آخر 10 مشاركات
قــصـــة قــــســـم وهـــــرة *مميزة ومكتملة* (الكاتـب : عيون الرشا - )           »          كبير العائلة-شرقية-للكاتبة المبدعة:منى لطفي(احكي ياشهرزاد)[زائرة]كاملة&روابط* (الكاتـب : منى لطفي - )           »          على أوتار الماضي عُزف لحن شتاتي (الكاتـب : نبض اسوود - )           »          عندما تنحني الجبال " متميزة " مكتملة ... (الكاتـب : blue me - )           »          وانفرطت حبات العُقد ( 1 ) سلسلة حبات العقد * مميزة و مكتملة* (الكاتـب : Nareman fawzy - )           »          [تحميل] جنون المطر ( الجزء الأول) للكاتبة الراااائعة/برد المشاعر(مميزة) (الكاتـب : فيتامين سي - )           »          ليلة مع زوجها المنسي (166) للكاتبة : Annie West .. كاملة (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          فَرَاشة أَعلَى الفُرقَاطَة (1) .. سلسلة الفرقاطة * متميزه و مكتملة * (الكاتـب : منال سالم - )           »          همسات حروف من ينبوع القلب الرقراق..(سجال أدبي)... (الكاتـب : فاطمة الزهراء أوقيتي - )           »          [تحميل]أبي أنام بحضنك وأصحيك بنص الليل وأقول ما كفاني حضنك ضمني لك حيل|لـ ازهار الليل (الكاتـب : Topaz. - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 02-09-20, 12:29 AM   #361

آلاء الليل

? العضوٌ??? » 472405
?  التسِجيلٌ » May 2020
? مشَارَ?اتْي » 477
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
?  نُقآطِيْ » آلاء الليل has a reputation beyond reputeآلاء الليل has a reputation beyond reputeآلاء الليل has a reputation beyond reputeآلاء الليل has a reputation beyond reputeآلاء الليل has a reputation beyond reputeآلاء الليل has a reputation beyond reputeآلاء الليل has a reputation beyond reputeآلاء الليل has a reputation beyond reputeآلاء الليل has a reputation beyond reputeآلاء الليل has a reputation beyond reputeآلاء الليل has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   sprite
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي


اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة همسةبيجونيا مشاهدة المشاركة
حبيباتي كتيييير خجلانة منكن...الفصل الأخير على وشك الانتهاء...بصراحة لم أتعب من قبل في كتابة أي فصل مثلما تعبت في هذين الفصلين...لذلك محتاجة رأيكن هل تفضلن أن أقوم بتنزيل الفصل ما قبل الأخير أم ننتظر قليلا بعد فأنا أوشكت على الانتهاء من كتابة الفصل الأخير بخاتمته ومراجعته؟؟...مع العلم أن الفصلين معا شيء آخر مثلما أخبرتكن من قبل...
ولكن الرأي لكن هذه المرة!!
في انتظاركن
دمتن بخير...واشتقت لكم جداااا جداااا
خلينا نصبر معليش و انت الأدرى لو شايفة انه الفصلين معا أفضل نحن معك و منتظرينك على أحر من الجمر 😘😘😘😘😘😘😘😘😘😘😘


آلاء الليل غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-09-20, 12:34 AM   #362

فاطمة علوش

? العضوٌ??? » 426995
?  التسِجيلٌ » Jul 2018
? مشَارَ?اتْي » 400
?  نُقآطِيْ » فاطمة علوش is on a distinguished road
افتراضي

لا عطينا تصبيرة الاحداث ولعت

فاطمة علوش غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-09-20, 03:38 AM   #363

Rosemary Baghdad

? العضوٌ??? » 351689
?  التسِجيلٌ » Aug 2015
? مشَارَ?اتْي » 143
?  نُقآطِيْ » Rosemary Baghdad is on a distinguished road
افتراضي

كملي كل الفصول مع الخاتمة و نزليها، بالانتظار

Rosemary Baghdad غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-09-20, 11:09 PM   #364

انجيليك

? العضوٌ??? » 445396
?  التسِجيلٌ » May 2019
? مشَارَ?اتْي » 129
?  نُقآطِيْ » انجيليك is on a distinguished road
افتراضي

نصبر مادام راح يكون هوايه
بس لا تخلينه ننتظر هوايه متحمسين جداً


انجيليك غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 05-09-20, 08:30 AM   #365

Shadwa.Dy

? العضوٌ??? » 418619
?  التسِجيلٌ » Feb 2018
? مشَارَ?اتْي » 627
?  نُقآطِيْ » Shadwa.Dy has a reputation beyond reputeShadwa.Dy has a reputation beyond reputeShadwa.Dy has a reputation beyond reputeShadwa.Dy has a reputation beyond reputeShadwa.Dy has a reputation beyond reputeShadwa.Dy has a reputation beyond reputeShadwa.Dy has a reputation beyond reputeShadwa.Dy has a reputation beyond reputeShadwa.Dy has a reputation beyond reputeShadwa.Dy has a reputation beyond reputeShadwa.Dy has a reputation beyond repute
افتراضي

عم نستنى ... الاحداث اكيد رح تكون رائعه
الله يقويكي و يعطيكي العافية


Shadwa.Dy غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 05-09-20, 06:41 PM   #366

furaat
 
الصورة الرمزية furaat

? العضوٌ??? » 343846
?  التسِجيلٌ » May 2015
? مشَارَ?اتْي » 407
?  نُقآطِيْ » furaat is on a distinguished road
افتراضي

يعطيكي العافية حبوبتييي ماتتأخري عليناااا عم نستناكي على نااار يا مبدعة 🥺💗😍

furaat غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 08-09-20, 11:39 PM   #367

فاطمة علوش

? العضوٌ??? » 426995
?  التسِجيلٌ » Jul 2018
? مشَارَ?اتْي » 400
?  نُقآطِيْ » فاطمة علوش is on a distinguished road
افتراضي

بانتظار فصول اليوم يا مبهرة

فاطمة علوش غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 09-09-20, 12:47 AM   #368

همسةبيجونيا
 
الصورة الرمزية همسةبيجونيا

? العضوٌ??? » 447118
?  التسِجيلٌ » Jun 2019
? مشَارَ?اتْي » 179
?  نُقآطِيْ » همسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فاطمة علوش مشاهدة المشاركة
بانتظار فصول اليوم يا مبهرة
تسلمي يا جميلة...والفصول جاهزة وسأقوم بتنزيلها قريبا


همسةبيجونيا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 09-09-20, 05:34 PM   #369

همسةبيجونيا
 
الصورة الرمزية همسةبيجونيا

? العضوٌ??? » 447118
?  التسِجيلٌ » Jun 2019
? مشَارَ?اتْي » 179
?  نُقآطِيْ » همسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond repute
Rewitysmile10 رواية لحن مفقود(الفصل التاسع وثلاثون)

الفصل التاسع وثلاثون
*****************

علمني حبكِ..
كيف الحبُّ يغير خارطة الأزمانْ..
علمني أني حين أحبُّ..
تكف الأرض عن الدورانْ..
علمني حبك أشياءً..
ما كانت أبدًا في الحسبانْ..
نزار قباني

