آخر 10 مشاركات
غزة والاستعداد للحرب القادمة (الكاتـب : الحكم لله - )           »          253- لعبة الحب - بيني جوردن - دار الكتاب العربي- (كتابة/كاملة)** (الكاتـب : Just Faith - )           »          في أروقة القلب، إلى أين تسيرين؟ (الكاتـب : أغاني الشتاء.. - )           »          جدران دافئة (2) .. سلسلة مشاعر صادقة (الكاتـب : كلبهار - )           »          1199 - مرارة الغيرة - روايات عبير دار النحاس ( كتابة /كاملة)** (الكاتـب : samahss - )           »          أيام البحر الأزرق - آن ويـــل -عبير الجديدة -(عدد ممتاز ) (الكاتـب : Just Faith - )           »          [تحميل]مذكرات مقاتلة شرسة// للكاتبة إيمان حسن، فصحى (على مركز الميديافاير pdf) (الكاتـب : Just Faith - )           »          307 – الحب والخوف - آن هامبسون -روايات أحلامي (الكاتـب : Just Faith - )           »          عمل غير منتهي (85) للكاتبة : Amy J. Fetzer .. كاملة مع الرابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          خريف الحب / للكاتبة خياله،،والخيل عشقي (مميزة) (الكاتـب : لامارا - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

Like Tree508Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 18-01-21, 06:17 PM   #791

يمنى اياد

? العضوٌ??? » 319916
?  التسِجيلٌ » Jun 2014
? مشَارَ?اتْي » 320
?  نُقآطِيْ » يمنى اياد is on a distinguished road
افتراضي


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته شكرا

يمنى اياد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-21, 01:28 AM   #792

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
Rewitysmile9 الفصل الرابع والتسعون

باعتذر عن التأخير ..

قراءة ممتعة مع الأحداث



الفصل الرابع والتسعون



مثلما اتفق معها مسبقًا، على القدوم في هذا التوقيت تحديدًا، استقبلت "آمنة" ضيفها في صالون منزلها بعد اطمئنانه على شقيقها، رحبت به بتقديرٍ غير مبدية استغرابها لعدم تواجد ابنه الفظ، فالأخير قد أحدث القليل من الفوضى، ولولا حنكة ضيوفها لكان الآن يرقد بين المصابين بالمشفى. لحسن نيتها، توقعت أن يظهر الحاج "اسماعيل" أسفه على تصرفاته غير المقبولة؛ لكنها تفاجأت به يسألها عن طبيعة تلك الزيارات الغريبة من رجال المنطقة لمنزلها، وللمرة الأولى اتخذت موقفًا حادًا معه، فهبت واقفة، وأخبرته بلهجةٍ صارمة، وتعبيراتها تعكس سخطها:

-شوف يا حاج "اسماعيل"، إن كنت جاي تعزي بنتي في جوزها، فأهلاً وسهلاً بيك، غير كده هتمسوا سمعة بنتي بحرف فأنا مش هسمح بده.

رد مبررًا كلامه السخيف المبني على ادعاءات ابنه الباطلة:

-احنا بنتكلم في الأصول.

صاحت بتشنجٍ استغرب كثيرًا منه:

-الأصول طول عمري ماشية بيها من زمان، من وقت ما جوزي الله يرحمه مات وأنا جمب الحيطة، قافلة على نفسي وعلى بناتي، وإنت أكتر واحد عارف الكلام ده يا حاج، عيب أوي لما تصدقه على طول مهما كان مين اللي قالك.

حمحم في خفوتٍ، وقال مُختلقًا الأعذار ليحسن من مظهره، ويحفظ ماء وجه ابنه:

-كل الحكاية إني مش عايز آ....

قاطعته بعصبيةٍ، وقد اِربد وجهها بالغضب:

-يا حاج ده إنت ناقص بتتهم بنتي علني، والجماعة اللي شرفوا البيت معروفين في الحتة كلهم أهل مروءة وشهامة، وعارفين الأصول أكتر مني ومنك.

نظر لها بعينين ضيقتين، بينما تابعت عصبيتها المزعوجة:

-مش هايجي على آخر الزمن اللي يطعن في شرف بنتي وأنا أسكتله.

أطلق زفرة بطيئة وهو ينهض من جلسته، ثم عقب بصوته الهادئ:

-عمومًا يا "آمنة"، ده مش وقته، بنتك تخلص عدتها، وبعد كده نتكلم.

قطعت عليه التطرق لتلك المسألة بقرارها الفوري والصارم:

-لا بعدين ولا قبلين، الموضوع ده مرفوض فيه الكلام.

تحرك في اتجاه باب المنزل وهو يودعها بقليلٍ من الحرج:

-أنا عملت الواجب خلاص، سلامو عليكم.

تبعته سائرة خلفه قائلة بنفس اللهجة المتشددة:

-قول لـ "فضل" يرحم نفسه، ويركز مع مراته وعياله أحسن، هما اللي هايبقوله.

على مضضٍ غمغم باقتضاب:

-ربنا يسهل.

وقبل أن تغلق الباب في إثره رفعت نبرتها مكررة على مسامعها:

-إن كنت سِكت مرة، وسبت بنتي تتهان، فالمرادي لأ، وصل الكلام ده لابنك يا حاج.

لم يعلق عليها، وواصل هبوطه الدرج، للحظات بقيت في مكانها متسمرة عند الباب، صدرها يلهج في ضيقٍ غاضب. في تلك الأثناء، كانت "فيروزة" في طريقها للنزول مع "رقية" بعد أن انتهت كلتاهما من تنظيف المنزل بالأعلى، تساءلت الأولى في دهشةٍ:

-أنا شايفة عمي نازل من فوق، هو لحق؟

أشارت ابنتها بيدها للأعلى، وتابعت بصوتٍ شبه لاهث:

-ده أنا يدوب قفلت شقة خالي بسرعة، عشان أنزل اقعد معاه.

رفعت "رقية" أنظارها نحوها متسائلة في براءة:

-كده أروح ألعب؟

ابتسمت قائلة لها وهي تداعب طرف ذقنها:

-أه يا حبيبتي، العبي لحد ما تزهقي.

ركضت الصغيرة للداخل لتلهو، بينما لم تجد تعليقًا من والدتها، فقط نظراتها الحانقة مسلطة على ما كان أثرًا لعمها، تقدمت نحوها، وتساءلت بتوجسٍ:

-مالك يا ماما، في حاجة حصلت؟

تنهدت بصوتٍ مرتفع، وأجابتها بوجهها العابس:

-"فضل" لَسِّن بكلام مالوش أي لازمة

قطبت جبينها متسائلة بشكٍ:

-عن مين؟

لازمت "آمنة" الصمت المريب، فلاحقتها بسؤالها التالي، وبوادر الغضب تتصاعد إليها:

-اتكلم عني؟ صح؟

نظرت في اتجاهها، وردت بنفس الوجه الواجم وهي تربت على ذراعها:

-مش عايزاكي تزعلي يا "فيروزة"، أنا كلمت عمك جامد.

اهتاجت على الفور، وصرخت بانفعالٍ كبير:

-مين ده أصلاً عشان يتكلم عني؟ هو إيه مصدق؟

حاولت والدتها تهدئتها؛ لكن فلتت زمام الأمور منها، أضافت "فيروزة" تتوعده بكراهية بغيضة:

-والله العظيم لو فتح بؤه بكلمة عني تاني لهقلع اللي في رجلي وأضربه بيها على دماغه.

توسلتها "آمنة" بتخوفٍ، بعد أن رأت حالتها المتعصبة:

-اهدي بس يا "فيروزة"، أنا رديت حقك.

وكأنها تخاطب نفسها، لم تصغِ لكلمة واحدة مما قالتها، حيث اقتحم عقلها مشهد إذلالها في عقر داره، بحجة التأكد من عفتها وطهرها. انقبض قلبها للذكرى، وشعرت بالوخزات تطعن فيه وهي تنطق بصوتٍ جريح متألم:

-هو مكفهوش اللي عمله فيا؟

وضعت والدتها كلتا يديها على كتفيها تهزها برفق منهما، ورجتها بخوفٍ بائن عليها:

-متضايقش نفسك.

احتقنت عينا "فيروزة" على الأخير، تجمع في وجهها كل أشكال الحقد والغضب، ودمدمت بأنفاسها الهادرة:

-اللي زي البني آدم ده عايش على أذية الناس، مفكر نفسه أحسن واحد في الكون، وهو مايسواش، البغل أحسن منه.

احتضنت وجهها براحتي يدها، ومسحت عليهما بحنوٍ وهي تؤكد عليها:

-خلاص يا حبيبتي، ماتتعصبيش، مافيش حد يستاهل تضايقي نفسك عشانه.

قالت معبرة بحرقةٍ اكتوت بها حتى أبت جراحها الاندمال:

-تغور القرابة اللي بالشكل ده.

ضمتها والدتها إلى صدرها، حاولت احتوائها في أحضانها الحانية، أبقتها لبرهة بين ذراعيها، ومسدت على رأسها بمزيدٍ من العاطفة، على أمل أن تنجح في امتصاص نوبة غضبها المسيطرة عليها.

.................................................. .................

فقدت شهيتها، وعزفت عن تناول الطعام لبقية اليوم، أثرت قضاء الساعات في غرفتها معزولة عمن حولها، لم تضغط عليها والدتها، متوقعة أن تنضم إليها لاحقًا، حينما تخبت عصبيتها، وتنطفئ جذوة غضبها. استلقت "فيروزة" على الفراش، وحملقت بالسقف مليًا، بنظراتٍ شاردة، ساهمة، لا تعي المحيط بها، انفصلت ذهنيًا عمن حولها، فصدماتها المكبوتة لم تتركها لحالها، طفت بقوةٍ على السطح من جديد، ودق ناقوس الأحزان في رأسها، ليذكرها بكل ما جابهته وعاشته بمفردها من قساوةٍ، معاناة، وشقاء. أغمضت عينيها في قهرٍ، وحزنها الراسخ مستبدٌ بجوارحها، تكالبت عليها كل الأوجاع، فاستغرقت في نومٍ كان أبعد ما يكون عن الراحة. اندفع تيار من الذكريات السيئة ليحتل أحلامها القريبة.

رأت "فيروزة" نفسها محتجزة في غرفة مربعة، جوانبها الأربعة مصنوعة من الزجاج، لا مخرج منها، ولا مهرب، ترتدي ثوبًا أبيض اللون، يغطي كامل جسدها بأكمامٍ متسعة، فيما عدا رقبتها ووجهها، كما انسدل شعرها خلف ظهرها. دارت حول نفسها في دهشةٍ، وحمى الرعب تسري في أوصالها. اندلعت النيران فجأة لتحاوطها من الخارج، وبدأت سحب الدخان تشق طريقها إليها، اندفعت في جنونٍ نحو أحد الجوانب، ضاربة بيدها الزجاج علها تنجح في إزاحته، أو تجد منفذًا يساعدها على الهروب قبل أن تختنق في محبسها الغريب؛ لكن لا جدوى، عجزت عن الخروج.

برزت عيناها في خوفٍ أشد، وتدلى فكها للأسفل عندما رأت "آسر" واقفًا على مسافة قريبة، زاد جحوظ عينيها وقد أبصرته يلقي بمادة ما غريبة على الزجاج؛ وكأنه يرغب في إحراقها حية، حركت شفتيها لتصرخ؛ لكن لم تجد صوتًا، وكأنها فقدت قدرتها على الكلام. التفتت راكضة نحو الجانب المقابل، فوجدت "فضل" واقفًا أمامه، يحدجها بنظراته الشهوانية الشامتة، وسوطًا غليظًا يرفعه للأعلى في يده، تراجعت في ذعرٍ متجهة لناحية أخرى، فرأت خالها يزحف أرضًا وهو يمد ذراعه العاجز نحوها، ومن خلفه تقف "حمدية"، كأنما تعيق تقدمه، وعيناها المغلولتان لا تكفان عن إظهار بغضها الدفين لها.

