آخر 10 مشاركات
287 - كذبة العاشق - كاتي ويليامز (الكاتـب : عنووود - )           »          284 - أنت الثمن - هيلين بيانش _ حلوة قوى قوى (الكاتـب : سماالياقوت - )           »          275 - قصر النار - إيما دارسي (الكاتـب : عنووود - )           »          269 - قطار النسيان - آن ميثر (الكاتـب : عنووود - )           »          263 - بيني وبينك - لوسي غوردون (الكاتـب : PEPOO - )           »          التقينـا فأشــرق الفـــؤاد *سلسلة إشراقة الفؤاد* مميزة ومكتملة * (الكاتـب : سما صافية - )           »          الإغراء الممنوع (171) للكاتبة Jennie Lucas الجزء 1 سلسلة إغراء فالكونيرى..كاملة+روابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          غيوم البعاد (2)__ سلسلة إشراقة الفؤاد (الكاتـب : سما صافية - )           »          ياسميـن الشتـاء-قلوب شرقية(26)-[حصرياً]-للكاتبة الرائعة::جود علي(مميزة)*كاملة* (الكاتـب : *جود علي* - )           »          وريف الجوري (الكاتـب : Adella rose - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات القصيرة المكتملة (وحي الاعضاء)

Like Tree2Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 03-10-20, 06:28 PM   #1

عبير نيسان

كاتبة بمنتدى قصص من وحي الاعضاء


? العضوٌ??? » 423609
?  التسِجيلٌ » May 2018
? مشَارَ?اتْي » 174
?  نُقآطِيْ » عبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond repute
افتراضي أبية هدت عرين الرق (12) .. سلسلة لؤلؤة في محارة مشروخة *مكتملة ومميزة *






السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


أبية هدت عريق الرق









سعيدة بانضمامي ومشاركتي في المنتدى الرائع
واسعد بمشاركتي بالسلسلة الرائعة هاي
القصة12 من السلسلة هتبقى معايا بإذن الله...

1 بداية عاوزة أقول انه الفضل الكبير لتواجدي بين كوكبة كبيرة من الكاتبات كان للأستاذة أماني والأستاذة ضحى واتمنى أكون عند حسن ظنهم بيا😍😍😍Libyan Voice Almaghrabi ضحى حماد

2 ثانيا وده أحلى واهم خبر بالنسبة ليا اختيار عنوان اللؤلؤة كان من ذوق أم شيماء ربنا يحفظها ليا يارب.. عنوان زي ما انتم شايفين عبقري ورائعOme Chaimmae

3ثالثا اتمنى القصة تعجبكم وتلاقي صداها مابينا كلنا😘😘😘

بسم الله الرحمن الرحيم

أبية هدّت عرين الرق - بقلمي عبير سلامة

💓💓 قبل ما نبدأ مع بعض الرحلة:

القصة أكيد هتلاقوها ما بينا بنفس أحداثها يا إما شبهها أو هي نفسها، لأنها قصة مقتبسة من حدث واقعي😱😱 للأسف

الحكاية حصلت بالفعل واحنا هنا خدنا الخلاصة وبنينا عليها الأحداث...وإن كان فيه تشابه كبير😢😢
منتظرة منكم رأيكم بصراحة لكن بحيادية 😍😍اتمنى الحكاية تلاقي صداها بقلب كل بنت وأم💓💓

*{مقدمة}*

تأتينا الحياة بما نرجوه منها إما راغبة أو راهبة، ويكون لنا اليد المطلقة في توظيف ما تأتينا به إما لبنائنا أو هدمنا، هكذا هو قانون سريانها٠٠٠وعلى هذا نتفق!
♡♡♡ ♡♡♡
ونحن فيها نجري وفي رحابها نسعى بحثًا عن حُلوها دون مرها، وفي خضم سعينا ذاك ننسى أن لكل قدم كبوة، وأنه لكي نعلم أن حلوها حلوًا علينا أن نتذوق علقمها أولاً.
وفي لجة صراعنا عليها نخطئ ثم نستغفر فيغفر لنا، ثم نخطئ ونطلب عفوه فيعفو لنا.. هكذا دواليك، لا نمل من الخطأ ولا يمل منا الرحمن فيغفر ويعفو رغم أننا نعلم أن خير الاستغفار عند اللّه الإقلاع و الندم، لكنها نفس ابن آدم الأمارة بالسوء.
♡♡♡ ♡♡♡
هكذا فعل رجل منحه الله واجب رعاية ابنته فألقى بها في بحر من ظلمات الحياة وتركها تسير بمفردها، بل ولم يكتفي بذلك وإنما نال من ورائها المقابل كالنخاس في سوق النخاسة ولم يستغفر فيغفر له ولم يندم فيمحى له.
ترى إن كان يعلم بما سيحدث لها هل كانت نجت، أم لا؟!
هي حكاية خطت بأقلام كثر تختلف في أحبارها ولم تختلف في أخبارها!
🌹🌹 البداية🌹🌹
💓💓💓💓💓
تبدأ الحكاية كما تبدأ مع كل الفتيات في سن المراهقة فكثيرات منهن ترتضي بما اقتنصته من شجرة التعليم من ثمار وتبدأ في بذر بذورها الخاصة لزرع شجرة عائلتها الخاصة، وأخريات ترى في التعليم بحر ليس له إدراك سوى بالإبحار فيه قدر إمكانها، وكلهن على حداها كما يلقي بها هواها فمنهن من تعش ما تبقى من عمرها تندب حظها ومنهن من تقف في منتصف الطريق كي تغير الوجهة.
لكن بين هؤلاء وتلكن نجد فتيات يقضي عليهن عوائلهن بتزويجهن ممن يدفع فيهن اكثر دون اعتبار إلى سن او أخلاق ذاك الزوج..هم فقط يهتمون بما سيجنوه من وراء زواجهن.
ثم بعد ذلك نرى ساحات القضاء مليئة بمختلف النساء من وجدت لنفسها متنفس في رجل آخر، ومن قتلت زوجها طلبا للحرية، ومن ظُلمت من زوجها وسُجنت دون وجه حق، ومن، ومن، ومن…كثيرات هي حكاياتهن.
لكن أين الأهل منها...غير موجودين!
لاقين باللوم كله على بناتهن وفوق ذلك يتنصلن منهن!
♡♡♡ ♡♡♡
هو كعادته يهتم بعمله وعمله فقط يريد أن يصل به ومعه إلى أعلى مراتب النفوذ والأموال وقد وضع بيته وأهله أمانة في يد زوجته التي كان اختارها بعناية كي تكون صمام أمانه دون أن يلتفت إليها ولا إلى طريقتها في إدارة بيته.
وهي اعتادت حمل البيت بكل ما فيه من ثقل حتى خطت ابنتها الأولى أعتاب الخامسة عشر من سنواتها فتركتها تسير مفردها وتحمل ثقلها، فهي جُل ما تريده وتنشده بعض الراحة تساعدها على ما تبقى من حمل، ظنت أن طفلتها تستطيع بمفردها ولم تك تعلم أن ديون الآباء يدفعها الأبناء…
تزوجت ابنة الخامسة عشر من حبيب توسمت فيه السند وملكته حجرات قلبها في غفلة من الراعي والراعية.
زواج سري علم به الأب وخر مدحورًا مذموماً وأمام ناظريه يتهادى ظلال من ألقى بها في غياهب الظلم منذ عشر سنوات وهي تنظر إليه مكسورة، راجية وذليلة...ها هو من أصبح مكسوراً وذليلاً.
♡♡♡ ♡♡♡
ها قد شدت الشمس رحلها للرحيل ونفضت تبراً على الأصيل، فكانت كشذرات الذهب المنثور يضفي بهائه على سماء المدينة والتي كان يطالعها هو بينما كان ينتظرها في بداية أو نهاية كل يوم يراقبها من بعيد ثم يسير خلفها حتى عودتها إلى المنزل.
أما اليوم فقد انتظرها على غير عادته وهذه تجلس برفقته تثرثر دون انقطاع تبكي تارة وتنتحب تارة وما بين تارة وأخرى كانت تضحك كأن بها بعض من مس منذ علمت برغبة والدها الحقير، حتى أتت الساعة التي يعلم أنها تستعد فيها إلى النزول وأمر مرافقته باللحاق بها قبل أن تغادر مكتبها، بينما هو ينتظر كعادته…




روابط الفصول

المقدمة .... اعلاه
الفصول 1، 2، 3، 4، 5، 6 .... بالأسفل

الفصل 7
الفصل الثامن الأخير والخاتمة



ندى تدى likes this.


التعديل الأخير تم بواسطة ebti ; 20-10-20 الساعة 03:08 PM
عبير نيسان غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 03-10-20, 06:30 PM   #2

عبير نيسان

كاتبة بمنتدى قصص من وحي الاعضاء


? العضوٌ??? » 423609
?  التسِجيلٌ » May 2018
? مشَارَ?اتْي » 174
?  نُقآطِيْ » عبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الأول

كانت قد انتهت لتوها من ترتيب أوراقها المبعثرة من حولها ووضعتهم في حقيبة الأوراق الخاصة بها، ثم همت بالنهوض عندما طُرق الباب عدة طرقات خفيفة، ودخلت المساعدة الخاصة بها على إثرها تستأذنها في دخول فتاة ترغب في مقابلتها على وجه السرعة، ثم أردفت بنبرة اعتذار:
_اعتذر سيدتي، فلولا حالتها الرثة واليأس الذي يقطر من وجهها لما سمحت لها بالدخول.
عادت انچي إلى مقعدها مرة أخرى وهي تشير لها أن تأذن للفتاة فهي لا تستطيع رفض طلب مقابلة إمرأة أبدًا أيًا كانت وأيًا كان وقت الزيارة.
رغم مدى الإرهاق التي كانت تشعر به لكنها لا تترك فتاة استجارت بها ولن يضرها إن انتظرت ساعة أو يزيد عن وقتها.
وضعت الحقيبة بجانبها واستعدت للقاء فتاة شابة كما أخبرتها المساعدة وكانت قد شبكت أصابع يديها أمامها على سطح المكتب متهيئة، لكنها سرعان ما حلتهم وقد صدمت حينما وجدت صبية صغيرة تبدو من مظهرها كأنها لا تتعدى الثالثة عشر من عمرها ترتدي ما يشبه الجلباب وتحجب شعرها بقطعة قماش بالية فقدت لونها الحقيقي من قِدمها كانت تدخل على استحياء كأنها تبتغي العودة مرى أخرة، مرتعدة فرائصها، تفرك يديها بقوة وهي تنظر إلى موطئ قدمها..كانت بهيئتها كأنها تقف أمام قاضي وليس محامية.
بصرت انْچي في ذعر خلف الصبية فلم تجد مرافق لها كعادة من هم في سنها فوقفت فجأة وسؤال واحد يسيطر على رأسها: كيف لفتاة في مثل سنها الصغيرة تأتي إليها بمفردها؟!
أيعقل أن تكون هي صاحبة..لا، غير ممكن، لا يعقل أن تكون هي صاحبة الدعوى!
تقدمت إليها في خطوات معدودة بداخلها يثور غضباً نافيًا ما توصلت إليه أفكارها خاصة وهيئتها المرتعدة تصف ما يرشدها إلى
ما استنبطت هي، توقفت الصبية متسمرة مكانها لا حول ولا بأس لها فوضعت انْچي يمينها على كتفها الأيسر وهي تسألها بمودة بالغة وصوت قد تحشرج لذكرى قديمة لا تندثر رغم مرور سنوات كانت قد جاهدت كي يخرج بصورته الطبيعية ولكنه لم يكن:
_ أهلاً بك! هل أتيت بمفردك؟! كيف أساعدك يا عزيزتي؟! أين والدك أو والدتك؟!
ألقت بأسئلتها دفعة واحدة في توتر وقلق وبداخلها تتضرع كي يكون ظنها في غير محله، أما الصبية فلم ترفع رأسها وإنما كانت تسقط دموعها على كفيها المضمومتين كقطع زجاج منثور يؤلم الناظرة إليها أكثر مما يؤلمها هي، كانت تومئ برأسها وتجاهد لإيجاد صوتها ولكنها لم تفلح، فقد تعالت شهقاتها المتتابعة مما دفع انْچي لاحتضانها في حنان وقوة لم تعهده في نفسها منذ سنوات، بعدما فاضت نفسها رحمة بها وحنانًا عليها.

مرت الدقائق ثقيلة عليهما كلٍ يفكر فيما يشغل باله، بينما كانت انچي تدفع باحتضانها للصبية عن عقلها ذكرى سوداء لا ترغب في استحضارها؛ كانت الصبية تلتمس السكون بين ذراعيها حتى تستعيد هدوءها، وفي حين هما على حالتهما هذه كان هو في انتظارهما بالأسفل يتآكله الفضول والترقب.
أشارت لها المحامية الشابة بالجلوس وجلست هي الأخرى في مقابلها قبل أن تسمعها تقول بصوت ملكوم:
_أنا جئتك بمفردي..إسمي چويرية في صفي التاسع..
هنا دب الرجيف بقلبها وهي تستنبط سبب ما أتى بها إليها فاغمضت عينيها مبتهلة وهي تستنشق مزيداً من الهواء وتزفرة على مهل كي تخفف من رجفة قلبها، لتكمل الفتاة بصوتها المتحشرج الباكي:
_ والدي يريد أن يزوجني برجل تم عقده الخامس ونيّف عليه، وقد منعني عن الذهاب إلى مدرستي اليوم عندما رفضت طلبه…
لم تنهي كلامها الذي قطعه بكاؤها مما دفع بالمحامية الشابة دفعًا على حين غرة من الفتاة الباكية إلى لجة الأحزان الدجية والتي تحاول الخروج منها منذ سنوات ولم تستطع، التقمتها هوة ظلام الذكريات وقد تداخلت الأضواء أمامها وشُبهت أمامها بأضواء مموهة، ثم استحال وجه الصبية أمامها إلى وجه ليس بغريب عنه، بل يشبهه كثيرًا في لمعة الحزن تلك التي تزينه وقلة الحيلة التي تنضح بها نظراتها صارخة فيمن حولها، واليأس الذي يقطر من نبرة صوتها..
هزت رأسها قليلًا وقد أغمضت عينيها مرة أخرى ولكن هذه المرة كي تزيح بها ذلك الخيال من أمام ناظريها ولكنها لم تستطع، فقد عاد يطالعها من جديد خيال فتاة تنظر إليها بيأس ووجه لم يجف دمعه بعد ولم يلتئم جرحه إلى الآن، فتاة كانت تزيد عن هذه بثلاثة أعوام فقط أو يزيد قليلاً أمرها والدها بالزواج من رجل دنا من عقده السابع.
بينما كانت الفتاة تعد نفسها للإلتحاق بالجامعة دفعها والدها إلى أحضان رجل يكبره هو نفسه في العمر فقط رغبة في اسقاط أحد الأحمال عن ظهره، واللوذ بنفسه وباقي عائلته بمنأى عن الفقر، وقد كانت هي تذكرة مرور إلى بر الأمان لأهلها؛ فكانت عقد لمنزل جديد ومبلغ من المال وُضع تحت تصرف الأب.
_أنا لا أريد العودة إليه مرة أخرى، أستطيع العيش بعيدا عنه.
كان هذا صوت الفتاة الذي أعادها إلى واقعها من رحلة شرودها كئيبة الأحداث وكانت هذه عبارتها التي ختمت بها حوارها، عدلت انچي من كمي سترتها وهي تقوم من كرسيها، ثم تنحنحت كي تلفظ تلك الغصة التي ألمت بحنجرتها لتقول بصوت خرجت نبرته ضعيفة:
_من أشار عليك بالمجيء إليّ؟!
رفعت الفتاة عينيها الحمراوين واللتان تكادان تنطقان حزنا وألما:
_أخي رمزي، فقد وقف معي ضد أبي لكنه لم يستمع إليه فأتيت إلى هنا معه..هو ينتظرني بالأسفل لكنه لا يريد أن يظهر في الصورة..أمى قد وافتها المنية وأنا صغيرة وهو لا يستطيع...
تعجبت انچي من تصرف الأخ البارد العقيم والذي يعيدها إلى تصرف شبيه به، كيف له لا يساعد أخته مادام قادر على الوقوف أمام والده، صرحت المحامية الشابة بما تفكر فيه جهراً قاطعة عليها استرسالها في الحديث فأجابتها الفتاة مدافعة عنه:
_لانه الأخ غير الشقيق، هو يرفض تزويجي بهذه الطريقة ولا يريد أن يزوجني إلا بعدما اكتفي من التعليم وأنا أريد متابعة تعليمي إلى أن أجد الشخص المناسب، لكن..
قاطعتها انچي تبرمًا وهي تغمض عينيها لبرهة وقد سمعت من أمر الفتاة ما أعادها عقد كامل من الزمن، حدث مماثل بأشخاص لم يختلفوا كثيرًا ورغبات لم تندثر مع ما اندثر تحت غبار السنوات وهو ما لم تشأ أن يحدث لها، وها قد حدث:
_ حسنا يا چويرية، سأساعدك بقدر ما استطيع لكني أريدك أن تعلمي أنني سأقوم بالتحدث مع والدك أولاً، وإذا لم ينصت سأتجه إلى ساحة القضاء...هل تستطيعين الوقوف أمامه والمطالبة بما هو حق له؟!
جحظت عينا الفتاة وهي تفكر فيما سمعته لتوها..هل تستطيع حقا؟! تذكرت الكهل الذي ينظر إليها برغبةٍ جعلتها تقِيء ما في معدتها ذلك اليوم، ثم تذكرت زميلاتها في مقاعد الدراسة والمستقبل الذي رسمته معهم.
توازت الذكرتان أمام ناظريها كخطين أحدهما مظلم والآخر مضيء فاختارت الطريق المضيء وقالت بصوت مرتفع واثق النبرة عاقد العزم والهمة:
_نعم أستطيع؛ مادمت بجواري وتستطيعين انقاذي من ذاك الطريق المظلم، أخي يقول أنكِ الأفضل في عملك ولا تتواني عن نصرة المظلومات والاقتصاص لهن.
نظرت إليها انچي بذهول يرافقه إعجاب وهي ترى لمعة التصميم بعينيها وتمنت لو استطاعت أن تجد في زمانها من يستطع تقديم يد العون لها وتوجيهها إلى طريق الصواب!
_ما حدث كان منذ أمد بعيد يا انچي لكنك ما زلت تشعرين به كأنه اليوم، يحيا بداخلك يا فتاة! فكيف السبيل إلى وأده حيا؟!
هكذا حدثت نفسها هسًا تسألها، لكن ما من مجيب.
_ أليس كذلك سيدتي؟!
كان هذا صوت چويرية الذي أعادها من شردوها مع نفسها، فابتسمت لها مطمئنة إياها وقد خمنت فحوى سؤالها ثم قالت:
_ حسنا لك ما تشائين يا چويرية أعطني اسم والدك والعنوان؟
أملتها الفتاة باسم والدها وعنوان منزلها ثم دونته انچي قبل أن تقول بابتسامة هادئة ونبرة ودودة:
_هيا بنا يا فتاة فأنا لم أتناول الطعام منذ الصباح وأنت تقولين أن أخيك ينتظرك بالأسفل!
•°•°•°•°•°•°•°•
أمام البناية التي يقبع فيها مكتبها وجدت سيارة قديمة قد اهترأ ظاهرها تنتظر على جانب الطريق وسائقها ينظر تجاههما بلهفة، سألت مرافقتها وقد استنبطت هوية السائق:
_أخبريه أنني أريد التحدث إليه!
التفتت چويرية إلى حيث تنظر المحامية الشابة وذهبت إليه ملبية طلبها، وبعد حوار قصير معه، كأنه لا يريد مقابلتها نزل ملبيًا على مضضٍ بدا جليًا في زفرته القوية ورفعة حاجبيه في غيظ، وتلك العصبية التي بدت في غلقه لباب سيارته.
انتظرت حتى اقترب منها في سيره ووقفت كعهدها مع بني جنسه خلف جدارها الصخري الذي شيدته لنفسها منذ ما يقرب السبع سنوات بقوة وثبات وملامح جامدة رفعت حاجبها الأيمن وسألته بفضول شديد:
_لماذا جئت بها إلى هنا وأنت أكثر من يعلم أنه لا حيلة للقضاء على الوليِّ خاصةً وإنْ كان والدها؟!
توقف هو بغتة وقد تهدلت كتفاه في قنوط لا يعلم أي مقصد تبتغيه من سؤالها ذاك، هل تعنفه على ما فعل؟! إذن فقد رفضت المساعدة، لكن..
أعادته من شروده نبرة صوتها القوية رغم أنها كانت مجروحة بعض الشئ وكأنها حزينة أو كانت تبكي، وقد شمخت برأسها كأنها تحذره أن يستهين بها:
_سألتك وأنتظرك تجيبني!
رماها هو بنظرة سريعة فاضت بخيبة الأمل
الذي شعر به وقد ران عليهما صمت مهيب في دعته كما هو رهيب في سكونه، ثم لوى شفتيه قليلاً وهو يفرك مؤخرة رأسه قبل أن يقول بهدوء مصطنع:
_خلتك قادرة على الوقوف أمام والدها!
انتفضت هي ووقفت قبالته متأهبة وهي تبتسم ساخرة وتجيبه كأنها تحدث نفسها قبله:
_ما خلق اللّه من شي‏ء على الأرض و إلّا و قد خلق له ما يغلبه... حتى أنه خلق رحمته تغلب غضبه، وأنت تنسى أنه والدها من أحق بها من غيره.
كانت تحدثه في هدوء وثبات لم يعهده في مثيلاتها وبطريقة غامضة وكأنها تفرض عليه الانتباه لها ولكل كلمة تتفوه بها، وقد نجحت وفرضت عليه أن ينظر إليها دون أن يحيد عن وجهها وللمرة الأولى له مع إمرأة، أخذ ينظر إلى عمق عينيها يريد أن يسبر أغوارها فيزلزل هدوئها هذا أو يقلقل تلك الراحة التي تتحدث بها ولكنها كانت قد نجحت في إقامة جدارها الصخري بتفوق لا يعلم إن كان مرده إلى طبيعة وظيفتها أم إلى طبيعتها كأنثى، أخذته أفكاره على غفلة من سلطانه على عقله إلى تفاصيلها وهي تتحدث ترفع يدها تلمس رقبتها خلف أذنها وكأنها تبتغي شد خصلة من شعرها...شعرها ترى ما لونه هو يرجح أنه أسود كلون خيل الدُّهم، طويل وناعم…
كانت تصرخ بكلمة ما وهو لم ينتبه لها أشار لأخته أن تسبقه إلى السيارة والتفت إليها ثم خطا خطوة واحدة تجاهها، ودنا منها حتى كاد يلامس طرف أنفها، ثم وبصوت خفيض النبرة يخلط ما بين الهزل والجد قال:
_ إذن فأنتِ لها، فكل ما يملكه يونس السعيد من قوة هو سلطته كأب على ابنته..انزعيها!
ألقى ما ألقى وتركها..تركها وذهب هكذا! دون تحية وداع أو كلمة تنهي الحديث، تركها دون أن يمدح فيها كعادة نسل آدم من الذكور، تركها كأنها..هباء منثور لا وجود لها، رغم أنها قرأت الإعجاب في عينيه وهي لم تخطئ في هكذا قراءة من قبل!
♡♡♡ ♡♡♡
فتح باب السيارة لأخته بعدما قبلها على جبينها قبلة خفيفة كأنه يطمئنها بوجوده لجوارها، ثم مال على أذنها من نافذة السيارة وأخبرها بشئ جعلها تضحك، كانت هي تقف مكانها تنظر إليه مشدوهة بما يفعل، أما هو فتركها واستقل سيارته دون أن يلتفت إليها.

