة.. حتى وجرحها مازال ينزف بأعماقه.. برغم كل القسوة.. برغم الشك والغيرة.. إلا أن لا حياة بدونها.. لا حياة على الإطلاق..
************
أمسك إياد بقدح من القهوة المُرة وتأمل المكان الذي كانت تحتله منذ قليل لوحة علياء.. وابتسم بسخرية وهو يلتفت لفريدة متسائلاً بتقرير:
ـ أصر ياخد لوحة مراته, صح؟..
ابتسمت فريدة بهدوء:
ـ ايوه.. أنت كنت عارف أنه عايز اللوحة؟..
أومأ موافقاً:
ـ أكيد.. هو راجل غيور.. وبيحبها فعلاً..
ثم هز كتفيه بتعبير غامض ليردف:
ـ أنا لو مكانه هعمل كده..
سألته فريدة:
ـ عشان كده خرجت أول ما وصلوا؟..
أجابها بهزة رأس وهو يردد:
ـ ما فيش داعي لصدام معاه.. وعامة البنت اللي في اللوحة مش هي الزوجة السعيدة الفخورة بحب جوزها اللي شوفتها في مطعم حسن.. ملامحها في اللوحة للحظة فكرتني بهمسة.. فاكرة يوم ما شوفتها في مصر؟
ـ ايوه.. يوم ما خبطت عربيتها وروحت معاها المستشفى؟..
ردد بحزن:
ـ كانت حزينة.. مقهورة.. ومكسورة.. عمري ما شوفت همسة كده.. دايماً كانت قوية وجريئة.. هو كسرها.. دمرها.. حبها له قهرها..
سكت للحظة ليردف وهو يسلط نظراته على فريدة:
ـ ساعات كتير بندم أني ما صارحتهاش بحقيقة مشاعري.. أحياناً بفكر وأقول لو كنت اتجرأت وطلبت ايدها لما سيف خطب كريمة أول مرة, كانت حاجات كتير اتغيرت.. كانت بقيت مراتي وكنت هعرف أعلمها تحبني وتنسى اسمه حتى..
سألته فريدة بعتب:
ـ بتلومني يا إياد؟.. بتلومني أني قلت لك تصبر وما تتسرعش؟..
تنهدت بألم لتخبره:
ـ مشاعر همسة كانت وقتها مع سيف حتى وهي بتشوفه بيخطب غيرها.. بس كانت متورطة معاه.. وقتها ما كانش ينفع أنك تتدخل.. ما كنتش هتقدر تملكها.. أو تملك مشاعرها..
سألها ساخراً:
ـ ودلوقتِ.. بعد ما داقت جنون مشاعرها ومشاعره.. بعد ما داقت غدره وجبنه وضعفه ورغم ده كله.. لسه معاه.. لسه مراته.. هربت وبعدت.. سافرت لآخر الدنيا لأنها مش قادرة تكون معاه وهو مع غيرها..
ترددت فريدة للحظة قبل أن تخبره بحسم:
ـ همسة رجعت مصر.. رجعت.. وطالبة الطلاق من سيف..
صرخ بعجب:
ـ ايه!!
ـ ده اللي عرفته من سميحة في آخر مكالمة.. هو رافض طبعاً.. بس هي مُصرة..
انقبضت ملامحه بقوة وقبض بيده على قدح القهوة حتى تحطم بين أصابعه ليمتزج السائل الساخن بدمائه التي تغلي ترقباً وصرخت فريدة بهلع وهي تجفف يده وتعالجها بينما سؤالها يتردد بقلق:
ـ أنت ناوي ترجع مصر؟..
تهالك إياد على أحد المقاعد المريحة وبدأ هو بمعالجة جروحه وهو يخبر فريدة بحسم حزين:
ـ مش إياد منصور اللي يتدخل بين واحدة وجوزها.. حتى لو كانت الواحدة دي همسة.. حتى لو كانت الست الوحيدة اللي قلبي دق لها.. مش أنا اللي اعمل كده يا فريدة.. طول ما هي على ذمته.. أنا هفضل بعيد..
************
وعاد حسن إلى مصر!
من يصدق!.. أنه رحل للحب وعاد أيضاً للحب!..
رحل ليحمي حباً صافياً ناعماً.. وعاد بحثاً عن جنون عبث بقلبه بلا استئذان..
رحل يحمل غضباً وبغضاً لنيرة وعاد بداخله شفقة خالصة عليها..
رحل بمشاعر.. وعاد للمشاعر..
رحلة مريرة أسكنت قلبه بغيبوبة صناعية حتى كاد أن يعلنه ميتاً, لتأتي هي وتمنحه قبلة المحاياه.. وتجعله يرتعش.. بل ينتفض متسائلاً حائراً..
"وهل بقيت مشاعر؟.. وهل للقصة تتمة؟"..
ابتعد.. وابتعدت هي بل هربت.. طارت عائدة إلى مصر.. وهي تعلم أنه لن يتبعها.. استمعت له ونفذت كلماته حرفياً لتبتعد نهائياً..
وهو.. هو حمد ربه لقوتها.. لقدرتها على الابتعاد التي منحته فرصة ليقاوم.. ويبتعد هو الآخر.. ليفكر.. يفكر طويلاً.. ويقرر الابتعاد وانهاء القصة ويختم كلمة النهاية التي خطتها بخطوط حمراء عريضة ويتناسى وجودها تماماً.. ذلك ما أملاه العقل وأيده الواقع.. وخالفه القلب الذي صرخ متوسلاً فرصة للحياة.. للنبض..
وأخيراً قرر.. أخيراً حسم أمره.. سينسى ويبتعد ويستمع لصوت العقل.. و...
ها هو.. ها هو يذرع أروقة المشفى يبحث بعينيه عن شقيقه وبقلبه عنها.. مثبتاً حقيقة واقعة طالما أدركها.. إن للقلب صوتاً منفرداً.. خافتاً.. ناعماً.. ولكننا لا نملك إلا الخضوع له طائعين مستسلمين تدفعنا سعادة أليمة لا يعرفها إلا عاشق.. عاشق حائر.. عاشق تائه في ملكوت الحب..
أخيراً لمح مازن, بل خيال متهالك لما كان عليه مازن.. وجده ملتصقاً بنافذة غرفة العناية المركزة.. وعيناه ثابتتان على جهة معينة وكأنه تمثال.. أو هيكل خشبي لما كان عليه شقيقه..
هتف بقلق:
ـ مازن!!..
سمع مازن هتافه ولم يصدق واقعه.. فحسن لن يعود.. هو أخبره بذلك.. لا يوجد ما يعود له.. ولكن تكرر الهتاف واقترب أكثر.. ليلتفت مازن ببطء ويواجه حسن وجهاً لوجه.. ليتجمد الكون حولهما للحظات وهما يتبادلان النظرات, ثم يندفع مازن إلى ذراعي حسن المفتوحتين وهو يهمس بألم:
ـ معقولة رجعت يا حسن؟..
ضمه حسن بقوة وربت على كتفه مؤازراً:
ـ يزيد قالي على اللي حصل.. ليه ما كلمتنيش يا مازن؟..
دعك مازن عينيه محاولاً مسح دموع ترقرت بهما قبل أن يهمس:
ـ ما حبتش أضغط عليك.. و..
قاطعه حسن:
ـ وايه؟.. ظنيت أني مش هاهتم!..
سكت مازن ولم يجبه.. فهو خشي الاتصال به بالفعل خوفاً من لامبالاته نحو نيرة.. فلجأ ليزيد كالعادة.. خاصة وهو عاجز عن طلب الراحة والأمان من دنيا.. فهو فقد جميع حقوقه عليها.. ومع غياب والده المستمر.. فحاتم العدوي بعدما فشل في استعادة ابنه الأكبر قرر ترك إدارة المجموعة بين يدي مازن وقرر الابتعاد عن الجميع.. اعتزل العمل والناس وأصبح يقضي أوقاته في رحلات بحرية لا تنتهي.. ووالد نيرة أكثر عجزاً من مازن يحتاج لمن يسانده ويدعمه على الدوام ولولا وجود صبا بجواره لكان انهار بقوة.. ووسط كل ذلك كان مازن يقف وحيداً يرجو الراحة والإطمئنان فلا يجدهما.. ولا يعرف لهما سبيلاً خاصة وقد غابت نيرة لأكثر من خمسة أيام في غيبوبة غامضة.. لا يدرون متى تستفيق منها..
كان تقدير الأطباء في البداية أن عدد الأقراص المنومة التي ابتلعتها لا يشكل خطراً حقيقياً على حياتها.. ليكتشفوا بعد ذلك أنها تناولت أيضاً أدوية مضادة للحساسية مما زاد من تأثير المنوم لأضعاف وأدخلها في غيبوبة لم تستفق منها منذ خمسة أيام كاملة...
طال سكوت مازن والتفت ثانية نحو النافذة الزجاجية فهو يخشى أن يبعدها عن نظره لحظة فتغيب بحياتها عنه للأبد..
ربت حسن على كتفه هامساً:
ـ تعالى معايا.. أنت محتاج تغير وتاكل حاجة..
رفض مازن التحرك من مكانه وهز رأسه مخبراً حسن:
ـ صبا بتجيب لي أكل وتجبرني آكل كل يوم.. كتر خيرها..
نبضة قوية منفلتة نبضت بقلبه حتى خشي أن يلاحظ مازن فسأل بطريقة حاول أن تكون طبيعية:
ـ آه كتر خيرها فعلاً.. أومال هي فين؟..
ـ في أوضة باباها.. الضغط عنده علي قوي من اللي حصل..
لف بعينيه الرواق يترقب ظهورها.. يترقبه ويخشاه بنفس الوقت فهو لا يستطيع توقع رد فعلها لظهوره الغير محسوب...
ظل بجوار مازن لفترة طويلة بعدما أقنعه بالجلوس على المقاعد المواجهة لغرفة العناية وأحضر له عدة شطائر وفنجان من القهوة المُرة, تناولهم مازن بآلية وظل متشبثاً بكف شقيقه وكأنه يستمد القوة للاستمرار بوجوده..
بتلك الصورة وجدتهما صبا عندما وصلت أمام الغرفة المحتجزة بها نيرة.. في البداية لم تصدق عينيها.. مستحيل.. هو لم يأتِ خلفها!.. لقد أمرها بالابتعاد, فلم يعطِ لنفسه حق بالاقتراب؟!... هزت رأسها رافضة تلك الفكرة المجنونة.. فربما تكون عودته ليكون بجوار مازن في أزمته...
اقتربت لتقف أمامهما وهي تتوجه بسؤالها لمازن:
ـ ما فيش جديد؟..
هز رأسه نفياً ونهض واقفاً ليبتعد عنهما ويعود للالتصاق بالنافذة الزجاجية مرة أخرى.. وقبل أن تتحرك صبا وصلها صوت حسن الهامس:
ـ ما فيش حمد لله على السلامة!
ارتسم الغضب على ملامحها وهي تسأله:
ـ ايه اللي جابك؟..
نهض واقفاً هو الآخر ولمس مرفقها بخفة يوجهها للابتعاد عن وجود مازن قليلاً ليجبها بسؤال:
ـ أنتِ ليه هربتِ؟!
رفعت حاجباً أنيقاً بعجب لتتمتم ساخرة:
ـ هربت!.. سبق وقلت لك أني ما بخافش من حاجة..
اقترب منها ليهمس بغيظ:
ـ بلاش الأسلوب ده يا صبا..
قررت لعب دور الغبية بجدارة فهمست من بين أسنانها:
ـ أنا مش عارفة أنت بتتكلم عن ايه!.. ولو ما أخدتش بالك.. أحب أقولك أن أختي في غيبوبة.. وأظن أن ده سبب قوي عشان أسيب الدنيا كلها وأرجع لها..
برقت عيناه بغيظ فظهر لونهما الأخضر الغريب واضحاً وهو يصدمها بقوة:
ـ سألتني رجعت ليه.. رجعت عشان أنا اكتفيت هروب وقررت أواجه..
قاطعته بخوف قبل أن يكمل:
ـ أنت طلبت مني ابعد.. وكان عندك حق..
حاول مقاطعتها لتتحرك مبتعدة وهي تشير بيدها:
ـ مش دايماً الهروب بيكون جُبن.. أحياناً بنهرب عشان نحمي ناس يهمونا.. ابعد يا حسن.. خلينا نبعد.. خلينا نتصرف صح..
حاول اللحاق بها ليتجمدا سوياً كرد فعل لصيحة مازن:
"نييييييرة.. نيرة فاقت"..
اندفعت صبا لتمر بجواره لتلحق بمازن الذي أوقفه الطاقم الطبي حتى يطمئنوا على الوضع الصحي لنيرة.. بينما ظل حسن في مكانه حائراً وكلماتها تتردد في ذهنه..
"أحياناً بنهرب عشان نحمي ناس يهمونا"..
وبأعماقه تتصارع أسئلة عدة.. هل تظن أنه اندفع خلف أهوائه متناسياً من سيجرح ثمناً لدقة قلب؟.. كلا.. لم ولن ينسَ.. فهو أكثر من مدرك لوجود لورا في حياته.. وهو لن يظلمها.. كلا.. لها فضل كبير عليه لوجودها بجواره في أحلك لحظات حياته, قد تكون أنقذته من الجنون أو ما هو أبشع..
هي تمثل له صديقة.. صديقة طيبة.. وأم لابنته الصغيرة.. رغم محاولاتها المستمرة لتحويل تلك المودة من ناحيته إلى حب مشتعل كذلك الذي تحمله له.. محاولات خفتت كثيراً في الفترة الأخيرة وكأنها اقتنعت بوتيرة حياة هادئة.. أو ربما هي فقط أدركت بغريزة الأنثى.. أن حياتهما الهادئة.. قاربت على النهاية...
**************
استقرت نيرة في غرفة مستقلة بعدما انتهى الفريق الطبي من اجراء فحوصات وتحاليل عدة.. ليقرروا أنها أفاقت تماماً من غيبوبتها ولحسن الحظ لم تصب خلايا المخ بأي أضرار دائمة.. وأن حالتها مستقرة تماماً.. فقط هي بحاجة لعدة أيام من المتابعة الطبية في المشفى...
