آخر 10 مشاركات
أنثى من ضوء القمر **مميزة ** (( كاملة )) (الكاتـب : هالة القمر - )           »          أنات في قلوب مقيدة (1) .. سلسلة قلوب مقيدة *مميزة ومكتملة * (الكاتـب : Asmaa Ahmad - )           »          الآتية من بعيد - مارغريت روم - ع.ج** (الكاتـب : ^RAYAHEEN^ - )           »          خلف الظلال - للكاتبة المبدعة*emanaa * نوفيلا زائرة *مكتملة&الروابط* (الكاتـب : Just Faith - )           »          رواية أنت لي للدكتورة منى المرشود النسخة الأصلية الكاملة (الكاتـب : مختلف - )           »          253- لعبة الحب - بيني جوردن - دار الكتاب العربي- (كتابة/كاملة)** (الكاتـب : Just Faith - )           »          71 ـ طال إنتظاري ـ ع.ق ( كتبتها أمل بيضون)** (الكاتـب : Fairey Angel - )           »          عندما تنحني الجبال " متميزة " مكتملة ... (الكاتـب : blue me - )           »          حبي المستحيل(85) -قلوب نوفيلا-بقلم الرائعة {الأسيرة بأفكارها} *مكتملة&الــروابط* .. (الكاتـب : الأسيرة بأفكارها - )           »          رجفة قلوب اسود الصحرا ..رواية بدوية رائعة *مميزة ومكتملة* (الكاتـب : وديمه العطا - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

Like Tree508Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 06-03-21, 01:24 AM   #861

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي


مساء الورد حدث خطأ أثناء تحميل الفصول، كنت قد نشرت الفصل مائة وواحد، لكن للأسف يبدو أنه حدث خطأ ما من السيرفر لدي، ولم يتم تحميله، لذا سأعيد نشر الفصلين مائة وواحد، ومائة واثنان، بالإضافة للفصل الخاص باليوم ..

دانه عبد likes this.

منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس
قديم 06-03-21, 01:25 AM   #862

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
Rewitysmile9

الفصل المائة وواحد

بعينين ترمشان في توترٍ ملحوظ، حملقت في سقف الغرفة، ويداها معقودتان معًا فوق بطنها المنتفخ قليلاً، أثناء استلقائها على الفراش إلى جوار زوجها. سحبت "همسة" شهيقًا عميقًا، لفظته من رئتيها على مهلٍ، واستطردت تبوح لزوجها بما يستبد بها من مخاوفٍ تزداد ترسخًا فيها بمضي اللحظات:

-مكدبش عليك يا "هيثم"، أنا بقيت أخاف من مامتك...

بترت باقي كلامها، لتدير رأسها في اتجاهه، وجدته محدقًا مثلها بالسقف، وهذا التعبير الغامض يكسو وجهه، لعقت شفتيها، وتابعت استرسالها في ترددٍ:

-حاسة إنها ناوية على حاجة وحشة، وده مش مريحني.

رفعت جسدها قليلاً لتنظر إليه، ثم سألته في ترقبٍ:

-إنت مش حاسس بكده برضوه؟

أجابها وهو يسحب ظهره للخلف ليستند على عارضة الفراش ورائه:

-والله ما عارف أقولك إيه، هي أمي ...

لامست الألم في صوته عندما أكمل:

-وماينفعش أرميها في مصحة ولا الشارع، مش بعد العمر ده كله أبهدلها.

ردت في كلماتٍ مهونة عليه تخبطه:

-وأنا مقصدش ده أبدًا، بس فعلاً حالتها مش بتتحسن، وإنت أكيد ملاحظ ده.

وسَّد ذراعه خلف رأسه، وقال بزفيرٍ بطيء:

-بكرة أكلم الدكتور، وأخدلها ميعاد معاه، جايز يفيدنا بحاجة.

ابتسمت في امتنانٍ لقراره الجيد، وقالت:

-كده أفضل.

التفت برأسه ناحيتها لينظر إليها بعمقٍ قبل أن يخبرها:

-ولو إنتي مقلقة منها ابقي انزلي عند خالتي "ونيسة"، خليكي أعدة معاها، وأنا هفهمها الوضع، مهما كان هي بردك أختها، وأكيد هتساعدني ناخد بالنا منها الفترة دي.

أومأت برأسها موافقة:

-ماشي.

عاودت الاستلقاء مرة أخرى على ظهرها، وهي تطبق على جفنيها، مستدعية النوم إليها؛ لكن شتت حالة الاسترخاء المذبذبة سؤال "هيثم" الغريب:

-إيه الريحة دي؟

استنشقت الهواء المعبق بتلك الرائحة المزعجة، وقالت بوجهٍ متقلص:

-في ريحة شياط.

سألها مستفهمًا بحاجبٍ مرفوع للأعلى:

-هو إنتي ناسية حاجة على النار؟

ردت نافية على الفور، بتعابيرٍ تبدلت للاسترابة:

-لأ، أنا نضفت البوتجاز، وفصلت محبس الغاز.

أزاح الغطاء عن جسده، وتساءل في حيرةٍ قلقة:

-أومال دي جاية منين؟

منحته جوابًا عائمًا وهي تعتدل في رقدتها:

-يمكن من برا ولا حاجة، أنا متأكدة إن مافيش حاجة عندنا.

تقدم "هيثم" نحو باب غرفة نومهما، فاقتحم أنفه المزيد من الرائحة الخانقة، تلقائيًا وضع ذراعه حول أنفه ليقلل من نفاذها إليه وهو يهتف في توجسٍ:

-ده الريحة بتزيد.

مثلما فعل، هبطت "همسة" عن الفراش، ودنت منه وأنفها يشم بقوةٍ تسرب الرائحة إلى داخل الغرفة، سعلت قليلاً، لتعقب بعدها بقلبٍ يدق في ارتعابٍ:

-معاك حق، الموضوع كده يخوف.

أشار لها لتبقى وهو يخبرها:

-استني كده أنا هاطلع برا أشوف في إيه.

أصرت على الذهاب معه بقولها:

-أنا جاية معاك.

غادر الاثنان الغرفة، ليجدا سحبًا من الدخان الكثيف تنبعث في الصالة، وتغطي الفراغ، بل وتنتشر بسرعة البرق في أرجاء المنزل، أسرع "هيثم" أولاً في خطاه باحثًا عن مصدرها، وكان اتجاهه الأول هو المطبخ، تجمد عند أعتابه ناظرًا بعينين على كامل اتساعهما من الصدمة المرعوبة، عندما رأى ألسنة اللهب تتصاعد من أعلى الموقد، من المقلاة تحديدًا، لتصل إلى السقف. هلل في فزعٍ، مع شحوب مخيف لوجهه، وقد رأى والدته تجلس على المقعد أمامها تحملق فيها في هدوءٍ عجيب؛ وكأنها تستمتع بمنظرها:

-يا ساتر يا رب، حاسبي يامه.

صرخت "همسة" مستغيثة:

-يا لهوي، الحقونا يا ناس، البيت بيولع!

حاول زوجها تهدئتها، ودفعها بعيدًا عن مرمى النيران، وهو يصيح بصوتٍ اختلط بالسعال:

-اهدي، خليني أعرف اتصرف.

من بين سعالها المؤذي لحلقها أمرته بلهجتها المذعورة:

-افصل محبس الغاز بسرعة.

امتثل لنصيحتها الهامة، وأسرع بغلق المحبس الموصول بالموقد، ليقطع إمداده بالغاز الذي يزيد من تغذية النيران المتوهجة، بالكاد استطاع الاقتراب من والدته الجالسة في ثباتٍ عجيب أمام الألسنة؛ وكأن ما يحدث نصب عينيها لا يهز شعرة من رأسها. جذبها بقوةٍ من على المقعد وهو يأمرها بصوته المختنق:

-تعالي يامه برا.

قاومته رافضة الذهاب معه، وهي تشير بيدها نحو فمها؛ وكأنها تخبره برغبتها في تناول الطعام، لم يفهم مقصدها، ولم يضع الوقت في هراءٍ لا يفيد، دفعها بخشونةٍ طفيفة نحو باب المطبخ مرددًا:

-متخافيش يامه، خدي بالك بس.

نظرت "همسة" إلى وجه والدته الملطخ برمادٍ محترق، وحدقت في شعرها المشعث بنظراتٍ تعبر عن خوفٍ صريح، انتشلها من تحديقها فيها صوت "هيثم" الهادر:

-هاتي بطانية بسرعة يا "همسة".

هزت رأسها هاتفة وهي تسعل:

-طيب.

أبعد "هيثم" أمه عن الخطر، وأجلسها بالصالة وهو يردد في تضرعٍ:

-نجينا يا رب.

عادت إليه زوجته تحمل الغطاء الثقيل، فهرول ركضًا نحو المطبخ ليطرحه على المقلاة المشتعلة عن بكرة أبيها، ليخمد بها النيران، سحب الغطاء من جديد، وكرر الفعلة لبضعة مراتٍ، قبل أن يستعين بالماء ليضمن انطفاء كامل ألسنتها، في حين ظلت "همسة" مرابطة في مكانها، تتطلع إلى "بثينة" بنظراتها الوجلة، والأخيرة تضحك بشكلٍ هيستري قبل أن تتوقف عن الكركرة، لتشير بإصبعها نحوها. توقفت عن التنفس لحظيًا مع حركتها تلك، وزاد جفناها اتساعًا في رهبةٍ، خاصة عندما وضعته على عنقها لتشير إلى نحره، لم تتحمل كم الخوف الذي تبثه حماتها لها، فسقطت مغشيًا عليها، وقد غاب عن وعيها الإدراك.

.................................................. ....

في تلك الأثناء، انتبه "تميم" للجلبة الصادرة من الأعلى، في البداية لم يعر الأمر الاهتمام، وظل جالسًا على فراشه؛ لكن مع الصرخات المستغيثة انتفض هابطًا عنه، ليخرج من غرفته بخطواتٍ سريعة، شبه عرجاء، متجهًا نحو البهو المتسع، حيث يجلس أفراد عائلته، متسائلاً بنبرة حائرة:

-سامعين الدوشة دي؟

ردت عليه "ونيسة" بجبينٍ مقتضب:

-أيوه يا ابني.

وأيدتها في كلامها "هاجر" بقولها، وهي تداعب رضيعها:

-وقبلها في حد صوت.

أمره جده بلهجته الحازمة:

-اطلع بص كده يا "تميم"، وشوف في إيه.

رد وهو يومئ برأسه إيجابًا:

-ماشي.

هتفت والدته من خلفه، قبل أن تتبعه حتى باب المنزل:

-ربنا يستر.

نظرة سريعة ألقاها "تميم" للأعلى، وهو يصعد درجات السلم متوجهًا للطابق العلوي، قرع الجرس، ودق على باب منزل "هيثم"، وأنفه يستنشق الرائحة الغريبة المنبعثة من الداخل، مسح أرنبته بظهر كفه، وانتظر بترقبٍ فتحه له، ظهر "هيثم" أمامه، فشمله بنظرة متفحصة لهيئته الفوضوية، ليسأله بعدها في ريبة:

-خير في إيه يا جماعة؟

أجابه وهو يفسح له المجال للمرور:

-ربنا لطف، حريقة قامت في المطبخ، بس لحقتها قبل ما تكبر.

ردد مذهولاً:

-يا ساتر يا رب، من إيه كده؟

جاوبه وهو يهز كتفيه في حيرة:

-مش عارف يا "تميم"...

ثم استخدم يده في الإشارة وهو يوضح له تفاصيل ما حدث:

-أنا فجأة شميت ريحة شياط، وببص لاقيت أمي قاعدة جوا المطبخ والنار هابة من البوتجاز.

فكر "تميم" مليًا فيما سرده، بعد أن ولج إلى المطبخ معه، ليمعن النظر بتدقيقٍ شديد في بقايا أثر الحريق، ودون مقدماتٍ تمهيدية، سأله مباشرة؛ وكأنه يشك في أمرٍ بعينه:

-تفتكر تكون أمك عملت كده؟

ضغط "هيثم" على شفتيه قائلاً بعد زفيرٍ طويل أظهر تردده:

-مش عارف، بس الموضوع بقى مقلق ..

لم ينبس ابن خالته بكلمة، متفهمًا طبيعة الموقف، وتبع بنظراته "هيثم" وهو يدنو من الحوض، ليحضر كوبًا ملأه بالمياه، ظلت أنظاره عليه عندما خاطبه:

-ده غير إن "همسة" تعبت من الريحة، وأغمى عليها، وبالعافية فوقتها.

اقترح عليه "تميم" بإصرارٍ:

-طب خلي جماعتك تنزل تحت عندنا مع أمك، لحد ما نتأكد إن كل حاجة بقت تمام، وهما هياخدوا بالهم منهم، وأنا هافضل معاك لغاية ما نشوف حل مناسب يريح الكل ويطمنهم.

كان "هيثم" في أمس الحاجة لفسحة من الوقت للتفكير بذهنٍ صافٍ، بعد الذي اختبره اليوم، لذا استحسن اقتراحه، ووافق عليه دون جدالٍ:

-ماشي.

.................................................. .......