استقلت هي الأخرى سيارتها وإنما في غيظ وكمد ليس مثله، ثم أسندت رأسها على عجلة القيادة وهي تشعر بروحها تسحب منها على حين غرة منها إلى تلك الهوة المظلمة التي ترفض أن يواريها ثرى النسيان فهمت بإيقاظ نفسها من غفلتها تلك، شهقت شهقة آلمتها أكثر منها أفرجت ضيق صدرها فزفرتها بقوة.
لم تستطع الابتعاد كثيراً عن هوة الماضي فقد ألقت الذكريات حجابًا على عقلها ورانت الذكرى عليه وذهبت خلفها كمغيبة فاقدة سلطتها على نفسها خاصة وهي ترى هذا الأخ واهتمامه بأخته، ذاك الاهتمام الذي ألهب غيرتها كما لم يحدث لها من قبل، وعلى غفلة من سلطانها تذكرت الليلة التي تسبق يوم زواجها أو بالأصح مأتمها..تلك الليلة حين أتاها أخيها الأكبر عاصم من ظنته كما اسمه سندها وأمانها في هذه الحياة معتصمها إذا صرخت باسمه لهرول إليها يحميها ويعصمها من أعين الجميع قبل آياديهم… يا لها من حمقاء حالمة كانت هي!
أول ما ابتدأ به الحوار معها كانت لطمة شديدة الوطأة تلقتها وجنتها بقوة ألهبت النار بداخلها ولفظت بحرارتها على وجنتيها وفي مقلتيها، كان يصرخ فيها بغضب وانفعال شديد لا تعلم لماذا؟ وهي كانت تصرخ بداخلها كلمة واحدة كانت تتردد بقوة راغبة في الهروب خارج قضبان شفتيها:وامعتصماه! لكنها أطبقت شفتيها بقوة وانتبهت إليه تطالعه بجمود وعينين كالزجاج جراء ما يلتمع بهما من عبرات حارقة، لم تسمع منه سوى بضعة كلمات:
_خمسة بنات...زواج وتعليم...إنها فرصة...هو تعهد بنا..كيف ترفضين…
كيف ترفضين؟ من بين كلماته كلها التصقت هاتين الكلمتين فقط بأذنيها وتردد صداها قويا بداخلها، كيف ترفضين...كيف ترفضين؟
انسكب دمع عينيها حينئذ وهي تسأل نفسها أهذا هو السند؟! يا لك من غبية أي سند هذا الذي يقذف بك وسط العاصفة وينأى بنفسه بعيدًا كي يسلم من بطشها!
كان يرغي ويزبد كثيرًا وهي لا تسمع من حديثه شئ فقط تنظر إليه وتبكي، لم تستطع حجز دموعها أكثر فبكت بكثرة تسأل نفسها في تعجب ثم ذهول واستنكار!
_أين السند؟!
كان عقلها وقتئذ قد أقام حجابًا بينها وبين حديث أخيها فصمت آذانها عنه وكممت ثغرها عن مبادلته الحديث، بينما هو فقد مسك كتفيها بيديه في قوة حتى انغرزت اصابعه في لحم كتفيها، تكاد تشعر بهم على عظامها، يهز فيها مرة تلو الأخرى مرددًا:
_استيقظي يا بلهاء...استيقظي ولا تولي ظهرك إلى طريق الأمان.
من هول ما سمعته منه ظنت أنها حبيسة لكابوس أسود فأغلقت عينيها ثم فتحتهما مرارًا وتكرارًا ولكنها كانت في كل مرة ترى نفسها كما هي، وصدى كلماته يرن في أرجاء الغرفة وكأن جدرانها تخبرها ألا تنسى وتؤكد عليها ما سمعته.
على إثر ما سمعته منه حثت خطاها إلى أمها سندها الحقيقي وسبب وجودها في هذه الحياة تبثها ألمها وقلة حيلتها تطلب منها العون، ركعت أمامها تقبل يديها في بكاء مرير تطلب منها المساعدة، كانت الأم تنقل نظرات جامدة بينها وبين أحدهم خلفها فالتفتت هي الأخرى لتجد أبيها يقف والغضب يندي من وجهه، وقد انتفخت أوداجه وأظلمت عينيه دنا منها ورفعها وهو يمسك بمؤخرة شعرها فصرخت ألما، مما دفعه للإمعان في شَده وإيلامها أكثر وأكثر:
_ستتزوجي هذه الليلة وفي الغد تكوني في بيت زوجك خادمة له في شيبته، هذا فقط…
إذا أردت الحياة!
قذفها بعيدًا فسقطت أرضًا وقد جرحت ركبتيها من الأرض الخشنة فصرخت رغبة في إيقاظ أمومة تلك المرأة التي تشاهد بجمود وصمت ولكنها ظلت على حالتها من الجمود كما هي، وكأنها فقدت النظر والسمع مع فقدانها لأمومتها.
دفنت وجهها أرضًا تسمعها أناتها وهي تردد في خفوت:
_هيهات، هيهات لأب فقد من الكلمة عزتها وكبريائها وأم فقدت من الكلمة حنانها ورحمتها!
•°•°•°•°•°•°•°•
رفعت رأسها عن عجلة القيادة وقد أعادها زمور السيارة القديمة من سفرة الذكريات الصدئة إلى الطريق مرة أخرى كان الألم برأسها قد اشتد فأحاطته بكفيها تضغط على جانبيه مرددة في رجاء:
_يا إلّٰهي! ألن يتوقف هذا الألم؟!
كانت الدموع قد بللت وجهها فمسحتها بقوة وأدارت سيارتها هي الأخرى ثم عادت إلى الخلف عامدة حتى اصطدمت بمقدمة سيارته، ثم أخرجت رأسها من نافذة سيارتها وألقت عليه نظرة اعتذار كاذبة وقالت زيادة في إذلاله:
_اعتذر رغم أنها لا تستحق!
قادت سيارتها بقوة وسرعة بعدما أرسلت له نظرة احتقار دعت بارئها أن يكون انتبه لها، كانت تنظر إليه في مرآة السيارة الأمامية وهي تهنئ نفسها:
_مرحى لكِ يا إمرأة! هكذا كُوني دائمًا كالخيل
ففيها عِزَّة لا يستطيع الإنسان أن يفهمها وإباء لن يستطيع بشري إدراكه فهي تحزن و لا تبوح، تتألم و لا تنكسر وعلى هذا يجب أن تكوني...
وعلى تذكر الخيل تردد في أذنها صدى كلمات قديمة كانت قد سمعتها من قبل:
_فرسة شريدة تبحث لها عن فارس يكون هو خيالها!
هكذا كان يصفها ذاك الماجن حينما كان يتغزل فيها خفية عن والده.
أخذت تضرب بقبضة يدها على عجلة القيادة مرددة لعقلها: توقف، توقف!
ثم توقفت بغتة وقد ثارت النار الخامدة بداخلها لدى تذكرها لتلك الأيام التى تأبى أن تتركها لترتاح، فاصطدمت مؤخرة سيارتها بالسيارة التي تسير خلفها لتتوقف هي الأخرى ويترجل سائقها الذي أجفل لرؤيتها عل هذه الحالة من الغضب والشرود، ذم شفتيه غضبًا ثم تمتم بكلمات كانت تتسرب من بين شفاهه غيظًا:
_بئس اليوم وبئس النصيحة التي تفوهت بها! اسمعي يا هذه انسي أن چويرية أتتك اليوم وابتعدي عن طريقي..أنا أولى بها ويكفيني منك ما حدث اليوم من اصطدام وخسائر.
كانت تنظر إليه في صمت كأنها تخشى أن تتحدث فيسكت هو، تعلقت عيناها بعينيه وشفتيه وهما يتحركان غضبًا ووجنتيه المشتعلتين و…
_وضح الأمر؟!
كانت كلمته الأخيرة وقبضته التي ضرب بها جانب السيارة ما أخرجها من صومعة تفكيرها الغريبة عليها، فأشارت إليه أنها لا تهتم بما قال دون أن تنبس ببنت شفة.
أما هو فكان يتوقع أن تجيبه بجفاء كما حدث منذ قليل فيغضب ويصارحها بما يعتقده فيها ولكنها ظلت صامته وظل هو مطرقًا ينتظر جواب ما قال، وخيل إليه انه رأى في عينيها الألم فخفق قلبه بشدة وشعر برغبة غريبة عليه في عناقها والتخفيف عنها بعض من هذا الألم.

تابعت طريقها تاركة إياه خلفها فارغاً فاه وهي على صمتها الذي التجأت إليه فتتداخلت الصور أمامها وتماوجت الظلال كأنها تسحبها سحبًا إلى ماضيها، فحدثت نفسها بصوت مسموع كي تسحبها من ماضيها الأسود عنوةً وتعود بها إلى واقع الأمان:
_ما بال هذه الليلة لا تترك من الماضي لحظة إلا وأعادتها..أفيقي يا انچي ولا تتركِ فرصة للماضي كي يسحقك بسواده الحالك، بل عليكِ الفوز بالحاضر والمستقبل...فُوزي بنفسك يا لؤلؤة واسلمي بنفسك من تحت دواليب الماضي!
ولكن كيف لها الهرب من نفسها ومن ذكرياتها الحالكة التي تذيقها من العلقم ما ليس لمخلوق بتذوق مثله طاقة؟!
فطفت على صدر ذاكرتها تلك الليلة التي أتاها فيها ابن زوجها من خلفها وهي تعد إبريق الشاي المسائي، كان ينظر إليها بشهوة ماجنة، وكانت هي تشعر به ليتحرك بداخلها شئ ما وكأنها اتصلت بمصدر كهربائي ما زلزل إحساسها، بداخلها شعرت وكأنها تنتظره بينما عقلها يجاهد كي يجد ثغرة يدخل لها بها ويوقظها من سكرة العاطفة المحرمة تلك.
أما هو ففكر في أن يلف يده حول عنقها ثم اشتدت رغبته في تطويقها بذراعه ليتردد قليلا قبل أن يقوم بما كان يفكر فيه منذ التقى بها، ثم أسند رأسه على كتفها وعندما لم ير منها ردة فعل ترفض بها ما يقوم به قبل وجنتها في خفة ورغم أنها كانت ترى في ذلك تعديا على عفافها لكن خمر الرغبة أسكرتها للحظة وقيدتها عن الإتيان بحركة رفض، ليتبع بما فكر به ويلف عنقها بيديه...وفجأة هوت يدها في غمر سكرتها على الإبريق الساخن فصرخت فزعة متألمة وأزاحته بعيدًا عنها وقد أيقظتها لسعة الإبريق وذكرتها بجحيم نار مستعرة لن تقو ولو لبرهة واحدة على احتماله، لتتركه حينها وتفر هاربة إلى غرفتها.
•°•°•°•°•
أسفل البناية التي تسكن فيها توقفت وقد أصدر دولاب سيارتها صريرًا كالصراخ يشبه ذاك الذي تبتغي إخراجه من داخلها، أسبلت جفونها بألم ثم فتحتهما وكان اليأس والألم يلوح من خلال جفونها الناعسة وأهدابها الطويلة التي تحمل على أطرافها بقايا دمع ظنت أنها سكبته منذ زمن ونضب، تمتمت في يأس وهي ترفع رأسها إلى السماء وتضم كفيها في ابتهال:
_ اللّٰهم اشغل قلبي بذكرك عن كل ذكر، ولساني بشكرك عن كل شكر، وجوارحي بطاعتك عن كل طاعة...اللهمَّ إن قدرت لي فراغا من عمل، فاجعله فراغ سلامة لا تدركني فيه تبعة، ولا تلحقني فيه سآمة، حتى ينصرف عني كتاب السيئات بصحيفة خالية من ذكر سيئاتي، و يتولى كتاب الحسنات عنّي مسرورة.
هكذا ردد لسانها رغبة في نسيان ذاك الماضي كما اعتادت منذ زمن، رغبت بدعائها ذاك أن توئِد ماضيها، لكن أنى للحي أن يُنسى أو يُوأد؟!
أغلقت سيارتها وسارت في طريقها إلى شقتها تتمتم لنفسها:
_ماضيك حي بين جنبات قلبك يخفق به ومعه يا حمقاء!
بينما هو أوقف السيارة على مسافة منها ينتظرها حتى تدخل إلى منزلها.
هي تابعت سيرها مع احساسها بأنه هناك من يتعقبها ليتابع هو طريقه باحساس بالرضا بعدما اطمأن عليها وأخته بجواره تنظره مشدوهة متعجبة.
•°•°•°•°•°•°•°•
بين جدران شقتها خلعت عنها ثوب الرجال الذي دأبت على اظهار نفسها به أمام الجميع وظهرت بثوبها الحقيقي أنثى لا حول لها تكالبت عليها الحياة فلم ترحمها وتركها ذويها بمفردها، فوقفت عارية وحيدة لا ستر لها ولا سند وحدها تحارب الحياة وتحاربها تارة تهزم وتارة تنتصر.
بعد دقائق كانت تجلس إلى مكتبها وأمامها كوبا من الشاي وشطيرة صغيرة، رشفت بضعة رشفات من الشاي المنكه المشروب الوحيد الذي يعيد لها صفاء ذهنها، قبل أن تفتح حاسوبها النقال كي تدرس القضية التي هي بصددها ففي العمل يكون بعض النسيان وبعض من الراحة والسلوى، لتلوح صورة الفتاة التي أتت إليها منذ قليل أمامها
..چويرية او انچي بصورة چويرية وتذهب خلفها من جديد فتطرق معها باب ذكرياتها!
{إياكم والشباب قيل وما الشباب يارسول الله قال النار تندلع والماء ينقطع}
هكذا كان يعلم أبيها بل ويعلم الجميع لكن لم يجِيرها أحد مما وقعت هي فيه، تركوها لكهل يشعل فيها بلمساته الجريئة رغبة لا يد لها فيها ويتركها هكذا مشتعلة دون أن يطفئها بما يحق لها، تركوها أمام ناظري شاب ينهش فيها بنظرات قاتلة ويخدش منها ستر الحياء الذي استترت به، بل وتركوها لزوجة ظنّت فيها أُمٍ بديلة عن أمها فكانت سببًا في سبّةٍ وسمت جبينها بوصمة لسنوات ظلت لها وبها سجينة تنتظر أن يفرج عنها ولكن هيهات لهذا العقل أن يستجيب، كأنه يناطحها ذكرى بذكرى ويُكرهها على العيش في ماضي لطالما أرادت أن تملك له ممحاة.
تساءلت بيأس وهي تضغط بكلتا يديها على جبينها وتزفر زفرة يائسة بائسة:
_كيف السبيل إلى خلاصك يا فتاة؟ هل يستمع إلي ذاك الوالد أم يرفض كما رفض سابقيه؟!
ضمت كفيها معًا وارتكزت بجبينها عليهما في قنوط وقد عاد إلى ذاكرتها ذكرى يوم وقفت أمام والدها تشكو له سوء تصرف زوجها الكهل معها فما كان منه إلا أن ضربها وصفعها صفعة قوية لم تختلف عن تلك التي تلقتها من زوجها، صفعة عاتبه عليها أخيها الأكبر سائلاً إياه اللطف معها وتوجيهها بالحسنى، كان الغضب قد بلغ لديها مبلغه فصرخت فيه باكية وصورتها وهي تركع امامه تعتصم به ماثلة أمام عينيها:
_لا تعتب غيرك بما تأتيه ولا تعاقب غيرك بذنب تُرخّص أنت لنفسك فيه.
وقف أخيها بجسد متيبس وقد أذهله ما سمعه منها فضم قبضتيه ودنا منها سائلًا في تعجب:
_ماذا تقولين؟!
لم تأل هي جهداً كي تبصق في وجهه بما يوخز صدرها ويصرخ بين جنباته منذ أشهر لتهدر دون توقف وهي تشير إلى غرفتها بقوة لم تك بها من قبل:
_هنا صفعتني...هنا أهنتني، بل هنا طالبتني بوأد كياني وبناء كيانكم...انا ابنة الثماني عشر ربيعًا أبني كيان صاحب الثلاث عقود..وهنا(قالتها وهي تشير إلى غرفة الضيوف) زيلت باسمك صك عبوديتي، بعتني ببضعة أوراق وبنيت على جسدي نفسك أنت وباقي أعمدة البيت، أربعة أعمدة قاموا على حسابي..أنا فقط.
يومها تعجبت من نفسها أكثر مما تعجبوا هم منها! كيف تحدثت؟ من أين أتت لها القوة؟! لماذا لم تبكي وهي تتحدث؟! أسئلة كثيرة ترددت في عقلها لكن ما من مجيب!
تركتهم على ذهولهم وخرجت تجر أذيال الخيبة والإنكسار كما عادتها منذ خلقت في هذا المنزل.
صوت صفير صغير على حاسوبها أعادها إلى ما كانت تفعل، كانت رسالة إعلانية عن إمرأة تعمل بالصحافة تقوم بعمل دراسة حول قضايا النساء، وقد استعانت بتلك القضايا في تأليف كتاب يحمل مختلف قصصهن وما ألم بهن فجأة ومضت الفكرة في رأسها..إمرأة، صحافية وتهتم بقضايا النساء!
إذن هي ملجأها في هذه القضية.

بكت وهي تتذكر نفسها حينما كانت تبحث عمن ينقذها، شردت في حالها وحال الچويرية الصغيرة التي تشبهها كثيراً وعلى الأوراق التي أمامها نقشت بأنامل مرتعشة، وأحشاء محترقة وأجفان ما زالت بمائها غرقة وعلى غير إدراك ووعي منها وعينيها تلمعان بفكرتها التي استحوذت على عقلها كي تنقذ شبيهتها:
((بين جنبات الظلام تسير الرويد،
حافية القدمين تمشي لا تخشى الأخاديد،
وعلى ضوء خافت تخشاه أن يبيد،
تنادي بداخلها ذاك الأمل الوليد.))
توقفت وقد جف دمعها فرفعت قلمها وطوت الورقة التي أمامها وبداخلها عقدت العزم على الإتصال بتلك الصحافية وبثها ما يشغل بالها وما يؤرق بالها من هواجس.
•°•°•°•°•°•°•
باتت انچي بليلة الهم والسهاد وقد سامرتها فيها الهموم بعدما جفا أجفانها الكرى، تتصلى بنار الصبر، وعلى جمر الغيظ كانت فيها تتقلب ومع انبلاچ أول ضوء للفجر قامت من فراشها الموحش والذي لم تكتحل فيه عيناها بالنوم، ثم أعدت لنفسها كوب كبير من القهوة الداكنة وهو الأمر الذي لا تفعله إلا في حالات نادرة كالتي حلت عليها هذه الليلة وقامت إلى حاسوبها النقال وكانت قد أرسلت رسالة بريدية إلى المعنية بتفكيرها طوال الليل(وداد الوعد) وها هي تتلقى جواب على طلبها وقد ذكرت المعنية برسالتها أنها ستحل عليها ضيفة في أقرب فرصة بعدما علمت منها مختصر لما ترجوه منها.
أقيمت صلاة الفجر فقامت هي الأخرى تؤدي فرضها قبل أن تخرج إلى عملها.
خلال ساعة واحدة كانت قد غيرت وجهتها وذهبت إلى تلك الـ(چويرية) لعلها بحديث بسيط مع والدها تستطيع إقناعه بالعدول عن فكرة زواجها تلك.

دخلت بسيارتها إلى شارع جانبي فاستقبلتها رائحة طعام الفطور التي حملتها إلى زمن ليس ببعيد عن ذاكرتها حينما كانت تجلس على مائدة منخفضة عليها ما لذ وطاب من الأطعمة البسيطة التي كانت تسد رمقها والتي رغم بساطتها كانت لها مكانتها المفضلة في معدتها.
توقفت السيارة على أحد جانبي الطريق ونزلت سائقتها تسير الهوينى بين أروقة الشارع تتقاذفها الروائح المختلفة من ذكرى إلى أخرى ومن ألم إلى آخر كأنها على موعد مع الماضي منذ استقبلت تلك الفتاة بالأمس، فهي ومنذ قابلتها تستعيد ماضيها بحذافيره وأدق تفاصيله تعيشه وكأنه لم يمض ولن ينسى!
_ليتك لم تقابليها!
هكذا همست لنفسها وهكذا أرادت ولكن هيهات لxxxxب الساعة أن تعود!
تناهى إلى سمعها صوت المذياع تدق ساعتة مشيرة إلى السابعة فأخذت تردد هي على غفلة من عقلها بضعة كلمات موجزة بأسماء البرامج التي كانت تستيقظ عليها في طفولتها، ثم كلمات الأغاني التي كانت تتردد يوميًا كل صباح دون كلل من مرددها ولا ملل من مستمعها، وختمت رحلتها بحكاية من حكايا الأطفال التي كانت تذاع في تمام الساعة الثامنة إلا ربع، مع كل كلمة ينطق بها المذياع كان ينطق بها لسانها أولاً بابتسامة بلهاء وحنين ليس لها حيلة معه ولا فيه، لكنها توقفت فجأة ومحت بقسوة تلك الابتسامة التي لا محل لها على شفتيها.

كان الجوع قد أثر فيها ويبدو أن قدمها كانت على وفاق مع معدتها فقادتها إلى أقرب عربة طعام لتقف وتطلب بضعة شطائر من الجبن، الباذنجان، الفول، الفلافل وتلك السلطة التي تعشقها عشقاً لا ينافسها فيه سوى الخضار المخلل، وانتظرت قليلاً حتى أعدها البائع وعندما همت بدفع النقود رفض البائع قائلاً وهو يشير خلفها:
_الحساب مدفوع.
التفتت حولها فبصرت بذاك الرجل الذي قابلته بالأمس وهو يبتسم إليها، أخذت لفة طعامها وذهبت إلى سيارتها تتناوله فهي وإن أرادت رفض بادرته اللطيفة إلا أن معدتها لم ترفض.
_ رجل في ريان شبابه واعتداله حسن الاقتبال، ما العيب فيه والذي يجعلك تشعرين بهذا النفور فور رؤيتك له؟!
هكذا سألت نفسها وهي تقضم من شطيرتها بنهم لم تعهده فيها من قبل، ليجيبها صوت بداخلها أتى من البعيد:
_عيبه أنه رجل، يبحث فيك عما يبحث غيره من أبناء جنسه…ولا يرى فيك سوى حواء بضعفها وهوانها يسحقها بطرف حذاؤه، ثم يلقي بها بعيداً...أم أنك تخشينه هو نفسه؟!
توقفت عن تناول طعامها وقد ذهبت رغبتها فيه بتذكر أفعال الرجال وذلك السؤال الذي تعلق بذهنها، فألقت ما تبقى منه بجوار نافذة لبيت قديم كي تأكله حيوانات الشارع الضالة لعلهم يجدوا فيه ما لم تجده من استفادة وذهبت إلى وجهتها الرئيسية بيت يونس السعيد، وعقلها يحدثها منتحباً:
_يا لك من تعسة!
•°•°•°•°•°•°•°•
وفي طريقها إلى المنزل رافقتها ذكرياتها التي حلت عليها كضيف ثقيل منذ الأمس لا تملك فرصة طرده أو رفض استضافته، وتردد في أذنها صوت تعرفه أتاها من بين حواشي زمانها:
_ إن مكرمة صنعتها إلى أحد من الناس إنما أكرمت بها نفسك، وزينت بها كتابك، فلا تطلب من غيرك شكر ما صنعت إلى نفسك.
هكذا كانت تخبرها معلمتها ومنتشلتها من المستنقع الذي زلت فيه قدمها وليفة سلام، المحامية والأم الحقيقية التي عرفتها حينما شكرتها على حسن صنيعها معها وقتذاك.
وقد نصحتها السيدة وليفة سلام أن يكون شكرها لها في صورة تقديم يد العون لغيرها ممن يحتجن إلى العون والمساندة إذا استطاعت إلى ذلك سبيلاً.
وها هي أتت إلى هنا كي تقوم بما أملته عليها معلمتها من نصح.
وصلت إلى بيت يونس السعيد وقد كان بابه مهترئا وحوائطه بها من الشقوق ما يجعلك ترى بعض مما يحويه المنزل ولا تستره جدرانه، فاجئها جرذ مهرول في جزع من أحد الشقوق واستندت على حائط المنزل البالي جزعة هي الأخرى مما لوث يديها بعفونته التي أحدثتها رطوبة قد سرت فيه منذ زمن ففتت قرميده.
أخرجت من جيب سترتها منديلا ورقي ونظفت ما بيدها وهي تسب وتلعن الفقر والحاجة التي تدفع بالبشر للسكن بسكنى لا تليق ولا بالحيوانات!
دقت على الباب بخفة خشية أن تسقطه دقاتها لو اشتدت أكثر، ولكن لم يجيبها أحد فدفعت الباب قليلاً لتصطدم بوجه أغبر، أحول وغير منتظم القسمات فارتدت خطوتين وقد جف حلقها ليصرخ فيها سائلاً:
_من أنتِ؟
توترت قليلاً جراء صراخه الذي صم آذانها وبحث بداخلها عن تلك الفتاة القوية التي هي عليها منذ سبع سنوات قبل أن تقول بصوت خفيض النبرة:
_أبحث عن يونس..أنا..انچي المرزوقي أتيته..
قاطعها وقد فرغ صبره:
_ ادخلي.
سارت خلفه وقد وجدت داخل المنزل أسوأ من خارجه، تذكرت منزلها القديم وكيف كان فهو وإن كان سئ فها هي قد وجدت الأسوأ، أجفلها صوت الرجل الخشن وهو يقول:
_ اجلسي هنا، وأخبريني ماذا تريدين مني؟!
أنهى عبارته وهو يبتسم من طرف شفتيه وينظر إليها كعادة بني جنسه، ضمت حقيبتها إليها تتحسس ما بداخلها من وسائلها الخاصة للدفاع عن نفسها قبل أن تزدري ريقها وتقول:
_أتيتك كي أحادثك عن ابنتك چويرية.
قاطعها متعجباً:
_چويرية! أنت معلمتها؟!