تضعك الحياة في مواقف تجعلك تنظر لنفسك من منظور آخر...وكأنها تجبرك على الوقوف أمام مرآة روحك كي ترى ما خفي عنك لوقت طويل...وحين تكتشف وترى بنفسك المحجوب وقتها تلعن تلك المعرفة وتتمنى من كل قلبك أن تعود لنقطة الجهل...أن تكون على الهامش ربما...طالما الدور الرئيسي لا يليق بك ولا تجد القدرة على استيعابه.
حجب حقيقة مُرة عن أحبائك لهو أمر شديد النبل والتضحية...حيث إنه ضحى بالكثير من أجل هذا الأمر...فهو أراد دفن تلك الحقيقة المؤلمة عن الجميع وخاصة هي...هي من تعتبر أخاه مالك قلبها الأول ولن يستبعد أن يكون الأخير..أن يحطم صورته أمامها...بل أن يحطم الصورة المحفورة في قلبها وعقلها...تلك الصورة التي جمعتهما معا...ففي وقتها ستتحطم هي أيضا...وحطامها تلك المرة سيكون شر تحطم...
لم يعرف كيف أكل الطرقات بسيارته!!...ولم يحسب كم إشارة قام بكسرها!!...وشريط يمر بعشوائية لعينة أمام أنظاره...شريط يتوقع ما حدث...والصورة كانت مؤلمة على قلبه وعقله...يشعر بالتفتت والضياع...يشعر بالعجز والفشل المخزي لأنه أخفق في حماية سر مصيره كان الدفن للأبد...
بهاتفه أخذ يرن على الرجل الذي أبلغه بالأمر...ولكن جنونه زاد أضعافه حين انتهى الخط ولم يرد على مكالماته...ضرب فوق المقود بعنف شرس...ثم أمسكه بكفيه كي يتحكم في الرعشة التي اجتاحت جسده بالكامل...اتسعت عينيه بذعر حقيقي...ولسانه يردد بلا توقف دعاء بأن يكونوا استطاعوا منعها عن هذا الأمر...كيف فعلتها؟؟...بل كيف تخطت كل الدفعات التي وضعها حولها وتخطت السرية التامة حول هذا الموضوع!!!...
الآن وبعد الاستفاقة من الصدمة يأتي الإدراك...إدراك مصحوب بذهول مشتعل...وسؤال واحد يتردد بلا هوادة في ذهنه...وهو...كيف فعلت هذا؟؟؟...
************************************************** ************************************************** *******************************
كان يركض بكل ما تحمله الكلمة من معنى بعدما ترجل من سيارته بسرعة البرق...صرخ في الجميع أثناء ركضه تقريبا...وكل ما يراه أمامه هو معاناتها وصراخها المرير وخاصة حين تتحدث تلك المجنونة بما لا يحمد عقباه...
السلطة كانت ممنوحة له فقط بتجاوز الجميع والوصول إليها...فهي الآن تقيم في مصح علاجي حتى يأتي موعد محاكمتها الخاصة...وحتى هذا الوقت كان شغله الشاغل بجانب الشرطة هو إبعادها عن الجميع وخاصة هي وعائلته...
بعنف شرس وقلب خافق فتح الباب بعدما شتم الشخص المتربص بجانب باب الغرفة...قلبه يقفز بعنف مؤلم وأنفاسه متحشرجة...اتسعت عيناه ذهولا حتى كادت تخرج من محجريها...فهو لا يرى في الغرفة سوى هي فقط...شاهيناز...
بخطوات متعجلة وشبه راكضة دخل إليها وحالما رأته اتسعت عيناها بذعر حقيقي...وخوف هو من زرعه بداخلها دون أي ندم...
وصل إليها فأخذت تعود للخلف بساقيها حتى أوقفها الجدار...أمسك ذراعها بوحشية حتى كاد يفتته بين كفه...ثم هتف بقسوة عنيفة
(أين هي؟؟؟...أين غنوة؟؟؟)
وارتفع صوته بزعيق في أخر سؤال...هزت رأسها برعب وحدقتيها تهتزان بسرعة مهولة تبحث عن مخرج لها...ولكن هيهات إذا استطاع أي شخص أن يخلصها من بين يديه أو أن يتخطاه من الأساس...فرغم إنها قضت فترة كبيرة من حياتها تعشق وتتلذذ بالتعذيب الجسدي ولكنها مع هذا الشخص تشعر بالتهديد الحقيقي..حيث إنه لم يقتصر على الجسد قط...بل كان تهديده عبارة عن تعذيب نفسي بحت...جاءت لها الحالة المعتادة مؤخرا وتشنج جسدها بعنف...ثم بدأ في الارتعاش برعب جلي...كانت موقنة بأنه لن يتركها أبدا إلا حين ينال إجابته المنشودة...لا تصدق...حقا لقد حازت تلك المدعوة غنوة على كل شيء كان من المفترض أن تحصل عليه هي...كم تمنت وتمنت أن تكون قد لاقت مصرعها مع من ضحت به في سبيل الامتلاك الكلي له....
وكأنه أدرك نيتها ورأها رؤى العين حيث ازدادت نظراته شراسة وإمساكه بها ازداد عنفا فوق عنفه حتى كادت تجزم أن ذراعها سيخلع في التو بين كفه...
من بين أسنانه هتف بخفوت مقيت ونبرته شرسة وقاسية
(أحذرك يا شاهيناز من أفكارك...إلا هي...فهي بالذات خط أحمر كما علمتك وإلا صدقيني سأحيل حياتك البائسة تلك إلى جحيم أسوء من هذا...وسأقوم بسحب رحمتي التي نلتيها بعد معاناة كي أسلمك للشرطة بدلا مني..والآن أعطيني الإجابة اللعينة...أين هي؟؟)
ازدردت ريقها بتوتر وارتباك شديد...وارتعاشها يزداد عنفا حتى أصبح على شكل انتفاضات متوالية...ولكنه لم يبالِ ولن يبالي أبدا...فهي موقنة أنه يحصل على متعته الخاصة من عذابها الحالي...بتلعثم ردت وهي ترمش بسرعة مرتبكة
(رحلت...قبل قليل)
لوهلة شعر بحبس أنفاسه...ونظراته اشتعل فيها السعير...تسأل بنبرة جمدتها
(رحلت!!...وماذا أخبرتيها بالضبط قبل رحيلها؟؟؟)
الذعر تملكها أكثر..وصدرها انطبق على أنفاسها التي تخرج بصعوبة شديدة...كانت تنهت من الرعب تحاول العثور على أنفاسها المتعثرة ولكن هباء...هزها بقسوة فحركت لسانها المصاب بشلل مؤقت تهتف بسرعة متلعثمة
(هي...أنا لم...هي فقط)
غضب فصرخ بهياج
(انطقي ماذا قلتِ لها؟؟؟....انطقي عليكِ اللعنة)
فجأة تحول الذعر والرعب في أنظارها إلى شماتة مقيتة...وبلمح البصر تحول الضعف وقلة الحيلة إلى شراسة وفجور وجنون تام...عادت لها شخصيتها الغير متزنة...وأخذت تضحك وتضحك بهستريا شديدة...فاتسعت عيناه بشدة...وتحشرجت أنفاسه...استمرت ضحكاتها بلا توقف فاشتد غضبه حتى كاد يحرق قارات من جحيمه...أوقف ضحكاتها تلك بصفعه إياها بقسوة عنيفة فترنحت وسقطت أسفل قدميه...جثى على ركبتيه وأمسك شعرها بين كفه غير مبالٍ بخط الدم الذي يسيل من زاوية فمها وأنفها كذلك...
صاح بوحشية
(دور الجنون هذا لا أهتم به مثقال ذرة...وأنتِ تدركين أنه لن يمنعني من إيذائك مثلما تستحقين...والآن تحدثي وأخبريني ماذا قلتِ لها؟؟)
قربت وجهها منه أكثر غير مبالية بوحشية نظراته التي كادت تردها قتيلة في التو من قسوتها...ثم قالت وكأنها تبصق الكلمات...والكراهية العميقة تنبض من بين كل حرف تنطقه
(قلت لها كل شيء...وأخبرتها بكل التفاصيل...من أصغر تفصيلة إلى أكبرها...وكم كنت سعيدة للغاية وأنا أراها تتمزق أمامي وتنكسر كما لم أراها من قبل...حتى حين أطلقت عليها الرصاصة التي كنت أتمنى من كل قلبي أن تحصل بها على مقتلها وقتها لم أراها مثلما كانت اليوم...والآن إذا مُت فسأكون ممتنة للفرصة التي جاءت كالكنز بين يدي...وسأكون مرتاحة بشدة لتحقيق مأربي أخيرا...فأمنيتي كانت أن أكسر تلك الحقيرة التي أخذت مني...)
استقام بغتة وأخذ يصفعها بعنف مرة تلو الأخر...يصفع ويصفع فيها حتى إنه لم يشعر بجسدها الذي يهوى فوق الأرض متضرجا بالدماء...يصارع الأيادي التي أخذت تبعده عن جسدها الذي أصبح يشبه الأموات...لم يشعر حتى بصراخه أثناء عنفه عليها حيث أخذ ينعتها بكل السباب والشتائم التي يعرفها...اضطر للتدخل عدة رجال كي يبعدوه عنه بسرعة...أخذ يلهث وهو يستند على الحائط...وبنظرات مشوشة رأى الطبيب يأتي مهرولا كي يرى الجسد الممدد على الأرض بلا حياة...الصوت حوله غير واضح وكأن كل حواسه يملكها توقفت تماما...ولكنه زفر حين وصل لمسامعه ببهوت صوت الطبيب مطمئنا
(لا تزال على قيد الحياة ولكنها تحتاج للرعاية بشكل ضروري...ساعدوني على نقلها)
تركهم وكاد يخرج ولكن أستوقفه أحد الرجال هاتفا برسالة مضمونها
(سيدي لن تستطيع الرحيل قبل مجيء الضابط المسئول عن الأمر...فهو عرف بالأمر للتو ويطلب منك انتظاره)
أزاحه من طريقه بفظاظة ثم هتف بغلاظة عنيفة
(حين يريدني سيعرف أين يجدني)
ثم تركه وهو يتحرك بسرعة غير مبالٍ بالحياة بأكملها مادامت هي الآن تعاني بل يجزم بأنها الآن قتلت من جديد...ولكن هذه المرة لم تكن الرصاصة مقصودة بل قتلت برصاصة غادرة...وكم يشعر بالفزع من إصابتها المحتملة!!!....
************************************************** ************************************************** ******************************
دخل بإرهاق البناية التي تقع فيها شقته...يجر جسده بشق الأنفس...لم ينم منذ يوم رحيلها واختفائها التام عن الأنظار...وكما أخبرته لم يجدها في منزل أهلها...أغمض عينيه بمرارة وهو يتذكر مقابلته بوالديها...هذان الشخصان اللتان حصلا منه على احترام لم يظن بأنه قد يكنه لأي كان في يوم ما...حين رأه وقتها نظرا له وكأنهما يتطلعان إلى شيء مقيت وكريهة...حيث تطلعا له وكأنه لص سرق شيئا نفيسا لديهم والكارثة أنه أضاعه للأبد..
لم يعرف كيف يبدأ وقتها وهو يجلس أمام الرجل المهيب...وقد أرتاح وقتها بأن أخاها غير موجود في المنزل..هتف بسؤاله المخزي يتسأل عن مكانها...ولكن الصدمة التي أصابت الأب والشهقة المصحوبة بصرخة مذعورة التي خرجت من الأم جعلته يوقن بأنها لم تلجأ إليهم...ووقتها شعر بأنه يذبح من جديد...هو لم يجردها من نفسها وحسب...بل جردها أيضا من منزلها وعائلتها وكل شيء أمتلكته...بمرارة أكبر وخسارة فاضحة تسأل بخفوت
(ألايوجد لديكم أقارب في بلدة ما؟؟....ربما تكون لجأت لهم؟؟؟)
ولكن وقتها لم يجد رد سوى صفعة من الأب المكلول...صفعة كانت لتجعله يصرخ في زمن آخر ويثأر لكبريائه...ولكنه في هذه اللحظة شعر بأنه استحقها عن جدارة...واستحق أن ينالها...فبسبب صفعة مماثلة رحلت يمن وهربت منه....
وحين تحدث أخيرا هتف له بعبارة واحدة هدمت ما تبقى من معبده
(حسبي الله ونعم الوكيل...ربي المنتقم الجبار)
ثم طرده بعدها من منزله...ولأول مرة في حياته ينكس رأسه أمام شخص ما...وها هو يعود خالي الوفاض دون أن يطمئن باله بأنها فقط بخير...لا يريد حاليا سوى الاطمئنان عليها وبعدها سيعمل على كسر ما تبقى من رأسها لأنها بعدت عنه بهذا الشكل...
ولكن هل يلومها الآن؟؟؟...هل يملك المقدرة على معاتبتها وهو السبب الرئيسي في أفعالها تلك؟؟....فبسبب أفعاله أعطاها الحافز كي تهرب منه ومن الجميع...
زفر بقوة وهو يمني نفسه بحمام سريع ودافئ كي يفك تشنج جسده وبعده سيعود لدائرة بحثه التي خصص بداخلها رجال عدة يبحثون عنها معه في كل مكان....فاليوم يشعر بأنه على وشك الجنون حين عرف بأنها لديها أقارب في بلدها الأم وقد أخبره رجاله هناك بأنها غير موجودة عند أي منهم...ولكنه لن يصدق سوى حين يذهب بنفسه ويرى بعينه هل رأوها أم لا؟؟....فقد يكون أقاربها هؤلاء متواطئين معها لا أكثر!!...
حين وصل بالمصعد...تجمد بصدمة حين رأى أخته غنوة جالسة أمام باب شقته ضامة ركبتيها لصدرها ورأسها فوقهما...هتف بذهول قلق
(غنوة ماذا حدث؟؟؟)
رفعت رأسها إليه...فأزداد ارتباكه أكثر وخاصة حين رأى أنها تتطلع له بلا حياة...وجهها مغلق التعابير...وعيناها حمراء بلون الدماء ولكن بلا أي دموع...بصوت مميت هتفت
(كنت انتظرك...أخي)
ارتفعت وتيرة أنفاسه...وشعر بأن عالمه ينقلب من جديد...ولكن هذه المرة بصورة أسواء....بل أشد سوءا...
ابتلع ريقه وحاول التحدث بصورة شبه طبيعية
(ولمَ تنتظرين هكذا؟؟...كنتِ اتصلتِ بي لأخبرك بمكاني كي نتقابل!!)
استقامت وتقدمت بخطوات ثابتة نحوه...ثم ردت بنفس النبرة
(لا بأس...فأنا كنت أحتاج للوقت السابق كي أتطلع بعمق لما حدث معي مؤخرا)
كاد أن يهتف بأمر ما ولكنها قاطعته بلهجة مستهترة
(هل سنتحدث هنا على مقربة من الغادي والرائح؟؟؟؟...هيا ندخل أولا كي أخبرك بسبب زيارتي أخي العزيز)
أومأ برأسه ثم تحرك مخرجا مفاتيحه وقام بفتح باب شقته مفسحا لها الطريق...بخطوات شبه ثابتة تحركت ودخلت أمامه ونظراتها جعلته ينظر لها بغرابة محتارة...دخل خلفها وأغلق الباب بهدوء...تطلع لها وهي تراقب وتتفحص المكان حولها وكأنها تراه لأول مرة...
بنبرة جافة هتفت
(يبدو بأن هذا الذوق ليس ذوقك الخاص...أين زوجتك بالمناسبة؟؟)
رد باقتضاب
(ليست هنا...ذهبت لترتاح عند والديها)
شبه ابتسامة ارتسمت على ثغرها...ثم هتفت بدهشة زائفة
(لماذا؟؟...هل هي بخير؟؟...أم إنها لم تستطع مسامحتك حتى الآن على ما حدث يوم زفافك!!)
عقد حاجبيه بضيق...ثم زفر وهو يقول بقنوط
(غنوة...لدي ما أفعله بشكل عاجل...أيمكن أن تخبريني بما تريدين سريعا كي أذهب؟؟)
ردت باستغراب وحزن مصطنع
(ياللعجب أخي...تتحمل غشي وخداعي وتنظر في عيني وتكذب دون أدنى ذنب إتجاهي ولا تتحمل الآن حديثي البسيط معك كي أطمئن على أحوالك!!!)
انتفض واتسعت عيناه بصدمة...وهي لا يرمش لها جفن تطالعه بنظرة لن يستطيع نسيانها أبدا لو مر الدهر كله...كثغرة أخيرة يهرب بها من المأزق ابتلع ريقه وهتف بتساؤل خافت
(ماذا تقصدين؟؟..لم أفهم)
اتسعت ابتسامتها أكثر حتى تحولت لضحكة عالية...ضحكة لم تكن لتنتمي لأخته الرقيقة بل أخرى أكثر شراسة وأشد قهرا من ذي قبل...حتى إنه كاد يتسأل عن هواية تلك التي تقف أمامه...ليست غنوة...ليست تلك الضعيفة المكلولة لفقدان حب حياتها ووشوكها على فقدان نفسها...ليست غنوة البتة...
بصياح مرتفع هتفت
(أنت تفهم ما أقصده جيدا يا أخي العزيز...فلمَ لا نتحدث بالمكشوف وتبعد تملقك هذا بعيدا؟؟...فما تفعله الآن يقرفني عن ذي قبل)
ارتعدت عضلة في فكه والكلمة ترن في أذنه كالناقوس...(أنت تقرفني)...ولكنها كانت أكثر مرارة وأشد قهرا من يمنه...تلك التي فقدها أيضا مثلما حدث مع أخته للتو...نعم...فالآن فقط أدرك معنى نظراتها...فغنوة لن تسامحه أبدا على فعلته في حقها...
اغمض عينيه وهمس بجمود
(حسنا تريدين أن نتحدث بصراحة لنفعل...كل ما كنت أعرفه هو أنه ترك كل شيء من أجلك...هو أقسم لي على ذلك...وحين رأيت حبكما لم أرد أن أهدمه وأنا أراكِ تتعلقين به كل يوم عن ذي قبل)
نظرت له بذهول مستنكر وهتفت بازدراء مشمئز
(حقا!!...هل اقنعت نفسك بالفعل بهذا التحليل العقيم؟؟؟...هل لهذا ارتضيت أن تسلمه أختك المغيبة دون أن تعطيني أقل حق للاختيار؟؟؟..أنت فضلته عليّ أخي...فضلت صديقك على أختك الصغرى...أي صداقة عقيمة تلك التي تبيح لك وله التحكم في حياتي كما لو أني لا أملكها...والسبب الذي تتفوه به حقا مثير للشفقة...ولكن السبب الحقيقي الذي أراه حاليا واضحا وضوح الشمس هو أنك مثله...نعم...أنت من نفس عينته...بل أشد سوءا منه...حتى أن الشك صار يساورني الآن حول صلة الدم التي تربط بيننا...فلا يوجد أخ يرضى لأخته ما ارتضيته أنت لي)
غامت نظراته...وامتقع وجهه حتى صار يشبه السحابة السوداء المملوءة بالرعود والعواصف...زاغت نظراته...وارتعش جسده...ثم همس بوجوم والبؤس يرتسم بمرارة على وجهه
(صدقيني...لم يكن الأمر بتلك الصورة البشعة...وقتها هو اقنعني بأنه تغيير من أجلك وأنه يستحق فرصة من أجل حبه وحبك له في المقابل)
صرخت بشراسة عنيفة والقسوة ترتسم على وجهها بتجلٍ..والاستهجان محتل نبرتها
(وقتها هو اقنعك!!...وحين مات وكدت أموت في المقابل ماذا فعلت يا عمار!!...أنت لم تتحدث ولم تتفوه بحرف عن هوية المجرم...أم دعنا نقول المجرمة المجنونة ...أنت وقفت كالمشاهد تراقب في صمت جاسم يحارب بمفرده...تراقب موتي البطيء كل يوم عما قبله بسبب تخبطي داخل حيرتي وجهلي ومرارتي وحزني القاتل...كيف أميزك الآن عن تلك المرأة التي هدمت حياتي!!...أخبرني كيف؟؟...وأنت لا تفرق عنها في أي شيء...فهي أصابتني في مقتل وأنت قمت بالمثل بل وأشد قسوة من فعلتها...فرصاصتها كانت مباشرة وعلنية حتى إنها اخترقت صدري...لكن رصاصتك جاءت بغدرٍ خبيث وقصمت ظهري يا أخي)
اغمضت عينيها تحجب دمعة ظهرت في جفنها...لن تبكي...لن يرى ضعفها وخذلانها فهو يستحق جحودها وغضبها فقط...تحركت بقدميها للخلف استعدادا للرحيل...ففي هذه اللحظة تمقت النظر إلى عينيه الكاذبة والمخادعة...همست بتخاذل
(أتعلم أنا لن ألومك الآن...فالخطأ خطئي وحدي...خطئي بأني وثقت فيمن لا يستحقوا ثقتي واتهمت بالكذب من قرر أن يتكفل بحمايتي وأماني مهما كلفه الأمر...حتى لو اضطر لأخذ ذنب ليس ذنبه كي يحمي الجميع وأكاد أجزم بأني أولهم...بينما أنت..)
واستكملت بسخرية مريرة
(بينما أنت لم يرمش لك جفن حين رأيت مقتلي الوشيك بل حين رأيت موتي البطيء وأنا لا أزال على قيد الحياة...وهذا ما لن أسامحك عليه أبدا...يا أخي)
ثم ابتعدت وأسرعت خطواتها اتجاه الباب...وحالما واغلقته خلفها شهقت بعنف تلك الشهقة التي حبستها لوقت طويل داخل صدرها...الألم هو وصف باهت لما تشعره...فما تشعره يشبه الزلازل والبراكين....ما تشعره يفوق قدرتها ويهدد بسقوطها ولكنها تقاوم...تقاوم غيبوية ترغب فيها وترغب في السقوط بداخلها للأبد...الغدر والطعن والخيانة...كلها مجرد ألفاظ نتغنى بها...ولكن حين يحدثوا في حياتك بالفعل تجد بأن ألمهم يتخطى الوصف المعتاد...تجد بأنك حشرت في المنتصف بين التصديق وعدمه...وهي تكاد تضيع...بل تكاد تبلعها دوامة...ولكنها تقاوم...ليس لأجلها بل على العكس...هي تقاوم لأجله وحسب...فهو الوحيد حاليا الذي يستحق مقاومتها تلك...وقد أثبت ذلك بمنتهى الثبات وعن جدارة كالعادة...
************************************************** ************************************************** *******************************
لطالما تأقلمت مع الحياة الروتينية...عمل كثير يساوي انشغال أكبر...قاعدة فعالة وعملية اتخذتها منهج منذ مجيئها لهذا المكان الغريب...قاعدة لم تختلف كثيرا عن تلك التي كانت تسير عليها في الوطن..استسلمت...نعم...ربما...� �هي سئمت الحروب...وسئمت المقاومة...وكل ما كانت تحتاجه هو الهدوء والراحة والانعزال التام وكذلك أرادت عدم تقيد شخص آخر بها...زفرت بعنف ناهرة أفكارها التي طوعتها أيضا كي لا تتذكره...على الرغم من أنه لم يغفل لحظة عن بالها...ولكنها تسعى...تسعى للصمود...فشخص مثله يستحق الأفضل منها بمراحل....أخرى كاملة ولا تملك ماضي مشوه مثلها...يستحق أخرى تشبه نقاء ورقة أخته الصغرى كي يقدرها ويعاملها ككنز ثمين ونفيس يضحي من أجلها بحياته إذا تطلب منه الأمر فهو لن يتردد بالقيام به...
فركت جبهتها بعنف وصداعها يشتد عن المعتاد....صداع يعد رفيقها الدائم منذ رحيلها عن الوطن وحتى وقتها هذا...اغمضت عينيها وهي تعترف لنفسها بأن السبب الرئيسي لصداعها ذلك هو شدة اشتياقها إليه والتي تقاومه بشراسة كي لا تحن وتعود رامية كل قرارتها عرض الحائط من أجله فقط..
زفرت من جديد وهي ترمي الأوراق من يديها...والعمل لا يساعدها هذه المرة على حجب أفكارها تلك...بل يزيدها سوءا...هي تحاول التأقلم بكل جوارحها مع الوضع هنا...رغم أن الجفاء لا يزال محيطا بعلاقتها بأمها...حتى ولو كان زوجها اللطيف يحاول أن يمزح معها في أحيان كثيرة فتهديه ابتسامة سمجة وممتعضة...حتى ولو إنه كان السبب في تقديم المساعدة لها كي تحصل على عمل بأسرع وقت...فكل هذا لن يخفف من مشاعرها نحوهما مثقال ذرة...فهما مهما فعلا لن تستطيع إعطاءهما أمانها وثقتها...وأن تسلم أخر حصونها يعني الضياع بالنسبة لها...
نهضت من فوق الكرسي واتجهت بخطوات متلكئة نحو النافذة الواسعة المطلة على منظر شديد الإبهار..عبارة عن مباني شديدة الإرتفاع والرقي...ولكنها وحيدة...نعم رغم هيبتها ورقيها وشموخها ولكن كل مبنى يقف بشكل منفصل عن الآخر...ابتسامة ساخرة ومريرة طافت على شفتيها...فها هي تجعل المباني وحيدة لأنها ترى نفسها كذلك...
عزمت أمرها...فعلى هذه الحالة هي لن تستطيع الانتهاء من مهام اليوم...لذلك ستعود إلى المنزل التي لا تفارق فيه الغرفة التي خصصتها لها والدتها...ورغم مقتها لتمضية الوقت هناك ولكنها بالفعل تحتاج للراحة الضرورية...وما يصبرها قليلا أن إجراءات البحث عن شقة مستقلة لها على وشك البدء فيها...فهي كانت تظن بأنها ستكون أفضل حين تعيش وسط عائلة...ولكن يبدو بأنه ليس أي عائلة والسلام...فشعور الغربة يزداد بداخلها كل يوم عما قبله...وليس الغربة فحسب بل والوحدة فهي لا تسمح لهم بالاقتراب ولن تفعل مهما حاولوا...لذلك أفضل حل لها هو الابتعاد كي لا يتعلقوا بأمل واهٍ...وحبال مهترئة لن تتحمل أي علاقة مهما كانت المسمى لها في حياتها...
قدمت على إجازة لما تبقى من اليوم ثم خرجت من الشركة تحاول أن توازن خطواتها الشبه متزنة كي تصل للمرأب..وصلت لسيارتها التي اقتنتها فور نزولها كي تسهل عليها أمورها وتسرع من أي مشاوير لها...فهذه هي فائدة العمل لسنوات طويلة...فلولا ما تحمله بسبب عملها السابق لصارت الآن حياتها مزرية...فأموال والدها حُجز عليها بالكامل كي يتم الكشف عن مصدرها...كابوس...ما حدث مع والدها يشبه الكابوس...ولكنها رغم بشاعته غير متفاجئة وكأنها امتلكت مناعة حول المفاجآت الغير متوقعة بالمرة...وخاصة تلك التي تهدم عالمها بغتة...وتحوله من حال إلى نقيضه...
وصلت لسيارتها وأخرجت المفاتيح كي تفتحها...وحالما قامت بفتح بابها...ظهرت بغتة كف رجولية أمامها تغلق الباب قبل دخولها وتحاصرها بين السيارة وبين جسد صلب تشع منه حرارة تكاد تخترق ظهرها...
أول رد فعل لها هو شهقة استنكار خائفة..وحالما دارت كي توبخ هذا الوقح اتسعت عينيها بذهول مصدوم وانحبست أنفاسها في صدرها...فأمامها كان يقف شخص يشبه معاذ تماما...نعم هو يشبهه فقط وليس هو بالتأكيد...فهذا الشخص صورته مختلفة قليلا عن معاذ...شعره زاد طوله قليلا ولحيته طالت بشدة حتى إنه لم يكلف نفسه عناء تشذيبها....عيناه...يا إلهي...هو ليس كما تمنت أن يكون...فهذا الرجل الواقف أمامها بكل غاضب العالم هو معاذ بشحمه ولحمه...
ولا تعرف كيف انبثقت كل المشاعر بداخلها حتى كادت تنفجر...مشاعر ممزوجه بالكثير من الخوف والرعب والاشتياق والعشق والكثير الكثير من الترقب المثير...
************************************************** ************************************************** *******************************
مد كفه وأخذ يشد في شعره بسبب ما يشعره من عجز وعنف غاضب...هتف من بين أسنانه
(وأين هي الآن؟؟..عمي عز!!!)
هتف الرجل المرتبك والقلق بشدة
(صدقني لا أعرف أين ذهبت!!...فهي هربت من الحرس الذين وكلتهم بحمايتها...أمرتهم بالبحث عنها ولكنها لم تذهب إلى المنزل بعد ولا حتى إلى المدرسة الخاصة بها)