ها هي مستلقية على فراشها الطبي ومازن بجوارها يحيطها بذراعيه وقد تجمدت دموع الراحة في مقلتيه وهو يتأمل ملامحها الجميلة الشاحبة وقد بدا عليها معالم الحياة.. فعينيها الجميلتين تبرقان مرة أخرى.. فقط تلك اللمعة المميزة التي تأسر دقات قلبه.. وعلى شفتيها ترتسم ابتسامة غريبة تبدو كاعتذار أو ربما حرج.. لا يهم ولا يهتم.. فقط هي تتتنفس.. هي بين ذراعيه وبصدرها تتردد الأنفاس أو ربما تتردد أنفاسها بصدره.. هي حية وكفى..
دفن وجهه بين خصلاتها هامساً:
ـ حمد لله على سلامتك..
أبعدت نفسها عنه قليلاً ورطبت شفتيها الجافتين قبل أن تجبه:
ـ أنا آسفة يا مازن.. أنا..
وضع إصبعه على شفتيها هامساً:
ـ أنا مش هعاتب ولا أنتِ هتعتذري.. أهم حاجة أنك بخير.. أنك رجعتِ لي تاني وبخير..
عاد يضمها لصدره يستمع لدقات قلبها يستشعر أنفاسها الدافئة وبداخله يقين بعدم قدرته على تركها تختفي من حياته.. قد تكثر خلافاتهما.. قد تتزايد نوبات شجارهما إلا أنهما يجب أن يحاولا البدء من جديد...
وعلى باب الغرفة وقفت صبا تتأملهما بصمت وقد ارتسمت على ملامحها معالم الاحراج والارتباك القلق لتفاجئ بقبضة تلتف حول معصمها ويسحبها بعيداً هامساً:
ـ هما محتاجين يكونوا لوحدهم.. واحنا لسه محتاجين نتكلم...
وسحبها خلفه ليجلسا سوياً على أحد المقاعد العريضة بحديقة المشفى.. هي شاردة في كل شيء ماعداه وهو جلس خافضاً رأسه ومستنداً بكفيه على ركبتيه.. ظلا لفترة على هذا الوضع.. ليهمس أخيراً:
ـ أنا مش بعرف ألف وأزوق كلامي.. اللي جوايا بقوله وبصراحة.. ممكن ناس تقول على صراحتي مؤلمة.. وممكن ناس تانية تتخيلها وقاحة.. بس دي طبيعتي..
التفت نحوه وهي تتأمل ملامحه الوسيمة.. تسأله بحيرة:
ـ مش فاهمة.. أنت..
قاطعها:
ـ لأ فاهمة.. فاهمة كويس.. وعارفة ليه أنا رجعت.. رجعت لك.. لصبا.. لأن اللي تخيلت لسنين أنه مستحيل يحصل..
تنهد بقوة ليهتف بوضوح:
ـ حصل..
هتفت به:
ـ كفاية ألغاز..
هز رأسه بلوم:
ـ لو كلامي ألغاز للناس كلها لازم تفهميه أنتِ.. لأن كل كلمة.. كل حرف.. يقصدك أنتِ.. أنا تعبت يا صبا.. تعبت..
تنهد بحرقة ليردف:
ـ أنا.. أنا..
قطع كلماته ليقف وهو يضحك بتوتر ويذرع المكان أمامها جيئة وذهاباً ليهتف أخيراً:
ـ أنا عمري ما كنت متوتر زي دلوقتِ..
رفعت له عينين بريئتين رغم كل ما يظهر بهما من محاولات واهية للسيطرة وادعاء الغضب ليكمل هو:
ـ أنا مش عايز أجرح لورا.. غالباً أنا هسافر الليلة.. لازم أحط النقط على الحروف..
وقفت بدورها لتصرخ مقاطعة:
ـ ما يخصنيش كلامك ولا حياتك..
هتف بها وهو يتمسك بذراعيها يمنعها من الهرب:
ـ هرجع مصر يا صبا.. هرجع أعيش في مصر..
ارتعشت شفتيها وهي تحاول الرد عليه ليهمس هو:
ـ يمكن عندك حق.. لسه مش من حقنا نقول كل الكلام.. لكن كلامنا لسه ما انتهاش..
وتركها ليرحل إلى زوجته وابنته.. ولكن كلماته كانت واضحة.. فذهابه كان تمهيداً لعودة.. عودة دائمة لحياة تشملها هي بكل تفاصيلها...


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-18, 07:41 PM   #38

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الخامس والثلاثون

وقف حسن صامتاً يتأمل المفتاح اللامع بين أنامله, ذلك المفتاح الذي دفعه شقيقه بين يديه رغماً عنه منذ سنوات وهو يخبره بمؤازرة:
"يمكن أنت مش متخيل أنك قادر تستخدمه دلوقتِ, لكن هيجي اليوم وتقدر"..
وها قد صدقت رؤية مازن وأتى ذلك اليوم الذي تنبأ به.. وها هو حسن يتحرك بتثاقل, بل يجر قدميه جراً ليواجه البوابة المعدنية القديمة, يرمقها بخشية وألم محاولاً استجماع كل ما يمتلكه من إرادة ليحرك يده الممسكة بالمفتاح ويقوم بخطوة طال انتظارها.. خطوة لم يتخيل نفسه يوماً قادراً عليها, ولكنه سيفعلها.. من أجلها.. من أجلهما معاً.. مَن سكنتا قلبه و.. ابتسم بحنين مصححاً.. بل سكنته إحداهما برقة النسيم والأخرى أقتحمته كإعصار أنثوي طارداً مُر الآلام وغصة الأحزان.. موقظاً قلب غاب في سبات إرادي لسنوات طوال...
زفر بألم حتى ظن أن أنفاسه ستشق صدره شقاً وهو يواجه اللوحة الرخامية التي نقش عليها اسم منى تعلوها تلك الآية الكريمة التي خطفت بصره وكأنه يتعلمها للمرة الأولى..
"يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي"..
الألم والخشية مع إحساس لا إرادي بالرفض كان ما يشعر به كلما حاول الترحم على منى.. وحتى الآن مازال الألم موجوداً يشعر به في أعماقه.. ولكن تبدلت الخشية والرفض إلى إحساس آخر.. إحساس غير قابل للوصف..
وجد لسانه يعبر عنه بلا إرادة وهو يردد بلا انقطاع..
"اللهم اجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها"..
وكأنه يرجع للحظة الفقدان الأليمة ولكن تلك المرة يصاحبها هدوء نفسي مغلف بشجن حنون..
اقترب ببطء يملس بيده على القطعة الرخامية الباردة وكأنه يلقي بتحية عطرة على تلك المختفية خلفها.. تحركت أنامله ببطء وتردد مغمضاً عينيه لتتوالى أمامه عدة مشاهد متتابعة لحياتها القصيرة معه..
صرختها الرافضة بدلال عندما كان يقبل عيونها لتعترض هي "بلاش تبوسني في عينيه".. ملامح وجهها وهي ترتشف عصير الفراولة الذي أعده لها مستبدلاً السكر بالملح, يومها تجرعته بأكمله ولم تعترض ولم تنبهه إلى خطئه الذي أدركه مصادفة عندما شاكسها مختطفاً الكوب ليقابله الطعم المريب للعصير.. صدمه مشهد آخر لهما وهو يعاملها بعنف تلبسه لفترة, وتارة وهي تواجه ابتسام آكلة الرجال كما كانت تسميها.. و.. و.. تراكمت المشاهد واللقطات أمام عينيه حتى حان مشهد الوداع الأخير فشعر بدمعة ساخنة تجري على وجنته.. تلتها عدة دمعات مسحها سريعاً واقترب أكثر متمسكاً بالقطعة الرخامية بكلتا يديه كأنه يبثها أشجانه وحنينه..
بقي على تلك الحال كتمثال جامد مغمض العينين لا يتحرك منه إلا بضع دمعات تجري على وجنتيه وفي تلك المرة لم يبذل جهداً لايقافهم...
مرت فترة لا يدري إن كانت دقائق أو ساعات وأخيراً تحرك خطوات قليلة ليتهالك جالساً وقد ثنى ركبتيه وارتكز بمرفقيه عليهما محيطاً وجهه بكفيه وملتفتاً بكل كيانه نحو الصرح الرخامي الصامت رامقاً إياه بنظرة حنين ثم ابتلع ريقه هامساً:
ـ منى.. ملاكي.. وحشتيني قوي.. قوي.. ما فيش كلام ممكن يعبر عن اللي جوايا.. ياااااه يا منى.. جوايا كلام كتير.. كتير قوي.. مش عارف أبدأ منين..
هز رأسه بحيرة ثم أخرج صورة لابنته منى الصغيرة ليرفعها بمواجهة الرخام البارد ويكمل بخفوت:
ـ منى.. أعرفك بمنى الصغيرة.. أيوه اتجوزت.. استني بس.. مش زي ما أنتِ فاهمة.. عارفة لورا.. أكيد طبعاً فاكراها.. أيوه.. هي اللي اتجوزتها..
ضحك بمرارة ليكمل وكأنه سمع ردها:
ـ لا طبعاً مش جمالها هو السبب.. ولو أني ممتن للجمال ده لأن منى الصغيرة ورثته.. هكلمك بصراحة يا منى.. أنتِ الوحيدة اللي هتفهميني.. أنا اتجوزتها في لحظة ضياع.. غياب وعي وإدراك.. تعرفي أني جددت عقود جوازي بها بعد ما بلغتني بحملها..
هز رأسه بمرارة ليكمل:
ـ ليه؟.. بتسأليني ليه؟..
ابتسم بمرارة وهو يهز كتفيه:
ـ ما كنتش متأكد من صحة العقد الأول..
عادت نظراته لصورة ابنته وتحركت أنامله تتلمسها بحنان ثم شردت نظراته للمجهول:
ـ لا يا منى.. ما حبتهاش.. ما اقدرتش.. يا ريت الواحد كان ممكن يتحكم في قلبه.. لورا.. إنسانة كويسة جداً.. لكن غصب عني بتمثلي لحظة انعدام إرادتي.. لحظة هي اللي سيطرت فيها على حياتي.. أنا مش بلومها.. لكن من جوايا.. الراجل الشرقي التقليدي.. حاسس أنه كبريائه وكرامته تم اغتصابهم..
قهقه عالياً وهو يواجه الصرح الرخامي:
ـ بتضحكي.. أنا عارف... بس ده إحساسي.. وللأسف مش عارف أتغاضى عنه..
سكت للحظات ثم أكمل وكأنها أجابته:
ـ عندك حق.. مش ده اللي عايز أقوله.. في جوايا كلام تاني.. كلام يمكن كان لازم أقوله للورا الأول.. لكن.. منى.. أنا ما نسيتش ومش هنسى.. منى.. أنتِ كنتِ أحلى حاجة مرت في حياتي.. حبيتك.. حبيتك قوي.. فراقك.. فراقك دمرني.. غربني.. غربة كانت جوايا مش مجرد بعد عن أهلي وبلدي.. سنين وأنا مش عايش.. بتنفس.. وأكل وأشرب.. لكن مش عايش.. لحد ما.. ما شوفتها.. شوفتها بجد.. صبا.. صبا يا منى.. فاكراها..
أغمض عينيه وكأنه يخشى لفظ القادم:
ـ منى.. أنا.. بحـ.. بحبها..
أطلق زفرة حارة وكأنه يطلق سراح حِمل ثقيل ثم التفت ثانية:
ـ مش هقدر أطلب السماح.. منى.. افهميني.. المشاعر اللي جوايا لها أطهر وأقوى من أني أطلب السماح منك.. منى..
أغمض عينيه بألم وأخرج من جيب سترته هاتفاً عتيقاً.. ذلك الهاتف الذي لم يتخلص منه طوال السنوات السابقة.. رفع الهاتف إلى شفتيه ليقبله برقة.. ثم وضعه بخفة أمام القطعة الرخامية هامساً:
ـ منى.. هتفضلي دايماً.. جوايا.. جوه قلبي في جزء محفور عليه منى.. دايماً هيكون ليكي.. الوداع يا ملاكي...
قال كلماته الهامسة وتحرك مسرعاً نحو البوابة المفتوحة.. ليتوقف أمامها قليلاً ويلتفت برأسه للخلف للحظات قليلة قبل أن يغلق البوابة بحسم وثقة...
************
استقرت حالة نيرة الصحية وصرح لها الطبيب بالخروج فبدأت تتأهب نفسياً للعودة إلى منزلها ولكن مازن فاجئها برحلة خاطفة إلى أحد المنتجعات السياحية حيث قضيا عدة أيام تفرغ مازن خلالهم لتدليلها ومنحها ذلك الاحساس الذي طالما اختصها به على الدوام.. هي مدللته.. أثيرته.. طفلته الحبيبة رغم كل عيوبها ومساوئها..
كان يطعمها بيديه.. يصطحبها بنزهات طويلة وحدهما لا يصاحبهما سوى همس الأمواج التي أسر إليها بعشقه عشرات المرات.. أثبت أنه عاشق مثالي مدرك ومتفهم لكل رغبات معشوقته فبخلاف نزهاتهما الهادئة كان يرافقها ليلاً إلى أفخم الفنادق بالمنطقة لتعيش الصخب الذي لا تستطيع الاستغناء عنه وتنهي سهرتها بالرقص بين ذراعيه حتى تنبههما آشعة الشمس لصباح يوم جديد..
لم يقربها بعد مانحاً إياها كل الوقت للتعافى ولكنه لم يستطع منع نفسه من خطف بعض القبلات واللمسات التائقة والتي تخبرها بوضوح كم يشتاق وصالها.. وكم السيطرة التي يفرضها على نفسه ليسمح لها بالتعافي الكامل قبل أن يطلق رغبته بها من عقالها..