لم يتبقَ لها سوى جانبًا واحدًا لجأت إليه، شحذت كامل قواها الهاربة لتحرك الزجاج، نظرت أمامها، ووسط غيمة الدخان الكثيفة، وجدت صاحب الوعد الصادق الذي نفذ إلى قلبها قبل روحها، يقاتل شيئًا غامضًا، لم يكن "تميم" منتبهًا لها، بدا ملهيًا عنها بصراعه الخفي، فطرقت على الزجاج بقبضتيها في عنفٍ، راجية أن ينظر ناحيتها، تألمت يديها من خبطها الشديد، يئست من سماعه لاستغاثتها، فهتفت تناديه بقلبها، والدموع تنساب بغزارة من عينيها:

-"تمـــــيم"!

.................................................. ...........

أثناء استغراقها في كابوسها المؤلم، ولجت "رقية" إلى داخل الغرفة، والسرور يملأوها بعد أن انتهت من متابعة مسلسلها الكرتوني المفضل. ألقت نظرة فضولية على ابنة خالها النائمة، وهي تشرأب بعنقها للأعلى، نادتها بخفوتٍ:

-"فيروزة".

وقفت إلى جوار فراشها، وأكملت تسألها:

-هتلعبي معايا شوية؟

انتظرت أن تجيبها؛ لكن لا شيء، فاعتقدت أنها ما زالت غافلة، لذا تحركت على مهلٍ لتفترش الأرضية، وتلهو بالدمي المتجمعة إلى جوار الدولاب، انتفضت في قلقٍ حينما سمعت أنينًا مكتومًا يصدر عنها، تجاهلته في البداية وواصلت اللعب؛ لكنه تزايد فوثبت على قدميها لتتجه إليها، نظرت إليها في خوفٍ غريزي، وقد رأت جسدها يهتز بصورةٍ عنيفة، وضعت يديها على ذراعها لتفيقها وهي تناديها:

-"فيروزة"!

زادت حدة التشنجات، فصرخت عاليًا:

-عمتو، تعالي بسرعة!

على إثر صوتها المرتفع حضرت "آمنة" متسائلة في استغرابٍ:

-في إيه يا "رقية"؟

أجابتها بتحيرٍ والخوف يتجلى على قسماتها:

-"فيروزة" بتعيط مش عارفة ليه.

لطمت "آمنة" على صدرها، وهتفت بجزعٍ:

-يا نصيبتي.

كانت نوبتها تلك المرة أشد وطأة عن ذي قبل، لم تختبر مسبقًا مثل تلك الحالة معها، فخفق قلبها رعبًا عليها، حاولت إيقاظها وهي تهزها من كتفيها:

-ردي عليا يا "فيروزة"، إيه اللي حصلك بس؟

قفزت "رقية" على الفراش، لتجلس عند الناحية الأخرى، ومالت على رأسها تناديها بصوتٍ مال للبكاء:

-"فيروزة"، اصحي.

ثم رفعت عينيها في اتجاه عمتها، وقالت ببراءة:

-أنا خايفة.

لم تقف مكتوفة الأيدي تشاهد ابنتها تعاني، هرولت بخطواتٍ لا تتماشى مع جسدها الممتلئ، لتأتي بهاتفها المحمول، وبحثت عن رقم "همسة" لاجئة إلى مساعدتها. وما إن ردت على اتصالها هتفت بصوتها اللاهث:

-الحقي أختك يا "همسة"، الحالة رجعتلها، وأنا مش عارفة أتصرف.

.................................................. ........

-استر يا رب.

ردد "هيثم" تلك الكلمات المناجية للمولى، وهو يهبط على درجات السلم، بخطواتٍ متعجلة، متجهًا للأسفل، فبمجرد أن أطلعته زوجته على الوضع الصحي لتوأمتها، حتى أسرع بتبديل ثيابه المنزلية بأخرى أكثر ملائمة، ليهرع إلى نجدتها بعد أن طلب منها المكوث، وبصعوبةٍ تمكن من إقناعها بالبقاء، وتركها تبكي في حزنٍ وخوف. قابل عند المدخل "تميم" الذي كان في طريقه للصعود مستندًا على عكازه، سأله الأخير متعجبًا:

-إنت رايح فين السعادي؟

ودون أن يجيبه، وضع قبضته على ذراعه، وجذبه منه قائلاً بغموضٍ مقلق:

-تعالى معايا يا "تميم".

ســار معه متسائلاً بنبرة حائرة، وعيناه تفحصان تعابيره الغريبة:

-ما تقولي يا ابني حصل إيه؟

أبطأ من سيره المتعجل، والتفت ناظرًا إليه، ليجاوبه بوجهه الغائم:

-الست حماتي بتقول بنتها جاتلها الحالة، ومش عارفة تتصرف.

لحظة حديثه عنها، انقبض قلبه في فزعٍ، وسأله ليتأكد من مقصده، وهو يدعو الله أن تخيب ظنونه، بملامحٍ بهتت من خوفه الحقيقي عليها:

-إنت بتكلم عن "فيروزة"؟

رد باقتضابٍ:

-أه هي.

استرجع في ذهنه ما مرت به سابقًا من حالة جمود غريبة، جعلتها آنذاك فاقدة للإحساس بمن حولها، اتسعت عيناه لمجرد تخيله للأمر، وشعر بانسحاب روحه من جسده، بأن أنفاسه توقفت، باعتصارة مميتة نالت من قلبه، اهتز كيانه بالكامل، بالكاد تماسك، أظهر ثابتًا زائفًا، وهتف بقسماتٍ غامت بشدة، وبعقلٍ سبقه بلهفته المذعورة إليها:

-يالا أوام.

.................................................. ............

لو كان الأمر بيده لنقل كامل أوجاعها إلى جسده، لتنخر فيه وحده، فلا تتأذى، ولا يسرق الألم منها بسمتها، يكفيه أن تكون في مأمن من أقل ضرر. عدَّ "تميم" الثواني ليصل إليها، ولسانه يدعو سرًا للخالق بأن ينجيها من آلامها، سبقه "هيثم" في خطواته بعد أن صف السيارة إلى جوار مدخل البناية القصيرة، ورغم إحساسه بالوخزات الحادة في ساقه لضغطه القاسي عليها ليصعد ركضًا، إلا أن ذلك لا يصف مدى الوجع الذي حز في قلبه لتخيل معاناتها.

وجد الباب مفتوحًا عندما وصل إلى طابقها، قرع الجرس تحسبًا، ونادى مستئذنًا:

-يــا رب يا ســاتر.

خرجت إليه "رقية" تبكي وهي تخبره:

-"فيروزة" تعبانة أوي.

هبط قلبه بين قدميه فزعًا، وسألها بصوتٍ حاول أن يبدو هادئًا:

-هي ماما مش معاها؟

أجابت عنها "آمنة" بصوتها الحزين:

-كتر خيركم يا ابني، معلش جبناكم على ملى وشكم.

سألها بصوتٍ متذبذب، لم ينجح عبره في إخفاء توتره المرتعد عليها:

-هي عاملة إيه؟

ردت والدموع تطفر من عينيها:

-"هيثم" بيكلم الدكتور يجي يبص عليها، أنا مش عارفة جرالها إيه.

تعاظم إحساسه بالخوف، واستأذنها بلوعةٍ، غير عابئ بالتقاليد والأعراف في تلك المرة:

-طب.. ينفع أشوفها؟

نظرت له بترددٍ؛ وكأنها تفكر في الأمر، فألح عليها بنظراته الخائفة، تلك التي نطقت بوضوحٍ عن مشاعره العميقة، وإن لم يسعفه لسانه في البوح بها، أومأت برأسها موافقة وهي تشير نحو الداخل:

-تعالى يا ابني.

اضطربت أنفاسه وهو يسير خلفها ليتبعها، لم يكن ليتجرأ على تلك الخطوة المناقضة لمبادئه لولا فقدانه للسيطرة على كبح خوفه المتزايد عليها. توقف عند أعتاب غرفتها ينظر إلى جمود جسدها بنظراتٍ تجمع فيها كل مشاعر الحب، والخوف، والقلق، واللهفة، والحُرقة. احتجزت عيناه –تلقائيًا- العبرات، طردها بظهر كفه، ودنا من فراشها يتأمل تيبس جسدها في صمتٍ؛ كانت شاحبة، جامدة، وباردة الملامح، خُيل إليه لحظتها أنها تخلت عن رغبتها في الحياة، تكورت أصابعه حول عكازه حتى ابيضت مفاصله من ضغطه الشديد. إن أمعنت النظر إلى صدره لوجده ينتفض في ثقلٍ؛ وكأن جبلاً يجثم عليه، برقت عيناه بصدمةٍ حينما نادته بهسيسٍ وسط سكونها القابض للأرواح:

-"تميم".

دون مقدماتٍ جثا على ركبته أمام فراشها، امتدت يده لتمسك بكفها المسنود إلى جسدها المسجى على مستوى نظره، ضم أناملها داخل قبضته، وقال بصوتٍ أقل همسًا:

-أنا جمبك.

شعر بحركة خفيفة داخل راحته، فأخفض نظراته نحو أصابعها، ودقات قلبه تتسارع، ثم عاد ليحملق في وجهها، وناداها بتنهيدةٍ خافتة، جمعت ما بين لوعة الألم وحرقة الشوق:

-"فيروزة"!

لو لم يكن واعيًا في إدراكه لتوهم ابتسامتها الباهتة له، هربت دمعة من طرف عينه، وأخبرها بصوتٍ متأثر:

-أنا معاكي، وسندك.

همهمة غير مفهومة آتية من الخارج جعلته ينتبه لتصرفه الذي قد يُساء فهمه، إن رأه أحدهم في تلك الوضعية الحرجة، ترك يدها مرغمًا، وتدارك نفسه، ليستقيم بعدها في وقفته، ثم تراجع خطوتين للخلف، تاركًا المسافات بينهما؛ لكن ظلت عيناه مثبتة عليها. ولج الطبيب لداخل الغرفة مستأذنًا:

-ممكن تتفضلوا برا عشان أشوف شغلي، يا ريت بس والدتها تكون معايا.

انسحب بهدوءٍ، والحزن يعتصر قلبه، أدار رأسه في اتجاه "هيثم" الذي خاطبه:

-تعالى يا "تميم".

................................................

بكل ما فيها من بطءٍ وكسل مرت الدقائق عليه كأنها سنوات، أثناء وقوفه بالشرفة منتظرًا الأخبار المطمئنة، استنفذ ما يملك من صبرٍ، وأصبح على شفا الخروج عن عقلانيته الزائفة، استرخائه كان مستبعدًا، فكيف يهنأ البال، وطاووسه حبيس أوجاع الماضي؟ التفت كالملسوع وصوت "آمنة" يردد شاكرًا:

-كتر خيرك يا دكتور.

خرج متكئًا على عكازه الطبي، ونظراته تتوزع بينهما محاولاً فهم ما يدور، شدد الطبيب قائلاً، كنوعٍ من التوصية:

-مش لازم تسكتوا عن الحالة دي، يُفضل إنها تتابع مع دكتور نفسي متخصص، طالما متكررة معاها.

هزت رأسها في أسفٍ وهي ترد:

-حاضر يا دكتور.

مد يده بورقة انتهى من الكتابة فيها، وتابع:

-ويا ريت تجيبوا الأدوية دي ليها.

أقبل عليه "تميم" مختطفًا الوصفة الدوائية من أصابعه قائلاً بعزم:

-تمام يا دكتور، أنا هتصرف.