جرفتها مشاعر الخوف ودفعتها للمكوث ليلاً في منزل عائلة "سلطان"، على أن تبقى في منزلها مع والدة زوجها، بعد تهديدها الصامت لها، فتشاركت الغرفة مع "هاجر"، ولازمت الفراش مقاومة الرجفة الغريبة المسيطرة عليها، حاولت الأخيرة تهوين الأمر عليها، فقالت وبين شفتيها ابتسامة مطمئنة:

-ماتقلقيش من حاجة، الدنيا هنا أمان.

قوست "همسة" شفتيها لتبتسم عندما ردت بحرجٍ:

-أكيد، أنا .. أسفة لو زاحمتك في أوضتك.

تصنعت "هاجر" العبوس، وأخبرتها بلطفٍ:

-إنتي نورتيني، وبعدين الأوضة واسعة زي ما إنتي شايفة.

شكرتها بامتنانٍ شديد:

-كتر خيرك.

تساءلت مضيفتها في نوعٍ من الفضول:

-هو حصل إيه بالظبط؟

تهربت من إعطائها الإجابة حتى تتحدث أولاً مع زوجها، وقالت:

-مـ.. مش فاكرة، أنا أغمى عليا من الخضة.

جلست "هاجر" على طرف الفراش إلى جوارها، ومسحت بحنوٍ على جانب ذراعها، وهي تتنهد قائلة:

-الحمدلله، عدت على خير.

بتوجسٍ لم تستطع ضبطته في نبرتها تساءلت "همسة"، والذعر يزحف على عينيها:

-أومال .. فين.. طنط "بثينة"؟

أجابت بتلقائية وهي تشير بيدها:

-خالتي، نايمة في أوضة أخويا، هي ماما معاها.

عضت على جانب شفتها قبل أن تسألها بتلعثمٍ يشوبه الخوف:

-طب ممكن طلب؟

ردت مرحبة:

-اتفضلي.

أخبرتها وهي تزدري ريقها:

-ممكن نقفل الباب بالمفتاح؟

تعجبت من طلبها الغريب، وسألتها مستوضحة:

-ليه؟ في حاجة؟

وقبل أن تمنحها ردها أخبرتها معتقدة أنها تفكر في تلك المسائل البديهية البسيطة:

-لو قلقانة إن في حد هيدخل علينا اطمني، الكل هنا بيراعي الخصوصية وبيحترمها.

أصرت على رغبتها دون تبريرٍ واضح:

-معلش، عشان خاطري.

استجابت لطلبها، ووافقت بإيماءة من رأسها:

-حاضر.

صاحبتها "همسة" بنظراتها الخائفة وهي تتجه نحو الباب، غمرها القليل من الارتياح بعد أن سمعت صوت حركة المفتاح في قفله لتوصده، وهمهمت بصوتٍ هامس للغاية:

-يا رب نجيني من شرها.

.................................................. ........

بدا الخيار الأسلم، بعد الكارثة التي وقعت في المنزل، إبقاء والدته بعيدًا عن محيطها، وتحديدًا في منزل شقيقتها، تحت مراقبة ورعاية العديد من الأشخاص، ريثما يتخذ التدابير اللازمة، لنقلها لمكانٍ متخصص يتم فيه رعايتها نفسيًا وعقليًا، حتى لا تكرر فعلتها بجنونٍ أكبر لا يمكن السيطرة عليه. لم تخبر "همسة" والدتها بتفاصيل الحادث المشؤوم في حينها، بل انتظرت مرور يومين لتطلعها على الأمر، فجاءتها الأخيرة على الفور بصحبة توأمتها، لتعاتبها بلومٍ شديد:

-يعني لو مكونتش كلمتك بالصدفة، مكونتش عرفت باللي حصلك؟

هتفت بنبرة هادئة:

-عدت على خير يا ماما.

نظرت "فيروزة" لتوأمتها بنظراتٍ متفرسة، ثم خاطبتها بجديةٍ؛ وكأن في مضمون حديثها لها تحذيرًا متشددًا:

-الموضوع بقى خطير يا "همسة"، ماينفعش يتسكت عنه، الست دي لازم تروح مصحة نفسية تتعالج.

تطلعت إليها، وحركت شفتيها ناطقة:

-وده اللي "هيثم" ناوي يعمله.

سألتها والدتها بصبرٍ نافذ:

-وده امتى إن شاءالله؟

التفتت ناحيتها قبل أن تجيب:

-مش عارفة

أصرت عليها بخوفٍ أمومي بائن في صوتها:

-وإنتي مستنية إيه؟ لما تتهف في مخها أكتر، وتعمل فيكي حاجة؟

بتعابيرٍ مستاءة علقت عليها:

-وأنا في إيدي إيه أعمله يا ماما؟ الدواء بديهولها في ميعاده، وواخدة بالي منها على أد ما أقدر، ودلوقتي هي بعدت عني، وأعدة مع أختها.

هتف في تنمرٍ غير راضٍ:

-ده مش كفاية.

أضافت "فيروزة" بما يشبه النصيحة:

-طب كلمي جوزك، وفهميه بالعقل كده، عشان يتحرك بسرعة.

بينما استمرت "آمنة" في إظهار هواجسها لها بترديدها:

-وبعدين لو مش خايف عليكي، فاحنا خايفين عليكي وعلى اللي في بطنك.

على مضضٍ عقبت ابنتها:

-ربنا يسهل.

تنهدت "فيروزة" طالبة من والدتها:

-خلاص يا ماما متقلقيهاش أكتر من كده.

على ما يبدو لم تكن "آمنة" راضية كليًا عن التفريط في حياة ابنتها وسلامتها، فاقترحت على ابنتها:

-تعالي روحي معانا.

رفضت رغبتها بلباقةٍ:

-عشان "هيثم" مايضايقش.

صاحت في اعتراضٍ مغلف بالسخط:

-هو إنتي هتقعدي في الشارع، ما هو ده بيتك.

بابتسامة لطيفة حاولت تبديد مخاوف والدتها، وأخبرتها:

-والله أنا دلوقتي كويسة.

يئست من إقناعها بالقبول رغم إلحاحها الشديد عليها بكافة الطرق، فنطقت أخيرًا في إحباطٍ:

-طب خدي بالك من نفسك، ماتخليش عقلي يودي ويجيب من القلق عليكي.

هزت رأسها في طاعةٍ وهي ترد:

-حاضر يا ماما.

أرادت "همسة" تغيير الموضوع بآخرٍ، فخاطبت توأمتها متسائلة في اهتمامٍ:

-أخبار محلك الجديد إيه يا "فيرو"؟

بحماسٍ انعكس في صوتها استطردت "فيروزة" تشرح لها:

-قربنا خلاص أهوو، بأشوف البضاعة اللي محتاجاه، وجمعت حاجات كتير، وقت ما استلمه بعد التشطيب هابدأ أرصها.

بنفس اللهفة قالت؛ وكأنها تشاركها حماسها:

-أنا هساعدك فيه ماليش دعوة، وهتلاقيني بنط فوق دماغك كل شوية، وليا لي نسبتي.

ضحكت وهي تعقب عليها:

-تعالي يا "هموس"، هو أنا هحوشك؟

تابعت "آمنة" حوار الشقيقتين، ومخططاتهما لتطوير العمل قبل أن يبدأ فعليًا بنظراتٍ لامعة، مليئة بالسعادة والحبور، ثم تنهدت داعية للمولى في سريرتها برجاءٍ كبير:

-ربنا يخليكم لبعض يا حبايبي.

.................................................. ..

وقف كلاهما على بَسْطة السلم يتبادلان الحديث الجاد، بعيدًا عن الثرثرة الجانبية للنساء، والتي قد تفسد تفكيرهما المنطقي، بسبب تأثير مشاعر العطف والشفقة. أشعل "هيثم" سيجارة أخرى، نفث دخانها بمجرد أن احترق طرفها، بينما اكتفى "تميم" بالواحدة التي تناولها قبل قليل، ليتطلع إلى ابن خالته بنظراته الثاقبة، كان الأخير صامتًا، مستغرقًا في التفكير، تبدو الحيرة ظاهرة على محياه. زفر "تميم" عاليًا، وارتكن إلى جانب الحائط، ليستطرد قائلاً بملامحه الجادة:

-أنا رأيي ماتسكتش عن حالتها، لازمًا حد متخصص.

قال بنوعٍ من التبرم:

-وأنا مقصرتش معاها!

حاول إيضاح أبعاد خطورة إرجاء التصرف المنطقي والسليم، بسبب تحكم عواطفه بقراره، فتكلم بعقلانية:

-طب ما إنت شايف عملت إيه وإنت موجود، ما بالك لو عينيك غابت عنها؟

لفظ الدخان من رئتيه، وتذوق التبغ في لعابه وهو يبلعه قبل أن يهمهم:

-ربنا يستر.

كرر عليه من جديد عله يدرك ما قد يغيب عن ذهنه:

-الصح إنها تفضل هناك شوية، وأنا اطأست وعرفت إن المكان ده كويس، فبلاش تأخر مرواحها.

قبل أن يأتيه تعليقه، التقطت أنظاره الأطياف المنعكسة على الجدران، لتنبهه لقدوم أحدهم، فاعتدل مستقيمًا في وقفته. كجرس إنذارٍ انطلق دويه فجأة، قفز قلبه بين ضلوعه عندما أطلت عليه بوجهها الناعم، وهي تتهادى في خطواتها هابطة الدرجات متأبطة ذراع والدتها. جالت عيناه على ذلك الوشاح الأسود المتطاير حول وجهها، مداعبًا صدغيها بدلالٍ، كما لو كان النسيج يغازل بشرتها النضرة. سرعان ما تدارك نفسه، وأخفض رأسه مقاومًا خيبة الأمل التي اجتاحت وجدانه، لإبعاد عينيه عن تأملها. استمع إلى صوت "هيثم" وهو يتساءل:

-ما بدري يا جماعة؟

اقتحم أنفه الرائحة الزكية المنبعثة من العطر الغارق فيه ثيابها، ومع إرهافه السمع لصوت تنهيداتها، تحفزت حواسه وتيقظت على الأخير، فبدا وكأنه في حالة استنفارٍ، قاتل مستنزفًا طاقة صبره ليوأد ما نبض في خلايا جسده، وبعث الحياة فيها. حاول التركيز مع صوت والدتها التي ردت:

-عشان تاخدوا راحتكم، والحمدلله إنها جت على أد كده.

علق "هيثم" في رضا:

-قدر ولطف.

أوصته "آمنة" بلهجة الأم المتشددة:

-خد بالك من "همسة"، دي أمانتي عندك.

قال بصوتٍ مغاير للهادئ الذي كان عليه قبل لحظة:

-اطمني يا حماتي...

ألقى بالسيجارة، ودعس طرفها المحترق بقدمه قبل أن يكمل جملته:

-تعالوا أوصلكم.

رفضت إرهاقه قائلة بتهذيبٍ:

-لا يا ابني، ماتتعبش نفسك، المسافة مش بعيدة.

تسارعت النبضات، وكادت تنطق علنًا باستسلام فؤاده صريع حبها المتغلغل في أعماقه، أمام الصوت المتسائل في لطافةٍ اختزلت في الجميع النساء إلا سواها:

-هو الحاج "بدير" موجود؟

جاهد لتبدو نظراته عادية، غير فاضحة لأمره، وهو ينظر إلى قطعتي الفيروز عندما أجابها متسائلاً:

-أيوه، عايزاه في حاجة؟

استغربت والدتها من طلب ابنتها الغريب، وسألتها هي الأخرى:

-خير يا بنتي؟

التفتت برأسها في اتجاه والدتها، وأجابت بصوتٍ كان إلى حدٍ ما خافتًا:

-الفلوس بتاعة العمال يا ماما معايا، بما إننا موجودين بالمرة أديهاله.

التقطت أذناه كلامها، ووجد نفسه في موقفٍ حرج، فوالده الوحيد المنوط بإدارة تلك المسألة المادية، لذا أخبرها بهدوءٍ:

-طب أنا هاشوفه نايم ولا صاحي.

اعترضت "آمنة" على إزعاجه قائلة بحرجٍ، ونظراتها اللائمة تتجه إلى ابنتها:

-لأ خلاص، مالوش لازمة تقلقه، خليها وقت تاني.

ضاقت عينا "فيروزة" في احتجاجٍ، وألحت عليها:

-بس يا ماما، دي فرصة وآ...

قاطعتها بحسمٍ، ونظرة صارمة تكسو عينيها:

-عيب يا بنتي، مايصحش نزعج الناس في بيوتها.

تدخل "تميم" في حوارهما قائلاً بترحيبٍ شديد وهو يشير نحو باب المنزل:

-ولا إزعاج ولا حاجة، اتفضلوا.

تمسكت برفضها لتلبية رغبة ابنتها، وبادرت بالتحرك نحو الدرج وهي تقول:

-وقت تاني إن شاءالله، عن إذنكم...

سحبت ابنتها من ذراعها خلفها قائلة لها:

-بينا يا "فيروزة".

لكز "تميم" ابن خالته في جانب كتفه، ليستحثه على الحركة، وصوته يأمره بلهجةٍ لا تقبل بالتهاون في تنفيذ ما قاله:

-انزل معاهم لتحت يا "هيثم"، وركبهم تاكسي وحاسبه.