هتف باستياء وهو يحاول التحكم في نبرة غضبه الشديد
(وكيف تساعدها على أمر خطير مثل هذا يا عمي عز؟؟...كيف تسمح بتعريضها للخطر بعدما كدنا نفقدها؟؟...فبالطبع أنت من يسر لها تلك الطرق وساعدها على الوصول إليها دون أي احتياطات أمنية حولها...وفوق كل هذا أنت لم تخبرني بأي شيء عن خططها تلك...كيف سمحت بذلك كيف!!!)
كاد يجن بالفعل...وصوته يعلو باستنكار عند عبارته الأخيرة...تطلع له عز الدين بلوم...فزفر من جديد وهمس بنبرة أقل وطأة وحدة
(اعتذر ولكن أعصابي متشنجة...وعدم معرفتي بمكانها تجعل غضبي يزداد أكثر)
تنهد عز الدين ثم همس بتساؤل هادئ
(جاسم هل تعرف سبب سماحي لغنوة بالبقاء معكم بمنزلكم؟؟...حتى إني لم أضغط عليها حين قررت هذا القرار ولم أحاول تغييره لها طوال فترة مكوثها...فهل تعرف سبب هذا؟؟)
نظر له جاسم بحيرة واستغراب...وأجاب
(لأنك تثق بنا بالطبع...وتعرف بأننا من المستحيل أن نسمح لأي شيء أن يؤذيها مهما كان)
ارتسمت بسمة صغيرة فوق ثغر عز الدين وقال بنفس النبرة
(هذا السبب الظاهر..وهو صحيح بالطبع ولكني أملك غرض آخر...وهو أني أردت أن تأخذ غنوة بعض قوتك أو بمعنى أصح أن ترشدها لتلك القوة الموجودة بداخلها...وهذا ما وجدته يحدث بالفعل حين أخرجتها من محنتها بنفسك وكنت السبب في عودة الكلام لها من جديد بعد أكثر من عام على الحادثة...لذلك بجانب الثقة بكم جميعا...أنا أثق بك أنت بشكل خاص...وأدرك بأن ابنتي صارت أفضل الآن بسببك أنت بعد الله بالطبع...فأنت قدمت لها كل شيء والآن اتركها كي تخوض اختبارها الخاص بمفردها ودون مساعدتك وحمايتك لها...وكن على ثقة بأن هذه الفتاة التي نبحث عنها الآن هي ليست أبدا نفس الفتاة التي كانتها من قبل)
اغمض عينيه بقوة وهتف لسانه بحنين
(أعرف...أعرف أنها تغييرت وصارت أفضل وأنها الآن تستطيع العيش بدون مساعدتي...ولكن هذا لن يمنع بأنها ستظل دوما تحت أنظاري مهما رست سفننا ستظل حمايتي لها مستمرة حتى أموت وهذا ما وعدتك به أليس كذلك؟؟)
تطلع له عز الدين بنظرة العارف...ولكنه أثر الصمت....فأحينا يكون الصمت هو أفضل من بوح لا فائدة منه سوى مع شخص واحد فقط...شخص بسببه تصرخ كل خلية بجسدك مطالبة به مهما كان الثمن...
************************************************** ************************************************** *******************************
نزلت من سيارة الأجرة...وأخذت تطلع للبناية القابعة أمامها بتركيز شديد...هذا يوم جاءت معه لأول مرة كي يرا المكان الذي سيبنى كي يصبح عشهم الجديد...وهذه كلماته التي ألقاها على مسامعها كل يوم تقريبا متغنيا بعشق فارغ...وهذا صوته يرن في رأسها يعيد وعود اتخذها كل منهما نحو الآخر...
كم كانت ظالمة في حق نفسها حين اتهمتها بالخيانة لأن قلبها تعلق بغيره...بل كم كانت قاسية على نفسها لأنها حرمتها من قربه لأنه نال ما ظنت بأن هناك من يستحقه غيره!!!
ولكن اليوم أدركت أن اتهاماتها تلك مجرد دعابات وترهلات أمام جريمته الكبرى...هو بفعلته لم يقدم لها خيانة فحسب بل قدم لها أكبر طعنة في حياتها...كم كانت مغفلة!!...
اغمضت عينيها بألم وصوت المرأة التي تعد كابوسها الوحيد يرن في أذنيها...لم تعرف حين قادتها الفتاة العاملة هناك إلى غرفتها كيف تحركت قدميها للداخل!!...ولا كيف صمدت ولم تنهار حين رأتها!!..ولكنها كانت تحتمي به...كان حارسها كالعادة رغم غيابه...فأخذت تردد اسمه باستمرار بداخلها...كي تتحصن ربما وتخوض معاركها المعلقة منذ زمن...
فجأة تحولت نظرات تلك المرأة الشبه هادئة إلى أخرى أشد جنونا وكرها....وحالما رأتها انتفضت وكادت تنقض عليها لولا تلك الفتاة التي ظلت معها ولم تخرج حيث قامت بتكبيلها كي لا تؤذيها...
حركت شفتيها كي تخرج الكلمات ولكنها حشرت في حلقها...أنفاسها تكاد تزهق من شدة الانفعال والخوف وصورة تلك المرأة لا تزال في ذهنها وهي تحمل المسدس وتصوبه نحو سامر ونحوها...
حاولت من جديد...فخرجت حروفها منقطعة ومتلعثمة
(من أنتِ؟؟...وماذا تريدين مني؟؟)
ضحكت ضحكة مقيتة وهتفت بتشفٍ
(أنا قدرك السيئ...أما ما أريده فأعتقد بأنكِ تعرفين ما أريده منذ المرة الأولى...أريد حياتك فقط)
اتسعت عيني غنوة بصدمة مذهولة...وتقافز قلبها هلعا...ثم هتفت بعدم تصديق
(ماذا فعلت لكِ لكل هذا؟؟...أنا حتى لم أراكِ سوى مرة واحدة من قبل...فما الأذى التي سببته لكِ كي تؤذيني بتلك الطريقة؟؟)
ابتسمت من جديد ولكن هذه المرة بخباثة ساخرة ثم هتفت
(أنتِ فقط أخذتِ مني كل شيء...أنتِ السبب في أنه ابتعد عني...هل تدركين بأنه كان يهتف باسمك أنتِ في الكثير من أوقاتنا معا...وأنه كان يتعامل معي على أني أنتِ...يتخيلك فيّ فأرى الرقة المتناهية وحين ترحلين عن خياله أعود من جديد جاريته المفضلة وهو سيدي لا أكثر)
رجعت قدميها للخلف بعنف...والغثيان أصابها بشدة حتى كادت تتقيأ في التو...الدوار المعتاد يسيطر على أنفاسها...وصدرها مطبوق بعنف...
تقدمت منها الفتاة المصاحبة لهما وهمست بقلق
(سيدتي هل أنتِ بخير؟؟...من الأفضل أن تذهبي من هنا...فيبدو بأنكِ ستصابين بالإغماء)
حركت رأسها برفض...ثم أخذت تستنشق الهواء بصعوبة والأخرى تطالعها بتشفٍ...فرفعت رأسها هاتفة بإصرار
(أتركينا وحدنا...فيبدو بأن حديثنا سيكون طويلا)
تطلعت لها الفتاة بقلق شديد...فاستكملت تحثها على الرحيل وفي نفس اللحظة تعطي نفسها الدافع كي تظل صامدة وتمنح نفسها القوة اللازمة
(لا بأس...أنا لن أسمح لها بإيذائي مرة أخرى...هي فعلتها من قبل على حين غرة ولكن الآن أنا مستعدة لها جيدا...هيا أخرجي)
تطلعت لها شاهيناز باستخفاف...غير مبالية بكل الإشارات التحذيرية التي تحوم حولها...
همست ببطء متقطع بسبب وشوك أنفاسها على الانحساب
(فأردتِ الانتقام منه في أحبائه أليس كذلك؟؟)
عقدت الأخرى ذراعيها أمام صدرها ثم ردت بتشفٍ وغل شديد
(ولمَ سأنتقم في أحبائه فقط وأنا قتلته هو شخصيا...فهو كان ملكي أنا وحدي...أنتِ هي الدخيلة...حاولت إبعاده عنكِ ولكني وقتها لم أزد سوى شراسته وحشية نحوي..حتى في أكثر لحظاتنا الحميمية..وحين فشلت في النهاية طبقت قانوننا الخاص بنا...إما كل شيء أو لا شيء)
تطلعت لها غنوة كمن ينظر لمعتوه عن حق..دارت شاهيناز حولها تراقب أناقتها الفطرية ورقتها الشديدة الجاذبية...تلك المرأة تمتلك سحرا خاصا بالفعل وأن يسقط سيدها في شركه لهو أمر وارد لكن أن يظل متعلقا بها حتى قبل لحظات من موته حيث كان يدافع عنها هي...ويأمرها بالرحيل لأنه لن يسمح لها بإيذائها أبدا...
كم ترغب في موتها الآن!!...وها هي جاءت لها الفرصة الذهبية...فهي وحيدة دون حماية الزوج المرعب والذي اكتشفت بأنه مهووس كذلك بها مثل أخيه ولو إنه أشد منه بمراحل...وإذا قتلتها الآن فلن تعاقب سوى على أساس جنونها...وغنوة كانت تبدو في عالم آخر تائهة تحاول تحليل كلماتها...
بعدما فاقت من الصدمة التي سببت لها شلل مؤقت همست أخيرا بتلكؤ مذهول
(عمن تتحدثين بالضبط؟؟)
باستخفاف قاسٍ ردت شاهيناز وهي تدرك جيدا وقع المفاجأة الصاعقة عليها
(عن سامر بالطبع)
وانقلب العالم...ورحلت في التو حياة من صدرها حتى صارت كالجماد...
ترنحت وكادت تسقط ولكن ما سمرها هو تكملة تلك المجنونة حديثها الماجن
(هو كان كل شيء حتى حين كنتِ معه...كان معي أيضا...أنا كنت منبع أسراره وسر راحته...بينما أنتِ كنتِ مجرد وجهة أنيقة وزوجة تليق باسم عائلته...أخبريني هل تعرفين بأنه كان سادي من الدرجة الأولى!!...وأنه قبلي عذب الكثير من النساء...ولكن حين عرفنا بعضنا اكتفى بي وحدي...وأصبحت كما كان يلقبني دوما جاريته المخلصة...وهو كان وسيظل سيدي الوحيد)
شهقت غنوة كي تحاول التنفس بعدما انحبست أنفاسها لوقت أطول من المعتاد..ولكن شاهيناز لم تكتفي بل أخذت تضيف الحطب فوق نارها وصدمتها وقلة حيلتها..
(ليس هذا فحسب...هل تعرفين من كان يعرف عنا أيضا؟؟...عمار...أخوكِ...ولكنه أصر على الصمت بسبب علاقاته ومغامراته أيضا وإن اختلفت قليلا عن سامر...هل تدركين الآن إلى أي حد كنتِ مجرد مغفلة؟؟...وفيما يبدو بأنكِ لا تزالي...فأنتِ غبية إلى حد مجيئك ليّ بقدميكِ متخلية عن حماية زوجك المدله أيضا بكِ)
وكانت سيرته هي منبع عودة الروح لها...انتفضت...وصوته حولها يطمئنها بأنه معها..وأنها قوية وتستطيع الصمود مهما كانت العواقب...غشت الدموع عينيها وتمزق قلبها لقطع صغيرة...هو تحمل خطأ أخيه وفاحشته...هو أخذ فوق عاتقه ذنب لا يمسه...هي خدعت مرتين...وفي كلتاهما فشلت فشلا ذريعا...
شريط طويل مر أمامها...لحياة كاذبة عاشتها في الماضي كانت تظنها مثالية ولكنها لم تكن كذلك....بل كانت محض كذب وخداع وغش وافتراء...هي من كانت تظن بأنها امتلكت كل شيء ولكنها اليوم اكتشفت بأنها لم تمتلك أي شيء وأنها خرجت من الأمر خالية الوفاض..
لا لم تكن خالية تماما...فهو معها وسيظل معها مثلما وعدها من قبل...ولكن هل تثق!!...ففي تلك اللحظة كسر شيء بداخلها ولن يعود أبدا مثلما كان...
اجفلت حين وصل لمسامعها صوت زجاج يهشم...فوجدت تلك المرأة تكسر كوب الماء وتمد يدها كي تأخذ أكبر قطعة من الزجاج المكسور...كانت تطلع لما تفعله بلا حياة...نظراتها ميتة...وعقلها خامد...وحين استقامت كي تقترب نحوها بعزم..فجأة اندفع الإدرينالين داخل دمائها فمدت سريعا كفها إلى حقيبتها وأخرجت المسدس الصغير الذي أخذته دون علم والدها...فتوقفت الأخرى فجأة متوترة...
همست بصوت ميت لا يمت الحياة بصلة
(هل أنتِ غبية لدرجة أنكِ تظنين أني سأقع في نفس الفخ مرتين؟؟)
اتسعت عيناها بهلع وزاغت نظراتها...ولكنها تمالكت نفسها وهي تقول باستخفاف
(أنتِ لا تستطيعي القيام بهذا...أنتِ أضعف من هذا بكثير يا غنوة)
نطقت اسمها بسخرية...فتطلعت لها غنوة بثبات أربكها وصرامة واثقة..ثم هتفت بقوة
(هل أنتِ واثقة تماما بأني لن أفعل؟؟)
ابتلعت شاهيناز ريقها...ونظراتها تربكها وتوترها...فتلك الواقفة أمامها ليست الضعيفة الخانعة التي كانت تحتمي منذ أكثر من عامين ونصف خلف ظهر سامر...هذه أخرى واثقة ورغم الارتعاش الواضح لأطرافها إلا إنها متملكة أعصابها بطريقة لعينة...
ابتسامة ساخرة زينت شفتي غنوة...وهمست بشراسة منطلقة
(صدقيني أكثر ما أبغاه الآن هو القصاص...وفي تلك اللحظة لن يلومني أحد إذا أخذته بنفسي...وربما يستطيع أصغر محامي لديّ وقتها من إخراجي من الأمر وإيجاد ثغرة بسيطة للغاية مثلا أني كنت أدافع عن نفسي...حتى إذا سجنت بضعة أعوام لن أبالي صدقيني طالما سأشفي غليلي وأحصل بنفسي على حقي وحق عائلة مكلولة)
كان الذعر هذه المرة من نصيب شاهيناز...وقتها دبت الحياة من جديد في جسد غنوة حينما شعرت بأن الأماكن تبدلت فالآن هي في موضعها السابق...وياله من زمن يدور ويعود بنا لنقطة البداية...نقطة الألم...نقطة الانقلاب...
بصوت آمر وصبر نافد هتفت
(اتركي ما بيدكِ...واجلسي)
ضاقت عيني شاهيناز وتطلعت لها بغل مكبوت ولكنها صاغرة تركت قطعة الزجاج السميكة حتى انزلقت تحت قدميها...وتحركت نحو الفراش كي تجلس فوقه...
بصوت شرس لا يعرف الرحمة قالت غنوة
(والآن...ستقصين كل شيء بالتفصيل...وإذا شعرت فقط بأنكِ اغفلتِ عن أمر صغير وقتها لن يعجبك ردة فعلي يا شاهيناز)
اتسعت حدقتي شاهيناز واجفلت فلوهلة شعرت بأن من يقف أمامها ذلك الرجل الذي أصبح كابوسها مؤخرا...ذلك المدعو جاسم البدراوي...
استفاقت من شرودها الذي دام طويلا...كانت داخل دوامة...وتفاصيل شديدة القذراة تطرق ذهنها بلا رحمة...تفاصيل قُصت عليها قبل قليل...حاولت الصمود وحاولت المقاومة...ولكن يظل الأثر ثابت ومطبوع...
أخرجت هاتفها من الحقيبة...فاتسعت عينيها بشدة حين وجدت مئات المكالمات منه...يا إلهي...بالتأكيد وصل له الخبر...تكاد تتخيل حالته الآن وأيضا لا يساعده اختفاءها من الوسط بتلك الطريقة...زفرت بعنف...هي تحتاج لوقت طويل حتى تستعيد توازنها...كي لا تنتكس حالتها وهذا ما تقاومه...ولكنها تحتاجه..رغم يقينها بأنه تحمل الكثير ولا يزال ولكنها ترغب الآن أكثر من أي وقت مضى أن تمنحه الراحة المنشودة...يكفيه عذاب ويكفيه جرح من أشخاص أقرب له من أي كان...تغلب ضعفها عليها...نعم هي لن تستطيع الصمود بدونه..تحتاجه...وتحتاج وجوده...ولو كان ما تفعله أنانية صرفة فستفعلها قبل أن يصيبها الجنون بل والأسواء قبل أن تغرق من جديد وتلك المرة ستكون الأخيرة التي لا يصح نهوض بعدها...
تحركت من مكانها مبتعدة عن المكان الذي بني على كذب وخداع وخيانة...وأثناء سيرها فتحت هاتفها وكتبت له رسالة قصيرة ولكنها وافية للغاية في تلك اللحظة
"أنا ذاهبة إلى مدرسة الرقص الآن...احتاجك"
************************************************** ************************************************** *******************************
كيف يشعر البطل حين يقوم بإنقاذ البطلة...هل يشعر بالانتشاء مثلا...أم يشعر بالفخر والغرور...أم يشعر بالسعادة لأنه سينال في المقابل قلبها كمكافأة على عمله الجدير!!...
ولكن هو لم يكن البطل المنشود هنا...هو لم يستطع إنقاذ البطلة...بل كان مجرد مشاهد يرى بضباب مصدوم ما يحدث معها دون أن يستطيع إيقافه...
ولكنه يعود ويذكر نفسه بأنه القدر...ولكن كيف تراه في المقابل؟؟؟...بالطبع هي حزينة ويكاد يجزم بأن كل السيناريوهات السيئة مرت بخاطرها حين سمعت صوت رغدة...هل يلومها؟؟...لا لن يلومها...ولكن جزء عميق بداخله حزين...هي لا تثق به...وهو يستحق هذا إذ إنه لم يقدم لها ما تثق به...كل ما أعطاه لها هو تشتت ومشاعر متداخلة ومنفجرة كادت تضيعها منه في المنتصف...تخبطه أضاعها...والآن خوفه من رد فعلها حين يخبرها عن الأمر أضاعها بالفعل...
سمع من والديها أنها لا تتكلم...منذ يوم الحادث وهي تعطيهم بضع كلمات لا أكثر...وحين استيقظت وعرفت ما أصاب والدتها أطمئنت عليها وطمئنتهم بكلمات قصيرة ومختصرة بأنها أفضل...وقتها لم تكن تدرك بالطبع بأنه يقف في الخارج وعلى مقربة يسمع كل حرف يخرج من بين شفتيها الواهنتين...
هذه هي فرصته...يجب أن يتحدث معها حتى لو رفضت رفض قاطع...تحتاج لسماعه وبعدها سيترك لها حرية القرار...فهو تحرك بالفعل وطلبها من والدها الذي نظر له وقتها باستهجان لأن الوقت غير مناسب...ولكن تلك النظرة تغييرت بعد أيام حين تحدث معه بهدوء أكبر وأخبره بأنه لا يصح الاندفاع في تلك الأمور...وقتها برر له بأنه يريدها زوجة مهما كلفه الأمر...وأن رؤيته الوشيكة على ضياعها جعلته يعتزم الأمر أكثر ويصمم عليه...
أعطاه والدها مهلة كي يقيم الأمور...وهي تحتاج للوقت حتى تشفى وبعدها سيكون لهما حديثا أكثر جدية...
وحتى هذا الوقت هو سيتحدث معها ويضع أمامها اختياران لا ثالث لهما...فهي مثلما تريد الثقة منه هو أيضا يريدها في المقابل...وهذا ما سيحصل عليه...
لقد اقنع والديها بالرحيل كي يبدلا ملابسهما وأنه سينتظر بالخارج حتى عودتهما أو عودة جاسم...تفحصه الأب بريبة ولكنه بادله النظر بتأكيد واثق...وقتها رحلا وها هي أخيرا في الغرفة القابعة أمامه....
بعزم مصمم اتجه نحو الباب وفتحه بعدما طرقه عدة مرات ولكن دون رد...فحسم أمره ودخل بخطوات متلكئة وبطيئة...
رأها وهي ممددة فوق الفراش الأبيض وجهها شاحب للغاية...أنفاسها منتظمة داخل سباتها العميق...رمق بحزن يائس جسدها المجبر...رأسها الصغير الملفوفة بإحكام...وضعفها وهزلها الذي أظهر هشة ورقة بنيتها...
أغلق الباب خلفه ببطء وتقدم نحوها...يراقب تفاصيلها بشغف...حتى في وهنها تبدو جميلة بطريقة مهلكة...زفر بقوة وهو يشتم نفسه على انجراف أفكاره...
مد يديه وأخذ المقعد في طريقه ووضعه بالقرب منها ثم جلس فوقه...يتأمل وجهها عن قرب...شفتيها المنفرجتين قليلا بسبب صعوبة تنفسها...كفها الموضوع فوق الفراش والموصل به أسلاك طبية سميكة لا تناسب بالمرة رقة ونعومة كفها الصغير...
همس ببطء وكأنه يتذوق اسمها
(تغريد)
لا مجيب...كانت متعبة بالفعل...فالتقط كفها ولثمه ببطء شديد...ثم همس بخفوت
(أنا آسف...صدقيني لم أقصد حدوث كل هذا...كنت سأخبرك عن الأمر...ولكني لم أرد أن أضيع من بين يدي فرصة سعيدة لنا معا...سامحيني)
ارتعشت أصابعها بين كفيه فأدرك بأنها استيقظت...رفع رأسه فوجد عينيها تنظر له بحزن كسير وشبه دموع ظهرت فيهما...ابعدت على الفور رأسها للجهة الأخرى وسحبت كفها بعنف من بين يديه...
هامسة بقسوة
(اخرج من هنا...لا أريد رؤيتك)
تنهد بقوة وهتف بهدوء مصمم لا يمت الثورة المشتعلة بداخله نحوها
(لن أذهب إلى أي مكان يا تغريد قبل أن تسمعيني...وبعدها لك الخيار وصدقيني وقتها سأحقق لكِ ما تريدين مهما كان)
صرخت بهياج وهي تلف رأسها إليه من جديد
(لا أريد سماع أي شيء منك...فقط اتركني وأذهب لها فهي كانت تنتظرك وستظل كذلك...أنت ليس سوى كاذب خدعتني ولا تزال تكن المحبة لخطيبتك السابقة)
عبس بشدة واحتقن وجهه...استقام واقترب منها ممسكا وجهها بين كفيه فانتفضت برفض...فهتفت بصرامة جمدتها
(اهدئي ستؤذين نفسك)
رفعت أنظارها له وأنفاسها تخرج كالمراجل...عيناها تطالعه بقسوة غاضبة ومشتعلة...همست من بين أسنانها
(ابتعد عني ولا تلمسني...أنت تستغل ضعفي وعدم قدرتي على الحركة)
اغمض عينيه بيأس ثم فتحمها هاتفا بهدوء قدر المستطاع
(أنا لست كاذبا يا تغريد...موضوع رغدة أغلق منذ زمن ولكنها تحتاج للمساعدة...فأنا أدين لها بذلك على الأقل...لذلك قبلت رجاء والديها لمساعدتها على تخطي محنتها وبعدها سأبتعد عن حياتها دون رجعة)
هدأت حركتها...وأخذت تنظر له بجمود...ولكن جمودها لم يستمر طويلا حين همست بسخرية
(يالقلبك الواسع!!...صدقني سأبكي من فرط التأثر)
ابعد كفيه عنها ببطء...ووضعهما في جيب سرواله ثم اعتدل في وقفته ينظر لها بتركيز شديد...قائلا بصوت أجش
(تغريد...هل لهذه الدرجة لا تثقي بي!!...أعرف أني لم أعطيك ما يمنحك الثقة المستحقة...ولكن ألا تعرفيني إلى هذه الدرجة!!...أنا لم أخدعك...أنا فقط خبأت الأمر حتى يظهر الوقت المناسب لأخبرك به ولاحظي بأنكِ كنتِ بالفعل تبتعدين عني فما بالك حين أقول لكِ هذا الحديث ماذا كنتِ ستفعلين وقتها؟؟...ولتتأكدين من حسن نيتي فجاسم كان على علم بكل شيء من أوله وكان على علم بكل خطوة أخطوها)
همست بوجوم مختنق وضيق شديد
(هل من المفترض أن أقتنع بكل هذا؟؟...حسنا أخبرني لو كنت أنا من فعلت المثل وعدت لخطيبي السابق كي أساعده على تخطي أزمة ما دون أن أخبرك وقتها ماذا كنت ستفعل حين تكتشف الأمر...حتى لو كنت وقتها ابتعد فأنت تدرك سبب ابتعادي ومثلما تقول أني لا أكن لك الثقة...كان عليك أن تعطيني إياها أنت في المقابل وتثق بأنك إذا صرحتني وحاولت أن تفهمني وجهة نظرك وتقنعني وقتها...لا أن تخبر أخي كي ترضي جانب من ضميرك...هل تدرك كيف أرى الأمر من مكاني بأنك كنت تخدعنا معا...تخدعها هي من أجل مرضها وتخدعني أنا كي لا ابتعد عنك أكثر)
بهتت ملامحه وتململ في وقفته...ابتلع ريقه ثم همس بتفهم
(صدقيني أفهم صدمتك من الأمر...ولكن نيتي لم تكن تحمل أي أذى...أنا...أنا فقط قلقت وقتها...ورغبت في المساعدة وفي نفس الوقت لم أرغب بفقدك أكثر)
بابتسامة باهتة ردت
(والآن ألم تفقدني بالفعل يامجاهد؟؟؟)
ارتعشت عضلة فكه بعنف...أخرج كفيه من جيبي سرواله بعدما كانتا منقبضتين بداخلهما...لم يبالِ وهو يجثو بجانبها على ركبتيه...هاتفا بصرامة خشنة
(لا لم أفعل...ولن يحدث هل تفهمين!!...عاقبيني مثلما شئتِ لكن لن ابتعد عنكِ بعدما وجدتك...لن يحدث سوى في حالة واحدة فقط يا تغريد)
تطلع لها بعمق ثم استكمل بقوة
(في حالة موتي فقط)
انتفضت وسيرة الموت تقبض قلبها وخاصة حين ترتبط بمن تحبهم...همست بخفوت وهي تسبل أهدابها للأسفل
(أريد الراحة....أرجوك اتركني الآن)
تنهد بقوة...ثم هتف ببطء وهو يراقب خلجاتها بتفحص شغوف
(حسنا يا تغريد...سأترككِ ترتاحين ولكن قبلها أريد سماع إجابة وأن تختاري خيارا من الخيارين... أنا طلبت يدك من والدك)
انتفضت ورفعت رأسها بسرعة تطالعه بغضب شديد...ولكنه لم يبالِ فاستطرد بنفس اللهجة
(في الحقيقة أنا لن أدع ما حدث يؤثر على الفرصة التي وعدتي بإعطائي إياها...فكل ما تبغيه وتريدي القيام به معي فلنفعله أمام الجميع دون إخفاء للأمر...لذلك أنا أتسأل ما رأيك بأن نعقد قراننا هنا في المشفى أم ننتظر أسبوع آخر حتى موعد خروجك ونعقده في المنزل!!...أيهما تفضلين؟؟)
كل أنواع التعبير التي تعبر عن الاستنكار والرفض تجلت على وجهها....حتى دهشة نظراتها لم تخفف من حدة تعبيرها...هتفت بعدم تصديق
(حقا؟؟...أتقصد التعامل بجنون أم ماذا أنا لا أفهم؟؟؟....ألم تسمع أي مما قلته من حديثي السابق؟؟؟)
كانت تبدو رغم صدمتها مشوشة وحائرة ومرتبكة للغاية...فنظراتها زائغة ولا تستطيع تثبيتها عليه فأخذت تدور من حوله...بثبات واثق أجاب
(وأنتِ ألم تفهمي ما نطقته بعدك!!...لكِ أن تفعلي ما شئتِ بي ولكن أنسي أي أمر يخص فراقك عني...ستعاقبيني مثلما تريدين وتخاصميني الوقت التي تحتاجيه ولكن سنفعل كل هذا وأنتِ معي...أنا تركت لك المساحة التي أردتيها وأكثر يا تغريد حتى أخطأت في تقديرها وقمت بالخطأ الفادح هذا من وجهة نظرك...ولكن بما أنني لن أتحمل أي ابتعاد أكثر فلذلك هذان هما الخياران والحلان الوحيدان معي...سأترككِ تقررين وترتاحين ثم سأعود القدوم لكِ مرة أخرى كي أعرف إجابتك...ولا تقلقي أنا لست بعيدا فأنا منتظرا بالخارج حتى تخرجي من هذا المكان الكئيب)
استقام واقترب منها لافحا إياها أنفاسه...فارتعشت بتأثر شديد...قبلها من جبهتها فاغمضت عينيها بقوة وملمس شفتيه فوق بشرتها يرعد أوصالها...لم يبتعد على الفور بل ظل لحظات طويلة في نفس موضعه...ثم ابتعد أخيرا متنهدا بقوة...اقترب من أذنيها هامسا بثلاث كلمات هزت كيانها وقلبها وعالمها بالكامل
(سامحيني...آسف...أحبك)