نظرت له "آمنة" في امتنانٍ، فأكمل وهو يخرج من جيبه مبلغًا نقديًا:

-اتفضل.

تناول الطبيب أجرة زيارته الاستثنائية العاجلة، ورد مبتسمًا بنبرة موجزة:

-شكرًا.

علق "هيثم" بجديةٍ، حتى لا يرهق ابن خالته، قبل أن يرافق الطبيب في اتجاه الباب:

-عنك يا "تميم"، أنا هوصل الدكتور في سكتي، وهاجيب الدوا.

أومأ برأسه في حبورٍ، واستدار ناظرًا إلى "آمنة" يسألها بصوته القلق:

-أخبارها دلوقتي إيه؟

ابتسمت قائلة في رضا:

-أحسن من الأول بكتير، تسلم يا ابني، تعبتك وإنت مش قادر.

رد بزفيرٍ مضطرب:

-أنا معملتش حاجة...

لعق شفتيه، وسألها مستفهمًا:

-بس هي مش كانت بطلت الحكاية دي؟

بعد تنهيدة مرهقة أجابته:

-أه، يجيلها فترة، بس معرفش إيه اللي جد...

على ما يبدو تذكرت عصبيتها اليوم، فانزلقت تُعلمه من تلقاء نفسها؛ وكأنها تفكر بصوتٍ مسموع:

-أكيد اللي قاله "فضل" لعمها ضايقها.

تبدلت تعابيره للقساوة، ونظراته للقتامة وهو يسألها بنبرةٍ لم تكن تبشر بخير:

-هو قال إيه عنها؟

تحرجت من إخباره بالأمر، وتهربت قائلة:

-خلاص مالوش لازمة، المهم إنها بقت كويسة.

بالكاد كبح رغبة عارمة في المغادرة فورًا، والذهاب إلى ذلك الوضيع في عقر داره، لتلقينه درسًا لا ينساه ما دام حيًّا، غمغم بفحيحٍ لم تسمعه "آمنة" جيدًا:

-الحساب يجمع!

سألته في استغرابٍ:

-بتقول حاجة يا معلم؟

رد نافيًا، وتعابيره ما تزال قاسية:

-لأ، مافيش.

لفظ دفعة من الهواء من صدره، وقال:

-أنا هستنى تحت لحد ما "هيثم" يرجع.

أصرت على بقائه مرددة:

-ليه ما تخليك؟

كان بحاجة لمتسع من الفراغ، لينأى بما يكبته من مشاعر غاضبة تهدد بالظهور، كلما جاء لسان أحدهم على ذكر الحقود "فضل"، واستمرار بقائه هنا، وهو في تلك الحالة المستنفرة لن يسفر إلا عن كارثة حتمية، لهذا اعتذر منها:

-تسلمي يا حاجة، كده أحسن.

شكرته مجددًا على موقفه النبيل، واصطحبته إلى باب المنزل، ليجد الصغيرة "رقية" ترمقه بنظرة ممتنة، قبل أن تودعه ببراءة:

-باي باي يا عمو، هستناك تجيلنا.

مسَّت كلماتها العفوية قلبه، وبردت قليلاً النيران المستعرة في صدره، منحها نظراته الحانية، ويده تمتد لتداعب أعلى رأسها، ثم انحنى بجذعه ناحيتها ليبدو قريبًا منها، وقال مبتسمًا:

-وأنا مستني أشوفكم تاني.

طبع قبلة صغيرة على وجنتها، وهمس بالقرب من أذنها بابتسامةٍ عادت للإشراق، وعقله سارحٌ في مُهجة الفؤاد:

-دي ليكي، و... لـ "فيروزة" ......................................... !!

.................................................. ................


منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس
قديم 20-01-21, 01:50 AM   #793

دانه عبد

? العضوٌ??? » 478587
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 513
?  نُقآطِيْ » دانه عبد is on a distinguished road
افتراضي

تسلم ايديك تميم لازم ينهي فضل وحقارته

دانه عبد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-21, 02:00 AM   #794

موضى و راكان

نجم روايتي

alkap ~
 
الصورة الرمزية موضى و راكان

? العضوٌ??? » 314098
?  التسِجيلٌ » Mar 2014
? مشَارَ?اتْي » 6,242
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » موضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   cola
¬» قناتك max
?? ??? ~
سبحان الله وبحمده .. سبحان الله العظيم
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 39 ( الأعضاء 15 والزوار 24)

‏موضى و راكان, ‏يمنى اياد, ‏ملك علي, ‏صباح مشرق, ‏زهراء ش, ‏دانه عبد, ‏التوحيد, ‏Kemojad, ‏ورود عربية, ‏مريم المقدسيه, ‏Samah Abu ghazala, ‏ارورتي, ‏Om noor2, ‏Suzi arar, ‏lolo24


تسلمى يا نولا فصل ممتع

و على فكرة البغل هيزعل لمايعرف بانكم بتلقبوا فضل بأسمه هو له فايدة لكن فضل جبلة و مؤذى و واطى


موضى و راكان غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-21, 02:04 AM   #795

dodo dodp

? العضوٌ??? » 317128
?  التسِجيلٌ » Apr 2014
? مشَارَ?اتْي » 1,778
?  نُقآطِيْ » dodo dodp is on a distinguished road
افتراضي

تسلمى يا قمر فضل بغل حقيقى بس الفصل صغير اوى مابلحقش اشبع منه

dodo dodp غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-21, 02:22 AM   #796

Om noor2
 
الصورة الرمزية Om noor2

? العضوٌ??? » 445147
?  التسِجيلٌ » May 2019
? مشَارَ?اتْي » 267
?  نُقآطِيْ » Om noor2 is on a distinguished road
افتراضي

برغم ان الحاج اسماعيل كان جدع مع اسيف في الدكان واضح انه منقاد ورا ابنه ضد فيروزة ودي الاولي برعايته ...ربنا يسترها علي ولايانا ويكفينا شر اللي علي شاكلة فضل ده في حياتنا ويهديهم ...ولسه الاحداث صغيرة ايه اللي حصل عمرك ما كنت بخيلة في الاحداث🤔🤔

Om noor2 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 21-01-21, 01:46 PM   #797

رانيا صلاح
 
الصورة الرمزية رانيا صلاح

? العضوٌ??? » 395664
?  التسِجيلٌ » Mar 2017
? مشَارَ?اتْي » 706
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » رانيا صلاح is on a distinguished road
¬» مشروبك   water
افتراضي

شكل فضل محتاج يتربي بحق وحقيقي وهو اللي جابه لنفسه 😠

رانيا صلاح غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-01-21, 12:34 AM   #798

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
Rewitysmile9 الفصل الخامس والتسعون

الفصل الخامس والتسعون



مطت جسدها بإرهاقٍ، مستشعرة وجود الألم في كامل عضلاتها؛ وكأنها قد قضت ساعاتها الأخيرة في ممارسة تمارين رياضية قاسية، غالبت رغبتها بالاستغراق في النوم، لتجبر عقلها على التيقظ. سمعت "فيروزة" همهمات غير واضحة، وقريبة من أذنها، تقلبت على جانبها لتجد ابنة خالها جالسة إلى جوارها تعبث بخصلات دميتها محاولة صنع جديلة مثل تلك التي اعتادت أن تصنعها لها، تثاءبت قبل أن تسألها بصوتٍ ما زال يغلفه آثار النعاس:

-بتعملي إيه يا "كوكي"؟

شهقت الصغيرة في صدمةٍ فرحة، تحركت سائرة على ركبتيها لتقترب أكثر منها وهي تسألها:

-إنتي صحيتي؟

نظرت لها بدهشةٍ، ورفعت جسدها قليلاً لتسنده على الوسادة، ثم أجابتها:

-أيوه، ليه في حاجة؟

دون مقدماتٍ احتضنتها "رقية" بمحبةٍ كبيرة، وتعلقت بعنقها، ضمتها "فيروزة" إليها، والاندهاش ما زال مسيطرًا عليها، لم يفقه ذهنها بعد لتصرفاتها الغريبة، أبعدتها عنها وأعادت تكرار سؤالها عليها:

-هو حصل حاجة يا "كوكي"؟

نظرت إليها بعينين تعكسان براءتها المحببة للنفس، أومأت برأسها قائلة:

-أه، إنتي تعبتي أوي، وأنا عيطت عليكي.

وضعت "فيروزة" يدها أعلى رأسها تفركه محاولة تذكر ما حدث، لمحات مما خاضته بدأت تتسرب إلى عقلها، لتذكرها بالحزن الراسخ في أعماقها، تنهدت ببطءٍ، ونفضت ما قد يعكر صفو مزاجها، ثم ابتسمت تطمئن الصغيرة:

-أنا بقيت كويسة أهوو، متقلقيش عليا.

عادت "رقية" لتحتضنها للحظاتٍ، رافضة تركها، استغربت ابنة عمتها مما تفعله، ومع ذلك ظلت تمسح على ظهرها بحنوٍ، تراجعت الأولى برأسها عنها، وابتسمت لها في صفاءٍ قبل أن تنحني على وجنتها، لتطبع قبلة صغيرة عليها، وهي تخبرها بنبرتها الطفولية:

-دي مني.

ضحكت "فيروزة" ملء شدقيها في سعادة، وقالت:

-إيه الدلع ده!

قفزت الصغيرة للناحية الأخرى، وأعطتها قبلة ثانية وهي تضيف:

-ودي من عمو.

ضاقت نظراتها في تعجبٍ مندهش، وسألتها بوجهٍ متعقد التعبيرات

-عمو مين؟

ردت بابتسامةٍ مرحة:

-اللي معاه عصايا بيمشي بيها.

تلقائيًا وجدت "فيروزة" لسانها ينطق باسمه، مستحضرة صورته في ذهنها، وتلك الخفقة تداعب قلبها:

-"تميم".

هزت الصغيرة كتفيها قائلة:

-معرفش.

ساورتها الشكوك، وحملقت فيها بشرودٍ للحظات غير مصدقة قدومه، كانت متيقنة إلى حد كبير أن ما خاضته من معاناة أهلكتها يعود لكابوس مؤلم احتوى على رواسب ما عاشته. قفزت بعدها "رقية" من على الفراش تنادي عاليًا:

-"فيروزة" صحت يا عمتو.

تتبعتها بنظراتها وهي تنصرف ركضًا للخارج، لتظل على حالتها الواجمة، أتت إليها والدتها بتعابيرٍ مشرقة تردد في حبورٍ:

-حمدلله على سلامتك يا "فيروزة".

أقبلت عليها، واحتضنتها بمشاعرٍ أمومية فياضة، ثم مسحت بيدها على بشرتها، وعيناها تتفحصان وجهها وهي تسألها:

-عاملة إيه دلوقتي؟

تجاهلت إجابة سؤالها، لتسألها بنبرة بدت محققة نسبيًا:

-حصل إيه يا ماما؟

جاوبتها "آمنة" بتعابيرها القلقة:

-رجعتلك الحالة يا بنتي إمبارح، ومابقتش عارفة أتصرف إزاي.

بشكلٍ آلي، لاحقتها بسؤالها التالي:

-وفي حد جه هنا؟

كان ردها مترددًا بعض الشيء:

-ده جوز أختك، ومعاه الدكتور، والمعلم "تميم" قريبه.

تأكدها من شكوكها جعل مشاعرها المستاءة تتغلب على باقي ما تشعر به، لم ترغب أبدًا أن يكون شعور التعاطف والإشفاق هو ما يُمنح لها من غيرها، وليس التقدير والاعتزاز، وحتى الحب. اِربدت خلجات وجهها بالضيق، وهتفت تعاتبها في استهجانٍ شديد:

-وإزاي يا ماما تخليهم يشوفوني في الحالة دي؟

بررت لها بأسفٍ:

-يا بنتي أنا مكونتش عارفة أتصرف إزاي، والمرادي كانت صعبة أوي عليكي، خوفت يجرالك حاجة.