حمحم قائلاً بإذعانٍ:

-طيب.

بمجرد أن هبط خلفهما "هيثم"، تحرك "تميم" ناحية حافة الدرابزون ليحني رأسه للأسفل، عله يلتقط لمحة أخيرة منها، قبل أن تغيب شمسه عن سماه. تحرر الهواء المشحون بالآمال والأحلام من صدره، مصحوبًا بدعاءٍ لا يتوقف اللسان عن ترديده ليل نهار:

-ربنا يقرب البعيد ................................... !!

.................................................. .....




منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس
قديم 06-03-21, 01:28 AM   #863

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
Rewitysmile9

الفصل المائة واثنان

بكفين مرفوعين للأعلى، ولسانٍ يلهج بالشكر، اختتم "تميم" صلاة الجماعة مع جده، حيث قام بتأدية فرضه الرئيسي كعادته في غرفة الأخير كلما سنحت له الفرصة بذلك، خاصة بعد عودته من العمل. كانت الحجرة ملجأه المؤقت ريثما يتم نقل خالته من غرفته للمشفى النفسي. نهض من مكانه ساحبًا مصليته من أسفله، ليطويها بعد ذلك، ويضعها في مكانها المعتاد على التسريحة. التفت ناظرًا إلى جده الذي بادر قائلاً بنبرة خاشعة:

-تقبل الله.

رد مبتسمًا:

-منا ومنكم إن شاءالله ...

شعر بوخزة طفيفة في ركبته، فانحنى قليلاً ليدعكها بيده، وهو يتابع كلامه معه:

-متأخذنيش يا جدي، بقالي كام يوم مزاحمك في الأوضة...

ثم تنهد ببطءٍ، وأضاف:

-ربنا يسهل على "هيثم" ويودي أمه المصحة.

جاءه تعليق جده مؤيدًا انتقالها للمشفى النفسي، وقد ضاقت نظراته:

-أيوه، خلي الكل يرتاح.

تحدث "تميم" معقبًا على تأجيل ابن خالته تنفيذه للأمر:

-غصب عنه يا جدي، مهما كان دي أمه، مش هيرميها.

لمحة من الضيق ضهرت على وجهه وهو يكمل كذلك:

-ده غير جو الصعبنيات اللي كل شوية تعمله، وده مأخر الحكاية.

رد عليه جده بتعابيره الهادئة:

-ومين قالك إني مضايق من قعدتك معايا؟

ببساطةٍ أخبره مستخدمًا يده في الإشارة:

-برضوه عشان تاخد راحتك.

عاتبه "سلطان" بنوعٍ من المزاح اللطيف:

-دي فرشتك يا واد من زمان، ولا نسيت كنت بتعمل إيه وإنت صغير؟

وكأنه شرد في ماضٍ كان الأفضل على الإطلاق، فأخذ يشاركه في الاسترسال متحدثًا عنه:

-فاكر يا جدي، كنت باستنى أما أمي تنام، وأطلع من أوضتي أتسحب عشان أنام مكانك قبل ما ترجع من الدكان.

اتسعت بسمته وهو يواصل سرد المميز في طفولته:

-وكيس الحلويات، كنت أقوم من النوم ألاقيه محطوط جمبي على المخدة.

علق جده في حبورٍ، مبديًا سعادته باستعادة تلك الأحداث الطيبة:

-يــاه، ذكريات فات عليها زمن.

اقترب "تميم" من جده، وأحنى رأسه على قمة رأسه ليقبله في وقارٍ، ثم تراجع عنه مرددًا في تضرعٍ:

-ربنا يديك طول العمر يا جدي، وتعمل كده مع ولادي.

أومأ برأسه قائلاً في استحسانٍ وهو يمسح على جانب ذراعه:

-يا رب..

جلس "تميم" على جانب الفراش، وتطلع إلى جده الذي سأله بتلميحٍ مبطن:

-كله تمام معاك يا "تميم"؟ الدكتور طمنك؟

تقوست شفتاه عن بسمة راضية، بعد أن فهم ما يرمي إليه وهو يرد:

-الحمدلله، أحسن عن الأول.

هز رأسه مغمغمًا في ارتياح:

-يستاهل الحمد...

ثم لاحقه بسؤاله الآخر؛ ولكن بشكلٍ مباشر

-مش ناوي بقى تاخد خطوة؟

زوى ما بين حاجبيه متسائلاً في غموض:

-في إيه؟

نظر في عينيه، وأجابه محذرًا:

-إنت فاهمني يا واد، ولا لازم أتكلم بالمفتشر؟

حمحم في خفوتٍ قبل أن يخبره بتنهيدة مغلفة بالآمال:

-والله نفسي، النهاردة قبل بكرة، بس مش عايز أستعجل في الحكاية دي بالذات، بدل ما تبوظ، خلي كل حاجة تيجي على مهلها.

كان تعقيبه عليه مريحًا له:

-كله شيء بأوان إلى أن يأذن الله.

ابتسم وهو يرد:

-ونعمة بالله.

أضاف جده خاتمًا حوارهما اليومي:

-ربك عليه جبر الخواطر، ماتبطلش بس دعا، وسعي.

نهض من جلسته، وأومأ برأسه هاتفًا:

-يا مسهل الحال، حاضر يا جدي.

.................................................. ........

وضع إلى جواره على الأريكة المزدوجة، كيسًا بلاستيكيًا أسود اللون، ثم مد يده إلى كوب العصير المسنود على الطاولة القصيرة أمامه، وقربه من شفتيه، ليرتشفه مرطبًا حلقه الجاف بشيء حلو المذاق، بعد يومٍ شاق ومرهق في العمل. ظل "هيثم" صامتًا في البداية يستمع بغير تركيزٍ إلى الحوارات الجانبية بين خالته والجد "سلطان"، قبل أن تتجمد نظراته على خالته حينما سألته في عتابٍ:

-مجتش تتغدى معانا ليه يا "هيثم"؟ مش أنا موصياك من إمبارح؟

اعتذر منها بلباقةٍ، وعيناه تتطلعان إلى والدته الساكنة:

-معلش يا خالتي، كان ورايا شوية مصالح بأقضيها، وبعدها طلعت على "همسة" أشوف ناقصها إيه، ورجعت.

ربتت "ونيسة" على ظهره تشجعه وهي تقول:

-ربنا يقويك.

بابتسامة باهتة تساءل، دون أن تحيد نظراته عن والدته:

-أمي عملت إيه معاكو النهاردة؟

أجابت "ونيسة" وهي توزع نظراتها بينهما:

-هي كويسة يا ابني، اطمن.

قال في حرجٍ:

-تعبك معايا يا خالتي.

ردت مؤكدة ترحيبها بتقديم كل المساعدة المطلوبة دون كللٍ أو ملل:

-دي أختي يا حبيبي.

انضمت إليهم "هاجر" بعد قليل، تنهدت شاكية في تعبٍ:

-أخيرًا نام، أنا مش مصدقة نفسي.

نظرت إليها والدتها تسألها:

-الحمدلله، غطتيه كويس؟

أومأت برأسها قائلة:

-أيوه يامه.

تحركت عيناها في اتجاه "هيثم" عندما مد يده بالكيس البلاستيكي ليناولها إياه:

-اتفضلي يا "هاجر".

سألته في استغرابٍ وهي تأخذ الكيس منه:

-إيه دول؟

أخبرها بوجهٍ جاد التعبيرات:

-نصيبك من بيع الدكان لـ "سراج".

أسندت الكيس أمامها، وتساءلت في حيرة:

-وأنا هعمل إيه بكل الفلوس دي؟

في غمرة حوارهما لم يلحظ أحدهم عيني "بثينة" المعلقة بالكيس المليء بالنقود، غامت نظراتها، وتحولت للقساوة بشكلٍ مريب، لتبدو منفصلة عمن حولها، فيما عدا ذلك الوهج الطامع الملازم لنظراتها دومًا مهما تبدلت بها الظروف. خاطبت "ونيسة" ابنتها، وكأنها تنصحها:

-أهوم متعانين للزمن، محدش ضامن هيحصل إيه.

ردت "هاجر" في رضا:

-الحمدلله، خير ربنا موجود.

أضاف "هيثم" بعد زفيرٍ شبه مسموع:

-ربنا يزيدك، ونصيب أمي، أنا استلمته خلاص، هعين جزء منه في البنك، وجزء هصرفه عليها وأجيبلها أحسن الدكاترة عشان تتعالج.

اتجهت نظرات "بثينة" نحو ابنها، ارتكزت عليه بقوةٍ، وملامحها تنم عن وعيها الكامل لكل ما يدور من حولها، فبدت وكأنها غير راضية عن تصرفه في شئونها، في حين عبست "ونيسة" بتعبيراتها بعد سماعها لجملته تلك، وعاتبته بنبرة الأم الحنون:

-واحنا قصرنا معاها يا "هيثم"؟

رد عليها بإصرارٍ:

-معلش دي فلوسها، وحاجاتها، وأنا مسئول عنها دلوقتي.

من نظراته المتفرسة بها خلال مراقبته الحذرة لها، استشف "سلطان" أن الجالسة معهم، رغم سكوتها الإجباري، تدعي الجنون، فإدراكها لما يحدث في محيطها، والتحولات السريعة في تعبيرات وجهها أكدت له شكوكه، وحتى لا يبدو مختلقًا للأمر، قرر كشف أمرها بحيلة بسيطة. ضرب بعكازه على الأرضية، وصاح موجهًا كلامه لـ "هيثم":

-بأقولك إيه يا واد..

حرك "هيثم" رأسه في اتجاهه قائلاً في طاعة:

-أيوه يا جدي.

بنفس الصوت القوي الهادئ قال، وكامل نظراته الخبيرة على "بثينة":

-عايزك تاخدني شقة أبوك.

سأله في استرابة:

-ليه؟ في حاجة؟

بابتسامةٍ ماكرة تتدلى على جانب شفتيه أخبره بما يشبه الغموض:

-هاقولك هناك، أصله زي ما تقول سر، ماينفعش يتعرف.

لم يكن "هيثم" فضوليًا ليلح عليه لمعرفة السبب الذي يدعوه للذهاب إلى هناك، فرأسه كان مشحونًا بالكثير من المشاغل، لهذا كان رده عاديًا عليه:

-ماشي يا جدي، شوف الوقت اللي يناسبك، وأنا جاهز.

منح والدته نظرة ذات مغزى، قابلتها بنظراتٍ تعكس عدائية شرسة، وكأن ما بينهما ما صنع الحداد، قبل أن يجبر نفسه على النهوض وهو يخبر الجميع:

-بأمر الله، أنا هاقوم أريح شوية.

هتفت "ونيسة" على الفور:

-خد راحتك يا حاج، ولو عوزت حاجة ناديني.

-تسلمي.

قالها باقتضابٍ وهو يولي الجميع ظهره، متوقعًا أن تكون أنظار "بثينة" عليه، كان حدسه ينبؤه أنها لن تمرر الأمر على خير، ورغم هذا تمنى أن تخيب ظنونه لمرة واحدة!

.................................................

بقلبٍ خاشع، وصوتٍ يرتل في عذوبة، استمر الجد "سلطان" في قراءة ورده اليومي من المصحف الشريف، تاركًا باب غرفته مواربًا، غير متوقعٍ أن تُقبل "بثينة" على إيذائه نهارًا جهارًا، فالأخيرة ولجت إلى المطبخ، واختطفت من أدواته الموضوعة بداخل الدواليب يد الهون النحاسية، لتستخدمها في تهشيم رأسه بها. قضت "بثينة" ساعات الليل الطويلة، تنتظر على أحر من الجمر، مجيء اللحظة المناسبة، للإقدام على تنفيذ خطتها الإجرامية البسيطة، خاصة وأن الجميع مؤمن بكونها فاقدة للعقل والأهلية، راقتها تلك الفكرة كثيرًا، أن توجه انتقامها لكل من تسبب في مقتل ابنتها، بشكلٍ غير مشكوكٍ فيه، ناكرة تورطها بصورة رئيسية في إفساد شخصها، وفي إزهاق روحها جراء طمعها الذي لا حدود له.

سارت بخطواتٍ متسللة متجهة إلى غرفة الجد، وكلها إصرار تلك المرة على الخلاص منه، دفعت الباب بيدها بخفةٍ، وعيناها تتطلعان إلى ظهره الموالي لها، ابتسامة شيطانية زحفت على شفتيها، فقط بضعة خطواتٍ تفصلها عنه، ستتخلص منه، ولن يتمكن من مقاومتها، فالأفضلية هنا لها! تابعت تقدمها نحوه، ويدها ترتفع تدريجيًا للأعلى، وقبل أن تصل إليه، كان "تميم" في طريقه إليه ليلقي عليه التحية قبيل مغادرته للعمل، هلل في ارتعابٍ وهو يثب في خطواته ليقبض على رسغها قبل أن تمس رأسه:

-حاسب يا جدي.

انتفض "سلطان" ناهضًا من مكانه هاتفًا في دهشة:

-يا ساتر يا رب.