ثم تركها كي ترتاح...ولكن وقتها كانت الراحة مجرد رفاهية تدرك بأنها ضاعت منها للأبد...وبوضوح أكبر راحتها امتلكها هو بلا أي شروط بجانب حبها وقلبها...وتلك حقيقة كانت مفقودة منها منذ زمن طويل حتى اكتشفتها للتو...
ويا له من اكتشاف مرهق للغاية لها!!
************************************************** ************************************************** ********************************
(معاذ...أهذا أنت حقا؟؟)
كانت هذه أول عبارة تلفظت بها بعد صمت طال لدقائق طويلة...تراقبه بشغف...ملامحه المتجهمة وشعره الناعم المبعثر في تلك اللحظة...لحيته التي زادته جاذبية حبست لها أنفاسها...وزرقة عينيه...بحرها الخاص الذي كان يرافقها في شدة اشتياقها له...
برم شفتيه باستياء ثم أجاب بسخرية
(لا...عفريته)
رمشت بارتباك...وحاولت الخروج من مجال تأثيره ولكنها لم تستطع إبعاد عينيها عنه للحظة واحدة...فعينيها لم تطرف قط...تخاف...بل ترتعب من أن يختفي من أمامها من جديد...
ما حدث بعد ذلك لم تدركه ولم تفكر فيه حتى....هتفت بعدم تصديق وهي تندفع وتتعلق بعنقه
(يا إلهي...أنت هنا...معاذ)
نطقت اسمه بخفوت شديد...تمسكت به بقوة مغمضة عينيها باسترخاء...تستنشق رائحته بشغف مشتاق...لا تصدق أهذه هي!!!...نعم هي...ماذا فعلت بنفسها؟؟
وكيف بعدت عنه؟؟...كيف حرمت نفسها منه؟؟...
لاحظت تغيير سرعة أنفاسه وتجمده...حتى إنه لم يضع يديه عليها بل تململ كي يبعدها عنه...اتسعت عيناها وكادت تسب نفسها....ابتعدت عنه ببطء وهي مسبلة الأجفان ومحمرة الوجنتين...وهمست بسرعة خافتة
(أنا..آسفة...لم أقصد)
أخذت ترفع بكفها خصلة ساقطة فوق عينيها...ابتلعت ريقها وزاد توترها حين لاحظت صمته...رفعت عينيها ببطء كي تراه...فرمشت مجفلة حين وجدت نظراته مشتعلة تكاد تحرق الأخضر واليابس من شدة النيران المجتاحة زرقته القاتمة...
سمعت صوته أخيرا وهو يقول بخشونة
(هل تدركين ما الذي أعانيه الآن كي أظل مبتعدا عنك ولا أتهور في تصرفي فأجعلك تخافين مني؟؟؟)
بلت شفتيها بطرف لسانها...وأخذت تمعن النظر فيه...والحنين يظلل نظراتها...
بخشونة خشنة هتف معنفا
(رؤى لا تنظري بهذه الطريقة...فأنا أبذل جهدي حقا...كي لا أمد يدي...فلو فعلت صدقيني لن يبعدك أي كان عني...وسأتسبب في فضيحة لنا هنا)
ارتفع حاجباها بدهشة...ثم فجأة أخذت تضحك...ضحكت بشدة حتى أن عينيها دمعت من كثرة الضحك...كان يراقبها وقلبه يكاد يقفز بين صدره...يا إلهي...هو يحاول التماسك من أجلها...ولكنه الآن يكاد يدفع ما تبقى من حياته مقابلا لضمها في التو...أجفل حين تحولت ضحكاتها فجأة إلى هيستريا باكية...رفعت كفيها نحو وجهها وأخذت تشهق بعنف ووتيرة بكائها تزداد عنفا..
ارتبك ولم يدرك ما التصرف السليم...حاول الهمس مهدئا إياها
(رؤى...اهدئي...هل أحزنتك لهذه الدرجة؟؟؟)
انضرمت به كل الأحاسيس...فتاة بعنفوانها وقوتها أن يراها في تلك اللحظة بهذا الانهيار لهو قمة الألم بالنسبة له...ولكنها تعبت...يدرك ذلك...المحاربة الشجاعة تريد الراحة أخيرا وكم سيكون أسعد إنسانا على وجه الأرض لأنه لن يجعلها تبتعد عنه مثلما أرادت أن تفعل.. فإذا أرادت الراحة فهو وحده كفيل بها ولن يسمح لسواه بمنحه إياها...
هزت رأسها برفض..وهي تحاول إيقاف شهقاتها...مد كفيه التي كانت ترتعش بتأثر وأمسك كفيها يبعدهما عن وجهها...تجمدت ورفضت...ولكنه كان عازما فأبعدهما أخيرا...وأخذ يراقب وجهها الذي أحمر بشدة وأنفها الذي يماثله احمرارا حتى شفتيها تورمت قليلا من شدة الضعط عليهما...استغفر وأبعد أنظاره عنها بصعوبة...
كان ينهت وكأن الانفعال الذي يبذله الآن يكلفه الكثير من طاقته...حاول أن يلطف الجو المشحون بتوتر بينهما فهمس بمشاغبة رقيقة
(هل اشتقتِ لي لهذه الدرجة؟؟...لو كنت أعرف لكنت عجلت في قدومي عن هذا الموعد ولكن ما أخرني إجراءات السفر المملة)
وكأنه ذكرها بما حدث...فتسألت وهي تناظره بريبة وتمسح الدموع من فوق وجهها بظهر كفها...وكم زادت فتنته بها عن ذي قبل وقتها!!...
(هل أنت هنا حقا؟؟)
كانت الضحكة من نصيبه هذه المرة...غمز لها وهو يتسأل بتسلية
(هل تريدين إثبات ملموس؟؟...بالطبع هنا)
انتفضت وهي تتسأل بعدم تصديق
(كيف جئت؟؟..بل كيف عرفت أني هنا؟؟؟...من أخبرك؟؟)
رفع كفيه وهو يقول متمهلا
(اهدئي والتقطي أنفاسك حبيبتي...سأخبرك بكل شيء بالطبع...ولكن دعينا نجلس في مكان ما حتى نتحدث على راحتنا بدلا من وقفتنا المريبة هذه)
تضرجت وجنتيها وارتعشت تأثرا حينما سمعت لفظ حبيبتي على لسانه...كانت تطلع له ببلاهة...فعبس وهو يتسأل بقلق
(رؤى هل أنت بخير؟؟...هل تسمعيني؟؟)
رمشت بسرعة وأخذت تهرب بأنظارها منه...همست بتلعثم متوتر
(نعم..معك...فقط شردت...هيا لنذهب من هنا...أعرف مكانا جيدا وقريب للغاية يقدم قهوة لذيذة)
ابتسم براحة...ثم أفسح لها الطريق كل تتقدمه...قبل أن تخطو خطوة هتفت بتساؤل حائر
(ألن نذهب بالسيارة؟؟)
تنهد وهو يهمس بهدوء
(أنتِ قلتِ أن المكان قريب...لذلك أفضل السير معكِ...هيا وبعدها سنعود لأخذ السيارة)
كالمسيرة حركت رأسها بموافقة...ثم تحركت بتوتر أمامه تسبقه...وفي رأسها ألاف الأسئلة المحيرة...ولكن ما كان مسيطرا عليها بالفعل ويكاد يكون متلبسا إياها هو الراحة الشديدة...كمن وجدت أخيرا ملاذها وملجأها... ************************************************** ************************************************** *******************************
ترجل من السيارة...وجهه متجهم...شعره مبعثر بعشوائية من كثرة الشد فيه...وأنظاره متعبة للغاية...
دخل البناية وحالما وصل للدور المنشود...زفر بقوة...يحاول أن يعطي نفسه الدفعة المناسبة كي يحتوي ألمها...القلق يكاد ينهشه في تلك اللحظة...
كيف هي؟؟...وماذا حدث معها؟؟...وهل هي بخير؟؟...كل تلك الأسئلة سببت له المزيد من الصداع...مطارق تكاد تهشم رأسه من شدة الطرق...
ولكنه الآن يحتاج لكل القوة كي يساندها...فغنوته تحتاجه...ويالها من حقيقة تضرم في جسده نيران من شوق وتوق واشتعال لن يهدأ سوى بوصالها...
وصل أمام الباب الخشبي وأخذ عدة أنفاس متتالية...تلك المدرسة التي كرست نفسها لها في الفترة الأخيرة كي تقدم لها الافتتاح المناسب لها...وكم كان فخورا بها وهو يراقب إنجازها ونجاحها الذي تحاول شقه بنفسها...
أخرج المفتاح الخاص به...ووضعه في الباب...وحالما أداره وفتحه...لاحظ أمر مريب...دخل مسرعا ومتلهفا وهو يغلق الباب خلفه...حالما وصل للصالة الواسعة اتسعت عينيه هلعا...فالمكان كان في حالة مزرية...فوضى عارمة تحتل الصالة..قطع قماش مبعثرة هنا وهناك بعشوائية...وزجاج مهشم على الأرض شر تهشيم...
بصراخ قلق هتف وهو يبحث عنها
(غنوة...غنوة...أين أنتِ؟؟)
لا جواب...تملكه الذعر الشديد...وتحرك بسرعة يبحث عنها بلهفة قلقة...دخل أول غرفة موجودة في الممر الطويل...فتنهد براحة حينما رأها...كانت تبدو متعبة للغاية وضعيفة للغاية ومجروحة للغاية...وجدها تتنفس بانتظام فعرف بأنها نائمة بعمق...بخطوات بطيئة تقدم منها...وابتسامة حانية تشق ثغره...
كانت نائمة فوق الأرض الباردة ضامة نفسها بذراعيها كجنين صغير...وصل لها فحملها بين ذراعيه ببطء شديد كي لا تستيقظ...وزنها نقص عن ذي قبل...أراحت رأسها فوق صدره ونهتت براحة...تقدم بها نحو الأريكة الواسعة وجلس فوقها دون أن يتخلى عن قربها منه...
لن ينسى أبدا ما أصابه اليوم من مشاعر شتى بسببها...سيعاقبها بالتأكيد على ما سببته له من خوف وضعف وعجز وقلة حيلة...ولكن حين تخرج أولا من دوامة الماضي...ألا تعرف بأنه صار أقرب لها من أي كان وبأنه صار يفهم ما لا تفهمه هي...تنهد بعمق...وهو يمني نفسه أن تخرج من الأمر دون خسائر هذه المرة...يشعر بالتعب وبالكثير من القلق عليها...
شعر بتململها فأمال رأسه كي ينظر لها...فوجد أن تنفسها تغيير...
صمت لحظات يتنعم فيها بلحظة السلام تلك...ثم تسأل بخفوت
(لماذا فعلتِ هذا؟؟)
دفنت رأسها داخل صدره وتمسكت به بقوة...عقد حاجبيه وقلقه يزداد...وصل له أخيرا صوتها المكتوم
(ولماذا فعلت أنت كل هذا؟؟...بل كيف فعلت؟؟...وكيف تحملت؟؟..أشعر..أشعر..)
صمتت تبتلع غصة في حلقها...أكمل عنها بهدوء سلسل
(تشعرين بالغدر والخيانة...تشعرين بأن أقرب من في حياتك طعنك طعنة قاتلة لا نهوض بعدها...تشعرين بالتآكل بداخلك ونيران الشك وقلة الحيلة تشتعل كالنار في الهشيم)
وصل له صوت شهقتها...فزاد من ضمه إياها وهي زادت من تمسكها به...رجع بظهره للخلف...وأراحها داخل أحضانه...ثم همس بتأكيد
(سيمر...كل ما يؤلمك الآن سيمر صدقيني...ولكن كوني قوية وتحملي الألم وبعدها ستكونين أفضل)
رفعت رأسها أخيرا وتطلعت لوجهه القريب للغاية...قريب حد امتزاج الأنفاس...مدت كفها تمررها ببطء على ملامح وجهه...عينه...أنفه الشبه مستقيمة...وجنته المنحوتة برجولية حادة ولكن جذابة بطريقة تختطف الأنفاس...شفتيه التي كانت تخرج منهما أنفاس حارة...ابعد رأسه منتفضا...وعبس قليلا...همست بصوت مختنق وهي تطالعه بنظرات جعلت الحيرة تتملكه أكثر
(هل لهذا سقطت لأول مرة؟؟...حين عرفت بالأمر...أنت انهرت بسبب هذا أليس كذلك؟؟...ولكنك لم تخبر أحدا عن الأمر واكتفيت بالألم لك وحدك....كم كنت أنانية وقتها كي لا أفهم ما يحدث معك!!)
وضع أصبعه فوق شفتيها يمنعها من الاستمرار ثم هتف بصرامة خشنة يحاول أن يتحكم في رعشته حين لاحظ سرعة ربطها إلى الأمور...فهذا يجزعه...أن يتعامل مع غنوة وهي ضعيفة وحائرة يختلف تماما عن تعامله معها وهي متيقظة وقوية...نعم قوية فهي تحاوره الآن غير مبالية بوجعها وكسرتها تناقشه عن شعوره هو...ورغم شعوره بالسعادة العارمة بهذا الأمر ولكن يقلقه أن تكون مجرد انتكاسة أخرى قبل سقوطها من جديد..
(هشش...لا تلومي نفسك أبدا على أي شيء...لمَ فعلتِ كل هذا؟؟؟...لمَ بحثتِ عن أمر كان مصيره الدفن كي لا يؤلم شخص آخر؟؟)
دارت بأنظارها فوقه تطالعه بعبوس...وتسألت بصوت أبح
(ولمَ تحملت أنت كل هذا؟؟...لمَ أخذت فوق عاتقك ذنب لا ينتمي لك وجعلت من نفسك مذنب أمام الجميع وأولهم عائلتك؟؟)
صمت...وعضلة فكه تتحرك برفض...لاحظت نظراته المستاءة...ووجهه العابس...مدت كفها من جديد كي تفك عقدة حاجبيه...ثم استطردت بتفهم
(أنت فعلت كل هذا من أجله أليس كذلك؟؟)
ابعد وجهه من جديد عن مسار كفها الناعم...ذلك الكف الذي يثير بداخله مشاعر بدائية لا تدرك لجام...فهي في هذا الوقت لا تحتاج سوى للهدوء والصبر والتريث..
هتف بضيق
(نحن نتحدث عنكِ أنتِ هنا...فهل يمكن أن نترك الحديث عني وتخبريني عما حدث معكِ؟؟)
ابتلعت ريقها من جديد واغمضت عينيها بشدة فانخلع قلبه حين وجد وجهها يشحب من جديد وأنفاسها تضطرب بشدة...همست بصوت واهن متعثر والخجل ينبض فوق وجهها المتضرج بحمرة لذيذة ظهرت أثناء حديثها
(حسنا سأفعل...ولكن هل يمكن قبلها أن تقبلني وتضمني قليلا في حضنك؟؟)
اتسعت عينيه بشدة...والذهول يجمده...تطلع لها بعدم تصديق...ويكاد يجزم بأن أذنه أصابها مكروه ما...ولكن حين فتحت عينيها ببطء وأخذت تطالعه بترقب واحتياج شديد...وقتها صم صوت العقل كالعادة واتبع القافز بين ضلوعه بإثارة مفتونة...فانتقض على شفتيها يقبلها بألم متعطش..كمن كان ظمأنا حد الموت وارتشف أخيرا من بئر شديد العذوبة...
ازداد جنونه أكثر حين عدلت من نفسها فوق ركبتيه وأمسكت بكفيها وجهه تقبله بألم متماثل...كانت لحظة مجنونة...نسى العالم أجمع...بل نسى نفسه...كل شيء حوله كان باهتا...وعالمه انحصر بها هي...غنوته...لحنه الجميل الذي كاد يفقده ولكن القدر رأف بحاله فأهداه إياها من جديد...
ولكنها الآن تحتاجه...فهو لم يتصرف بأنانية من قبل معها وبالتأكيد لن يفعل الآن...فهي دائما وأبدا ستظل أول شيء وقبل أي شيء حتى قبل نفسه...
انتزع نفسه بعنف كي يبعد وجهه عنها...كل خلية في جسده تأن ألما...وقلبه يطالب وصالها...جنون...نعم هو يريدها الآن إلى حد الجنون...
ولكنه تجاهل ألمه...فألمها أكبر...والحقيقة فادحة إلى حد رغبتها في الهرب منها باعتباره مخدر فعال...عدلها بحذر..وضمها بين أحضانه...وأخذ يهدها كطفلة صغيرة...يستنشق رائحتها تارة ويهمس في أذنها بعبارات مساندة تارة أخرى..وهي في عالم آخر...
اغمضت عينيها تستمع بلحظة قربه...تستمع لدقات قلبه المضطربة...تحرك رأسها كي تحصل على وضع مريح...تتنهد براحة...
هل يخف الألم ويبهت حين نكون في حضرة الحبيب؟؟...
نعم فألمها الآن أصبح بعيدا...لأول مرة...الألم حي بداخلها والوجع شديد...ولكن لمسته تهون وجعها...تربت بحنان على روحها كي تنال الراحة والطمأنينة...
الصمت أطبق على المكان وخاصة حين هدأت عاصفة الأنفاس اللاهثة...كلاهما يستنشق الآخر...وصل له همسها الرقيق
(أنا لم أسألك...هل تتمنى أن يكون لديك فتاة أم فتى؟؟)
سمعت تنفسه العميق...وبلهجة حانية همس
(أتمنى أن تكون فتاة...تشبهك في كل شيء...وتأخذ لون عينيك الفاتنتين...أريدها فتاة كي أدللها كما فعلت مع والدتها ومثلما يجب أن تدلل)
شعر ببسمتها الخفيفة...فابتسم في المقابل...وصل له همسها المغيظ
(أنت لم تكن تدلل والدتها)
ارتفع حاجبه ورد باستهجان
(حقا!!...ألم أكن أفعل ولا أزال حتى وقتنا هذا؟؟؟)
ضمت نفسها أكثر إليه حتى كادت تختفي بداخله..فكل ما كانت ترغبه في تلك اللحظة هو أن تظل بداخلها إلى الأبد ربما...فهي لن تشتكي إذا حدث...
صوته...حنانه...رقته...حمايته... حبه بل عشقه لها...كلها أشياء أخذت تدعي من كل قلبها ألا تفقدها...
هي فقدت للتو ثقتها بكل من حولها...لكن هو...لا...هي لم تفعل...ولن تفعل...هذا ما تأكدت منه لتوها...
تنهدت وهي تذكر نفسها بأنها عليها أن تضع النقاط فوق الحروف...فلو كان تخطى الأمر بطريقة ما فهي ستفعل أيضا ولكن لن تبعد عنه...فالنقاط التي ترغب في وضعها تمثله هو بالنسبة لها...
همست بآسف
(أنا آسفة...على ظلمي لك..وعلى إساءتي إليك رغم إنك كنت تحاول إبعاد الأمر عنا كي لا نتألم من الحقيقة)
شعرت بتجمده...وصوته يهتف بوجوم مختنق
(لا أريد آسفك يا غنوة...ولا أريد شكرك أو امتنانك أيضا...كل ما فعلته أنا رغبت في القيام به ولم أرد فضح الأمر لسببين أولاهما كي لا أسبب لكم المزيد من الألم والآخر كي لا أحصل على المزيد من شكرك وعطائك أو كي لا تعتبريه دينا عليكِ سداده...وواجب جديد يطوق عنقكِ إتجاهي)
اعتدلت ببطء...ورفعت رأسها حتى صارت في مستواه...نظراتها تقابل نظراته الواجمة...همست بهدوء
(أنا لا أعتبر ما تفعله دين عليّ سداده يا جاسم...ولا أتحرك نحوك بدافع الامتنان والشكر...بل على العكس أنا أشعر بأني أنانية لأني آخذ منك كل شيء ولا أستطيع إعطاءك شيئا في المقابل)
برم شفتيه وتسأل بسخرية
(حقا)
اغمضت عينيها وهمست بخفوت متجاهلة نظراته المتفحصة والتي تربكها بشدة
(نعم...كن على ثقة بأن ما يحركني نحوك هو شعور اختبره لأول مرة...شعور يتحكم في روحي ويجتاح كياني...هل تعرف من جعلني أصمد أمام تلك المرأة التي شكلت أسوأ كوابيسي في الماضي!!)
تحرك لسانه بذهول وكيانه هو يُجتاح بجنون عابث
(من؟)
فتحت عينيها ببطء فحبس أنفاسه حين رأى لمعة نظراتها...وحمرتها القانية تخلب لبه...همست وكأنها تلقي تعويذة سحرية
(أنت...أنت السبب في تغييري...أنت السبب في جعلي أقوى حين تلقيت هذه الصدمة القاتلة...أنت الذي تربت على روحي وتضمد جرحي من نظرة واحدة تلقيها نحوي...نظرة تخبرني بأني..)
صمتت...وأخذت تضغط بقوة على شفتيها...والخجل يكتنفها بشدة...يا إلهي...لا تصدق بأنها تخبره بكل هذا....ولكنه يستحق...هي أذته وعاندته من قبل كثيرا ولكنها أبدا لم تسعده بلفظ لطيف يستحقه..
حثها ببطء مذهول
(تخبرك بماذا يا غنوة؟؟)
اغمضت عينيها وهمست بكل كيانها وقلبها يهرع كالطبول
(بأني أجمل نساء الأرض...وأن عشقي يصل إلى ما لانهاية في قلبك)
انمحى الذهول وحل محله العشق الخالص...عشق غنوته الخاصة...تلك الغنوة التي فقدت لحن لها في درب الحياة ولكنها الآن خطته من جديد وبيديها هي...واكتمل اللحن...وعادت الغنوة كاملة ورقيقة وناعمة كما كانت دوما...عادت تنشيه من جديد وتبهره...حاصلة عليه على حين غرة...
تنهد وهمس بخفوت مؤكد وواثق
(بل وأكثر مما تظنين...وأكثر مما ترين)
ظلت النظرات مستمرة لدقائق لم يحسبها...حتى قاطعتها همسها المتألم
(لمَ لم تخبرني بالأمر حين عرفت؟؟...لمَ تركتني لوهمي وذنبي؟؟...لمَ لم تصرخ في وجههي معنفا إياي لأني ظلمتك ويبدو أني لا أزال؟؟...لمَ يا جاسم؟؟..أرجوك أمنحني قليل من الراحة وأخبرني)
كان همسها محترقا وصدرها ينهت من شدة الانفعال...الحزن يتجلى في نظراتها...وقلة الحيلة رفيق لها...
استنشق الكثير من الهواء ثم رد بهدوء
(غنوة...إخباري من عدمه لن يغيير تلك الحقيقة...وسعيك خلفها خطأ منذ البداية...فبعض الجهل لا يضر...على عكس نور الحقيقة...فمهما وثقت في قوة نظرك سيظل يؤلمك كلما حاولت إبقاء عينيك مفتوحة أمامه)
عبست وتبدلت ملامح الحزن والألم لأخرى غاضبة...همست من بين أسنانها
(هل تخبرني بأنه من الأفضل أن أظل مغفلة ومغيبة كي أكون سعيدة...ولكن عفوا أحب أن أوضح لك بأني لم أكن سعيدة بالمرة...بل كنت أعيش داخل وهم وأنت لم تكلف نفسك حتى بإخراجي منه...أكتفيت بالمسكن ولم تقم بما مطلوب أن تفعله..حتى لو كان البتر هو العلاج فكان يجب أن تقوم به)
رفع حاجبيه وتسأل بريبة
(هل تلوميني الآن على إخفائي الأمر عنك فقط؟؟أم أني أهلوس لا أكثر؟؟)
استمرت على عبوسها وغضبها...زفرت بشدة وهي تتسأل...حقا ماذا تفعل؟؟...هل يؤلمها إخفاءه الأمر أكثر من الكارثة التي اكتشفتها لتوها!!...
نفس عميق آخر أخذه واستطرد بعده
(أنتِ تدركين جيدا سبب إخفائي الأمر لقد أخبرتك قبل دقائق...ولكن حقا أنا أريد معرفة هذا)
صمت قليلا ينظر لعينيها باهتمام شديد وتركيز حاد...ثم استكمل بهمس بطيء
(هل أنتِ بخير؟؟...وكيف تشعرين الآن؟؟)
صمتت...فأصابه القلق...تطلع له بنظرة يقسم بأنه لم يراها من قبل داخل دخانية عينيها...همست بخفوت
(الآن أنا بخير...أنت تجعلني أفضل...لا أنكر الألم الذي أصابني في مقتل ولكنه يخف بالتدريج كلما تحدثت معك)
بشك تسأل
(حقا؟؟؟)
ابتسامة صغيرة تكاد لا ترى زينت شفتيها...وهمست مؤكدة
(حقا...أنا حقا محظوظة بوجوك)
هو أخطأ!!...هي لم تنهار...تألمت ولا تزال وكسرت الكثير في عاصفة غضب...ولكنها لا تزال صامدة...لا تزال تحاوره ولم تأخذ من الصمت حاجز مثلما فعلت من قبل...هي تخبره بأنها...ماذا؟؟!!
تحرك لسانه بهذا التساؤل المصدوم...فاغمضت عينيها بيأس...ثم هتفت بسأم غليظ
(هل سأضطر لإعادة الحديث هكذا طويلا؟؟)
أمسك وجهها بين كفيه وهتف بخشونة مفتعلة
(ولمَ لا!!...فأنتِ ستضطرين للقيام بأشياء كثيرة لا تقلقي من هذه الناحية حبيبتي)
اغمضت عينيها...تتنعم بكفه الكبيرة والخشنة والتي تكاد تخدش نعومة بشرتها...ولكنها لم تبالِ قط...فأخذت تتمسح بكفيه كهريرة صغيرة ترغب في الرعاية والحنان...سمعت صوت ابتلاعه لريقه بصعوبة...وحين شعرت بأنفاسه القريبة للغاية تلفحها...رفعت كفها كي تمنعه مما ينتويه...فتحت عينيها ببطء...فرأت عبوسه وغضبه...
همست بدلال وهي تتنهد
(جاسم أريد أن أرقص...أرجوك)
والرد على طلبها المجنون...هتاف صارم وقاطع
(مستحيل...أنتِ حامل...قد تؤذين نفسك...والطبيب أخبرنا بأنه يتوجب عليكِ الراحة...وأنتِ ترغبين بالرقص...أبدا..لن يحدث)
فجأة اتسعت عينيها باستعطاف...ومطت شفتيها بإستياء محبب...فتشتت نظراته عليهما...حتى استمع بضباب لهمسها الساحر
(ولكني أرغب هذه المرة بالرقص معك...أرجوك لن أقوم بأي حركات صعبة أو خطيرة....أرجوك)
هذه المرة حصلت على تركيزه بالكامل...هتف بصوت أجش
(غنوة أنا لا أرقص...تعرفين ذلك...وخاصة إذا كان الرقص كرقصك المجنون)
هل ينسى؟؟...بالطبع لا...ذكريات مرت بصعوبة حتى أن جسده آنّ من شدة مرارتها...نفض رأسه بعنف....لا يريد الغرق في ماضٍ يحاول أن ينقذها هي منه...وكم إنه ممتنا لنجاح الأمر أخيرا!
هتفت بحماس مشتعل تحثه على الموافقة
(لن يكون مجنونا...صدقني...كما أني أرغب وبشدة بالرقص معك)
صمتت قليلا ثم استكملت بتنهيدة ضعيفة
(ثم أليس أنت من أخبرني أن أخرج طاقة حزني بالرقص؟؟...ألم تحثني على القيام بالأمر ونجح من قبل؟؟)
رد بلا مبالاة
(يبدو لي بأنكِ تنجحين في الأمر دون الحاجة إلى رقص...وحين أخبرتك لم تكوني حامل وقتها)
برمت شفتيها بعبوس وعقدت ذراعيها أمام صدرها ثم همست بضيق طفولي
(أنت تخاف على الطفل أكثر مني...حسنا لا بأس...ولكني لم أكن لآذي طفلي قط)
نظر لها ببلاهة ثم هتف بعدم تصديق
(حقا أنتِ مجنونة؟؟...أتظنين أني أخاف على الطفل وليس عليكِ!!...ألا فائدة منكِ!!)
حركت رأسها وعبوسها مستمر...وحين لم يغيير رأيه فكت عقدة ذراعيها ثم تقدمت منه بسرعة رامية نفسها بين أحضانه تتعلق بعنقه وتهمس بآسف خافت
(لا...أنا واثقة بأنك تخاف عليّ وبشدة...ولكني أرغب في الرقص أرجوك...أرقص معي...حقق لي أمنيتي تلك يا جاسم...أرجوك...فأنا بحاجة لها الآن...وبشدة)
تنهد بقوة..ثم استقام ببطء حاملا إياها...تعلقت بعنقه أكثر...وعيناها مغمضتين...وابتسامة واسعة ترتسم فوق ثغرها...هو وافق...لم تدرك سوى الآن بأن أكثر ما كانت ترغبه طوال حياتها هو أن يشاركها جاسم بالذات رقصة...أي رقصة...وأن غضبها وسخطها منه في الماضي كان بسبب عدم اهتمامه برغبتها وموهبتها...سخريته الدائمة منها لأن مهنتها التي تريديها هي مجرد راقصة...وقتها غضبت واشتعلت قهرا...هو بالذات من كانت تبحث في عينيه عن الرضا والمديح والذي كان يبخل بهما عليها في الماضي...وحين ساندها وطلب منها أن تخرج حزنها وتلجأ إلى شغفها وقتها فعلت لأنه هو من طلب...هو من أراد...اغمضت عينيها وهمست لنفسها
"كم كنتِ حمقاء يا غنوة"
وصلا إلى الصالة الكبيرة...والتي كانت مبعثرة بفوضى كبيرة...همست مبررة بآسف