كانت صادقة في لهفتها المذعورة عليها كأي أم تخشى أن يصيب صغارها مكروهًا، طردت كتلة من الهواء من صدرها، وعلقت بامتعاضٍ:

-خلاص يا ماما حصل خير.

أشــارت "آمنة" بيدها نحو كيس بلاستيكي يحوي بعض العبوات الطبية، وأخبرتها بلهجةٍ مهتمة:

-الدكتور كتبلك على أدوية، ووصاني أوديكي عند دكتور نفساني.

التطرق إلى مسألة الطبيب النفسي، نشط ذهنها بنفس ما خاضته من حوار قبل سابق مع الطبيب "هاني"، عندما اقترح عليها في إحدى المرات خلال متابعته اليومية لها، بضرورة اللجوء لطبيب متخصص في الأمراض النفسية، لمساعدتها على تجاوز أزمتها، والشفاء من جراحها المعنوية، لكونها تترك تأثيرًا سلبيًا على النفس. تدلت على زاوية فمها ابتسامةٍ متهكمة، وردت بوجومٍ:

-أه، إن شاءالله.

تابعت والدتها مضيفة بأسلوبها الحاني:

-أنا عملتلك شوربة لسان عصفور من اللي بتحبيها، هاجيبهالك تشربيها عقبال ما يجي ميعاد الغدا.

علقت ساخرة:

-حد ياكل شوربة على الصبح؟

ردت حاسمة النقاش معها:

-إنتي محتاجي تتقوي، شكلك هفتان ودبلان، مش هاسيبك تقعي من طولك تاني.

همهمت "فيروزة" بصوتٍ بالكاد خرج من بين شفتيها:

-يا ريت الحكاية كانت أكل وبس يا ماما.

خرجت "آمنة" من الغرفة، واتجهت إلى المطبخ، قبل أن تصل إليه سمعت طرقًا على باب منزلها، فانحرفت بخطواتها ناحيته، فتحته بعد لف حجاب رأسها بغير ترتيبٍ حولها، دهشة سريعة اعترتها حينما رأت كم الأقفاص المليئة بالفاكهة المرصوصة أمام عتبتها، رفعت بصرها في اتجاه أحد العمال الذي استطرد قائلاً:

-سلامو عليكم يا حاجة.

ردت بتعابيرها المدهوشة:

-وعليكم السلام يا ابني...

أشارت بيدها نحو الأقفاص، وسألته:

-إيه دول؟

أجابها موضحًا وهو ينحني لرفع واحدًا يحوي ثمار التفاح الطازجة:

-الحاج "بدير"، ومعاه المعلم "تميم" باعتين دول عندكم.

هتفت معترضة بحرجٍ:

-بس ده كتير أوي.

وكأنها لم تتلفظ بشيء، سألها بشكلٍ آلي، منفذًا ما جاء لأجله:

-أحطهم فين؟

تنحت للجانب، لتفسح المجال له للمرور، وأجابته مشيرة بيدها:

-دخلهم جوا يا ابني.

تنحنح بصوتٍ خشن، قبل أن يمرق للداخل، ثم أخبرها وهو يتابع سيره نحو المطبخ:

-والمعلم بيبلغك إن الحاجة أمه جاية آخر النهار تزوركم، وهتتصل تعرفكم بده.

ردت بترحيبٍ:

-تشرف وتآنس، البيت بيتها.

انتظرت انتهائه من رص الأقفاص في ركنٍ شاغرٍ بالمطبخ، ومنحته مبلغًا بسيطًا نظير تعبه، شكرته بودٍ على مجهوده، ورافقته لباب المنزل، استدارت بجسدها لتجد ابنتها في إثرها تسألها في فضولٍ:

-هو مين جه عندنا يا ماما؟

تحركت في اتجاه المطبخ وهي تجيبها:

-دي زيارة باعتها الحاج "بدير" لينا.

قطبت جبينها متسائلة بغرابةٍ:

-بمناسبة إيه؟

خمنت والدتها السبب البديهي لإرســال تلك الكمية، وقالت ببساطة:

-الظاهر لما عرف إنك تعبانة حب يعمل الواجب لحد ما الست "ونيسة" تجيلنا بالليل.

رددت من خلفها:

-كمان؟ كبرتوا الموضوع أوي، وهو مش مستاهل.

انفرجت شفتا "فيروزة" عن دهشةٍ كبيرة عندما رأت ما تم إرســاله، حملقت في وجه والدتها، وصاحت مازحة:

-كل ده؟ هو بعت الدكان كله ولا إيه؟

تجاوزتها "رقية" لتقترب من قفص التفاح، التقطت واحدة، وسحبت أخرى، ثم التفتت نحو عمتها تستأذنها:

-عمتو ممكن أكل أنا و"فيروزة".

قرصتها "آمنة" من وجنتها، كنوعٍ من المداعبة، وهتفت بإيماءةٍ موافقة:

-خدي اللي عايزاه يا حبيبتي، بس استني أغسلهم الأول.

تناولت التفاحتين منها، وسارت في اتجاه الحوض لتغسلهما، ثم أعادتهما لها، فأسرعت "رقية" نحو ابنة عمتها، تمد يدها بواحدةٍ لها، وقالت بابتسامتها الصافية:

-اتفضلي.

انحنت عليها لتقبلها من رأسها، وشكرتها وهي تأخذها:

-تسلمي يا "كوكي".

قالت والدتها وهي تفرز ما في الأقفاص:

-أختك "همسة" مابطلتش سؤال عليكي، اتفقت مع جوزها إنها هتعدي علينا تقضي اليوم كله معانا.

هزت "فيروزة" رأسها متمتمة:

-مالوش لازمة تتعب نفسها، خليها في حملها.

علقت عليها بتنهيدة:

-هي مصممة، وراكبة دماغها.

ابتسمت وهي ترد:

-مافيش مشكلة يا ماما...

ثم أشــارت بعينيها وهي تتابع:

-خلينا نروق المطبخ اللي قلب على سوق الفاكهة ده.

رددت "رقية" وهي تقضم قطعة من ثمرتها، لتلوكها في جوفها:

-حلو التفاح بتاع عمو، تاخدي حتة يا عمتو؟

حديثها العفوي ذكرها بتلك القبلة الغريبة التي تلقتها منها على وجنتها، امتدت أناملها لتتحسس بشرتها، وهاجسٌ بداخلها يؤكد لها أنه أرادها تعلم بقدومه؛ لكنها لم تحبذ أن يكون اللقاء في أشد لحظاتها احتياجًا وضعفًا. تردد صدى كلمات "تميم" السابقة في عقلها، مذكرًا إياها بأنه دومًا معها، وإلى جوارها. حدقت "فيروزة" في التفاحة الموجودة براحتها، قربتها من شفتيها، وقضمت منها جزءًا وهي تبتسم بحياءٍ طفيف هامسة مع نفسها:

-الرسالة وصلت.

.................................................. .................

-يعني قولتلهم زي ما فهمتك؟

تساءل "تميم" بتلك العبارة، وهو يقف في شرفة منزله، تلك التي قضى بها ليلة الأمس حتى أشرقت عليه شمس اليوم الجديد، وهو يعيش لأجلها حالة من الغضب، يشوبها الغل، الحنق، والتخبط الممزوج بالتوهان. كل ما له علاقة بها جعله متحفزًا، في وضعية هجومٍ للاقتصاص لها. بجهدٍ جهيد عاد إلى منزله كابحًا رغباته الجائعة في سفك دمائه. نفخ الدخان في الهواء، وأطفأ عقب سيجارته شبه المنتهية في المطفأة المتزاحمة بعشرات السجائر المحترقة، ثم تابع كلامه معه بلهجته الآمرة، بعد أن استمع إلى رده:

-ماشي، ارجع على الدكان، وشوف وراك إيه وإنجزه.

ضغط على زر إنهاء المكالمة، ودس بين شفتيه سيجارة جديدة أشعلها بولاعته، ثم بحث بين الأرقام المحفوظة على هاتفه على رقم صديقه "ناجي"، اتصل به، ووضع الهاتف على أذنه منتظرًا إجابته، بادر الأخير مرحبًا به:

-صباحك فل يا معلم.

رد يسأله بنبرته الخشنة دون تمهيدٍ:

-عايزك في مصلحة كده، فاضي؟

أتاه رده قاطعًا:

-طبعًا يا صاحبي، دايس معاك.

سأله مستوضحًا، وقد احتدت نظراته المحملقة على مدى بصره:

-ماتعرفش حد من التجار حبايبنا قريب من (...)؟

غرق في الصمتِ لبرهةٍ، وكأنه يفكر في الأمر، قبل أن يجيبه:

-بيتهيألي في واحد أعرفه هناك، كنت خلصتله زمان كام مصلحة.

سأله مباشرة دون أن يوضح غرضه:

-ليك دلال عليه؟

تردد وهو يجاوبه:

-تقريبًا أه.

كرر عليه بحزمٍ، وقد قست نظراته بشكلٍ يبعث على القلق:

-أه، ولا لأ؟ أنا عايز رد واضح.

حمحم متسائلاً بفضول:

-ليا لي عنده، خير؟ إنت عايز إيه بالظبط؟

جاءه رده غامضًا، وتلك اللمعة الغريبة تظهر في حدقتيه:

-خدمة كده صغيرة، بس تركز عشان تُظبط.

أبدى استعداده التام لتلبية أوامره بترديده المذعن له:

-ماشي كلامك.

.................................................. ......

في تلك الأثناء، ولجت "ونيسة" إلى غرفة ابنها لتدعوه لتناول طعام الإفطار، تفاجأت بفراشه نظيفًا، ومرتبًا؛ وكأنه لم يمسه طوال الليل، فتشت عنه بعينيها، فرأته يتحدث في هاتفه بالشرفة، انتظرته حتى أنهى مكالمته، ونادت عليه:

-يا "تميم"!

استدار ناظرًا ناحيتها، ثم حمل مطفأة السجائر في يده، وسار عائدًا للداخل بخطواتٍ شبه عرجاء، دون أن يأخذ عكازه الطبي. تقدم نحوها متسائلاً:

-أيوه يامه، عايزة حاجة؟

سألته بتعابيرها المغلفة بالاستغراب:

-هو إنت مانمتش في فرشتك؟

ورغم الإرهاق الظاهر على قسماته، إلا أنه قال نافيًا:

-لأ، مجاليش نوم.

سألته بنبرة مهتمة، وهي ترمقه بنظرةٍ منزعجة:

-وإيه اللي مسهرك كده؟

لم يكن الجواب بتلك السهولة ليمنحه لها، فعقله ظل مشغولاً بأمر معذبته، كيف يتذوق طعم الراحة، وهي محاصرة في أحزانها القاتلة؟ جفاه النوم من كثرة تفكيره في أحوالها، وبات الأرق رفيقًا ملازمًا له. انتبه لشروده اللحظي، وراوغها في الرد مغمغمًا باقتضابٍ:

-مشاغل.

عاتبته بخوفٍ غريزي:

-يا ابني صحتك، ده أنا مصدقت إنك بقيت أحسن عن الأول بكتير.

لاحت على جانب شفتيه ابتسامةٍ صغيرة وهو يعقب:

-سبيها على الله.

لعقت والدته شفتيها، وتابعت:

-أنا لاقيتك اتأخرت على نزول الدكان فقولت أعملك فطار.

شكر صنيعها قائلاً، وبنظرة ممتنة كذلك:

-كتر خيرك يامه.