استدار لينظر إلى الاثنين بعينين حائرتين، فحفيده نجح في تقييد رسغي خالته، والأخيرة تتأوه صارخة في غضب غير مفهومٍ، للحظة شُل تفكيره وهو يحاول تفسير ما يحدث، سرعان ما تجمدت أنظاره على يد الهون، وتفقه ذهنه لما حدث، لهذا سألها مستنكرًا:

-إيه اللي بتعمليه ده؟

قاتلت "بثينة" حتى الرمق الأخير، ويدها تلوح بالهون في كل الاتجاهات قاصدة إيذاء "تميم"؛ لكنه نجح في السيطرة عليها، وانتزاعه من قبضتها، ليصيح بها بكل ما اعترى صدره من غضبٍ جم:

-عايزة تقتلي الحاج؟

رد عليه "سلطان" بنظرة قاسية تلومها:

-واضح إن الجنان اشتغل.

جاءت كلاً من "ونيسة" و"هاجر" إلى الغرفة على إثر الصياح الجهوري المريب، وتفاجأت كلتاهما بما يحدث، لطمت الأولى على صدرها مرددة في صدمةٍ:

-ليه كده ياختي؟

صوت زئيرها المحموم، وعدائيتها المرئية تجاه من حولها، أكد للجميع أنها لم تكن نادمة على فعلتها، ولو اتيحت لها الفرصة لكررتها مرة أخرى. هدر "تميم" آمرًا والدته:

-كلمي "هيثم" ينزل بسرعة.

بصوتٍ تحول للاختناق، وعينين حزينتين ظلت والدته تردد:

-لا حول ولا قوة إلا بالله، طب ليه يا "بثينة"؟

نجحت "بثينة" في الإفلات من قبضة "تميم"، وهرعت نحو شقيقتها تريد خنقها من عنقها؛ لكنه أمسك بها، وأبعدها عنها وهو يهتف في حنقٍ متعاظم:

-حاسبي يامه.

حلت الصدمة المستنكرة عليها، ونطقت في قهرٍ:

-حتى أنا؟ للدرجادي بتكرهيني؟

أبعدتها "هاجر" عن مرمى بصرها، وحاوطتها من كتفيها قائلة لها بنوعٍ من التعاطف الذي يتخلله الذهول:

-تعالي معايا يامه.

هتف الجد مشددًا:

-معدتش ينفع تفضل كده.

وافقه حفيده الرأي، وأكد عليه:

-أيوه، لازمًا تتنقل المصحة، هناك هتتعالج صح.

ظل صوت "ونيسة" يكرر في خذلانٍ أثناء خروجها من الغرفة:

-لله الأمر من قبل ومن بعد.

.................................................

تعاونا معًا، لإخراجها من المنزل، وتقييد حركتها بعد إجلاسها بالسيارة، من أجل اقتيادها نحو المشفى الذي وقع عليه الاختيار لإبقائها فيه، فقاومتهما بكل ما أوتيت من قوة، وانهالت يداها بالصفع تارة على وجه ابنها، وبالخدش والضرب على ظهر "تميم" تارة أخرى، خلال قيادته للسيارة، لم يعبأ بما تفعله، واستمر في طريقه إلى أن وصل إلى البوابة الرئيسية.

ترجل "تميم" أولاً، ودار حول السيارة ليفتح الباب الجانبي الخلفي الملاصق لابن خالته، خرج الثاني قبل والدته، وحاول سحبها من مكانها قائلاً لها:

-اللي بأعمله ده لمصلحتك يامه.

لكنها قاومته بشراسة، فانتزعت حذائها من قدمها، وضربته به بغلظةٍ على رأسه، فتأوه بألمٍ شديد، ومع هذا تغاضى عن وجعه لينجح بعد جهدٍ جهيد في إخراجها، ليبدأ بعدها "تميم" في الإمساك بها من ذراعها، وجرها معه جرًا نحو الداخل، اعتذر منها "هيثم" مجددًا في حزنٍ:

-سامحيني، بس والله ما برميكي، أنا باعمل ده عشانك.

تضاعفت مقاومتها للاثنين، وزمجرت بصراخٍ هائج، على أمل أن تفلت منهما، ورغم ذلك كان "تميم" لها بالمرصاد، لم يفلتها، وشدد على ابنها بلهجته الصارمة:

-امسك كويس يا "هيثم".

وكأنه يُحادث الفراغ، فالأخير ما زال يتكلم مع والدته؛ كأنما يبرر لها تصرفه:

-أنا على طول هاجي أزورك، بس إنت خدي دواكي عشان خاطري، وهتخرجي قريب.

صاح "تميم" مناديًا على الأمن الخارجي لاستدعاء بعض الممرضين:

-عاوزين مساعدة هنا يا إخوانا.

دقائق، وكانت "بثينة" محتجزة بالداخل، في إحدى الغرف الفردية، بعد حقن وريدها بمهدئ، ليسكن جسدها الثائر، وتخضع للمراقبة الطبية المتخصصة. ارتعشت يد "هيثم" وهو يكمل تسجيل بياناتها في الأوراق الموضوعة أمامه، رفع عينيه الدامعتين لوجه ابن خالته، وأخبره في حزنٍ:

-قلبي متقطع عشانها.

رد عليه بثباتٍ:

-ده لمصلحة الكل، بدل ما تأذي نفسها وتأذي غيرها.

تنفس بعمقٍ ليكبح رغبته في البكاء حسرة عليها، ودمدم في دعاءٍ:

-ربنا يشفي عنها.

بإيجازٍ واضح آمن عليه "تميم" وهو يضغط على كتفه، كنوعٍ من الدعم له:

-يا رب.

..................................................

وسط صخب العمال المحاوط بها في الدكان، حاولت "فيروزة" التركيز، وترتيب أفكارها في رأسها المشحون، لتنتهي اليوم من المهمة المحددة التي جاءت لأجلها، حتى تضع النقاط فوق الحروف، بعد الإرجاء والمماطلة الزائدة التي ضاعفت من شعورها بالاسترابة والقلق. لم تمد "فيروزة" يدها نحو طبق الفاكهة الموضوع قبالتها، ولم تمس شفتاها علبة المشروب المنعشة أيضًا، اكتسبت ملامحها طابعًا جديًا ورسميًا للغاية، عندما خاطبت الحاج "بدير":

-كده ماينفعش يا حاج.

بصوته الهادئ الرزين سألها:

-وإيه اللي خلاه ماينفعش؟

أجابته في تبرمٍ يشوبه الاحتجاج:

-أنا مدفعتش ولا مليم، وحضرتك متكفل بكل حاجة، وبصراحة ده مضايقني، أنا مش حابة أستغل حد.

ضم "بدير" كفيه معًا فوق رأس عكازه، وتكلم معها بأسلوبه الهادئ، علها تقتنع بحججه:

-بصي يا بنتي، من غير ما نرغي كتير، هاقولك الخلاصة عشان ترتاحي.

أبدت ترحيبها بسماعه، فقالت وهي تلقي بطرف غطاء رأسها المتدلي على كتفها:

-اتفضل.

نظر إليها مليًا، قبل أن يخبرها على مهلٍ:

-اللي بأعمله معاكي، بأعمله مع أي حد بيفتح دكان جديد من التجار حبايبنا، بنسانده لحد ما يقف على رجليه، ويشم نفسه كده، ويبيع ويشتري، والزبون يروح ويجي على دكانه، ويبقى معروف في السوق، وبعدها بقى نقعد ونتحاسب.

ما زالت ملامحها تعكس عدم رضائها الكامل عن تصرفه السخي معها، وإن لم تنطق بهذا حاليًا، حاولت إثنائه عن رأيه بطريقة أخرى، فاستطردت بصوتٍ عبر عن تحفزها:

-اللي حضرتك بتقوله ده تمام، ومقدراه جدًا ...

بلعت ريقها وأخبرته صراحةً:

-بس مافيش ورقة ولا إيصال يثبت حقك، أو حتى يضمنه.

بوجهٍ شبه مبتسم علق واثقًا:

-الكلمة في عرفنا اتفاق، مش محتاج لعقود.

دون ترددٍ ألحت عليه بعنادٍ:

-طب يبقى على الأقل أمضيلك على إيصال أمانة.

أصبحت ملامحه إلى حدٍ ما جادة وهو يرفض اقتراحها بلهجةٍ لم تكن لينة نسبيًا:

-وأنا مقبلش بكده، معمريش عملتها مع الغريب، هعملها معاكي إنتي؟ وبعد العمر ده كمان؟!!

شعرت بالحرج من نفسها بعد موقفه النبيل، وحاولت تبرير تصرفها:

-بس يا حاج أنا آ...

قاطعها بحزمٍ، ونظراته تتجه نحو أحد العمال المقبل عليه:

-اهتمي باللي ناقص في محلك وبس، وماتشغليش بالك بالحاجات البسيطة دي.

نطق الأخير وهو يشير بيده نحو الخارج:

-يا حاج، المعلم "عوف" واقف برا عايزك.

نهض "بدير" من مكانه قائلاً:

-أنا جايله.

بدورها نهضت "فيروزة" هي الأخرى من مقعدها، وقالت بتهذيبٍ رقيق،

-هستأذن أنا، وأرجع لحضرتك بعدين.

أشـار لها بيده لتمكث وهو يرد:

-طب استني هبعت معاكي واد من هنا بحاجات لخالك.

تنحنحت معترضة في لباقةٍ:

-يا حاج خيرك مغرقنا.

قال وبين شفتيه ابتسامة ودودة:

-ده لخالك، مش ليكي، عشان عارفك حنبلية.

قالت بوجهٍ تورد قليلاً من الحرج لتطرقه إلى سمة متأصلة فيها:

-أنا مش بحب أبقى تقيلة على حد.

علق مادحًا حُسن أخلاقها الكيسة:

-يا ريت كل الناس زيك.

ردت مجاملة:

-الله يكرم حضرتك يا رب.

التفت "بدير" آمرًا العامل بصوته الصارم:

-تعالى يا واد جهز من كل صنف خمسة كيلو، وحطهم في أقفاص، المفعص لأ، عايز فرز أول، وأوام مع الأبلة لبيتها.

هز العامل رأسه قائلاً في امتثالٍ:

-تؤمر يا حاج.

نظرت "فيروزة" إلى ما يضعه العامل من أصناف مختلفة من الفاكهة في أقفاص بلاستيكية متنوعة، بعينين متسعتين، وشعورها بالحرج متمكن منها، حاولت اعتراض طريق العامل، والإشارة له بالتوقف عن ملء الأقفاص:

-كتير يا حاج، كفاية كده.

بوجه تبدل للابتسام طلب منها:

-ميغلاش على الغالي، خليكي مرتاحة لحد ما يخلص.

لم تجد ما تنطق به أمام سخائه وكرمه، فتراجعت خطوتين للخلف وهي ترمقه بنظراتها الممتنة.

...........................................

على الجانب الآخر، صف "تميم" سيارته بمحاذاة الرصيف المقابل للدكان، ليفسح المجال للشاحنة الكبيرة عندما يدور بها السائق، ويخرج من الزقاق الضيق نحو الشارع الرئيسي، ترجل بعدها واتجه إلى العمال المنهمكين في عملهم يشجعهم:

-الله ينور.

مسح بنظراته البوابة الأخرى للدكان، فوجد والده يتحدث مع "عوف"، اتجه إليهما مرحبًا بالأخير بحرارة:

-صباحك فل يا حاج "عوف".

بادله التحية بعشمٍ غير زائف:

-صباح العسل يا "تميم"، عامل إيه يا ابني؟ عاش من شافك، جيت كذا مرة وملاقتكش.

قال وهو يرفع يده للأعلى، ليمسح على رأسه:

-مصالح بخلصها.

ربت "عوف" على كتفه قائلاً:

-الله يقويك.

أمره "بدير" بهدوءٍ مستخدمًا يده في الإشارة:

-هاتلي الدفتر من جوا يا "تميم"، عشان نقيد فيه البضاعة اللي طالعة.

هز رأسه هاتفًا في طاعة:

-عينيا يا حاج.

امتدح "عوف" ما يقوم به رفيق الكفاح:

-شغلك طول عمره على مياه بيضا، لا بتغش في كِيلة ولا ميزان.

بثقةٍ تامة، ورضا لا حدود له رد عليه "بدير":

-احنا عايشين ببركة الحلال.

استدار "تميم" نحو المدخل الآخر للدكان، لكون الأول مزدحمًا بعشرات الأقفاص الخشبية المُعدة للتحميل، ومع هذا وجد العمال مشغولين في قذف الأقفاص، واحدًا تلو الآخر بحرفية ومهارة لنقلها من مكانها، وضمها للبقية الممتلئة بالمطلوب من بضائع طازجة، حذرهم وهو يتراجع برأسه للخلف، ليتفادى قفصًا بالكاد كان على وشك لمسه لانخفاض مستواه عن البقية:

-حاسب يا ابني الأقفاص.

رد العامل بثقة:

-متقلقش يا معلم.

رد ممازحًا بنوعٍ من التحذير:

-لما يلبس في وشي ساعتها إنت اللي هتقلق.