(آسفة...لم أشعر بما أفعل...كنت أشعر بالكثير من الغضب والغدر و..)
صمتت تبتلع ريقها ثم استطردت وهي تتمسك به أكثر
(ولكن الآن...أنا أفضل)
كان ينظر لها بغموض...نظراته مغلقة ومبهمة كالعادة...أنزلها ببطء وهو لا يزال ينظر لعينيها...يخترق حصون روحها حصن حصن...همس ببطء
(لا تبرري...أعرف جيدا شعورك فأنا اختبرته قبلك...وأريد أن تكوني متأكدة من أمر هام...وهو أني...لا زلت أعشقك...ولا أعتقد أنه يوجد مفر من عشقك هذا...حاولت...وابتعدت...وهربت. ..ولكن في النهاية كنت أعود...دون إرادة مني أعود...وأخيرا استسلمت لسلطانك...حين...حين أعطاني القدر إياكِ من جديد...أترين أي أنانية يتصف بها عشقي لكِ)
ردت بهمس مماثل
(ليس مثل أنانيتي صدقتني)
تنهد وتنهدت في المقابل وأخذ يتطلع لنظرتها الغريبة...نظرة تفسيرها يحمل ألف معنى...ولكنه لا يقوى على تحمل سوء الظن والأوهام...تركها ببطء دون إضافة كلمة أخرى وذهب كي يشغل الموسيقى...اختار المفضلة لديها...ثم عاد إليها هامسا
(لا تضغطي على نفسك...أو تسرحي بخيالك بعيدا ناسية ما تحمليه بداخلك...والآن أخبريني ماذا أفعل؟؟)
ابتسمت ابتسامة حقيقية...ولمعت نظراتها بطريقة جعلت قلبه يكاد يتوقف تأثرا...وهمست بتأكيد واثق
(لا أستطيع أن أنسى ما أحمله وهو جزء منك...والآن كل ما هو مطلوب منك أن توافي خطواتي فحسب...وأترك نفسك لي)
يترك نفسه للغنوة...هل هناك ما هو أجمل من ذلك...أن يرقص معها على نغماتها فذلك هو أكبر حلم تمناه يوما...تهكم عليها وأحزنها في الماضي لأنه حُرم من المشاركة معها كي لا يفضح قلبه...كي لا ترى ما يحمله بداخله من عشق...نعم كان في الماضي يعاقب من والدته بالذهاب معهم لدروس الرقص...ولكن هل تعرف والدته بأنه هو من كان يقصد الخطأ كي يذهب ويراها فقط...ورغم عودته محملا بالكثير من الغيرة لأنها كانت تفضل مصاحبة عمار وسامر ولكن كانت تكفيه وقتها رؤيتها سعيدة ومرتاحة وخالية البال...وجهها كان صافي ومشع والحياة تنبض داخل نظراتها أينما تحركت...
وبدأت الرقصة...أمسكت بكفه وابتعدت مسافة بسيطة...تتحرك على النغمات وهو يدعمها...يحاول تذكر ما كان يحضره من دروس معهم...وتلك الأيام تعود له من جديد...كان هو مجرد شاب وهي مراهقة صغيرة تتحرك بفستان رقيق يناسب رقة بنيتها...تتحرك كفراشة حرة...
كلما اقتربت منه كانت تغمض عينيها...تتنعم بسحر اللحظة...نعم كانت لحظة ساحرة...ومختلفة...لحظة تختلف كل الاختلاف عن لحظات سابقة...الآن تعترف لنفسها بوضوح بأنها كانت تعيش داخل سردق من وهم...وهم بُني من كلمات كاذبة وهشة...لامت نفسها كثيرا لأنها عشقت جاسم...أنكرت كيف تعشق مرتين..وهي من آمنت بأن العشق لا يأتي سوى مرة واحدة...ولكن إذا كان الأول عشقا من الأساسا لما تواجد بداخلها الشك...شك كان سببا في خوفها الدائم معه...شك منعها من تسليم نفسها له كأي زوجة...شك انمحى بالكامل حينما وضع جاسم كفه فقط عليها وقتها سلمت حصونها...الآن فقط ترى الحقيقة...حقيقة ألمها حين أخبرهم جاسم بأنه هو السبب...وأن تلك المرأة تخصه وقتها هدمت وشعرت بروحها تنسحب منها ببطء...غضبت واشتعلت لأن اسمه ارتبط بجانب تلك المرأة حتى أن غضبها كان لهذا الأمر أكثر من معرفتها بأنه كان سببا لما حدث معهما قبل أكثر من عامين...واليوم هي تألمت وانكسر شيء بداخلها ولكن هل ستنكر الجزء الطفيف من الراحة الذي سكن قلبها بعدما بعدت التهمة عن جاسم؟؟...سامر خدعها وعيشها حياة زائفة ولكن جاسم أهداها حياة حقيقية...أهداها سبب لتعيش به وله بعدما ظنت بأن روحها ماتت وفي انتظار الجسد كي يلحقها لا أكثر...
هو أعطاها الكثير وهي أخذته منه في المقابل بنهم وظمأ حقيقي...فكيف يصف عشقه بالأنانية وعشقها المثال الحقيقي للأنانية المطلقة...ولكن رغم أنانيته تعيش بداخله حياة...فهي ولدت من جديد بسببه...
تحركت بسلاسة معه وقد شعرت بروحها خفيفة...يواكب حركاتها وكأنهما خلاقا للتمازج معا...روحها تحاكي روحه وتخبره سرا بحركتها التالية...نظراتهما لم تفترق قط سوى أثناء دورانها فقط حول نفسها...
كاد المقطع الموسيقي أن ينتهي...فقررت أن تكون النهاية تناسب الغنوة الحقيقية التي كان السبب في خلقها من رمادها...كالعنقاء...
اقتربت...حتى امتزجت الأنفاس...وأراحت جبهتها فوق جبهته...اغمضت عينيها فاغمضها في المقابل...أخذت عدة أنفاس تشجع نفسها...هو يستحق..فهذا أقل شيء قد تقدمه له بعد كل شيء...
احمر وجهها للغاية وهمست بتلعثم محبب
(سأخبرك...سرا...خطيرا...أتعرف بأن كل شكر..كنت أتفوه به سابقا...يعني شيئا آخر!! )
لم يفتح عينيه ولكنها شعرت بتلهفه حين تغييرت سرعة أنفاسه...استطردت همسا
(شيء لم أفهمه...ولكني كنت أجعل الشكر جدار له كي لا أعترف به وكي لا أجعلك تشعر به)
ابتلع ريقه...يستنشق عطرها بشغف...ورفع كفه يمرره على شعرها الذي انفك من عقاله...لا يزال همسها مستمرا...هو كان على حق حين وصفها بأنها ساحرة...ساحرته الصغيرة...التي لا تزال تسقط عليه تعويذاتها الخاصة...فتأثره بحبالها المتينة التي لا فكاك بعدها...
(أنا أحبك يا جاسم...لطالما أحببتك...هربت من هذا الشعور واختبأت...ولكن يبدو بأنه لا مفر من عشقك يا جاسم البدراوي)
هذه المرة انتفض...وابتعد عنها متطلعا لها بصدمة متجلية...عقد حاجبيه بألم وهتف
(حب امتنان يا غنوة أليس كذلك؟؟)
فتحت عينيها مجفلة وخاصة حين ابتعد فجأة...نظرت لألمه وحزنه...بالطبع لن يصدق...كيف تقنعه وهي اتخذت كل الطرق كي تقنعه بأنها ممتنة له لا أكثر بأنها تقدره لأفعاله وليس لذاته...ولكن كل هذا خطئا...ولن تستمر بدفع ثمنه...
اقتربت المسافة التي ابتعدها...وهمست بثبات واثق
(لا...ليس امتنانا يا جاسم...بل شيء أخر...الامتنان كان مجرد وجهة لا أكثر أخفي خلفها الكثير من الأشياء نحوك)
صمتت تتنهد ثم استكملت غير مبالية بوجهه الذي انغلق من فوقه التعابير
(جاسم...لو كان هذا عشقك فأنا واثقة بأني لم أكن عاشقة من قبل...وليس امتنان...أرجوك صدق هذا...أعرف أني لم أقم بما يجعلك تصدق ولكن على الأقل أشعر بما أشعره)
تقدمت المسافة التي ابتعدها...وأمسكت بكفه التي ارتعشت بين كفيها...ووضعتها فوق قلبها الذي يتقافز بعنف مؤلم...وسبب ضرباته الشديدة تلك هو قربه...قربه فقط يقلب كيانها...فما بالها بحبه...
نظرت في عينيه بعمق وتركيز حتى كادت تخترق نظراته...أخذت تهدأ من أنفاسها المتسارعة وهمست بكل كيانها تضغط على كل كلمة بتأكيد ثابت
(أنا...أحبك...يا..جاسم)
الانتفاضة هذه المرة كانت لتقريبها وليس العكس...غنوته...تخبره الآن بأنها تحبه...تحبه هو...قلبه يكاد يتوقف من اضطراب وعدم انتظام نبضاته...أنفاسه تكاد تزهق بداخل صدره...
هل تتحقق الأحلام المستحيلة؟؟....نعم...تتحقق...ح ين يؤمن الإنسان بالله أولا وبنفسه ثانيا...وهو آمن...حين تزوجت أخاه آمن بأن هذا هو قدره...وابتعد كي يرمم جرحه...وحين عادت له من جديد آمن بأنها حقا قدره الجميل الذي كتب له منذ الصغر...ويوم صارت ملكه زوجة حقيقية واكتشف بأنه الأول لها وقتها تأكد إيمانه أكثر وأكثر...
غنوة هي حلمه...والآن هذا الحلم صار واقعا ملموسا...قلبها ينبض تحت كفه يخبره باستحياء بأنه أصبح ملكا له...يشعر...نعم هو يشعر بأن قلبها يتهاتف في كل نبضة باسمه هو....نظراتها اللامعة دليل آخر...وأخيرا وجنتيها المحمرة بخجل مغرٍ...
همس متنهدا وكأنه يتذوق حروفها من جديد
(أخيرا أصبحت غنوة جاسم...أخيرا صارت الغنوة غنوتي...كم أنا شخص محظوظ للغاية)
ابتسمت...ودمعة...دمعة كانت الأولى لها اليوم...هي أقسمت أنها لن تبكي حين عرفت الحقيقة وتماسكت...ولكن الآن...ترغب في البكاء...وبالفعل أجهشت في البكاء فاحتضنها بقوة...يزرعها داخل ضلوعه...يمسد على ظهرها بحنان...صمت ولم يندهش من بكائها...كان يشعر بحجم الضغط الذي تتحمله...وأن تختاره هو منفذ لضغطها فهذا بالنسبة له قمة الشعور بالراحة والأمان...اغمض عينيه...يملس على شعرها بدفء محبب...وهو يهمس بثقة رقيقة
(لا بأس حبيبتي...أنا بجانبك...لا بأس...سيمر...ما دام نحن معا سيمر كل شيء)
وتلك العبارة كانت كافية لها كي تنسى مخاوف ظنت بأنه مهما مر من زمن لن تمحى...ولكن معه اخترقت كل القواعد...واجتازت أصعب الاختبارات...
************************************************** ************************************************** ********************************
جلسا معا في المقهى الراقي...طلبا القهوة...وصمتا يتطلعان كل منهما للآخر...من قال أن النظرات لا تقول كل شيء فهو أحمق...فكل نظرة تخبر حكاية...كل طرفة تهمس بشيء خاص وسري لا يعمله سواهما...
قاطع النظرات تلك قوله وهو يعقد ذراعيه فوق الطاولة
(والآن هلا أعدتِ من فضلك السبب حول هروبك بهذه الطريقة؟؟)
أخذت نفس طويل متسألة بهدوء رغم الاضطراب المشتعل بداخلها
(لمَ أتيت يا معاذ؟؟...لمَ لم تعش حياتك وتتركني لما اخترته؟؟)
هذه المرة رأت الغضب يظلل نظراته...فهتف بصرامة
(لا تهربي من الحديث يا رؤى وأخبريني لمَ جاءتِ إلى هنا؟؟...لمَ لجأتِ لها بعد كل هذا الوقت؟؟...بل لمَ الهرب من الأساس؟؟)
الغضب انتقل لها هي...فهتفت بعنف قاسٍ
(عفوا...كنت توفر على نفسك عناء المسافة وتقرأ رسائلك...أنا حرفيا كدت أتوسلك كي ترد على أي من اتصالاتي...أنت اختفيت وأنا عالمي تدهور ولم استطع الاستمرار بعدما ساءت الأمور بتلك الطريقة...والآن تأتي لمحاسبتي على الرحيل...أنت لا تمتلك الحق لذلك...ولن تفعل أبدا)
رجعت رأسه للخلف بصدمة...ولكنه تجاهلها ورد بتجهم
(قرأت رسائلك...وصدقيني كنت أتمنى قتلك حين عرفت عن رحيلك...بل لنقل هروبك...وسبب اختفائي أنتِ تعرفيه جيدا...فلا تنكري الآن...لمَ لم تأتي لي؟؟...لمَ اكتفيتِ بالرسائل والاتصالات فقط يارؤى؟؟...وبعدها قررتِ الرحيل دون أن تنظري للخلف حتى)
زفرت بقوة...وظهر الألم على وجهها...همست بمرارة حزينة
(لأنني مللت...وتعبت يامعاذ...أعتقد أني أخبرتك ذلك في رسالتي)
كان قد فقد أعصابه متأثرا بحزنها فهتف بغلاظة
(نعم...وقد أخبرتيني أيضا في نفس الرسالة أنك تحبيني...أليس كذلك؟؟)
ارتبكت..وهربت بأنظارها منه...كانت تتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعها...تتذكر اعترافها له ولنفسها قبله بهذا الحديث...احمرت وجنتيها...وهمست بتلعثم ترجوه
(معاذ...أرجوك...كفى...عد من حيث أتيت...فلا أمل لنا معا)
ضرب على الطاولة بكفه فأجفلها...واتسعت عينيها ذعرا...حين هتف بخشونة غاضبة
(كفى أنتِ يا رؤى...من أنتِ لتقرري عني هذا الأمر...فأريد أن أذكرك بأنكِ هنا لست المديرة وأنا مجرد موظف أعمل لديكِ وانتظر تعليماتك)
نظرت حولها فوجدت أنهما مادة للنظر لكل رواد المكان...همست بترجٍ وهي تعيد أنظارها له
(معاذ أرجوك...هلا هدأت قليلا...فالناس تتطلع إلينا)
نظر حوله فوجد أن الجميع بالفعل يتطلع إليهما...اغمض عينيه كي يأخذ أنفاسه...ثم فتحهما هاتفا بحسم ونبرته قد هدأت قليلا
(رؤى..ستعودين معي...وهذا ما لن أقبل بغيره...من أنتِ لتقولي بأن لا أمل لنا معا؟؟...هل تتكهنين بالمستقبل مثلا وأنا لا أعرف؟؟)
أضاف تسأله الأخير بتهكم واضح...فعقدت حاجبيها بعبوس واشتعلت نظراتها أكثر..وقالت بحنق وغصة حلقها تؤلمها بشدة
(لا...لا أفعل...ولكنك تستحق الأفضل مني...تستحق فتاة لها ماضٍ مشرف...فتاة من عائلة تفتخر بها...وليس فتاة ذات ماضٍ مشين واسم عائلتها ستظل تتدواله الألسن لأعوام طويلة)
هتف آمرا بشيء من الحزم الغليظ
(هلا توقفتِ عن إبخاسك قدر نفسك من فضلك؟؟...أنتِ لستِ صاحبة ماضي مشين مثلما تظنين...فلا ذنب لكِ فيما حدث...ومن الظلم أن تدفعي هذا الثمن طوال حياتك...تستحقين الحياة يا رؤى فلا تبخلي بها على نفسك...هذا أولا...ثانيا...ما حدث أيضا مع والدك خارج عن إطارك تماما...وإذا نظرنا لاسم العائلة هنا...فأنا أظن بأن أنتِ المعرضة للحديث وليس أنا...حين يعايركِ من في طبقتك عن الموظف الذي يرغب في الزواج منكِ طمعا فيكِ وفي أملاكك مثلا أو كي يحصل منكِ على بعض المتعة بعدما أصبحت وحيدة وبلا سند..أليس كذلك؟؟)
امتعضت ملامحها...وهتفت مسرعة تدافع عنه
(أنت رائع...ولا يهم كيف يراك هؤلاء الحمقى...المهم هو كيف أراك أنا...صدقني أنا أراك في مكانة تستحق فيها كل ما هو رائع)
تنهد وتقدم من الطاولة...ثم أمسك بكفها القابعة فوقها...ارتجفت من لمسته...ولكنه همس بهدوء يحثها على الاقناع
(رؤى...أنا حين اعترفت بمشاعري نحوك...والتي أخبرتك من قبل أنها تتخطى الإعجاب بل أني أجزمت بأنها تخطت الحب حتى وبمراحل...بسبب الجنون الذي سببه لي رحيلك...وقتها كنت أظن بأني غير جدير بكِ...وأن المستوى الاجتماعي سيظل العائق الدائم لي معكِ...حاولت أن أضع على قلبي حجر كي لا يتبع ما هو مرتفع بالفعل عليه ولن يستطيع تسلقه مهما حاول...ولكني فشلت...أنا أعشقك يا رؤى هانم وأتمنى أن توافقي على هذا الشاب المتواضع والبسيط بأن يكون زوجا لكِ...أرجوكِ)
لا تعلم كيف ظهرت دموعها...ولكنها أصبحت تراه من خلف ضباب نظراتها...أنفاسها لاهثة...وقلبها يتقافز بشدة حتى ألمها...
همست بتعثر حين انفك انعقاد لسانها
(ولكن معاذ...أنت..)
قاطعها بحسم جاد
(رؤى...يكفيكِ إعادة نفس العبارة أني استحق الأفضل...فلو كنت كذلك فأنت أيضا تستحقين الأفضل مني...كوني على ثقة بذلك...فأنت بارعة الجمال...ذكية...موهوبة...وقائ� �ة بالفطرة...وأي رجل سيكون فخورا بأنكِ زوجته وامرأته...وبالطبع لن يكون هناك أي رجل هنا لأنك ستقبلين بي أنا...أليس كذلك؟؟)
ابتسمت بارتعاش وهمست بارتجاف
(يا لك من مغرور)
نفخ صدره وأجاب بثقة
(من بعض ما عندكم يا رؤى هانم...فأنتِ من منحني هذه الثقة حين أخبرتيني بمشاعرك نحوي)
صمت قليلا ثم استكمل بخفوت
(صدقيني وقتها كان مسيطرا عليّ شعورين متناقضين...أولهما أن أرغب في ضمك وشكرك لأنكِ بادلتيني ما أكنه لكِ...والثاني أردت وبشدة خنقك لأنك ابتعدتِ عني وتركتيني)
ازدادت الدموع في عينيها...فازداد تأثره...مد كفه وكأنه يرغب في مسحهم عن عينيها ولكنه أوقفها في الهواء هامسا بتنهد وهو ينزلها من جديد
(رؤى لا تبكي...أرجوك...فأنا أرغب في إزالة هذا الحزن وإعطاءك كل ما تستحقيه من سعادة )
مسحت بكفها دموعها وهمست بتأكيد
(وأنت تبلي حسنا في هذا صدقني...وأنا..)
اغمضت عينيها بشدة ولكنها فتحتهما هامسة ببطء
(أنا آسفة لابتعادي ولكني أردت أن ابتعد كي لا أسبب لك الألم أكثر...سامحني يا معاذ أرجوك)
تنهد ورد بخشونة مفتعلة
(حسنا سأفعل إذا وافقت على الزواج)
ضحكت من جديد...وردت بعد تفكير دام لحظات
(اممم...أعتقد بأني أحتاج المزيد من الوقت لأقرر..)
هذه المرة وقع قلبه بين قدميه...هل ترفضه؟؟...هل لا تريده بالفعل ورغبتها في الابتعاد عنه كانت حقيقية ولا سبيل لعودتها حقا؟؟...
ولكن شكوكه انهدمت حين استكملت بتنهيدة عميقة
(لأقرر من أين سأشتري فستان الزفاف)
هذه المرة رغب حقا بخنقها أمام الجميع...فسرت نظراته الشيطانية فابتسمت بخبث...ورد متوعدا
(أتعرفين بأنكِ ستدفعين ثمن كل هذا بعد زواجنا يا رؤى هانم؟؟)
كانت ابتسامتها تلك المرة حقيقية ومن قلبها...حتى إنه فتن بها أكثر من ذي قبل...همس بتحذير صارم
(لا تبتسمي هكذا...وإلا سترين وجها غير متحضر بالمرة للبشمهندس المحترم)
حاولت التحكم في ضحكاتها...ولكنها فشلت...فأخذت تضحك...تضحك بالفعل من قلبها...ضحكة خالية وصافية...نظرت له بآسف...فقابل نظراتها بالتوعد مرة أخرى...
بعدما خفت موجة الضحك هتفت بسؤال متأخر وهي تعقد حاجبيها بشك
(من أخبرك عن مكاني؟؟)
تطلع لها بغضب...ثم أجاب بغيرة كادت تضحكها من جديد
(سيكون من!!...سوى صديقك المخلص)
ردت بعدم تصديق
(حقا...جاسم أخبرك...لقد تعهد لي بألا يفعل)
نظر لها بقسوة غاضبة...والغيرة تشع بلا رحمة من نظراته...ولكنه هتف من بين أسنانه
(لا تخافي على عهده لكِ...هو لم يعطيني سوى مفتاح صغير عن مكان تواجدك حين رأى جنوني كي أصل إليكِ...أما معرفتي بالبلد نفسها...فهذا تذكرته بمفردي...فصديقك المخلص لم ينكث العهد بالكامل يا حبيبتي)
رغم الارتباك والسعادة والراحة الشديدة لوجوده...ولكنها بالفعل ممتنة لهذه اللحظة...هذة اللحظة التي ستظل محفورة بداخلها حتى نهاية حياتها...لحظة مجيء فارسها لإنقاذها وليحررها من أفكار مسمومة ظنت بأنها صحيحة وتستحق التضحية من أجلها...
همست بخفوت
(جاسم مثل أخي يا معاذ...وصدقني أنا أكن له الاحترام والتقدير لأنه لم يحملني ذنب أمور كثيرة سأخبرك عنها بالكامل حين تكون جاهزا لسماعها...والآن هل يمكنك إخباري كيف أتيت إلى هنا؟؟)
تنهد...وكان مرحبا بتغيير الموضوع فكلما تذكره رغب في لكمه ولا يعرف سر هذا الأمر...رد بثبات
(أتقصدين أي وسيلة استخدمت؟؟)
استكمل بمزاح طفيف
(بالطبع جئت بالطائرة...ولم آتي سيرا على الأقدام...أما بالنسبة لطريقة توفيري لتذكرتها وكل هذه الأشياء...حسنا...أنا أملك مبلغ كبير إلى حد ما كنت قد جهزته وجمعته من أجل شقة الزوجية...ولكن ما فائدتها إذا كانت الزوجة هاربة...لهذا قررت أن أجلبها أولا ونعقد قراننا وبعدها نكمل على ما لدينا من أجل شقتنا)
ضحكت من جديد...ووجنتيها يكادا ينفجرا من احمرارهما....زوجة...لقب كانت تظن بأنها لن تحصل عليه أبدا...ولكن ها هو حبيبها يكافأها به...هل لو صرخت أمام الجميع الآن بأنها تعشق هذا الشخص سيصفوها بأنها فتاة بلا حياء؟؟...
هتف آمرا من جديد
(لا تنظري لي هكذا...أخبرتك بأني أتحكم في نفسي بمعجزة إلهية...فهلا أخفيتِ نظراتك تلك لحين عودتنا للوطن كي نعقد قراننا)
اخفضت نظراتها بخجل...خجل وحياء لم يشعرها به سواه....سمعت تنهيدته العميقة...وصوته الهادئ يخبرها
(هيا رؤى...دعينا نذهب كي توضبي أغراضك...فاليوم سنعود إلى وطننا ولن تقيمي دقيقة أخرى بعيدا عني...يكفي ما عانيته بسببك)
ولو كان السكوت علامة الرضا...فهي سكتت...ونفذت كل شيء مثلما أخبرها...فهي سلمته مقاليد قلبها وانتهى الأمر وبالتالي لن تبالي حين تسلمه مقاليد نفسها وروحها وحياتها كذلك...
************************************************** ************************************************** *****************************
تقدم خطوة وتؤخر أخرى ولكنها حسمت أمرها وبصرامة أكتسبتها منه...اقتحمت مكتبه دون طرق...نظر لها بغضب صارم لأنها قاطعت خلوته المقدس...هتفت بشجاعة قبل أن تتخاذل
(مختار أرغب في الحديث معك..وبشكل ضروري)
هتف بصرامة لطالما أخافتها وجعلتها تلبي طالبته مقنعة نفسها بأن تلك الطلبات صدد لما تريده هي
(أنا مشغول الآن ألا تري هذا!!)
ردت بسخرية
(أرى...صدقني أرى جيدا...فأنت دوما مشغول...فأنت لا تخبرني الآن بشيء مختلف)
تنهدت وأضافت بحسم
(ولكن الآن حان الوقت لتعطيل مشاغلك قليلا...أنا أريد ابني يا مختار...أريد أن تنهي هذا الخلاف اللعين بينكما وتتركه يعود لأحضاني...يعود إلينا من جديد)
استقام بغضب عارم...ولكن ما جعلها تتماسك هو الحنين والألم الساكن بنظراته...أخذ يزعق بقسوة وصرامة
(هل جننتِ؟؟...كيف تجرؤين على التحدث معي بهذا الشكل؟؟؟...ثم أنا أخبرتك بأن هذا الموضوع منتهي...إما أن يعود هو بمفرده معترفا بخطأه وإما أن يجعل منزل البدراوي هم أهله للأبد وينسنا نحن في المقابل)
بفتور وقلب أم لا تريد سوى وحيدها الذي حرمت منه بسبب غمرة غباء هتفت
(أولا أنا تعلمت الحديث منك يا مختار...ثانيا هذا الموضوع لديه حل ثالث لم تذكره بعد)
نظر لها بتحذير ولكنها اكتفت فاستكملت بقوة
(أن تنهي هذا الحوار وتجعله ينال ما اختاره هذه المرة دون تدخل أي منا ودون أي تحكم لعين في حياته...وإما أن أترك هذا المنزل وحياتك يا مختار لأني اكتفيت من أحكامك المتعسفة)
ألقت بقنبلتها وخطت للخارج...وارتجفت حين استمعت لصوت التهشيم العالي بداخل مكتبه حتى سكن كل شيء...وقتها أدركت بأن العاصفة انتهت ولكنها لم تعرف بعد ما نتيجتها الحاسمة والأخيرة...
************************************************** ************************************************** ******************************
وصل لأرض الوطن أخيرا بعد رحلة طويلة ومرهقة...ولكن ما هونها أنها كانت بصحبته...تنهد براحة...حتى لو كانت تلك الراحة منقوصة تظل تسمى راحة...
فتح هاتفه فصعق من كم الرسائل التي تخبره بمحاولة والده للإتصال به...بالتأكيد هناك كارثة...والنغزة التي تضرب قلبه منذ ساعت تخبره بأن المقصود بتلك الكارثة هو فتاته الصغيرة...يمنه...
لاحظت رؤى هلع نظراته...فتسألت بحذر
(معاذ..هل كل شيء على مايرام؟؟)
رد على عجلة وهو يشعر بسهم ينفد إلى قلبه
(علينا بالإسراع...سنذهب لمنزلي...أعتقد بأن هناك مشكلة حقيقية)
قلقت وشعرت بالخوف من جديد...فهتف مسرعا
(أرجوك رؤى...كوني بجانبي هذه الفترة وتحملي معي قليلا...أعرف بأني أحملك فوق طاقتك ولكن أرجوك لا تتعاملي بحساسية إتجاهي في هذه الفترة بالذات)
حبيبها العطوف...هل يظن بأنها ستهرب هلعا من جديد حين يحملها فوق طاقتها...ألا يعرف بأنها ستظل معه وبجانبه مهما حدث...وأن ذلك عهد أتخذته على نفسها حين قررت العودة معه...
هتفت مطمئنة
(لا تقلق يا معاذ...أنا بجانبك...مهما حدث ستجدني كذلك...والآن هيا لنسرع للذهاب)
وحين عاد للمنزل كان غضبه يكاد يحرق قارة بأكملها...فقرر الذهاب لذلك النذل للتخلص منه للأبد هذه المرة وليذهب كل شيء للجحيم...هذا البأس هو السبب في هروب يمن...والكارثة الأفضح أنها لم تلجأ إليهم...
كاد أن يجوب الطرقات بحثا عنها...وقلبه يكاد يتوقف من حجم الرعب عليها وآلاف السيناريوهات السيئة والقميئة ترتسم في ذهنه...حتى وصلت له رسالة كانت الخلاص...رسالة لا يعرف هل يسعد بها أم يزداد قلقه أضعافا مضاعفة؟؟..رسالة يخبره فيها مرسلها
" لا تقلق على أختك يمن فهي بأمان عندي...ومن الأفضل أن تأتي بمفردك للعنوان الذي سأرسله لك لأنها بحاجة لك...ولا تخبر زوجها مهما حدث...فهي ترفض هذا وبشدة"