انخفضت نظراتها نحو المطفأة المليئة بأعقاب السجائر المحترقة، شهقت لاطمة على صدرها قبل أن تنظر إليه لتوبخه:

-وإيه السجاير دي كلها؟ يا ابني ارحم صدرك.

كانت وسيلته المتاحة للتنفيس عن مشاعر الحنق الملتهبة بداخله، زفر الهواء على مهلٍ، وقال غير مبالٍ:

-ماتخديش في بالك...

ثم طلب منها بلطفٍ:

-اعمليلي بس قهوة من إيدك الحلوة، هاشربها وأبقى زي الفل.

عقدت حاجبيها متسائلة:

-والفطار؟

قال بتعابيرٍ ممتعضة:

-ماليش نفس.

بررت عزوفه عن تناول الطعام بقولها الساخط:

-هتاكل إزاي وإنت نفسك اتصدت بالسجاير؟!!

انحنى ليقبل أعلى كتفها، وهتف مدعيًا:

-معلش دماغي مش فيا، بأفكر في كام مصلحة عايز أنجزهم.

دعت له بصدقٍ:

-ربنا يقويك يا ضنايا، ويكرمك في كل خطوة بتخطيها.

أمن على دعائها المتضرع بترديده المناجي:

-يا رب.

انشغلت "ونيسة" بلملمة بعض الأشياء المبعثرة هنا وهناك، بينما وضع "تميم" يده في جيب بنطاله، ليضم في راحته المخبأة مشبك رأسها، ذاك الذي احتفظ به حينما رأها بحلتها البيضاء، قطعة امتلكتها كانت حقًا سلواه في ليله الطويل الساهد، بقي بداخل كفه وهو يتشدق متسائلاً:

-بالحق كلمتي الست "آمنة" تسألي على بنتها؟

رفعت نظرها نحوه، وأجابته:

-أه يا حبيبي.

اشتدت قبضته على المشبك، وشعر بتسارع دقات قلبه، بالكاد حافظ على جمود تعابيره، وهو يسألها:

-وإيه الأخبار؟

اعتدلت في وقفتها قبل أن تجيبه:

-الحمدلله بقت أحسن.

أثلجت جملتها صدره، وشعر بقليلٍ من الارتياح يغمره؛ وإن لم يكن كاملاً، ادعى جموده، وهز رأسه معقبًا باقتضابٍ حتى لا يثير شكوكها نحو اهتمامه الزائد بها:

-خير.

تابعت إخباره وهي تسير في اتجاه الباب:

-بالليل هعدي عليهم مع أختك، واطمن بنفسي، واجب برضوه، هما عمرهم ما اتأخروا عننا في حاجة.

تلك المرة لم يستطع منع نفسه من الابتسام وهو يشكرها:

-تعيشي يامه.

أشارت له بعينيها ليتبعها:

-طب تعالى عشان تفطر مع أختك.

-حاضر يامه.

قالها باستسلامٍ وهو يخرج من جيبه المشبك، ليضعه في مكانه بالدرج العلوي بالكومود الملاصق لفراشه. أزاح منديل الرأس، ودسه أسفله ليحجبه عن الأعين، فتظل -كما تعهد لها- في مأمنٍ عن الضياع.

.................................................. ...............

انتهى عامل القهوة المجاورة للدكان، من رص أكواب الشاي الزجاجية على الطاولتين المتلاصقتين، قبل أن يضع كوبًا منفصلاً مليئًا بالسكر على الجانب، ليعاود أدراجه مستأنفًا عمله في تلقي طلبات الزبائن. مد "سراج" يده، وأمسك بالملعقة ليضيف ثلاثة ملاعق من السكر في كوبه، ثم قلب المحتويات معًا، وخبط بطرف المعلقة على حافة كوبه، كتقليدٍ يُلازم الأغلبية من محبي تناول الشاي.

سلط أنظاره على "بدير"، و"هيثم"، يراقب ردة فعلهما بعد أن فاتحهما في موضوع شراء الدكان المملوك لـ "محرز" و"بثينة" بمبلغٍ ضخم. تردد كثيرًا قبل التطرق إليه؛ لكن بعد مضي ما يقرب من شهر على مقتل الأول، واستقرار الأوضاع تقريبًا في منزل الثاني ظن أن التوقيت مناسبًا للحديث عنه، بالإضافة لوضعه في الاعتبار أن تقبلهما للأمر يعني من وجهة نظره تمهيدًا للشأن الآخر الهام الذي يتوق شوقًا للحديث عنه. نفض عن عقله ما يشوش تفكيره، ووجه سؤاله لهما وهو يرفع شايه إلى فمه:

-ها قولتوا إيه؟

استغرق الاثنان في تفكيرهما المتأني، وتبادلا نظراتٍ مترددة بعد طرح "سراج" لعرضه السخي.

-خلينا ناخد وندي مع بعض الأول، وبعد كده هنديك كلمة فيه.

رد بتفهمٍ:

-خدوا راحتكم على الآخر، أنا مش مستعجل.

هتف "هيثم" مشددًا:

-لازم أعرض الحكاية دي على أمي.

لم يعارض رغبته، وحادثه بإصرارٍ:

-وماله، بس بدل قفلته كده، أهوو أشغله بمعرفتي.

تحدث "بدير" قائلاً:

-ربنا يسهل، اشرب إنت شايك.

استدار برأسه ليواجهه، ورد:

-حاضر يا حاج.

نهض "هيثم" عن كرسيه، وسحبه بيده للخلف مخاطبًا "بدير":

-أنا هاقوم أشوف النقلة جهزت ولا لأ، عايز ألحق باقي النهار.

عقب عليه زوج خالته بهزة رأسٍ خفيفة:

-ماشي يا ابني، الله يقويك.

انتظر "سراج" مغادرته، ليقرب مقعده قليلاً من مُضيفه، واستأذنه بصوتٍ جعله خافتًا:

-حاج "بدير"، ممكن أتكلم معاك كده في موضوع بعيد عن الشغل.

نظر له بإمعانٍ، وشجعه للمضي في حديثه:

-قول يا "سراج".

تنحنح لأكثر من مرةٍ ليجلي أحباله الصوتية، كذلك ليعطي نفسه الفرصة لترتيب أفكاره المتداخلة في رأسه، قبل أن ينطق أخيرًا بلمحةٍ من التردد:

-أنا عارف إنه مش وقته، ومايصحش بردك أفتح السيرة دي دلوقتي، بس عشمي فيك كبير بعد ربنا.

تفرس في وجهه متسائلاً بتوجسٍ ملحوظ:

-خير؟ قلقتني.

قال على الفور ليطمئنه:

-كل خير إن شاءالله يا حاج.

توقف للحظة عن الكلام ليستجمع شجاعته، وحرك فكه ليقول بتلعثمٍ كان ظاهرًا:



-أنا كنت.. يعني .. بأفكر .. لما..

انزعج "بدير" من مماطلته غير المفهومة، فصاح به بنفاذِ صبرٍ:

-ما تخش دوغري في الموضوع على طول.

بلع ريقه الذي جف كليًا من جوفه، وقبل أن يفكر في التراجع نطق دفعة واحدة بما يريده:

-هو بصراحة كده، أنا طالب القرب منك.

اندهش من طلبه العجيب، وسأله باستغرابٍ:

-القرب مني؟ قصدك مين؟

رمش بعينيه، وخفض رأسه متحاشيًا نظراته المسلطة عليه، ليوضح بعدها:

-أنا قصدي على ست البنات "أم سلطان"، بنتك يا حاج...

بحذرٍ اختلس النظر نحوه بعد أن لاحظ صمته، وتابع باقي كلامه:

-يعني بعد ما تخلص عدتها بأمر الله، لو مافيش مانع عايز أتقدملها.

جدية بحتة اكتست تقاسيم وجهه، وردد يسأله بصدمةٍ:

-بتقول إيه؟

برر على الفور نواياه الصادقة، حتى لا يُساء فهمه:

-اقسم بالله ما طمعان في حاجة غير رضاها، أنا غرضي شريف.

أطبق على شفتيه محتفظًا بصمته لبعضٍ من الوقت، وهتف أخيرًا بعد سكوت موتر:

-إنت فاجئتني يا "سراج".

ضغط عليه بتلهفٍ لم يستطع كتمانه:

-أنا عشمان إنك توافق يا حاج.

تهرب من منحه جوابًا مباشرًا، فقال:

-والله ما عارف أقولك إيه، ده مش وقته ولا مكانه.

استمر في تأكيد حسن نواياه:

-أنا عارف يا حاج، بس بأجرب حظي، ولو قلقان من معاملتي لـ "سلطان" الصغير اطمن، ده في عينيا، والله كأنه ابني بالظبط.

نظر له "بدير" مليًا بنظراته الثاقبة، تفرس في ملامحه، فرأى فيها -بخبرة السنين- جدية تامة على حُسن معاملة ابنته ورضيعها، إن ارتضى به زوجًا لها، بينما واصل "سراج" القول بحماسٍ أكبر، لا يعرف من أين جاءه بعد أن زالت الرهبة:

-وكافة شيء تطلبه ست البنات هايكون عندها، من مهر، وشبكة، وشقة في أجدع حتة.

زفر على مهلٍ، وأخبره بحياديةٍ:

-مش هينفع أديك كلمة دلوقتي، ولا حتى أقولك رأيي، الكلام مش معايا أنا بس.

هز رأسه معقبًا عليه:

-شور على اللي إنت عاوزه يا حاج، وخد وقتك على الآخر، أنا مش مستعجل، بس حبيت أمشي تبع الأصول، وأدخل البيت من بابه.

زم شفتيه لبعض الوقت، مديرًا الأمر في رأسه، قبل أن يتكلم في النهاية:

-ربنا يقدم اللي فيه الخير.

رفع "سراج" كوبه إلى فمه، وقال بابتسامةٍ متحمسة:

-بإذن الله، ونشرب المرة الجاية الشربات.

سدد له نظرة صارمة وهو يعلق على جملته الموحية:

-طب اشرب شايك الأول.

ابتسم في سرورٍ وهو يرد:

-ماشي يا حاج.

.................................................. .....................

راقباه جيدًا، خلال سيره المتهادي، على الطريق الزراعي، ليعود إلى منزله بعد انقضاء عمله مع المستأجرين من الفلاحين؛ كان "فضل" لسوء حظه يمشي بمفرده، مما بدا صيدًا سهلاً لمتعقبيه، هؤلاء الذين جاءوا خصيصًا إليه. تحركت السيارة في إثره ببطءٍ لتتبعه، ونظرات من فيها مرتكزة عليه. تساءل "حمص"، وعيناه لم تحيدا عنه:

-هننفذ دلوقتي؟

أخبره "شيكاغو" بصوته المتحشرج، وهو يلقي بسيجارته من النافذة:

-لأ استنى، قبل الكوبري.

برزت ابتسامة انتشاء على محياه، وردد بتحفزٍ:

-اشطا .. شكلها هتبقى ليلة فل.

من المقعد الخلفي شدد عليهما "ناجي":

-عايزين نجيبوه في السريع، ده متوصي عليه جامد.

رد "شيكاغو" بتذمرٍ، وهو ينظر إليه عبر مرآته الأمامية:

-هي دي أول مرة يا ريس.

وعند نقطة معينة، وقبيل وصول "فضل" للكوبري العلوي الذي يمر من أسفله مصرفًا زراعيًا، وفي نفس الوقت يربط بين ضفتي البلدة، ضغط "شيكاغو" على دواسة البنزين، مضيقًا المسافة عليه، وليحاصره أيضًا عند مطلعه. توقف عن السير، وهمَّ بالتشاجر مع راكبي السيارة، غير متوقع أن ما يحدث معه ما هو إلا حيلة لاختطافه .. في لمح البصر ترجل كلاً من "حمص" و"ناجي"، وانقضا عليه يجذباه بشراسةٍ من جسده نحو المقعد الخلفي للسيارة، رفع "شيكاغو" جسده عن المقعد لينضم إليهما، وضرب مؤخرة رأسه بشيء ثقيل ليفقده الوعي، ثم هتف فيمن معه:

-يالا يا رجالة.