ابتسامة عريضة حلت على وجهه والعامل يرد في توجسٍ، محاولاً بتملقه اتقاء غضبه إن اندلع:

-رقبتي فداك يا معلم.

بقيت تلك الابتسامة الضاحكة على وجه "تميم"، وزادت اتساعًا وقد وقعت عيناه على "فيروزة"، لام قلبه الذي لم يتنبأ ككل مرةٍ بوجودها؛ ورغم ذلك لم ينتقص من فرحته شيء، بدا وكأنه طفل صغير تلقى مكافأة غير متوقعة، حتمًا يومه سيصبح أكثر تشويقًا! كانت الأخيرة مشغولة بالنظر إلى هاتفها المحمول، لذا لم تره في البداية، فتنحنح مناديًا؛ وكأنه يخاطب أحد العمال:

-رص الحاجة كويس يا ابني.

حينها رفعت عينيها لتنظر إليه، فتضاعفت السعادة بداخله، أي شيء آخر يريده غير هذا؟ نظرة واحدة منها كفيلة بقلب كيانه! تقدم نحوها مرحبًا بها بلسانٍ تحول للتعلثم؛ وكأنه يتعلم النطق من جديد:

-صباح .. الخير.

بادلته ابتسامة صغيرة رقيقة وهي ترد:

-صباح النور.

الرقة مع الجمال الفطري معادلة يصعب عليه تحملها، لعق شفتاه، وأخبرها مجددًا ترحيبه:

-منورة الـ.. الدكان.

قالت في اقتضابٍ:

-شكرًا.

سألها وهو يحك مؤخرة عنقه، محاولاً ألا يطيل النظر إليها، احترامًا لوعده لأبيه:

-في حاجة ... نقصاكي ولا حاجة يا.. أبلة؟

أجابت نافية:

-لأ، كله تمام.

سألها في اهتمامٍ، كمحاولة جادة منه، لاستطالة الحوار معها:

-أخبار دكانك إيه؟

ردت في استرسالٍ:

-المحل؟ تمام، وكله بصراحة بفضل الحاج "بدير" بعد ربنا.

بعفويةٍ قال لها، علها تفهم تلميحه الضمني:

-أبويا عمره ما يتأخر عن حد احتاجه في حاجة، ما أنا طالعله.

هزت رأسها قائلة بهمهمة خافتة:

-أها.

واصل كلامه معها بحماسٍ غريب اجتاحه كليًا:

-وإن شاءالله يكون فاتحة خير عليكي.

تنحنحت قائلة ببسمة كانت شبه مصطنعة:

-يا رب، عن إذنك.

تنحى للجانب لتمر، وهو يقول بتعابيرٍ شابها القليل من الحزن تأثرًا بذهابها:

-اتفضلي.

وقبل أن تخطو نحو الخارج هتف آمرًا العمال، حتى لا تتعرض دون قصدٍ للإيذاء:

-إنت يـــــا ابـــني، خد بالك، استنى لما .. الأبلة تعدي.

رد عليه العامل بصوته المرتفع:

-تمام يا ريسنا.

بصعوبةٍ أبعد نظراته الساهمة عنها، وتحرك في اتجاه الثلاجة، ليبدو غير مهتم بمتابعتها، فلا يظن أحدهم بها السوء، إن لاحظ مدى اهتمامه بها، وادعى انشغاله بالنظر لما يوجد بداخل الثلاجة للحظاتٍ، ليضمن مغادرتها لمحيطه، ثم اتجه إلى المكتب ليحضر الدفتر لأبيه، ويده الأخرى تختطف ثمرة تفاح لامعة، كانت موضوعة على المكتب، قربها من شفتيها، وقطم قطعة منها، ليحادث نفسه وهو يتلذذ بمذاقها الطيب:

-أحلى صباح على التفاح.

..................................................

-بتعملي إيه يا "فيروزة"؟

تساءلت "آمنة" بتلك العبارة، وعيناها الحائرتان تراقبان ما تفعله ابنتها أمام المرآة، بهذا الكم المتنوع من أغطية الرأس. التفت تتطلع إليها، واستلت الدبوس المعدني من بين شفتيها، لتعقد به طرفي الغطاء عند عنقها، ثم أجابتها وهي تعاود التحديق في انعكاسها على السطح الزجاجي، لتضبط مقدمة حجابها:

-بأحاول أظبط شكل الطرحة عليا.

سألتها والدتها في تلهفٍ فرح:

-خلاص نويتي يا حبيبتي؟

أجابت مؤكدة:

-أه يا ماما، الفترة اللي فاتت كنت بأعود نفسي عليه، صحيح اتأخرت في الخطوة دي كتير، بس خلاص هعملها.

دعت لها في سعادة كبيرة:

-ربنا يزيدك من فضله.

-يا رب.

دنت "آمنة" من فراشها، وجلست على طرفه، ثم ركزت بصرها عليها، قبل أن تسألها في جدية:

-مش ناوية تقلعي الأسود؟ عدتك قربت تخلص خلاص.

بعد لحظات من الصمت المتردد تكلمت وهي تتنهد مطولاً، رافضة السماح لعقلها بالانخراط في ذكرياتها الحبيسة في أعماقها:

-أنا كده مرتاحة.

اعترضت على ما قالته بملامح مزعوجة:

-يا بنتي إنتي لسه صغيرة، هتحبسي نفسك جوا اللون الأسود؟

أعطتها مبررًا منطقيًا، قد يبدو مقنعًا لها:

-معلش، ده أحسن، وعشان محدش من الناس يتكلم عليا، ويقولك دي مصدقت.

راحت ترد في ضيقٍ:

-مالناش دعوة بيهم، هما هيتحكموا في حياتك؟ صحيح كله قضاء ربنا، بس ده ماينفعش لو جت فرصة آ...

قاطعتها "فيروزة" بجديةٍ شديدة:

-ميعاد دوا خالي جه يا ماما.

تلقائيًا ارتفعت عيناها نحو ساعة الحائط، وقالت وهي تنهض من مكانها:

-أه صحيح، هاروح أديهوله ...

وقبل أن تخرج من الغرفة، أشارت لها بسبابتها قائلة:

-بس هنتكلم تاني.

تصنعت الابتسام وهي ترد:

-إن شاءالله.

استمرت في التحديق بالمرآة متأملة الحزن المتسرب إلى وجهها، ولفظت الهواء محدثة نفسها في ألمٍ، لم يختبر قساوته سواها:

-محدش عارف اللي فيها، خليني مدارية فيه.

.................................................. ...

ابتلع القرص كاملاً، رغم نصيحة زميله بأخذ نصفه فقط؛ لكنه تجاهله، وانساق خلف رغبته في تنشيط جسده الساكن. خرج "فضل" من المطبخ متجهًا إلى حيث تجلس والدته، وجدها تستند بوجهها على كفها المضموم وهي تجلس على المصطبة، يبدو الهم جليًا على ملامحها الغائمة؛ وكأن تعاسة الدنيا بأكملها قد تجمعت أمام عينيها، لتزيد من إحساسها بالبؤس. زفيرٌ طويل أعقبه آخر، وهي ما زالت تدمدم بكلماتِ الندب البائسة. رفعت "سعاد" أنظارها تجاه الباب، حينما أقبل عليها ابنها، تطلع إليها الأخير بنظراتٍ متعجبة، قبل أن يستطرد متسائلاً:

-مال بوزك شبرين كده ليه يامه؟

أجابته بغموضٍ:

-مادرتش باللي حاصل؟

سألها ساخرًا، قبل أن ينفجر ضاحكًا، مستهينًا بحرمة الموت

-في إيه؟ العمدة مات؟

نظرت له شزرًا قبل أن تجيبه بتبرمٍ:

-لأ يا فلحوس، "سها"، أم عيالك، هتتجوز.

مسحت دمعة نافرة من عينيها، وأكملت:

-سمعت طراطيش كلام من أهل البلد، وقت ما تخلص عدتها، هيتعقد عليها من حد قريبهم.

فاجأها برده الوقح غير المكترث:

-يالا في داهية، أهوو غيري يلبس في النحس...

سرعان ما تبدلت نبرته المتهكمة للتهديد وهو يكمل:

-بس لو عاملة كده عشان تحدف العيال عليا، لأ تنسى، هي أخرها معايا مصروفهم، ما أنا بردك عايز أدلع نفسي وأتجوز.

حملقت فيه "سعاد" بنظراتٍ مستهجنة، وسألته في استنكارٍ شديد:

-هترمي عيالك يا "فضل"؟

كان رده الفظ صادمًا لها:

-هما أعدين في الشارع؟ ما هما عند أهلها اللي عايشين زي ضربة الدم.

عنفته لأسلوبه المستفز:

-يا ساتر عليك.

وقبل أن تتمادى في تكديره بالأخبار السخيفة، رفع سبابته أمام وجهها ينذرها:

-بأقولك إيه؟ أنا مروق دماغي، مش ناقص عكننة تطير المزاج بتاعي.

نهضت من مكانها، وألقت عليه نظرة آسفة لسوء تربيتها له، وهتفت في امتعاضٍ:

-ربنا يهديك لنفسك.

لوح بيده أمام رأسه معلقًا في سخطٍ:

-متشكرين يامه.

انتظر ذهابها ليفرك صدره مخاطبًا نفسه في نشوةٍ متحمسة:

-المفروض كده المسائل تشعشع.

أخرج هاتفه المحمول من جيبه، وانزوى في ركنٍ هادئ، ليشاهد المقاطع الإباحية الجديدة التي ملأ بها ذاكرة هاتفه، وتحفز لتجديد إحساسه بتجاوبٍ يسري في عروقه؛ لكن خاب مسعاه، فاشتاط غضبًا، كز على أسنانه مدمدمًا في نقمٍ:

-لأ، كده كتير، شكلها جابت ضرفها معايا ولا إيه؟

استبد الغضب الممزوج بالغيظ في صدره، وطفحت آثاره على وجهه، فالأقراص المنشطة التي ابتاعها تعد قوية المفعول، وسريعة التأثير، كلفته الكثير من الجنيهات، احتدم حنقه الحاقد بداخله، ليردد بعدها ملقيًا اللوم على واحدةٍ بعينها، اعتبرها المتسببة في إصابة مصدر رجولته بالعطب:

-كله منك يا بنت الكلب، لو كنت قصيت لسانك ساعتها مكانش الحيوان ده عَلم عليا.

أغلق الهاتف، وقبض عليه بأصابعه في تشنجٍ، حتى ابيضت مفاصله، ثم واصل وعيده لها، وقد غامت نظراته بشكلٍ سوداوي مخيف:

-بالله ما هسيبك، هاجيبك تحت رجلي بالعافية، حتى لو وصلت للخطف ....

فحيح ملوث بأنفاسه الكريهة خرج من فمه وهو يختتم ما قطعه على نفسه من عهدٍ واجب النفاذ:

-وساعتها هاخد حقي منك ........................... !!!

.................................................. ...........



tia azar likes this.

منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس
قديم 06-03-21, 01:30 AM   #864

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
Rewitysmile9 الفصل المائة وثلاثة



الفصل المائة وثلاثة



حز في قلبه بشدة، أن يراها تتألم، وهو يقف كالعاجز، لا يقوى على تقديم أدنى مساعدة لها، ينعم بحريته، وهي حبيسة أربعة جدران. رفض الطبيب المتابع لحالتها العقلية السماح لـ "هيثم" بزيارة والدته، رغم تردده على المشفى لأكثر من مرة؛ لكون الأخيرة بحاجة للبقاء معزولة عن الآخرين لفترة من الزمن، حتى لا تعرض غيرها للضرر بسبب تصرفاتها غير المتوقعة. عاد إلى منزله مجرجرًا أذيال الخيبة ورائه، بالكاد يمسح دمعاته الهاربة من طرفيه، استقبلته زوجته بكل حنوٍ وود، حاولت تهوين الأمر عليه، واحتواء أحزانه المتمكنة منه بعاطفتها الجياشة.

مال "هيثم" برأسه على كتفها، وانتحب يشكو لها ما يضمر في صدره:

-صعبانة عليا أوي يا "همسة".

مدت يدها لتمسح برفقٍ على ذقنه النابتة بحركة متكررة، بينما استمر في استرساله المليء بالأسى:

-كل ما أروحلها يمنعوني من الزيارة، بيقولوا حالتها ماتسمحش تستقبل حد.

حاوطته بذراعها من كتفه، وقالت كنوعٍ من المواساة:

-إنت عملت اللي عليك وزيادة.

بدا في حالة بائسة للغاية عندما أخبرها:

-أنا مش عايزها تفتكر إني رميتها.

ردت مصححة له بصوتها الهادئ:

-مين قال كده؟ إنت فكرت في اللي فيه مصلحتها، اللي يفيدها مش يضرها، وأكيد لو كانت أذت حد تاني مكونتش هتسامح نفسك.

أبعد رأسه عن كتفها، وتطلع إليه بعينيه التعيستين متسائلاً:

-تفتكري هي مسمحاني على ده؟

ردت بابتسامة ناعمة علها تطمئن قلبه الملتاع ألمًا عليها:

-أي أم بتسامح ولادها مهما عملوا.