عبير نيسان غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-10-20, 06:32 PM   #3

عبير نيسان

كاتبة بمنتدى قصص من وحي الاعضاء


? العضوٌ??? » 423609
?  التسِجيلٌ » May 2018
? مشَارَ?اتْي » 174
?  نُقآطِيْ » عبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الثاني

لم تجبه وفضلت أن يأخذ عنها هذه الفكرة أفضل من معرفته بوظيفتها الحقيقية، وإنما قالت مباشرة دون مواربة عن مقصد مجيئها:
_جئتك كي أسألك أن تتركها وشأنها، اتركها كي تحيا ولا تتم زواجها بذاك..
قاطعها مرة أخرى بنبرة تأكيدية وهو يتمسك بأطراف واهية من حقيقته كأب أمام من ظنها معلمتها:
_أنا أفعل ذلك حقا!
لتسأله مستنكرة:
_كيف؟ ببيعها؟!
ثم تابعت برجاء يكاد يدني من التوسل:
_ أرجو ألا تفعلها..چويرية فتاة مازالت صغيرة وأمـ..
وقف يونس على حين غرة وقد آثاره كلماتها الأخيرة يصرخ فيها وقد زبد جانبي فمه:
_ما تدعيه أنتِ بيع أدعوه أنا أمان، أؤمنها من غدر زمان قاتل..
لتقاطعه هي هذه المرة وهي تتحسس محتويات حقيبتها مرة أخرى رغبة في جلب الإطمئنان إلى نفسها وهي تراه على حالة الغضب هذه:
_بل تغدر بها أنت!
لم يستجب لتعقيبها وكأنه لا يسمعها وتابع هو باستفسار، ثم إقرار بصواب ما يفعل:
_ألم تسمعي عما يحدث للفتيات في سنها و أصغر منها؟ بزواجها أحميها من ذئب جائع!
أتى سؤاله لها كاجابة يتخفى خلفها من سوء فعلته، اجابة لم تكن كافية لها وهي من احترقت بنفس النيران سابقاً، لتسأله هي الأخرى ذاهلة مستهجنة إجابته:
_وما الضير في أن يحدث لها ما حدث لغيرها وهي متزوجة؟! لم لا تكون أنت حمايتها؟ فبعد زواجها ستكون أيضاً فريسة لحيوان جائع!
لم يتفوه بكلمة لتتابع هي متسائلة:
_لماذا لا تحميها أنت؟! أهو ضعف فيك كأب أقرب قريب لها تبحث عن رجل غريب لستره؟!
ليقر مجيبا باطمئنان خاطر:
_تكون قد تزوجت.
كانت تعلم إجابته مسبقاً، لكن وقع الكلمات على أذنها هالها وأصابها بالصقيع بين حناياها، لتتابع هي من صميم ما حدث لها سابقًا:
_ الأهم لديك هو أن تكون قد تزوجتك، ثم يلقي بها زوجها كخرقة بالية لا نفع منها!
ليقر مرة أخرى مخبرًا إياها في بلادة حس وكأنه لا يتحدث عن قطعة منه:
_تكون قد نضجت و..
فقاطعته بنفور:
_وماذا؟! تكون لقمة سائغة في فم أحقر مخلوقات الله، أم تبحث عن عمل ثم تعمل وبداخلها ميت لا حياة فيه! تعيش جسد مهجورةٌ روحه!
هدر فيها بكلمات لا يرفع السمع لها حجابًا وألفاظ تنبو عنها الآذان فتمجها، وأنهى سيل سبابه بطردها وهو يختم لقاءه بها قائلاً:
_ماذا تعرفين أنتِ عن أب له من الإناث خمسة والصبيان ثلاثة؟!
خرجت من منزله بابتسامة ساخرة بعدما سمعت جملته الأخيرة وهي تجيبه في همس:
_أكثر مما تعرفه أنت..
عادت إلى سيارتها وهي تردد في غضب:
_لا تمارين حليمًا ولا سفيهًا؛ فإن الحليم يغلبك والسفيه يؤذيك، وها قد آذاك السفيه.
♥♥♥•°•♥♥♥
في طريق عودتها إلى مقر عملها استوقفتها سيارة غريبة عنها لكن قائدها لم يكن بغريب؛ فلم يكن هو غير ذاك الرمزي أخو چويرية وقد كان يفور غيظا جراء القائها للفافة الشطائر وكأنها ترفض ما يقدمه، بينما هي كانت تتلظى غضبًا وجاء استيقافه لها كقشة قسمت تماسكها لتصرخ فيه بكل ما أوتيت من حقد وغل وغضب:
_يا لكم من رجال أغبياء يتفنن في قهر النساء، ما بك يا ابن آدم حتى تقع أنت الآخر في طريقي...حل عني لا بارك الله فيكم!
نزل من سيارته وقد التهبت جمرة الغيظ في صدره جراء حديثها الهجومي معه ليقذف بها في وجهها:
_ما بالك يا إمرأة؟! منذ قابلتك ولم أجد منك سوى الصد واللعن!
التوت شفتيها في استهزاء قبل أن تسأله في نفور ونبرة تفوح منها السخرية:
_ومن أنت كي أشغل نفسي بك وبترهاتك؟ ابتعد عني!
مسكها من معصمها لتقذف به بعيدًا عنها و ترفع سبابتها في وجهه محذرة إياه بصوت جهوري ثابت النبرات:
_ ليس تحت أديم السماء ولا فوق أديم الأرض من استطاع الإقتراب مني ونفد بسلام...فابتعد يكن خيراً لك!
غالب غضبه وهو يغلبه وهكذا لثواني معدودة، ولكنه ذم شفتيه حتى استحالتا خيط رفيع كي يكظم غيظه وشغل نفسه بمراقبة عينيها، فمها،أنفها وشفتيها وهي تتحدث، ليته يستطيع لمس ما تقع عليه عينيه دون قيد أو جرم:
_ يقال بأن خلتان كثير من الناس فيهما مفتون الصحة و الفراغ فلا تك من المفتونين واشغل نفسك بعمل يفيدك.
ألقت ما ألقته عليه بغضب وصوت يكاد يدنو من الصراخ فيه لون يطغى عليه التحذير لا النصح، لا يعلم لماذا يشعر بما يشعر به وهي توبخه لا تمدحه؟! أولته ظهرها ليقف هو أمامها قاطعا عليها الطريق إلى سيارتها:
_من تظنين نفسك؟!
أحدث سؤاله شيئا ما بداخلها لكنها تغاضت عنه وتداركت نفسها مجيبة:
_ نفسي وأنا أكثر من يدركها ويدرك من تكون!
_مغرورة!
كلمة لفظ بها في سخط مخلوط بندم لمّا رأى الحزن يطل من جوهرتيها مرة أخرى:
_مغرورة! أنت تراه غرور وأنا أراه كرامة!
ابتسم لتهكمها بكلمته ثم أجابها بكلمات لا تخلو من النصح:
_شتان ما بين الغرور والكرامة…
قطع جملته واقترب منها مشيراً إليها بسبابته:
_الغرور قبيح يقبح كل جميل، أما الكرامة فمن العزة تعز كل ذليل.
نظرت إليه بكل ما أوتيت من غضب تجاهد نفسها ألا تفقد سيطرتها عليها وتمتمت بكلمات حادة النبرة:
_يكفيني اليوم ما قابلته من السفهاء..بك اكتملت القائمة.
ألقت ما ألقته وتركته يقف باحساس الندم يتآكله في حين استقلت هي سيارتها، دون أن تلتفت إليه فلا يرى ما يلتمع بعينيها آذنا بالسقوط.
قادت سيارتها وهي تأمر نفسها أن تهدأ، سحبت نفس عميق ملأت بها شغاف رئتيها ثم زفرته على مهل وهي تذكى نفسها قائلة:
_لقد استظهرت على جور الأيام بقوة لم تضعف منذ تملكت منك يا انچي، أبيةٍ أنتِ يا إبنة الأيام الداجنة فلا تضعفي الآن يا انچي...لا تضعفي!
أما هو فقد نظر في إثرها وهو على حاله من التسمر والذهول سأل نفسه متعجباً: وانت من جئت معاتبًا لها على رفض بادرتك فاسمعتك من حاد الكلمات ما شق صدرك وأوغل الألم في قلبك، وها هي لقد كانت الكلمة النهائية لها.
•°•°•°•°•°•°•°•
على أحد جانبي النيل ملاذها وقت هروبها ومبكاها وقت غضبها، بئر أسرارها وقت حاجتها للبوح بها خارج جنبات صدرها، سارت انچي وقد أخفت كفيها في جيبي معطفها ملتمسة من قماشه الجوخي الدفء تفكر في تساؤل عما اتهمها به ذاك الرمزي: هل هي حقا مغرورة، أم أنها الثقة التي جعلتها تنتفض لنفسها؟!
كانت تنظر في شرود عما حولها إلى صفحة النيل الهادئة، الباردة والتي أرسلت إليها قشعريرة أرعدت فرائصها، لتعود وتتذكر ذاك الرجل يونس السعيد وابنته المغلوبة على أمرها فسألته هامسة إليه:
_ ما الحيلة معها وقد حل القضاء؟!
يبدو من حديثه أنه أب ذو قلب ميت لن يرحم ابنته..أيعقل أن يحلها القانون؟! وماذا سأقدم أنا لهم من دفوع؟! هو وليّ ومسؤول!
أيعقل أن أقف أمام القاضي وأخبره أن الوليّ ليست له حق الولاية على ابنته رغم أنه ليس به جِنة؟! كيف...أخبرني كيف السبيل؟! دلني إلى سبيل إليه ألتجأ وعليه أرتكز!
هبت نسمة باردة من ناحيته وكأنه بها يصفعها بخفة على وجنتها، فمالت برأسها إلى الجانب الآخر متجنبة برودتها وبصرت حينها برجل يهرول خلف بائع الحلوى صائحًا فيه:
_انتظر! توقف..ابنتي تريد حلوى؟!
نزلت دموعها على كُره منها لتكفكفها بقوة ورفعت أناملها أمام ناظريها حاملة قطرات منها على نهايتها تسألها في غضب:
_ما بالي اليوم صرت من الضعف حد فقدان زمامك؟! فصرتِ تسقطين مدراراً...أثيبي إلى رشدك يا انچي فلا يضحك عليك زمان غادر ولا يسخر منك لضعفٍ فيك!
التفتت إلى النيل رفيقها ومرشدها تخبره في عزم متغاضية عن ذاك الضعف الذي دب بداخلها متشبثة بعباءة الفتاة القوية:
_نعم صدقت، إنه أب وعليه مسؤولية ملزم بها، لا أعلم كيف؟!
ولكن وكما يقال: شرب الماء من النبع هو الذي يروي؛ لذا سأذهب إليها فاستقي الأشياء من نبعها وأسألها كيف السبيل إلى إنقاذ تلك الفتاة؟
رنين هاتفها جعلها تتنحنح بقوة قبل أن تجيب بنبرة آمرة على مساعدتها الخاصة جاهدت هواها ألا يبدو في صوتها أثر لضعف أو بكاء:
_نعم...لا ليس اليوم، لدي موعد هام وعاجل!
جاءها صوت المساعدة وكأنها تتحدث إلى آخر ثم قالت لها:
_سيدتي هنا رجل يقول أنه يحتاجك في أمر هام بشأن ابنته!
طلبت منها أن تعطيه رقم هاتفها ويهاتفها هو في وقت لاحق حينما تنتهي من موعدها، ثم
أغلقت الهاتف وجهتها نبعها الحقيقي تستقي من عينه خير الجواب على ما يؤرقها!
•°•°•°•°•
لقد أوشكت شمس الضحى على انتصاف السماء بينما هو على حاله منذ سار خلفها، يجهل السر الذي جذبها إليه وجعلها ملكت عليه تفكيره هكذا منذ قابلها، ومنذ الأمس فقط زادت حالته سوءاً:
_من غض بصره أراح قلبه، وها أنت يا رمزي لم تغض بصرك ولم تكتفي بذلك وإنما تراقبها ومنذ قابلتها بالأمس لم تكف عن الابتعاد عنها وكأنه لا يكفيك من الهموم التي بك مايجعلك تبحث عن المزيد وتجر إلى قلبك التعب جراً!
هكذا كان يحدث نفسه ويهمس إليها وهو يسير خلفها منذ خرجت من حي زوج أمه وعلى حالتها المزرية من الغضب المستعر والوجه الباكي، لم يفارقها وكأنه يشعر بداخلها شيء ما يجعل اللهيب بعينيها متقدًا فتقذفه حممًا في وجهه.
كان خلفها وهي تتحدث إلى النيل وكم شعر بالغضب تصاحبه الغيرة وهي تتحدث إلى النيل وتخبره بعينيها ما يشتاق هو لسماعه، وحينما بصرت ذاك الرجل وهو ينادي بائع الحلوى كم تمنى لو كان هو واقترب منها يحدثها ولو بكلمة!
تحدث بخفوت متعجباً وهو يضم قبضته على عجلة القيادة بقوة:
_عجبا لأمرك يا امرأة! لم تشغل بالي امرأة غيرك من قبل حتى تأتي أنتِ هكذا ودون أن ترفعي إصبعًا واحدًا وتهددي استقرار عقلي وتذهبي بأمان قلبي أدراج الرياح!
سألها متعجبًا ولكن ما من إجابة؛ فالسائلة لا تشعر به ولم تسمع لسؤاله صدى..فلن تجيبه!
جحظت عيناه فجأة حينما نظرت إليه في مرآة سيارتها الجانبية وكأنها تشعر به وتستمع إليه حقًا!
ضج عقله تعجبًا من الأسئلة المتساقطة عليه كحبات مطر ودق قلبه بالوجيب متهللًا لالتقاء عينيه بعينيها، فوضع يده على قلبه وأغمض عينيه بقوة قبل أن يفتحهما وهو يردد:
_ رويدكما، رويدكما...أيا قلب اهدأ ويا عقل رفقًا بي وتمهل! ولا تخذلاني معها!
ليته منها يتقدم ومعها يتحدث، ومن وجهها يرتوي ومن نار كلماتها الحارقة يحترق!
هكذا كان يرجو على ذهول وتعجب منه لما ترجوه نفسه من ألم وعذاب!
وأمام بناية جميلة تحمل من آثار الماضي ما يخلب اللب ويأخذك ليأسرك في عهد ولى زمنه منذ ما ينيف عن الخمسة عقود، توقفت وتوقف هو ينظر إلى جمال المنظر الذي سقط عليه نظره، فمن أمامه ابداع رجل خط بيده نظام هندسي يحمل من الطراز اليوناني والروماني ما يدفع بالمتعة إلى عقلك ومن حوله ترى إبداع الخالق الذي جعل قلبه أسير ما يرى حتى انه التهى عن رؤيتها وهي تترجل من سيارتها.
أما هي فصعدت إلى أمها التي لم تعرف غيرها
وإن في أمها الحقيقية تبثها ما يزعزع ثباتها منذ الأمس، وبعد التحية والسؤال عن الأحوال والإطمئنان عليها سألتها وليفة بحنان أم ترى القلق في عيني طفلتها:
_ما الأمر يا ابنتي؟ هل أشرقت شمس اليوم على غير عادتها؟!
سحبت انچي شهيقًا قويا ثم زفرته على مهل متنهدة في يأس:
_ لا يا أمي بل كما عادتها منذ بسطت الأرض، لا جديد فيها..الأب يبحث دائما في جسد ابنته عن خزنة تجمع له الأموال وتبدل حاله من حال إلى حال والإبنة على كسرها وقلة حيلتها!
اعتدلت المرأة في جلستها وقد فطنت إلى سبب حالتها تلك من القلق والفزع، ثم أشارت إلى المطبخ قائلة:
_ حسنا، هيا انهضي وأعدي لنا كوبين من الشاي وائتنا ببعض الكيك الشهي لقد أعددته اليوم ولم أتناول منه شيء، هيا كي نتحدث ونحن نأكل..فأنا لم أتناول إفطاري بعد.
قامت انچي على مضض ووليفة تنظر لها في حزن وألم، متسائلة في همس:
_ ما بك يا فتاة؟ من أيقظ ذاك الحزن وأعاده إلى وجهك مرة أخرى؟ يا لك من تعيسة تبحث عن منفذ للسعادة فتفتح بابًا أوسع من التعاسة لن ينغلق!
دقائق قليلة مرت وعادت انچي تحمل ما طلبته منها وليفة وجلست بجوارها تناولها كوبها وهي تقول مخبرة إياها مباشرة دون مواربة:
_أريد إقامة دعوى على أب يُرغم ابنته ذات الخمسة عشر ربيعًا على الزواج برجل يكبرها بأكثر من أربعة عقود!
ألقت ما ألقته مرة واحدة متجنبة النظر إليها فتصنعت الانشغال بإعداد كوبها، بينما الأخرى كانت قد اتضحت أمامها الرؤية وانكشف ما كان يحيرها، رشفت من كوبها رشفة واحدة وهي تفكر على تمهل ثم أمالت منكبيها للأمام قليلاً وسألتها بمهنية صارفة النظر عن التشابه بين ما تقوله وما حدث لها منذ سنوات:
_أبه جِنة أو مرض يؤثر على قواه العقلية؟!
نفت انچي، فسألتها مرة أخرى:
_هل طلبت منك أمها..
قاطعتها انچي:
_ أمها متوفاة وليس لها سوى أخ من جهة الأم فقط، والدها متزوج مرتين غير أمها وله خمس بنات وثلاث أولاد وهي الكبرى.
أمعنت النظر في كوبها بينما السيدة وليفة تنظر إليها بعينين جاحظتين، لا تصدق مدى التشابه بينها وبين تلك الفتاة، حمحمت قليلاً تجلي صوتها قبل أن تقول:
_إذن ما هي دفوعك؟!
بسطت يدها تجيبها في قلة حيلة:
_ لا يوجد دفوع!
ابتسمت المرأة متهكمة وهمت بالحديث فتابعت انچي بسرعة قاطعة عليها الحديث وبكلمات متلاحقة:
_لكن يوجد حل واحد...أقيم الدعوة واتصل بجمعيات حقوق الطفل وبالصحافة...نعم، الصحافة هناك سيدة اسمها وداد وعد أو الوعد...لا أتذكر بالضبط، هي تهتم بهكذا قضايا..أنا..
رفعت وليفة يدها مقاطعة إياها فهدأت نبرتها رويدًا حتى توقفت عن الحديث، ثم أخبرتها وليفة في هدوء:
_إذن أعدي نفسك فما ستفعلينه سيؤتي بثماره العفنة عليك أنتِ فقط، فما أراه أنكِ تدافعين عن انچي المرزوقي وليس تلك الفتاة ما اسمها؟!
أجابتها انچي بصوت خفيض النبرة وقد خفضت بصرها وكأنها ضبطت بجرم ما:
_چويرية..چويرية يونس السعيد! عمرها خمسة عشر عاما فقط..صدقاً خمسة عشر فقط! ألا رفقا بهكذا طفلة؟!
انفرجت شفتا وليفة تهكمًا ورددت بحنكة وخبرة بعدما قرأت تعابير وجهها:
_چويرية هي انچي وانچي هي چويرية مع اختلاف طفيف، وهذا سيثير مياة راكدة منذ سبع سنوات وأنتِ أكثر من يعلم ما ستخرجه من شوائب الدهر...عزيزتي أخشى عليك مما أنت مُقدمة عليه.
سقطت دمعة كانت تحاول أن تخفيها ولكنها فشلت قبل أن تمحها بقوة وتقول:
_أنا لم أستطع نسيان ما حدث وان كنت أتناساه! لكنها تختلف هي.. هي ليست..أنا، أنا أقصد..
نظرت إليها وليفة بطرف عينها وسألتها بطريقة مباشرة كي تقطع عليها سبل المناورة والإخفاء وقد شعرت بشيء تخفيه قرأته في وجهها:
_ تخفين أمر آخر...ما هو؟!
ارتعشت انچي لا تدري ماذا تقول وقد توقفت أنفاسها في حلقها تبحث عما تجيبها به فلم تجد فتمتمت بنبرة واهنة:
_ لا شيء…
كلمة تفوهت بها هكذا لم تخرج من فمها حازمة قاطعة ولم تكمل ما بعدها، بينما هي تهرب من النظر إلى العجوز كانت العجوز تنظر إليها بإمعان وتحدثت في إقرار:
_يقولون أن في النوم أحيانا راحة للجسد، وفي الحديث راحة للروح أما السكوت فيكون فيه راحة للعقل أحياناً أخرى.. وما أراه بأن الحديث سيكون راحة لروحك الملتاعة فلا تجلديها بسوط الصمت وتحدثي.
تمتمت في شرود وكأنها في مكان آخر بصوت تكاد تكون نبرته مسموعة لها نفسها:
_لا أعلم..منذ رأيته وأنا أشعر بنفور غريب تجاهه..
•°•°•°•°•°•°•
لم تسمعها وليفة ولكنها شعرت بأن الأمر يختلف عما أخبرتها به لكن انچي بترت حديثها وكفت فمها عن الاسترسال في المزيد، فتركتها وليفة كي تحدث جارتها التي نادت باسمها وتعطي لها مساحة تستجمع فيها أفكارها، أما هي فظلت وحيدة بين اضطرابها ونارها المضطرمة بداخلها، اغمضت عينيها بقوة لعلها تطفيء تلك النار فلاحت من بين ظلماتها صورة فتاة مقيدة إلى السرير وقد جردت من ثيابها وبجانبها يقف رجل ما ينظر إليها برغبة تحت ناظري امرأة عجوز تنظر إلى قهرها وقلة حيلتها بتلذذ، زادت في غلق عينيها كي تدفع تلك الصورة، ولكنها فشلت حتى ضاق صدرها بما تراه ففتحهما مرة واحدة والدموع تتساقط تباعا منهما ساخنة حارقة دونما توقف.
وضعت وليفة يدها على كتفها وهي تقف خلفها تقول بعدما لفظت بالحوقلة:
_ تقفين على البر وتصطلين بنار الماضي فما بالك بالغوص فيه؟!
من بين شهقاتها وبكائها المرير أتاها صوتها الباكي يجيبها في تحشرج:
_لماذا لا يرحل الحزن عني؟ هل ابتسامتي نادرة لا وجود لها، أم أني سأعيش حياتي كما عشتها وأنا معهم؟
وضعت رأسها بين كفيها تدمدم في تحسر:
_لا أدري لِم أسأل نفسي رغم أني أعرف الإجابة على تساؤلاتي، لا أعلم لم لا تجف هذه الدموع الخرقاء..هذه..هذه الدموع تغضبني، تحرقني…لمَ لا تنتهي لعله يكون في نهايتها راحة لي؟!
سألتها وهي تمسح دموعها فأمنت وليفة على سؤالها بنبرة خبير عرك الحياة وتلظى بنيرانها:
_دموعنا هي حصاد همومنا يا عزيزتي بها تروى آهات جروحنا، لكن بالعفو والمغفرة تولد الفرحة من رحم الأحزان وتحلق بنا في سماء السعادة، فلا تكونين من الممترين.
مسحت انچي دموعها بقوة ونفور وكأنها منها تتبرأ، ثم قالت بوجه مكفهر عبوس:
_ بين برودة الشتاء وحرارة الصيف، وبين نضرة الربيع وصفرة الخريف تتقلب الحياة وتتبدل احوالها وأنا كما أنا..لماذا؟! أين الحياة مني؟! أيناها السعادة من طريقي؟! أجاهلة به أم معاقبةٍ لي؟!
وضعت وليفة يدها على رأسها محذرة:
_أرى في وجهك عدم الرضى وفي كلماتك نكران، عيناك غارقتان مملوءتان بالدموع ووجهك شاحب..لماذا يا ابنتي؟!
تمتمت انچي في يأس:
_ أصبح البكاء يرافقني والحزن كأنه جلدي الثاني فقدت كل معاني الحياة فلا تسأليني لماذا؟‍!
دقت عبارة انچي الأخيرة ناقوس الخطر بداخل وليفة التي لمست فيها بداية يأس يقود إلى حالة نفسية سيئة وهو ما سيقودها بالتبعية إلى تلك الحالة التي كانت عليها فور خروجها من السجن، أعملت عقلها بقوة كي تجد ما يساعدها في إخراجها من هذه الحالة ثم سألتها فجأة:
_أعطني رقم تلك السيدة وداد...وداد لا أعلم كنيتها، أعطنيه وأنا أتحدث معها.
نظرت إليها في تعجب وقد هالها ذاك الحماس الفجائي الذي بدا في حديثها فسألتها مذهولة بصوتها المتحشرج جراء بكائها:
_لماذا؟!
هزت كتفها قائلة مواربة:
_لا شئ فقط للتعارف، والتحدث حول زواج چويرية وكيفية إنقاذها...تقولين أنها سيدة كبيرة وصحافية وأنا محامية متقاعدة ففكرت أنه لا بأس بتوسيع دائرة المعارف.
اغتصبت من بين أحزانها ابتسامة باهتة وهي تقول:
_لكنها ليست بالمسنة..هي في عقدها الرابع أو نيفت عليه بقليل و..
قاطعتها وليفة مؤنبة:
_و ماذا يا فتاة؟ لا بارك الله في قولك! وهل أنا مسنة؟!
سعت إليها انچي على ركبتيها بسرعة وقبلت ظاهر يدها وهي تردد في أسف:
_لا بل لا بارك الله فيّ إذا اعتقدت هذا، أنتِ وإن كان بك حكمة وحنكة الشيبة فأنت بعنفوان وحيوية الشباب..أنتِ أكثر من خُلق من بني البشر من لهم من الطيبة والحنان ما إذا بُسط لطغى على سائر الخلق فأنا ومنذ عرفتك منك في فضل جزيل لن تفيه الكلمات حقه.
على غير عادتها بكت وليفة وهي تقبلها قبلة أودعت فيها حبها وحنانها وعاطفتها تجاه هذه الفتاة والتي منذ قابلتها شعرت بها كابنتها وليست موكلتها!
وضعت كفها على رأس صغيرتها ناصحة:
_اتركينا من الفضل والعرفان ذاك وحدثيني عما حدث لك جعلك هكذا!
♕♕♕•°•♕♕♕
بينما كانت انچي بين أحضان أمها تستقطب منه الأمان الذي تدفع به الخوف بداخلها كان رمزي مازال ينتظرها بالأسفل يمتع عينيه بمرأى المباني والحدائق الصغيرة وتلك الأشجار التي تحيط كل بناية وفي نفسه يتعهد أنه سيكون من أحد ساكني هذه المنطقة ولكن بعد زواجه منها.
مر الوقت عليه وهو ما زال ينتظرها فتأفف متبرمًا من الوقت الذي أهدره هكذا هباءًا وهو في أمس الحاجة له، وهو يقنع نفسه أنه ينتظرها كي يطمئن على أخته، لكن اتصال هاتفي أعاده إلى واقع يهرب منه منذ أمس..ليته أغلق هاتفه!
هكذا كان يتمنى ولكن أيناه الآن من هكذا أمنية؟!
فتح الاتصال على مضض سائلا في تأفف:
_ ما الأمر؟!
_…
_أخبره أنني أقوم بتجربتها الآن ولا تدخله إلى الورشة.
اغلق الهاتف وهو يرفع رأسه لأعلى زاجرًا:
_تبا للعمل و...بل تبا للنساء، منذ متى وأنت تكذب للاعتذار عن تأخرك على عمل ما يا رمزي؟!
أنزل رأسه فرآها أمامه تسير مطأطأة الرأس تخفى معظم وجهها خلف نظارة سوداء كبيرة فتمتم كمسحور أخذ لبه مجيبا على سؤاله لنفسه:
_منذ قابلتك يا منبع العجب العجاب!
رفعت رأسها تجاهه وهي تهم بركوب سيارتها فبصرت به ينظر تجاهها، اضطرب واضطرم وكأنه يقف على صفيح ساخن عاري القدمين.
سارع هو الآخر بركوب سيارته وقادها وهو يسترق النظر إليها بين حين وآخر.
♕♕♕•°•♕♕♕
بداخل غرفتها كانت چويرية تجلس وهي تحتضن دميتها القطنية الصغيرة التي أحضرها لها رمزي، تتهادى بخفة فراشة بين أحلام يقظتها وأمنيات مستقبلها فكانت ترسم لنفسها مستقبل خالي من الأنات والآهات، تنتقل بخفة بين سنوات عمرها القادمة حتى وصلت إلى چويرية أخرى لن تشبه أحد سوى تلك الآنچي مثلها قوية، ناجحة ولا تخشى أحد...
_استعدي يا فتاة فزوجك ينتظرك بالأسفل.
هكذا انتشلها والدها من بين أيادي الأماني ليرمي بها على أرض الواقع الصلدة، جحظت عيناها وتقلصت أصابعها على الدمية، وهي تستعيد كلمات والدها المقتضبة والتي تفوه بها بكل سخط وغضب ووجه مكفهر، ثم رفرفت أهدابها ذاهلة وهي تعيها مرة أخرى، ازدردت ريقها تزيح به ما بجوفها من غصة مريرة الطعم وهي تسأله:
_أي زوج؟!
انتظرت أن تراه مبتسماً ساخرًا ويخبرها أنها دعابة، ولكنه أجابها وبنبرة رائقة وخالية من أي سخرية:
_السيد راجح تم عقد قرانك عليه اليوم وينتظرك..
قاطعته نافية وصارخة في هيستيرية حتى كاد صراخها يصدع جدران الغرفة المهترئة:
_لا..لا، غير معقول..لا لم تفعلها، أخبرني أنك لم تفعلها يا أبي...لا..رمزي، أغثني...أبي قام ببيعي..
ركعت أمامه مقبلة يده في رجاء والدموع تغطي وجهها:
_أبي أنا لن أكلفك بشيء...سأعمل وأشارك في البيت..حتى أنني سأعمل مع خالتي وسأساعدها في تربية الأطفال، لكن أرجوك لا ترمي بي بين يدي عجوز لن يرحمني.
أزاحها بعيداً عنه وسار خطوات معدودة وهو يخبرها ساخرًا وقد انغلق سويدائه:
_وما الفرق؟! تخدمينا هنا فاخدميه هناك.
زحفت على ركبتيها وارتمت تحت قدميه ترجوه بنبرة يائسه:
_لكنها ستكون النهاية معه..أبي أرجوك لا تخط نهايتي بيدك!
لم تجد في وجهه علامة انفراجة واحدة تشير إلى لين قلبه تجاهها فأخذت تصرخ وتزبد تارة وتضرب على جيبها في هيستيرية تارة أخرى، ليلطمها والدها لطمة شديدة كتمت صوتها مرة واحدة على إثرها كما تركت أثر لا بأس به على وجنتها، ثم سحبها خلفه من يدها كشاة صغيرة يجرها صاحبها للنحر وباليد الأخرى كانت تقبض على دميتها.
سارت خلفه وهي على حالتها من الصدمة والذهول الذي أخرسها، بينما زوجة والدها من خلفهما تستعطفه وتترجاه أن يتركها لسنها الصغير ولحياتها التي لم تسير فيها مقدار خطوتين، كان هو يسير بوجه حازم عازم على تحقيق مبتغاه، وعندما زادت عليه زوجته في الرجاء نالتها منه دفعة قوية جعلت رأسها يصطدم بجانب العمود الخرساني ثم التفت إليها محذراً:
_اصمتي وإلا لن ينالك مني سوى الألم والندم على وقوفك أمامي، تريديني أن أتركها فتأتي تلك المرأة مرة أخرى بتهديداتها تلك..لا اليوم سيكون زواجها.
التفت إليها وانتبه إلى الدمية القطنية بيدها فانتزعها ملقيًا إياها أسفل قدمه، وتابع سيره إلى الخارج ثم توقف بغتة وقذف بها أمام رجل مسن وكأنها ليست منه وهو يقول بصوت بارد لا إحساس فيه:
_هاهي زوجتك، أعطني المال!
ناوله الرجل المال الذي اتفقا عليه وأخذها من يدها ليلقي بها داخل سيارته بينما أغلق أبيها الباب في وجهها على صوت صراخها:
_أنا أريد دميتي!
♕♕♕•°•♕♕♕
عادت إلى منزلها بخفة وارتياح بعد زيارتها القصيرة إلى السيدة وليفة، والتي أسقطت عن كاهلها ثقل لا بأس به كانت تحمله وحدها لترتمي على سريرها تتنعم بفراشه الوثير وبنومة حُرمت منها ليلة أمس.
أطبقت جفونها مبتسمة على ذكرى رؤيته وهو يتابعها من بعيد وكأنه لحركاتها وتنقلاتها مراقب!
لا تعلم لم تشعر بتلك القشعريرة التي تدب بجسدها وذاك الإضطراب الذي يشيع بين ضربات قلبها فيذيع القلق بين جنبات صدرها،
إن آخر ما ترغبه في حياتها هو الوقوع في الحب وهذه الرغبة تتطلب منها بذل ما أوتيت من قوة وبأس كي تحققها؛ فهي تعمل على تغذيتها بذكرياتها القديمة كي تظل نار الرفض مستعرة ولا تطفئها نسمة قبول أو ود وإن كانت ضعيفة واهنة.