استقر الجميع في أماكنهم، بعد إحكام الوثاق عليه، ليتولى "شيكاغو" بعدها القيادة منطلقًا نحو وجهة محددة تم الاتفاق عليها مسبقًا، إلى حيث يتواجد "تميم".

.................................................. ..........

أفاق على وخزة مؤلمة في جانب كتفه؛ وكأن شيئًا غليظًا ضربه فيه، كان من الخير له أن يظل فاقدًا للوعي، فما ينتظره من مشاعر الغضب الساخطة سيفوق ما يمكنه تحمله. فرك "فضل" جانب رأسه بيده وهو يتأوه بأنينٍ بدا كالنعير، وما إن فتح عينيه، حتى رأى آخر من يرغب في رؤيته الآن، واقفًا عند قدميه، ينتظره بترقبٍ، وبملامحٍ فَزِع منها للغاية. كان جبانًا للحد الذي يجعله ينطق بذلك علنًا، متجنبًا أي مواجهات حقيقية مع الرجال الأشداء. حاول الاعتدال في رقدته على الأرضية الباردة وهو يتساءل:

-أنا فين؟

أجابه "تميم" بصوتٍ أجش، وهو يحدجه بنظراته المعبأة بقساوة السجون:

-عندي.

بلا عكازٍ ليستند عليه، وبشموخٍ يبعث الرهبة في النفس، استأنف كلامه في صيغة سؤالٍ تهديدي:

-مش أنا حذرتك قبل كده ما تقربش منها لا بحلو ولا بوحش؟

رغم فهمه لتلميحه المبطن بأنه يقصد "فيروزة" بجملته تلك، إلا أنه بطبعه الجبان أنكر أي اتهامٍ قد يضره، وهو يزحف بمرفقيه للخلف، ليبتعد عن محيط شره المستعر:

-وربنا ما عملت حاجة.

هدر به ينعته بكلمات نابية، وبصوتٍ زلزل الجدران:

-يعني مش بس (***)، لأ كمان كداب.

ازدرد ريقه، وهتف بصوتٍ مرتعش:

-صدقني يا ... معلم.. أنا قاعد هنا في حالي، لا روحت ولا جيت.

تقدم نحوه "تميم"، وأحنى جذعه قليلاً لتصل قبضته المتشنجة إلى قدمه، أمسك به منها، محكمًا أصابعه عليها، بحيث لا يقدر على الإفلات منه، جذبه إليه بكل ما يعتريه من قوة غاضبة تزداد في حدتها بمرور الوقت، ليصيح بعدها متوعدًا بوجهٍ غابت عنه الوداعة:

-وقت الحساب أزف .................................................. . !!

.................................................






منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس
قديم 23-01-21, 12:37 AM   #799

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
Rewitysmile9 الفصل السادس والتسعون



الفصل السادس والتسعون



برعونته الطائشة، وتصرفاته غير المدروسة، نجح في استدعاء الوحش الكامن الذي يرقد بداخله، ليصبح شديد الخطورة في ملامحه، ونظراته، وحتى تلميحاته العدائية. لم يعد هناك حدًا للعنف، طبيعته الشرسة طغت على أي مظهر وديع كان يملكه قبل برهةٍ. قبض "تميم" على قدم غريمه، ورفعها للأعلى، ليلوي كاحله بقساوة دفعت "فضل" للصراخ المستغيث والبكاء في ألمٍ وهو يرجوه:

-بالله عليك تسيبني، أنا معملتش حاجة.

قال بتوعدٍ بعد أن ترك قدمه:

-هو أنا بدأت لسه؟

صراخه المتعاقب جعل مالك دكان الفاكهة المتواجدين بداخله -والذي يدعى "فهيم"- يدخل في الحال لرؤية ما يحدث. وقعت عيناه على "فضل"، فهتف مستجديًا مشاعر "تميم"، عله يرفق به، دون أن يفهم بالضبط أبعاد مشكلته معه:

-خلاص يا معلم، اعتبره عيل وغلط.

إشارة صارمة من عيني "تميم" منحها لـ "ناجي" جعلت الأخير يتحرك صوب "فهيم" ليحاوطه من كتفه، سحبه بعيدًا عنهم وهو يقول:

-تعالى معايا يا حاج ...

وأخفض نبرته قائلاً بجديةٍ:

-وسيب الرجالة يتفهموا مع بعض على طريقتهم.

اعترض بترددٍ قلق:

-بس كده آ..

قاطعه بحزمٍ ليطمئنه:

-متقلقش من حاجة، إنت في السليم.

أتاه صوت "تميم" عاليًا ليُعلمه:

-حاج "فهيم"، احنا محتاجين التلاجة الكبيرة شوية.

استدار برأسه ناحيته، وقال وهو يبلع ريقه:

-المكان مكانك يا معلم "تميم".

رد يشكره بنصف ابتسامةٍ، وكامل نظراته على "فضل":

-تعيش يا حاج، مردودالك في أي خدمة

كان غرضه من اختيار ذلك المكان البارد، عدم لفت الانتباه للضجيج الذي سيحدث لاحقًا. هلل "فضل" مستغيثًا حتى بح صوته:

-الحقوني، هيموتوني، غتووووني يا ناس.

علق عليه "تميم" يتحداه بابتسامة هازئة احتلت زاوية فمه، ونظراته القاتمة مسلطة عليه:

-عايزك تصوت على أد ما تقدر...

بدا صوته كالهسيس وهو يكمل:

-عشان محدش هيغيتك الليلادي.

تسول رحمته بنحيبه:

-طب شوف إنت عايز إيه وأنا هاعمله، حقك عليا، لو عايزني أبوس راسك قصاد الناس دي، فأنا مش ممانع، خليني بس أقف على حيلي...

ثم نشج ببكاءٍ مسموع وهو يواصل:

-ده أنا عندي عيال غلابة، وولية مكسورة الجناح، يرضيك يتحسروا عليا؟

هتف غير مكترثٍ بخشونةٍ مرعبة:

-أه يرضيني.

بلع ريقه وقد جحظت عيناه أكثر متخيلاً ما يمكن أن يفعله به، في حين خلع "تميم" قميصه البني -والمقسم في نقشته المطبوعة عليه إلى مربعات صغيرة متفاوتة في درجاتها- ليظل بثيابه السوداء التحتية التي أبرزت عضلاته المفتولة، ثم انتزع حزامه الجلدي من بنطاله الجينز الأسود، ونظرات "فضل" المذعورة تراقب بشخوصٍ كل حركة تصدر عنه، متوقعًا حدوث الأسوأ بين لحظةٍ وأخرى، انحنى عليه مجددًا ليمسك بقدمه الملتوية، وأحكم ربط حزامه الجلدي حولها، فصاح "فضل" يسأله وهو يحاول التملص منه:

-إنت بتعمل إيه؟

تجاهله ليأمر "حمص" و"شيكاغو":

-فضوا السكة.

تقدم الاثنان في خطواتهما سريعًا لإزاحة أي عائق عن الطريق، وأيضًا لتهيئة المكان بداخل ثلاجة حفظ الفاكهة المخزنة لتستوعب وجودهم فيها، بينما شرع "تميم" في جذب خصمه من قدميه بقوةٍ، ليتدحرج "فضل" أرضًا على ظهره، قبل أن يتم سحله وصولاً إلى هناك، وأنين صراخه المستغيث يزداد حدةً وخوفًا.

.................................................. ........

بعد بضعة دقائق، كان "فضل" مستلقيًا على ظهره بداخل الثلاجة، ووُضع فوق عنقه مقعدًا، لينحر طرفه الخشبي الخشن في جلد رقبته. جلس "تميم" عليه، مُلقيًا عليه نظرة ازدراءٍ من مسافته العالية، ويده تتدلى بمطواته التي تدور بين أصابعه في خفةٍ. تأمله باحتقارٍ قبل أن يستطرد قائلاً في صيغة سؤالٍ، كنوعٍ من التخيير:

-تفتكر أبدأ معاك بإيه؟

أجهش "فضل" بالبكاء وهو يحاول استرقاق قلبه:

-ولا حاجة، ده أنا غلبان.

كركر ضاحكًا لسخافته، فأكمل الأخير بنواحه، نافيًا عن نفسه أي تهمة:

-وربنا ما عملتلها حاجة، ولا جيت جمبها من ساعة ما كنت عندها.

لم تنطلِ حيلة بكائه كثيرًا، فدموع التماسيح نضبت بعد لحظةٍ، وبدا صوته عاديًا عندما سأله وهو يرمش بعينيه:

-هي قالتلك حاجة؟

وقبل أن يجاوبه تابع بصوته المرتجف:

-وبعدين ده أنا ابن عمها، من لحمها ودمها، وخايف عليها، يعني مايرضنيش حد يقول عنها كلمة.

نقل "تميم" مطواته لليد الأخرى، ومررها بين أصابعه بنفس الحركة الاحترافية، تأكد من متابعة نظرات "فضل" له، ثم توقف فجأة عن تحريكها، وخاطبه بصوتٍ أجوف عميق:

-وماله تخاف عليها بالأصول، مش بالندالة!

رد بنبرته المرتعشة:

-أه .. طبعًا..

ثم نهض عن المقعد، وركله بقدمه، ليصبح عنقه طليقًا، ظن لهنيهة أنه سيحرره؛ لكنه باغته بالانقضاض عليه وجذبه من ياقته ليجبره على النهوض، فذعر بشدةٍ، ووضع قبضتيه المرتجفتين على ساعديه يستعطفه:

-إنت قلبك كبير يا معلم، بلاش تروح في داهية، الموضوع مش مستاهل.

لسانه الأهوج كان الأسبق في إضافة جملةٍ كدرت الأجواء الغائمة:

-ده الحريم ياما بيقولوا، هنعمل عقلنا بيهم.. دول ناقصين عقل ودين ..

لعق شفتاه واختتم حديثه:

-ده مش كلامي، ده كلام ربنا.

نطق في تهكمٍ سافر:

-وإنت ماشاء الله عليك بتعرف في الدين.

ودون أن تحيد نظراته عنه، وجه أوامره لرجليه الواقفين خلفه:

-ثبتوه على الحيطة!

هتف "شيكاغو" أولاً مبديًا طاعته له:

-حاضر يا معلم.

في حين تقدم "حمص" لتنفيذ أمره في صمتٍ، وعلامات الشر تبدو جلية على قسماته.

صرخ "فضل" بأقصى ما يستطيع، وهو يبذل كامل طاقاته للخلاص من الحصار المطبق عليه:

-هيقتلوني يا نـــــاس.

لم يحتاج كلاهما لجهدٍ زائد لإلصاق وجهه بالجدار البارد وتثبيته، ضغط "شيكاغو" على رأسه، ليسحقه في بروز الجليد المتكون على سطحه، فتتسبب حوافه الحادة في تمزيق جلده، وقام "حمص" بتكبيل يديه ليضعف من مقاومته، وحشر قطعة من قماش الأجولة في جوفه، ليكتم صوت صرخاته. ظل "تميم" واقفًا على بُعد بضعة خطوات، وهتف كتمهيد استباقي لما سيحدث لاحقًا:

-لما الوارد الجديد بيشرف عندنا في أبو زعبل بيتعملهم حفلة استقبال، تشريفة تليق بيهم ..