حاولت الحفاظ على عذوبة بسمتها وهي تضيف:

-وبعدين بكرة تبقى أب، ونشوف هتعمل إيه مع ولادك.

بادلها ابتسامة باهتة وهو يقول لها:

-"همسة"، أنا مش عارف أقولك إيه..

رمشت بعينيها في اهتمامٍ، وقد رأت الصدق بازغًا في نظراته نحوها. تنهد مكملاً على مهلٍ، كأنما يجدد اعترافه النادم لها:

-إنتي أكتر حد وقف جمبي في كل أزماتي، أنا مكونتش البني آدم العِدل، بالعكس ياما عملت مصايب وكوارث، كنت ماشي بدماغي، باستسهل عمايل الغلط، وحتى خطوبتي منك مكانتش وقتها برضايا.

قابلت كلامه بعباراتٍ ذات مغزى، عنت له الكثير:

-ساعات الخير بيبقى موجود جوا الشر، بس مستنينا نفتش عنه، وإنت كان جواك الخير ده، والحمد لله لاقيته.

أقبل عليها يحتضنها، وهو يعلق في حبورٍ شديد:

-إنتي الخير كله يا حبيبتي.

كفكف العالق من دموعه، وتابع داعيًا المولى:

-ربنا يخليكي ليا، ويقدرني أعملك كل حاجة بحلال ربنا.

ضمته إليها مستشعرة ثقله على صدرها، وقالت مؤمنة على دعوته:

-حبيبي، ربنا ما يحرمني منك.

................................................

-نثبت على كده يا أوستاذة؟

تساءل المقاول الواقف على يسارها بتلك العبارة المهتمة، وهو يوجه تعليماته بيده للعاملين الواقفين على سلمين خشبيين متقابلين، ليتمكنا من وضع اللافتة الجديدة في المنتصف بالضبط، أعلى مدخل الدكان بعد توضيبه. أمعنت "فيروزة" النظر فيها، قارئة بهمسٍ بالكاد تحرر من بين شفتيها:

-محل الفيروزة لتغليف الهدايا وتجهيز لوازم السبوع والمناسبات.

اعتلى ثغرها بسمة فرحة، وأخبرته بإيماءة موافقة من رأسها:

-أه تمام كده...

ثم التفتت ناظرة إليه، وتابعت تبريرها:

-أصلها في الأول كانت معوجة شوية.

علق بنبرة عادية:

-اللي تؤمري بيه، خدامك.

شكرته على سعة صدره، وصبره الطويل معها، فقالت:

-الله يكرمك يا رب.

وجه من جديد تعليماته للعاملين:

-ثبتوا اليافطة على كده.

رد أحدهما بامتثالٍ، وهو يرفع الشاكوش للأعلى:

-حاضر يا ريس.

في تلك الأثناء، كان الشوق يستحثه للذهاب إليها، ليتأكد مما رأه قبل يومين، فلم تكن كعادتها تطرح غطاء الرأس على رأسها، بل كان تلك المرة معقودًا، يلف وجهها كجوهرة ثمينة، جاهد بعزمٍ من حديد ليرجأ ما يطلبه القلب؛ ولكن كلما قاوم أكثر، كلما ازدادت رغبته فيها. اشتهى "تميم" رؤية وجهها، فغلبته عواطفه، وانهزم صموده أمام لوعة الاشتياق، ومع هذا كان يقدم قدمًا ويؤخر الأخرى، حبه يدفعه للتقدم نحوها، وعهده لأبيه يلزمه بإبقاء مسافة بينهما!

علق "تميم" في المنتصف بين الآمال والالتزامات، فجال بخاطره أن يدعي شرائه لقداحةٍ جديدة من الكشك المرابط عند الناصية، والذي يبعد بضعة أمتار عن مدخل دكانها، ربما بهذا يتمكن من لمحها دون أن تراه فعليًا. وقف عند بقعة أتاحت له الرؤية من منظوره. لحظه العثر لم تكن واقفة، اشرأب بعنقه محاولاً البحث عنها، ومع هذا بدت غير مرئية له، أصابه الإحباط الشديد، وتسرب اليأس إليه؛ لكن سرعان ما تبدل الضيق لفرحة اجتاحته، أطلت بحجابها الأسود المعانق لقديها، وملامحها المشرقة فتبددت كل الهموم.

سارت "فيروزة" بخيلاء وعزة، وإلى جوارها المقاول المكلف بإتمام العمل هناك، دقق النظر فيهما، فوجد الأخير يلوح لها بيده، وكأنه يشرح لها أمر ما، لوهلة شعر بالغيرة لكونه يحظى بما حُرم منه، تحامل على نفسه، وتغاضى عن الأمر متصنعًا الجدية.

بصعوبةٍ أبعد عينيه عنها، وحملق في اتجاه صاحب الكشك عندما سأله باحترامٍ:

-طلباتك يا معلم؟

أجابه بإيجازٍ:

-عايز ولاعة.

هز رأسه وهو يبحث عن الغرض المطلوب:

-حاضر.

بعد لحظةٍ، أعطاه الأخير القداحة، وناوله "تميم" ثمنها، فأصبح بلا حجةٍ للبقاء، لذا فكر في ادعاء تحدثه في الهاتف، وحتى لا يُكشف أمره، وضع الهاتف على خاصية الصمت، ورفع من نبرة صوته قائلاً:

-أيوه يا حاج .. سامعك.

تحرك مستندًا على أحد أرفف الكشك، وسلط كل نظره على "فيروزة"، مراقبًا ما يحدث، ارتفعت عيناه للأعلى عندما رأى اللافتة، وتلقائيًا تشكلت ابتسامة مبتهجة على ثغره لرؤية اسمها ينير المكان، أحس بالمزيد من السعادة تطوقه، وبذل مجهودًا يفوق الطبيعي ليبدو غير متأثر بما يراه، حمحم من جديد بصوتٍ شبه متحشرج، وقال:

-تمام، اللي تطلبه هايكون جاهز.

لم يطل البقاء في مكانه، وانسحب بعد اختطاف نظرة أخيرة سريعة نحوها، أرسل معها تنهيدات حارة، تشتاق للتمتع بضحكة نضرة، تفتت ما حاوط القلب من جمود.

.................................................. .....

بأوداجٍ منتفخة قليلاً، وبشرة تميل للحمرة؛ بسبب ارتفاع حرارة الجو إلى حد ما، ترجلت "فيروزة" من سيارة الأجرة، تضع نظارة شمسية على عينيها، وحاملة بكلتا يديها أكياسًا بلاستيكة، ممتلئة بالكثير من البطاقات المطبوعة التي استلمتها من المطبعة. ساعدها السائق على إخراج الباقي من المقعد الخلفي، وناولها إياه، شكرته باقتضابٍ بعد إعطائه أجرته:

-تسلم.

رد في رسمية:

-العفو.

اتجهت نحو مدخل بنايتها القصيرة، وهي تحاول ألا تفلت شيئًا من يديها، زوت ما بين حاجبيها، وحدقت أمامها في فضولٍ مهتم، عندما لفت أنظارها وجود بضعة أشخاصٍ غرباء، مستندين على حافلة صغيرة، يقفون على بُعد عدة أمتارٍ من المدخل، نظروا جميعهم إليها كما لو أنه يتم فحصها تحت المجهر.

لم تستمع "فيروزة" لسؤال أحدهم العابر، ونظراته الجريئة تتجول على تفاصيلها؛ وكأنها تجردها من ثيابها:

-هي دي يا رجالة ولا لأ؟

همس له زميله الواقف على ميمنته:

-لأ، هو قال مش محجبة، وأنزوحة في نفسها.

بينما أضاف آخر كنوعٍ من التخمين:

-شكلها واحدة جايبة بضاعة تصرفها.

حذرهما ثالث بلكزة خفيفة على صدر الأقرب إليه:

-خلاص ماتبصوش أوي عليها، ألا تاخد بالها.

أبعدوا نظراتهم المتطفلة عنها، ليعودوا إلى همهمتهم الصاخبة مع بعضهم البعض، استنكرت تسكعهم هنا، وتابعت سيرها للداخل وهي تبرطم في ضيقٍ:

-ده اللي ناقص، شوية صيع يقفوا هنا.

................................................

التقطت أنفاسها اللاهثة بصعوبةٍ، بعد مجهودٍ مضاعف منها، لصعود الدرجات التي بدت لا تنتهي، لتصل إلى عتبة باب منزلها، تركت كل شيء على الأرضية، مستشعرة الأنين الصارخ في ذراعيها، فركتهما بحنوٍ، وحفزت نفسها المتعبة بكلماتٍ مشجعة:

-هانت يا "فيرو"، دي آخر حاجة، الباقي سهل.

بحثت في حقيبة ظهرها الجلدية عن مفتاح المنزل، أخرجته من جيب صغير بها، ودسته في القفل، ثم انحنت لتجمع الأكياس، وأدخلتهم للبهو وصوتها يهلل مرحبًا:

-سلامو عليكم، أنا رجعت يا ماما.

كانت مشغولة بوضع الأكياس على أقرب طاولة، لذا لم تنتبه للضيف غير المرحب به المتواجد في صالون المنزل، وعلى ما يبدو ينتظرها منذ وقت طويل. عرجت "فيروزة" أولاً على المطبخ تبحث عن والدتها فيه وهي تواصل استرسالها عن تفاصيل يومها بصورة عفوية:

-كلها كام يوم ونقفل كل حاجة، ويبقى المحل جاهز على الافتتاح.

اتجهت من تلقاء نفسها نحو الردهة الطويلة، لتقع أنظارها على والدتها الجالسة بحجرة الصالون، سألتها في دهشة:

-ساكتة ليه يا ماما؟ في حاجة حصلت.

نظراتها الممتعضة أوحت لها بوجود خطب ما، وقبل أن يتبادر لذهنها أي هاجس مأساوي، هتف "فضل" من ورائها بعد أن عاد من الحمام:

-إزيك يا بنت عمي؟

التفتت كالملسوعة لتنظر إليه في سخطٍ وكره، ثم سألته في وجوم:

-إنت بتعمل إيه هنا؟

أجابها وهو يفرد كتفيه في زهو لا يليق به أبدًا:

-جاي عشان أخدك معايا.

غامت ملامحها، وتحولت تعبيراتها للشراسة وهي تهاجمه برفضٍ عدائي:

-نعم، إنت اتجننت؟ ولا شكل مخك جراله حاجة؟ تاخد مين معاك؟

ببرودٍ سمج كرر إجابته عليها؛ وكأنه يتلذذ باستفزازها:

-زي ما سمعتي، هاخدك معايا يا بنت عمي.

حضر من ورائه على مقعده المتحرك "خليل"، أدار الكرسي المدولب في اتجاهه لينظر إليه في استنكارٍ، ثم نطق بتلعثمٍ يعبر عن عدم رضائه:

-بـ...تقــ..ول إيه.. يا .. "فضل"؟

صاحت "آمنة" في صدمةٍ وقد هب واقفة هي الأخرى على قدميها:

-إيه التخاريف دي؟

عادت "فيروزة" لتخاطب والدتها متعمدة الاستهزاء بتصريحه:

-سامعة يا ماما الهبل اللي بيقوله؟

مرر أنظاره عليهم، وقال مؤكدًا بسماجةٍ لزجة:

-ده مش هبل يا عروسة...

لم تكن نبرته بالمازحة وهو يخبرهم بحسمٍ:

-إنتي هتفضلي في بيت عمك، لحد ما تخلص عدتك وأتجوزك.

شخصت "فيروزة" بعينيها في ذهولٍ حانق، وأنكرت "آمنة" ما ألقاه في وجوههم كالقنبلة:

-إيه الكلام ده؟

بينما رد "خليل" رافضًا بصوته المتقطع:

--مش.. هــ...يحـ..صل.

أهانه "فضل" بوقاحةٍ فجة وهو يرمقه بتلك النظرة الاحتقارية:

-اركن إنت على جمبك يا خال، بدل ما أنا مش فاهملك كلمة.

استوعبت "فيروزة" ما قاله بعد لحظة من الشلل في تفكيرها، واندلع غضبها كالبركان، خاصة مع توجيهه الإهانة لخالها العاجز، فصرخت فيه:

-احترم نفسك يا حيوان، والله شكلك كده شارب حاجة على الصبح.

امتدت يده لتقبض على ذراعها، هزها بعنفٍ وهو يتوعدها:

-بتغلطي فيا؟ أنا هعرف أربيكي بطريقتي.

بغضبها المستعر فيها نفضت ذراعها مزيحة قبضته عنها وهي تعنفه:

-إياك تلمسني يا حيوان.

نظر لها باستخفافٍ، وتابع تهديده:

-اغلطي كمان، احنا نرجع البلد الأول، وبعدها هاشوف هاعمل معاكي إيه.

تراجعت خطوة للخلف تاركة مسافة بينهما، وردت عليه بتحدٍ وهي تشير بسبابتها:

-مش هايحصل، وأنا هوديك في داهية.

قال بازدراءٍ صريح:

-داهية عشان هتجوزك، وأتستر عليكي، وعلى فضايحك اللي ريحتها فاحت؟!

قابلت اتهاماته الباطلة بوابلٍ من السباب العنيف:

-إنت بني آدم سافل ومنحط...