أما نيرة فقد استعادت تألقها وابتسامتها السعيدة بفضل رقته وحنانه وحبه الذي أغدقه عليها بلا حساب وكأنه فتح لها خزائن قلبه على مصراعيها تغترف منها ما تشاء, ولكن ظل ذلك الهاجس القاتم الذي يحثها على المواجهة والبدء بصفحة نظيفة تماماً.. تريد حياة جديدة.. وكم ترغب ببدئها بالطريقة الصحيحة ولكنها تخشى ردة فعله.. تخشاها وغير قادرة على توقعها.. اتخذت قرارها بمصارحته ولكن أولاً لتقترب منه أكثر.. تترك نفسها تتغلغل داخله لتصبح جزءً منه.. تدرك عشقه لها وتعلقه بها وتدرك أيضاً ضعف رصيد ثقته بها.. غفرانه الذي منحه أخيراً حتى لو لم يصرح علانية كان هبةً غالية لا تريد التفريط بها ولا يمكن أن تجعله يشك بها ثانيةً ليس الآن على الأقل.. يجب أن تؤجل المواجهة قليلاً.. ولكنها هكذا تكرر الخطأ مرة أخرى.. فلتحاول الشرح بهدوء وهو سيتفهمها ولن يطاوعه قلبه على هجرها تلك المرة بعدما ذاق مرارة فقدانها و.. ظلت الأفكار تموج بعقلها وهي شاردة تماماً.. غافلة عن عينين متيمتين بها عاشقتين لكل تفاصيلها ونظرات مازن تتأملها بشغف وقد أغمضت عينيها واستندت بكفيها على سور الشرفة بينما تتطاير خصلاتها الحمراء حول وجهها وقد رسمت ظلال الشمس الغاربة على وجهها تعبيرات شجن وحيرة أثارت تعجبه, فترك كوب العصير الذي كان يحمله وتوجه نحوها ليحيطها على الفور بذراعيه مستمتعاً برجفة جسدها المتأثرة به.. تأثراً أصبحت لا تهتم باخفائه عنه في الفترة الأخيرة بل تكاد تصرخ معلنة عن وقوعها تحت تأثير جاذبية زوجها المهلكة.. طبع قبلة خفيفة على جانب عنقها وكفيه يستريحان على معدتها بعفوية محببة وهمس برقة:
ـ لسه ما غيرتيش هدومك؟.. يادوب نلحق ميعاد العشا.
لفت بجسدها لتواجه عينيه وتطوق عنقه بذراعيها هامسة:
ـ ينفع نسهر في الشاليه هنا وما نخرجش!
توسعت عيناه للحظة وهو يحاول التأكد من طلبها الذي أكدت عليه بايماءة موافقة ورفعت نفسها قليلاً لتصل بشفتيها إلى جانب فكه فتطبع قبلة صغيرة وكأنها تمنحه الضوء الأخضر فاشتدت قبضتيه على خصرها ليلصقها به بقوة حتى كاد أن يحطم عظامها الرقيقة على صلابة جسده.. وحرك شفتيه بسرعة ليقتنص شفتيها قبل أن تفكر في ابعادهما عن وجهه ويبدأ في ارتشاف أكسير سعادته الخاص جداً بتواجدها أخيراً بين ذراعيه برغبة منها هي.. لا تفرض هيمنة أنوثتها ولكن لتمنحه هو السيطرة والتحكم في تلك الأنوثة الطاغية..
لم تدرك متى رفعها بين ذراعيه ليمددها على فراشها الذي امتنع عن مشاركتها اياه في فترة مرضها مانحاً اياها فرصتها بالكامل لترتب أولوياتها وإعادة التفكير في مشاعرها, تلك الفرصة التي عاد يمنحها لها ثانية في تلك اللحظة وهو يرفع رأسه عنها ويهمس بلهاث أجش:
ـ نيرة..
أغمضت عينيها بخجل لم تدعه فهي تستشعره معه دائماً فعاد يهمس باسمها وهو يرفع ذقنها قليلاً:
ـ نيرة.. افتحي عينيكِ..
رمشت قليلاً قبل أن تفرق جفونها لتقابلها نظراته العاشقة وهمسه المتردد:
ـ متأكدة يا نيرة؟.. أنتِ كويسة؟..
أجابته بابتسامة خجولة ولكنها واثقة, وجاءت استجابته سريعة وهو يضمها إليه أكثر مغرقاً وجهها بقبلاته ومنعشاً روحها بهمساته العاشقة لكل ما فيها ورغبته التائقة لقربها وامتلاكها روحاً وجسداً.. وانطلقا معاً في رحلة عشق طال انتظارهما لها ومازن لم يتوقف لسانه لحظة عن بثها أشواقه وحبه فكان همسه لها يفعل الأعاجيب لدقات قلبها التي تتسارع جميعها لتثبت له حبها الواضح حتى ولو تلكأ لسانها في التعبير عن مشاعرها كانت لمساتها وقبلاتها واستجابتها له ما يحتاجه ليعاود همسه الشغوف:
ـ بحبك.. بحبك يا نيرة يا حب عمري كله..
وأخيراً بعدما هدأت العاصفة, تحرك مازن مبتعداً عنها قليلاً بينما انطلقت منها همسة متوسلة بدون إرادة منها:
ـ مازن.. ما تبعدش عني..
داعب خصلاتها برقة وأعاد ترتيبها حول وجهها وأنامله تداعب وجنتيها بعبث:
ـ أنا هقوم أجيب لك العصير بس.. ما تقلقيش ما فيش قوة تقدر تبعدني عنك الليلة..
ثم غمز بعبث وهو يناولها كوب العصير ويتلمس وجنتها بحنان هامساً:
ـ أنتِ كويسة؟..
أومأت برأسها وهي تبتسم بشقاوة:
ـ جرى ايه يا مازن هو أنا عروسة جديدة لسه!
اقترب ليضمها بين ذراعيه ويرفع ذقنها لتتلاقي عيونهما وتتواصل النظرات معبرة عن عشق كاد أن يكتمل لولا ذلك الظل القاتم بداخلها والذي يحثها حثاً لمصارحته خاصة وهي تلمس صدق مشاعره وانفتاحه الكلي معها.. تعلم أنه منحها الليلة قلبه وكيانه وجسده بالكامل وجاءت همسته لتؤكد مشاعرها وتزيد من احساسها بالذنب:
ـ أيوه.. الليلة أنتِ عروستي.. اعتبري الليلة بداية حياتنا سوا..
لم تعد قادرة على الكتمان.. لتصارحه ويبدآ معاً بداية حقيقية تلك المرة:
ـ مازن.. أنا..
ضاعت باقي كلماتها بين شفتيه وهو يعود ليكتسحها تلك المرة بعاطفة مجنونة.. كان يعبر عن مشاعره بجموح وجنون.. جنون بادلته إياه وهي تهمس باسمه دون انقطاع مما زاد جنونه جنوناً..
تلك المرة لم يبتعد عنها بل ظل متمسكاً بها هامساً في أذنيها بكل ما ذكر في قاموس العشق والغرام.. عرى مشاعره أمامها وهو يهمس بوله:
ـ بحبك با نيرة.. حبك هو الشيء الوحيد اللي ثابت جوايا.. يمكن حبي ليكي اتقدر من قبل ما نتولد احنا الاتنين.. دايماً كنتِ بالنسبة لي شمسي اللي بتنور دنيتي.. لا.. شمس ايه.. أنتِ أساساً دنيتي كلها.. الحب بيبدأ مع نيرة.. وعمره ما هينتهي أبداً يا حبي.. ساعات بحس أنه قدري.. قدري أنك تكوني ليا.. وأحلى قدر..
صمت للحظة ليطبع قبلة رقيقة على وجنتها وأردف:
ـ هقولك على حاجة ما حدش يعرفها أبداً.. أنا كنت بدأت أجهز ورقي للهجرة لما اتخطبتي.. كنت مقرر أني أسافر بعد فرحكوا على طول..
ابتسم بشجن وأكمل:
ـ مش عايز أفكر في الأوقات دي تاني.. أنا كنت بتحرق من جوايا مع كل لحظة بتمر وأنتِ مش معايا.. وبعد جوازنا.. قلبي وعقلي كانوا هيجننوني معاهم.. كنت بهرب منك ليكي.. عقلي بيقولي ابعد وقلبي بيشدني شد ناحيتك.. طاوعت عقلي لأني كان ممكن اتجنن فعلاً لو سيبت مشاعري ليكي تتحكم فيا.. ضغطت على نفسي كتير وأجبرتها على البعد.. لحد.. لحد اللحظة اللي كنت هفقدك فيها.. يااااه..
سكت قليلاً ليبتلع غصة كادت أن تخنقه:
ـ لحظات سودا ما أتمنهاش لألد أعدائي.. لحظات قلبي كان بيصرخ ويتقطع ويلوم عقلي.. كان بيصرخ فيا ايه معنى حياتك من غيرها.. انتقمت لكبريائك وكرامتك؟.. ضيعتها وعاقبتها؟.. ياه يا نيرة.. أنا كان ممكن اقدم أي حاجة وترجعي لي تاني.. بس تكوني موجودة في دنيتي..
هز رأسه بألم وكأنه ينفض عنه ذكريات تلك الأيام أكمل همسه:
ـ خلاص الأيام دي عدت واحنا دلوقتِ مع بعض فعلاً.. وهنبدأ حياتنا صح.. و..
التفت لها ليفاجئ بدموعها تغرق وجنتيها وهي تدفن رأسها بين أضلعه وتتمسك به بقوة مما دفعه لسؤالها بهلع:
ـ نيرة.. في ايه؟!.. ليه الدموع؟..
استمرت في نحيبها وهي تهز رأسها المزروعة في صدره رافضة مواجهة عينيه حتى كاد أن يجن من القلق فابعدها عنه بعنف صارخاً:
ـ في ايه يا نيرة؟.. اتكلمي..
همست من بين دموعها:
ـ أنا ما استحقش.. ما استحقش الحب ده كله.. أنا..
هتف بها:
ـ أنتِ ايه؟..
دفنت وجهها بين كفيها وهي تتمتم بكلمات غبر مترابطة:
ـ أنا آسفة.. آسفة.. مازن.. أرجوك افهمني.. أنا كمان كنت عايزة أعمل أي حاجة ترجعك لي.. وأنت خلاص كنت قررت.. وناوي على الانفصال.. ما كانش ممكن أسمح لك تبعد و..
أمسك بمرفقيها متسائلاً بتردد:
ـ وايه؟.. قصدك ايه؟..
هزت رأسها لتحاول ترتيب أفكارها قبل أن تهمس:
ـ اللي حصل كان سوء فهم.. كا..
قطع كلماتها بحيرة:
ـ سوء فهم!!
عادت تردد كلماتها الجوفاء:
ـ أقصد سوء تقدير.. أنا.. الغيبوبة حصلت غصب عني.. بسبب دوا الحساسية اللي أخدته بالصدفة.. أنا بس كنت عايزة أوصلك أني محتاجة لك في حياتي و.. كنت عايزاك تعرف أني مهمة في حياتك وأنك ما تقدرش تستغنى عني و..
نفضها من بين يديه فارتمت بعنف على الفراش بينما نهض هو بقوة متسائلاً بذهول:
ـ يعني ايه؟.. كانت لعبة؟!.. لعبة تانية من ألعابك عشان تجيبيني راكع تحت رجليكِ؟!..
همست بضعف:
ـ مازن.. افهمني..
قاطعها بقوة:
ـ أفهمك!.. للأسف أنا فهمتك كويس.. أنا أكتر واحد فاهمك في الدنيا دي.. أنتِ عايزة تاخدي كل حاجة بدون ما تقدمي ولو هامش بسيط من نفسك..
أشار إلى الفراش باحتقار:
ـ استمتعتِ باللي حصل!.. بتهني نفسك أن الغبي المغفل بلع الطعم وفتح لك قلبه وعرى كل مشاعره؟!..
التفت مشيحاً بوجهه عنها وقد أعمى الغضب بصيرته فلم يستشعر صدق دموعها تلك المرة وبدلاً من ذلك اقترب منها بقوة وهو يزمجر غضباً:
ـ كنتِ بتضحكي من جواكِ وبتسخري من مشاعري وحبي اللي قدمتهم عشان تعرفي قيمتك عندي.. وتتأكدي أني مش ممكن أبعد.. مبسوطة أن لعبتك نجحت.. والغبي رجع لك من غير ما تضطري حتى أنك تقولي بحبك ولو بالكدب.. أنتِ ايه!!
صرخ بالجملة الأخيرة وعاد ألمه يتصاعد مع صراخه:
ـ أنتِ ايه!.. ايه.. حجر.. حــــجر!!!..
حاولت مقاطعته بلمسة خفيفة على كتفه فانتفض كالملسوع وابتعد عنها صارخاً:
ـ لعبتِ بمشاعري.. وضغطِ قوي على الجرح.. اتأكدتِ أني هفضل عبد في محراب عشقك..
قهقه ساخراً وهو يصفق لها بكفيه قبل أن يتناول أقرب شيء ليده وكان تحفة نحاسية ضخمة فألقى بها نحو الجدار لتترك أثراً واضحاً خلفها.. وبدا واضحاً حدوث تصدع في الجدار القوي..
وقف يتأمل ذلك الأثر لثوانٍ قبل أن يهمس بألم:
ـ حبي ليكي كان قوي.. ما كنتش متخيل أن أي حاجة ممكن تزحزحه.. أو تصدعه.. حتى وأنا بعيد.. وأنا بعرض الطلاق.. كنت عارف أن الحب جوايا أكبر.. لكن برافو يا مدام.. برافو حقيقي.. أنتِ نجحتِ في أنك تحطمي أقوى حب ممكن تقابليه..
ارتدى ملابسه على عجل متجاهلاً بكائها الذي تحول إلى نحيب متصاعد ومهدداً بنوبة هيستيرية قادمة.. وكلماتها تنطلق بلا رابط:
ـ مازن.. أنت بتحبني.. أرجوك.. اسمع لقلبك لحظة واحدة بس.. أرجوك..