ذهبت في سباتها على مرآه ولكنه لم يفارق أحلامها، ليزعجها رنين متواصل فمدت يدها كي تغلق المنبه الذي اكتشف أنه مغلق نظرت إلى هاتفها بعينين ناعستين فكان مظلم والرنين مازال متواصل استيقظت وقد انتبهت الى أنه رنين الباب.
كان غطاء الليل الدجي قد انكشف وافتر الفجر عن نواجذه البيضاء مبتسماً لمن استيقظ مبكراً، قامت مسرعة وهي تتساءل:
_من يأتي بهذا الوقت؟ أيعقل أن أكون غفوت كل هذا الوقت؟!
وقفت أمامه مشدوهة وهي تراه بهيئته وجسده أيعقل أن تكون مازالت نائمة؟! لا..كيف يكون وهي تشعر بأنفاسه اللاهثة الغاضبة تصطدم بوجهها:
_چويرية.. تزوجت!
كلمتان خفيفتان نطق بهما فكانتا ثقيلتا الوقع عليها، كانتا كطوق حديدي التف حول چيدها وأحكم القبض عليه حتى شعرت بالهواء ينحسر عن رئتيها وصدرها يكاد يصرخ طالبًا بمزيد من الانفراجة، والصور تموه من أمام ناظريها وكأنها تدور حول نفسها بسرعة حتى قدميها لم تشعر بهما وفجأة لامست الأرض بوجهها.
♕♕♕•°•♕♕♕
في منزل راجح كانت النار مشتعلة فالصغيرة رفضت أن يقترب منها العجوز وزوجته وبناته وقفن هن أيضا رافضين وجودها بينهم، وصلت انچي برفقة رمزي وكانت نار الرفض قد وصلت إلى ذروة اشتعالها ليقف هو صارخا:
_أين هي چويرية ؟ أريدها في الحال!
جاءه الرجل بوجه ملامحه مشتعلة وأوداجه مضطربة ووقف أمامه مجيبا إياه صراخه بصراخ:
_في غرفتها فالليلة ليلة زفافها و..
قاطعه رمزي صارخًا مرة أخرى وقد التهبت عينيه باحمرار الغضب الذي يجاهد نفسه كي يكظمه:
_لن يكون! ألا تخجل من نفسك رجل بعمر والدها أو يزيد وتتزوج منها؟!
_لم يحرم الله الزواج ما دام على سنته وسنة رسوله، أنا دفعت مالها لأبيها وقد وافق على زواجنا، كما وافقت هي.
كانت هذه إجابة الرجل التي تفوه بها بكل برودة حس وسكت ليتابع والدها الذي حضر على غفلة من الموجودين:
_ما شأنك بها يا رمزي؟!
احتد الصراع بينهما واحتدمت النار في ألحاظ الحاضرين والتي كانت هي من بينهم تشاهد وتبكي في صمت، وجاء صوت رمزي وهو يجيبه من بين ركام الماضي لتنهض انچي القابعة بداخلها وتقف بجوارها تسمع وترى في صمت، وتخرج چويرية من ملاذها مطمئنة لوجود أخيها:
_ شأن الأخ مع الأخت...هي مني وأنا لها، لن أتركها بين يديك ولا بين يدي هذا الكهل.
تمتمت انچي القابعة بحنايا انچي الواقفة ذاهلةً في أذنها همساً وهي تسمع الأخ غير الشقيق وهو يقف مدافعا باستماتة عن قطعة منه منادية شقيقها وشريكها في رحم أمها:
_يا عزي وعزوتي ما أوهن ظهري وأوهى ازري! أين أنت مني وقد كنت أنت سندي؟!
تحسرت انچي من كلمات مثيلتها المنبثقة منها تقف بجوارها تراقب، تطالع وتتابع في صمت.

ووقف يونس السعيد أمام أخ ابنته بينه وبينها وهو ينظر إليها وهمس في أذنها:
_إذا تركتي هذا المنزل يكن فيها نهايتي!
لتهمس هي الأخرى برجاء مستميت:
_أبي، أرجوك لا تجبرني على قبوله!
ليتابع الأب باستكانة:
_ليس نهايتي فقط وإنما نهاية عائلتك بأكملها.
صرخ رمزي فيه وهو يبعده عنها:
_لا تهمس في أذنها وتحدث كالرجال، چويرية ستأتين معي وها هي السيدة انچي ستقدم بلاغًا للنائب العام…
لوحة مليئة بالرجال يتصارعون فيما بينهم ونساء يقفن صامتين تصاعدت الأحداث وتصاعد معها الصراخ والصياح بينما هي تقف بين شقي رحى الماضي والحاضر.
قاطعت چويرية أخيها وهي تهز رأسها رفضًا، بينما انچي التي كانت تسير تجاهها فور سماعها لإسمها من بين شفاه رمزي توقفت فجأة في منتصف طريقها إليها وهي تقرأ الرفض في وجهها، لتخبرها بصوت كاد يخرج من حلقها وقد فطنت لمغزى هذه النظرة التي بادلتها إياها:
_أخبرتك أنك لن تستطيعي معي صبرًا، وها أنت تتركين الطريق في بدايته..ضعيفة انهزامية.
استدارت وهي تهم بتركهم وعلى وجهها علامات النفور والغضب الشديد، لتقف چويرية أمامها تنفي عنها ما وصمتها به:
_ بلى أستطيع ولكن ليس بأذيتهم، ما أرجوه الحياة ولكن ليس بموتهم، إن كنت ضعيفة فعذري لضعفي أنه أبي وإن كنت انهزامية
فعذري لمستقبل أخشى ظلمته!
أرادت انچي أن تقول لها أنها تصعب عليها الأمر، لو كانت تركتها وشأنها لو لم تقابلها لو لم…لكنها لم تتفوه بكلمة وتابعت طريقها ولكنها وقفت بعد عدة خطوات، وقفت دون أن تبعد نظرها عنها بل ظلت تحدق فيها وقد بلغت درجة حرارة دمها حد الغليان وهي ترى يدين مكبلتين أمامها وساقين مقيدتين تحت ناظري رجل ينهش فيها بعينيه قبل يديه.

أزاحت تلك الصورة التي أتتها من الماضي من أمام عينيها وهي تقول في إخبار وإقرار:
_ستندمين يا فتاة، ستندمين في وقت لن ينفع فيه الندم، فأنت اشتريت الرخيص بالغالي وفضلت حياة أبيك على حياتك!
أنهت حديثها وتابعت طريقها إلى منزلها برغبة في تحطيم ركام الماضي وإخراج نفسها من تحته وإنقاذها مما وضعت فيه.
♕♕♕•°•♕♕♕
أمام المدخل اصطدم كتفها بكتف أحدهم وهي على حالتها من الهياج الداخلي وثورة على ماضي يأبى بسواده أن يندحر، رفعت عينيها معتذرة له لتصطدم برؤيته أمامها ينظر إليها بوجه لا يقل صدمة عنها هو الآخر وهو يراها ماثلة أمامه بعد هذه السنوات.
_هيا يا اسماعيل لقد تأخرنا على أمي.
كان هذا صوت إمرأة أتت من خلفه يبدو من مظهرها أنها زوجته، وقد كانت وجهتهما بيت السيد راجح أيضاً.
شعرت بصدرها وكأنه انشق وتخرج منه روحها رويدًا يصاحبها ألم لم تقو حتى على تنفسه صراخًا!
انحسر عنها الهواء ففتحت ثغرها مطالبة بمزيد من الهواء وتحولت محاولتها إلى أنة ألم لم ترد لها أن تخرج، أما هو فقد تحرك من أمامها على كره منه دون أن يزيح بصره عنها وهي على حالتها من الذهول والصدمة ما جعلها ترف جفنها كي تتيقن أنه هو وليس مجرد كابوس أتاها من الماضي.

بذلت قصارى جهدها كي تدفع قدمها الرافضة للمسير دفعًا لم تستجب له قدمها الخائنة لعهدها معها، فتسمرت مكانها تفكر في ألم أنها ومنذ قابلت چويرية بالأمس تصدع الجدار القديم الذي أقامته بينها وبين الماضي والآن خرّ هذا الجدار صريعًا أمام واحد من أحد أهم كوابيسها التي تهرب منها دائما...إسماعيل!

رفعت قدمها بقوة كي تخطو فخانتها ليهوي جسدها على ذراعي رمزي التي استقبلته قبل أن يلامس الأرض مرة أخرى كما حدث منذ قليل في بيتها، احتضن رأسها بين ذراعيه ولسان حاله يخاطب وجهها الذي بين يديه للمرة الثانية في ليلة واحدة حسرة وألمًا:
_أيا روضة من رياض الحسن
رفقا بي وتمهلِ
يا من جاءتني كفلق الصبحِ
والحسن في وجهها متهللٍ
رفقا بي ولا تتعجلِ
يا من في ألحاظها
تضيء شمس الضحى بتوهجٍ
ألا رفقا بي يا حسناوية
يا من أسرتِ الليل في جدائلكِ
وجعلت الشهد رحيقا ينساب عذبًا من شفتيكِ
ألا رفقا بقلب يخطو أولى خطواته في دروب العشق والجوِي؟!


عبير نيسان غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-10-20, 06:33 PM   #4

عبير نيسان

كاتبة بمنتدى قصص من وحي الاعضاء


? العضوٌ??? » 423609
?  التسِجيلٌ » May 2018
? مشَارَ?اتْي » 174
?  نُقآطِيْ » عبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الثالث

في مكان مظلم تفوح منه رائحة كريهة أطياف تأتيها بغتة وتذهب كما أتت فجأة تجاهد كي تكبلها وتشل حركتها فتتمكن منها، إلا أنها كانت تصارعها بقوة وتجبر نفسها كي تخرج من ظلمتها هذه…
تهادت إلى أنفها روائح مختلفة يطغي عليها رائحة المطهر والأدوية ففتحت عينيها في تثاقل ودارت بأحداقها المرهقة في أرجاء المكان، كانت تشعر بألمٍ شديد في رأسها وذراعها اليمنى وكأنها مقيدة إلى شيء ما دفعها إلى شد ذراعها بكل ما أوتيت من قوة وهي تصرخ بذعر:
_ أين أنا؟! اتركوني..اتركوني..أين، لماذا أنا هنا؟!
هرع إليها رمزي يطمئنها محاولاً السيطرة على ثورتها:
_اهدئي إنه أنا رمزي، أنتِ في المشفى..
أخذت تصرخ وكأنها لم تسمعه وزادت من صراخها وعيناها الجاحظتين تجيلان في المكان بفزع وذعر شديد، وهو يحاول السيطرة على كتفيها كي لا تؤذي ذراعها الموصولة بالمغذي:
_اهدئي!
قالها صارخا فيها بقوة إلا أنها لم ترضخ وتابعت تدفعه بعيداً عنها وهي على حالتها من الفزع والخوف:
_ابتعد..لا تقربني! ابتعد لن يكون...لست رخيصة..ارحميني أنا كابنتك..فكي قيد…
كان الطبيب الذي حضر على صوت صراخها قد حقنها بإبرة مهدئ فذهبت في سبات عميق، وهي ما تزال في أحضانه كطفلة صغيرة يُسمعها أبيها من فيض كلماته المطمئنه ما يدفع إلى قلبها بالهدوء والأمان..حتى هدأت قليلاً.
انتهى الطبيب من عمله معها ثم استدار إلى رمزي الذي كان ما زال يحتضنها بقوة ناصحًا إياه:
_اتركها تستريح الآن فيبدو أنها تواجه وحش ماضي مازال مسيطر عليها!
على مضض تركها رمزي في تمهل وأراح رأسها على الوسادة وهو يسألها في صمت وكفه مازال يحتضن كفها:
_من تلك التي تطالبيها بالرحمة؟! ماذا حدث لك لتفقدي وعيك مرتين في ليلة واحدة..بل الأحرى أن أسألك من أنتِ ومن أي المحار أتيتني يا لؤلؤة؟!
أما هي فخاطبته روحها من بين سباتها الجبري:
_لا تسألني من أنا ولا ما حدث معي؟! اتركني لحالي وابتعد، إن رائحتك وأنت بهذا القرب مني تصيبني بطعنة كبيرة في حنايا صدري وقلبي..طعنة هي من الشدة والقوة ما ليس لي بها طاقة، ابتعد قبل أن أدمنك فيصير منك العذاب ومنك الراحة، ابتعد قبل أن يكون في بعدك الألم وفي قربك الأمل!
وكأنه سمعها إما بعقله أو قلبه أيا كان لكنه أجابها في رجاء وصمت:
_لا تنبذيني واقتربي لعله في القرب يكن بعض راحتك ودوائك، ففي الحب راحة لا يعلمها سوى من تملك الحب حناياه، وأنت...
تأوهت في نومها وكأنها لحبه رافضة فدنا منها وتمتم بهمس بجانب أذنها:
_أعلم أنه جنون ولكنني منذ قابلتك وأنا أشعر بالشوق تجاهك، لا أعلم متى تسرب هذا العشق إلى فؤادي لكنني أعلم أنني حملت أحزان العمر على أكتافي وسرت بها إليك فأسقطيها بنظرة منك...هكذا أشعر فلا تكوني قاسية وتنبذيني!
يد أحدهم على كتفه أعادته من غمرة شروده وقد كانت يد الطبيب الذي يطالبه بجلسة على انفراد!
♕♕♕•°•♕♕♕
_ظننت أنك نأيت بنفسك وعائلتك عن ذنب اقترفته منذ زمن، كنت ترى ابنتك كأنها درة مكنونة فخيبت رؤياك وصارت كقطعة زجاج مكسورة!
منذ علم بزواج ابنته السري وهو على حاله تلك، يفكر، يندم ويبكي زمانه وفعلته دماً، ليته ما تركها!
_معتصم!
كان هذا صوت زوجته تناديه على استحياء مخافة أن يصيبها غضبه الذي يجاهد نفسه في كتمانه، كررت النداء وأتبعته ناصحة بنبرتها الهادئة:
_لا تصمت هكذا يا معتصم، ابنتك تحتاج…
التفت إليها بعينين ملؤهما الألم والغضب ذاك الغضب الذي يكبته بكل قوته فصار ينخر هو في تلك القوة حتى أضعفها وصار الألم ملازما له، فصمتت هي تجنباً لوحش غضبه الذي يصارع قيوده كي يتحرر منها.
هو ورغم ذاك الهدوء الذي يتصنعه إلا أنه ومنذ حلت بهم المصيبة لا يريد أن يسمع باسم ابنته ولا يريد أن يحدثه أحد عما فعلت.

بينما هو في شروده كانت زوجته ما تزال على حالتها من الترقب، حتى شعرت بأنفاسه تهدأ وضربات قلبه المتصارعة مع عظام قفصه الصدري بدأت تنتظم، تابعت سائلة:
_هل وصلت إلى أخـ٠٠٠ أعني المحامية؟!
شعر بخطئها الذي تداركته بسرعة كطعنة أصابته في مقتل، أخته من حرم على نفسه التفوه باسمها وانتقل تحريمه ذاك إلى من حوله فأصبحوا بما فرض يؤمنون، وها هي زوجه تناديها بلقبها دون اسمها كغريبة عنهم.
انبسط جانب فمه ساخراً، ثم أجابها في برود دون أن ينظر إليها:
_لا، لكنها أوصت باعطائي رقم هاتفها الخاص.
التمعت عينا المرأة بالبشر وهمت بالحديث إلا أنه قطعه قائلاً:
_لم استطع، فما زال ذلك اليوم يقف أمامنا يا اقبال!
قامت هي من أمامه وقد علمت مقصده، هو فقط يحتاج للوقت كي يستجمع شجاعته وهي ليس لديها مزيد من الوقت، على باب الغرفة وقفت والتفتت إليه ملقية بآخر دلو لها:
_سأتركك لحالك كي تستجمع ما تبعثر يا معتصم ولكن تذكر هذه ابنتك وهي أختك ولن ترتضي بظلم ابنتك.
ظلم! تعلقت الكلمة بسمعه وأخذ هو يرددها ساخراً في همس لنفسه:
_أي ظلم هذا يا اقبال هي من ألقت بنفسها فيه...تزوجت بإرادتها وتقولين ظلم، فما بالك بمن تزوجت رغما عن ارادتها وقبلت أقدامي كي أنجدها وأنا ألقيت بها بكل عنجهية وتبلد مشاعر بين براثن الظلم نفسه ينهش فيها بكل قسوته!
♕♕♕•°•♕♕♕
أمام الطبيب جلس مطرق الرأس ويده دعامة لذقنه يتفكر في غريب أمرها، في نفسه مراجل تفور لا يعلم عنها محدثه شيئًا مستعيداً كلماتها التي كانت تصرخ بها:
"ابتعد..لا تقربني! ابتعد لن يكون...لست رخيصة..ارحميني أنا كابنتك"
تساءل في ذهول هاساً لنفسه: من تلك التي كنتِ تسأليها الرحمة؟!
انتشله صوت الطبيب الذي كان يتحدث وهو يسمع له:
_مؤكد تعرضت لصدمة ما وأكبر الظن أنه رجل...رجل ما عاملها بقسوة أو…
ترك عبارته معلقة دون خاتمة لها ولكن وجهه وتعابيره الساخطة أنبأته بالخاتمة، رفع أحد حاجبيه وقد كان تذكر ما تفوهت به ليقول بصوت أبح:
_لكنها ذكرت امرأة..قالت ارحميني!
لوى الطبيب شفتيه تبرمًا ونهض يقطع ما بدأه من حديث وهو يقول:
_ الحق يقال أنها أوقعتني في حيرة من أمري، فهي قوية جداً حتى أن جسدها لم يقبل الرضوخ للمهدىء منذ أول مرة… حسنا، فلننتظر حتى تستعيد وعيها ومن ثم يفحصها أخصائي نفسي، هو سيكون...
قطع حديثهما دخول الممرضة تعلن بانزعاج وضيق نفس:
_ لقد استيقظت زوجتك وهي تسب وتلعن فيمن أتى بها إلى هنا وتريد الخروج الآن.
أجابها الطبيب في ذهول وعدم تصديق:
_غير معقول لقد حقنتها بمهدئ لن تستيقظ منه إلا في الصباح.
هرول رمزي إلى غرفتها متعجباً مما تفعله تلك المرأة، وخلفه كان الطبيب الذي كان يتمتم بكلمات التعجب وعد التصديق!
♕♕♕•°•♕♕♕
ما بين صحو وغفو كانت تجلس هي بجواره في طريقهما إلى بيتها وفق ما أمرته به، فبعدما ثارت ثائرتها فور شعورها بثقل في رأسها ومداهمة الوسن لأجفانها جاهدت عقلها الواعي كي لا يستجب وقامت رغم الوهن الذي تسرب إلى كامل جسدها، وارغمت عقلها الذي استجاب للمهديء على الإستيقاظ مرة أخرى وجُل همها هو الخروج من المشفى، فمنذ تلك الليلة البعيدة بزمانها قريبة بأحداثها، وهي لا تشعر بالأمان سوى في بيتها...بيتها فقط!
تساءل رفيقها في قلق بعدما تناهى إلى سمعه أنّة ألم صدرت منها:
_أتشعرين بشيء؟ هل تريدين شيء ما؟!
أجابته بنبرة رخيمة والنعاس يندي من بين حروفها وشفتيها الثقيلتين:
_كل ما أريده هو المنزل، المنزل والصمت!
هكذا كان منها الأمر وعلى هذا كانت منه الاستجابة، رغم ما بداخله من أسئلة كثيرة تتزاحم في رأسه، كان يسترق النظرات إلى وجهها المجهد وجفنيها المطبقين على غير إرادة منها فكانت كامرأة..كما بالنساء من ضعف يجتذب الرجال، جميلة، هادئة ووديعة وقسمات وجه من الحسن ما جعلته يتساءل أين الرجال من حسنها ذاك؟!
مالت برأسها يميناً على كتفها وقد استجابت عينيها إلى ثقل جفونها فكان ينظر إليها في استمتاع وهو يراها كطفلة ترفض النوم ولكنه بسلطانه يجبرها فتستجيب لذاك السلطان رافضة، ليته يكون ذو سلطان عليها هو أيضاً، فتستجيب له لكن راغبة!
وصلا إلى المنزل وكانت هي قد ذهبت في نومها فحملها هو بين ذراعيه وساعدها في الدخول إليه، وقد كان المهديء قد تملك منها كليًا فلم تقو على فتح أجفانها المغلقة باحكام.