ما لبث أن أصبح صوتها أكثر حدة وانفعالاً وهي تكمل:

-أنا أشرف من أي حد، ويكون في معلومك، لو كنت آخر راجل في الكون كله، مش هاتجوزك.

رمقها بنظرة دونية قبل أن يعلق باستحقارٍ:

-إنتي مالكيش رأي أصلاً، إنتي هتنفذي اللي بأقوله، والجزمة في بؤك، ولا عايزاني أركب قرون، عشان تتسرمحي مع كل من هب ودب؟!!!

لم تتحمل إجحافه الظالم في قذفها بالباطل من الاتهامات، فتقدمت نحوه بكل ما يستعر فيها من غلٍ وغضب، رفعت يدها للأعلى، وهوت به على صدغه تصفعه في شراسةٍ وهي تلعنه:

-إنت أوطى خلق الله ...

لم تهاب عينيه المتقدتين كالجمرات، وطردته باستبسالٍ دومًا يظهر فيها عند الشدائد:

-امشي اطلع برا.

كز "فضل" على أسنانه مرددًا بأنفاسٍ محمومة:

-بتمدي إيدك عليا؟

بقدمين ثابتتين، وأنفٍ مرفوعٍ للأعلى في كبرياءٍ وعزة، ناطحته الرأس بالرأس، وواصلت إهانتها له:

-دي أقل حاجة يا بغل، امشي غور من هنا.

بات السبيل الوحيد لرد اعتباره، بعد انتقاصها لرجولته، أمام الاثني، هو كسر نعَرتها، ودعس عنقها بقدمه، لذا قبض على رأسها بيده الغليظة، ولواها بعنفٍ قاصدًا إيلامها وهو يهدر بها:

-أنا هوريكي.

تدخلت "آمنة" متعلقة بذراعه، ومحاولة انتزاع يده من على ابنتها، وصوتها يصرخ به:

-ابعد عن بنتي.

حرك "خليل" مقعده، ليضرب به ساقه فيدفعه عنوة للخلف، ثم هتف بما يستطيع من طاقة، عله يردعه:

-سـ..يبها.. ما.. تقربــ..ش منها.

حاول "فضل" إزاحته عن طريقه؛ لكنه فشل، فخالها بقي حائلاً بينه وبينها، ووالدتها استمرت في اعتراض المسافة المتبقية للمرور إليها، ارتفعت نبرته المهددة، وعيناه تقدحان بالشرر:

-قسمًا بالله ما هتباتي فيها يا "فيروزة"...

نجح في تجاوز "آمنة"، ووصل إلى ابنتها، قبض على ذراعها، وحفر أظافره في لحمها المغطى بالثياب، ليلويه خلف ظهرها، يريد حقًا إيذائها بلا رحمة، ثم دفعها أمامه، واستطرد يخاطبها بما يحرق أحشائه من حقدٍ متعاظم:

-مش نازل من هنا إلا وإنتي معايا.

صرخت "فيروزة" مقاومة إياه:

-ابعد إيدك يا قذر، ماتلمسنيش.

رد بعدائيةٍ، وهو يزيد من ضغطه على ذراعها الملتوي:

-إيه مفكراني مش هاقدر عليكي؟ ده أنا جايب رجالة معايا يجرجوكي من شعرك لهناك.

سريعًا استعادت "فيروزة" في ذهنها صورة المتسكعين بجوار مدخل المنزل، ورددت بأنفاسٍ منفعلة:

-إنت بتقول إيه؟

قرب فمه من أذنها، وأخبرها بنبرته الحانقة:

-هترجعي معايا دلوقتي، ولو قتلت فيها الكل.

استعانت "آمنة" بالمزهرية المصنوعة من الفخار لتضرب بها على عضده، فنجحت في تحرير ابنتها، وهتفت تزود عنها بمشاعرٍ أمومية مقاتلة:

-حاسب إيدك عن بنتي.

على الفور استغلت "فيروزة" الفرصة لتهرب من براثنه، وقفت عند عتبة مدخل غرفة الصالون، واستدارت تواجهه بوجهها المتقد غضبًا:

-إنت مجنون رسمي.

صاح بها يتوعدها:

-مش سايبك النهاردة.

هتفت فيها أمها ترجوها، وهي تلوح بالمزهرية مرة أخرى أمام وجه "فضل"، كنوعٍ من التهديد الظاهري له، وإن لم يكن كافيًا لردعه:

-اجري يا "فيروزة"، ابعدي عن خلقته، واطلعي عند "همسة".

فهمت دون عناءٍ الإشارة المبطنة من والدتها للذهاب عند توأمتها والاختباء لديها، فالأخيرة قد عادت لمنزلها منذ يومين، وربما تصريحها بذلك يجعل "فضل" يعتقد أنها ستختبئ بالطابق العلوي على أقصى تقدير.

في حين سد "خليل" المدخل بكرسيه، ليعوقه عن اللحاق بها، وصوته المتلعثم يأمرها بخوفٍ حقيقي:

-امـ...شي، بســ..رعة.

تلك المرة لم تعارض أيًا منهما، فبحسبةٍ عقلية صغيرة، الكفة لن تكون راجحة لصالحها، والغلبة حتمًا له، لو استعان بالأوغاد الذين استأجرهم، خاصة بعد إمساكه ليد والدتها التي انهالت على مقدمة رأسه بالمزهرية.

قررت "فيروزة" أن تعمل عقلها، وتصرفت بسرعة بديهة، لذا هرولت ركضًا نحو باب المنزل، فتحته وخرجت منه مغلقة إياه بهدوءٍ، ثم أسرعت هابطة درجات السلم بتعجلٍ، كفرار غزالٍ شريد من ضبع جائع يُجاهد للحاق به لافتراسه.

.................................................. ........

توقفت عند مدخل البناية تلتقط أنفاسها اللاهثة، ثم تابعت سيرها للخارج؛ لكنها سرعان ما تراجعت مختبأة، فقد انتبهت لوجود هؤلاء الغرباء على مقربة من المدخل، اجتهدت لتضبط انفعالاتها وتستعيد هدوئها، لئلا تثير الريبة حينما تخرج من جديد، وبالتالي تسهل عليهم الفرصة للقبض عليها. تنفست "فيروزة" بعمقٍ، وهي تطل برأسها لتلقي عليهم مرة أخرى نظرة مختلسة، همست مرددة في تساؤل حائر مع نفسها:

-هعمل في دول إيه كمان؟

لحسن حظها كانوا منهمكين في ثرثرتهم، لذا تشجعت للمضي قدمًا في سيرها، متسللة تحت أنظارهم غير المنتبهة لها، جاهدت لتبدو عادية في مشيتها، أولتهم ظهرها، وانتصبت خلال خطواتها المتزنة، متخذة الطريق المعاكس مسارًا لها. تابعت المشي حتى نهاية الرصيف، حينها فقط ركضت بأقصى ما تستطيع محاولة عبور الطريق للجهة المقابلة، وحتى لا تضيع الوقت أوقفت سيارة أجرة لتستقلها هاربة من الجحيم الملاحق بها، أخبرت السائق بأنفاسها المتسارعة:

-اطلع بسرعة.

.................................................. ...

خليط من الغضب، الحقد، السخط، والكراهية استبد به، فلم يعد يضع في اعتباره أي شيء! اقتحم "فضل" غرف المنزلين كالمجنون، باحثًا عن "فيروزة" دون مراعاة لخصوصية أصحابه، احتد غضبه عندما لم يجدها، فقط تسبب بهوجائيته في إيقاظ الصغيرة "رقية"، ومع هذا لم تسلم من بطشه، أطبق على عنقها، ورفعها عن الفراش مهددًا:

-هاتقولولي خبتوها فين وإلا هاموتها!!

صرخت به "آمنة" في ارتعابٍ:

-إنت اتجننت؟!!

بكت "رقية" مستغيثةً، وهي تمد ذراعها نحو أبيها العاجز، طالبة النجدة منه:

-بابا!

تجمد الأخير بمقعده في مكانه، يتطلع إلى طفلته الوحيدة بنظراتٍ مذعورة خائفة، وبصوته المتلعثم صاح:

-سـ..يب ... بنـ..تي.

استمر "فضل" في تهديده المجنون هادرًا بهما:

-انطقوا، وديتوها فين؟

أجابته "آمنة" بوجهها الخائف:

-منعرفش.

بعد لحظة من التفكير، استجمع شتات أفكاره، ونطق عن شكوكه الدائرة في ذهنه:

-يبقى أكيد راحت عند اللي ما تتسمى أختها، ما هي مش موجودة هنا، تبقى معاها.

سعلت الصغيرة "رقية" من قبضته التي تضغط على مجرى الهواء، فخشيت أن يزهق روحها في غمرة هياجه الثائر، صاحت مجددًا به، وهي تتقدم خطوة نحوه:

-سيب البت يا "فضل"، هي معملتش حاجة.

وضع يده الأخرى على فم وأنف الصغيرة، ليقطع كليًا الهواء عنها، وهددها بفجورٍ:

-هاتي عنوانها، وإلا أقسم بالله هارميها من الشباك، بعد أخد روحها.

صرخت به في فزعٍ، وقلبها ينتفض خوفًا على الطفلة:

-حرام عليك، إنت شيطان ولا إيه؟

حمل "فضل" الصغيرة بذراعٍ للأعلى، وتحرك في اتجاه النافذة مكملاً تهديده:

-شكلك فكراني بهزر

في جزعٍ هتفت به ترجوه:

-استنى، هاقولك.

أرخى قبضته عن الصغيرة وألقاها أرضًا، لتتكوم عند قدمي عمتها، ثم رفع إصبعه متابعًا كلامه معها بنبرة التهديدية:

-لو بتكدبي عليا هادبح بنتك، معنديش اللي أخاف عليه.

...........................................

-أيوه يا اللي بتخبط.

هتفت "همسة" بتلك العبارة، وهي تسرع الخُطى في اتجاه باب منزلها، بعد سماعها للدقات القوية المتلاحقة عليه، فتحته لتتفاجأ بوجود توأمتها أمامها، نظرت إليها ملء عينيها في دهشة فرحةٍ، ورحبت بها بابتسامةٍ عريضة:

-"فيروزة"، حبيبتي آ...

قاطعتها الأخيرة بصوتها اللاهث، وهي تدفعها نحو الداخل، حتى تتمكن من غلق الباب خلفها:

-اقفلي بسرعة يا "همسة".

أوصدت القفل الخارجي مثلما طلبت، والتفتت نحوها تلاحقها بأسئلتها:

-في إيه؟ هو حصل حاجة؟ إنتي بتنهجي كده ليه؟

على أقرب أريكة ألقت "فيروزة" بثقل جسدها المنهك من فرط المجهود العضلي الذي بذلته في فترة وجيزة، ثم أخبرتها بصدرٍ ينهج في توترٍ:

-الكلب "فضل" عايز ياخدني معاه بالعافية للبلد.

انفرجت فتحتا فمها في صدمة ناكرة، وصاحت مستهجنة:

-نعم؟ إيه الكلام الفارغ ده؟

تابعت "فيروزة" كلامها بلمحة من السخرية:

-لأ، ومأجر ناس زي العصابات عشان يخطفني.

علقت في ذهولٍ، لا يخلو من الاستنكار الشديد كذلك:

-ده اتجننت.

سحبت "فيروزة" شهيقًا عميقًا ثبطت به النهجان المسيطر على صدرها، وقالت بعد لحظاتٍ:

-فلت منه بالعافية، بس مش ضامنة إن كان هيعرف يوصلي هنا ولا لأ.

أمسكت "همسة" بهاتفها المحمول، وردت بتحفزٍ:

-أنا هكلم "هيثم" يجيلنا بسرعة يوقفه عند حده.

رفعت توأمتها ذراعها ووضعته على جبينها، ظلت أنفاسها غير منتظمة، وهي تخبرها بما يجول في عقلها من هواجس قلقة:

-ربنا يستر ومايكونش عمل حاجة في ماما ولا خالك.

ردت عليها تطمئنها:

-مش هايقدر رأس العجل ده.

خفضت "فيروزة" ذراعها، وسلطت نظراتها المحتدة عليها مؤكدة لها:

-والله لو مس شعرة منهم لأوديه في داهية.

أشــارت لها "همسة" بيدها عندما سمعت صوت زوجها على الطرف الآخر، وخاطبته مستطردة في عجالةٍ:

-ألو، أيوه يا "هيثم".

.................................................. ...........

لم تكن المسافة بالبعيدة ليستغرق وقتًا للوصول إليها، وبمساعدة الحافلة متوسطة الحجم، بلغ وجهته في زمنٍ قياسي. أشار "فضل" لأحد أتباعه بإيقافها عندما لمح البناية المنشودة، وضرب بيده على الباب الخارجي لها قبل أن يترجل منها آمرًا من معه:

-ورايا يا رجالة، هنطلع هنا.

سأله من يبدو أنه زعيمهم في جديةٍ، بوجهه الذي يعلوه ندبة لجرحٍ عميق:

-لو الحكاية قلبت عوأ نتصرف على طريقتنا؟

أجابه بابتسامةٍ متباهية؛ وكأنه بهذا يثبت قدرته على شراء ما لا يستطيع بالمال:

-معاكو كل الصلاحيات، وكله بحسابه.