فتش بين الأغراض المحاوطة به عن شيء غليظ، وواصل مخاطبته:

-بعدها بنلاقي واحد ولا اتنين كده متنططين، عايزين يعملوا نمرة، ياكلوا بيها الجو، بس مشكلتهم بيعملوها مع الناس الغلط ..

تأوه "فضل" من الألم المستبد بجسده، وبكى في خوفٍ أكبر، بينما تابع "تميم" حديثه له بلهجةٍ عبرت عن بواطن شرورٍ عظيمة، لا يحبذ اختبارها على البشر:

-ساعتها بقى بيتعمل معاه السليمة، ويتعرف إن كان راجل وأد كلمته، ولا واحد متنسوِن، يقلب على مَرَة لما يخش في الغويط.

دفع "فضل" بلسانه القطعة المحشورة في جوفه، عله ينجح في إسقاطه ومواصلة الصراخ. تقدم "تميم" بخطاه المتأنية، وعيناه تبرقان بشيءٍ خطير، كما اشتدت نبرته قساوةٍ عندما نطق:

-وأنا حذرتك ..

موجة الغضب التي اجتاحته لم يعد بإمكانه إيقافها، لذا أوضح له باقي تهديده:

-عشان المرادي هاعمل معاك الجُلاشة، مش هاخليك تعرف ترفع عينك لا في راجل ولا حُرمة.

سقطت الخرقة من فم "فضل"، فصاح على الفور طالبًا النجدة:

-غتوووني يا ناس.

توقف "تميم" على مسافة خطوة منه، ومال عليه ليبدو صوت تهديده في أذنه حينما أخبره، وبين شفتيه ابتسامة انتصــار:

-إدي بالك عشان جيالك، وبالجامد أوي.

.................................................. ..........

أمام النافذة الأرضية، أطلت برأسها تراقب المارة عن كثب، فموعد عودته قد تأخر كثيرًا، فعلى الأغلب كان يعود إلى المنزل مبكرًا، تاركًا غيره يكمل ما تقاعص عن أدائه. تنهدت "سعاد" بصوتٍ مسموع، وتحركت لتجلس على المصطبة بجوار زوجها، ثم أخبرته وهي تفرك كفيها معًا:

-لأ، أنا كده اتوغوشت بزيادة، مش بعوايده "فضل" يتأخر كده.

أردف قائلاً وهو يدير حبات مسبحته بإبهامه:

-الغايب حجته معاه.

وضعت هاتفها المحمول على أذنها بعد أن هاتفته، وقالت في قلقٍ أكبر:

-باتصل عليه تليفونه مقفول.

افترض "اسماعيل" مرددًا بعد برهةٍ من الصمت:

-جايز يكون راح عند أهل مراته يصالحها، ماهو كان غبي معاها آخر مرة.

غمغمت بتبرمٍ وهي تخبط يدها الطليقة على فخذها:

-بردك يقول، ولا يتصل يعرفنا، مايسبناش كده في حيرة وقلق.

علق عليها بامتعاضٍ:

-إنتي عارفة ابنك ماشي بدماغه، محدش بيقدر يحوشه لما يحب يعمل حاجة.

التفتت للجانب لترمقه بنظرة ساخطة، ولامته بشكلٍ صريح ومباشر وهي تلوح بيدها:

-متزعلش مني يا حاج، إنت اللي عودته على كده، لو كنت بتقفله من الأول كان اتلم، بس هو ساق فيها، وأديك شوفت عمل إيه مع الغلبانة "سها".

نظر لها من طرف عينه، ونطق بعد زفيرٍ طويل:

-ربنا يستر المرادي، لأحسن مش مرتاح، وخايف أبوها ياخد موقف.

بنفس الأسلوب المتنمر استطردت معقبة:

-هايكون معاه حق لو عمل كده، كل مرة ترجعله بنته متبهدلة ومضروبة، وده مايرضيش ربنا.

واصل "اسماعيل" تقليب حبات المسبحة بحركة ثابتة، ولسانه يلهج داعيًا:

-ربنا يعديها على خير.

.................................................. ....

حينما يتحير في أمر ما، يلجأ إليه، فيجلس بأريحية عند قدميه، ويبوح له بكل ما يختلج صدره، ليمنحه الجواب الحاسم، بخلاصة خبرته الحياتية الطويلة. لذا لم يتردد "بدير" في إطلاع والده على ما أخبره به "سراج" في دكانه، وكيف تعامل مع الموقف المفاجئ، اختتم سرده المستفيض قائلاً:

-أنا قولتله إن "هاجر" ماستوفتش عدتها لسه، ومايكلمنيش في حاجة قبل كده، إيه رأيك في الكلام ده يابا؟

أومأ برأسه في استحسانٍ وهو يرد:

-عين العقل.

سأله بتوجسٍ، وقد ضاقت عيناه:

-بس تفتكر البت ترضى؟

ببساطةٍ جاوبه:

-دي حاجة ترجعلها هي.

همهم ابنه مضيفًا، وأمارات التفكير تظهر جلية على قسماته:

-والله أنا محتار، ما هو احتمال "هاجر" متوافقش، وأنا هتحرج مع الراجل، وخصوصًا بعد وقفته معانا.

اعتدل "سلطان" في جلسته، وحادثه على مهلٍ:

-بص يا "بدير"، بنتك بعد اللي شفته مع "محرز" مش هتوافق بسهولة، لأن اللي عاشته مكانش قليل، وده بعد ما جه في الآخر على ضناها، يعني مارحمش حد.

هز رأسه يؤيده:

-معاك حق.

واصل كلامه العقلاني معه:

-وإنك تفاتحها دلوقتي عن حد متقدملها هيقلب معاها بالعكس، وهتفتكر كل اللي مرت بيه.

نظر إليه معلقًا بإيجازٍ:

-مظبوط.

أنهى النقاش في تلك المسألة بقوله الحاسم:

-احنا نكفي على الخبر ماجور، لحد ما ربنا يأذن، ووقتها يحلها الحلّال.

رد دون اعتراضٍ:

-ماشي يابا، اللي تؤمر بيه.

قال مبتسمًا وهو يربت على كتفه:

-لأ ده الصح، واللي المفروض يتعمل.

بادله الابتسام وهو يدعو له:

-ربنا يباركلي فيك يابا، ويديمك فوق راسنا.

.................................................. ..............

ما لاقاه على يده كان مهينًا لأبعد الحدود، جعل اعتقاده الراسخ في ذهنه، وما تربى عليه منذ نعومة أظافره، بأن الرجولة تتمثل فيما يمتلكه الفرد من أعضاءٍ حددت هويته لحظة الميلاد، لا يساوي شيئًا أمام إذلاله وكسر شوكته في حضرة الغرباء. وعند نفس البقعة التي اختطف فيها، تم إلقاء جسده المنتهك بجوار الكوبري، ليزحف بعدها "فضل" ناهضًا وهو يئن من الألم والانكسار، تلك المرة لم تتبعثر كرامته فحسب، وإنما قُضي على جبروته الزائف، هذا الذي يمارسه على الضعفاء. جرجر ساقيه عائدًا إلى منزله، ووجهه ملطخًا بدمائه، ودموعه الذليلة. هللت "سعاد" في هلعٍ حينما أبصرته على تلك الحالة المشينة:

-يا نصيبتي السودة! إيه ده يا "فضل"؟ حصلك إيه؟

بصوتٍ مرتجف، وجسد لا يتوقف عن الارتعاش رد كاذبًا:

-ما.. مافيش يامه.

استنكرت كذبه المكشوف، وأصرت على معرفة الحقيقة بضغطها اللحوح عليه:

-إزاي مافيش؟ ده إنت متبهدل خالص، وإيه اللي في وشك ده كمان؟

انكمش على نفسه في رهبةٍ عندما امتدت يدها لتلامسه، وقال بحرقةٍ، متجنبًا الجلوس رغم صراخ جسده ليستلقي:

-سبيني يامه السعادي.

رفضت تركه لشأنه، وتبعته إلى الداخل قائلة بعنادٍ:

-لأ مش هاسيبك يا "فضل"، لازمًا أعرف حصلك إيه...

ثم رفعت من نبرتها، ونادت:

-يا حاج "اسماعيل"، تعالى بسرعة، شوف ابنك واللي جراله.

أتى إليها زوجها مرددًا في توجسٍ:

-يا ساتر استر يا رب.

وقعت أنظاره على ابنه، جال ببصره عليه ليفحصه من رأسه لأخمص قدميه، ثم سأله بدهشةٍ مستهجنة:

-إيه ده يا "فضل"؟ من إيه كده يا ابني؟

صرخ في يأسٍ، والخزي مستبد منه:

-يوووه، ما كفاية بقى تحقيق ...

عنفه والده بضيقٍ، وهو يرمقه بتلك النظرة المزعوجة:

-دي جزاتنا إني أنا وأمك قلقانين عليك؟

خبت نبرته العالية، وأخبره بلجلجةٍ، أظهرت فداحة ما يحاول نسيانه:

-مش قصدي يابا، بس.. أصلي.. تعبان، و...

بلع ريقه، ومسح دموع الألم العالقة بأهدابه ليتابع بكذبةٍ بدت لائقة في لحظتها:

-وبعدين.. دول .. حرامية.. أه، هما حرامية طلعوا عليا...

وجد أنها حيلة مناسبة لإقناع أبويه بما تعرض له، بعيدًا عن قص تفاصيل الاعتداء الجسدي المهين الذي خاضه، فاستفاض في سرد كذبته:

-ثبتوني في حتة مقطوعة، وسرقوا اللي كان معايا، وبهدلوني آخر بهدلة، وأنا مكونتش قادرلهم.

هتف "اسماعيل" بوجهٍ تحول للغضب:

-حرامية نواحينا؟ يبقى لازمًا نبلغ المركز.

خشي من افتضاح أمره، فصحح له:

-ما أنا ملحقتش أشوف وشهم، كانوا متلتمين، واتكاتروا عليا، وخدوني غدر.

ربتت "سعاد" على كتفه بحنوٍ وهي تواسيه:

-كبدي عليك يا ابني، منهم لله البُعدة...

تقلصت تعبيراتها، وأضافت توصيه في حزمٍ:

-إنت مش لازم تسكت يا ضنايا، حاول تقعد مع نفسك وتفتكر هما مين، جايز نوصلهم.

تشدق رافضًا بنزقٍ:

-لأ مش عايز.

نظرت له باستغرابٍ، فراوغها في الكذب:

-قصدي يعني أما أفوق الأول، سبيني أروح أغسل جتتي، وأفرد ضهري.

هزت رأسها تستحثه:

-ماشي يا ضنايا، على مهل، وأنا هحضرلك لقمة تاكلها.

استوقفه "اسماعيل" متسائلاً:

-هتعمل إيه مع مراتك؟

قال بنفورٍ وهو يلوح بذراعه في عصبيةٍ جعلته يئن من الألم:

-وده وقته يابا، سيبوني في الهم اللي أنا فيه.

تابعه والده وهو يتوارى عن أنظاره مهمهمًا:

-ماشي براحتك.

بخطواتٍ متمهلةٍ وساقين شبه منفرجتين استمر "فضل" في سيره الحثيث، وصوت همسه المغلول بالكاد يُسمع:

-منه لله الظالم، عرف إزاي يكسر عيني.

.................................................. ............

أرادت والدتها شرائه خصيصًا له، معلنة عن تكفلها بكامل مصاريفه بعد بيع قطعٍ من مشغولاتها الذهبية، فلا شيء يُقارن برؤية شقيقها جالسًا معهم، ولهذا كلفت ابنتها بتلك المهمة الهامة، فلم تفكر "فيروزة" مرتين، وقضت وقتًا مطولاً -على شبكة الإنترنت- تبحث عن الأماكن التي توفر مثل تلك النوعية الحديثة من الأجهزة الطبية، إلى أن وقع الاختيار على المناسب لحالته الصحية. وبعد اتفاقٍ مسبق مع الصيدلية القريبة من المنزل، وردها اتصالاً هاتفيًا من أحد العاملين بها يخبرها فيه بتوافر الكرسي الكهربي المدولب، ذاك الذي رغبت والدتها في منحه كهدية لـ "خليل".