همسةبيجونيا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 09-09-20, 05:36 PM   #370

همسةبيجونيا
 
الصورة الرمزية همسةبيجونيا

? العضوٌ??? » 447118
?  التسِجيلٌ » Jun 2019
? مشَارَ?اتْي » 179
?  نُقآطِيْ » همسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond reputeهمسةبيجونيا has a reputation beyond repute
Rewitysmile27 رواية لحن مفقود(الفصل الأربعون والأخير)

الفصل الأربعون والأخير
*****************
وما بين حُبٍّ وحبٍّ...أُحبُّكِ أنتِ..
وما بين واحدةٍ ودَّعَتْني..
وواحدةٍ سوف تأتي..
أُفتِّشُ عنكِ هنا...وهناكْ..
كأنَّ الزمانَ الوحيدَ زمَانُكِ أنتِ..
كأنَ جميعَ الوعودِ تصبُّ بعينيكِ أنتِ..
نزار قباني

لكم كيس الملاكمة الضخم بكفيه العاريتين...ورغم الدماء المنبثقة منهما ولكنه لا يشعر بالألم...فقط يشعر بالتخدير...حتى روحه تخدرت بالكامل...عقله كاد يجن...منذ أكثر من شهرين وهو يبحث عنها...لم يترك مكان محتمل وغير محتمل إلا وبحث فيه...أهلها يعاملوه ببرود وكره واضح ولكنه يثق بأنهم يعرفون طريقها...هدد وصرخ ولكن لا مجيب...بعث الكثير من الرجال للبحث عنها...ولكن يبدو بأن الجميع قد اتفق عليه...فلا شيء يساعده بالمرة في العثور عليها...فهي تبخرت من حياته...وكأنها لم تظهر فيها يوما...
ولكن أمس كانت الضربة القاصمة...حين كان في عمله الذي كان يؤديه بنصف عقله كالعادة والذي أعاده إليه والده بعدما رأى حالته المزرية فطلب بجفاف عودته شفقة بحاله العصيب إلا إن الخصام لم يقطع بعد وخاصة بعد تفجير المفاجأة من غنوة في وجه الجميع ولا يعتقد بأنه قد يحصل على السماح منهم في أي وقت قريب....ولكن هذا لم يمنعه من العودة لعمله فهو كان يرغب بأي شيء يلهيه كي لا يجن بالفعل...وهذا ما كان على وشك حدوثه بالأمس...
حيث وصل على مكتبه ظرف من المحكمة...ظرف حين فتحه يقسم بأنه كاد يسقط مما بداخله...فالظرف ما هو إلا دعوى للطلاق...يمن تريد الطلاق الآن...وهو لا يملكها بين يديه كي يقتلها على طلبها ذلك...
لكم بقوة أكبر...العرق يتصبب من جسده العاري...لا يرتدي سوى بنطال رياضي واسع...يلهث وبشدة ولكنه لم يتوقف...ألم حاد أصاب صدره...فتوقف بغتة...تنفسه يزداد بقوة أكبر حتى كاد ينقطع...العالم يدور من حوله...فلم تقوَ ساقيه على حمله...فسقط على ركبتيه...يضع كفه فوق صدره يحاول تنظيم نبضاته الهاربة ولكن لا فائدة...منذ متى وهو يلعب بهذا الشكل القاسي؟؟...منذ ساعتين متواصلتين تقريبا...أراح جسده فوق الأرض...وأخذ يحدق في السقف...أنفاسه لا تزال على حالها...يشعر بها تزهق...يقاوم إغماض عينيه والذهاب لعالم آخر بمعجزة...
لمَ هي؟؟...لمَ لا يخرجها ببساطة من حياته ويكملها متخطيا غياها وكأنها لم تظهر قط؟؟؟...هل تمكنت منه إلى هذه الدرجة؟؟...نعم سيتألم إذا أطلق سراحها ولكن أليس أفضل من الألم الذي يصاحبه الآن!!...ألم...لا يطاله هو فحسب بل هي أيضا...هو كسرها وبدلها وقام معها بالكثير ولكنه كان على وشك إصلاح الأمر...حين صفعها وقتها اعترف لنفسه بأن هذه الصفعة كانت كالصفعة لروحه هو...صفعة جعلته يستفيق ويعترف بصوت عال أمام نفسه بأنه عاشق إلى حد النخاع...وأن تلك الفتاة هي الرابحة في لعبته هذه المرة...فقد حصلت على قلبه الذي كان فيما مضى محصنا ضد أي كان...إلا هي...هي الوحيدة التي امتلكته بلا منازع...ولكنها في المقابل دهسته أسفل قدميها غير مبالية به...
ألم يفعل نفس الشيء معها؟؟....هي اعترفت له بحبها فماذا قدم لها في المقابل؟؟؟...لا شيء...بل بالعكس حاول أن يبعدها عنه أكثر ويحمي نفسه منها...وكم كان واهما وقتها!!...فهي كانت بالفعل مالكة له وانتهى الأمر منذ زمن طويل...والآن هل يلومها على عقابها؟؟...لا بالطبع لا...هو لا يلومها البتة...هو يرغب في العثور عليها كي يوضح لها ويقدم لها مئات الاعتذارات ويخبرها بأنه صار أفضل بها...وأنه...اغمض عينيه بألم حين تذكر تلك النقطة...يخبرها بأنه لم يستطع أن يخونها...وأن ما ظنته خيانة لم يكن قط كذلك...هوبالفعل كان على وشك ذلك ليثبت بأنه لا سلطان لها عليه ولكنه كان مخطئا كالعادة...فتلك الفتاة الصغيرة والرقيقة والبريئة تملكت كل ذرة من كيانه...فكما وشمها به وشمت هي أيضا وطبعت بداخله وخارجه...فلم يرَ وقتها سواها...ورفض جسده أن يحصل على غيرها...رفض أن يخضع لأمر كان يفعله في الماضي بسهولة ويسر...
هدأ تنفسه قليلا ولكن الألم لم يخف...ضربات قلبه تكاد تخترق صدره من قوتها...لا يعتقد أن هذا الألم قد يرحل إلى إن وجدها...لم يرغب بشيء في حياته مثلما يرغبها هي...وحين استلم ورقة تطالبه بأنها ترغب بالخلاص منها...وقتها شعر بأنه يتيم مرة أخرى...وأن إحساسه السيء حين رحلت والدته عن العالم عاد له من جديد...ولكن هذه المرة كان هو السبب في رحيل من أحبها بجنون بسبب غبائه المطلق...
أمس تربص أمام منزل أهلها ولم يرحل لأكثر من أربع ساعات...زعق من جديد وصرخ فيهم أن يبلغوه بمكانها وأنه يريد التحدث معها فقط...حتى إنه لم يرد على لكمات أخيها المجنون وتوسله حرفيا كي يوصله بها...تجاهل كرامته وتحمل نظرة الانتقام والشماتة في نظراته وأراد فقط أن يوصله بها...
ولكن الجميع أبى مساعدته...نظرات الراحة والسعادة والهدوء التي كان يحصل عليهم بينهم فيما مضى اختفت ليحل محلها نظرات مملوءة بالخذلان والكره والرغبة في الخلاص منه...سيكون ملعونا عن حق إذا استنكر أفعالهم...
ولكن حتى المتهم يحصل على فرصة للدفاع عن نفسه...وهو يرغب في توضيح الأمور لها...يريد أن يخبرها عن الكثير من الأشياء....ولكن كيف يفعل؟؟...
لم يعرف كيف استسلم لغيبوبته المؤقتة ولا كيف انغلقت عينيه فجأة؟؟...ولكن كالعادة حين رأها في حلمه حاول أن يترجها سماعه ولكن حتى داخل الحلم كانت تهرب منه مبتعدة عنه هاربة...
************************************************** ************************************************** *******************************
يقال أن الماضي مجرد صفحة...صفحة تقرر أنت إما أن تعيش بداخلها وتكرر ما فيها دوما حتى ألمها تتجرعه باستمرار أو أن تغلقها للأبد دون أن تفتحها مرة أخرى والأفضل لو تمزقها...
وهي تحاول...يعلم الله بأنها تحاول إغلاق صفحته للأبد بل وإحراقها حتى...ولكنها تفشل...ولا تستطيع...
هل هي ضعيفة إلى هذه الدرجة؟؟...أم إنها ملعونة بالفعل به؟؟
لمَ هو؟؟؟...هل نعشق من يؤلمنا؟؟؟...لا بالطبع لا...ولكنه أستطاع أن يطبع روحها به...تدرك بأن الأمر مجرد لعبة...لعبة كانت بالنسبة له مكسب وخسارة...وحين تنظر الآن لنهايتها لا ترى سوى خسارتها الفادحة...خسارة من المفتؤض أن تجعلها تصمد على موقفها وتتخطاه...
(شاردة كالعادة يا يمن!!)
اجفلت بل وانتفض جسدها بقوة مفزوعة...هذا الأمر الذي جعله ينظر لها بغرابة حين لاحظه أول مرة...وقتها خاضت لجلسة مطولة معها يتسأل فيها عن حجم الأذى الذي سببه لها عمار...أخبرته بأنه لم يضربها قط...نعم كذبت ولكنه لم يعذبها طوال هذه الفترة أليس كذلك؟؟؟...نعم رأت الكثير من قسوته خلالها ولكنها أيضا ليست جاحدة كي تنسى رقته واعتناءه بها في البداية...نفضت رأسها بقسوة...وهي تلعن كل الطرق التي لا تصب سوى إتجاه واحد لا غير وهو إتجاه عمار الهواري....نظرت له بعتاب وهمست بعبوس مصطنع
(معاذي ألا فائدة منك...أخبرتك ألا تفعل هذا فأنت تفزعني)
معاذ...عاد إليها من جديد فعادت لها الحياة...كانت تشعر بنفسها وكأن هناك من قام بخلع جذورها ووطنها الحقيقي كي يحاول زرعها في تربة جديدة...جديدة ولكنها رديئة ومملوءة بالكثير من السموم الضارة...
معاذ عاد...ولكنها لم تعد يمن السابقة...ثقلت روحها...وأفكارها مسروقة بواسطة شخص كل الإشارات تخبرها بأن تنساه للأبد...فلمَ لا تفعل وحسب!!...فهي الآن تملك الدعم...وقد رأت هذا بنفسها...
دعم يماثله قوة ونفوذ...حتى إنه مثلما وعدها وأخبرها بالحرف...لن يستطيع الاقتراب منكِ أو العثور عليكِ طالما لا تريدي أنتِ ذلك...وبالتالي لا يوجد قلق أو خوف أيضا على عائلتها منه...
اغمضت عينيها وذكريات هذا اليوم تنبثق بلا رحمة داخل رأسها...يوم خرجت من منزله هاربة...وقتها كانت خطتها الابتعاد عنه لأميال كي لا يؤذي عائلتها...ولكنها فجأة شعرت بأنها بالفعل وحيدة...وخافت...حتى إنها جبنت وكادت تعود أدراجها لولا ظهوره في آخر لحظة...
وقتها كانت تنتظر منذ ساعات في محطة القطار...حتى أن الليل كان على وشك الانتصاف...وكادت تعرض للكثير من الذل والمهانة لولا ظهوره...ظهور جاسم البدراوي
وقتها جلس بجانبها وهتف بهدوء يناسب تجهم وجهه وتعقيدته الدائمة
(يبدو بأنكِ أخيرا قررت الهرب من الفخ الذي نصبه لكِ عمار)
وقتها نظرت له بضياع وكادت تجزم بأنها لمحت العطف في نظراته ولكنه كان شخصا متحكما ومسيطرا للغاية على ردود أفعاله...استكمل دون انتظار رد وبنفس نبرته
(أتدركين بأني حاولت إنقاذك منه منذ البداية...فهذه الفتاة لم تظهر في زفافكما صدفة بالطبع)
وقتها حصل بالفعل على أول رد فعل لها وهو الصدمة الصاعقة...ابتسامة خفيفة زينت شفتيه ثم قال مستطردا وهي تستمع كالبلهاء
(لمَ فعلتِ هذا؟؟...لمَ اختارتيه رغم معرفتك بحقيقته؟؟...ولا تخبريني بأنكِ كنت تعرفين من قبل...فطفل في الثلاثة من عمره سيخبرك بأنكِ كاذبة وأن صدمتك وقتها كان سببها معرفتك بالأمر لأول مرة)
انعقد لسانها وتجمدت أطرافها...حتى إنها ارتعشت وبشدة...انتظر حتى استطاعت أن تحرك لسانها المتجمد وتهمس بتعثر
(و...أنت...لمَ...لم تظهر الأمر...في وقت أبكر من ذلك؟؟؟)
نظر إليها ورد بتلذذ مريح
(ومن أين سأحصل على اللذة الحقيقية لفضحه علنا!!...الزفاف كان الأمثل لكشف الأمر كما تعلمين...وأنتِ لمَ ذهبتِ معه رغم معرفتك بكل شيء؟؟...أو للإيضاح...لمَ اخترتيه رغم مساوئه التي انكشفت أمامك؟؟)
زاغت نظراتها...وتضرجت بحمرة قانية من شدة الخجل...وهي تلوم نفسها بأنها منذ متى تتحدث مع شخص غريب وتجلس بكل تلك الألفة والأريحة ؟؟؟...ولكن هذا الشخص رغم غموضه الواضح وشعورها بالخوف إتجاهه ولكنها تشعر بالراحة له كذلك...
لم تمتلك سوى أن ترد بتلكؤ مرير
(من أجل عائلتي...هو لم يكن ليتركني...وكان ليؤذي عائلتي وأولهم أخي معاذ..وهم لا ذنب لهم في اختياري الخاطيء)
نظر لها بعمق وتسأل بتركيز حاد
(هل أنتِ واثقة بأن هذا هو السبب الوحيد؟؟)
ارتبكت من جديد...ولكن بسبب حزنها وألمها الشديد الذي لا يزال ينبض بالحياة بداخلها همست مؤكدة
(أجل هذا هو السبب الوحيد)
بعدها رمى بعرضه وهو يستقيم
(حسنا...لكِ حمايتي منه وحماية عائلتك كذلك ما دام هذا هو الخطر الذي يهددك به)
غضبت ولم تعرف لمَ؟؟...ولكن كرامتها ألمتها فهتفت بإيباء ضعيف
(شكرا لك...لا أحتاج للحماية...جميعنا تحت حماية الله ولا ملجأ لنا سواه)
تنهد بلا فائدة وهتف يجاريها
(ونعم بالله...جميعنا ليس لنا سوى الله يا يمن أنا أثق بهذا ومؤمن به لا تقلقي...ولكنك الآن في حرب وعليكِ أن تكوني حوت ضخم كي لا يبتلعك التيار...والآن القرار لكِ...لن أجبرك على أي شيء بالمناسبة)
لم تستطع سوى النظر له باستخفاف...وكأنها تخبره بنظراتها المدافعة بأنك لن تستطيع التفكير في الأمر حتى...ولم تدرك بأنها وقتها كانت معرضة لكل شيء...فقد كانت تمثل وقتها أيقونة من الحزن والبؤس والمرارة المهدرة...
رفع ذراعيه وهتف باستسلام
(حسنا...كما تريدين...على العموم هذا الكارت الخاص بي اتصلي بي إذا احتجتِ لأي مساعدة...وكوني واثقة بأني كفيل بعمار تماما...فإذا كان يمتلك النفوذ لأذى عائلتك فأنا امتلك ما هو أكثر منه بكثر كي أحميكِ أنتِ وكل من يخصك منه)
وقتها كاد يرحل فهتفت بتساؤل حذر ومحتار
(لمَ تفعل كل هذا؟؟...أنت حتى لا تعرفني كي تساعدني!!)
تنهد ورد بثبات
(تستطعين القول هذا لسببين هامين...أولاهما أنه يجمعني دين قديم بعمار وأحاول بشتى الطرق أن أرده له ولكن بطريقته...وثانيهما أنك تقربين بطريقة غير مباشرة لشخص عزيز عليّ للغاية)
وهذا الشخص هو رؤى بالطبع...وهذا ما عرفته لاحقا...وقتها لم تعرف كيف تتصرف ولكنها حاولت بث روح العزم بداخلها وقررت أن تقضي المتبقي من الليلة في فندق مغمور...لم يغمض لها جفن فيه من شدة الهلع والرعب...وكلماته تطرق ذهنها بلا رحمة...
وفي اليوم التالي قررت واتصلت به على الفور طالبة المساعدة بعدما يأست من الوصول لحل...وقتها أخبرها عن سيارة تنتظرها على مقربة منها وأنها كانت دوما معها كي تحميها إذا وقعت في ورطة ما...وقتها شعرت بالكثير من الامتنان الحقيقي إتجاه هذا الشخص الذي يبدو غامضا وباردا من الخارج ولكنه شخص يحب المساعدة ويعشق إغاظة معاذ كثيرا بمزاحه المتعمد مع رؤى...حتى أن معاذ أصدر فرمانه بعدم مجيء رؤى إلى هنا أثناء وجوده...
وها هي حاليا تقيم في المزرعة الخاصة بعائلة البدراوي...وكادت تضحك بسخرية حين عرفت المكان...فهي حرفيا هربت منهم فيهم كما يقولون...ولكنه تعهد بالكثير لها وأول طلباتها كان معاذ...الذي لم تصدق وقتها مجيئه أو وجوده أمامها في غمرة تعبها وضعفها الشديد...ولكنه كان حقيقيا...الآن هي أفضل...بل تحاول أن تكون أفضل...لن تنكر السعادة التي تحصل عليها حين تسمع عن معاناته...تنتشي بذله أمام الجميع كي يصل لها...جنونه..نعم...هي واثقة بأنه الآن على وشك الجنون...فكيف للفريسة أن تهرب من الصياد قبل أن يمتصها حتى الرمق الأخير!!!
(هاااي...أين ذهبتِ من جديد؟؟؟)
ردت بعدما رمشت قليلا
(أنا معك هنا...كيف حال أبي وأمي؟؟)
تنهد ورد بحسم
(غاضبان كالعادة...يمن هما وأنا أيضا نرغب بعودتك لمنزلك...لا يصح المكوث هكذا عند الغرباء...أنتِ لديكِ عائلة تستطيع حمايتك بروحها...تعرفين ذلك جيدا)
تنهدت وهتفت بإنزعاج حقيقي
(معاذ...نحن تحدثنا عن الأمر آلاف المرات تقريبا...وأنا وضحت لك وجهة نظري)
عبس قائلا بغضب مكبوت
(عن أي وجهة نظر تتحدثين؟؟؟...أنا تركتكِ طوال هذه الفترة حتى تصبحين أفضل...ولم نرغب بالضغط عليكِ لأن حالتك كانت سيئة بالفعل...ولكن يكفي يا يمن...أنت حرفيا تعيشين كالهاربة من جريمة ما...إلى متى ستظلين مختفية بهذا الشكل؟؟؟...وإلى متى ستعلقين حياتك بهذا الشكل؟؟...حين يصفح عنك أخيرا ويمنحك خلاصك منه؟؟)
اشتعل غضبها حين تحدث باستنكار مستهجن في نهاية حديثه...فاستقامت تصيح بسخط
(نعم...سأظل هكذا حتى أحصل منه على طلاقي اللعين يا معاذ...لا أستطيع المجازفة...أنت لا تعرفه...ولكن أنا أفعل...أنا فقط من أعرفه على حقيقته)
استقام أمامها وتسأل بغيظ لاذع
(لمَ إذن لا تريدي مقابلته؟؟...لمَ لا تواجهيه وتخبريه برغبتك تلك بالخلاص منه؟؟؟...أنا سألتك..سألتك إذا كان قد أساء إليك أو أذاكِ ولكنكِ تنكرين الأمر في كل مرة...ولكن الآن أريد إجابة صريحة ومباشرة دون خدعك الجديدة تلك يا يمن...مما تهربين بالضبط؟؟؟...منه أم من نفسك!!)
أجفلت...وارتبكت ملامحها...حتى أن زرقتها غامت وأصبحت كالضباب...وكأنه بكل هذا حصل على الإجابة المنشودة...همس بعدم تصديق وهو ينظر داخل عينيها يتفحصها بتركيز..فأدرك المعنى الخفي داخل نظراتها تلك...معنى يدركه إدراك تام..
(يا إلهي...رغم كل ما فعله بكِ...أنتِ لا زلت تعشقيه...وهروبك ليس منه مثلما أعتقدت بل من نفسك...لا أصدق)
احتقن وجهها...حتى إنه شحب للغاية حتى صارت تشبه الأموات...ابتعدت عنه ببطء حينما شعرت بالدموع تغزو عينيها...تريد الهرب...لا تريد من يضعها أمام مرآة مشاعرها...لا تريد من يخبرها عن لعنتها...هي تريد الخلاص...فقط تريد العودة لروحها السابقة...ولكن هل ستفعل ذلك بعدما ترحل عنه للأبد؟؟...أم سيظل وشمه مطبوعا داخل روحها ولا سبيل للتخلص منه؟؟؟
هتفت بإقتضاب وهي تعطيه ظهرها
(أريد الراحة يا معاذ...أشعر بالتعب)
وكادت تبتعد ولكن استوقفها عبارته الساخطة والمستاءة في نفس الوقت
(أتعلمين من رأيي لا تهربي من الأمر وواجهيه...فمن المخزي أن تنسحبي هكذا دون استكمال القتال للنهاية)
ردت بتحشرج سببه غصة البكاء التي وقفت في حلقها
(عادة الاستسلام يكون هو الحل الأمثل...وصدقني هذا الاستسلام لم يأتِ من فراغ...بل جاء بعد حروب نفسية مقيتة كدت أضيع بداخلها)
تحركت خطوتين فوصل لمسامعها عبارة أخرى غاضبة ومكتومة
(لم أكن أريد إخبارك عن هذا...ولكن يحق لكِ المعرفة بالأمر حتى تحسمي قرارك..هو كل يوم تقريبا أمام باب منزلنا...يتوسل الجميع بلا استثناء كي يعرف مكانك)
هذا شيء كانت تعرفه من قبل...ولكن ما أضافه...جعل قبضة ثلجية تتحكم في قلبها...وتخدرت أوصالها بالكامل
(وأمس كان كالمجنون بالفعل...هو توسلني أنا أيضا كي يصل إليكِ...حتى إني لكمته ولكنه لم يرد لي اللكمة وأهانته بشدة والغريب في الأمر أنه لم يتحدث في أي مرة بالتهديد مثلما يفعل دوما ولم يرد حتى على لكماتي له وإهانتي...بل أخذ يتوسل ويتحايل كي يحصل على فرصة واحدة لمحادثتك...كان يبدو بائسا بالفعل)
لم تعرف ما حدث...ولكن الدماء فجأة انبثقت داخل عروقها...فالتفت له غير مبالية بالدموع التي صارت تغرق وجنتيها...وصاحت بغضب مكتوم
(منذ متى وأنت تتعامل بهذا الشكل غير الآدامي؟؟؟...أم إنه أصبح يروق لك لكمه...حقا يا معاذ...يجب عليك إيقاف هذا الأمر لأنه ازداد عن حده جدا...ثم إنه ليس طفل صغير كي تظل تعاقبه مثلما تشاء ووقتما تشاء...هو أخطأ...نعم ولكننا لن نشنقه على أفعاله تلك أو نذله بتلك الطريقة...فنحن لسنا هؤلاء البشر أليس كذلك؟؟...فقط اتركه وشأنه)
انخرس لسانها وتجمد جسدها...حين رأت نظرات الشك الممزوجة بالذهول فوق ملامحه...رفع حاجبيه باستنكار مستهجن...فأعطته ظهرها مرة أخرى...تنعت نفسها بمئات السباب...قررت الانسحاب من جديد وهذه المرة بسرعة أكبر...هتفت بتوتر وصوتها مشتد
(أراك لاحقا يا معاذ...ولكني حقا أشعر بأن تعبي أشتد...إلى اللقاء)
وبعد عدة خطوات وجدها قد اختفت من أمامه...تنهد وهو ينظر لمكانها السابق بشيء من التركيز...هو سعيد بعودتها لهم...ولكنها موجودة وليست موجودة في نفس الوقت...حتى أن علاقتهما الأخوية الرائعة عادت مرة أخرى بعد جلسة معاتبة طويلة بينهم أوضحت فيها مدى آسفها فلم يستطع أن يفرط فيها وخاصة حين لجأت له وطلبت منه ألا يتركها....ورغم إنه من وقتها لم يتركها بل جلس معها كثيرا وتمازحا وضحكت كالعادة معه...ولكن هناك جزء منقوص من روح يمنه...جزء سرقه هذا المغفل ولا يدرك كيف يستعيده لها من جديد؟؟...
ولكنه يعترف بأن رأيه تغيير قليلا حين لاحظ إختفاء شيء أيضا من نظراته...شيء يبدو بأن رجل مثله لم يكن ليفرط فيه قط...شيء يكاد يجن هذا الأحمق كي يصل له...وهذا الشيء لن يجده سوى مع يمن...
تنهد...وهي يدعو...يدعو لها...ويدعو لانتهاء حيراتها...ولكنه حاليا قرر الرحيل كي يقابل مشاغبته حتى يحددا موعدا لعقد قرانهم المؤجل...ولكن ليس كثيرا...فهو قرر مفاجئتها بالموعد...يعلم بأنها سترفض في البداية ولكن في النهاية سترضخ...فما أسهل الاستسلام لتيارها!!...وما أروع موافقتها ورضوخها لما يريده!!
************************************************** ************************************************** ********************************
بعد يومين
دخل منزله...قصر الهواري الضخم..يسنده والده...ويصب كامل سخطه وغضبه عليه صائحا بصراخ سببه القلق العاصف عليه
(أجننت أم ماذا؟؟...كيف تفعل بنفسك هذا؟؟؟...هل أنت مجرد طفل؟؟؟...لولا حارس البناية الذي كان متأكدا من تواجدك داخل الشقة للاقيت مصرعك الآن...منذ متى أصبحت مستهترا إلى هذه الدرجة يا عمار؟؟)
رد بسخريته المعهودة رغم الوهن الواضح عليه
(منذ زمن طويل يا أبي...ولكنك لم تلاحظ قط)
أجلسه فوق الأريكة الوثيرة...وأخذ يتحرك بعصبية حوله...يهتف بزعيق غاضب...وملامحه لا يزال يحدها الكثير من القلق
(لمَ تفعل بنفسك هذا يا عمار؟؟...ومنذ متى أصبحت هذا الشخص السيء الذي تكنه الآن؟؟...لم تكن كذلك...ماذا حدث لهذا التغيير الشاذ؟؟)
ابتسامة ساخرة أخرى زينت شفتيه...ولكن نظراته غامت...ووجهه احتقن وبشدة...رد بقسوة خشنة
(أتريد حقا معرفة ما حدث لي يا والدي العزيز؟؟؟...حسنا كما تريد)
استكمل بنفس النبرة
(ما حدث هو أنك لم تعد تهتم يا والدي العزيز...لم تعد تهتم بأي شيء يخصني...منذ وفاة والدتي وأنت وجهت اهتمامك نحو إتجاهين لا ثالث لهما هما العمل وغنوة...وأنا خرجت من دائرة اهتماماتك رغم حاجتي إليك وقتها)
صمت يبتلع المرارة في حلقه واستكمل ببطء
(صدقني أنا لا أغير من غنوة...ولا أكرهها أو أحاول الانتقام منها مثلما اتهمتني من قبل...أنا أحبها للغاية فهي كانت ابنتي الصغيرة ولعبتي المشاغبة ولم أرد حدوث أي مما حدث لها...فسامر كان صديقي عن حق وهو أقسم لي بأنه تغيير...لم أسلم أختي له كقربان يا أبي...ولكني ببساطة صدقته..واعتبرت كلمته ميثاق مثلما تعودنا دوما)
اغمض عينيه...يحاول تهدئة سرعة واضطراب أنفاسه...جسده يؤلمه ولكن تلك المواجهة كان لا بد منها...فهو سأم من عتاب الجميع له...سأم من اللوم وتعليق كل شيء برقبته...خفت صوته قليلا وهو يضيف بشرود
(أنا لم أحصل على أي اهتمام وكان هذا هو الثمن لضياعي...لا أحملك أنت الذنب أو أي شخص آخر...ولكني أحاول أن أوضح لك سبب تهوري وخوضي هذا الطريق...أنا أردت أنا انتهج شيء أشعر فيه بأني مركز الاهتمام...نعم تفكيري خاطئ ولكني رغبت وقتها بذلك وأردته بشدة...أردت أن أثبت لنفسي أني شخص جدير بالاهتمام...حتى..)
صمت لما يزيد عن دقيقة...يراها أمامه...أول يوم...جالس في مكتب مديرها في عملها السابق...دخولها الواثق للمكان...هروب نظراتها من وقع نظراته بارتباك وخجل سرقه من نفسه...متى عشقها؟؟...يعتقد من أول يوم...حين رأها خطفته بابتسامتها الرقيقة...ببشرتها الناعمة...بشعرها الذهبي المرفوع بملوكية لا تليق بسواها...بعينيها...تلك العينيان اللاتي سرقا قلبه للأبد...فهو وقع أسير زرقة عينيها...تلك الزرقة التي غرق فيها وأراد وقتها أن يمتلكهما مهما حدث ومهما كان الثمن لهذا...
قاطع شروده صوت والده يحثه بهدوء بطيء
(حتى ماذا يا عمار؟؟؟)
نظر له...وقد وجده قد جلس على أحد المقاعد القريبة...يستمع له باهتمام وتركيز...وعلى وجهه نظرة يحلل بها ما يسمعه...
زفر عمار بقوة...واستقام فجأة فترنح من جديد..وكاد يسقط لولا دعم والده له...الذي تقدم له بسرعة وأمسك به...هاتفا بامتعاض
(هلا أرتحت قليلا...والآن أكمل حديثك...لا مجال للتراجع...أفضي لي بما حدث...ألا تظن بأن هذه أول محادثة حقيقية بيننا منذ زمن بعيد....فلما لا نستغلها؟؟)
رد باستخفاف
(لأنه لا فائدة من الحديث يا أبي...فالحديث لن يرجع الزمن أبدا...سيظل ما حدث قد حدث ولا سبيل للعودة منه)
ظهر الذنب على وجه والده...وهو يتسأل في قرارة نفسه...هل أهمل ولده إلى هذه الدرجة؟؟...إلى درجة أنهما أصبحا كالغريبين!!...همس بهدوء وثبات قدر المستطاع
(لن يعيد الحديث شيئا أعرف يا عمار...ولكنه قد يمنحنا بعض الراحة...حتى لو كانت قليلة فهي قد تكون كافية صدقني)
اغمض عينيه ورعشة وجهه توضح بأنه يقاوم أمرا ما...يحاول أن يهرب من المأزق الذي يحاصره به والده ولكنه في نفس الوقت يحتاج له...بصوت واهن سببه ضعفه الواضح ومرضه الشديد
(حتى قابلتها هي...وقتها كنت أظن بأنها مجرد تحدي عليّ الربح به مهما حدث ولكنها تملكتني كما لم تفعل أي واحدة ممن سبقوها...هي الوحيدة التي لم تهتم بما أحمله من مكانة ومركز مرموق...فاهتمامها كان منصب في إتجاه آخر...هي الوحيدة التي حاولت أن تكتشفني وتخوض التجربة معي لأنها ظنت في يوم ما بأني استحق هذا...وصدقني لا أعرف سبب ظنها هذا...ولكني أثبت لها بكل الطرق بأن قضيتها خاسرة...وأنها لا شيء بالنسبة لي...ولكنها كانت العكس...فهي أصبحت في حياتي كل شيء...هي قتلت كازانوفا الشاب المستهتر والهازئ دوما...وأحيت عمار الراجل الواثق والمراعي والذي يرغب في العطاء قبل الآخذ...هل تصدق هذا؟؟؟)
نظر له والده بعطف...وهمس بنبرة متأثرة
(أنت تعشقها يا عمار...وليس مجرد عشق عادي قد يرحل بمرور الأيام وعلاجه مرور الزمان والنسيان...بل آخر...مثل ما كنت أحمله لوالدتك...تلك المرأة التي رفض قلبي وعقلي وجسدي استبدالها بأخرى)
صمت ثم استكمل بعدما ابتلع غصة مسننة في حلقه
(نعم...أنا قصرت في حقك يا عمار...أهملتك ووجهت اهتمامي لغنوة...لأنها دوما ما كانت تذكرني بها...وأنا أردت تعويضها عن فقدانها لوالدتها...ولم انتبه بأني تركتك في المنتصف ولم التف لمرة واحدة خلفي...فلم نعد نتحدث كأي أب وابنه مثلما اعتدنا أن نفعل وأنت صغير...ولم نعد نتشارك أي لعبة...أنا لا ألقي اللوم بالكامل على أفعالك يا عمار...ربما لأن أكبر قدر من الخطأ يقع فوق عاتقي)
عقد عمار حاجبيه بضيق وهتف بتجهم
(أخبرتك بأن اللوم ليس عليك....أنا من أراد هذا...أنا من استمر فيه حتى بعدما فهم وعرف كل شيء بداخله...أنا الوحيد الذي اتحمل نتيجة أخطائي يا أبي...فأرجوك لا تقل العكس كي لا أمقت نفسي أكثر)
تنهد والده...وتفحص ملامحه الضعيفة والمتعبة للغاية...الهالات السوداء التي تظلل عينيه...وزنه الذي نقص بطريقة مخيفة...حتى إنه نحل للغاية في خلال يومين فقط...ذقنه النامية بعشوائية وكأنها لم تعرف طريق التشذيب قط...شعره الذي استطال حتى تخطى عنقه ببضعة إنشات قليلة...بطريقة ما...لم يكن ولده الوحيد...بل كان رجلا محمل بالحزن والمرارة والخسارة...
تجاهل الحديث المؤلم عن الماضي....وحاول أن يساعده في تلك الكارثة التي يعيشها...فإذا كان قد أخفق في أبوته فيما مضى...فهو لن يسمح بحدوث هذا مرة أخرى...وخاصة وهو يراه بأنه بحاجة للمساعدة
تسأل بثبات
(هل ترى أن الحل لما يحدث معك هو الضياع أكثر؟؟...هل أنت مدرك بأنك كنت على وشك الموت...هبوط حاد في الدورة الدموية...ونقص الأوكسجين من الجسد بجانب اضطراب ضربات قلبك وعدم انتظامها بسبب المجهود المضني الذي بذلته ...هل تنتقم من نفسك يا عمار؟؟)
ابتسامة ساخرة أخرى رد بها