وضعها في سريرها باهتمام وعناية أب بابنته، فهمهمت وهي في سكرتها بكلمات غاضبة ولكنه ورغم قربه منها لم يستطع فهمها وعندما هم بالخروج سمعها تتمتم وطرف أناملها تلمس أنامله في وهن:
_لا تتركني!
تردد صدى الكلمة بأرجاء عقله وبواطن قلبه فلم يقو على رفضها، وهي المرة الأولى منذ
خاطبها التي تطلب منه شيء بهذه النبرة الناعمة الناعسة والتي داعبت أوتار قلبه، فقرر الإنتظار بالخارج لحين استيقاظها و الإطمئنان عليها..بهذه الكلمات خدع نفسه كي يعطيها المبرر للمكوث بجوارها والاستزادة برؤيتها أكثر قبل أن يبتعد عنها أو تبعده هي.
استدارا على جانبها الأيمن وتكورت على نفسها نائمة كجنين، وقد وقف بجوارها يطالع وجهها الغارق في النوم، عينيها المغلقة بأهدابها شديدتي السواد كما شعرها الأسود الذي تلمسه بيديه حين أتى لها منذ ساعات يخبرها بزواج چويرية ووقعت هي فاقدة الوعي تحت قدميه...
وجنتها الناعمة والدافئة بلونها الأحمر، أنفاسها التي تهادت إلى وجهه فشعر بوجهه يلتهب لملمسها، جسدها الذي حمله بين ذراعيه…
حين حملها وهي فاقدة للوعي وضعها على أقرب أريكة له، كانت هي تئن وتتمتم بأصوات غير مفهومة ورغم أنها كانت في عالمها الخاص شعر بها قريبة منه بل أشد قرباً من قلبه الساكن ضلوعه، دنا منها يحدثها بما يختلج صدره لكنها كانت تنبذه وتجبر نفسها أن تستيقظ من غفلتها…
عنف نفس على ما آل إليه تفكيره فقد شعر بنفسه ينجرف وراء نفس الشعور الذي ضرب قلبه بقوة، فأجبر ساقيه على التحرك والخروج بعيداً عنها كي لا يفقد ما تبقى له من قوة.
♕♕♕•°•♕♕♕
وفي غرفة المكتب الخاصة بها والتي كانت على مقربة من غرفة نومها جلس رمزي يرهف السمع لساكنة الغرفة بجواره لعلها تطلب شيء، وهو يفكر فيما آل إليه حاله من تبدل غريب ما بين ليلة وضحاها صار في بيتها بعدما كانت تعرض عنه كلما أقبل هو عليها أو حاول التقرب منها، فهمس لنفسه بعتاب وهو يشبك ذراعيه خلف رقبته:
_ ها قد صافحت كف العشق بنفسك يا شقي ولن يستقر بك مضجع منذ الآن، ولن يلتئم لك جرح…سيظل قلبك واجف سواء بقربها أو بعدها، راجف لكل كلمة تتفوه بها أو التفاته تمنحك إياها...يا لك من رجل تعس!
لقد صرت من القرب منها حد معرفة تفاصيل غرفة نومها، سريرها..حتى الجانب التي تحبذ النوم عليه، بل وأدق تفاصيل وجهها أيعقل أن يسكن لك جانب منذ الآن؟!

اخذه تفكيره إلى اخته الصغيرة تلك الحمقاء التي وافقت على بتر أجنحتها وأسر أحلامها لا يعلم إن كان خوفاً او رغبة في شراء رضى والدها، اشتعلت جذوة الغضب رويداً فور تذكره لما حدث، فنهض من مقعده يشغل نفسه بقراءة شيء ما حتى لا يظل حبيسا لأفكاره الحزينة تلك التي لن تقوده إلا لطريقين أولهما أسوأ من ثانيهما إما التهور أو الجنون، فوقف أمام مكتبتها الخاصة يقلب ما بين كتبها والتي كانت أغلبها خاصة بالقانون حتى اهتدى إلى رواية قديمة لعميد الأدب...إلى مكتبها عاد وعلى مقعدها جلس ثم فتح الغلاف ليلفت نظره رسمة غريبة كانت قد خطت بقلم أحمر لقيود تحيط يدين وقدمين والجسد غير موجود وقد زيلت بشيء ما قامت صاحبته بشطبه تحت عدة خطوط.
ابتسم تهكمًا وهو يردد:
_ وكأنها أرادت رسم شاة مذبوحة فلم تستطع!
استند بجانب رأسه قليلاً على باطن يده ليبدأ في قراءة الرواية قبل أن ينتبه إلى دفتر أُخفيَ غلافه داخل غلاف كتاب قديم معنون بعنوان عن القانون أيضًا، موجود على المكتب وبداخله قلم، أغلق الرواية بدون وعي وفتح الدفتر في فضول ليطالعه عنوان كبير وبخط واضح بالمداد الأحمر"مذكراتي"
فتح الصفحة الأولى رغم معرفته بسوء ما يفعل من جريرة التجسس، وقرأ يشبع الفضول الآدمي بداخله تجاه من سكنت قلبه يخفق بها ولها:
_لا أكتب اليوم لأنني أحب الكتابة ولا لأنني لا أريد أن أنسى ما حدث، بل أكتب اليوم لأن السيدة وليفة أخبرتني أن الكتابة ستساعدني على النسيان وها أنا أفعل كي أنسى.
اليوم حصلت على حكم البراءة من قضية الزنا المنسوبة إليّ والتي ساعدتني بها السيدة وليفة كما ساعدتني في الإلتحاق بكلية الحقوق، لكنني لم أشعر بالفرح ليس لأنه ليس أمراً سعيداً بل لأنني لم أجد من أشاركه فرحتي!
كان هذا ما خطته في الصفحة الأولى والذي وقع على عقله كالصقيع الذي يصيب الأطراف بالشلل التام، لم يستطع تصديق ما قرأته عينه كيف يعقل أن ملاك كهي تتهم بجريمة شنعاء كالزنا؟!
فانتقل إلى الصفحة التالية بسرعة ليقرأ:
_لقد نصحتني السيدة وليفة أن أذهب إلى عائلتي اليوم وابدأ انا بهذه الخطوة وقالت لي:
_هم وإن أخطئوا فعائلتك وإن رفضوك فهم عونك، ولن تجدي غيرهم سند لك في هذه الحياة.
وقد أرادت الذهاب معي لكنني رفضت ليس خوفا من لقائهم ولكن خوفا من لقائها هي بهم!
انا استجبت لطلبها رغبةً في إيجاد ذراعين حانيتين تمسح عني بضمتها ما ألحق بي من أذى!
وفي الصفحة المقابلة قرأ:
_اكتب اليوم بعد عودتي من زيارة عائلتي التي ولغرابة الأمر رفضتني، المضحك في الأمر أن أخي الكبير معتصم وقف أمامي وبكل فخر وكبرياء أعلن أنه لن يقبل بامرأة باعت نفسها بينهم، أخي الذي قام ببيعي وبنى نفسه وكون تجارته على أنقاضي يتغنى بشرف العائلة الذي لوثته انا!
أي نادرة تلك التي ألقاها أخي؟! ليتني استطعت الوقوف أمامه والصراخ في وجهه بما فعل، لكن أهل القرية نبذوني جميعهم وطردوني!
أراد رمزي أن يغلق الدفتر لكنه وجد أصابعه تقلب الورقة وفوجئ بنفسه يقرأ ما فيها:
_اليوم راودني ذاك الكابوس الذي لازمني في السجن مرة أخرى، لا أعلم لماذا لا ينساني؟!
أرى نفسي مقيدة إلى السرير وجسدي عاري وتلك المرأة تقف بجواري، لكنني لا أستطيع إنقاذ نفسي لا أعلم ماذا يحدث لي؟!
فأنا ورغم أنني أنقذت نفسي ذلك اليوم وموقنة أنه لا ينقصني شيء لكني أشعر أنني غير كاملة!
شعر رمزي برعشة تجتاح جسده، كان مشمئزاً للغاية وهو يقرأ وصفها للحالة التي كانت عليها، أردا أن يتوقف هنا لكنه تابع:
_ألبس من أخمص قدمي إلى منبت شعري وأحجبه عن أعين الجميع لكني أسير بينهم وأشعر بنفسي كأني عارية لا أجد ما يدثرني.
وإلى الصفحة المقابلة انتقل نظر رمزي بسرعة ليقرأ وهو يغالب فوران الغضب بداخله:
_السيدة وليفة أخبرتني اليوم بعدما اخبرتها عن ذاك الكابوس أن أكتب أحداث تلك الليلة بحذافيرها لعلني أخرجها من عقلي الباطن وينساني ذاك الكابوس أو يلتهي عني...سأكتب رغم ما أشعر به من ألم يمزق أحشائي لعله يكون الألم الأخير!
وبحروف مرتعشة وخط صعب القراءة وكأن صاحبته كانت ترتعش يدها وهي تكتب، قرأ هو وألم شديد يحز في معدته، لا بل أمعاءه كلها:
_في تلك الليلة طلبت مني شكرية أن أعد كوبين من الشاي وأجلس معها نشاهد التلفاز لحين عودة زوجنا، وأنا وافقت على الفور رغبة مني في الإقتراب منها وإذابة ما بيننا من جليد، وضعت الصينية أمامها فطلبت مني أن أعود وأعد بعض الشطائر لحين بدء الفيلم العربي.
جلست بجوارها أحتسي من الكوب على مهل دون أن أغفل عنها وهي تنظر إلي بغرابة ولكنني افترضت حسن النية وأنها تحاول أن تجد بابًا للحوار نقترب به من بعضنا، فجأة شعرت بثقل في رأسي وارتخاء لم أقو على إزاحته في جفوني وسقط كوب الشاي من يدي وكان هذا آخر ما سمعت قبل أن أعود وأشعر ببرودة شديدة جعلت القشعريرة تدب في أوصالي فهممت بضم ذراعي وساقي كي التمس بضمها الدفء ولكنني لم أستطع وكأنهم مقيدين!
بدأت أدفع عقلي للإستيقاظ وأحاول إرغام عيني على الإنفتاح حتى انفرج جفناي قليلاً ووجدتها تقف بجوار سريري وهي ترتدي رداء أحمر طغت حمرته على الغرفة بكاملها أردت الحديث إليها ولكن شفتي أبتا الانفراج وتناهى إلى أذني صوت أحدهم وكأنه يأتي من بعيد وهو يقول في رجاء:
_أرجوك لا أستطيع...اتركيني بمفردي معها وأنا…
التفت أنا بجهد كبير تجاه الصوت مذعورة لتلوح أمامي صورة مموهة لرجل يدني وجهه بالقرب مني وهو يتمتم بصوت كريه:
_جميلة، ليس بجمالها أحد خسارة ألا تجد من يقدرها ويوفيها حقها.
شعر رمزي بأنفاسه تكاد تقتله من كثرة ما حبسها، فزفر بقوة يهس لنفسه: هون عليك يارجل...هون، مؤكد لم يحدث لها شئ، ثم عاد وتابع القراءة:
_قرأت في صوته رغبة الرجل بامرأة وفي نظرته التي اصطدمت بها لدى اقترابه مني كانت كنظرة ذئب جائع يريد التهام فريسته لكنه يخشى الناظرين، لم اتبين ملامحه فكانت كلها كعين كبيرة سوداء تتداخل فيها دوائر أشد سواد وأنا أقبع بداخلها عارية لا يسترني شئ ومقيدة لم ينجدني أحد، ذاك الشعور دفعني أجاهد نفسي وضعفي كي انهض لأصطدم بأسوأ مما رأيت...جسدي عاري تماما لا يواريه ولا قطعة قماش خفيفة حتى، نعم كنت عارية كما رأيت بعينيه، التفت حولي.. أردت أن أصرخ.. أردت أن أوقظ نفسي من هذا الكابوس..كل يد مقيدة بمفردها وكل ساق مقيدة بعيدة عن الأخرى..فمي مغلق بلاصق..عيناي تؤلماني..وقلبي ينزف، نعم لا يدق بل ينزف، ينزف ألمًا لا بل فزعًا ورعبًا وجسدي كأنه يحترق فقد كانت حرارتي مرتفعة وكانت روحي كأنها تسحب مني ببطء شديد، لم أستطع سوى هز رأسي بقوة لعلني أخرج من هذا الكابوس فسمعت الرجل يقول بنبرة مترددة:
_ لا..لن افعلها!
فصرخت فيه شكرية أنه إن لم يفعلها ستفعلها هي بيدها…

_ابتعدا عني!
كان هذا صوت صراخها الذي شق سكون البيت وانتزعه جبراً من سفرة ذكرياتها التي دخلها سرًا، فقام إليها بساقين تكادان تحملانه وقلب يبكي حزنًا وألمًا على ما قرأه وعايشته تلك المرأة.
جلس بجوارها ينظر إليها متأملاً، جبينها متعرق وشفتيها ترتعشان بقوة نُقلت إلى كامل جسدها، كانت تهمهم بكلمات غير مفهومة فمد يده يلمس وجهها مطمئنًا إياها ليجده مرتفع الحرارة وكأنها تشكو من حمى، قام على عجل إلى المطبخ وأحضر إناء ماء بارد وقطعة قماش كي يذيب ببرودتها بعض الحرارة، سألها وهو يضع القطعة على جبينها:
_أليس لك أحد يجلس بجوارك يا إمرأة؟!
رفعت سبابتها بوهن وأعادتها مرة ثانية بينما هو رن هاتفه الخليوي، كانت چويرية من تتصل نظر إلى النائمة أمامه وإلى الهاتف وقد عاد إلى صدره الغضب الذي شعر به تجاه أخته التي نبذته وفضلت حياة أبيها على كلمته، فأغلق الإتصال لحين شعوره ببعض التحسن تجاهها.

مر بعض الوقت قبل أن يسمع رنين هاتفه مرة أخرى وقد كانت زوجة والد چويرية هذه المرة فأغلق هاتفه مرة أخرى ظنّا منه أنها تريد سؤاله عن چويرية، ثم وضع يده على رأس انچي وقد شعر بأنها بدأت تفقد بعض من الحرارة الزائدة فقرر أن يجلس بجوارها إلى حين شعورها بتحسن..وقد كان!
•°•°•°•°•°•°•
أراد أن يعود إلى دفترها وقراءة ما تبقى من حكايتها، لكنها تمسكت بيده وهي تتمتم بكلمات غير مفهومة ما جعله يجلس إليها.
كان يشعر بأنها تسمعه وتشعر به جوارها فسألها بفضول يتآكله منذ قرأ ما خطته بيدها في دفترها:
_ماذا حدث لكِ؟! أو بالأحرى من أنتِ يا امرأة من أين أتيت وأين هي عائلتك؟!
فمنذ بصرت بك عيناي وأنا لا أسلى عن فعل ولا عن كلمة منك! وبقدر ما اشتهي القرب منك بقدر ما ابتغي معرفة الكثير عنك!
تغضن وجهها ليبتسم هو ابتسامة خافتة وءدتها تذكره لكلمة الزنا التي كتبتها..أيعقل أن تكون صاحبة الوجه البريء هذا...زانية؟!
تردد في أذنه صدى صوت الخطيب بالمسجد حينما كان يقول في إحدى خطبه:
_"إذا زنت خادمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يعيرها."
فعاد إليه بعض رشده مدركاً انه ليس له عليها حق السؤال، ليحدثها بنبرة خافتة لم يخفى فيها رجاؤه على أمل أن ينفلت لسانها من عقاله وتتحدث:
_أن نبقى صامتين هو أشبه بالانتحار وهو ما يتصف به الشخص الجبان، ونحن وإن كنا لا نفوز في كل معركة نخوضها، ولكن يبقى لنا الاستفادة من كل معركة نخسرها...أنت خُضتِ معركتك وحدك لا يهم مقدار ما خسرتِ لكن أريدك أن تواجهي...
رمشت أهدابها بخفة وكأنها تنذره بقرب استيقاظها فسارع بالقول لعلمه باستماعها له:
_فذكرى الأيام التي عشتها ستبقى تخفق في قلبك إلى أن تنتزعيها بحديثك عنها ومواجهتها.
صوته تهادى إليها من بين ظلماتها فكان كالضوء المنبثق منها ليبددها، استيقظت هي في تثاقل وأخذت تتلفت حولها متسائلة في وهن وحلقٍ قد جف ريقه وتحشرجت نبرته:
_أين أنا؟!
أجابها في غبطة وقد سره سماع صوتها:
_في منزلك، مرحبا بعودتك!
التفتت إليه في ذعر وارتياب ليسألها:
_ ما بك؟!
•°•°•°•°•°•
في بعض الأحيان تغيب عنا بعض الكلمات، فلا نوفق في إيصال ما نقصده من مغزى لمن نتحدث إليه وهو ما حدث لرمزي حين كان يتحدث معها فور استيقاظها تلك الليلة قبل أن تطرده من بيتها.
_ها قد مر ما يزيد عن الأربعة ليالي بيومٍ، وأنت ما زلت على عهدك يا شقي، انسى أنك قابلتها يا تعس..انسى!
بتلك الكلمات تحدث عقله إلى قلبه يطلب منه النسيان ولكن هيهات لقلب تعلق بالعشق للمرة الأولى أن يستجب.
انصب على عمله مستثنيًا كل شيء آخر من حوله بل وكل إنسان آخر كي ينساها وينسى تلك اللحظة بل ونفسه حين سألها بنبرة تقطر عشقا وقلقًا عندما زين وجهها الذعر والارتياب بُعيد استيقاظها:
_ ما بك؟!
وحينما لم تجبه مد يده وقد أمسك بيدها التي كانت انتزعتها فور رؤيتها له في لين جعلها تشعر بيده كأنها تأسر أناملها بوهن ألهب ما بين ضلوعها، انتفضت هي وقد نفضت يده أيضًا بعيدًا وكأنها كرة لهب وقعت في قبضتها.
شعر وقتئذ أنها نفرت منه وكأنه الجذام وسألته حينها في ذهول يطغي على قسمات وجهها خوف يكاد يصل حد الذعر:
_كيف دخلت إلى هنا؟!
لم يجد ما يجيبها به فنهضت هي من مرقدها تتوعده وتصفه بأبشع ما قد يوصف به رجل، ليخرج هو عن صمته ويقول:
_وهل جزاء الإحسان النكران؟! أنا ساعدتك حين لم يكن لك حول ولا قوة، وأنت…
بتر عبارته حينما بصر بالخوف والذعر في وجهها، وقرأ في عينيها تساؤل عن ماهية وجوده معها بمفردها، وهو السؤال الذي لن يستطيع إجابتها عليه، كانت تنظر إلى ملابسها وترفع يدها إلى حجابها كأنها تطمئن نفسها أن كل شئ كما هو، ليرفع هو يده إلى وجهها ويزيل ما على جبينها من القماش الذي التصق به وألقى بها في الوعاء بجوارها ثم تركها وذهب.
عاد إلى واقعه وعمله وهو يطرق بقوة على قطعة الحديد ويسأل نفسه:
_ترى أي عيب فيك يدفعك لكي تبحث عن التعقيدات من ثقب إبرة؟!
_مرحبا!
كلمة تردد صداها القلق والخافت النبرة في صدره قبل أذنه فأذهبت عن عقله التركيز لتجعله يطرق بقوة على يده فيصرخ متأوهًا غير قادر على تحمل ما أحدثه بنفسه من ألم:
_بئس اليوم والذكرى!
ازدرد ريقه بسرعة كي يبتلع الآهة الثانية ثم التفت إليها ليصطدم بها تقف محتضنة حقيبتها إلى خصرها بقوة، همس لنفسه في تحشرج:
_مؤكد هذا حلم...هو حلم!
تقدمت انچي منه متجنبة النظر إلى عينيه وهي تتحدث في كلمات موجزة سريعة تجاهد بها كي تخفي حقيقة ما تشعر به تجاهه من حرج:
_جئتك لأنـ...أني لا أعلم..غيرك...وسيارة أمي قد تعطلت..وأنا لا أعلم غــ..ما هي أخبار چويرية...هل..
رفع يده في ابتسامة خافتة أنارت ظلمة عينيه وقد تأكد أنها موجودة فعلاً، وقف وهو ينظر إلى ارتباكها وترددها مفكراً: أن هذه المرأة هي مزيج مختلف في المعنى والمضمون تارة أجدها كنور الشمس الساطع بقوة وتارة أخرى تكن كغدير ماء صاف رقراق، تمتم في صوت حاني وكأنه يعزف بكلماته على أوتار قلبها:
_هششش اهدئي قليلاً، چويرية في خير...بفضل من الله...أنت كيف حالك؟!
نظرت إليه بعينين زائغتين وقلب يدق دقًا عنيفًا في صدرها تسمعه بأذنها في خشية أن يسمعه هو الآخر:
_بخير، أما السيارة و..
_ حسنا تفضلي وسآتي معك كي افحصها.
قاطعها سريعا كي ينعم معها بلحظات قريبة قبل أن تعود إلى انچي التي يعرفها، هو لا يعرف سبب حضورها إليه بالذات ولا يريد أن يعرف فيكفيه أنها معه ولجأت إليه.
نادى على مساعده أن يتولى العمل الذي كان بين يديه، ثم مسح يده في القماشة المعلقة في خصره قبل أن يسير خلفها في صمت بينما لسان حاله يقول له متعجبًا:
_ يا لشقاءَ أهل الأرض! يبتغون الحيرة والألم ويشعرون معها بالحياة وكأننا إلى الشقاء وعليه خلقنا.
سارت أمامه وهي تفكر: ها هي نفذت ما أمرتها به أمها وليفة وهي أكثر من يعلم بخطأ ما أقدمت عليه، ولكنها لا تستطيع رفض طلب ما لأمها، ليتها ما سردت عليها ما مر عليها من أحداث، لكانت الآن في مأمن من استنتاجاتها تلك غريبة الأطوار!