التقط مفاتيحه والتفت لها:
ـ خلاص.. مازن قلبه مات.. برافو.. نجحتِ أخيراً..
**********
انطلق مازن بسيارته وقد أعماه غضبه عن كل شيء.. لا يصدق أنها تلاعبت به بتلك الطريقة.. لم تكن تنوي الانتحار إذاً, بل كانت تلقنه درساً لأنه تجرأ وأعلن رغبته في الانفصال عنها.. لم تعترض ولم تجادله بل أثبتت له عملياً بأنه ملكها للأبد.. أوضحت له عجزه عن الابتعاد عنها أو نسيانها.. وهو تصرف كأحمق مثالي غافراً لها جريمتها بقتل ابنه وقبلها تمزيق كرامته إرباً.. فقط مقابل عودتها للحياة.. تنازل عن ثأره وعن دم ابن المهدور ثمناً لرمشة من أهدابها ودقة من قلبها..
تباً.. تباً.. كم كان أحمقاً غبياً أعماه حبه عن خطتها الأساسية وتجاهل ما صرح به الأطباء عدة مرات أن سبب الغيبوبة الأساسي هو تداخل بين تأثير المهدئ وإحدى أدوية الحساسية..
لقد ظن بسذاجته وقتها أنها تعمدت تناول عدة أدوية مختلفة لتنهي حياتها نتيجة ليأسها منها بعدما أخبرها عن رغبته بالانفصال..
لكم المقود بعنف وهو ينهر نفسه:
"قلبك الغبي هو السبب.. حبك حولك لعبد لها.. لعبة بتلعب بيها عشان تسلي نفسها وتثبت أنها دايماً المسيطرة.. أنك دايماً هترضخ لقلبك وضعفك ناحيتها"..
صرخ عقله به:
"لا.. لا.. انتهى.. مازن العاشق المتفهم انتهى.. من هنا وجاي هتشوف مازن تاني.. مازن هي السبب في وجوده.. ووقت الندم هيكون فات"..
***********
خرجت لورا من الحمام بعدما انتهت إحدى نوبات الغثيان المؤلمة.. نوبات تكررت عدة مرات أثناء سفر حسن حتى قررت أخيراً التأكد مما يحدث معها..
وبينما جاء اختبار الحمل حاسماً مؤكداً حملها الطفل الثاني لحسن كانت مشاعرها مترددة بين الرفض والفرحة.. رفض لمزيد من الأغلال تربطها به, وفرحة بطفل جديد.. طفل تشعر أنه لها تلك المرة.. فمشاعرها تجاه منى الصغيرة تكاد تكون حيادية.. وكأن الأمر بيدها.. فكلما نطق حسن باسم منى يغرز بقلبها خنجراً ساماً يدميه.. حتى كرهت اسم ابنتها, بل كرهت تواجد الفتاة الصغيرة حولها.. وتأكد شعورها ذاك خلال تلك الأيام البسيطة التي سافر حسن خلالها إلى موطنه.. لقد ظنت لوهلة أنها منحت فرصة لتعيد توجيه مشاعرها نحو ابنتها.. ولكنها لم تستطع.. فقط لم تستطع الشعور بأمومتها لها.. تشعر أنها ابنة حسن فقط.. تحمل كنيته واسم محبوبته.. إذاً هي كيان يمثل كل ما يبعد حسن عنها.. كل ما يمنعه من حبها..
عادت تردد.. حب!.. وهل حسن قادراً على الحب من جديد؟.. ألم يدفن قلبه جوار محبوبته الوحيدة.. ويطلق اسمها على ابنته حتى يمكنه ترديده في كل وقت..
ابتسمت بمرارة وهاجس مرير بأعماقها يخبرها بحسم:
"قلبه لم يمت.. بل كان في حالة سبات.. غيبوبة اختيارية.. وربما لا إرادية.. ولكنكِ تدركين جيداً أن ذلك القلب عاد للنبض من جديد.. وأنه ارتحل خلف تلك الفتاة المصرية وليس ليكون بجوار شقيقه كما زعم"..
هتف عقلها بمرارة:
"ولم لست أنا؟!.. إذا كان قادراً على الحب بالفعل لم اختارها هي؟!"
ليجيب القلب بحنين:
"ومتى امتلك الانسان اختيار من يهواه؟!.. أنتِ نفسك عاجزة عن حب ابنته, بل ابنتك.. فكيف تطالبينه بحبك؟!"..
كانت غارقة في أفكارها حتى أنها لم تدرك وصول حسن ودخوله إلى المنزل.. حتى وجدته أمامها يسألها بقلق:
ـ لورا.. هل أنتِ بخير؟..
انتفض جسدها لسماع صوته وأحاطت بطنها بيدها في حركة لا إرادية وكأنها تريد اخفاء طفله عنه.. ورفعت عينيها إليه باستفهام:
ـ بخير بالطبع.. ولما لا أكون؟.. متى وصلت؟..
هز رأسه بحيرة لموقفها الغريب:
ـ وصلت الآن.. ما بكِ؟.. تبدين غريبة!..
حركت رأسها بنفي وقرارها يتبللور بداخلها أكثر:
ـ أنا بخير تماماً.. كيف هي زوجة أخيك؟.. ألم تترك كل شيء خلفك وترحل من أجل أخيك.. أم كان هناك سبباً آخر؟..
رمقها للحظة يحاول معرفة ما يدور بذهنها قبل أن يقول:
ـ نيرة أصبحت بخير.. مرت الفترة الحرجة وغادرت المشفى..
صمت قليلاً:
ـ أنا متعب وأريد القليل من الراحة..
تحركت لتواجهه معترضة:
ـ حسن.. نحن بحاجة إلى الحديث!.
قطب جبينه بحيرة:
ـ حسناً...
سألته بصراحة:
ـ هل ذهبت إلى قبر منى؟..
أومأ موافقاً وقد لفته أمواج الحيرة مع الارهاق.. فسمع تنهيدة ألم تخرج منها وهي تسأل:
ـ إذاً منى ماتت بالفعل؟!..
بدا سؤال لا يحتاج اجابة فأكملت تتساءل ثانية:
ـ ماذا بعد؟..
ضيق عينيه وهو يخبرها:
ـ لورا.. نحن بالفعل نحتاج لحديث طويل.. ولكني متعب.. لنؤجل..
قاطعته هاتفة:
ـ كلا.. كلا.. لن نؤجل شيء.. فلنكشف كل الأوراق..
أغمض عينيه للحظات يحاول التحكم في المطارق التي تحطم عقله:
ـ أنا أريد العودة.. أريد لابنتي أن تكبر وسط أهلها.. على أرض بلدها..
كتفت ذراعيها ببرود:
ـ وإذا رفضت؟!
سألها بحيرة:
ـ لم؟..
هزت كتفها:
ـ ربما لأن عودتك تعني قدرتك على الزواج ثانية.. بينما هنا..
لم تكمل كلماتها فقط حركت كتفها ليصله المعنى كاملاً.. فهتف بها:
ـ ما الذي تحاولين قوله؟..
رفعت عينيها إليه لتسأله مباشرة:
ـ حسن.. هل تحمل مشاعر لصبا؟.. هل عاد قلبك للحياة؟..
تلعثم حسن قليلاً.. ثم تمالك نفسه ليصارحها:
ـ لورا.. حسناً.. أنا لم أرغب يوماً في ايلامك أو ايذائك.. أنتِ ستظلين على الدوام أماً لابنتي.. إنسانة كريمة وقفت بجانبي في أحلك لحظات حياتي.. ربما أبدو ناكراً للجميل وأنا عاجز عن مبادلتك مشاعر الحب.. و..
قاطعته بسؤال مباشر:
ـ هل تحبها؟..
هز رأسه بحيرة:
ـ لم تدفعيني لايلامك؟..
صرخت به:
ـ حتى أمتلك الأسباب لكراهيتك..
عنف لهجتها آلمه.. لم يرد أن يؤذها.. أراد التمهيد للأمر.. ولكنها لم تنتظره عادت لتهتف بصرامة:
ـ أريد الطلاق..
هتف بها:
ـ لورا..
عادت تكمل:
ـ لن أتحمل الحياة معك وقلبك ينبض بحب أخرى.. لقد حاولت طوال السنوات السابقة وكان ما يعزيني أن ما يسكنك هو ذكريات.. أو شبح على أحسن الأحوال.. ولكن أن ينبض ذلك القلب لامرأة أخرى سواي.. امرأة نجحت في جرك خلفها عبر المحيط.. كلا.. أنا أرفض ذلك.. أريد الطلاق.. وسوف أترك لك ابنتك.. فهي طالما كانت لك وحدك..
صمتت لحظة لتحيط بطنها بيديها هامسة:
ـ أما أنا.. فسيكون لي ما يعوضني عن حب يائس لم يكن لي من البداية.. وتلك المرة سيكون لي وحدي...
*************
دلف مازن إلى مكتبه تحيطه هالة من السيطرة وغضب مكتوم يحاول السيطرة عليه
بكل ما يمتلك من قوة إرادة.. ضغط زر الاتصال الداخلي مستدعياً سكرتيرته.. يريد إغراق نفسه بالعمل عله يجد به دواءً لما حل به.. يحتاج لتغييب عقله لفترة حتى يهدأ ألمه قليلاً.. فما يشعر به من آلام قادرة على طحن أصلد الصخور وأكثرها قسوة.. قسوة تماثل قلب زوجته الميت.. قسوة كم يحتاج أن يمتلكها لينتقم منها.. ليسترد ثأره وثأر ابنه.. لن يغفر ولن يرحم تلك المرة...
تهادت سكرتيرته تتراقص خطواتها فوق حذائها ذو الكعب الشاهق.. واقتربت منه بشدة تضع بضع أوراق أمامه وهي تهمس بصوتٍ أبح:
ـ البوسطة.. حضرتك..
تشكل الامتعاض بداخله على الفور وكاد ينهرها ككل مرة تقترب منه بتلك الطريقة الفجة.. فهي منذ استلمت عملها كسكرتيرة له بعدما تزوجت سكرتيرته القديمة وهي تدأب على محاولة اغرائه والتقرب منه.. وهو كان يصدها بقسوة.. وينهرها في كل مرة.. إلا أن تلك المرة ويدها تزحف كالأفعى تتلمس أنامله وتهمس:
ـ حضرتك شكلك تعبان قوي..
أومأ موافقاً ومستدرجاً اياها:
ـ فعلاً.. أنا تعبان قوي..
همست بلهفة:
ـ ألف سلامة..
سألها بخبث:
ـ عايزة راحتي؟!
اندفعت قائلة:
ـ أكيد.. اطلب أنت بس وأنا تحت أمرك..
اقترب برأسه منها هامساً باغواء:
ـ اتجوزيني...
كان ردها شهقة مصدومة وهو يسحبها خلفه إلى أول مكتب مأذون شرعي..
بينما في مكان آخر كانت نيرة تمسك بيدها ورقة رسمية من مكتب ذلك المأذون تخبرها بوضوح.. أن زوجها اقترن بزوجة جديدة..


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-18, 08:27 PM   #39

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل السادس والثلاثون

انتفض يزيد من نومه على صوت بكاء رامي فرمى الغطاء عنه وتوجه مسرعاً نحو غرفة الأطفال ليرفعه من مهده ويضمه لصدره محاولاً تهدئته ومحافظاً على اتصال بصري مستمر يطمئن به الصغير كما تعلم من علياء التي استيقظت هي الأخرى وجاءت خلفه على الفور لتراه يحاول تهدئة الصغير الباكي وقد علت وجهه تقطيبة غاضبة وبدت ملامح وجهه متوترة بقوة..
ذلك التوتر الذي صاحبه منذ أن أخبره الخبير الفرنسي بوضوح قاسي أن حالة رامي نهائية ولا أمل في المستقبل القريب لتحسن وضعه, ونصحهما الرجل بالتأقلم مع الوضع وتوفير سبل الراحة والتفاهم مع الصغير.. كانت كلمات الطبيب أقسى من أن يتحملها أي أب, ويزيد لم يكن بالأب العادي فهو مازال يخطو خطواته الأولى بمضمار الأبوة.. يصاحب ذلك احساس هائل بالذنب نحو صغيره..
احساس لا يعرف مصدره تماماً.. هل هو سوء اختياره لوالدته أو حرمانه من تلك الأم, كما أخبرته والدته منذ عدة أيام وهي تصر على عدم قدرة علياء على المساواة بين أطفالها وابن ضرتها المعاق.. كلمات مازالت ترن في أذنيه رغم استنكاره لها لحظتها, لكن ها هي الأيام تثبت صدق اعتقاد والدته فعلياء نائمة بينما رامي بُح صوته الذي لا يملكه أساساً من البكاء.. و..
قاطع صوت علياء تسلسل الأفكار الخبيثة بذهنه وهي تقترب منه لتحمل رامي وتضمه إلى صدرها ليتناول رضعته الليلية وهمست بخفوت:
ـ حبيبي الصغير صحي بدري ليه؟.. كبرنا وبقينا نجوع بسرعة ولا ايه!..
جلست على مقعدها المعتاد وهي ترضع أطفالها غافلة عن معالم الغضب على ملامح يزيد الذي لم يستعد توازنه بعد تيقنه من أن إعاقة ابنه دائمة وبات شديد الحماية والالتصاق بكل ما يخصه لذا انطلق إتهامه لها على الفور وخرجت كلماته بدون أن تمر على عقله المشغول بكلمات أمه السامة:
ـ عايزة تفهميني أنه يهمك بجد وقلقانة عليه!.. لو ده صحيح ليه كنتِ نايمة وهو مفلوق من العياط؟!!!