ارتدت "فيروزة" ثيابها، وتأكدت من هندمة ثياب "رقية" لتشاركها في ابتياعه، ولم تحبذ "همسة" -الماكثة في المنزل- تفويت الفرصة عليها، فأصرت على الذهاب معهما، ليتسابق ثلاثتهن على فعل الخيرات. وقبل أن يصلن للصيدلية، راودت "فيروزة" فكرة فجائية تحمست لها بشكلٍ غير مسبوق، لما لا تعرج في طريقها على الدكان وتلقي التحية على من فيه؟ خاصة مع قرب المكان من الصيدلية. تعاظمت رغبتها في تنفيذ ذلك مع تقدم خطواتها، وأقنعت نفسها بحجة ضعيفة، أنها تفعل هذا لإبداء عرفانها بالجميل، وليس لغرضٍ آخر، هكذا أوهمت نفسها! حمحمت قائلة بنوعٍ من الجدية، وكأنها تستشيرها:

-بأقولك إيه يا "همسة"، إيه رأيك لو عديت على الحاج "بدير" أسلم عليه؟

حملقت فيها بغرابةٍ، فتابعت موضحة لها:

-يعني كتر خيره قايم معانا بالواجب وزيادة، ومراته كمان جت زارتنا من كام يوم، ده غير ما بعتولنا زيارات، وحاجات كتير بصراحة، ها إنتي رأيك إيه؟

رحبت باقتراحها قائلة:

-وماله يا "فيرو"، روحي إنتي، وأنا هاسبقك على الصيدلية مع "كوكي".

ضاقت عيناها وهي تسألها باندهاشٍ:

-هو إنتي مش هاتيجي معايا؟

ضحكت قبل أن تجيبها:

-يا بنتي أنا في وشهم ليل نهار، هما زمانهم زهقوا مني، روحي إنتي وحصلينا.

ضغطت على شفتيها لثوانٍ قبل أن تنطق أخيرًا باقتضابٍ؛ وكأنها لم تكن راضية عن الأمر:

-تمام.

ودعتها بابتسامتها اللطيفة:

-متتأخريش علينا، سلام

انتظرت "فيروزة" في مكانها لبضعة لحظاتٍ حتى غادرت توأمتها المكان مع ابنة خالها، ثم استدارت بعدها متجهة نحو الزقاق الضيق الذي يختصر المسافة إلى الدكان، لو لم يكن الطريق مُبعدًا لصدقت أنها تتعثر في خطواتها، فهناك ربكة غامضة تعتريها كلما دنت أكثر من محيطه، تجبر ساقيها على الالتفاف، حتى خفقاتها لم تعد ثابتة، ازدادت سرعتها بشكلٍ استثار استغرابها؛ ومع هذا لم تكن ممانعة لما يحدث معها. تنفست بعمقٍ قبيل وصولها إليه، لتستعيد انضباط انفعالاتها، ورددت مع نفسها:

-أنا جاية أشكر الراجل، مافيهاش حاجة يعني.

استمرت في إقناع نفسها بهذا، وتقدمت أكثر للأمام، نظرة سريعة خاطفة ألقتها على من هو مرابط بالدكان، لم تتبين وجهًا مألوفًا بين المتواجدين، سوى الحاج "بدير"، فالأخير كان جالسًا كعادته أمام مدخله، تنحنحت مجلية أحبال صوتها، واقتربت أكثر منه لتلقي التحية عليه، وهي تزيح خصلة نافرة سقطت على جبينها إلى خلف أذنها:

-سلامو عليكم يا حاج.

صوتها الناعم الذي يعرفه جيدًا، اخترق الجدران الخرسانية ليصل إليه، وهو يقف بين عماله يحصر ما استلمه للتو من بضائع طازجة، ليستعبد كامل حواسه عن طواعيةٍ ورغبة، مستشعرًا بقوة وخزات الحب وهي تعصف بكيانه. قفز قلبه في صدره فرحًا، كمن يمارس حركات البهلوان باحترافية، التفت يأمر أحدهم، دون أن يركز في هويته:

-كمل باقي الفرز.

خرج "تميم" مستندًا على عكازه، ليجدها تضحك ملء شدقيها، بابتسامةٍ أعطت لعشق الفؤاد سحرًا فريدًا، سحرًا كان وما زال تأثيره عليه مُبينًا. ابتسم عفويًا لضحكتها، وعيناه تهيمان في ملامحها، حركت رأسها ناظرة إليه بنظرةٍ عميقة، احتوت على شيءٍ خاص به، نظرةٌ هائمة، بها أصدق التعبيرات، كانت له وحده، لم يكن ليحلم أبدًا بها، يا لروعة النظرات! ما الذي يريده أكثر من هذا؟ أفاق من سرحانه المتيم في تأملها على صوتها المتسائل:

-إزيك يا معلم؟

حشرجة خفيفة اعتلت نبرته أجلاها سريعًا وهو يرد:

-الحمدلله...

تنحنح يسألها وهو يفرك مؤخرة عنقه:

-إنتي عاملة إيه دلوقتي؟

قالت بنفس الابتسامة المشرقة:

-أحسن الحمدلله ...

ثم وزعت نظراتها بينه وبين أبيه، وهي تواصل القول:

-أنا تعبتكم معايا الفترة اللي فاتت، وقلقتكم.

قبل أن ينطق والده هتف من تلقاء نفسه يعاتبها:

-متقوليش كده، والله أزعل، ده إنتي غالية عندي.

اندهش "بدير" من جملته الأخيرة، ولم تقل دهشة "فيروزة" عنه، فحاول تصحيح زلة لسانه:

-عند .. العيلة كلها.

تابع التغطية على إحراجه بإضافة:

-إنتي هتفضلي واقفة كده يا أبلة، اتفضلي اقعدي، مايصحش مانقومش معاكي بالواجب.

وتراجع خطوتين ليسحب لها مقعدًا خشبيًا وضعه أمامها ليدعوها للجلوس، اعتذرت منه بلباقة:

-وقت تاني، أنا ورايا مشاوير بخلصها.

أصر عليها بعينين لمعت في حزنٍ طفيف لرحيلها المبكر:

-والله ما يحصل ..

أسبل عينيه نحوها، وتسللت من بين شفتيه تنهيدة بطيئة وهو يكمل جملته:

-يعني خليكي معانا شوية، بلاش تحرمينا من طلتك الحلوة.

توردت بشرتها من كلماته المصحوبة بنظراته الساهمة، وتجنبت التحديق في وجهه، لتنظر إلى أبيه قائلة بربكةٍ شبه ملحوظة:

-مش .. عايزة أزعجكم.. إنتو وراكم شغل كتير.

بتعجلٍ أخبرها "تميم" دون تفكيرٍ:

-الشغل يستنى.

نطق "بدير" أخيرًا ببسمةٍ ذات مغزى، وهو يدور بنظراته على الاثنين:

-أه طبعًا، يتعطل عشان الغاليين.

تسربت دفعة من الحُمرة الساخنة إلى بشرتها حرجًا من كلامه المبطن، وقالت ببسمة خجلة:

-شكرًا يا حاج، تتعوض مرة تانية، اعذرني المرادي.

أصر عليها "بدير" إرضاءً لتلهف ابنه الغريب:

-والله أنا اللي هزعل، دول دقيقتين، مش حكاية يعني، مسافة ما الحاجة الساقعة تيجي.

لم ترغب "فيروزة" في رفض طلبه، وباستحياءٍ جلست على المقعد، متحاشية النظر في اتجاه "تميم" الذي اختفى للحظات بداخل الدكان، ليعود إليها وفي يده ثمرة تفاحٍ كبيرة طازجة، لونها مغري للأنظار، وملمسها ناعم على اليد. وضع مقعده مجاورًا لها، ثم قرب يده منه، ليقدمها إليها قائلاً بما يشبه الغزل:

-اتفضلي يا أبلة .. التفاح للتفاح.

رفعت عينيها ببطءٍ لتنظر من على قربٍ إلى ملامحه المشرقة، وهي تشعر أن لون بشرتها قد غدا مثل التفاحة الممسوكة بيده، ابتسامة اعتبرها مغرية تدلت على جانب شفتيها وهي ترد:

-شكرًا، مش جعانة.

وكأنه تناسى ما حوله من مارة، وزحام، وأعين متلصصة، وأنوف فضولية، فطغى الهوى على العقل، وسقط القلب أسيرًا للغرام. عمق "تميم" من نظراته الساهمة، غارقًا في سحر الفيروزتين، أراد إخبارها أنه اقتص لأجلها، ممن أذاها بالقول والفعل، أذله، وجعله يقاسي ما لم يخطر على بال؛ لكنه لم يفعل، أسره في نفسه حتى إشعارٍ آخر، حينما يتجدد اللقاء، وتكشف القلوب عن الأسرار. ابتسم لها، وسألها بعتابٍ رقيق:

-كده هتكسفيني؟

ردت نافية، وجفناها لا يتوقفان عن التحرك:

-لأ، بس أنا...

قاطعهما "بدير" بلهجةٍ جادة، جعلت "تميم" يتدارك نفسه، ويخفض أنظاره في حرجٍ كبير:

-خديها يا بنتي خلينا نخلص.

قالت بنفس الوجه الخجول:

-حاضر يا حاج.

وجه "بدير" حديثه لابنه، يأمره بصرامةٍ، لا تخلو من تحذير موحي:

-وإنت يا "تميم" قوم شوف مصالحك، الناس مابتسبش حد في حالها، وإنت عارفهم أكتر مني.

فهم ما يرمي إليه بنظرة واحدة منه، وقال ساحبًا مقعده معه بضيقٍ:

-ماشي يابا.

ورغم تعابيره الجادة إلا أن صوته كان هادئًا معها وهو يودعها:

-أشوفك على خير يا أبلة.

ردت بإيجاز، وهي تتحاشى النظر إليه:

-إن شاء الله.

انصرف عنهما عائدًا إلى الدكان، مبرطمًا ببعض اللعنات المزعوجة؛ لكن والده كان محقًا في إبعاده عن محيطها في تلك اللحظة، حتى لا يلصق بها ريبًا، فتضر في سمعتها دون مقصدٍ منه، راقبها من زاوية بعيدة، وقلبه يخفق مع ابتساماتها النضرة، تلك التي تتراقص على أوتاره الحساسة. تجددت مناجاته الصامتة، مستحضرًا بقوة في ذهنه، حلمًا يرجو فيه التمتع بنعيم قربها:

-اجعلها من نصيبي يا رب ........................................... !!

.................................................. ...............






منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس
قديم 23-01-21, 01:32 AM   #800

موضى و راكان

نجم روايتي

alkap ~
 
الصورة الرمزية موضى و راكان

? العضوٌ??? » 314098
?  التسِجيلٌ » Mar 2014
? مشَارَ?اتْي » 6,242
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » موضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   cola
¬» قناتك max
?? ??? ~
سبحان الله وبحمده .. سبحان الله العظيم
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 40 ( الأعضاء 10 والزوار 30)


‏موضى و راكان, ‏أم نسيم, ‏k_meri, ‏شوق البلد, ‏Nada&, ‏Kemojad, ‏منال سالم, ‏Soy yo, ‏التوحيد, ‏Dina abd elhalim


فضل أتفسح فسحة العيد هههههههه


موضى و راكان غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:19 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.