05-12-20, 11:25 PM | #417 | ||||
| الفصل الثاني والثلاثون الجزء الثاني *** على طريق العودة لفهما الصمت، تذكرت صبر كيف كان قديمًا لين القلب، ينظر في عمق عينيها متنهدًا براحة ويبتسم بلا غصة أوهم، زفرت مغمضة عينيها حين أوقف السيارة، ترجلت بهدوء وأوشكت على الانصراف دون تحية، راقب مدين حركتها البطيئة بعينين نصف مغلقتين قبل أن تطوفا في المدى متفقدًا حدة الضوء، كان شاحبًا مما شجعه يناديها: - صبر.. خُيل إليها غرابة صوته وهزت رأسها كيلا تتمسك بخيوط من وهم، أتبع النداء بالطلب المهذب: - هل لي بقدح قهوة من يديكِ؟ يحدثها باعتياد وكأنهما أمورهما بخير، ومنهكة في أوج وهنها فلم تعانده: - تفضل بالتأكيد.. هبط مثلها ووصلها ليدلف بصحبتها للداخل، تركته في غرفة الضيوف التي استقبلته وقت طلبه خطبتها، جلس بأريحية فيما توجهت صوب المطبخ بهدوء، قابلها والدها في الردهة وطلبت منه أن يجالس مدين إلى حين عودتها بالقهوة، خلعت عن رأسها الوشاح وصففت خصلاتها في جديلة، حضرت القهوة لها وأضفت للبن مرارة حرقتها وللسكر حلاوة عشقها، مررت سبابتها على إطار القدح الدائري تهدهد المكان الذي سيعانق شفتيه، حملت الصينية وذهبت بها إليه قدمتها له وجلست بعيدة عنه، تجاذب أطراف الحديث مع أبيها بلطف لبعض الوقت فيما حادت عيناه إليها أكثر من مرة، تجاهلت ما يطرأ على قلبها إثر ذلك.. نهض يغادر فطلب منها أبوها أن ترافقه إلى الباب، نهضت بدورها وسارت بجانبه، كانت قريبة بكل ما فيها رُغم ما دار طوال الأمسية، قلبها عامر بالدفء مفعم بالحنين يحمله كذكرى لا تقتلها السنون، لم يكن حلمًا فقد كان حقيقيًا يلامس أناملها بتوق بينما تسير محاذية له، أجفلت من ذلك وناظرته بدهشة فمضى دون اكتراث، هبطت معه الدرج بصمت، ساورتها الشكوك وخافت من أن يكون عقلها التائه هو الذي يصور لها ذلك، نفضت رأسها فلن تختلق الكذبة وتعيشها مدين الذي تاق إليها قديمًا قد تبدل الآن كما أنها قررت ألا تُستغل ثانية، كان الطقس باردًا فارتجف جسدها بخفة، زهور الياسمين أمامها كانت كنجوم لامعة قد ترصعت بها الشجيرات المترامية في مدخل المنزل، منزل أبيها منعزل متطرف وقد استغلت غياب البشر عن الطريق ولم ترتدِ وشاحها وتركت لجديلتها الحرية لتستريح على ظهرها، وصلا إلى البوابة المغلقة ووقف أمامها مباشرة رفعت عينيها تطالعه تحت ضوء القمر الخافت، بادلها نظرتها بتعبير مبهم ومد يده إلى جديلتها يفككها، مر بجسدها انفعال غريب بين التصلب والارتجاف، كان جسدها منتصبًا يرتعش مصدومًا من خطوة كتلك، حرر كل خصلاتها وتركها تسترسل على كتفيها فانحدرت حتى خصرها، أوشكت على التهرب منه أو الإتيان بأي رد فعل وعجزت، تحت الضي الشاحب لم يكن يناظرها بقسوة، نظراته كانت عادية لا تنفرها، وهي مثيرة للشفقة إلى ذلك الحد، مجرد تفتت جدار قسوته أعاد الأمل ينبض بداخلها مجددًا، رفع بصره يمشط الياسمين قبل أن تمتد يده تلتقط بعض زهوره ويعود فيثبها فوق رأسها أجفلت وتوتر جسدها أكثر فابتعدت بانفعال ليوقفها في مكانها بحزم ضاغطًا بكفه على كتفها، تسمرت مكانها كما أراد تطالعه بصدمة وتركته يكمل ما يفعله، كانت صبر في حالة فوضى، مشاعرها تناثرت حولهما، الحب الخالص النابض به خافقها قد فاض من مقلتيها وخوفها الغريزي منه ومن القادم لا يمنحها الاطمئنان الكامل، أنهى نثر الياسمين الأبيض المتراص كالنجوم فوق رأسها المنسدل منه شعرها