رفعت علياء عينين مذهولتين ملئهما نظرات عتاب صارخة فهو منذ عادا من باريس وهو في حالة عصبية متفجرة وهي تقدر حالته النفسية تماماً وتتحمل عصبيته الزائدة وتصرفاته التي أنزلتها من سماء عشقه إلى جنون غضبه.. تقدر حزنه الأبوي والألم الذي يمزق روحه وهو عاجز عن مساعدة طفله ومحاولته الخرقاء لحماية الصغير من مجهول يترصده.. كل ذلك تستطيع استيعابه فهي نفسها تتألم من أجل الصغير وتوليه كل اهتمامها ولكن أن يتهمها ذلك الاتهام الجائر فهذا ما لن تقبله.. ولن تتحمله أبداً..
رمقته بنظراتها العاتبة وأكملت ارضاع الصغير حتى اكتفى تماماً ثم تحركت بهدوء غاضب تحت نظرات عينيه الحائرة لتقوم بتغيير الحفاظ لرامي وتهدهده حتى راح في سبات عميق.. فدثرته بعناية قبل أن ترمق يزيد بنظرة غاضبة وتطفئ نور الغرفة وتتجه إلى غرفة نومهما يلفها صمت غاضب حزين بينما هو غارق في حيرته وأفكاره المتخبطة بشأن مستقبل الصغير ليفاجئ بصوت "أم علي" تناديه بهدوء وهي تقف على عتبة الغرفة:
ـ يزيد بيه..
انتفض على صوتها وخرج من غرفة الأطفال ليهمس متسائلاً:
ـ خير يا ست أم علي في حاجة؟..
ـ خير يا بيه.. أنا عملت لك كوباية ليمون.. تعالى بس اقعد في الفرانده وهدي أعصابك..
تحرك يزيد بلا إرادة منقاداً خلف السيدة الأكبر سناً حتى وجد نفسه جالساً يرتشف كوب الليمون المثلج و"أم علي" تثرثر بجوار أذنه كعادتها ومن وسط هذرها التقط عدة كلمات بدت أنها تريد ايصالهم له بطريق غير مباشر:
ـ النهارده كان تطعيم اسم النبي حارسه سي رامي.. تصدق يا بيه.. طول النهار عياط.. والست عليا ربنا يكرمها ما فارقتوش لحظة.. لحد ما ربنا هداه ونام.. عشان كده يا حبة عيني.. تلاقيها مرهقة وتعبانة قوووي.. و..
قاطع يزيد كلماتها وقد أدرك ما تريد قوله وهدأت أعصابه على الفور بعدما أدرك سخافة الاتهام الذي وجهه لحبيبته الغاضبة:
ـ خلاص يا ست أم علي.. فهمت قصدك والله..
ونهض ليتوجه إلى غرفته ثم عاد أدراجه ليهمس للعجوز:
ـ بس الحمد لله طمنتيني عليكِ.. أنا كنت بدأت أقلق على قدراتك الردارية الخارقة!
ضحكت العجوز بخجل:
ـ ربنا يهدي لك نفسك يا بيه.. ألا أصعب حاجة غواية النفس..
أومأ موافقاً وتحرك نحو غرفته ليدخلها بهدوء وتردد حيث لمح علياء جالسة على الأريكة العريضة وقد ارتسمت على وجهها علامات اللوم الشديد والغضب.. فتحرك ببطء حتى وقف أمامها مطأطئاً رأسه كالطفل المذنب وذراعيه تهدلا بجواره وهمس باسمها بخفوت:
ـ علياء..
رشقته بنظرة غاضبة ولم تجب.. فرفع كتفيه بحركة تدل على قلة حيلته وهمس لها:
ـ أنا غبي.. واتكلمت من غير ما أفكر.. ده أنا.. أنتِ لسه هتعرفيني يعني..
جاورها ملتصقاً بها كما اعتاد فلفت وجهها للجهة الأخرى حتى لا تواجهه فهي مازالت تشعر بجرح غائر بأعماقها إثر إتهامه لها بإهمال رامي..
ازداد التصاقاً بها وهو يلفها بذراعيه هامساً:
ـ آسف والله يا علياء.. أنا غبي وأكبر غبي.. أعمل ايه.. حاسس أني هتجنن.. أول مرة أحس أني متكتف.. عاجز.. قليل الحيلة.. نظرات رامي الحيرانة وهو مش قادر يتواصل معايا أو مع أخواته بتقطعني.. بتهز كل الثوابت جوايا.. لو أقدر كنت اتنازلت له عن حاسة السمع عندي.. يا ريت كان ينفع.. أنا مش عارف ده عقاب ولا..
التفتت علياء لتواجهه بسرعة:
ـ ده اختبار.. اختبار من ربنا.. هدية بعتها لنا يدخلنا بها الجنة.. نعترض ونتعصب ولا نقول الحمد لله ونحافظ على نعمته..
هز يزيد رأسه بحيرة وهو يضمها لصدره برقة:
ـ أنتِ ازاي كده!.. أنتِ كتير عليَّ قوي.. أنا بحبك قوي يا عليائي.. بحبك قوي وآسف قوي.. أنا غبي والله غبي..
ضحكت علياء برقة وهي تنهره بخفة:
ـ لو سمحت.. ما تقولش على حبيبي غبي..
زاد من ضمها لصدره وكأنه يريد ادخالها إلى حنايا قلبه وأخذت أنامله تعبث في خصلاتها برقة وهو يردد:
ـ يا ريت كنت حسمت الموضوع من زمان قبل ما يتظلم رامي بالطريقة دي.. لو كنت رفضت وجود أي أولاد..
أسرعت علياء بوضع أناملها على شفتيه لتمنعه من اكمال كلماته:
ـ اوعى تقول كده.. بقولك رامي هدية ربنا لنا.. وهيكبر وهكون أحسن من أي حد..
ثم حركت أناملها لتداعب صدره برقة هامسة:
ـ أنت بس حاول تخفف من قلقك عليه.. لازم يكون تعاملك معاه طبيعي.. عشان تتعود يا يزيد.. مش عايزينه يحس أنه وضعه مختلف..
نظر إليها بتردد.. فأردفت هي:
ـ ايه؟.. عايز تقول حاجة؟..
تردد لحظات قبل أن يقول:
ـ امممم... أنا كنت بفكر ننقل سريره في أوضتنا.. فترة بس لحد ما يكبر و..
التفتت علياء نحوه لتحيط وجهه بكفيها:
ـ يزيد.. أنت لسه بتفكر في الكلام اللي قلتهولي.. لسه فاهم أني مقصرة في حق رامي..
هز رأسه بخجل:
ـ لأ.. أنا متأكد أنه بالنسبة لك زي حمزه وحازم.. أنا.. بس.. بس كنت عايز أطلع طاقة غضب من جوايا.. آسف جت فيكي.. مش بقولك غبي.. حظك كده.. يكون ليكي جوز متهور وغبي..
ثم اقترب من وجنتها ليقبلها بشوق:
ـ وبيموووووت فيكي..
ضحكت برقة ورواغت شفتيه لتهمس:
ـ شوية جد الأول يا يزيد..
جلس مكتفاً يديه بأدب:
ـ أنا تحت أمرك..
ـ نتكلم جد الله يخليك.. أنا كنت عايزة أنبهك لنقطة مهمة..
قطب حاجبيه بقلق:
ـ خير؟..
ـ الولاد يا يزيد.. الولاد حاسين أنك مهتم برامي.. بصراحة من وقت ما رجعنا من باريس وأنت حتى ما قعدتش مع الولاد ولا لعبت معاهم.. أنا مش عايزة واحد من الولاد يقول اشمعنى..
أخفض رأسه هامساً:
ـ عندك حق.. بس أنا عايز الأولاد يستوعبوا حالة أخوهم.. لازم هما يكونوا سند له.. أنا كبرت لوحدي وأنتِ كمان.. بس الحمد لله ربنا بارك لنا في الأولاد عايزهم دايماً سند لبعض..
ضمت رأسه لصدرها بحنان وهي تداعب خصلاته بلطف:
ـ ولا يهمك.. أنا هحل الموضوع ده.. بس رجع لي يزيد تاني.. حبيبي المجنون.. مش المتهور..
أكمل لها:
ـ الغبي..
وكزته في كتفه بدلال وهي تتصنع الغضب فأسرع يزيد ليختطفها من فوق الأريكة ويحملها بين ذراعيه ليراضيها ويصالحها كما اعتاد دائماً.. وفي الواقع كان يصالح نفسه..
************
غرق حسن لقمة رأسه في تصفية أعماله بباريس وفض الشراكة مع غسان الذي حاول إقناعه كثيراً بترك الأمور كما هي حتى تستقر أحواله بمصر, فربما يقرر الرجوع إلى باريس في آخر المطاف.. ولكن حسن كان قاطعاً في رأيه وقراره كان العودة لبلده حتى يبدأ رحلته لاكتساب قلب العنيدة التي ترفض باصرار استقبال مكالماته الهاتفية أو حتى الرد على رسالة واحدة من مئات الرسائل التي يرسلها يومياً.. وهو الذي يكاد يحرق الهاتف مكالمات ورسائل حتى أنه لم يجد طريقة للاطمئنان عليها ومعرفة أخبارها سوى ما يلتقطه من كلمات متفرقة من يزيد الذي أشبعه سخرية وتأنيب..
كم يرغب في العودة ولو ليومين فقط ليراها.. ليسمع منها كلمة تروي ظمأ روحه المتعطشة لقطرة من جنون روحها الجامحة المشاعر, ولكنه يريد انهاء كل متعلقاته بباريس قبل أن يخطو أي خطوة جدية بشأنها.. يريد أن يتقرب منها بطريقة صحيحة كما تستحق غالية مثلها وكما تملي عليه مشاعره القوية نحوها...
أما لورا فقد نفذت القرار الذي اتخذته فور اعلامه به وفي نفس يوم وصوله من القاهرة.. لم تنتظر ساعة إضافية بعدما جمعت كافة متعلقاتها من المنزل.. مخبرة إياه باقتضاب أن أمر الطلاق والتسوية المالية وحضانة منى سيتولى أمرها المحامي الخاص بها.. وبالفعل وصلته الأوراق في اليوم التالي وبدأ في اجراءات انهاء شراكته مع لورا كما أنهى شراكته مع غسان..
نعم.. فهو يرى الآن بوضوح أن علاقته بلورا كانت أشبه بعلاقة تجارية بحتة.. ربما قدمت هي مشاعرها خلالها.. ولكنه فقد روحه وذاته ليستطيع الاستمرار..
لم يكن من السهل أبداً على رجلاً مثله يقدس المشاعر الرقيقة والحب الراقي أن تتلخص علاقته بزوجته في دقائق تقضيها بين أحضانه يستهلكان بها مشاعر حسية ملتهبة سرعان ما تنطفئ فور انتهاء الحاجة.. خاصة وقد عاش حالة من الحب الناعم مع منى.. اختبر فيها أرق وأسمى المشاعر..
كان يشعر أنه تحول في فترة زواجه من لورا إلى مسخ مشوه, إنسان آلي يعيش حياة ميكانيكية رتيبة.. حياة منزوعة الروح.. كان يقوم بما يطلب منه وفقط.. حياة مرسومة كتصميم هندسي بارد.. حتى هبت عليه نسمة عشق رائقة, كلا.. لم تكن نسمة بل اعصار.. اعصار اقتلع المسخ من داخله لتعود المشاعر الإنسانية تطفو على السطح مرة أخرى.. صبا.. كم يبدو رائع اسمها مثلها تماماً.. كتلة الشوق الصغيرة, بل كتلة العِند.. فهي تعانده ولا يعلم هل تعاقب أم ترفض.. أم تخاف..
توجه إلى غرفة صغيرته التي اضطر إلى استئجار مربية لرعايتها أثناء ساعات النهار.. بينما يتولى هو متعة الاعتناء بها بعد عودته من العمل..
صرف المربية وتحرك ليحمل صغيرته التي أعلنت عن ترحيبها به مطلقة عدة كلمات بلا معنى.. ومصفقة بيديها بسعادة وهو يحملها على ركبتيه ليحادثها عن أحداث يومه كما اعتاد.. وأخيراً بدأ يقص عليها إحدى قصص الأميرات واللاتي تعلمهن خصيصاً من أجل مليكته الصغيرة.. ولكن تلك المرة وجد لسانه يروي لها قصة مختلفة تماماً..
"الليلة هتكون حكايتنا عن أمير.. مش أميرة.. ايه رأيك نسميه حسن!.. وحسن كان أمير سنه صغير.. كان فاهم أنه ممكن يملك الدنيا بإشارة من ايده.. وأما قلبه اتفتح للحب.. حب بنوتة جميلة رقيقة.. بس للأسف.. رقتها وأدبها ما كانوش كافيين عشان أبوه الملك العظيم يوافق عليها زوجة للأمير.. لكن الأمير قرر يحارب الدنيا عشان حبيبته.. اتجوزها.. وأخدها بعيد.. عاشوا في سعادة وتبات ونبات.. بس يا خسارة.. اتخطفت حبيبته منه.. خطفها الموت.. والأمير ما قدرش ينتصر المرة دي.. وبعدين يا حبيبة بابا.. الأمير دخل في كهف ضلمه.. كهف اتحبس فيه سنين.. سنين كان غايب فيهم عن الحياة.. بيتحرك بخيوط الواجب.. كان الكهف بارد قوي يا منى.. بارد لدرجة أن قلب الأمير اتحول لبللورة من صقيع.. كان قدامه وقت بسيط قبل ما يمتد الصقيع ده وينتشر في كل حتة جواة.. كان بيستمر بسبب ركن دافي صغير في أبعد مكان في الكهف.. لحد ما في يوم سطعت شمس قوية.. ضحكة دافية عارفة طريقها.. اتجهت لبللورة الصقيع.. دوبتها.. نشرت الدفا.. والحب والصِبا.. وبعدين...
نظرة خاطفة منه إلى طفلته وجدها تغط في سبات عميق فحملها برقة إلى غرفته لتنام بجوار قلبه عله يستمد بصيص من دفئها حتى يعود إلى شمسه الساطعة..
ضمها إلى صدره هامساً..