(ربما...لا أعرف ولكني كنت بحاجة لهذا...كنت بحاجة لإخراج كل الطاقة التي بداخلي وإلا سأجن..صدقني لم اتعمد القيام بكل هذا...كل ما حدث كان محض صدفة لا أكثر...وحمدا لله أن حارس البناية أنقذني قبل أن ألقي مصرعي)
أضاف عبارته الأخيرة بتهكم عابث...فجعل والده يبتسم قليلا...تنحنح وأخبره بحسم
(حسنا...أنت لن تمكث في هذه الشقة بمفردك بعد الآن...إذا كان هناك من يجب أن ينقذك من طيشك وتهورك فسيكون أنا يا عمار وليس حارس البناية)
كاد يبتسم ولكن ابتسمته انمحت حين ظهرت أمامه من جديد...هي أخبرته من قبل بأنه لعنتها...ألا تدرك بأنها أيضا صارت لعنته؟؟؟...فصورتها لا تفارق ذهنه...
قطع شروده قول والده الهادئ
(هيا تعال لأساعدك كي تصعد لغرفتك...يجب أن ترتاح مثلما أمر الطبيب)
كاد أن يعلق بأمر ساخر آخر...ولكنه بالفعل يشعر بالتعب...فاستسلم كعادته مؤخرا لذراع والده الذي دعمه وساعده للوصول لغرفته...وبعد وقت طويل همس بتخاذل لوالده بهدوء أثناء تواجده معه
(أبي ...أريد أن تسامحني غنوة...اعترف بأني سببت لها الأذى ولكن دون قصد صدقني)
تنهد والده ورد بهدوء
(لا بأس يا عمار...اتركها للوقت...فالوقت سيساعدها على أن تنسى...أو على الأقل على أن يخف جرحها قليلا...كما أني أثق بأنها تتخطى أشواطا بجانب جاسم)
حرك رأسه بلا معنى...وبعد ساعات تقريبا...سقط في نوم عيق يخلو من الأحلام...فاليمن قررت أن تهجره في حلمه مثلما فعلت في الواقع...
حالما نزل وبعدما اطمئن على إنه غرق في سبات عميق سببه ضعفه وهزله...خرج إلى الحديقة...واخرج هاتفه طالبا رقمه وحالما جاءه الرد...هتف باحتياج حقيقي
(جاسم أحتاج لمساعدتك أرجوك...فأنت كما تعرف ابني الذي لم أنجبه ولن أستطيع الاتكاء على سواك في هذا الأمر)
صمت يستمع لتساؤله...فهمس بحزن وألم أب مكلول
(الموضوع يخص عمار هذه المرة...هل أنت متفرغ كي أخبرك عما حدث؟؟)
لحظات وأجاب متنهدا
(حسنا...اسمعني)
************************************************** ************************************************** ********************************
تجاهلت اتصاله المئة تقريبا وهي تنفث الحمم من صدرها...هي محاصرة...لقد حاصرها...دوما حولها ودوما معها...حتى إنه كان موجدا حين فاتحها والدها بمسألة الارتباط به...يحاصر مشاعرها ويتحكم في ترددها...ولكنها لن تنكر بأن ذلك يمنحها الراحة...عقابه لا يزال مستمرا...ولكن لا بأس من الحصول على القليل من الدلال...
لم تتخلص بعد من كل الجبائر المحيطة بها بعد فلا تزال الملتفة حول ساقها موجودة...وقد بدأت علاجها الفيزيائي وهو بالطبع معها يكاد لا يتركها لحظة...وحين تسألت غاضبة في يوم ما عن عمله الذي تركه فيما يبدو...أخبرها بهدوء واثق بأنه حصل على إجازة زواج طويلة قليلا...وبعدها سيعود ولكن بعدما تصبح زوجته...
وذلك الخافق بين ضلوعها تكاد تسبه وتقذف فوقه الحجارة ولكنه بالفعل يشعر بالسعادة...يتذوقها على مهل رغم عنادها وتفكيرها الصلب الذي لا يريد التراجع خطوة حتى...
كانت متمددة فوق الأريكة الوثيرة في قصرهم...تقرأ كتاب علمي بنصف ذهن...فالنصف الآخر يجاهد مع جالب المتاعب...
قاطعها صوت مدبرة المنزل تهتف
(آنسة تغريد...دكتور شهاب بالخارج ويسأل عنكِ)
اعتدلت بانتفاض ألمها...فاغمضت عينيها متأوهة...ثم تسألت بضيق
(أين أبي وأمي؟؟)
ردت تخبرها بأدب
(خرجا منذ قليل)
تنفست باختناق..هذا ما ينقصها...همست زافرة
(حسنا...أجعليه يتفضل هنا...ولكن قبلا...ساعديني على تعديل وضعي)
ساعدتها وبعد لحظات وجدته أمامها حاملا باقة رائعة من الزهور...ذات ألوان زاهية...يبتسم في وجهها ببشاشة...لقد سأل عنها من قبل وقابل والدها للزيارة ولكن وقتها رفضت مقابلته متعللة بدواء أخذته فذهبت إلى النوم مبكرا...
همست بترحاب هادئ
(مرحبا دكتور شهاب)
رد بصوته الرخيم والهادئ وهو يهديها باقة الورد الخلابة
(مرحبا بكِ يا تغريد...كيف حالك الآن؟؟)
شكرته على الباقة في البداية ثم ردت وهي تنظر بامتعاض لجبيرة ساقها
(حمدا لله صرت أفضل لولا هذه فلا تزال تخنقني وتقيدني)
جلس فوق المقعد المقابل لها...يتطلع لها بتمعن...ورد بثبات مشجع
(لا بأس...لقد أوشكت على التخلص منها للأبد...بالشفاء العاجل بإذن الله)
ردت شاكرة إياه بخفوت...ثم أخذ يتحدث معها عن دراستها التي أوشكت على البدء...يخبرها بأنه سيجلب لها ما تحتاجه في البداية حتى تستطيع التصرف بمفردها...شكرته بامتنان حقيقي...ثم أخذ يمازحها بالمواقف التي حدثت معه في الجامعة وبلا إرادة جلب الضحكة لثغرها...حتى إن ضحكتها رنت في المكان...وعيناها تدمع بشدة من شدة الضحك...وهو يتطلع لها براحة متناهية
(هل أقاطع شيئا خاصا؟؟)
فجأة انمحت ابتسامة وراحة نظراتها وحل محلها الذعر...نظرت من فوق كتفه لمجاهد الذي كان يقف مستندا على حافة الباب عاقدا ذراعيه أمام صدره...والنظرة في عينيه تكاد تحرق قارات من شدة النار المشتعلة فيهما...
همست بسرعة مرتجفة تعرفهما على بعضهما كي تتدارك الموقف وأيضا كي لا يتهور كالمعتاد
(مجاهد...مرحبا...تعال تفضل...أعرفك دكتور شهاب يدرس لي في الجامعة...وجاء مشكورا لزيارتي والاطمئنان عليّ...دكتور شهاب أعرفك على مجاهد صديق جاسم المقرب وأيضا صديق للعائلة)
لم يتحرك مجاهد من موقعه...بل لم يرمش له جفن حتى...نظراته لم تتزحزح من فوق المدعو دكتور شهاب وتنتقل نظراته بينه وبين باقة الورود التي تحضنها تغريد...اشتعلت نظراته أكثر من ذي قبل...
ألا يعرفه!!...بالطبع يعرفه....فهذا هو نفسه الشخص الذي كان على وشك خطبتها...ونفسه الذي جلست معه لساعات كي تحل أمور عالقة بينهما...هل النار حين تسري في العروق يوجد سبيل للتخلص منها!!...أنفاسه مشتعلة ونظراته أردته قتيلا لتوه...
تطلع له بفتور ولم يتفوه بحرف كي يرحب به ولكنه أضاف بقسوة حازمة وخشونة سببها انفجاره الداخلي...والتملك ينبض داخل نبرته بحزم عنيف
(وخطيبها)
هذه العبارة جعلت تغريد تغمض عينيها بيأس وهي تهتف بداخلها بأنه لا فائدة...أما شهاب فقد ابتسم ابتسامة خفيفة لم ترَ النور على شفتيه...ولكنه شعر بالكثير من التسلية...إذن هذا هو...
رسم ابتسامة دبلوماسية على ثغره وهتف باعتدال كمن تفاجأ بالفعل
(حقا...لمَ لم تخبريني يا تغريد!!...كي أهنئك على هذا...على العموم الفرصة لم تفت بعد...مبارك لكما...وتشرفت بمعرفتك...يا مجاهد)
ابتلعت تغريد ريقها...وعبس وجهها بشدة ولكنها استطاعت إخفاء توترها وهمست بشكر رقيق نيابة عنه...فهو لم ينبس ببنت شفة...وتجاهله بالكامل حتى إنه لم يكلف نفسه الرد على مباركته أو سلامه وكأنه لم يسمعهما من الأساس...وكل ما اكتفى به هو إرسال النظرات التي تخبر ما يريده وأكثر...كان الجو مشحونا بتوتر وهي شعرت بالكثير من الغضب والاحراج منه....
تنهد شهاب وقد قرر الرحيل أخيرا ووقتها تنفست الصعداء...هتف وهو يقف أمامها...يعدل سترته بوقار يليق به...غير مبال بالمشتعل خلفه والذي تجاهله في المقابل
(بالشفاء العاجل يا تغريد...وكما أخبرتك دوما سأكون موجودا إذا احتجتِ لأي مساعدة...وأتمنى لكِ كل السعادة...فأنتِ تستحقيها وعن جدارة)
سمع صوت قرقعة عظام من خلفه...فكاد يبتسم من جديد ولكنه تمالك نفسه بصعوبة وقرر الخروج قبل أن يحدث شجارا عنيفا...فهذه الصغيرة لا تستحق هذا...
مر بجانب المشتعل...وهمس براحة مستفزا إياه أكثر
(سعيد برؤيتك يا مجاهد)
واسمه خرج منه بتهكم...فالتف له بحدة...ولكنه كان قد رحل من المكان...زفر بعنف...وأخذ يفتح ويغلق في قبضته...يحاول ويشهد الله عليه أنه يحاول التحكم في أعصابه الفائرة...
نظر لها فوجد الغضب الشديد متجلٍ فوق ملامحها العابسة...وجهها متضرج بحمرة قانية..فتقدم أخيرا نحوها بعد دقائق مرت كدهور عليه...أخذ منها الباقة وخرج كي يلقيها في سلة القمامة...عاد فوجدها تتحدث مع نفسها بغضب عنيف...
تقدم لها وحالما وصل لها هتفت بإنفجار مغتاظ
(هل تتعمد الأمر؟؟؟...كيف أمكنك أن تفعل هذا؟؟؟...أنت أحرجته...كيف تتعامل مع ضيفي بهذا الشكل؟؟)
اغمض عينيه كي يأخذ أنفاس واسعة...وهي أدركت المجهود الذي يبذله للسيطرة على أعصابه...وكم أشعرها هذا بالراحة رغم الغضب المسيطر عليها...هو يحاول التأقلم...ويحاول التعامل معها حسب ما تريده...ورغم خنقتها من فعلته المحرجة ولكن غيرته عليها تنشيها وتجعلها تحلق في السماء وتجعلها ترغب في الضحك فهو يتصرف كطفل رأى لعبته يعبث بها غيره...يسعدها الأمر للغاية ولكنها لن تجعله يلاحظ هذا بالطبع..
هتف من بين أسنانه مستنكرا بصرامة عنيفة
(تغريد...أنا لست بهذا الشخص المتحضر الذي تظنيه والذي قد يتعامل بشكل عادي وهو يرى خطيبته تمزح بتباسط مع شخص غريب...محتضنة باقة وروده بوقاحة...ثم إنه عديم الذوق والأخلاق ومظهره ووقاره ذلك مجرد خداع...حقا أخبريني...كيف يدخل إلى المنزل بعدما عرف منهم في الخارج أن والديك غير موجودين؟؟...)
قاطعته بيأس
(مجاهد كفى...أنا من سمحت له بالدخول...فلست أنا من أتهرب من شخص ولا أستطيع مواجهته...فعلتها سابقا معه ولكن هذا غير صحيح...كما إنه لم يتجاوز أي حدود معي وهذا يمنحه الاحترام على الأقل...ولا يجب التقليل من قدره داخل منزلي...وبعيدا عن كل هذا أنت تعرفني وتعرف بأني أستطيع إيقاف من يتجاوز حدوده معي عند حده المناسب...وهذا لم يحدث معه)
صرخ بغيظ ساخط
(هل يمكنك التوقف عن الدفاع عنه؟؟؟...فأنتِ لا تزيدي الأمور سوى سوءا الآن)
برمت شفتيها بغيظ مماثل...قررت إغلاق الموضوع بالفعل وخاصة حين لاحظت ألمه وحزنه...فتسألت بلا مبالاة وفتور مصطنع
(لمَ أتيت بالمناسبة؟؟)
تطلع لها مغمضا نصف عينيه...الغيظ يتجلى على وجهه...والغيرة تنهشه من داخله حتى صارت كالمراجل...ورغم امتعاض وجهه هتف بمزاح عابث
(أتيت لتسليتك بالطبع...فكيف أعرف بأن حبيبتي جالسة بمفردها دون أي عناية ولا آتي لها مسرعا؟؟؟)
بدالته نظراته بأخرى مريبة...همست بفظاظة مغتاظة
(ومن أخبرك بأني لا أحظى بعناية...دادة فاطمة معي وهي تعتني بي جيدا...وقبل هذا أنا أصبحت أفضل كي اعتني بنفسي دون مساعدة من أي أحد...ثم ألن تتوقف عن أفعالك هذه وتكف عن مراقبتي؟؟...سأجن وأعرف من ينقل لك أخباري!!)
رد بتسلية وقد انفك قليلا تجهم وجهه
(العصفورة تخبرني...فأنا وضعت عصفورة أمام نافذتك تخبرني بكل شيء...هل رأيتِ رومانسية مثل هذه من قبل؟؟)
ردت بابتسامة سمجة
(بصراحة لا...لم أرى هذا من قبل...يا إلهي كم أنا محظوظة!!!)
تنهدت...فجلس بجانبها على الأريكة ولم يختار المقعد...همست تسأله بغلاظة وقد استفزتها عبارته التي جاءت من جديد على ذهنها
(أنت وصفت قبل لحظات دكتور شهاب بأنه عديم الذوق لأنه دخل بعدما عرف بعدم تواجد والدي في المنزل...وبالنسبة لك...ألا ترى بأنك تبيح لنفسك أشياء تحرمها على غيرك؟؟؟)
وكأنها لكمته بقسوة في معدته...أكفهر وجهه...وبهتت ملامحه..واختفت التسلية والمشاغبة من نظراته...أغمضت عينيها وهي تضغط على شفتيها...هاتفة بداخلها..
"كم أنتِ غبية وحمقاء...ولا سبيل لعلاج لسانك ذاك"
فتحت عينيها ببطء...فوجدته يطالعها بدون تعبير...ملامحه مغلقه...همس بصوت جامد
(هل تقارنيني به يا تغريد؟؟؟...أنا أدخل هذا المنزل منذ كنت في السابعة من عمري...أدرك بأن للمنزل أصول...ولا بأس سأقوم بها على أكمل وجه كي لا تضعيني في خانة واحدة مع شخص غريب...إلا لو لم يكن غريب مثلما أظن!!)
اتسعت عيناها وهتفت بعصبية وقد آثر فيها إحزانها إياه بتلك الطريقة
(بالطبع غريب...هو لا يعني لي أي شيء...ولو كنت أريده أن يعني لي شيئا لانتهزت الفرصة التي قدمها لي...بل الفرصتان كي أجعله قريب مثلما تتهمني)
انتفض مستقيما...وكل التجهم رحل وعاد له غضبه العاصف ولكن تلك المرة كان مجنونا...صرخ بهياج محترق
(دعيني أخمن الفرصة الثانية التي حصلت عليها منه كانت حين ذهبتِ لملاقاته بمفردك...أليس كذلك؟؟...أنتِ أخبرتِ جاسم وقتها بأنه معكِ)
زمت شفتيها بضيق وهتفت بنزق
(لا يحق لك محاسبتي...أنا فتاة راشدة وأستطيع تنظيم علاقاتي دون إرشاد أو مساعدة من أي شخص...وإذا كان هناك من يجب أن يصرخ هنا فهو أنا...أليس كذلك يا كابتن مجاهد؟؟)
لاحظ الدموع التي كانت على وشك التجمع في نظراتها...فنزل من جديد ولكن تلك المرة على ركبتيه...أمسك وجهها بكفيه...فحاولت إبعاد نفسها عنه ولكنه أحكم إمساكه بها...
همس بألم حزين يحاول إقحام الكلمات بقوة في عقلها العنيد والمتصلب
(لا تفعلي هذا...لا تستغلي نقطة رغدة في الدفاع عن هذا الأمر..صدقيني أعصابي على وشك التفتت في أي لحظة...أنا راضٍ بأي عقاب تختاريه...ولكن ليس هذا...لو كنت سببت لكِ ألم بسبب رغدة...فأنت اليوم ردتيه أضعاف مضاعفة بسبب هذا المدعو شهاب)
صمت...فصمتت في المقابل...ولكن بعد لحظات...اسبلت أهدابها وهمست بخفوت وهي تشعر بسخونة وجنتيها
(أنت قلت أن للمنزل أصول عليك إتباعها...إذن أخبرني كيف ستتبع هذه الأصول؟؟)
اتسعت عيناه بذهول...وهمس متسألا بريبة وكأنه يشك في سماعه للأمر الصحيح
(ماذا قلتِ؟؟)
ارتعشت...وارتبكت...فهمست بسرعة متوترة
(مجاهد ابتعد...قد يعود والدي في أي لحظة)
ضحك بعبث وهمس مجددا
(حقا؟؟...تريدين معرفة الأصول التي سأتبعها...ما رأيك إذا أخبرتك أن الأصول قد تحدثنا فيها وهي في انتظار موافقتك...لقد حددت موعدا مع والدك على عقد قراننا الخميس المقبل...ولا ينتظرنا هنا سوى رأي العروس)
تلك المرة الصدمة وعدم التصديق كان من نصيبها...بالطبع كانت تدرك بأنه يحاول محاولاته الحثيثة مع والديها منذ خروجها كي يقرب موعد ارتباطهما ولكن والديها دوما ما يحبطاه بالصبر حتى تشفى قليلا...
همست بتعثر
(هل اقنعتهما؟؟؟)
حرك كتفيه وهتف بثقة وغرور مصطنع
(بالطبع فعلت...فأنا أملك طرقي الخاصة)
ابتسمت بتوتر مرتبك...فآخذ يمرر كفه على وجنتيها هامسا بدفء لطيف وتوعد خفي...ونيته تظهر بوضوح في نظراته المشاكسة
(لا تتوتري هكذا حبيبتي...فلا يزال أمامنا الكثير من التجهيزات التي سننشغل بها...مما يجعل أمر التهامك الذي أحضره من أجلك مؤجلا لبعض الوقت)
احمر وجهها بشدة...فضربته على كتفه هامسة بغيظ
(أنت غليظ وقليل الحياء)
رد ببراءة مزيفة وعدم فهم مصطنع
(ماذا قلت أنا الآن خطأ؟؟؟إنها الحقيقة فقط)
نظرت له وهي تبرم شفتيها بسخط...ولكن غضبها بدأ يخف نحوه تدريجيا...ترغب في عقابه على الدوام...ولا تظن بأنه سيأتي يوما تقلق فيه من حدة لسانها...ولكنها واثقة بأنها في النهاية ستعود له...أو بمعنى أصح ستحاول إصلاح الأمر مثلما يستحق...
فهو طلب وهي تنفذ...عاقبيني ولكن كوني معي...وهي تنفذ طلبه بحذافيره....ولكنها ستمنحه قريبا غفرانها كي تكون معه دون أي قيود...فلا مفر منه سواه...وهذا ما أمنت به في النهاية ووثقت فيه....
************************************************** ************************************************** *******************************
مضجعة على سريرها...تنظر للسقف بوجوم شارد...حتى أجفلت على صوت رنين الهاتف الخاص بالمنزل...اعتدلت ورفعت الخط مجيبة بهدوء
(مرحبا سيد جاسم...هل كل شيء على ما يرام؟؟)
بنبرته العملية والجادة وصل لها حديثه
(نعم يا يمن...كنت أخبرك فقط بأن أمور الطلاق تسير بسهولة ويسر...حتى إنه لم يعد يقوى على الحرب معنا بعد الآن؟؟؟)
انتفض قلبها وتقافز هلعا وتسألت باختناق وصدرها يضيق بأنفاسها
(ماذا تقصد؟؟...هل...هل قرر أن يمنحني الطلاق أخيرا دون محاكم؟؟؟)
صمت جاسم لحظات...فكادت تسقط وقد شعرت ببداية الدوران...
استكمل بنفس نبرته وإن شابها التجهم
(لا لم يفعل هذا...ولكنه حجز في المشفى قبل يومين...بسبب هبوط حاد في الدورة الدموية وبعض المشاكل البسيطة في القلب...ولكنه الآن أفضل...لقد عاد مع والده إلى منزلهما كي يستطيع الاعتناء به...فهو ظل لساعات طويلة داخل شقته مريضا دون أن يشعر به أي شخص سوى حارس البناية ولولاه لكان ميتا الآن...أترين إلى أي حد القدر بجانبك ؟؟)
شهقت وقد علمت بأنها طوال هذا الوقت حابسة أنفاسها....كل ذرة في جسدها ترتعش...حتى إنها لم تستطع الامسكاك بسماعة الهاتف فسقط من بين كفها...هو مريض..وكان على وشك الموت...يا إلهي...ألم...لا بل تمزق واحتراق...
بأقدام مرتعشة استقامت...وتقدمت من حقيبتها...الدموع تخشى نظراتها...دموع كانت تحاول السيطرة عليها طوال الفترة السابقة...ولكنها فشلت...والنتيجة الآن سيل من الدموع يغرق وجنتيها...تحاول البحث عما يتناسب كي ترتديه للخروج...
وعلى الجهة الأخرى
بعدما أغلق جاسم الخط....ابتسم ابتسامة هادئة كمن يتوقع ما سيحدث...فطلب رقما معينا طالبا منه
(اسمعني...السيدة يمن ستخرج حاليا...أقلها إلى المكان الذي تريده وانتظرها إذا احتاجت لك مرة أخرى...ماذا؟؟...هي خرجت الآن أذهب لها وأخبرها بأنك ستوصلها لأي مكان تريده..)
أغلق الخط وتنهد بقوة..لا يدرك ما يفعله صواب أم خطأ ولكنه من هو ليعرف أو يقرر...هما فقط المسئولان عن هذا الأمر...هما ولا أحد غيرهما...فكلاهما ناضجان ويستيطعان أن يقررا هل سيتخطون الأزمة ويأخذون العبرة منها...أم ستكون هذه الأزمة مجرد شيء يخط النهاية المتوقعة منذ البداية؟؟؟
بعد دقائق أخرى دخلت مساعدته تخبره بهدوء
(سيد جاسم...والدتك بالخارج...وتريد مقابلتك)
تنهد وزفر بقوة...منذ أسابيع وهو يتهرب منها...بل يتهرب من جميع أفراد عائلته...فالكارثة أصبحت حقيقة...والجميع أصبح يعرفها...حتى إنه ذهل حين اكتشف معرفة تغريد أخته الصغرى بالأمر...وقتها أخبرته عن شكوك وعن أحاديث سمعتها ولم تبالِ بها وعن ذنب تحمله..وبكت وقتها بسبب ما تشعره من مرارة وذنب عظيم لا يغتفر...ولكنه حسم الأمر معها وأخبرها أن تنسى الأمر...لأن ما حدث لا يمكننا إعادته مهما تحسرنا عليه...سيظل في النهاية ماضٍ..مهما بكينا وصرخنا...لن يعود أبدا أي شيء كما كان...وبالتالي لن يمكننا تصليح أي شيء مر...
هتف باقتضاب
(حسنا...اسمحي لها بالدخول على الفور...فهي لا تنتظر إذن لتفعل)
(أحقا لا انتظر يا جاسم!!)
نظر لمساعدته كي تتركه وبالفعل حالما خرجت...استقام واتجه نحو النافذة...هو يهرب منها...يهرب من والدته على وجه الخصوص...لا يريد أن يرى ألمها وقهرها...لا يريد أن يرى انكسار صورة سامر في نظراتها..تلك الصورة وهذا الحزن الذي لن يستطيع مهما فعل محوه الآن...
همست بحزن
(أنت لا تزال تتألم مني أليس كذلك؟؟؟)
لف نحوها...ونظر لها باستنكار...ثم رد برفض
(بالطبع لا...ما فعلتيه وقتها كان من صدمتك لا أكثر...لا بأس...صدقيني أنا..)
قاطعته متسألة بيأس
(إذن لمَ تبعد عني من جديد؟؟...هل تهرب من عتابي على حماقتك التي تحملتها أنت؟؟؟...حسنا سأفعل ولكني لا أصدق الأمر يا جاسم...لا أصدق بأن صغيري...كان..)
اختنقت في بكائها...فتقدم منها مسرعا محتضا إياها وقلبه يهفو لها..هتف متنهدا
(لا بأس يا أمي...أرجوك لا تؤلمي نفسك أكثر...ثم أنا لا أهرب منك...بل أهرب من وجعك...فأنا لا أريد أن أراكِ تتألمين دون أن تستطيعي إخراج هذا الألم من داخلك...لذلك أخذت الأمر يا أمي...ليس بطولة مني...ولكن هذا كان الأفضل للجميع وكنت أتمنى أن يظل في الخفاء ما تبقى من الحياة)
ردت باختناق وهي تبتعد قليلا عنه
(كيف؟؟...كيف أردت دفن أمر ذات رائحة عفنة من الأساس...حتى لو حملت أنت الرائحة...سيظل مصدرها يفوح برائحتها النفاذة...كيف يا جاسم؟؟...كيف بالله عليك اقتنعني!!...أنت كنت ترى وجهه...لم يظهر عليه ما قد يجعلني أشك فيه للحظة واحدة...كيف لم يشعر قلبي بأي شيء؟؟....كنت أعرف بأنه مدلل وأنه يعبث قليلا ولكني كنت واثقة بأن الأمر مجرد فترة مؤقتة وبعدها سيستقيم...وهذا ما فعله...حين تزوج من...)
صمتت وكأنها أخطأت...فابتسم مخففا عنها واستكمل بهدوء
(حين تزوج من غنوة...هو ليس بسر يا أمي...وهذه حقيقة لن أنكرها كي أتعايش)
تطلعت له وهي تتفحصه بتركيز ثم همست
(أنت تحبها أليس كذلك؟؟)
تنهد...وأجابها بإيماءة من رأسه...فتسألت بحيرة
(منذ متى؟؟...لأني أشعر بأنه ليس منذ وقت قريب...أليس كذلك؟؟؟)
رد بهدوء يناسب راحة وسكينة نظراته
(نعم...منذ وقت طويل يا أمي...أطول بكثير مما تظنين)
تنهدت أمه...ووضعت كفها على لحيته...وهمست بقوة
(أنت تستحق كل الخير يا حبيبي...أدعو دوما أن تنال ما يريح قلبك)
لثم باطن كفها...فلاحظ انكسار نظراتها...همس بثبات
(حاولي التعايش مع الأمر يا أمي...لا تحاولي البحث عن إجابة منطقية...لأني فعلت ولم أجد)
ردت بمرارة
(كيف أفعل؟؟...أنا منذ أن عرفت بالأمر وسؤالين لا ينفكا أن يبتعدا عن ذهني...وهو...لماذا؟؟...وكيف؟؟. ..لماذا فعل هذا؟؟...وكيف لم أشعر بالأمر من الأساس؟؟؟...كيف خدعنا يا جاسم طوال هذه السنوات؟؟)
كادت تنهار..فهتف بحسم صارم
(أمي...أخبرتك أن تتوقفي...هو لم يعد معنا كي تلوميه....والخطأ أيضا واقع عليّ..فأنا من كان يقضي أغلب الوقت معه ولكني أيضا لم اكتشف الحقيقة سوى مؤخرا...وصدقيني يا أمي...من السهل الغرق داخل هذه الأسئلة ولا ينجو منك سوى الفتات...لذلك لا تفعلي هذا...واستعيذي بالله...أنتِ امرأة مؤمنة وصبورة...تحملت بلاء الحرمان من ابنك الصغير...وصمدتِ أمام الكثير...حتى إنكِ أنتِ من أخذ بيد غنوة للنهوض من جديد...والآن...لا أطلب منك سوى أن تتحملي قليلا بعد...نحن جميعا نحتاجك...أنا وأبي وتغريد وغنوة وهذا الأحمق مجاهد الذي بدأ منذ الآن وقبل أن يرتبط بأختي بمنادتك أمي...كل هؤلاء يستحقون المحاربة من أجلهم يا أمي!!)
أجهشت في البكاء من جديد وتلك المرة لم يوقفها...بل ضمها وآخذ يربت براحة على ظهرها....فوالدته اليوم تبكي البكاء الذي لم تفعله يوم وفاة صغيرها...ورغم حزنه بهذا ولكنه أرتاح كثيرا لهذا الأمر..
فالجميع بطريقة ما يحاول تخطي الأزمة...حتى لو كان لكل منهم طريقته الخاصة...ولكن يظل الدعم واحد...والعائلة واحدة...عائلة البدراوي...
************************************************** ************************************************** ********************************
(كيف تشعر؟؟...هل أنت بخير؟؟)
كفها الناعمة تتلمس جبهته بحنان...فامسكه بلهفة شغوفة...وأخذ يقبله بقوة..هامسا بألم متلهف وعشق خالص
(يا إلهي...أخيرا ظهرتِ في حلمي...كنت قد فقدت الأمل...ولكن ها أنتِ عدتِ لي من جديد...حتى لو كان مجرد حلم بائس...فأنا راضٍ يا يمني)
ارتعش كفها...وهي تدرك بأن هذا من تأثير الدواء..فوالده أخبرها بأن حالته كانت سيئة وحين طالبت برؤيته طلب منها برفق أن تترفق به فهو مر بفترة عصيبة...همست ببطء
(هل أنت بخير؟؟)
كان لا يزال مغمض العينين...والراحة تتجلى من فوق وجهه الساكن...همس مطمئنا
(الآن أصبحت أفضل...أين أنتِ؟؟...هناك الكثير الذي أريد أن أخبرك به...أرجوكِ عودي لسماعي فقط...هل تدركين بأني لم أتوسل أي كان من قبل...ولكن من أجلك سأدهس غروري الأحمق وكبريائي اللعين الذي كان السبب في ضياعك مني)
كان يحاورها بالفعل...مررت منشفة جافة فوق صدره العاري تمسح حبات العرق التي تغرق جسده وتتصبب منه بغرازة...استمرت هلوسته...يحكي ويحكي لها وهي تستمع...يحكي عن طفولته وعن شبابه وعن صديقه سامر وعن العهد الذي كان بينهما...أخبرها عن عالم قاسٍ أراد الاهتمام بداخله وخاصة بعد الفراغ الذي كان يشعره منذ صغره حين فقد والدته...وأخبرها عن والدته بأنها كانت بارعة الجمال وأن والده عشقها إلى إنه زهد النساء بعدها...وبأنه يتذكرها كثيرا في هذه الآونة...ويرجح ذلك لأنه على وشك فقدانها أيضا...فهي تريد الخروج من حياته...عاتبها...وآمرها في النهاية بالعودة له...وحين همست متسألة بخفوت يائس
(لماذا أعود؟؟)
رد متنهدا كمن يطلق سراح طائر محبوس داخل قفص حديدي
(لأني أحبك...ولم أعرف معنى هذه الكلمة إلا معكِ أنتِ...ولأن كل ما كنت أفعله من قبل كان كمن يدافع عن شيء يُأخذ منه بالقوة والغصب...صدقيني أنا لم أخنك قط...أعرف بأنكِ لن تصدقيني ولكني حاولت بالفعل أن أثبت بأنكِ لا تملكين سلطانا على قلبي...ولكني كنت مخطئا...وفشلت في الاختبار قبل بدايته حتى...وقتها قررت بأني سأبتعد عن كل شيء من أجلك فقط...وحين أردت إخبارك عن الأمر كنتِ قد رحلتِ بعيدا عني...هل تدركين بأني مللت وسأمت من إعادة نفس الكلام معكِ هنا وهذا مجرد حلم؟؟...وأخاف بل ارتعب أنه حين يأتي اليوم الذي يجب أن أتفوه به بكل هذا أجبن من جديد ويسيطر عليّ غروري ويمنعني من الحديث)
اتسعت عينيها...ولم تدرك أين الحقيقة وأين السراب...كان نائما بسلام وحديثه كان يخرج هادئا...هل هذا ما يفعله؟؟...هل كان يتواصل معها في حلمه؟؟؟..ولكنه لم يدرك بأنه لم يضطر لتكرر الحديث من جديد فما يظنه حلما هو حقيقة...حقيقة لا تدرك كيف قامت بها وخاطرت من أجلها ولكنه يحتاجها...ألم يكن بجانبها حين احتاجته هي ولم يتركها قط...
تنهدت وهي تدرك أي صعوبة مريرة مرت بها طفولته وخاصة بعد الدقائق البسيطة التي جلست فيهم مع والده وأخبرها فيهم عن حديث عمار المنفتح لأول مره والذي عبر به عن نفسه...وأن هذه سابقة لم تحدث من قبل....وفي نهاية الحديث مع الوالد طلب منها الترفق به...
رأته يفتح ذراعيه...وكأنه يرغب في ضمها...ابتسمت وشعرت بقلبها يغرد ...حتى إنها كانت كالمغيبة وهي تندس ببطء وبلا تفكير بين ذراعيه...تدفن وجهها في جانب عنقه...وتعترف بأنها حقا اشتاقت لرائحته...ذلك المزيج الرائع والمجنون من الجاذبية والرجولة...
هي جازفت...من أجله جازفت ليس مرة واحدة بل مرتين...ولكن من قال أن أي شيء يتعلق بهذا القلب الأحمق قد يتصف بالتفكير والتريث...
ابعدت الصراخ الذي يحثها على الابتعاد...وحين سمعت تنهيدته المريحة...تنهدت هي أيضا...ولأول مرة بعد أرق دام طويلا تغرق في سبات عميق...وآخر ما اعترفت به..بأن لو كان العشق هو أكبر غباء في العالم يتصف به المحبين...فهي إذن تستحق الأوسكار في الحماقة وعن جدارة...
************************************************** ************************************************** ********************************
الخاتمة
بعد عامين ونصف