كعتمة الليل فبدت متوهجة كملكة الجنة، فريدة ك عشتار.. تملك كفها بلا مقدمات وجذبها خلفه إلى ممر جانبي بين سور المنزل وسور آخر يحيط به من الخارج كانت بقعة مظلمة تمامًا فلن يقترب خطوة كتلك في ضوء واضح أو حتى خافت، أجبرها على الاستناد للحائط ووقف أمامها، اجتاحها تيار بارد بدده بجسده الذي غمرها بدفء مبالغ في سطوته حين قلص المسافة وأحكم ذراعيه حولها ضامًا إياها في عناق متملك، تجمدت تنكمش على نفسها وتلاحقت أنفاسها، كانت تشعر بجمود فليس بهين أن ينمحي الماضي في طرفة عين ويعود إليها بضمة هكذا، غيب عقلها وما يدور به بلين لمساته، خفف من ضمه لها ومرر يده على عضديها، بداخلها تلك المراهقة التي وقعت في حبه وتمادت ذي قبل، أسند جبهته إلى جبهتها وهمس بصوت أجش: ـ مرت سنوات طويلة يا صبر.. كانت رموشها تتابع رفرفة متوترة ودقاتها تتسابق في ماراثون بدا محال نهايته، ردت همسته بغصة حنين: ـ ثمانية سنوات.. مرغ جبهته بوجنتها ولفحها بأنفاس لاهبة: ـ كانوا.... قاطعته ببوادر بكاء: ـ كان قلبي خاويًا بدونك.. رفع يده يحاوط وجنتها يمسدها بإبهامه ولم يبتعد، كان قلبها يطرق قفصها الصدري عدوًا إليه فيرتجف جسدها المحاصر بينه وبين الجدار، ظل صامتًا وقد ظنته سيبوح ويحكي لها عن شعوره، همست تستنطقه: ـ مدين.. التهم حروف اسمه واقتنص شفتيها بشغف تضاعف عن ذي قبل، اتسعت عيناها بذهول، رباه يفقدها كل عزمها الواهي على الصمود أمامه، كان يبدد كل مقاومة قبل أن تلوح بها حتى، تلكأت أنامله على وجنتها فجيدها دون تردد، والفرق ثوانٍ بين ترددها ومبادلته قبلته، لم يعد ذلك الشاب اليافع الذي استغلها من قبل بل أضحى رجلًا يعزف على أنوثتها بانفراد، كان يعرف متى يتوقف يتركها تلتقط أنفاسها ويعاود عزفه، رفعت أناملها إلى رأسه تمررها بين خصلاته وبذراعها الآخر تحاوطه، غمرته بعشق نال منها وما زالت على عهدها تعطيه أكثر مما تأخذ، ابتعد محررها من سطو شفتيه مستقرًا عند جيدها، أنفاسه مثلها تهدجت، هدهدت رأسه ولحيته بكفيها، إن كان حلمًا لا بأس فلتحلم وإن كان حقيقة وهو كذلك ستدع التفكير والقرار لوقتهما فاللحظة المسروقة تستحق تخدير العقل.. انسلخ عن قربها بأعجوبة، مزق الخيوط التي نسجها حوله حبها الدافئ، ابتعد مسافة ذراع واستند بكفه إلى الحائط خلفها، توجست من تصلب جسده وابتعاده المفاجئ، وفي الظلام الحالك شعرت، اللحظة تبددت سريعًا، قبل أن ينطق بحرف أهلكتها الغصة، الخوف من الوجع جعلها ترفع رأسها للسماء مغالبة العبرة، بعد حين دمدم بخشونة وتشفي: ـ رأيتِ! ازدردت لعابها بعسر وقهر فقد فهمت كل شيء الآن، وضعها معه أمام مرآة توضح لها الحقيقة فمهما قاومته سترضخ، غافلتها العبرة وسقطت فيما أردف بقسوة: ـ لا تمتلكين في علاقتنا أية إرادة، ولا يصح معي أن تقولي الوداع وتتركيني خلف ظهرك.. مد يده وقبض على خصلاتها فتأوهت بخفوت فيم غمغم بحرقة: ـ أنا الذي سيتركك خلفه يا صبر.. نفض يده منها واستدار مغادرًا بخطوات حادة وسريعة، ركضت خلفه تسبقه وتقف أمامه صارخة: - اعتدت منك ذلك ولن أندهش.. كانت تكمش الياسمين الذي نثره على رأسها بعنف فتمزق معه شعيرات من خصلاتها، اختض جسدها، وكاد قلبها ينفجر وتختنق: - يكفي تلك المهزلة إلى هنا، ارحل بلا رجعة، تبا لي ولحبك اللعين، ما عدت أريد رؤيتك حتى.. ضربته في صدره لكمة قاسية وقبل أن يمسك بها كانت قد ركضت بسرعة البرق يتطاير ثوبها خلفها.. صفقت الباب في وجهه، فبرقت عيناه بقسوة وأقسم أن يكمل قصاصه منها حتى آخر رمق فهو رجل لا يرضيه الحب المرفق بلوم عاشقته لنفسها لأنها وقعت في حب الشخص الخطأ.. *** يتبع.. | ||||