فكر رمزي وهو يستقر داخل السيارة أنه إذا استطاع التقرب منها وإزالة بقايا الألم العالقة بداخلها والكشف عن انچي الحقيقية، لاستطاع أن ينعم معها بحياة لطالما كان يبتغيها.
سار خلفها بسيارته التي كان يقودها في صمت، بينما هي بداخلها مجلس منعقد ما بين قلبها وعقلها وذكرياتها، تذكرت تلك الليلة حينما استيقظت ووجدته بجوارها، لقد كانت مغيبة عما حولها حقا، لكنها كانت تشعر بأنفاسه بالقرب منها صوته مازال يتردد في أذنها وفؤادها ما زال يشعر بوجوده قويا، فظنت أنه قام بما لم يستطع عليه غيره.
لم تتمالك نفسها إلا وهي تطرده من بيتها خاصة بعدما اطمأنت إلى أنه كان يساعدها فقط، تمنت لو استطاعت أن تعتذر له ولكن كيف؟!
هي تريد منه أن يبتعد عنها فبقربه منها يزداد قلقها وتشعر بنفسها ضعيفة أمامه، خاصة أنها اقتربت منه في ستة أيام كما لم تقترب من غيره خلال سنوات!
وها هي تخالف رغبتها في الإبتعاد وتقترب، بل وتقترب بأكثر مما يجب!
ابتسمت في تهكم وسخرية من حالها وهي تتابعه في المرآة الجانبية لسيارتها.
♕♕♕•°•♕♕♕
أوقفت سيارتها أمام البناية التي وقع هو في غرام تصميمها وموقعها تنتظر منه اللحاق بها وعندما طال بها الانتظار ولم يهبط، نظرت حولها ثم قالت له بصوت مرتفع :
_هنا منزل أمي وليفة، هي تريد مقابلتك كي تخبرك بما تريد من اصلاحات.
نزل خلفها في ذهول من أمره فمنذ أيام فقط كان يفكر في هذه المنطقة وساكن البناية التي دأبت هي على زيارته يومياً متمنيًا مقابلته بكل جارحة من جوارحه والتعرف عليه، وها هو يحقق أمنيته وسيقابلها، لكن كيف تكون أمها وهي كتبت في يومياتها أن عائلتها نبذتها؟!
_انتظر يا رمزي وكن من الصابرين تكن من الفائزين.
روض فضوله بتلك الكلمات ممنيًا قلبه بفرج قريب وكما يبتغي ويريد.
_لولا أن النسيان في طبعنا والغيب لا يعلمه إلا الله لما استطعنا الإستمرار في الحياة والعيش والتعايش معها ولكانت أحزاننا وهمومنا ودموعنا هي كل ما نعيش به وإليه في هذه الحياة…
هكذا ردد هو وهو يشغل نفسه بمراقبة الطريق متعمدًا أن يصلها صوته الهامس وتسمع لكلماته صدى بداخل فؤادها، فيشرق ظلمته باشراقة جديدة تبدد آلام الماضي.
تصنعت الإبتسام وهي تجاهد كي لا يفهمها ورددت في حرج لم يكن كما تريد:
_لا أفهم ماذا تعني؟!
أراد أن يقول لها:
_أنا أفهمك ولكنني أريدك أن تتحدثي وتخرجي ما بداخلك فليس كما يعتقد الكثير بأن الصمت هو ما يجلب الطمأنينة للعليل، ولكنه بعكس ذلك يكون مؤلماً بقدر ما هو مؤلم خروج الروح.
ولكنه سكت عن الكلام وهس لنفسه بما يريد لعلها تقرأه في عينيه، واكتفى بالابتسام فقط أما هي فقد تابعت سيرها متغاضية عما تحدثها به عينيه، متساءلة عن مدى معرفته بها، هل لديه علم بما حدق بالماضي؟ غير معقول فإن كان يعرف بماضيها لتحدث دون مواربة!
وفي طريقهم إلى الشقة كان يسير خلفها يجاهد نفسه كي لا ينظر إليها فيخسر ما تبقى له من صبر، يصعد الدرج خلفها لا يفصله عنها سوى بضعة سنتيمترات يدها تسند على سور الدرج ويده خلفها تكاد تلامسها، شذاها يأتيه مع نسمة الهواء التي تقابله ويداعب أنفه، عينيه خدعته فتسلطت على ظهرها لا على خطواته حتى كاد يتعثر لولا انه تدارك خطوته.
فور وصولهما إلى شقة السيدة وليفة جاءها اتصال هاتفي من رقم غير مسجل لديها، قامت بتقديم رمزي للسيدة ثم استأذنت في الإجابة على الإتصال.
جلست السيدة وليفة في استرخاء وهدوء شعر له رمزي بالغرابة، لم تحاول أن تتكلم فتحدث هو سائلاً:
_أخبرتني انچي أنك في حاجة لـ…
ابتسمت وليفة ساخرة وهي تقاطعه:
_غفر الله لك ما ستقوله قبل أن تقوله، من في حاجة لإصلاح هي سيارتي وليس أنا.
اشتعلت وجنتيه وقد شعر بالحرج من حديثها، لتتابع هي مختصرة عليه الطريق:
_أنا وليفة سلام الصباغ محامية متقاعدة، والأم الحامية لانچي…
خفضت من نبرة صوتها قبل أن تتابع:
_وقد طلبت منها احضارك لأمر هام يفوق إصلاح السيارة أهمية، لكن…
قطع حديثها دخول انچي وعلى وجهها أمارات التوتر والحرج وهي تعض شفتيها في قوة وتفرك مؤخرة عنقها وقد احمرت وجنتيها كأنها قامت بفعلة ما، فسألتها وليفة في تعجب من امرها:
_ما الأمر يا فتاة؟ تمهلي، تمهلي ورفقًا بشفتيك وإلا أكلتهما.
كان رمزي ينظر إليها في شغف بخاصة بعدما سمع كلمتي السيدة وليفة الأخيرتين فركز نظرته على شفتيها، في حين هي رفعت يمينها إلى جبينها وهي تتمتم في لغط غير مفهوم:
_هي أتت...لكنها تزوجت..ماذا أفعل..أين اسـ..
نهرتها وليفة وقد شعرت بأنها قامت بخطوة ما خاطئة أدت بها إلى هذه الحالة من عدم الاستقرار:
_على رسلك يا فتاة! اهدئي وأخبريني ماذا حدث؟! من أتت؟!
أخذت شهيقا عميقا قبل أن تغمض عينيها وتزفره على مهل ثم قالت في سرعة دون توقف:
_وداد الوعد وصلت إلى القاهرة وهي تخبرني أنها تنتظرني وچويرية تزوجت وأنا..
قاطعها رمزي سائلاً في تعجب مما سمعه:
_چويرية؟!


عبير نيسان غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-10-20, 06:34 PM   #5

عبير نيسان

كاتبة بمنتدى قصص من وحي الاعضاء


? العضوٌ??? » 423609
?  التسِجيلٌ » May 2018
? مشَارَ?اتْي » 174
?  نُقآطِيْ » عبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond repute
افتراضي

تم نشر الفصلين الثاني والثالث
كونوا مع الفصل الرابع غدا باذن الله


عبير نيسان غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 05-10-20, 06:02 PM   #6

عبير نيسان

كاتبة بمنتدى قصص من وحي الاعضاء


? العضوٌ??? » 423609
?  التسِجيلٌ » May 2018
? مشَارَ?اتْي » 174
?  نُقآطِيْ » عبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الرابع

قاطعها رمزي سائلاً في تعجب مما سمعه:
_چويرية؟!
لتتدخل وليفة في سرعة قاطعة عليها طريق إجابته وهي تفكر أن الفرصة ها سنحت لها كي تنفرد برمزي ولن تتركها تذهب سدى:
_ اذهبي أنت واستقبليها وأنا سأخبر رمزي بأمرها ومؤكد سيلتمس لك العذر..
حينما لمست وليفة الرفض في وجهها ونظرات عينيها الزائغة هنا وهناك وفركة يديها القلقة تابعت مؤنبة:
_هيا يا فتاة فليس من الأدب تركها تنتظر وهي التي أتت على طلبك.
انتظرت حتى استجابت لطلبها وتركتهما وإن على مضض كي تذهب إليها، ومن ثم التفتت إلى رمزي قاطعة عليه شروده وهي تخبره مباشرة دون ديباجة لحديثها بعدما زفرت ما يلهب صدرها في تنهيدة طويلة تقطر ألماً:
_هل تعلم أن چويرية ألهبت الهموم الخامدة منذ التقت بانچي؟!
كان مازال على ذهوله وتعجبه، هو يعلم في قرارة نفسه أن ما وراء استدعائه أمر هام ويتصل بصفة خاصة إما به أو بأخته أو بتلك الليلة التي قضاها بمنزل انچي وها قد سقطت أولى قطرات الغيث، ودخلت المرأة في الحديث مباشرة:
_أنا لم..
أراد أن يخبرها بما قام به طالما هي تحدثت معه بكل صدق، لكنها قاطعته لتقول:
_ لقد استسلمت انچي لأيدي الزمن منذ سنوات وسارت مع تياره فكانت تعيش حياتها وهي تخمد ماضيها بقوة لم تكن كافية كي تواجهه، حتى جاءتها چويرية بهم نكأ القلب وفُتحت جروحه القديمة فأبكت العين مرة أخرى لكن دون توقف هذه المرة، الألم كان أقوى والمواجهة باتت لازمة.
مرة أخرى أطلقت تنهيدة ألم كانت تحرق صدرها، فسألها رمزي بعدما اختلطت عليه الأمور:
_لا أفهم ما دخل چويرية فيما حدث لانچي؟!
صدمها أنه يحدثها عما حدث لانچي فقطبت ما بين عينيها ذاهلة ونظرت إلى عمق عينيه وهي تسأله مستفهمة:
_كيف علمت بما حدث لانچي؟!
سؤالها كان كسوط جلد داخله فعرى الرجل فيه عما اتصف به من نزاهة منذ سنوات، لم يستطع الهروب من نظراتها المسلطة عليه فتكلم دون مداهنة أو تملق وبداخله يفور خجلاً ويغلي ندمًا على ما بدر منه من سوء تصرف لاطلاعه على أمر لم يكن له الحق فيه:
_أنا...كنت، لم...قرأت يومياتها..
جهر بذنبه كله في كلمتين وهو مطرق الرأس يعف النظر اليها خجلاً، لتطلق وليفة تنهيدة العالمة بكل شيء وهي تنظر له بشكل جعله يتلعثم وهو يسترق إليها النظر متمتماً:
_أنا لم أكن أريد أن..أنا..
قاطعته وليفة في هدوء دون أن يبدو على وجهها أية بوادر غضب:
_ كنت أشعر بأن علاقتك بها ستتعدى حدود المساعدة القانونية بكثير، وها قد أصاب ظني، هل تعلم أنها لم تسمح لأحد بتعدي خط واحد من خطوطها الحمراء...أنت أول من تعدى تلك الخطوط، رمزي واسمح لي بمناداتك باسمك دون ألقاب..لقد تعلمت أن شوائب الدهر لا تدفع إلا بعزائم الصبر وقد أنهى الغم والكرب مخزون صبر انچي حتى باتت كقطعة قماش بالية، أخف لمسة ستمزقها وأضعف ضوء سيكشف عيوبها، إذا علمت بما سأقوله لك أو بما فعلته أنت ستكون نهايتها..
أراد أن يتحدث لكنها تابعت:
_لا تقاطعني واتركني أخبرك بما حدث لها ولك مطلق اليد في تحديد مكانتك منها...منذ عشر سنوات كانت انچي مازالت ابنة السابعة عشر فقط لوالدين لديهم من البنات أربعة غيرها ومن البنين ثلاثة وكما ترى تشبه چويرية في هذا كثيراً، كان والدها عامل بأجر يومي وكان في حاجة وعوز وقد كان من قصر اليد وقلة العقل ما دفع به للقذف بابنته تحت أقدام رجل تعدى عقده السابع لمجرد أنه سيدفع له ما يمكنه بالطفو على سطح المجتمع، وقفت انچي بكل ما أوتيت من قوة ولجأت إلى أخيها معتصم تستمد من ظهره القوة لكنه تركها دون سند أو غطاء وعينيه على المال، نعم فهو زوج وأب ولا يملك من المال ما يساعده فلم يجد سوى جسد أخته…
توقفت عن الحديث ثم رفعت كوب الماء بيد تهتز قليلاً ورشفت منه قليلاً تزيل ما بحلقومها من غصة، بينما هو كان يضم قبضتيه في غضب من ذاك الأخ ويسبقه الأب وما فعلوه معها، ثم تابعت بصوت قد تحشرج جراء ما تكتمه من غضب:
_ عاشت ما يدنو من العامين في كرب مع زوجها الذي لم يوفق في منحها من حقوقها شيء فهو لم يتزوجها من أجل ذلك وانما نكاية بزوجته التي كانت تعايره بكبر سنه، ومع ابنه الذي كان يشعل في جسدها نار أحاسيس لن يستطيع اطفائها سوى زوجها الذي مع كبر سنه لم يستطع، ومع نار غيرة دبت في صدر زوجته الأولى شكرية التي عاشت معه على الخير والشر وتركها ليتزوج فتاة أصغر من ابنها، فقط كي يغضبها…
كانت شكرية تدبر لها أمراً كي تخرجها من بيتها خاصة وهي ترى ما يدور بينها وبين ابنها وما يكنه لها الأخير من مشاعر محمومة
...فاستقدمت عامل من عمال الزراعة واتفقت معه على إقامة علاقة معها كي تصورها وترسل بالصور إلى زوجها فيقوم بتطليقها مقابل منحه فرصة للسفر خارج البلاد..وقد كاد أن يكون بعدما قامت هي بتخديرها وتقييد كل طرف من اطرافها الاربعة على حده إلى السرير بعدما جردتها من ملابسها..
كان الله في عونها تلك الليلة واصابت الرجل صدمة فور رؤيته لها عارية تماماً ومقيدة إلى السرير في سكون وجمال ألجمه على الإتيان بها، فصرخت فيه شكرية أن يأتيها وينفذ ما اتفقت عليه مما أقلق انچي من نومتها وحاولت أن تقوم فلم تستطع فأجبرت نفسها على الاستيقاظ لترى ما يحدث لها وتستطلع اسباب صراخ ضرتها، لتفاجئ بنفسها عارية ومقيدة تحت أنظار رجل وامرأة تقف بجوارها تنظر إليها بكل حقد وغل..

انطلقت أسراب الدموع وتفرقت على وجهها ولم تستطع المتابعة، بينما رمزي كان يجلس أمامها مأخوذاً وكأنه جسد لاروح فيه، بعينين جاحظتين كان ينظر إليها بامعان شديد، أراد أن يفهم ما يسمعه فأعادع مرة أخرى بداخله ولكن عقله فشل في استيعاب ما سمعته أذناه، مرت الدقائق ثقيلة عليهما قبل أن تهدأ وليفة وتتابع بكلمات مريرة:
_لم توفق الزوجة في إفساد عذرية امرأة زوجها، فأرادت أن تقوم بالأمر بنفسها إلا أن ذاك الفتى حاول جاهداً كي يفك وثاقها وأزال اللاصق عن فمها في محاولة أخيرة منه لانقاذها من براثن عجوز ساخطة، وجاء صراخ انچي ليفسد عليها الأمر وقد تجمع جيرانها على باب بيتها فأخذت هي تصرخ وتولول بكل خسة ووضاعة: رحماك يا الله، لقد ضبطهما الزانية والزاني..
ولك أن تتخيل ما حدث لها بعد ذلك، دخلت السجن بتهمة الزنا وكنت أنا المحامية الخاصة بها ولكنني لم أوفق في تبرئة طرفها قبل سبعة شهور، بعدما مرت هي بليالي ليست لها أسحار وظلمات لم تتخللها آية أنوار بين جدران سجن دخلته ظلمًا وبين إناس رأت فيهم عالم آخر من القسوة والفساد والشر، كانت ترى في تلك الأيام ضياء الدنيا ظلاماً وتتصور وكأن نور الشمس باهت لا بريق فيه فبين جدران السجن الأربعة لم تعرف سوى الضوء الخفيف والبرد ناهيك عن رائحة الرطوبة والعفن التي كانت ملازمة لها وخرجت منه انسانة أخرى بدلتها جدران السجن أو حري بي أن اقول وأدت فيها الفتاة البريئة وخلقت انسانة لم ترى سوى تحقيق العدل لبنات حواء حتى نسيت نفسها وفقدتها وسط زحام الحياة.
♕♕♕•°•♕♕♕
توقفت وليفة تلتقط أنفاسها وتوقفت الأرض من حوله عن الدوران وكأن حديثها أعماه وأصمه عما حوله، استأذنها في الذهاب بذهن شارد وعين زائغة فهو لم يستطع سماع المزيد.
تركها وهو يفكر فيما حدث لها وكيف واجهت ظلم وجور ثلاثة عشر شخصًا بمفردها، بل ظلم وجور مجتمع كامل بمفردها، تراقصت الكلمات أمام وجهه مرة أخرى وتعاقدت معاً لتخلق قصة فتاة وقعت بين براثن الوحوش وحدها دون سند أو حماية.
هبط درجات السلم ومع كل درجة كان يدوسها يتخيلها وهي تحت انظار ابن زوجها ذاك تتلظى بنيران رغبته المحرمة ورغبتها المحرومة منها، وفي الدرجة التالية توقف وهو يقبض بيده في قوة على سور الدرج الحديدي يتخيله ذاك الارعن وهو يقبض على رقبته مانعاً عنه الهواء، قابضاً روحه.
تابع هبوطه ليتذكر قول السيدة وليفة أنها قضت بين جدران السجن سبعة أشهر ترى كيف قضتهم؟!
ليجمع قبضته مرة أخرى ويضرب بها السور الحديدي مردداً في غضب:
_كيف؟!
شبت النار بين ضلوعه وأذابت بلهيبها القيود الجامدة التي أقامها حول عينيه ففضت على وجنتيه عقد من الدموع ظن أنه استطاع إحكام غلقه منذ زمن، وأتت حكايتها لتزلزل من تحته سكونه واستقراره الذي ظنه أرضه الصلبة الصلدة التي لن تتزحزح...سار على غير هوادة وكأن الطريق الذي سار به منذ ساعات صارت معالمه مبهمة له أو مموهة أمام ناظره، كان يبكي في صمت ويتألم في سكون ويسير دون تفكير!
سار لا يعلم إلى أين؟! لكنه أراد أن ينهل من الهواء البارد ما يزيح ببرودته الحزن الذي أطبق بسيطة صدره،لعل البرودة تطفئ ما به من غضب!
جلس بجانب سيارته متواريًا عن الأنظار فلا يبصر به أحد وهو يبكي ولا يشعر به أحد وهو حزين، غاضب ويائس...لا يعلم كيف يشعر بتلك المشاعر المختلفة معًا؟!
لكنه هكذا شعر وهو يعيد تلك الكلمات على مسامعه، ليته لم يفتح تلك اليوميات، بل وليته لم يأتي معها اليوم؟!
كيف استطاعت العيش تلك الأيام وهي وحيدة لا عائلة معها ولا سند بجانبها؟! وهو الرجل بكل قوته وقوامته لم يستطع سوى الفرار من بين براثن أمه وزوجها؛ فر بعيداً عنهما وشق لنفسه طريق الأمل من بين آلامه ولكنه ورغم ذلك لم يستطع نسيان ما فات عليه فكيف بها؟!
كيف استطاعت مواجهة الجميع؟! ومن أين لها قوتها التي واجهت به أعين وعقول مجتمع بأكمله؟!
أسئلة كثيرة تواترت على ذهنه دون هوادة تنخر في في عقله بقوة لكن دون إجابة.
ضوء سيارة انعكس في عينيه جعله يعود إلى رشده ويقف على قدميه، لكنه صدم حين وجدها هي وبصحبتها إمرأة لم يتبين هويتها، انتظر حتى مرت بجواره وأوقفت سياراتها بعيدا عنه، ثم ركب هو سيارته ورحل دون أن يلتفت إليها.
♡♡♡♡♡
أما في منزل السيدة وليفة فقد حلت ضيفة انچي ضيفة عليها، بأمر من السيدة نفسها ونصحتها الأخيرة بالعودة إلى منزلها كي تنل قسط من الراحة لم تحظى به منذ يومين، ولترجئ الحديث إلى الغد.
كانت انچي تريد التحدث مع وداد بكل صراحة وتعويضها بعدة أيام من الراحة والسياحة في أرجاء القاهرة، لكنها كانت من التعب والإرهاق ما جعلها تميل إلى اقتراح السيدة وإرجاء كل حديث إلى الغد.