"خلاص يا منمونتي.. كلها كام يوم ونرجع لبلدنا.. يمكن الظروف أجبرتنا أنك تكبري بعيد عن مامتك, لكن صدقيني أنا اختارت ليكي أروع أم.. هي أكتر واحدة ممكن تحس باللي جواكِ لأنها عاشت نفس الظروف وأكيد هتقدر تعوضك وتبعدد عنك شبح الحرمان.. بس هي توافق.. ادعي معايا يا منمونتي أنها توافق بسرعة وما تتعبش قلب بابا كتير.. قلب بابا عايز يوصل لنهاية الحدوتة..
**********
ظلت صبا وعلياء تقرعان باب غرفة نيرة بلا جدوى.. فهي كمنت بفراشها وقد احتضنت ركبتيها بذراعيها وبسطت أمامها عدة أوراق تنظر إليهم بتشوش حائر ودموعها حبيسة مقلتيها تتماوج بداخلها آلاف الأسئلة الحائرة..
أبرزها جميعاً.. لم يفعل بها ذلك؟.. لم وقد استيقظ قلبها الغافي ليتعلم حبه؟.. لم وقد أرادت بداية ناصعة نظيفة معه؟... من أين يأتي بتلك القسوة الرهيبة
فيرسل لها إشعار زواج تلو الآخر.. فلم تعد تدري الآن كم امرأة غيرها على ذمته.. أم لعله الآن تخلص منها تماماً ولم تعد زوجة له..
هزت رأسها بأسى وهي تدرك استحالة حدوث ذلك فهو يستمتع بإرسال تلك الإشعارات لها.. يتلذذ بإنتقامه حتى الرمق الأخير.. ولكن متى يكتفي؟.. متى ينتهي ذلك الإنتقام الذي يسبب الأذى الأكبر له هو.. لإسمه وسمعته ومركزه..
هي تحاول إخفاء الأمر عن الجميع.. حتى صبا وعلياء لم تعلما بما حدث.. فقط حدوث خلاف شديد بينهما وعودتها وحدها من الساحل في سيارة صبا.. ذرفت الدمع طوال الطريق ثم توقفت بعدها.. توقفت عن كل شيء.. الدموع.. الطعام والشراب.. الحياة.. ولو استطاعت لتوقفت عن التنفس.. فقط تنتظر جرس الباب الذي يحمل معه كل مرة إشعار بزيجة جديدة ليمنح زوجها لقب المزواج العابث بجدارة..
تباً.. ضربت الفراش بقبضتها وهي تنفض عن نفسها الجمود.. كلا.. لن تقف صامتة وتتركه يدمر حياته وحياتها معه.. يجب أن تتحرك.. أن تفعل شيئاً.. ولكن ماذا؟.. هو لن يوافق على رؤيتها.. وهي امتنعت عن الذهاب إلى الشركة منذ شجارهما..
"تباً.. تباً.. ماذا..
فكرة خاطفة ضربت رأسها.. وتحركت بسرعة لتنفذها قبل أن تعاود التفكير مرة أخرى فيصيبها التردد والجبن...
فُتِح باب غرفتها فجأة وخرجت وهي بكامل زينتها مما جعل علياء وصبا تفغران فمهما ذهولاً فتلك المرأة المشرقة أمامهما لا تمت بصلة على الاطلاق لتلك الذابلة المختفية داخل غرفتها طوال أسابيع..
التفتت إلى علياء لتسألها:
ـ عليا.. أوصفي لي مكان فيلا دنيا..
غمغمت علياء ببلاهة:
ـ دنيا؟.. دنيا!!..
هزت نيرة رأسها بنزق فتراقصت خصلاتها المشتعلة حول وجهها:
ـ أيوه بسرعة.. عايزة ألحق مازن هناك..
أخبرتها علياء بالعنوان فانطلقت من فورها بدون أن تفسر أي من تصرفاتها لأختها وصديقتها فكل ما يعنيها أن تلحق به الآن.. فهي تحاملت على كبريائها واتصلت بدنيا لتعرف مواعيد وجوده لرؤية ابنته.. وكم كانت سعادتها عندما أخبرتها دنيا ببساطة:
ـ هو موجود دلوقتِ هنا..
ثم أردفت بحسم:
ـ هعطله على قد ما أقدر.. تعالي بسرعة وحلوا المشكلة.. لأن اللي قدامي ده مش مازن اللي عرفته أكتر من ست سنين..
وها هي تسابق الزمن للوصول إليه في منزل غريمتها مدركة أن أزمتها الأساسية معه هو وليست مع وقت وصولها ومكانه..
***********
تهالكت علياء بتعب على الأريكة الكبيرة التي يفترشها يزيد وعلي وهما يتشاجران معاً حول لعبة ما يلعبانها على البلايستيشن.. بينما أدهم يراقبهما بجذل.. سحبت ذراع اللعبة من يزيد وهي تلقي برأسها على فخذه هامسة:
ـ صاحبك مجنون..
ابتسم بشقاوة وهو يعبث بخصلاتها الطويلة ويحررها من عقدتها:
ـ بس مش أجن مني.. صحيح صاحبي مين فيهم؟..
صرخت علياء مستاءة من عبثه بشعرها بينما أنضم إليه أولاده في موجة من اللعب الصبياني كان الضحية بها شعر علياء الذي تناثر بجنون مما أثار جنون يزيد فقبض على خصرها هامساً:
ـ تعالي.. عايزة أحكي لك على موضوع مهم..
قبل أن توبخه على جنونه تعالى صراخ نادية وهي تبكي بشدة:
ـ لولو.. يزيد.. دم.. دم..
وطارت كالقذيفة لتستقر بين أحضان والدها باكية:
ـ بابا.. دم..
رمقها بذهول هلع.. "بابا".. و"دم".. الكلمتان في نفس الجملة..
كانت علياء الأسرع فتحركت بسرعة لتأتي بعدة الإسعافات التي لا تستغني عنها أبداً فعبث أطفالها لا ينتهي..
بدأت تمسح الدماء من وجه ابنتها وتطهر الجروح المنتشرة بوجهها هامسة بقلق غاضب:
ـ عملتِ ايه يا نادية؟..
أجابت الطفلة باكية:
ـ كنت بحلق دقني زي بابا..
كان ذلك دور يزيد ليهتف بها:
ـ ايه!!.. دقنك ايه؟.. أنتِ ازاي تعملي كده؟.. هو أنتِ عندك دقن عشان تحلقيها؟..
هزت الفتاة رأسها وهي تبكي:
ـ لا مش عندي.. الولاد بس.. ماما قالت كده..
غمغم يحاول التمسك بحبال الصبر:
ـ طيب ليه تعملي كده يا ندوش؟..
رمقته بعيون بلون السماء كعيني أمها تماماً:
ـ عشان أبقى ولد وتحبني زي رامي..
أسقط في يد يزيد وقد صفعه ما كانت علياء تحاول لفت انتباهه له وهو يعدها مرة تلو الأخرى بمراعاة مشاعر باقي أولاده وفوجئ بعلي يرد بعدم اقتناع:
ـ رامي تعبان يا ندوش..
هزت نادية رأسها برفض:
ـ لأ.. هو مش تعبان.. مش بياخد حقنة ولا دوا..
رمق يزيد علياء بنظرات مستغيثة.. ها هو ما حذرت منه يطفو على السطح.. علي ونادية يشعران بالغيرة من أخيهما المريض, بل يكذبان مرضه.. وصغيرته.. مدللته كادت أن تشوه وجهها الجميل لتستعيد حب والدها..
يا الهي زفر بخوف بينما يحتضن الصغيرة داخل صدره هامساً بألم:
ـ علياء..
تولت علياء الزمام على الفور.. فتحركت لترفع ولديها على ركبتيها:
ـ بصوا.. احنا هنلعب لعبة.. وبعدها نتكلم سوا..
ثم تناولت قطع من القطن الذي كانت تضمد به جروح ابنتها وبدأت تضعها بحرص داخل آذان أطفالها ثم وضعت قطعتين لنفسها وناولت قطعتين ليزيد ليفعل المثل, ففعل على الفور وقد استوعب فكرتها..
ظل الجميع على ذلك الوضع طوال ساعتين كاملتين.. بدأ الأطفال بعدهما بالتذمر والبكاء.. فهم غير قادرين على التواصل مع بعضهم أو حتى مع والديهما..
نزعت علياء قطع القطن ثم نظرت لابنائها بحنان:
ـ شوفتوا ازاي صعب الانسان يعيش من غير ما يسمع.. اهو ده بالظبط التعب اللي عند رامي.. عرفتوا ليه بابا بيخاف عليه؟.. مش لأنه بيحبه أكتر.. لأن رامي محتاج وجودنا وحمايتنا كلنا.. فهمتوا يا أولاد..
ارتمت نادية باكية بين أحضان والدها وهي تغمغم عن أسفها وحبها لرامي.. بينما هتف علي بعزم:
ـ رامي أخويا وأنا هحميه.. أنا قوي..
بينما اكتفى أدهم الصغير بكلمات متكسرة:
ـ دومه هب يامي "أدهومه بيحب رامي"..
مد يزيد ذراعه ليضم علياء بجوار ابنته الباكية وشفتيه تردد بخفوت:
ـ ربنا يخليكي ليا..
بينما انسابت دمعة غادرة من جانب عينيه...
*************
أزعج رنين جرس الباب المتواصل صبا التي جلست تطالع إحدى الكتب التربوية عن تربية الأطفال.. مبتعدة عن مجموعتها الخاصة من الروايات الرومانسية.. فيكفيها حالياً جنون حسن الذي يعصف بها في كل لحظة من اليوم تقريباً فهو لا يكف عن ارسال الرسائل أو المكالمات حتى ظنت أنه قد يخرج لها من شاشة الهاتف مخاطباً قلبها القاسي ليحن على ناسكه المسكين..
توجهت نحو باب الفيلا لتفتح الباب بنزق فمن سيأتي لزيارتهم في العاشرة ليلاً.. من المستحيل أن تكون نيرة فهي تركتها منذ أقل من ساعة لتتوجه لمنزل دنيا.. فمن يكون ذلك السخيف الذي...
ـ حسن!!!..
جاءت شهقتها الذاهلة لتقابلها بسمته الواسعة وقد اتكأ بكتفه على مدخل الباب يحمل ابنته على كتفه.. وعلى الكتف الآخر حقيبة تبدو خاصة بالطفلة.. وتعطيه مظهراً فكاهياً بلونها الوردي الرائق المناقض لرجولته النابضة..
لم تترك نفسها للذهول بل صرخت به غاضبة:
ـ أنت أكيد اتجننت!!.. ايه اللي جابك هنا؟.. وفي الوقت ده؟..
رفع حاجبيه بذهول مفتعل لاستقبالها الغاضب وردد بشقاوة وكأنها كانت تسأله عن أحواله:
ـ الله يسلمك يا حبيبتي.. كانت رحلة متعبة.. لسه واصل من ساعة, يا دوب حجزت الفندق.. وجيت عشان أطلب ايدك من عمي عامر..
ثم غمز بعبث:
ـ أنا مش هضيع لحظة زيادة.. لازم تكوني في حياتي.. ورسمي..


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-18, 08:29 PM   #40

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل السابع والثلاثون


ـ أنا مش هضيع لحظة زيادة.. لازم تكوني في حياتي.. ورسمي..
هتفت به ذاهلة:
ـ ايه!!..
اقترب برأسه منها وهو يخبرها ببطء وكأنه سيتهجأ حروفه:
ـ هـــــطــــلــــب... إيــــــدك..
توسعت عيناها بذهول وأخذت تحرك شفتيها عدة مرات محاولة تكوين أي كلمات لها معنى ولكن بلا جدوى.. تباً لحالة البلاهة التي تصيبها بحضوره..
وللدقة تصيبها فقط عندما يخصها بتلك النظرات الناعمة بعينيه والتي تشعرها باحتواء وأمان تام.. وكأنه يضمها بين جفنيه مبعداً عنها شرور الدنيا وآلامها..
هربت بعينيها منه محاولة قطع خيط التفاهم الذي يربطهما فمهما كانت حالة الغيبوبة التي تسببها لها نظراته وحتى لو قفز قلبها الآن مهللاً بعودته ورقصت أعماقها طرباً بعرضه, إلا أن عقلها سيسطر على الوضع فوراً نابذاً تلك المشاعر والأحاسيس والتي لا تسبب خلفها إلا الدمار والألم..
حاولت الرد عليه بقسوة وانهاء الأمر ليسبقها صوت والدها الذي أتى من خلفها مرحباً بحسن:
ـ مين؟.. حسن!.. معقولة!.. أهلاً.. أهلاً.. اتفضل يا بني..
ثم التفت إلى ابنته المسمرة في مكانها:
ـ ايه يا صبا!.. أنتِ سايبة حسن على الباب.. اتحركي يا بنتي خليه يدخل..
رفع حسن عينيه عنها بصعوبة عندما وصله صوت والدها.. فقد أغرقته نظرات عينيها التي توالت بها مشاعر شتى.. فرح.. شوق.. سعادة لتنقلب سريعاً وفجأةً إلى حزن وألم ورفض تام... رفض ميزه على الفور وأثار قلقه بقوة.. ولكنه لن يثنه عن عزمه.. هي له.. حتى لو اضطر لمحاربتها هي شخصياً لينال قلبها العاصي..
تحركت صبا مبتعدة عن الباب استجابة لكلمات والدها.. بينما تحرك حسن محيياً الرجل الأكبر سناً بمودة بالغة:
ـ أهلاً بحضرتك يا عمي.. أنا آسف أني جاي في وقت متأخر..
قاطعه عامر بمودة:
ـ ما تقولش كده يا حسن.. ده بيتك.. وأنت عارف معزتك عندي..