05-12-20, 11:26 PM | #418 | ||||
| أما لشاعل المحرقة أن ينال منها قبس، و تمس روحه النيران فيحترق، أو يُعبِّق رئتيه الدخان فيختنق.. أوصل الأب ما أراد تمامًا، ففي خضم عبثه التصق بزوجته نعت العاهرة، استبعد الجميع سوى عمها وزوجته، أجبر نفسه على سؤاله عن هوية القائل قبل عودته إلى الوطن، فأجابه ناقمًا: - زوجته.. هو أو زوجته الاثنان لا يختلفان عن بعض هما بعضا كلاهما يستحق الرجم، وجد متنفسًا ينفس فيه عن غضبه، قرر أن يهدم ثوابتهم الواهية ويساوي بنيانهم بالأرض.. أيريدون عاهرة! سيهديهم واحدة.. رسم خطة ساذجة، هو ضليع في جعل الخطط الساذجة تؤتي ثمارًا طازجة، البعض آيل للسقوط لا يحتاج سوى دفعة بقشة، وهكذا سقط حماد الراعي فالرذائل تجتمع دون عناء، وصلت كريمة رسالة من رقم خاص، رسالة قصيرة مرفقة ببث مباشر والرسالة مستفزة بإمضاء صاحبها ( زوج سيدتك عزة) أما عن البث المباشر فكان الأشد استفزازًا، زوجها الخمسيني برفقة عاهرة في وضع مخل، وأيًا ما كان شكل العلاقة فقد تحطمت أعمدتها وعانق ركامها الأرض فوجع الخيانة لا يُجبر وثمة من يستحق الألم دون نهاية.. حطت طائرته على أرض وطنه الأم، هو الذي أمضى جل شبابه متأرجحًا بين الذهاب والعودة تطيب روحة بنسمة عابرة معبقة بتراب الوطن، أمين زايد، الابن الضال للحاكم.. لم يُصدم بفعلة مصعب رُغم غضبه منه، قصد المشفى الذي تقطنه زوجة ابنه، تخطى البوابة والاستعلامات وتوجه صوب غرفتها مباشرة انتظر حتى أبلغتها صديقتها الطبيبة بحضوره وانفتح له الباب دلف إليها ببطء كانت واقفة كصرح راسخ لا تؤثر فيه زلازل رُغم شحوبها كانت ثائرة العينين ترفع رأسها بشموخ، من نظرة واحدة اطمأن هناك نسوة كالمخالب يخلعنك من جذورك وأخريات كالأوتاد يزرعنك زرعًا في أرضك، وعزة امرأة كالوتد.. تقدم صوبها وتلقائيا قارنت الملامح بأخرى محفورة في ذاكرتها الطول الفارع ذاته واللون الحنطي والأنف المستقيم وغلظة الشفتين، عينا الأب بنيتين تلمعان بفراسة وبدا كرجل قد جمع خبرات الدنيا في جعبته، حدجته عزة ببغض وتندرت بصوت جامد: - هل أتيت للاعتذار عما فعله ابنك؟! لاح طيف ابتسامة على ثغره لم تصل لعينيه وسألها: - وماذا فعل ابني! ثار بداخلها البركان الذي يخمده خافض الحرارة شديد المفعول، لهثت من فرط ضغطها على نفسها، تمتمت بجحوظ عينين ونظرة لاهبة: -سلب مني نفسي.. كان قد وصلها فارضًا حضور مهيب، ضغط على تعليقه الفظ: -عليكِ سؤال نفسك ماذا قدم لكِ مصعب، هو لا يأخذ دون عطاء.. كزت على أسنانها فاحتقن وجهها وردت جملته بنيران النظرات تلاها ردها الحانق: - إن منحني العالم بأسره لن يكفي ما سلبه.. أطبق شفتيه على حديث طويل سابق لأوانه وعلق بهدوء: - ربما منحكِ عالمه.. كتفت ذراعيها وأشاحت بوجهها تسأله بصلف فاقد للتهذيب: - ماذا تريد؟.. أجابها برصانة: - أن تأتي معي.. التفتت إليه بحدة، ندت عن شفتيها شهقة ساخرة مستنكرة قبل أن تسأله بغضب: - إلى أين!! حرك كتفيه ببديهية: -المكان الذي يناسبك، قصر زايد أو معي إلى ألمانيا.. استنكرت واشتعلت نظراتها البغيضة، أيحسبها بذاك الخنوع! رفعت رأسها كملكة لا يليق بها سوى السمو: - سأذهب إلى المتبقي من إرثي، لدي مزرعة