جلست وليفة أمام ضيفتها، وقد اعدت لهما كوبين من الشاي المنكه، تنظر إليها في تعجب للحظات من طريقتها الغريبة والغير متوافقة في اختيار ألوان ملابسها والتي كانت غريبة هي الأخرى فقد كانت ترتدي سروال فضفاض وكنزة لا تمت للأناقة بصلة، قبل أن تقطع الصمت المحيط بهما وهي تقول بوجه متهلل وباش:
_ عسى المقام للمقيم يليق!
ناولتها كوبا من الشاي فأجابتها وداد بابتسامة ترحيبية:
_وأكثر مما يليق، الشكر موصول لك ولضيافتك لي!
أومأت وليفة شاكرة ثم أتبعت بقولها:
_لولا أن انچي أخبرتني أنك دكتورة وصحافية كبيرة لظننت أنك صحافية مبتدئة…
تغضنت ملامح وداد قليلاً، فاتبعت وليفة حديثها بسرعة:
_ولولا أنها ذكرت أنك في عقدك الرابع فقط لظننت أنك أكبر من ذلك، ألن تخبرني من أي بلد أنتِ؟!
لتبتهج ملامحها وتضحك عاليًا وهي تجيبها في مرح:
_سأعتبر نصف حديثك الأول مدح لفطنتي ورجاحة عقلي!
ضحكت وليفة هي الأخرى عاليًا مقاطعة إياها وكأنها لم تضحك من قبل او كأنها ترغب في ازالة ذاك الحزن المتأجج بصدرها، حتى شرقت فسعلت كثيرًا قبل أن تتناول كوب الماء وتنهله لكي تستطيع التحدث، ثم تابعت بنبرة صادقة:
_وهذا ما قصدته فلا اظنك تريني رجلاً يمتدح جمال وجهك ولا قدك المياس…حسنًا وما رأيك في الشق الثاني من الحديث ألن تخبريني بجنسيتك؟!
كررت سؤالها مرة أخرى ثم تناولت كوبها ورشفت منه رشفة وهي تنتظر إجابتها التي أتتها عجفاء لا تروي ولا تشبع:
_ تستطيعين أن تقولي عربية، الوطن كله وطني ومنبعي ابحث فقط عن قضية عامة نجدها في كل بلد واتناولها..
انتظرت لثواني قبل أن تسألتها باهتمام وقد احتضنت كوبها بيدها تلتمس من زجاجه بعض الدفء:
_نعود إلى سبب مجيئي هنا، فأنا كما أخبرتك في صدد إعداد كتاب جديد لي وأريد أن أنتهي منه وليس لدي ما يكفي من..
قاطعتها وليفة بنبرة جدية هذه المرة وقد قرأت في وجهها هي الأخرى الجدية :
_حينما حدثتك على وسيلة التواصل الاجتماعي تلك وأخبرتيني بما أنت بصدده علمت أنك ستكونين خير عون لي في علاج انچي، خاصة وأنكِ تعتمدين في اختيار بطلات قصصك على الأمل المنبثق من رحم الألم…
لم تقاطعها وداد وتركت لها دفة الحديث تديرها كما تشاء لعلها تجد في حديثها غاية لها، فابتسمت وليفة قائلة:
_يعجبني فيك حسن استماعك يا إمرأة، حسنا نعود لما سبق واخبرتك به..انچي امرأة لا تقل عن بطلات كتابك في شيء تعرضن له، فهي قد تعرضت إلى ظلم وقهر وذل، سرق من طفولتها وريعان شبابها ما جعلها لا تعرف سوى البكاء، ولم يكتفوا بذلك وإنما أدانوها ظلما وبهتانا..لكنها وبفضل من الله استطاعت أن تتخطى تلك العقبات ونجحت وإن ظاهريا بمساعدة مني وبفضل ربي أولاً في شق طريقها في الحياة، وأنا أريد منك أن تساعديها في خرق الجدار الذي أقامته بداخلها حول تلك الذكريات وإخراجها بعيدًا عن صدرها كي تستطيع التنفس والعيش بحرية..
ابتسمت وداد في حرج وهي تقاطعها:
_لكنك تعلمين أن ما بين الترائب لا يخرج إلا بموافقتنا على خروجه، هي لن تخرجه بكلمة مني، خاصة وأن دعوتها لي جاءت مشمولة بالچويرية وليست بها..
قاطعتها وليفة هي الأخرى متابعة حديثها بحنكة إمراة عركت الحياة بما فيها من ألم وابتهاج:
_لكل منا نقطة غليان وإن تختلف درجاتها من شخص إلى آخر ولكنها تصل إلى ذروتها إذا وجدت عامل ضغط ما يساعدها على ذلك، أنتِ ستكونين عامل الضغط على انچي خاصة أنها دعتك كما قلتِ من أجل قضية أثارت حفيظتها وأعادتها إلى زمان ومكان تجاهد كي تنساه، وتلك القضية لم يعد لها وجود بموافقة صاحبتها على الزواج...كما وأنها(انچي) قد لاح في أفقها من صدع جبل قلبها الجليدي وألقى فيها جذوة حب أرجو ألا تنطفيء.
أومأت وداد برأسها وهمت بإجابتها، إلا أن وليفة تابعت بوجه حزين شحب لونه لدى تذكرها ما حدث لها:
_لقد مد الهم إلى جسدها يد السقم منذ زمن، وصار الحزن في وتينها عاكف يضخه دما لا يسكب سوى الدمع على خديها سكبًا...وأنا أمام حزنها ذاك ضعيفة لا حيلة لي فقد صفرت يدي من كل شيء.
رفعت وداد كوبها ونهلت من سائله الأحمر اللون مرة واحدة تزيل أثر ما أحدثته كلماتها بها، ثم تنحنحت قليلاً قبل أن تقول في ابتسامة باهتة في محاولة منها للتخفيف عن بعض ما ألمَّ بها من حزن وألمٍ:
_يالله على مبلغ ابداعك سيدتي! أرى فيك شاعرة لا محامية!
وكف الدمع رويدًا رويدًا على وجنتيها وهي تتمتم في قهر والم:
_ أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك، لا يستهان بها عند قهرها!
تفكرت وداد في مرام حديثها: ناهيك عن الألم الذي تتحدث به والمرارة التي تسربت إلى وجدانها حثيثًا، فهي تشعر أنها لن تستفيد هي فقط من هكذا قصة وإنما ستُفيد أيضا؛
بأن تضع حدًا لمأساة امرأة ظنت أنها بمأساتها تلك وصلت حد النهاية من حياتها كأنثى، وهو الأمر الذي أسعد فيها الإنسانة قبل الصحافية.
اقتربت منها وداد قليلا وسألتها في اهتمام بالغ:
_ حسنا أريد أن أعلم ما حدث لها؟!
_ وإن كان الأمر يتعدى ما تقره واجباتي تجاهها، لكن لأخبرك الأمر معمماً…يقال العلم و المال يستران كل عيب، ويقال أيضا أن الجهل والفقر يكشفان كل عيب، فالفقر يكسر ضعاف النفوس والإرادة أمام صخرته، كما حدث معها..انچي التي عرى فقرها عائلتها أمامها كما عروها هي بين الناس، وجعلتهم شهوة المال عبيداً لها لو علموا أن عبد الشهوة أذل من عبد الرق لكانت نجت!
انچي تزوجت رجل يكبرها بأكثر من خمسة عقود واتهمتها زوجته بقضية زنا دخلت على إثرها السجن وهناك وجدت من طمعن في جسدها أكثر مما وجدت بالخارج…
•°•°•°•°•°•
دخلت عليه غرفته التي يلوذ بها منذ أيام ووقفت أمامه وقد فاض بها كيل الحزن والألم، تسأله في رجاء أم تقطعت بها السبل:
_معتصم، أرجوك تحدث إليها اطلبها في رقمها الخاص وأخبرها بما حدث لابنتك...اطلب مساعدتها!
رفع عينيه الحمراوين إليها ولوى فمه تهكماً يجيبها ببرودة:
_أتظنين أنها سترحب بي وتقول أهلاً أخي مرحبا يا من ألقيت بي في جهنم..سأساعدك!
هزت اقبال رأسها يأساً، فهو بكل حرف تفوه به معه كل الحق، لكنها أم تكاد ابنتها تفقد حياتها التي لم تبدأ بعد فعادت بإصرار وعينين لامعتين:
_سنجد طريقنا إلى غفرانها..فقط اتصل بها وبثها همك.
كان ينظر إليها في صمت يمعن التفكير في كل كلمة تفوهت بها وهو يفكر لعله حدث ما حدث كي يجد طريقه لغفرانها، لكن لماذا لم يطلبه منذ زمن، منذ علم ببراءتها؟!
لماذا لم يعيدها إلى منزل العائلة ويعلنها امام جيرانهم انها اخته بريئة، نقية وبيضاء الطرف كما كانت ولم يستطع أحد تدنيسها؟!
•°•°•°•°•°•°•
عادت انچي إلى منزلها يلازمها شعور بالخواء والفقد وكأنها كانت في وداع لرفيق أو حبيب، لا تعلم سبب ذلك الشعور الذي احتل عليها كيانها منذ قابلت ذاك الرمزي، هي تشعر تجاهه بأمر ما، أمر تخشى أن يحتل كيانها فتصبح له أسيرة لا حول لها معه ولا قوة لها أمامه.
لقد حزنت فور عودتها إلى بيت أمها ولم تجده ينتظرها، وهذا ما أشعل الغضب بداخلها.
جلست إلى مكتبها وفتحت يومياتها تقرأ ما خطته يدها كي تطعم النار بداخلها بذل وقهر سنوات مضت فلا تنسى ولا تسلى عما حل بها، لكنها وللمرة الأولى لم تستطع قراءة شيء بل وشعرت وكأنها تشتم رائحة عطره بين الصفحات، كأنها تذكرها بأنه حان الوقت لتفتح قلبها لإحساس جديد.
تنعمت بتلك الرائحة التي تدغدغ أنفها وتطرب قلبها وذهبت معها في حلم جميل تتقلب فيه بين ذراعيه و...
أغلقت مفكرتها في غضب وقد أغمضت عينيها بألم يسأل لسانها قلبها في رجاء يائس:
_لم الآن؟! أأنت بقادر عليها الآن وبعد عقد من الزمن؟! ألم تك براضٍ طوال تلك السنوات؟!
أجابها عقلها بدلاً عن قلبها في سخرية من أمرها وأمر قلبها:
_الرضا يكن اكتفاء بالموجود مع ترك الشوق للمفقود..وها أنت تشتاق للمفقود، إذن فأنت لست براضٍ!
أرهقها الفكر حتى كادت تصرخ عالياً تفرغ ما بصدرها من ضيق، لكنها قامت إلى سريرها بكتفين متهدلتين وكأنهما محملتين بأطنان من الصخر وساقين تكادان تحملانها، تلتمس من فراشها راحة لجسدها طالما لن يجدها عقلها، إلا أن اتصال هاتفي من رقم غير مسجل لديها قطع عليها راحتها، فتحت الإتصال سائلة بصوت مجهد تعب:
_مرحبا؟!
_الأستاذة انچي المرزوقي؟!
شعرت وكأنها سمعت ذاك الصوت من قبل فأجابت في تعجب حذر وقد استعادت بعض من رباطة الجأش:
_ نعم أنا هي!
_أنا أخوك معتصم...
ثلاث كلمات نطق بهم في تردد ويأس شعرت بهم وكأنها تتذوقهم علقما لا تسمع بهم، تراقصت أمام عينيها صورتها وهي تترجى شكرية إمرأة زوجها أن تخبرهم بالحقيقة وتذكرت يوم ارتمت تحت قدمه حتى كادت تقبل حذاؤه تسأله العون مما ألقيت فيه ولم تجد منه سوى دعسة قدمه على وجهها وهو ينعتها بأبشع النعوت، أحجمت عن الإجابة فتابع الطالب في رجاء:
_أرجوك لا تغلقي أمامي باب ليس أمامي غيره..أنا في ضيقة لن يخرجني منها غيرك!
جالت بنظرها في الغرفة ورأسها تجول معها وتجول من أسفل ركام الماضي ومن بين ثنايا نفسها الجزعة، من بين قهر ببيت أبيها ثم زوجها وبين ذل لحق بها في السجن من مسجونات ومسؤولين زفرت هي زفرة ألم تفوق الألم نفسه بآلاف المرات، فجاءت زفرة باكية، حادة، غاضبة وقاتلة...قاتلة لكل أمل بداخله في أن تستمع له، استدرك الحديث بسرعة قبل أن تغلق الهاتف:
_ابنتي في السجـ…
قطعت الإتصال أخيراً حينها فقط واتتها القوة وقذفت بالهاتف بعيدًا عنها وكأنه قطعة جمر تلهب يدها، ثم صرخت عاليا وافترشت الأرض وهي تحتضن نفسها في بكاء مرير وألم شعرت به يجتاح جسدها متمتمة في قهر وغضب بصوت باح:
_بئس الطالب وما يطلب، بئس الطالب وما يطلب!
♕♕♕•°•♕♕♕
بدا الاهتمام يتجلى على وجه وداد رويداً وهي تستمع إلى العجوز، ظلم، فسجن، ثم حرية وانتصار يتجلى في ثباتها كمحامية تنتصر للمظلومات، تابعت معقبة على حديثها تريد استنزاف ما تبقى من صمتها والتحدث بما قد يفيدها:
_كثيرات من بنات العرب ترين أن الزواج بمن هو أكبر منهن أفضل لهن!
طرقت عينا وليفة غير مصدقة لما تسمعه ثم عقبت هي الأخرى:
_وما الضير في هكذا شذوذ عن قاعدة عامة لا بأس به ولا ضير فيه، شتان بين ما أخبرك به وما تخبريني به أنتِ..أنتِ تتحدثين عن فتاة تتزوج من رجل تحبه ويحبها عن اقتناع تام، لكن أنا أحدثك عن فتاة يزوجها والدها قسرًا من رجل قحم{عجوز} تعدى سن الزواج بعقود كثيرة، رجل لن يستطيع إيفاء فتاة في ربيع عمرها حقها الذي شرعه الله...وهو ما يحدث كثيراً هنا، فعندما تتم الفتاة من سنوات عمرها الأربعة عشر تبدأ عائلتها في البحث عمن يحمل العبء عنهم ويا حبذا لو كان ذاك الرجل من أصحاب الأملاك والأموال.
_أنا اعلم ما تخبريني به سيدة وليفة، ولكنني أحدثك عن فكرة ترسخت في عقول الكثيرين حتى اختلط الحابل بالنابل وصار الأمر مبالغ فيه...لقد دعت الجمعيات الحقوقية إلى بتر هذه العادة، لكن هيهات!
هكذا عللت وداد فكرتها، فعقبت وليفة:
_انا أرى أن الفتاة تسأل أولا كما حثنا الشرع فإذا كانت تستطيع خوض غمار حياة ستكون هي المسؤولة فيها؛ فلا بأس، لكن أن ترغم على الزواج رغم رفضها..أن تتهم ظلما وبهتانا وتقذف بأبشع النعوت ويلقى بها خارج عائلتها فهو ما لن ارضى به..
كانت قد ثارت ثائرتها وقد رأت وداد الغضب باديا على وجهها وهي تخبرها في غيظ وانفعال ما مرت به انچي:
_كانت تعيش في كمد حتى أتاها ابن زوجها ذاك وبدأ في التحرش بها كان يسمعها أعذب الكلمات أحيانا وأفظعها أحيانا أخرى، استباح لنفسه التمتع بلمسها في حركات أنأى بحيائي عن وصفها حتى بصرت به أمه وعلمت ما يدور بداخله تجاهها وهنا عزمت على ابعادها عن البيت مهما كلفها الأمر، ولكن أتت عليها الرياح بما لم تكن تشتهيه وخططت له، استيقظت انچي وصرخت فما كان منها سوى الصراخ وقذفها بهاجرات الكلام، قبض عليها في وضع التلبس فتركها والدها بعدما أسمعها ما لم تستحق وتخلى عنها أخيها، ثم وكلت من قبل المحكمة بمباشرة قضيتها وشعرت فيها ببراءة طرفها مما ألصق به فوقفت بجوارها، حتى علمت منها أنها مازالت بكر تقدمت بطلب كشف العذرية ولكن ليلة توقيع الكشف سيطر عليّ هاجس ما أن أذهب إليها فقمت باصطحاب ابني بحكم منصبه كنائب عام كي يُسمح لي بالدخول، قادتني قدماي إلى غرفة مأمور السجن الخاصة لا تسأليني لماذا؟
لكنني شعرت بشيء غريب يدفعني إلى الذهاب إليه وهناك وعلى مقربة من بابها سمعت صراخها تستنجد فما كان من ابني إلا أن حطم الباب ودخلت لأجد مأمور السجن في وضع مخل معها يحاول أن يقتنص منها ما تستطيع يداه قنصه...لأوجز لكِ علمت منها بعد ذلك أن بعض السجينات كن يحاولن التودد إليها رغبة في بعض المتعة المحرمة وحينما تمنعت عنهن بكل قوتها أخبرت إحداهن مأمور السجن بأمرها، فما كان من الأخير إلا المحاولة معها هو الآخر ولكنه سرع بفعلته تلك الليلة قبل الكشف كي لا يكشف أمره إذا فعلها بعد ذلك.
شعرت وداد بجفاف حلقها وتقلص مؤلم في معدتها وانسكبت الدموع حارة من عينيها قبل أن تتمتم من بين ما تشعر به من ألم:
_ يا لها من شقية! عانت كثيراً من عائلتها وعائلة زوجها حتى من السجان والمسجونات.
احتضنت وليفة نفسها ثم عقبت بصوت يقطر ألم وعلقم:
_ وخارج السجن أيضا، لم يصدق أحد ببرائتها فكانوا يفرون من أمامها وكأنها وباء ما يخشون الاقتراب منه.
أخبرتها وداد معقبة بعد تفكير وقد وجدت غايتها:
_ حسنا أستطيع المكوث معك قليلاً ومساعدتك في إخراجها من شرنقتها التي أدخلت نفسها فيها في مقابل مساعدتي في إقناعها أن تخبرني بأدق تفاصيل ما مرت به وإحساسها به كي أسجله في كتابي لؤلؤة في محارة مشروخة.
♕♕♕•°•♕♕♕
في صباح اليوم التالي كانت السماء قد تدثرت بدثارها الأسود فأخفت خلف قتامته شمس الصباح وقد همهم الرعد بهمهماته التي لم تختلف قوة ولا غضبا عما بداخلها، أذأبت في سيرها ووجهتها دار القضاء كي تغرق نفسها في العمل فتنسى به ما مر بها الليلة الفائتة، توقفت فجأة وهي تتذكر ان اليوم عطلة لها فنظرت حولها في حيرة من أمرها وتلك الكلمات تتردد في أذنها دون توقف:
_ارتدينا بفعلتك لباس الإثم والعار….ارتدينا بفعلتك لباس الإثم والعار!
كان ذلك صوت أخيها مازالت تطن كلماته في أذنيها كطنين جرس نحاسي لا يتوقف ولا ينقطع، تتردد حروفه كلما تذكرت الماضي بطريقة تشعل ما بداخلها من نار تأبى أن تنطفئ.
انفتحت أبواب السماء المغلقة دفعة واحدة وغدق المطر فاختلط ماؤه الغزير بدموعها المتساقطة على وجهها، وكأنها بالسماء تشاركها غضبها وحزنها وبكائها!
وقفت بجوار احدى الأشجار الباسقة تتساءل في سُخف لنا تدفع بروحها فيه:
_أيناك من التعقل اليوم؟! أفيقي من غفلتك التي لن تزيدك سوى الألم.
رنين الهاتف انتشلها من حالة الغضب المسيطرة عليها فاستجابت للطالب وكلها أمل أن يكون يستحق ما ستلقي به في أذنه:
_نعم!
قالتها باندفاع واضطراب، تناهى إلى سمعها صوت إمرأه باكية تحدثها بالهمس الخفيض النبرة وبعدة كلمات متسارعة كأنها تخشى أن يسمعها أحدهم:
_چويرية في الطب الشرعي...قتلها زوجها ويريد أن يطمر فعلته هو وابيها...أرجوك إذهبي هناك!
قُطع الاتصال فجأة وكأنه تقطعت معه سبل الهواء إلى رئتيها، فلم تستطع التنفس وقد ازدادت ضربات قلبها وكأنها تتسارع في الوصول إلى حلقها...وقفت دون حراك تشعر بالأرض تميد من أسفلها وبأنها دون قدمين ثابتتين تأخذ بها إلى أرض ثابتة، استندت إلى جزع الشجرة تسأله العون والثبات ونظرت إلى الهاتف ذاهلة وهي تحاول ان تجد لرئتيها طريق للهواء النقي.
ازداد اضطراب السماء وكأنه يحاكي اضطرابها اضطرابا، فأشارت إلى أول سيارة أجرة واستقلتها وجهتها الطب الشرعي وبداخلها رجاء في أن تكون سمعت خطأ أو أنها تعيش كابوسا ما.
كانت طوال الطريق تدعو ربها أن يكون ما سمعته خطأ حتى وصلت إلى المشفى، ظلت تسير على غير هوادة بين أروقة المشفى تسأل ويجاب عليها ثم تسير مرة اخرى بساقيها الواهنتين حتى وصلت الى غرفة جانبية تعالت فيها الأصوات صائحة أحيانا وصارخة أحياناً أخرى ومن بين الصرخات سمعت باسم چويرية.
نطقه رمزي في غضب صارخ وكان يقسم ويتوعد أحدهم، دخلت هي لتجد جسدًا ممدة أمام ناظريها ومغطى بشرشف ابيض قد اندثر لونه من كثرة ما استخدم.
أخذت شفتيها ترتجفان وهي ما تزال واقفة
اختلست نظرة نحو وجوه الواقفين التي كان من بينهم رمزي ويونس السعيد بوجهيهما الغاضب وقبضة يديهما المضمومة في استعداد للإقتتال.
سألت بصوت جاءت نبرته جافة وباردة لا روح فيها، دون أن تبعد ناظرها عن الممدة أمامها تحت الشرشف:
_أين چويرية؟!
سمعت صوت أحدهم يجيب في استهزاء:
_ ومن أنت..أمها؟!
لم تجبه وإنما كررت سؤالها مع ضغطة قوية على مخارج كل حرف من حروف كلماتها المتوترة الخافتة بنبرتها المتحشرجة، وهي تتجنب النظر إلى رمزي كي لا تفقد ما تبقى من رباطة جأش وتسقط أمامهم، لتسمع نفس الصوت يجيب مرة اخرى:
_تلعب لعبة الاختباء..ازيلي الشرشف تجدينها!
وقف رمزي بكل ما يحمل من غضب يريد أن ينقض على الرجل خلفها ويلقنه ما يستحق من ضرب لكنه تماسك أمامها وهي على حالتها تلك لا ينقصها المزيد من الألم وخاصة منه.
أما هي فكان بداخلها يتميز حقدًا، ويتزيد حنقا، لكنها تمالكت بعض من نفسها المتهالكة وذهبت بأقدام ثقيلة الخطوة تجاهها.
لمست بأطرافها المرتعدة أطراف الشرشف وأزالته قليلا ظنّا منها أنها ستجد فتاة أخرى غير چويرية لكنها وليخيب ظنها وجدتها هي، أطلقت صرختها عاليا فور رؤيتها لها ممدة في استكانة وهدوء وقد شحب وجهها المخضب بالدماء الجافة وقد ظهر فيه آثار ضرب وتعذيب ليست بالهينة، وكأنها قضت لياليها الفائتة في صراع على الحياة.
امتدت يد البغضاء بداخلها وأحكمت القبضة على أمعائها فشعرت بداخلها يفور ويغلي وبعقلها شيء ما يطفئ نوره حتى فقدت الشعور بما ومن حولها فجأة.
سقطت مغشيا عليها فأسرع رمزي بقلب واجف وجسد راجف في نقلها إلى حجرة جانبية، وأسرع في احضار طبيب إسعاف كي يطمئنه عليها، ثم تناول هاتفها يطلب السيدة وليفة كي تأتي إليها فهو وان أراد البقاء بجوارها لكن اخته تنتظره أن يكون بجوارها الآن، فيكفيها تركه لها لأيام حتى فقدت بفقدانه حياتها.
هم بالخروج ولكن همهماتها الغير مستقرة أنبأته بما تصارعه في غشيتها، جلس بجانبها وهو يشعر بالأمل يندثر بداخله شيئا فشيئا فهو كلما أراد الحياة تركته الحياة وفرت من بين يديه هاربة؛ دنا منها قليلاً يطلب عونها فيما وجد نفسه فيه فمنذ حضر فجر اليوم ورأى ما رآه بأخته شعر كأنه صاحب اليد الأولى فيما حدث لها فلو كان أجابها منذ هاتفته لاستطاع أن ينقذها مما كانت فيه، مسك بيدها يسألها:
_ ماذا أفعل؟ فقدت الأخت وفقدت الحبيبة ومن قبلهما فقدت الأم أخبريني ماذا أفعل؟ لو كنت اجبتها حينما هاتفتني لكانت الآن… ليت الزمن يعود ولو قليلاً لقمت بإصلاح كل شيء..
اقترب بشفتيه بجانب عنقها فشعر بدفئها يجتاح صقيع قلبه همس في اذنها وهو يقسم:
_أقسم لك أنني سأقتص لها ولك ممن خذلوها وخذلوك وعلى رأسهم أنا!
وقف بالخارج برغبة ملحة من عقله بالابتعاد عنها فهو لا يستحق ان يكون بخيرربها وهو من ترك اخته كما تركها أخوها، وقف يحاسب نفسه المخطئة ويجلدها بسوط تقصيره حتى وصلت السيدة وليفة يرافقها امرأة أخرى، اقتربت منه سائلة ليجيبها مختصراً:
_هي بخير سيدتي، فقط إغماءة بسيطة اعذريني الآن فلدي أمر هام علي الإسراع إليه.
ثم تركها وعاد إلى زوج أمه.
♕♕♕•°•♕♕♕
كانت وليفة في حالة يرثى لها من التعب والإجهاد فعادت إلى المنزل بعدما اطمأنت على انچي وتركتها بين يدي وداد التي وعدتها بالحفاظ عليها والعودة بها الى المنزل.
أما هي فعندما عادت من ظلمتها كانت في حالة من البرودة والارتعاش ما شع القلق بداخل وداد:
_حبيبتي، اهدئي!
لم تستجب لها وكأنها قد صمت عما حولها فاخذت وداد تحتضنها بقوة وتمسد ظهرها بلين تهدهدها بكلمات اللطف واللين، حتى استعادت بعض من هدوئها وفطنت للمكان التي فيه، شخصت بأنظارها مذعورة ورددت في رجاء بصوت واهن:
_اخرجيني من هنا!


عبير نيسان غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 05-10-20, 06:03 PM   #7

عبير نيسان

كاتبة بمنتدى قصص من وحي الاعضاء


? العضوٌ??? » 423609
?  التسِجيلٌ » May 2018
? مشَارَ?اتْي » 174
?  نُقآطِيْ » عبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond repute
افتراضي

تم نشر الفصل الرابع
نلقاكم غدا باذن الله مع الفصلين 5+6


عبير نيسان غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-10-20, 05:41 PM   #8

عبير نيسان

كاتبة بمنتدى قصص من وحي الاعضاء


? العضوٌ??? » 423609
?  التسِجيلٌ » May 2018
? مشَارَ?اتْي » 174
?  نُقآطِيْ » عبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond repute
افتراضي

❣️الفصل الخامس❣️

رافقتها وداد في طريق العودة إلى المنزل في صمت مطبق، بينما هي (انچي) كانت على حالتها من الشجن والكدر ما لم تستطع به مجاراتها في حديث ما، حتى اضطرت وداد لقطع هذا الصمت سائلة في نبرة هادئة متعجبة:
_ما هي صلتك بتلك الفتاة چويرية حتى يتمكن منك الحزن هكذا؟!
ازدردت انچي ريقها بمرارة بادية على وجهها المكفهر ثم توقفت عن السير وأجابتها دون ان تلتفت إليها وإنما كانت شاخصة البصر في نقطة ما وكأنها شاردة في أمر ما:
_ لا صلة سوى أنها تشبهني أنا..
خرج صوتها باحاً متحشرجاً وهي تتابع ساخرة:
_تزوجت صغيرة دون موافقتها، تزوجت من شيخ كبير في السن لكنني أفُوقها فيما حدث بعد ذلك..هي قطعت الطريق لمنتصفه وتركت الحياة، بينما...
كانت وداد قد توقفت عن المسير هي الأخرى دون أن تلتفت إليها كي تعطيها فرصة للحديث ولكنها عند توقفها عن الحديث انتبهت إلى حالتها، وقد شعرت أنها دنت من طرف خيط سيشارك بجدارة في غزل بقية الحكاية التي بدأت فيها، سألتها باهتمام متصنعة عدم الفهم:
_أشعر في حديثك بشيء ما أخشى أن أكون قد فهمت مغزى الحديث خطأ!
انفرجت شفتاها بابتسامة مريرة لم يصل أثرها إلى عينيها وهي تؤيد حديثها، وتحدثت في بكاء لم تقو على السيطرة عليه أكثر وهي تتابع سيرها ووداد خلفها بخطوة:
_ لا لقد فهمت مغزى الحديث على صواب، أنا تزوجت منذ عشر سنوات من رجل كهل يكبر زوج چويرية بسنوات وسنوات…
كفت فمها عن متابعة الحديث وقد أطبقت جفنيها على دموع عينيها الحارقة لعلها تتوقف، فتوقفت وداد هي الأخرى عن السير واستندت إلى سور الكورنيش تنظر إلى صفحة النيل القاتمة كي تعطيها فسحة من الوقت تستجمع شتات قوتها، ثم تحدثت بنبرة صادقة ودودة وهي توليها ظهرها:
_حينما راسلتني حول تلك الفتاة قرأت ما بين السطور وشعرت بأنك تتحدثين عن نفسك لا عنها، تحاولين اللوذ بنفسك بعيداً عن ألم ما شعرتِ به في صورة تلك الفتاة..أليس كذلك؟!
قطبت انچي أسارير وجهها حينما تذكرت ما كانت تفكر فيه وهي تكتب إليها، أومأت برأسها بالموافقة فهي وإن كانت تقصد التخمين فقد صدق تخمينها.
ثم اقتربت منها بوجه ملامحه حزينه وساقين تكادان تحملانها وهي تجيب بعينين شاردتين:
_كنت في بداية سني الثامن عشر فقط ابنة في عائلة كثيرة العدد قليلة المورد، زوجني أبي لرجل يكبره في السن فقط لأنه تعهد بدفع مبلغ كبير يساعده في المعيشة ومن وسط صرخاتي المتكررة وتذللي لأخي الكبير تم الزواج...عشت أيام عديدة باردة وجافة في كل ليلة كان زوجي يقترب مني كنت أشعر بالنفور منه والخوف شعوران مختلفان لكنهما كانا مصاحبان لبعضهما البعض، في كل مرة كان يقترب مني ويشعل في رغبة فتاة تخطو أولى خطواتها في سلم العاطفة بلمسات أشعر برغبة ماسة في التقيؤ فور تذكرها، ثم يتركني دون أن يطفئ ما أشعله، فقط كان يريد أن يسمع زوجته بما يريدها أن تعتقده فيه فهي كانت تعايره بعدم قدرته بعدما ولّى شبابه، ليلة تمر في ذيل ليلة وهو على عهده حتى أتى ابنه ذات ليلة وبدأ في التودد لي كدت أن أقع بين براثنه لولا عناية الله..وعندما حاولت التقرب إلى زوجي ناشدة منه حمايتي من شيطان نفسي اتهمني بالعهر فطالبته بعتقي من بين يديه يومئذ تلقيت منه ما لم تستحقه سوى العاهرة بحق.. تركته وذهبت إلى بيت أبي استنجد به سند وقوة لي أمامه فلم أجد منه سوى زيادة في العذاب والضرب…