صوت صراخها يشق أرجاء المشفى...حتى أن العاملين في المكان كادوا يهربون من قوة وشدة صراخها...يمسك بيديها..ورغم القلق العاصف بداخله يهتف مهدئا إياها
(تغريد...تغريدي..حبيبتي...اهد� �ي...ستكونين بخير..فالطبيبة أخبرتنا أن ننتظر قليلا فحسب...وسيكون أطفالك بين ذراعيك قريبا)
مدت كفها وأمسكته من ياقته تسحبه نحوها...وبصراخ أخذت تصيح
(اصمت...لا أريد أن أسمع منك أي شيء...أنت السبب..أنت السبب في كل شيء يحدث معي الآن....أنا لا أعرف الآن كيف سأضع ثلاثة أطفال مرة واحدة...وأنت تطلب مني أن أهدأ...تعال لنبدل الأماكن وحين أخبرك بأن تهدأ أخبرني ماذا سيكون رد فعلك!!)
ابعد أذنيه بصعوبة عنها...وأخذ يدلكها بقوة وقد شعر بالألم فيهما...رد مبررا وقد تملكته روحه العابثة من جديد رغم قلق وتوتر الموقف المحيط بهم
(الحق عليّ أني أردتك أن توفري الألم المتقطع وتجلبي أطفالنا دفعة واحدة وبألم واحد...ثم لا ترمي التهمة عليّ وحدي فالجميع يشهد بأني تزوجتك وبرضاكِ)
صرخت بهياج والألم يشتد أكثر من ذي قبل
(ويا ليتني ما فعلت...كان يجب أن أتبع حدسي وأهرب منك...لا أصدق ما وضعت نفسي فيه...اخرج من هنا...لا أريد أن أراك...كله بسببك...بسببك أنت)
رد بصدمة مصعوقة ومستنكرة
(ما هذا الأصل يا فتاة...من أجل ألم ولادة بعتيني...بعتِ زوجك أبا أولادك!!..صدقيني اليوم أنا رأيت الحقيقة المرة)
صرخت فيه بقوة أكبر حتى شعر بأنها على وشك تمزيقه...ولكن جاسم الذي كان معهم في الغرفة تدخل في الأمر مربتا على كتفه وهو يهتف بغلاظة معنفا إياه
(هل تغضبها أكثر أم تهدأها يا أحمق؟؟)
حرك كتفيه وأجاب وهو يبرم شفتيه بسخط
(ألا ترى...هي على وشك الاعتراف بأني تغررت بها ولم أتزوجها حتى!!)
ابتسم جاسم بهدوء وهمس
(لا بأس...تحمل...فكل هذا بسبب ألمها)
حرك رأسه بتفهم...والقلق يعود له من جديد مع زيادة حدة صراختها...
(فاليأتي أحدا بهذه الطبيبة...أنا أريد التخلص من هذا الألم أرجوكم)
تقدمت منها والدتها وأخذت تمسد على رأسها تتلو عليها آيات من القرآن...وبعد لحظات من صرختها دخلت الطبيبة...تهمس بعملية بشوشة
(هيا يا مدام تغريد...نحن جاهزون)
ارتبكت وذعرت ملامحها بخوف شديد...بحثت عنه بنظراتها فوجدته في الحال بجانبها...يمسك كفها بدعم ويهتف مشجعا
(هيا حبيبتي...أريدك أن تعودي لي أنتِ وأطفالنا كي نذهب معا إلى المفاجأة التي وعدتك بها...وجهزتها لكِ)
حركت رأسها بإيماءة موافقة والدموع تخشى نظراتها...همست بخفوت متألم
(أحبك)
وضع جبهته فوق جبهتها غير مبالٍ بمن حوله...وهمس بعشق خالص
(أحبك أكثر يا صغيرتي وحبيبتي وأم أولادي)
ابتسمت وهي تبكي من الألم...قبل جبينها بقوة وهمس مؤكدا
(سأنتظرك حبيبتي...لا تتأخري عليّ...فكما تعرفين أنا أمقت الانتظار)
حركت رأسها بموافقة وهي تتمسك بكفه أكثر...
لحظات وتحركوا بها كي تذهب لغرفة الولادة مستمعة لصوت دعواتهم من حولها...ثم أغمضت عينيها بقوة تمنع صراخها بصعوبة...ولكنها تبتهل بداخلها أن يمر الأمر على خير...ويأتي أطفالها إلى الحياة مسالمين ومعافين...
************************************************** ************************************************** ********************************
(يمن...هيا...كي نلحق تغريد حين تخرج من العمليات..فأنا حدثت جاسم الآن وأخبرني بأنها دخلت لتوها)
لحظات وجاءت من الغرفة وهي تعدل من وضعية ابنه فوق ذراعها...ابنه الذي ذات العام ونصف والذي ورث لون عينيها الزرقاء وفتنة ملامحها...وقتها أغاظها كثيرا وأخبرها بأن عشقه لها أكبر من عشقها له...عائلته الصغيرة...ابنه وزوجته...تلك الحياة التي كانت كالهبة حتى يكف عن جموحه...لم يعرف قيمة ما كان يملكه إلا حين كان وشك خسارتها للأبد...ولكنها يمنه...صاحبة أنقى قلب في الحياة...قررت منحه فرصة أخرى...فرصة يدرك عدم استحقاقه لها...ولكنه يحاول ألا يجعلها تندم على الأمر من جديد...لم يكن الأمر بالنسبة له فرصة فحسب...بل كان حياة...هي منحته حياة جديدة...حياة لم يكن ليستبدلها بأي كان...علاقته بعائتلها لا تزال تحمل الشرخ ولكنه يخف عن ذي قبل خاصة حين أتى زين للحياة...فحين جاء زين...زين حياته عن حق وأضائها له أكثر برفقة يمنه...أخته غنوة استمر خصامها طويلا ولكن بسبب جاسم قبلت مراضاته أخيرا ...لا ينكر بأنها كانت تعامله بسخط في بداية المصالحة ولكن مع مرور الوقت...خفت الخصام تماما وبهت للغاية...حتى عادت له من جديد...أخته الشقية الحيوية التي صارت تنبض بالحياة عن ذي قبل...
راقبها تتقدم بفستانها المحتشم والذي ارتدت فوقه حجاب يماثله لونا...كانت أيقونة النور الخاصة به...فبعد العمرة التي قاما بها قبل عامين أخبرته عن رغبتها بارتداء الحجاب وأنها كانت خطوة مؤجلة تاخرت بها للغاية وحان الوقت لتنفيذها...وقتها لم يشعر بسعادة حقيقة إتجاه شيء مثلما شعر إتجاهها...شجعها على الأمر وجلب لها الأجمل والأرقى من الفساتين المحتشمة والرقيقة وكذلك التنانير المماثلة لهم رقة وجمال....
هو شاكر للغاية...شاكر لكل شيء منحه يمن في حياته...فهي كانت السبب الحقيقي لإنقلاب حياته إلى النقيض...ومهما قدم لها لن يكفيها أبدا...
هتفت على عجلة
(ها قد انتهينا...هل أخذت حقيبة زين؟؟؟)
رد بتأكيد
(أجل...ووضعت فيها ملابس احتياطية لأني لم أجد بداخلها)
ابتسمت...فنظر لها متسألا بريبة
(ما سبب هذه الابتسامة بالضبط؟؟)
حركت كتفيها وردت بعفوية ووجنتيها تحمر كالعادة
(لا شيء...فقط...الأبوة تليق بك كثيرا)
تلك المرة هو من ابتسم...واقترب منها هامسا بخطورة مغوية
(هل هذا غزل صريح يا يمني؟؟)
أربكتها نظرته التي تدرك معناها جيدا...
همست وهي تبرم شفتيها باستسلام واحمرارها يزداد حلاوة
(تدرك بأنه كذلك...أن تستحق كل الغزل يا أبا زين)
هذه المرة وصل لها فهمس بإثارة متحشرجة
(حسنا...دعينا لا نذهب لتغريد اليوم...سنؤجل الذهاب...ربما نذهب في وليمة الأطفال...ما رأيك يا أم زين؟؟)
قهقهت عاليا...وهمست من بين ضحكاتها التي رسمت الابتسامة التلقائية على ثغره
(لا...لن يجوز...هيا...سنتأخر يا مجنون)
زفر بضيق مصطنع...وهتف وهو يتقدم نحو باب شقته
(حسنا...سأريكِ حين نعود...بالمناسبة عمي حبيبي افتقد زين للغاية فقبل عودتنا سنمر عليهم حتى يشبعوا منه قليلا)
ضحكت من جديد...وهتفت بتلاعب
(حسنا سنمكث معا لأن أبي افتقدنا بالفعل..جميعا)
التف لها وهتف بسرعة
(لا...لا...هو لم يفتقدنا نحن..هو افتقد زين فقط)
حركت رأسها موافقة وهي تبتسم ابتسامة حقيقية فزفر بارتياح وهو يسبقها متحركا...فأخذت تشكر الله دائما وأبدا على تلك السعادة التي نالتها في نهاية طريق كان ممهدا بالألم...ولكنه كان طريقا يشبه طريق في نهايته وردة...فلو أردت الوصول لنعومة وريقاتها عليك أولا أن تُجرح من أشواكها المدببة...وهي الآن ممتنة...ممتنة للألم الذي خرج من داخله كل هذا الكم من السعادة..
************************************************** ************************************************** ********************************
رن على هاتفها فلم ترد كالعادة...زفر بقوة...وهو يضغط على الهاتف بعنف...لا يستطيع إيجاد علاج لهووسه بها...يخاف عليها وعلى القطعة الأغلى من روحه...قطعة تشبهها للغاية...
تنهد براحة حين وجدها تتقدم في بداية الممر...تحمل صغيرته بين ذراعيها...وصلت له أخيرا...فتسأل بعبوس خشن
(أين هاتفك بالله عليك؟؟؟...وأين كنتِ كل هذا الوقت؟؟؟)
ابتسمت براحة متسامحة...وأجابته بخبث معتذر وهي تسلمه فتاته الصغيرة التي هتفت بصوت طفولي حين رأته"ببا"
(نسيت هاتفي في المدرسة بعدما أخبرتني بأن تغريد في المشفى...والطريق كان مزدحما للغاية لهذا تأخرت كل هذا الوقت...هل لا تزال بالداخل؟؟)
حرك رأسه بنعم...وهو يشرد في السبب الآخر الذي يقلقه عليها وبشدة...فهي منذ وقت ولادة نغم تصمم على قيادة السيارة بنفسها...رفض وبشدة...وحدث شجار كبير بينهما بسببه...ولكنها في النهاية اقنعته...أو هكذا وضح بأنه اقتنع أخيرا...ولكنها كانت غير مدركة بأن سيارة حراستها لا تزال خلفها في كل حركة تخطوها تقريبا....فالعادات القديمة لا تموت بسهولة...أليس كذللك؟؟
أخذت الصغيرة تعبث بوجهه بأصابعها الصغيرة والمكتنزة..تغرقه بلعابها ولكنه لا يبالي...فقط يمازحها...وهي تبتسم وتناديه باسمه المحبب له والذي يخرج من بين ثغرها الصغير كالتعويذة التي تخلب لبه بها...
نغم...ثمرة عشقه من غنوته...عمرها عامين ونصف...وحمد الله كثيرا لأنها حصلت على رمادية غنوته في عينيها...ولكن ملامحها كانت فيها الكثير منه...
أعطاها لغنوة وهمس
(تعالي ارتاحي فوق هذه المقاعد...سأذهب للاطمئنان على مجاهد)
حركت رأسها موافقة..وجلست...تدعو من كل قلبها بتيسير ولادة أختها وصديقتها الصغيرة تغريد...
************************************************** ************************************************** *******************************
شعر بمن يضع كفه فوق كتفه...فالتف ببطء ونظر لوالده بتوتر...
هتف والده بثبات خشن كعادته ولكنه يثق بأن الدعم مختفي بداخله
(لا تقلق ستكون بخير)
حرك رأسه موافقا...لا يقوى على الكلام...يشعر بأنه إذا تحدث فقط سيصرخ مطالبا بها...
نظر لوالدته ووالدة تغريد السيدة وداد الجالسين في ركن بعيد نسبيا حاملين القرآن ويتلان منه بخشوع...حرك قبضتيه بعنف....ويشعر بأن الوقت يستنزفه...كف أخرى وضعت عليه...فالتف لصديقه جاسم...
الذي قال له بحسم
(تعال معي)
رد باستنكار
(إلى أين؟؟؟سانتظر خروج تغريد؟؟)
قال جاسم بثبات
(أنا سألت إحدى الممرضات قبل لحظات وأخبرتني بأنها لا تزال أمامها بعض الوقت...فتعال معي الآن قبل أن تنفجر)
تنهد وهو يحرك رأسه موافقا...سار خلفه حتى وصل لحديقة المشفى...استنشق الهواء وهو يشعر بضيق صدره...بالفعل هو كان على وشك الانفجار...
خرج كل الطاقة السلبية الموجودة بداخله...زفر بقوة وهو يشعر بالمزيد من الراحة...
لف نحو جاسم وهمس شاكرا
(شكرا لك...ستظل صديقي المفضل)
رفع جاسم حاجبه وهو يرد بثقة مؤكدة
(أنا صديقك المفضل والوحيد تقريبا)
رد مجاهد بامتعاض وعبوس
(بالطبع لا يا رجل...أنا شخص مشهور وامتلك الكثير من الأصدقاء...ولكني اتعطف على حالك لا أكثر لذلك أميزك)
ابتسامة صغيرة زينت ثغر جاسم وهو يضيف بنفس لهجته الواثقة
(بل تميزني لأني صديقك المقرب والوحيد)
زفر بقوة وهتف بغيظ
(حسنا...عرفنا هذا...ماذا تريد؟؟...هل تريد جمع الضرائب على هذا؟؟)
ابتسم جاسم وهمس بهدوء
(هل أصبحت بخير الآن؟؟)
تنهد ورد براحة مسترخية
(نعم...أفضل...شكرا لك...سأعود للداخل...ألن تأتي؟؟)
رد جاسم
(اسبقني أنت وسآتي خلفك)
حرك مجاهد رأسه وابتعد عائدا أدراجه...فهو يرغب أن يكون أول من يستقبلها حين تخرج من هناك...
(هل فاتنا الكثير؟؟؟)
التف لعمار...نسيبه اللدود...أغلق صفحة انتقامه منذ زمن بعيد والعلاقة شبه عادية بينهما حتى أنها شملت الأعمال...
همس بترحاب هادئ
(مرحبا...أهلا يا يمن)
نغزة رغم مرور الكثير من الوقت ولكنها لا تزال تصيبه بقسوة داخل قلبه... فمسألة أن يمن كانت تحت عهدته هو وأنه ساعدها حينما كانت بحاجة للمساعدة هي وأخيها العظيم فهو لا يستطيع هضم الأمر حتى الآن...
ردت باحترام شديد
(مرحبا يا سيد جاسم...كيف حالك وكيف حال غنوة ونغم الصغيرة؟؟؟)
رد جاسم بود هادئ
(جاسم فقط يا يمن..وإلا سأقوم بمنادتك بسيدة يمن..هما بخير وبالداخل بالمناسبة أذهبا إليهما واتركاني قليلا مع زوجك الرائع هذا)
كاد يصرخ في الحمقاء بالفعل حين احمر وجهها خجلا...راقبها بغيظ وهي تبتعد بزين كي تدخل لهما...حتى قاطع شروده لمراقبتها صوت جاسم الساخر
(أنت حالتك صعبة بالفعل)
نظر له بعبوس...فاستكمل
(كنت أظن بأني سيء واخنق غنوة بحمايتي وخوفي...ولكن انظر أنت حالتك أسوأ مني بمراحل...تغيرت يا عمار بالفعل)
تنهد عمار ورد باعتدال
(الحياة غيرتنا يا جاسم جميعا...وأنا بالفعل أخاف عليها بل أرتعب...أشعر بأنها ستختفي فجأة من حياتي وعادة لا أستطيع التحكم في هذا الخوف...أخاف أن ترحل من جديد وهذه المرة لا تعود)
ربت جاسم على كتفه وهتف بثبات
(اعتبرها نصيحة أو ملحوظة...إذا تركت الأمر للخوف فهو سيتمكن منك...سيكون هو من يحركك وليس العكس...وسيحيل حياتك إلى جحيم...لذلك حاول دوما أن تسيطر عليه...وأن تحجمه من حياتك كي لا يأخذ الحد الغير صالح له...صدقني الخوف كمرض عضال إذا تركته تأكل في جسدك دون ضمير..وسيستنفز الحياة منك حتى آخر رمق)
انهى حديثه بإضافة خشنة
(وهذا بالمناسبة ما أقوم به مع أختك كي أتحكم في خوفي القاتل نحوها)
ابتسم عمار...وهتف بتوعد مشاغب
(سأخبرها إذن كي تكون على علم بالتجارب التي تحدث فيها)
رد جاسم بثقة وهو يتحرك كي يعود للداخل
(لا بأس هي تعرف كل هذا ولا تحتاج لمعرفته من الأساس)
(جاسم)
نظر له بتساؤل...فهتف بامتنان
(شكرا لك)
حرك جاسم رأسه بإيماءة خفيفة...فهو لا يزال حتى الآن لا يحب الشكر...ولكنه بالطبع يعشقه منها هي...فعلى حسب قاعدتها العبقرية...
"كل شكر يعني أحبك"
ومن وقتها وهو يجعلها لا تهتف له سوى بالشكر وحسب...فتضحك وقتها ملبية طلبه براحة وسعادة جمة...
************************************************** ************************************************** ********************************
أزاحت ذراعه ببطء من حول خصرها...لفت المئزر حول جسدها ومشت على طرف أصابعها نحو الحمام...ولكنها لم تنسى قبل التوجه للداخل آخذ ما تريد تجربته...تبتهل بداخلها...وتدعو أن يكون الأمر هذه المرة إيجابيا...
منذ عامين كاملين تحقق حلمها بالكامل...حظت وقتها بزوج محب يعشقها وهي كل يوم يمر يغرس عشقه في قلبها أكثر...حظت بعائلة حقيقية...أب وقور تعشق دروسه الدينية التي يعلمها إياهم والذي أتخذها شغلها الشاغل من اليوم الذي أصبحت فيه من العائلة...أم رغم بساطتها وطيبتها تمنحها رعاية وأمان وحب لم تشعره من قبل حتى من والدتها الحقيقية لم تحظَى منها بكل هذا...وأخت مساعدة وفي نفس الوقت صديقة مرحة وداعمة...وأخيرا حظت بداعمها الحقيقي من حقق لها كل ما تمنته يوما بل وأكثر...عمل ونحت الصخر وتعب كثيرا كي يجلب لهما شقة الزوجية...تزوجا أخيرا وهي كانت راضية بكل شيء ولم تعترض مثلما افترض البعض من أبناء المنطقة نظرا لخلفيتها الاجتماعية المرموقة...حتى لو كانت غير مشرفة تظل مرموقة...ولكنها وقتها حظت بالأكثر...فهي بالفعل كانت تمتلك المال الكثير وسط مجتمعها ولكنه لم يسعدها...لم يمنحها ربع ما أعطاه إياها عمار وعائلته...
تنفست بعمق...كم ترغب الآن بمنحه شيء بسيط وأن تحصل كذلك منه على هذا الشيء!...ترغب بطفل منه وبشدة...وكم فزعت حين تأخر الحمل لعام كامل وقلقت أنها قد تمتلك مشاكل كبيرة قد تمنعها من هذا...وقتها ذهبت للطبية وأخبرتها بأنها لا تمتلك أي مشاكل...وأنها عليها الصبر لا أكثر فهي لا تزال في بداية حياتها الزوجية...
ولكنها منذ أيام تشعر بشيء مختلف...أمسكت الاختبار بين يديها...تنتظر النتيجة...و فجأة يظهر أمام أنظارها الشاردة...ضحكة معاذ الفاتنة...ولون عينيه التي لا تزال حتى اليوم تبهرها من روعتها...
سرحت بمخيلتها بعيدا...تحلق في عالمه هو فقط...عالم أصبح يعني لها كل شيء...عالم عوضها الله به بعد كل شيء سيء رأته في حياتها السابقة...
هي لا تندم الآن على ما حدث معها في تلك الحادثة ولا مع ما حدث مع عائلتها...فالآن هي تنظر للأمر من جهة أخرى...فلو كانت هذه هي مكافأتها بعد كل هذا العناء...فهي ترحب بما حدث معها وتستعوض الله فيه متقبلة عوضها الحالي بروح واسعة وراضية...
لا تعلم كيف غشيت الدموع عينيها...ولا كيف أصبحت الرؤية فجأة ضبابية؟؟...ولا كيف صرخت فجأة ببهجة وهي تبتسم وتبكي في نفس الوقت؟؟
(رؤى...رؤى هل أنتِ بخير؟؟)
كان هذا صوت هتاف معاذ القلق من الخارج..أرادت أن تقف على قدميها كي تستقبله بهذا الخبر ولكنها لم تستطع الوقوف من ارتعاش قدميها والتي تشعر بأنهما صارا كالهلام...همست بصوت مرتعش تطمئنه
(أنا بخير يا حبيبي...فقط...انتظر قليلا)
هتف بنبرة قلق عاصفة
(رؤى..أنتِ بهذا الشكل تقلقيني أكثر...ماذا به صوتك؟؟)
اتكأت على الجدار وأسندت جسدها فوقه وحين استقامت أخيرا تقدمت نحو الباب الموصود وفتحته ببطء..وحالما وجدته أمامها ارتمت في أحضانه وهي لا تزال تبكي وتبتسم كالبلهاء
(حبيبتي ماذا حدث لك؟؟)
تنهدت وأخذت عدة أنفاس ثم همست بتلعثم في أذنه
(أنا حامل..ستصبح أبا أخيرا يا معاذ)
ويا لها من عبارة...جمدته للوهلة الأولى ولكن في الثانية حين تذوقها كاد أن يترنح من نشوة تذوقها...حملها ودار بها فأخذت تصرخ وتضحك بسعادة...أنزلها بحذر وقبلها من جبينها هامسا بخفوت عاشق
(أحبك...وأخاف ألا يكفي هذا العالم حبي لكِ)
أراحت جبينها فوق جبينه وهي ترد بهمس يماثله
(أحبك...وإذا لم يكفي العالم حبك...فلا بأس...سأخفيه داخل بئر ساحق في قلبي)
ابتسم على عبارتهما التي ارتجلاها سويا يوم زفافهما...فصارت هي العلامة الدامغة في حياتهما تبين عشق مهما جار عليه الزمن سيظل محفورا داخل أعماقهما...
************************************************** ************************************************** ********************************
اليوم يومه السعيد...صار أب...وليس لطفل واحد بل لثلاثة أطفال غاية في الروعة والجمال...فتاتان وصبي...
أمسك بكفها يقبله تارة ويهمس لها بشكره تارة أخرى لأنها كانت السبب في جلب هذه السعادة له...لم يفارق جانبها...حتى بعدما استفاقت تماما...وجاء الجميع كي يهنئوا ويباركوا ولكنه لم يبتعد عنها قط ...ولن يفعل...نظرت بغضب ممتعض كي يتركها تتحدث مع عائلتها ولكنه كان بالنسبة لها كالطفل الكبير...
هتف جاسم بمزاح كي يزعجه
(والآن أخبرني يا مجاهد لمن ستهدي أطفالك كي تستطيع النوم؟؟...أتعلم بأن نغم بمفردها لا تمنحني ساعة كاملة راحة فما بالك بك أنت يا مسكين!!)
عقد مجاهد حاجبيه ورد بعبوس وهو ينظر للسيدة وداد وأمه
(هل تران؟؟؟...يظن بأني سأكون بمفردي أنا والمسكينة هذه...هيا أجيباه)
نظر له جاسم بعدم تصديق...وخاصة حين هتفت الأمهات مداعمة
(بالطبع لن تكونا بمفردكما...انجبا أنتما فقط وأمر التربية يسير)
رفع مجاهد لياقته وهو ينظر لجاسم بإنتشاء ذكوري مغرور...فتطلع له جاسم بقرف...وهتف بفظاظة مستنكرة
(أتدرك معنى حديثهما هذا يا غبي...أنكما ستكونا كالديك والدجاجة تمنحهما البيض كي يفعلا به ما يريداه)
(أخي)
كان هذا هتاف الصغيرة الممتعض...وأما الأحمق الآخر يغيظه ببلاهة غير مبالٍ بما يقوله...والجميع يضحك بشدة من حولهم...
تقدم نحو أخته وأخذ يقبلها من جبينها كي يراضيها ويضرب كتف صديقه تارة بعشم رجولي عنيف...راقبته بنفس النظرة اللامعة التي تزداد ضراوة مع الأيام...كل يوم يزداد فتنة عن سابقه...وهذا ما ستقتله عليه في يوم عليه...فهو أصبح مصدر حديث النساء في أي مكان يذهبان إليه...ومصدر حسد للرجال لما يحققه من نجاح باهر باسم العائلة...كم هي فخورة به...وفخورة أكثر بأنه اختارها هي دون عن الجميلات والفاتنات المحيطات به لتصير هي زوجته وحبيبته وابنته كما يخبرها دوما...
(ماما وداد هل يمكن أن أترك معكِ نغم اليوم...فأنا أرغب بخطف ابنك الذي صار يعشق عمله أكثر مني)
كان هذا همسها في أذن السيدة وداد....اقتربت منها هامسة بموافقة مشجعة وهي تربت على كتفها
(حسنا لا بأس اتركي حبيبتي الصغيرة معي...واخطفي حبيبك أنتِ كيفما شئت...فهو سيرحب بذلك للغاية طالما أنتِ الخاطف)
ابتسمت وقد احمرت وجنتيها بشدة...تقدمت نحوه وهو لا يزال يمزح مع مجاهد وأخته التي تضحك بألم حقيقي والآخر يتمسك بها كي يخفف عنها...
اقتربت من أذنه هامسة بخفوت
(تعال معي أريد أن أريك شيئا هام)
عقد حاجبيه ورد بتساؤل محتار وهو يتطلع لها
(ماذا؟؟...هل حدث شيئا؟؟)
ردت بعبث وهي تغمز بطرف عينيها
(لا...سأخطفك فقط)
ابتسم فابتسمت لابتسامته المهلكة والتي لا تخرج سوى لها...أمسكت كفه وتحركت نحو الباب وهو خلفها...وقبل خروجه نظر لمجاهد بتحذير متوعد حين ألقى صافرة عابثة ومشاكسة...فرفع ذراعيه هاتفا باستسلام برئ
(ماذا؟؟..أنا أعطي التحية لأطفالي فحسب)
وغمز له في النهاية...فانفجر الجميع بالضحك من جديد...حرك له جاسم كفه بتوعد معناه...سأريك لاحقا...
وصلت لسيارتها فتسأل من جديد
(ماذا هل ما تريدين أن أراه في سيارتك؟؟)
أخرجت مفاتيحها وأعطته إياه هاتفه بحماس
(هيا...قود بنا...سنذهب لمدرسة غنوة للرقص الكلاسيكي..فالآن أنت مخطوف يا حبيبي)
قال بعدم تصديق
(الآن...وسنترك الجميع...ونغم..)
قاطعته زافرة هاتفة بحسم
(هل يمكن أن تتوقف عن القلق بشأن الجميع؟؟...سنعود لهم من جديد لن ألتهمك...وبالنسبة لنغم فهي مع ماما وداد الليلة )
ابتسم بل وضحك بتسلية وهو يقول بعبث
(لا أظن بأن أسنانك الرقيقة هذه قد تقوى على التهامي...حسنا هيا يا خاطفتي الظريفة دعينا نذهب)
حاولت التحكم بألا تضحك ولكن في النهاية لم تستطع فاستمرت هيسترية الضحك حتى وصلا للمدرسة...تلك المدرسة التي لاقت نجاح باهر بفضل دعمه وتشجيعه لها...
دخلا إلى الصالة الواسعة والتي كانت إضائتها خافتة للغاية...وقد طلبت منه ألا يفتح الأضواء...فنفذ صاغرا..
أغلق الباب خلفه...ورأها تقف في منتصف الصالة الواسعة هاتفة بحماس
(انتظرني هنا...وإياك أن تغش كي لا تحرق المفاجأة...لا تشعل الأضواء وقف هناك عند النافذة مواليا ظهرك لي)
ابتسم وحرك رأسه بموافقة...انتظر بصبر...ووقف أمام النافذة مثلما طلبت يتطلع للبشر وكفيه داخل سرواله...
عقد حاجبيه حين استمع لصوت رنين من خلفه...كاد يدور ليرى ولكنها أستوقفته بعجلة
(لا انتظر لم انتهِ بعد)
شملت الابتسامة وجهه بالكامل...وانتظر وصوت الرنين يشعل فضوله أكثر...أضاءت المكان أخيرا...وهمست برقة
(والآن...انظر)
أخذ نفسا عميقا وعلى آثره التف ببطء....فاتسعت عيناه بذهول من روعة ما يراه...فكان في انتظاره مفاجئتين مبهرتين...تطلع بأنفاس مخطوفة لها...ولفستانها الذي يعد تحفة فنية بذاتها...فستان صمم من أجلها...من أجل الغنوة...حيث فصل تفاصيلها بدقة حبست أنفاسه أكثر...عاري الكتفين..وينتهي طوله قبل ركبتيها بإنشات بسيطة...وقدمها تزينها بخلخال رقيق...
أماالمفاجأة الآخرى فكانت بداخل الجدار الواسع الموجود في الوجهة...حيث فتحت المرآة الضخمة وظهر تحتها صورة كبيرة للغاية بطول وعرض الجدار تجمعهما معا...تلك الصورة المفضلة لديها...حيث كانا في رحلة فوق يخت مجاهد وتغريد...وقتها كانا يضحكان معا على حافة اليخت فأخذت أخته تلتقط لهما هذه الصور التي فتنتها...حيث كانت تضحك بقوة وهو يضمها له ويتطلع إليها بنظرة لا تحمل احتمالين...نظرة عشق خالصة...عشق عتقه الزمن فصار جزء لا يتجزأ من كيانه...
سمع رنين خلخالها أثناء تقدمها له فاشتعلت نظراته..وصلت له ولفت ذراعيها حول عنقه...هامسة بخفوت
(ستكون المرآة للمتدربين في الصباح..ولكن هذه لي أنا أثناء تدريبي الخاص..ولن تفتح سوى لي ولك فقط...فهي تلهمني أكثر من صورة انعكاسي في المرآة)
مرر كفيه على وجهها الناعم وهمس بحنان دافء وعشق لا حدود له
(ماذا فعلت لأنال كل هذا يا غنوتي؟؟؟)
ردت بثقة مؤكدة
(عشقتني...وأرشدتني لعشقك بداخلي..الغنوة بدونك كانت لحن مفقود يا جاسم...وحين نورتني بعشقك اكتمل لحني...وصرت أخيرا غنوتك الخاصة التي لن تعزف لسواك)
ابتسم بسعادة حقيقية...ثم اقترب هامسا بوقاحة عابثة
(أتدركين بأني أعشق الليالي التي نقضيها هنا معا)
ضحكت بعبث مماثل فاقترب منها مستنشقا أنفاسها وقبل أن يلتقط شفتيها همس بنبرته العاشقة
(أعشقك يا غنوتي...أعشقك يا من جعلتِ قلبي لا يمتلكه سواكِ...أعشقك يا من علمتني أن العشق يبدأ وينتهي في عينيك أنتِ وحدك...أعشقك واعترف بأن الحياة ليس لها معنى بدونك...فلو سألوني ما هي الحياة بالنسبة لك...سأجيب بلا تردد بأنكِ أنتِ وحدك الحياة ولا أحد غيركِ)


تمت بحمد الله
8/9/2020م


همسةبيجونيا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:50 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.