قالها الرجل بتأكيد وكأنه يحاول رفع الحرج عن حسن, بينما لمعت عينا صبا بتعجب فموقف حسن من نيرة قديماً وما فعله بها كان مؤلماً فكيف يستقبله والدها بكل الود والترحاب هكذا, ولكن ما لا تعلمه هو زيارة حسن لوالدها منذ سنوات وبالتحديد عند عودته من شهر عسله ليعتذر لعامر بشدة موضحاً له ما قامت به نيرة ونيتها لاتهام منى بالسرقة وتهديدها لها, شرح له محاولاته العديدة للتفاهم معها وما كان يقابلها من استمرارها في عِندها ومحاولة السيطرة والاستحواذ عليه.. أظهر عامر تفهماً حزيناً فهو كأب أراد لابنته زوج مثل حسن, ولكنه النصيب كما يقولون.. ولم ينسَ حسن يومها وهو يودع الرجل الأكبر أن يهمس له بصدق عشق مازن لنيرة.. وأن ما فعله بالحفلة لم يكن بناء على خطة مسبقة أو اتفاق ما, ولكنه تحرك يدفعه قلبه وعشقه لنيرة وأن ذلك سبب أكثر من كافي لاستحالة ارتباط حسن بنيرة..
لمح حسن نظرات الدهشة والامتعاض بعينيها الجميلتين وفهم ما يمر بعقلها بعدما لمست دفء ترحاب أبيها له, ربما ظنت أنه يجدر به إلقائه في الطريق بدلاً من دعوته إلى العشاء.. تلك الدعوة التي كان أبوها يتفوه بها لتوه وقبل أن تخرج كلمة واحدة من شفتيها رداً على دعوة والدها فوجئت بحسن يضع طفلته بين يديها برقة شديدة, ثم يتبعها بالحقيبة الوردية ليعلقها على كتفها.. بينما تنطلق كلماته ببراءة شديدة:
ـ لو سمحتِ يا صبا تخلي بالك من منى.. عايز عمي عامر في كلمتين..
ثم رفع عينيه نحو الرجل مرتبكاً:
ـ ده بعد إذنك.. طبعاً يا عمي.. ويا ريت نأجل دعوة العشا لمرة تانية..
أومأ عامر موافقاً وتقدم حسن نحو غرفة المكتب بينما حسن يتبعه بصمت ونظراته معلقة بتلك التي تحمل ابنته برقة شديدة وقد فتن بذلك المشهد وبأعماقه وعد نفسه أن تكون صبا ببيته في أقرب وقت.. ظهر تصميمه على ملامحه وتبادل معها النظرات وكأنه يخبرها..
"نعم.. سأفعلها ولن أتراجع.. ستكونين لي"..
بينما نظراتها تصرخ بعنف وتوسل في وقت واحد..
"مـــــــــــــــــــــــ� �جـــــــــــــــــنووووو� �وون"..
دلف عامر يرافقه حسن إلى غرفة المكتب وأغلق الباب بهدوء ودعا حسن للجلوس وقد ظن لوهلة أنه يريده كوسيط ليعود إلى العمل بالمجموعة.. ولكن كلمات حسن فاجئته عندما أخبره بهدوء وثقة:
ـ عمي.. أنا كنت جاي عشان أطلب من حضرتك إيد صبا..
توسعت عينا عامر بذهول وارتسم العجب بكل إماراته على وجهه.. فهو لم يظن للحظة أن ذلك سبب زيارة حسن.. حتى عندما استشعر التوتر الذي أصاب ابنته منذ أن رأت حسن بالباب.. لم يفكر في امكانية تبادلهما لأي مشاعر سوى النفور والكراهية.. فصبا أخت نيرة.. هل من الممكن أن يكون حسن هو السبب وراء شرود ابنته الصغرى مؤخراً..
قبل أن يرد عامر بكلمة تعبر عن ذهوله.. عاد حسن ليتولى دفة الحوار:
ـ عمي.. أنا عارف حضرتك بتفكر في ايه دلوقتِ.. بس اسمح لي أوضح شوية حاجات..
قاطعه عامر بهدوء:
ـ تطلب ايدها!.. كده بدون أي مقدمات؟..
أومأ حسن:
ـ زي ما كنت بقول لحضرتك.. في نقط لازم أوضحها.. أولاً.. أنا كل ارتباط لي بباريس أنهيته تماماً.. وأنا قدام حضرتك راجل حر.. وأيوه أنا بطلب إيد صبا.. أنا طول عمري مش بحب اللف أو الدوران على الحقيقة.. والحقيقة أني عايز صبا تكون زوجة ليا.. ده غير أني دلوقتِ أب.. عندي بنت صغيرة ومتفهم خوف حضرتك.. أنا بحاول أفكر لو أنا مكان حضرتك دلوقتِ.. ممكن أقوم اضربني مثلاً..
ابتسم عامر ليشاركه حسن الابتسام وهو يتخيل من يحاول طلب منى للزواج مستقبلاً.. قبل أن يكمل:
ـ عمي.. أنا مش طالب ارتباط في التو واللحظة.. عارف كويس أن صبا محتاجة مني قوة اقناع.. يمكن الظروف كلها ضدي.. لكن أنا مُصر أنها تكون مراتي.. أنا بس حبيت آخد موافقة حضرتك.. لأني ما اتعودتش اعمل حاجة في الضلمة.. وأنا عايز أقرب من صبا عشان...
قاطع عامر كلماته بسؤال حاسم:
ـ بتحبها؟.. بتحب صبا بنتي؟..
أومأ حسن وقد ظهرت مشاعره العاصفة بعينيه وقد عجز عن اخفائها:
ـ بحبها.. بحبها بكل عنفوان ونضوج وجنون رجل عدى التلاتين..
ارتسمت ابتسامة غامضة على شفتي عامر ولكنه أعجب بصراحة حسن الذي استوعب مخاوفه كأب على الفور.. وعاد عامر يردد:
ـ عدى التلاتين.. بالظبط.. أنت عارف فرق السن قد ايه؟..
ابتسم حسن بتفهم:
ـ 11 سنة..
عاد عامر يردد:
ـ ايوه يا حسن.. 11 سنة.. مش شايف أنهم كتير؟..
ابتسم حسن وأجاب بثقة:
ـ مع المشاعر اللي جوايا لها.. مش هيكون السن مشكلة.. صبا رغم نضوج تفكيرها اللي بيعدي سنها.. وده شيء لمسته في تصرفاتها إلا أنها جواها طفلة محتاجة حب الزوج وحنان الأب.. وأنا أوعد حضرتك أني أقدمهم لها...
ارتسمت على وجه عامر علامات الشجن والسعادة معاً لما لمسه من تفهم وادراك من حسن لطبيعة صبا الهشة.. فهو يتفهم نفسية ابنته الخائفة من الحب وجنونه وآلامه.. يدرك انغلاقها على نفسها وابتعادها عن أمور القلب فهي ترى فشل زواج والديها رغم ما تلمسه من عشق يطحن قلبيهما ومعاناتها لتتأقلم مع ظروف حياتهما الغريبة والشائكة وهي ترى ذبول والدها وانهزامه أمام حب تملكه وهو لم ينجح في التعايش معه, يقابله هروب فريدة الدائم من العودة إلى مصر أو حتى اللقاء به والتظاهر بتقبل وجوده.. وأخيراً عاشت مع نيرة معانتها مع زوجها المجنون.. نماذج شائكة تنفرها من الحب والمشاعر بشكل عام..
ارتسمت ابتسامة مؤازرة على شفتي عامر وهو يردد:
ـ صبا عنيدة.. مش هتسلم بسهولة..
تنهد حسن بارتياح وهو يتسلم موافقة عامر الضمنية قبل أن يردد ببساطة:
ـ وأنا مش هستسلم أبداً ومش هرتاح إلا وهي في بيتي..
صمت للحظة قبل أن يردف بتصميم:
ـ ممكن أتكلم معاها؟.. نص ساعة بس..
أومأ عامر موافقاً وتحرك من خلف مكتبه ليستدعي صبا وقبل أن يخرج ربت على كتفي حسن:
ـ أنت غلطت بس في نقطة واحدة.. أنا كأب دلوقتِ مش عايز اضربك, بالعكس.. عايز أسلم عليك.. وأقولك.. أني ما اتمناش لبنتي زوج أفضل منك..
ثم تحرك ليسلم عليه بالفعل مردداً:
ـ صبا.. أمانة بين ايديك وأنا مطمن عليها معاك.. خد منها موافقة مبدئية.. ونقرى الفاتحة الليلة..
ابتعد عامر سريعاً وقد ترقرقت الدموع بعينيه واستدعى صبا التي أتت مهرولة حينما وصلها صوت والدها المشحون بمشاعر عدة وقد ظنت أن حسن أثار ضيقه, بينما عامر ما أن لمح معالم وجهها المهددة لحسن والتي تنذر بقرب ارتكابها لجريمة قتل المسكين, حتى ابتسم بداخله متمنياً التوفيق لصهره الشاب والتفت نحوه بغمزة هامسة:
ـ الحرب ابتدت..
بينما ابتسم حسن بحنان وهو يرى ابنته وقد تعلقت بعنق صبا بينما أناملها الصغيرة تعيث فساداً في الخصلات الكستنائية الطويلة..
التقت عامر الفتاة الصغيرة من بين ذراعي ابنته وهو يهمس لها بإغاظة:
ـ تعالي يا شقية عشان اتعرف على حفيدتي الجديدة..
خرج مسرعاً مع منى الصغيرة وترك صبا بمواجهة حسن الذي اشتعلت عينيه بمشاعر عاصفة وهو يهمس:
ـ محظوظة بنتي!..
كتفت صبا ذراعيها وهي تقف مواجهة لحسن ونظرات التحدي تنطلق من عينيها.. فتقدم منها بهدوء ليركز عينيه ذات اللون الغريب عليها وقد رقت نظراته للغاية ولكن لم يختفِ منها التصميم فأخفضت عينيها هرباً من مشاعره المستعرة والتي تكاد تنطق بها عينيه لتفاجئ به يفك يديها ويتناول كفها جاذباً اياها لتجلس بجواره على الأريكة الواسعة المتصدرة الغرفة, بينما بداخلها تنتفض فزعاً من تأثيره المخدر على قوة إرادتها ومقاومتها, فهي كانت تخطط للصراخ عليه بل وطرده ولكنها تجد نفسها الآن جالسة بجواره ورموشها مسدلة خجلاً مما تراه في عينيه وكفها يرقد هانئاً سعيداً بين كفيه الكبيرين..
حاولت استرجاع قوتها المسلوبة لتهتف بصوت خرج ضعيفاً برغم محاولتها وضع كل ما تملك من شراسة به:
ـ أنا مش موافقة اتجوزك!
شد على كفها فالتفتت لتواجهه رغماً عنها وهو يسألها:
ـ ليه؟..
قطبت وهي تردد:
ـ هو ايه اللي ليه!.. مش عايزة.. يعني مش عايزة!
ابتسم وهو يستشعر شراستها ويسأل مستفسراً:
ـ الرفض ده بشكل عام ولا موجه لي أنا بالذات؟..
رمشت بعينيها بارتباك وهي تتمتم:
ـ أنا.. أنت..
قاطعها:
ـ أنا أنهيت كل ارتباطاتي في باريس قبل ما آجي يا صبا..
جذبت كفها منه بعنف ونهضت تبتعد عن تأثيره عليها وقد تلبستها شراستها بقوة بعدما تذكرت زوجته الجميلة:
ـ ومراتك؟.. بتعتبرها كمان مجرد ارتباط.. و.. أنهيته؟!..
نهض بعنف مشابه وهو يجذبها لتلتفت له وبرقت عيناه بلون ساحر وهو يهتف بكل ما يمتلك من هدوء:
ـ علاقتي بلورا بكل تفاصيلها, بدايتها ونهايتها.. مش موضوع مناقشة.. وياريت تثقي بكلمتي أما أقولك.. أن كل علاقة ليا بباريس انتهت.. وللأبد..
برقت عيناها بغضب ليكمل هو برقة:
ـ صبا.. أنا وعدتك أني هرجع.. وأجلت وقتها الكلام لأنه ما كانش من حقي أني أقول كل اللي جوايا... لكن..
صمت للحظة وهو يجذبها قليلاً لتواجه ويرفع بأنامله رأسها التي تخفضها بعناد لتواجهه عيناها الرماديتان الحائرتان وتذوب النظرات في مواجهة رقيقة.. يهمس هو بعدها:
ـ دلوقتِ بس بقى من حقي أتكلم.. وأنتِ تسمعيني.. بحبك يا صبا..
ارتعش صوته وهو ينطقها.. رعشة مشحونة بكل ما تحمله أعماقه من مشاعر.. رعشة وليد يستقبل أنفاس الحياة للمرة الأولى فتصرخ رئتاه معبرة عن خوفه وفرحه معاً.. بينما هي ارتدت للخلف وقد صعقت لتصريحه المباشر والواضح.. واتسعت عيناها برعب وهي تستشعر صدقه واصراره وثقته وهو يردف:
ـ الوقت كان قصير, صح.. ما اتقبلناش واتكلمنا إلا كام مرة تتعد على الصوابع, برضوه صح.. لكني متأكد زي ما أنتِ متأكدة أنه في مشاعر بتجمعنا..
قاطعته بضعف وهي تبتعد بوجهها عنه:
ـ لا.. أنت غلطان..
ابتسم وهو يلف وجهها ليقابل عينيها ويردد بهمس:
ـ صبا.. أنا ممكن أخرج من الباب ده.. وأوعدك أني مش هزعجك أبداً.. لو حسيت فعلاً أنك رفضاني أنا..
هتفت بقوة تحاول استرجاع عنفوانها:
ـ أنا...
قاطعها:
ـ أنتِ ايه!.. مش عايزاني؟.. رافضة حبي؟..
رفعت عينين حائرتين له وهي تردد:
ـ أنا...
عاد ليقاطعها وهو مستمر بمطاردته الشرسة لقلبها العنيد:
ـ أنتِ همسة ناعمة غطت على كل أصوات الألم في حياتي..
هزت رأسها برفض وهي تردد:
ـ لا.. لا.. أنا..