صغيرة، لا أحتاج إليكم.. حاول اقناعها باللين مهادنًا بصوت هادئ: - لديكِ عائلة كبيرة الآن يا عزة.. توحشت عيناها بقسوة وصاحت باشمئزاز: - أنتم عائلته هو.. تنهد السيد أمين وحدثها بصبر: - أنتِ وهو في ذات المكانة الآن بل إن البعض سيؤثرك عليه.. هزت رأسها بعناد وواجهته بشبه طرد: - لا أهتم ولا أريدكم.. أطرق الرجل زافرًا بعنف، حالتها مزرية وليست مؤهلة بعد لتقبلهم كعائلة، ومنحة مصعب لا تزن شيئًا في نظرها، ابتعد خطوة تأهبًا للرحيل، لم يعد لوجوده سبب، ودعها ملوحًا مانحًا إياها التقدير والاهتمام في وداعه: - سأتركك لبعض الوقت وسأعود وسنتحدث بعقلانية أكثر من ذلك.. *** يتبع | ||||
05-12-20, 11:27 PM | #419 | ||||
| هي الحقيقة الوحيدة وما دونها ضباب، أحبها حد التماهي فيها، حد التغافل رُغم الشكوك.. استقرا تمامًا، وحان أوان التعافي صف سيارته في مرأب المشفى النفسي الذي حدده جده، نظر إلى زاد الجالسة بجانبه بتشجيع، كانت متوترة تطلع حولها بنظرات زائغة، مد يده يربت على كفها: - هيا؟ اتسعت بسمتها الممتنة وأومأت له، قد اتقفا بالأمس أن يتركها تخوض تلك التجربة بخصوصية دون تدخل منه وعدته أن تعافر من أجل حياتهما معًا والنظرة الصادقة المترجية جعلته يومئ لها موافقًا بكل كيانه، مهما كان سبب ما تعانيه لن يتركه ينغص صفو حياته معها، قلبها الصافي كنبع رقراق يغنيه عما سواها، هبطت بخفة ولوحت له قبل أن تتركه خلفها وتتخطى باب المرأب إلى الداخل، كانت الطبيبة بانتظارها، أوصلتها مساعدتها بهدوء إلى مكتبها الداخلي، غالبت زاد الرهبة التي تملكتها حين وضعت قدمها في الرواق الذي خطته قبلًا، نهضت الطبيبة ببشاشة تستقبلها، مدت يدها بتحية لبقة فصافحتها زاد قبل أن تجلس قبالتها، احتلت الطبيبة مقعدها خلف لافتة صغيرة مدون عليها اسمها الكامل (نورا علاء الدين) مررت الطبيبة أناملها ببطء على ملف موضوع على مكتبها مدون عليه اسم مريضتها القديمة ( زاد أحمد سليمان زايد) في المرة القادمة رفضت العلاج والتحدث، كل المحاولات الممكنة باءت بالفشل، فزاد أعرضت عن منحها طرف خيط واحد واليوم أتتها وفي عينيها إرادة ورغبة في التجاوز مما دفعها تسألها بحماس: - ماذا يا زاد؟ شردت زاد أمامها ترد سؤالها: - أتيت بنفسي هذه المرة.. تنفست ببطء وأردفت بإصرار: - لكن لدي طلب واحد فقط قبل أي شيء.. أكملت عنها الأخرى بتفهم: - الخصوصية.. أومأت لها زاد فأوضحت الطبيبة بعملية: - السيد معتصم أخبرني بذلك، زوجك سيظل خارج خطتنا العلاجية لا تقلقي.. تبادلتا نظرات متفهمة قبل أن تفرد الطبيبة كفيها على الطاولة وتغمغم: - قبل البدء لدينا بعض النقاط الهامة.. ابتلعت زاد غصتها وزفرت بعمق معقبة: - أعرف أن ما حدث قديمًا ليس ذنبي لكن.... أومأت الطبيبة باسمة بتشجيع: - هذه ال لكن هي بيت القصيد، المهم أنكِ هنا اليوم وسنتحدث في كل شيء.. انكمشت زاد على نفسها بألم، على وشك نكئ جرح لازمها لسنوات وجاهدت لدفنه طويلًا دون علاج حقيقي، يقولون إن مواجهة الذات هي بداية كل شيء، وزاد بدأت بذلك لم تكن ل تنجو من كل ما يكبلها إلا حين تقف أمام مرآة نفسها وتواجهها، وهنا بداية نهاية حكاية وجع وآثار انتهاك قتل الضحية قتلًا، سلب أحلامها ولم يفلح في سلب منها براءة روحها. وكل بداية جديدة ممكنة إذا أرادنا ذلك.. انتهى الفصل قراءة ممتعة🌸💙 | ||||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|