فرك الرجل كفيه معًا في نشوةٍ، وقال بحماسٍ ظاهر عليه:

-زي الفل يا كبير.

.................................................. ..

على غير المتوقع، تفاجأت "فيروزة" من وصوله إلى البناية بعد أن لمحته من النافذة، فهرعت إلى شقيقتها تطلب منها إغلاقه بالمفتاح والقفل لضمان عدم اقتحامه للمنزل، خاصة في غياب "هيثم"، والذي تعذر عليها الوصول إليه بسبب سوء شبكة الاتصالات وانقطاع المكالمة بمجرد إجابته على اتصالها. قفزت كلتاهما في توترٍ يشوبه الخوف، مع بداية الدقات العنيفة على باب المنزل، احتضنت "همسة" توأمتها، كأنما تحميها، وهتفت في ذعرٍ غمر كامل بدنها:

-أنا خايفة أوي.

دمدمت من بين شفتيها في غيظٍ:

-ده جبان، متحامي في شوية كلاب زيه.

ضربة أخرى على الكتلة الخشبية تبعها تهديده العالي:

-افتحي يا "فيروزة"، أنا عارف إنك جوا، مش هاسيبك النهاردة.

ردت عليه بنفس الأسلوب المهدد:

-امشي أحسنلك بدل ما أطلبلك البوليس.

هتف مستخفًا بها:

-ده لو لحقوكي يا حلوة.

استمر في دقه العنيف، قاصدًا خلع الباب، أو تحطيمه، هنا أسرعت "فيروزة" نحو المطبخ باحثة عن أداة تستخدمها في الدفاع عن نفسها، وحماية توأمتها أيضًا، لم يكن أمامها سوى السكين، استلته من الدرج، وعادت إلى البهو حيث نجح الوغد "فضل" في خلع الباب من مكانه بمعاونة من معه، ولج أولاً للداخل وزهوة الانتصار تعلو ملامحه، ثم رفع يده للأعلى مشيرًا لأتباعه بالتوقف، ليبدو وكأنه قائدهم الهُمام في مشهد هزلي مثير للتأفف. من تلقاء نفسها أبعدت "همسة" شقيقتها عن مرماه بصراخه المرتعب:

-حاسبي يا "فيروزة".

لوحت الأخيرة بالسكين مهددة بشجاعةٍ تُحسد عليها:

-هاموتك لو قربت.

حدجها بنظرة متعالية لينطق بعدها هازئًا منها:

-ارمي البتاعة دي يا بت.

بدون سابق إنذار حركتها في خفة ليلمس نصلها الحاد وجهه، فمنحته جرحًا مباغتًا جعله يستشيط غضبًا، نعتها بسبابٍ نابٍ، قبل أن يناوله أحد الأتباع عصا خشبية غليظة، ليستعين بها في مواجهتها. ضرب معصمها بقوةٍ جاعلاً السكين يسقط من يدها، ومسببًا لها الألم الشديد، ارتفع صراخها الموجوع، واختلط بصوت "همسة" المستنجد، والذي لم يتوقف للحظة منذ اقتحامه مسكنها:

-الحقونا يا ناس!

وقبل أن تفيق "فيروزة" من الصدمة قبض "فضل" على عنقها بيده، أحنى رأسها للأمام بطريقة مذلة، وسحبها معه بالإجبار خارج المنزل.

..................................................

في تلك الأثناء، كان اثنان من عمال الدكان مُكلفان بشراء وإيصال احتياجات العائلة لمنزل الحاج "بدير"، اندهش كلاهما من الغرباء الذين ولجوا إلى المدخل في خطوات متعجلة ومتلاحقة؛ وكأنهم قد جاءوا للقبض على أحدهم، تبادلا النظرات المستريبة، وبادر أحدهما متسائلاً:

-مين دول؟

رد عليه زميله في توجسٍ حائر:

-مش عارف، بس شكلهم مش مريحني.

حذره بلهجةٍ جادة:

-طب خد بالك، لأني حاسس كده إنهم جايين يعملوا قلق هنا.

هتف في سخريةٍ وهو يفرقع فقرات عنقه بتحريكه للجانبين:

-يبقى وقعتهم مهببة، ومش هاتقوملهم قومة من تاني.

ثم جمع الأكياس في يدٍ واحدة، وأخرج هاتفه من جيب بنطاله الجينز وهو يخبره:

-أنا هبلغ الحاج.

رد في استحسانٍ:

-يكون أحسن.

وقبل أن يسمع رده على الجانب الآخر، انتبه الرجلان لصوت الصراخ النسائي المستغيث، فتركا ما بأيديهما على الجانب ليركضا نحو الداخل في تحفزٍ كبير.

.................................................. ...

كان ما يحدث على درجات السلم، كالبلاء الذي حل بأرضٍ عامرة بالبشر، تزاحم الجيران المتجمعين على إثر الصرخات العالية لإبعاد هؤلاء الغرباء عن الشابة العالقة بينهم، مما اضطرهم لاستخدام العنف المفرط معهم، لتفريقهم، إزاحتهم عن طريقهم؛ كان من بين هؤلاء "ونيسة"، تفاجأت بأحدهم يجرجر "فيروزة" على السلم، وهو يسحبها من عنقها خلفه، ليجبرها على القدوم معه رغم إرادتها، أسرعت تعترض طريقه صارخة به:

-إنت بتعمل إيه فيها؟ سيبها يا جدع إنت.

استنجدت بها "فيروزة" بصوتها المتألم:

-الحقيني يا طنط.

حاولت تخليصها من قبضة "فضل" المحكمة عليها؛ لكنه لكزها في كتفها وهو يهدر بها:

-حاسبي يا ولية لأزرفك قلم أكومك.

صراخ العامل المستثارة دمائه لتهجمه على السيدة الوقورة مع إهانتها جعلته يقفز عليه دون تفكيرٍ، وباندفاعٍ جنوني ليطرحه على الدرجات وصوت هتافه يرج المكان:

-إنت اتجننت يا (...).

تسابق مع العامل الآخر في ضربه، مما جعل أتباع "فضل" يهرعون إليه لمساعدته، فمنح ذلك "ونيسة" الفرصة لانتشال "فيروزة" المتكومة أرضًا، وأدخلتها إلى منزلها. ظهر الجد "سلطان" وإلى جواره "هاجر"، هتف الأول بصوته الأجش يتوعده:

-يا ويلك يا ديل الكلب، مش هتتساب النهاردة.

في حين تساءلت "هاجر" في رعبٍ:

-إيه اللي بيحصل هنا؟ دول بيعملوا كده ليه؟

قيل في الأمثال الشعبية الدارجة "أن الكثرة تغلب الشجاعة"، وللأسف الشديد مالت كفة الميزان لصالح فريق "فضل" الإجرامي، فتكالبوا على العاملين وأبرحوهما ضربًا بكل قساوةٍ وعنف. خافت "هاجر" على جدها من الأذى، فسحبته نحو الداخل وهي ترجوه:

-تعالى يا جدي بسرعة.

ظل ثابتًا، صلبًا في مكانه، لم تهتز عضلة في وجهه، ولم يبدُ عليه أدنى بادرة خوفٍ أو تردد، رفض التحرك، وضرب بعكازه الأرضية الصلبة، صائحًا بقوةٍ وبإصرارٍ عنيد:

-مش "سلطان" اللي يجري زي الفيران قصاد شوية (...) عاملين نفسهم رجالة.

.................................................. ..........

بخوفٍ لا يمكن إنكاره، اقتادتها "ونيسة" نحو الداخل، وأوصلتها إلى أول غرفة كان بابها مفتوحًا، دون أن تهتم إن كانت لابنها البكري أم لغيره، فالموقف متأزم للغاية، وبالنسبة لها بدت الملجأ الآمن حاليًا، لحمايتها من بطش عديمي الشرف. أمسكت "فيروزة" بيدها المتورمة، ونظرت إليها في قلقٍ، فشددت عليها "ونيسة":

-اقفلي عليكي الباب، وماتخرجيش مهما حصل.

ردت بإيماءة طائعة:

-حاضر يا طنط.

انتظرت خروجها لتوصد الباب خلفها، وتلفتت حولها ملقية نظرة مشتتة على المكان المحبوسة به، كانت فاقدة للتركيز، وانتابتها رجفة باردة جعلت كامل بدنها يرتعش بشدة، لذا جلست على طرف الفراش محاولة لملمة شتات نفسها المبعثرة، تأوهت بأنين موجوع عندما لمست معصمها المنتفخ، لكن صوت الصراخ المرتفع بالخارج جعلها تتلبك بشدة، وتتجاوز عن ألمها.

خشيت "فيروزة" من نجاح "فضل" في اقتحام الغرفة، لهذا فكرت في البحث عن شيء تستعين به في الدفاع عن نفسها إن لزم الأمر، فما كان منها إلا أن مدت ذراعها الآخر، وفتحت درج الكومود الأول، لتفتش فيه عن شيءٍ تستخدمه لهذا الغرض؛ لكن أبصرت عيناها ما لم تتوقع إيجاده مُطلقًا ............................................ !!

.................................................. ..........




منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس
قديم 06-03-21, 02:45 AM   #865

موضى و راكان

نجم روايتي

alkap ~
 
الصورة الرمزية موضى و راكان

? العضوٌ??? » 314098
?  التسِجيلٌ » Mar 2014
? مشَارَ?اتْي » 6,242
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » موضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   cola
¬» قناتك max
?? ??? ~
سبحان الله وبحمده .. سبحان الله العظيم
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 45 ( الأعضاء 12 والزوار 33)

‏موضى و راكان, ‏anas zizo, ‏همس البدر, ‏Kemojad, ‏رشا عبد الصمد, ‏مرمرية, ‏تغريد&, ‏noga2009, ‏رياح النصر, ‏الذيذ ميمو, ‏صباح مشرق, ‏ورود عربية


فضل قرب يدخل المصحة مع بثينة حالته بقت صعبة قوى ربنا يقرب البعيد و نخلص منه
فصل ممتع يا نولا تسلمى يا جميلة


موضى و راكان غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-03-21, 08:37 AM   #866

Om noor2
 
الصورة الرمزية Om noor2

? العضوٌ??? » 445147
?  التسِجيلٌ » May 2019
? مشَارَ?اتْي » 267
?  نُقآطِيْ » Om noor2 is on a distinguished road
افتراضي

لا ايه الففلة الشريرة دي ..احنا عارفين هتلاقي ايه بس المهم هيلحقوها ولا ايه حرام عليك كده الاكشن ده كله في فصل واحد ..قلبي الصغير لا بحتمل 😁😁

Om noor2 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-03-21, 10:37 AM   #867

نور علي عبد
 
الصورة الرمزية نور علي عبد

? العضوٌ??? » 392540
?  التسِجيلٌ » Feb 2017
? مشَارَ?اتْي » 944
?  نُقآطِيْ » نور علي عبد has a reputation beyond reputeنور علي عبد has a reputation beyond reputeنور علي عبد has a reputation beyond reputeنور علي عبد has a reputation beyond reputeنور علي عبد has a reputation beyond reputeنور علي عبد has a reputation beyond reputeنور علي عبد has a reputation beyond reputeنور علي عبد has a reputation beyond reputeنور علي عبد has a reputation beyond reputeنور علي عبد has a reputation beyond reputeنور علي عبد has a reputation beyond repute
افتراضي

يعطيك العافية حبيبتي نشكر لك عطائك يا جميله وانا اقرء الفصل شغرت ان هناك حلقة ناقصه
بثينه مجرمه بكل المقايس حتى مع مصابها لم تتعظ للاسف
تعجبني شجاعه وحنكه الجد الي فعلا عنده حل موضوع فيروزه كما كان لحيلته بالرغم من خطورتها فرصه للتخلص من بثينه

فضل شخصيه مستفزه الى اقصى حد 🥵😷

ننتظر القادم بشوق بالتوفيق كوني بخير 💕💕


نور علي عبد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-03-21, 09:42 PM   #868

دانه عبد

? العضوٌ??? » 478587
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 513
?  نُقآطِيْ » دانه عبد is on a distinguished road
افتراضي

تسلم أيدك يا منال الأحداث مشوقة بانتظار الفصل القادم

دانه عبد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-03-21, 11:32 PM   #869

ارووج122

? العضوٌ??? » 437108
?  التسِجيلٌ » Dec 2018
? مشَارَ?اتْي » 122
?  نُقآطِيْ » ارووج122 is on a distinguished road
افتراضي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ارووج122 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-03-21, 11:43 PM   #870

تغريد&

? العضوٌ??? » 458904
?  التسِجيلٌ » Dec 2019
? مشَارَ?اتْي » 245
?  نُقآطِيْ » تغريد& is on a distinguished road
افتراضي

انا كنت حاس انه في احداث ناقصه بس حلوه نزلتي الثلاث ورا بعض ......الاحداث صارت حاميه.... انتظر تدخل تميم
في انتظار القادم👏🏻👏🏻👏🏻


تغريد& غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:10 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.