ليقاطع رفضها:
ـ أنتِ ضحكة حلوة دخلتِ قلبي قبل ما أعرف صاحبتها.. نقطة مياه نزلت على قلب عطشان للحب.. نسمة ناعمة مرت على روح كانت قربت تتحول لجماد من القسوة اللي بتحاول تتظاهر بيها.. رؤية صافية مسحت كابوس كنت باتخبط فيه قبل ما يبلعني ويضيعني نهائي..
رمشت بعينيها عدة مرات تحاول حبس دموع تصر بقوة على ترك مغادرة حاجز رموشها.. لتسمعه يكمل:
ـ أنا عايزك ومحتاجك وبحبك.. وهحاول ما استعجلش مشاعرك.. ولو أن قلبك بيقولي أنه مش هيرضى بعذابي..
عادت تهز رأسها محاولة رفض كلماته:
ـ أنا..
لم تستطع التفوه بالمزيد وهي ترى تألق عينيه وهو يكمل جملتها:
ـ أنتِ اللي زماني صالحني بيكي...
عندها هطلت دموعها بلا إرادة منها وجذبت يديها منه بعنف قبل أن تهرب من أمامه بسرعة تاركة اياه مسمراً بذهول من هروبها السريع.. الذي تلاه دخول والدها عليه وهو يردد:
ـ طريقك صعب يا حسن..
ليجاوبه حسن بتصميم:
ـ نقرى الفاتحة؟..
ضحك عامر:
ـ وأنت أخدت موافقتها؟..
ابتسم حسن:
ـ على الأقل هزمت رفضها..
ربت عامر على كتفه بمودة:
ـ وده انجاز ما تستهونش به..
أومأ حسن موافقاً:
ـ طيب هستأذن أنا دلوقتِ.. ياريت حضرتك تجيب منى..
ضحك الرجل:
ـ منى نامت من زمان.. ايه رأيك تمر الصبح تاخدها.. وبالمرة نفطر كلنا سوا..
رافقت كلمات عامر غمزة صغيرة ليضحك حسن بعدها وهو يبدي موافقته ويخرج مودعاً عامر بامتنان..
وبعد خروج حسن توجه عامر إلى هاتفه ليضغط رقم يحفظه عن ظهر قلب رغم عدم استخدامه له, وما أن وصله صوت فريدة حتى قال مباشرة:
ـ صبا محتاجة لكِ..
وصله صوتها بسؤال:
ـ حسن؟..
ليتساءل هو بدوره:
ـ حسن حكى لك؟..
جاءته اجابتها المذهلة:
ـ لا.. صبا..
وقبل أن يجيبها كانت تخبره بحسم:
ـ هاجي على أول طيارة.. مع السلامة..
وأغلقت الهاتف بسرعة قبل أن يتفوه بكلمة واحدة ولكنه بأعماقه أدرك أن حسن قطع شوط كبير لقلب ابنته العنيد.. إذ لم يكن استحوذ عليه بالفعل..
**************
جلست نيرة بسيارتها وهي تنقر بأظافرها على المقود بعصبية شديدة وأمامها انتصبت بوابة معدنية ضخمة.. أخذت تتأمل البوابة لفترة وهي تدرك أن خلفها يكمن من مزق قلبها قطعاً وبطريقه لقتل روحها وتمريغ كرامتها في وحل غزواته النسائية التي تشعل قلبها غيرة وألماً.. هل تصرفها بالحضور ومواجهته صحيح؟.. كيف سيستقبلها؟.. وهل سيوافق على استقبالها من الأساس؟..
حسمت أمرها أخيراً وهي تخبر نفسها أنها جاءت بناءً على دعوة صاحبة الفيلا, وهو ضيف هنا مثلها تماماً.. حتى ولو كان هنا لرؤية ابنته..
تدعو وتبتهل فقط ألا يرحل بدون أن يسمعها.. ضغطت على بوق السيارة لتفتح البوابة الضخمة وتدلف بسيارتها للداخل لتجد دنيا بانتظارها وهي بكامل أناقتها, مر بذهنها موقفاً مشابهاً عندما واجهت دنيا بمكتبها بعد علمها بزواجها من مازن, ولكن الفارق تلك المرة كان بداخلها هي.. فرغم أن أسلوبها في ارتداء ملابسها لم يتغير ومازالت تبحث عما يلفت النظر ويسبب الابهار الدائم, إلا أن أعماقها اختلفت, بل نضجت وهي ترمق السيدة الراقية أمامها بتقدير واحترام تتعامل به ربما للمرة الأولى:
ـ مساء الخير يا مدام دنيا..
قاطعتها دنيا وهي ترحب بها وتدعوها للدخول:
ـ دنيا بس.. ما فيش داعي للألقاب.. اتفضلي.. مازن جوه في أوضة عشق..
اصطحبتها دنيا لداخل الفيلا الواسعة والمكونة من دور واحد واسع جداً ملحق به حديقة وحوض للسباحة متوسط الحجم...
وقفتا معاً أما باب الغرفة المفتوح لتلتمع عينا نيرة وهي تراقب مازن وهو يفترش الأرض مع ابنته محاولاً تشجيعها بعدما سقطت على وجهها وهي تحاول تعلم الحبو.. فرفعها بين يديه يمسح دموعها ويتمتم لها بكلمات هامسة حولت دموعها لابتسامة سعيدة قبل أن يضعها أرضاً ويقلد حركاتها في الحبو والسقوط عدة مرات لتنطلق ضحكاتها البريئة وتعاود محاولتها مرة أخرى وبنجاح..
جاءت همسة دنيا الدامعة تعبيراً عما يجول بذهن نيرة:
ـ هو أب رائع.. رائع جداً في الحقيقة..
تحكمت دنيا بدمعتها قبل أن تسقط ويساء فهمها, أما نيرة فقد عجزت عن كبح دمعة ندم سقطت من جانب عينها وهي تتحسس بطنها بحنين هامس:
ـ أب رائع.. وزوج أروع..
وكأن همستها وصلته أم ربما عطرها الذي تألفه حواسه جميعاً فالتفت فجأة لتتقابل العيون بصدمة..
شهقت نيرة بخوف وهي تلمح التماع القسوة في مقلتيه قبل أن يتوجه بنظرات لائمة نحو دنيا.. وينهض رافعاً ابنته بين ذراعيه وممسداً ملابسه في هدوء مستفز قبل أن يتوجه نحو دنيا مردداً بامتعاض:
ـ هاجي أشوف عشق بكره.. يظهر أنه عندك ضيوف..
تحرك ليخرج من الغرفة فتمسكت نيرة بذراعه هامسة:
ـ مازن.. أنا جاية عشانك..
تجاهلها مازن تماماً ليلتفت لدنيا ساخراً:
ـ أنتِ بقيتِ توفقي راسين في الحلال ولا ايه!
شهقت نيرة بحزن بينما تجاهلته دنيا وهي تسحب ابنتها من بين ذراعيه هاتفة بغضب:
ـ أظن أنك مش هتخسر حاجة لو سمعتها..
واستطردت وهي تقول بلهجة ذات معنى:
ـ كفاية أنها جت لحد هنا.. وأنت عارف كويس أن ده مش سهل.
خرجت تحمل طفلتها الصغيرة تاركة لهما الخصوصية اللازمة, فتحرك مازن مواجهاً نيرة ببرود:
ـ قولي اللي عندك..
حاولت التماسك قليلاً لترتب كلماتها فهي ما تبعده كل مرة وتنفره منها.. مسحت وجنتيها بتوتر وهي تهمس:
ـ مازن.. أنا بحبك..
حركة انقباض فكيه معاً هي ما أخبرتها أنه سمع تصريحها الجليل.. أما كل شيء آخر به فقد تجمد تماماً.. فانطلقت كلماتها بلا رابط:
ـ والله بحبك.. أنا عملت اللي عملته عشان نرجع لبعض..
رفع حاجبه بتساؤل:
ـ وبعدين؟..
هزت رأسها بحيرة:
ـ وبعدين ايه؟.. قصدك ايه؟!!
اقترب منها ليمسك ذراعها بعنف:
ـ وبعدين رجعنا لبعض؟.. ولا السدود زادت سد.. والجروح زادت جرح..
سقطت دموعها الحبيسة وهي تسمع كلماته الجريحة:
ـ أنتِ بتحبيني.. برافو.. وصلتِ للنتيجة دي لوحدك؟.. المفروض أنا أعمل ايه؟.. أجري عليكِ وآخدك في حضني وأقولك وأنا كمان.. ونعيش في تبات ونبات وننسى كل اللي فات..
ضحك بسخرية وهو يسمع نفسه.. ثم صرخ بغضب:
ـ وأنا كمان بحبك يا نيرة.. بحبك من سنين.. سنين طويلة.. مش هقولك اتحملت واتحملت.. لا.. هقولك أنا خسرت.. خسرت أخويا.. خسرت عزة نفسي.. خسرت كرامتي.. خسرت كبريائي كراجل..
تهدج صوته وهو يهتف:
ـ خسرت ابني.. ورغم كده.. زي الأهبل سامحت وغفرت.. مش بقولك خسرت كبريائي!.. وأنتِ دلوقتِ جاية تراضيني وتطبطبي عليا بكلمتين.. "أنا بحبك".. وأنا بقى المفروض افرح واسامح.. لكن للأسف خلاص.. ما بقاش عندي اللي أخسره عشان أغامر وأصدقك تاني.. واقعد انتظر الطعنة يا ترى هتيجي منين المرة دي.. خلاص.. مازن انتهى.. انتهى..
صرخت به وهي تتمسك بذراعه قبل أن يبتعد:
ـ والستات اللي بتتجوزهم هيرجعوا لك كرامتك وكبريائك اللي أنا ضيعتهم؟..
التفت لها ساخراً:
ـ لا.. دول عشان يخسروكِ أنتِ كرامتك..
ابتعدت عنه كالملسوعة وهي تشهق:
ـ مازن!.. أنت بتقول ايه؟!
ـ شوفتِ وصلتيني لايه؟.. بقيت اتفنن عشان أجرحك..
شهقت مرة أخرى بألم قبل أن تهتف به:
ـ بتعمل كده عشان تجرحني!!.. تدمر سمعتك وصحتك واسمك عشان تجرحني!..
هز رأسه بألم:
ـ مش بقولك ماعدتش عندي اللي أخسره..
ليفاجئه صوت دنيا الغاضب:
ـ وبنتك يا مازن!.. عايز تخسرها هي كمان مع اللي خسرته؟.. ما فكرتش الناس هتقول ايه على أبوها..
قاطعها وقد ارتسمت الشراسة بعينيه:
ـ أبوها بيتجوز.. شرعي وفي النور.. مش عيب ولا حرام!..
شهقت المرأتان معاً ليكمل مازن بغضب:
ـ ومن امتى يا دنيا بتوقفي تسمعي من ورا الأبواب؟
اقتربت منه وهي تهتف بغضب:
ـ صوتكوا هو اللي وصلني وأنا في الجنينة.. فجيت أشوف ايه آخر مغامرات أبو بنتي..
بينما تمتمت نيرة باعتذار مبهم رفع مازن حاجباً ساخراً وهو يحرك نظراته بينهما:
ـ أنتِ قولتيها.. أبو بنتك.. وما حدش وصي على تصرفاتي..
وأشار لنيرة:
ـ وبالنسبة للمدام.. لو عايزة علاقتنا الزوجية الميمونة تنتهي, كل اللي عليها أنها تطلب...
شهقت نيرة برفض:
ـ لا.. لا يا مازن.. أوعى..
لمعت عيناه بحنين مؤلم سرعان ما أخفاه وهو يتمتم:
ـ يبقى أنتِ اللي غاوية عذاب..
ارتجفت نيرة بألم بينما تتساقط دموعها بلا توقف, فأسرعت دنيا لتحيطها بذراعيها مهدئة بينما يصلها صوت مازن محذراً:
ـ ما تقربيش منها قوي.. ممكن تكون الطعنة الجاية من نصيبك..
صرخت به دنيا مؤنبة:
ـ كفاية يا مازن.. احنا مش ملايكة عشان تحاسبها بالطريقة دي..
هتف مازن بغضب:
ـ بس هي شيطانها دمر كل حاجة حلوة جوايا..
ابتعدت نيرة عن ذراعي دنيا بعنف لتصيح به:
ـ لا يا مازن.. كفاية بقى.. كفاياك ظلم.. أنت بتحاسبني وكأني لوحدي الغلطانة.. بتنسى أنك ارتبطت بيا في أضعف لحظاتي.. أخدت دور الشهم والمنقذ.. ومصمم تطالبني أني أدفع التمن.. كنت بتحاسبني على كل كلمة.. كل نظرة.. كل غلطة مهما كانت بسيطة.. لازم تكبرها.. طبعاً.. ما أنت قدمت وقدمت.. وأنا لازم أتحمل غضبك وشكك واسكت.. كل ده لأن جواك مفتقد الثقة بنفسك.. و..
قاطع كلماتها صفعة قوية على وجنتها جعلتها تصمت تماماً بينما كتمت دنيا شهقتها بكفها وهي ترى مازن يصرخ بغضب وعيناه قد اتسعتا بجنون واحتقن وجهه بشدة:
ـ كفاية.. كفاية قلب حقايق.. اللي يسمع كده يقول أنا اللي كنت بفرض نفسي عليكِ.. كفاية جرح وتجريح بقى.. جروحك جوايا ما بتلحقش تطيب قبل ما تقابليني بجرح جديد..
التفت يوليها ظهره وهو ينظر لكفه الذي صفعها به للتو بغضب واشمئزاز وكره وهو يردد:
ـ أنا عمري ما مديت إيدي على واحدة ست..
قبض كفه بغضب وهو يتمتم:
ـ خسرت كل حاجة.. حتى نفسي.. حتى نفسي.. بس كفاية قوي لحد كده.. كفاية..
أغمض عينيه بقوة ليلف رأسه نحو نيرة المنكمشة على نفسها هامساً بحسم:
ـ نيرة.. أوقات كتير بيكون الحب لوحده مش كفاية.. أنتِ طالق.. طالق.. طالق..


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:31 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.