نزلت دموعها ساخنة على وجهها مرة أخرى وشرقت في حديثها وهي تستعيد ما عايشته من ألم، بينما ومض الرضى في عيني وداد فقد تعمدت جرها في الحديث لتخرج ما بجعبتها من ألم وتفاصيل لن يستطيع أحد أن يخبرها به سواها، تابعت انچي بعدما مسحت وجنتيها بقوة كأنها تنفض عنهما الضعف الذي تحدثه دموعها:
_لم أجد أمامي سوى شكرية زوجته..حاولت التقرب منها واستدراء عاطفة الأمومة لديها والتي لم أجدها لدى أمي التي تابعت ما يحدث لي في صمت، لكن شكرية هي الأخرى كانت تعد لي الحفرة التي وقعت فيها على غفلة مني، في الوقت الذي تقربت منها فيه كانت هي قد اتفقت مع أحد المزارعين كي يقيم معي علاقة وكانت هي قد وضعت لي المنوم في كوب الشاي لكن عناية الله أجارتني منها للمرة الثانية، في حين أنها لم تكتفي بذلك وإنما شهرت بي بين الناس وقذفتني بأبشع ما قد تقذف به إمرأة…
تابعت انچي حديثها تقص جل ما حدث لها وسبق وقصته وليفة، لتسألها وداد فجأة:
_وأين كانت أمك مما حدث لك؟!
ابتسمت انچي ساخرة:
_أمي! كانت تجاهد كي تنقذ منزلها، فهي ترى أنني كنت من الأنانية ما لم يجعلني افكر في إخوتي..أربع فتيات يحتجن للستر وأنا بما ابتغيه سوف أهتك ذاك الستر، فارتأيت هي أن تقدمني قربان من أجلهن.
♡♡♡•°•♡♡♡
تابعتا سيرهما معًا في الحديث عن تفاصيل ما حدث لها حتى وصلتا إلى أسفل بنايتها فاستوقفهما صوت رمزي المنكسر حزناً راجيًا منحه بعض من الوقت، ولكنها أجابته بكل ما شعرت به من انكسار وقنوط بالرفض وزادت عليه قائلة منتهزةً فرصة تواجده أمامها:
_ انتظرت منك أن تكون غيره حقا، حينما...حينما لمست عطفك عليها اعتقد فيك كأخ لن يسلب أخته حياتها كما فعل من سبقك...ليتك لم تقابلني!
زوى ما بين عينيه وهو يفكر كيف تحدثه هكذا وهو من أتى لها كي ينقذ ما تبقى من حق اخته قبل أن يأكله والدها فصرخ فيها يتهمها بكل ما يحمله من غضب:
_ تحاكميني دون وجه حق..من أنت كي تحكمين علي هكذا؟!
أجابته وهي على يأسها وهي تشير إليه بسبابتها تدينه بكلماتها:
_أنا الفتاة التي توسمت فيك الحياة الحقيقية بما لها وفيها من كل شئ حي...أنا الفتاة التي توسمت فيك الحب الذي خُلق على الفطرة..لم أكُ أعلم أن الغرائز فينا أقوى من المبادئ..لم أكُ أعلم أن دولاب الحياة بهذه القوة فيأخذ في دورته أكثر مما يعطي!
أخبرها بصوت يختلط فيه الرجاء باستدراء العطف:
_ تتحدثين وكأني بما حدث كنت راضي..أنا لم…
قاطعته صارخة فيه وهي تسأله:
_انت لم...ماذا؟!
مسكت وداد بكتفها تهدئها:
_ اهدئي انچي ودعيه يظهر دفوعه.
هدرت فيها هي الأخرى تسمعها وتسمع من يستطع الى كلماتها سبيلا:
_اهدأ...كيف أهدأ..هنا في مجتمع بُني على أن الرجل هو البائع والمشتري حق له أن يفعل ما يريد..في مجتمع ينظر إلى المرأة أنها سلعة وجدت لتحقق هدفا ما..يجني بها المال.
صرخ هو الآخر فيها يدفع عن طرفه ما ألصقته فيه من سوءة ليست فيه:
_اخرسي، ولا تتفوهي بما ليس في..
سخرت منه تسأله:
_ما ليس فيك..هه! كيف وانت وافقت على بيعها كما وافقت على موتها؟ وأدت فيها الطفلة وعجلت بظهور المرأة وهي ليسـ..
دافع عن نفسه بكل.ما أوتي من قوة الصوت وصلابة الحس:
_أنا رفضت ما حدث.
_اين كنت حينما احتاجت اليك؟!
_انا...
_انت ماذا؟! حينما احتجت إلى أخي تفلني من بين يديه، وانت رفضت أن تحدثها، نبذتها أنت الآخر..
_لم انبذها وإنما كنت أعطيها وأعطي نفسي الوقت كي تشعر بفداحة ما فعلته..
سخرت منه بكلماتها:
_وها أنت تدفن نتيجة فعلتك...لقد واريت جسدها الثرى اليوم..هنيئاًلك!
قاطعتها وداد محذرة بصوت هادئ:
_ اهدئي..
صرخت انچي فيها:
_لا تطلبي مني أن أهدأ..أنا بداخلي بركان ثائر منذ عقد من الزمان...بركان زادت ثورته برؤيتها فتاة طفلة لاحول لها ولا قوة..طفلة لم تزل بضفيرتها ولا تعلم من حياتها شيء.. طفلة لم تداعب في حياتها سوى دميتها، كيف..كيف ترمي بها بين براثن وحش لا يرى فيها سوى وعاء يقضي فيه على شهوة تتملك منه دون أن يراعي فيها ضعف ولا انعدام خبرة..وحش قتلها بدم بارد بعدما استنزف كل قواها...كانت طفلة لم تعرف من الحياة سوى اللعب وكتب الدراسة لم تقرأ عن حياة الأزواج ولم يقع نظرها سوى على قبلة بين بطل وبطلة في فيلم ما، كانت من الرقة ما جعلتها تبني خيالا عن شريك حياتها الذي لن يقل عن البطل لا وسامة ولا رومانسية...رميت بها بين براثن رجل انتهك جسدها انتهاكا، لم يكن يأخذ منها ما شرعه الله بما شرعه الله، وإنما بما تقتضي حاجته..هل رأيت جسدها وتلك الكدمات التي كانت تغطيها...هل رأيت ما بين، ما بين وركيها..هل...هل قرأت تقرير الوفاة..نزيف حاد اثر علاقة جسدية عنيفة..عنيفة مع طفلة في الخامسة عشر من عمرها فقط أو يقل!
وفجأة وعلى إثر حديثها انبرى أمامها سائلاً وهو يصرخ فيها وقد أصابته كلماتها بحالة من هياج وغضب ثائر:
_اتبكين چويرية أم انچي؟!
أجابته صارخة هي الأخرى:
_ أهناك فرق؟! انچي كما چويرية وچويرية كانچي ناهيك عن الإهمال والبرودة التي قابلت انچي بين جدران السجن فقد كانت خائفة ليس ممن حولها وإنما من نفسها، خارج السجن أعدها من حولها كي تكون وحش كاسر لا يرحم أحد وبين جدرانه تعلمت ان تكون انسانة قبل أن تكون أحدهم...بين جدران السجن قابلت شتى أنواع العذاب من قهر وحرق وتعرية جسدها من روحها قبل ملابسها، كان جميع من حولها من نساء ورجال يطمعن في قطعة ما من جسدها وكأنه قالب حلوى ليس له مثيل، دخلت انچي السجن في تهمة الزنا فكانت فيه لقمة سائغة بين فكي من احاطها من نساء ورجال لولا مشيئة الله ومساعدة السيدة وليفة لكنت الآن انسانة أخرى أو ميتة كما الچويرية..نعم لولا أنني آمنت بحقي في الحياة لكنت الآن في عداد الأموات، يقال بأن العين بالدمع والدم انطق من كل لسان وقلم..انظر الى عيني واقرأ فيها ما لن تستطيع أبلغ الأقلام خطه..
جاهد في أن يجد إلى الكلمات طريق لكنه لم يستطع فأتت حروفه في تهتهة ضعيفة:
_أنـ..أ..أ..
تابعت هي بعينين مشتعلتين ووجه غمرته الدموع غمرا حتى اختلطت بمخارج حروفها:
_انت لن تستطيع إدراك معنى أن تنام مفتوح العينين لعدة شهور تجاهد في أن تحمي نفسك من بني جنسك...أنا عشت هذا كنت أرى في نظرات قائدة السجن شهوة كما في عيون الرجال، كنت...كنت أجاهد كل ليلة ويوم حتى أنأى بنفسي وما تبقى لي بعيداً عن مخلفات السجن..وحينما أخبرت مأمور السجن لم أرى منه سوى السخرية ونفس النظرات تلك فأنا في نظرهم زانية...خسرت كل شيء بجرة قلم من شبيه الرجال مثلك..أخي من طمع في قبل غيره وقدمني قربان لنجاحه ومركزه الذي وصل إليه..كنت وحدي وأنا أدفع عن نفسي وحش كاسر أراد هتك ما حفظته بشق الأنفس، أراد دعس جسد عذري كل خطأه أنه لم يجد من يحميه..كنت وحدي أتجرع كؤوس مريرة من الحسرة والألم ولم أجد من يآزرني في وحدتي وظلامي داخل السجن ولا خارجه، فقد لبست لياليّ جلبابا من القار بعدما رموني سود الاكباد بهاجرات الكلمات وفواحشه وصدقه فيَّ جميع من حولي…

فجأة وعلى حين غرة ممن يقفا معها،
ومن بين طيات الذاكرة وبواطن العقل هاجمتها أنياب الذكريات كأنياب وحش كاسر تنهش فيها نهشاً يؤلمها، وقد استحال وجه رمزي أمامها إلى وجه أخيها فصرخت فيه تبصق في وجهه ما تشعر به تجاهه منذ سنوات:
_انت أحقر من أن تكون أخي، بل أنت أحقر من أن توصف بآدمي...قتلتني مرة تلو الأخرى والآن تطالبني بالمساعدة..أنت لست..
نظر هو في عينيها اللتين تومضان حقدًا وغيظا ثم قال وقد لاحت أمامه أسباب ما توصلت إليه من هياج:
_افيقي من غفلتك فأنا لست بأخيك..إنما أنا، انا رمزي!
انفجرت صارخة بعدما ثابت إلى رشدها ورأته أمامها بوجهه لا بوجه أخيها:
_نعم لست أخي وإنما أخ لضحية أخرى كما هو، حمداً لله أنها ماتت وإلا لكانت ماتت ألف وألف مرة وهي تحت جناحيك يا أخيها… نعم، هيا اذهب من هنا لقد انتهى الأمر...وكفى!
نظر إليها بعينين جديدتين، عين أخ فقد أخته أمام عينيه وهو مكبل لم يستطع حمايتها وعين رجل أحب فيها قوة لم تأتيها إلا على أكتاف الألم، وهنا فاضت نفسه ألما لما ألم بها، فهي بمظهرها ذاك لم تتح للأخ بداخله فرصة التألم لفقدان أخته ودفعت فيه الرجل الحبيب كي يتألم لها، خفت بصوته يسألها:
_يونس السعيد لا يريد محاكمة زوج ابنته وأنا أريد حق أختي، هل لكِ أن تساعديني في ذلك؟!
ضحكت ضحكة خاطفة فاضت من جوانبها الألم قبل أن تتهمه بسخرية:
_تريد أن تنتفع بموتها بحفنة نقود تنفعك أنت الآخر!
دوى صوتها صارخاً عقب دويّ صوت لطمة قوية تلقتها وجنتها منه، رفعت يدها إلى وجهها تسكت الألم الذي شعرت به وقد تحجرت الدموع في مآقيها كما تحجرت في مآقيه، كان ينظر إليها في ألم وحسرة على ما ظنته به ولم يستطع التفوه بكلمة.
♕♕♕•°•♕♕♕
آوت انچي إلى غرفتها تسمع جدرانها آهاتها وأناتها مما أصابها من ألم حسي وجسدي، تتساءل عما قيدها عن رد الصفعة إليه بمثيلتها أو ما يزيد عنها في قوة تؤلمه أكثر مما تؤلمها..ليتها استطاعت!
لكنها شعرت بألمه هو وهي تنظر إليه لا بألمها، فتوقفت عن ردها بأخرى، مرة واحدة وكأن ألمه الذي ارتسم على وجهه كان كقيد قيدها عن الحركة راجيةً أن يكون استطاع نيل بعض من حقه.
شعرت بالغرابة مما يؤول إليه تفكيرها..أيعقل أن تكون بهذا الضعف بين يديه؟!
_لا لستِ بضعيفة، إنما هو قلبك الرقيق لا يحتمل إيلام أحد وأنتِ آلمته بكلماتك الحادة..
هكذا هست لنفسها تطمئنها أنها ما زالت على العهد مع فؤادها ولم تتغير، لن تنسى أبدا أنه كان لها في أحد الأوقات أخاً فقدها من أجل نفسه فأصبحت من بعده لا تملك عضدًا إلا في نفسها ولكن ذلك لن يجعلها تفقد إنسانيتها وتتعمد جرح أحدهم وإيغال الكلمات السامة في جرحه ذاك رغبة في زيادة ألمه.
وضعت يدها على قلبها تسأله الطمأنينه والثبات تردد في نحيب دونما بكاء:
_ فقط ما أرجوه أن تظل على عهدي معك ولا تلتفت إلى ما سيصيبنا بآلام لا قبل لنا بها!
وفي دفترها الذي تحمله بين يديها وتعتصر أوراقه بين أصابعها خطت بأولى كلماتها بعد ما أصابها من هم وكدر:
_ صفصافة هي، فكانت كالعذارى
أغصانها جدايل على كتفها حيارى
تسرحهن ضفائر وتصنعهن غدائر
لا صغيرة ظلت ولا كبيرة هلت
من أحلامها سرقوها،
وبين الرحى تركوها.
بين الرحى صارت، بين الرحى ماتت
لا للضفائر تركوها ولا من الموت رحموها.
دمعة سقطت من مقلتها لتصحبها اخرى وأخرى فكأن دموعها أرادت خطت ما تشعر به هن الأخريات.
دخلت عليها وداد بعدما يئست من أن تجيبها على دقاتها المتعددة فرأتها واجمة حزينة تنظر إلى دفترها ودموعها الساقطة عليه، دنت منها ثم وضعت يدها على عاتقها سائلة:
_لقد طرقت الباب كثيراً ولكنك لم تجيبي لذا..
بترت عبارتها وهي تراها ما زالت على وجومها وحزنها الذي أضفى ظلال اليأس على وجهها فجلست أمامها وهي تمسك بكفيها بين يديها ناصحة إياها:
_لا تجعلي لليأس إلى قلبك سبيلاً!
استدارت إليها بعينين تلمعان بعبراتها الحزينة فتابعت وداد حديثها:
_انچي لولا الشتاء ما علمنا للدفء لذة ولا للربيع جمالاً ولولا الخريف لما علمنا للخضرة جمالاً! هكذا هي دنيانا تأخذ بيدنا من حال إلى حال دون كلل منها أو ملل؛ حتى نرى فيها شتى أنواع الجمال وما يصاحبه من أهوال...أيناكِ أنتِ من أهوال الفقد والعوز؟! تركتك عائلتك فشققت لنفسك طريقاً مرفوعة الهامة فيه، استطعت بما منحك الله من قوة الحفاظ على نفسك من خطوب إن حدثت احداها لفقدت الأمل في الحياة..انهضي من كبوتك وازيلي ذلك الحجاب عن عينيك تري أجمل ما في الحياة.
تسلل الود إلى قلبها رويداً وأشرق الوجد بين جنباتها فوجدت برد الراحة في صدرها إثر سماعها إلى حديث هذه المرأة، لا تعلم ما المميز فيها جعلها تستمع إليها هكذا وتعقل ما سمعت به، رفعت انظارها إليها سائلة في تعجب وذهول بصوت متحشرج النبرة إثر ما كبتته من حزن وألم:
_ما سرك؟! فأنا لم أقابلك سوى بالأمس ولكن..
تبسمت وداد في وجهها وقد اهتز منكبها تعجباً لما سمعته ثم أجابتها في سؤال:
_ما سري أنا أم ما سرك أنت؟! فانا ومنذ حدثتك أول مرة شعرت تجاهك كما للأخت من أختها، أنا أحببتك قبل أن أراك وزدت في حبك حين رأيتك وعلمت عنك أمور تشابكت خيوطها وتكاتفت في خلق فتاة من النجاح والتميز ما جعلها محط أنظار الجميع، فتاة وإن كانت تحمل بين أترابها ظلم وظلمات عدة، لكنها تحمل بين جنبيها قلباً لم يلوث بعد..
أومأت انچي كارهة ما تصفها به وقد لاح نفورها في تقطيب حاجبيها:
_نعم! بئس هذا القلب الذي يرفض ما يخبره به العقل..ليته يفقه أنها الحياة يخسر من يطلب ودها!
شردت وداد قليلاً وكأنها تستعيد أمراً ما، ثم تحدثت بصوت الخبير ببواطن الأمور وظواهرها:
_تلهو الحياة بالانسان ما يحلو لها وتذيقه من صنوف العذاب وألوانه ما يملأ قلبه يأساً منها وحقداً عليها، ثم تتبدل أمامه وتسقيه من شهد عسلها ما ينسيه ما تجرعه من علقمها!
عزيزتي من أحب الحياة ذل ومن كرهها ضلّ! هكذا يكون ناموسها الذي لا تحيد عنه، أنا لا أحدثك جزافاً وإنما بقدر ما رأيت فرأي المرء على قدر تجربته.
تيقظت انچي لكل كلمة بدرت من محدثتها ثم سألتها وقد أثار فضولها عبارتها الأخيرة:
_كيف؟! هل حدث لكِ..
قاطعتها وداد وقد استنبطت مغزى سؤالها:
_ليس فينا من سقته الحياة العسل منذ مولده، ولكنني أحدثك من خلال ما سمعته من مآسي وآلام...هناك غيرك كثيرات وتزدن عنك بأحمال ثقال فمنهن من سجنت ببلد غير بلدها لا تعلم فيها شيء ومنهن من امتهن جسدها كأنه سلعة لا قيمة له..أنت استطعت اللوذ بنفسك عن الأسوأ وإن طالك السيء فأنتِ كنت كفيلة به..تعايشي مع الحياة يا عزيزتي.
خاطبتها انچي بصدق لأول مرة في حياتها وفتحت لها أبواب قلبها الموصدة:
_أخشى الوقوع في الحب فبقدر ما يمنح من قوة لكنه لن يمنحني سوى الألم!
صدمها ما تفوهت به ولكنها تداركت الأمر وحدثتها وداد بقدر صدقها سائلة:
_رمزي؟!
❣️❣️❣️❣️❣️❣️❣️
قادته قدماه إلى المطعم الذي اعتاد على تناول طعامه فيه يفكر فيما أخبرته به انچي هو حقا أهمل في حق أخته واكتفى بسؤال زوجة أبيها عنها وهي كانت تطمئنه أنها بخير لا يعلم إن كان مرد حديثها خوفاً من زوجها يونس أو رغبة في إبعادها عن طريقها.
ترى هل تغفر له چويرية إهماله ذاك؟!
أم تراها انچي تغفر له؟!
والأهم، هل يغفر هو لنفسه؟!
بدأ تفكيره بانچي ليقوده إلى يونس ذلك الرجل الذي سارع بدفن ابنته رغبة في وأد ذكراها وذكري قتلها طمعاً فيما دفعه زوجها كدية لها، انقبضت يده على الطاولة أمامه وقد شع الغضب بداخله وهو يتذكرها ممده أمامه جسد لا روح فيه فقط كدمات وسحجات تغطيها وتكاد تخفي ملامحها، أزعجه صوت المضيفة تسأله عما يريد من طعام:
_اذهبي لشأنك!
كان هذا صوت رمزي وهو يصرخ في المضيفة التي أتت تسأله عما يريد كعادتها يومياً معه، نظرت إليه بنظرات شزراء فبادلها ذات النظرة ثم سألها:
_ألم تفهمي؟! أخبرتك أن تذهبي.
وقفت امامه وقد ضمت يدها إلى صدرها تسأله:
_اعمل هنا ما يقرب من العامين ومنذ رأيتك لم أر منك سوى الهدوء والصمت..كنت تتناول طعامك ثم تمشي لا تحدث أحد ولم تغضب على أحد واليوم تبدل الحال..ما الأمر؟!
راعاه ما تحدثت به الفتاة وقد لاح ذهوله في ألحاظه، فتابعت هي ناصحة له:
_يقال من استبد برأيه هلك، و من شاور الرجال شاركهم في عقولهم وملك، هيا افسح عما يضيق صدرك لعلني أجد لك حلاً؟!
انفرجت شفتيه عن ابتسامة لم تتعدى حدود شفتيه فجاءت باهتة لا معنى لها، ثم سألها متهكماً:
_أنتِ؟!
جلست أمامه وقد أخفت مفكرتها في جيب سترتها، ثم أخبرته بكل ما أوتيت من ثقة:
_لا تسخر مني يا عزيزي، فأنا وإن كنت مضيفة فأنا أربى خبرة من كثيرين...أنا هنا أقرأ في عيون الحاضرين ما لم يستطع أحد قراءته!
تعجب رمزي من فرط ثقتها بنفسها ليسألها مستفسراً:
_أليس الأمر بزائد عن حده؟!
تبسمت في وجهه فرحة لتمكنها من إخراجه من عزلته ومدت يسراها له سائلة إياه أن يعطيها يده، ليضحك هو هازئاً:
_ تقرئين الكف؟!
نفت ما ألصقه بها من جريرة ليست بها وعقبت:
_بل أقرأ ما في العيون كما أخبرتك، وإنما كفك؛ كي أشعر بتأثير كلماتي عليك إن أنا أصبت أم لا.
مد يده بعدما رأى ذاك العزم الأكيد الذي أشرق بريق عينيها، فحدثته بكلمات خفيضة النبرة:
_تنتهج نهج المسافر بلا دليل؛ فأنت تسير في طريق الحب بلا دليل من الحبيب كما وأنك تبتغي من دنياك أمل تخبط بين دروب الألم وهو عليل، تخشى على نفسك من فرط التفكير بها فتزل قدمك في أرض كنت لها بزمانك أسير..
كان كفه بين كفيها يرتعش ارتعاشة خفيفة، ونبض رسغه يزداد مع كل كلمة تتفوه هي بها، لتختم حديثها وقد أيقنت صدق ما تنبأت به:
_أنت بين النساء أسير فمنهن من أجرمت بحقك ومنهن من أجرمت أنت بحقها ومنهن من تريدها كي تزيل بها خطأ الماضي!
سحب كفه بسرعة وقد ازداد توتره ثم سألها وهو ما زال على حاله من التردد والتخبط:
_من أنتِ؟!
قامت هي من كرسيها وانحنت أمامه تنظر إلى عمق حدقتيه تخبره ناصحة له:
_كما أخبرتك لست سوى امرأة تعلمت قراءة الوجوه، انظر حولك ولا تبتئس وحدك فهذه هي الحياة، لا تمشي وحدك في مناكبها ولست بشقي بمفردك فيها...فأنت إذا أردت من بعد
عسرها يسر عليك بالمواجهة، اذهب إليهن واحلل عقدة لسانك معهن.
تطلق وجهه وأضاء بعدما سمع بحديثها وأولى من تذكرهن من نسائه هي انچي فبها سوف يحلل عقدة حياته كلها، وسرعان ما استسر بِشره الذي كان متلألئا حينما تذكر ما فعله بها من صفعه لوجهها.
التفت إلى الفتاة التي كانت تحدثه منذ قليل فوجدها تشير له أن يقوم ويفعل ما يجب عليه فعله.
•°•°•°•°•°•°•°•°•
أمام بيتها وقف بعدما دق جرس الباب وانتظر أن تأتيه مجيبة، لكن ظهرت إمرأة أخرى لدى الباب هي نفس تلك المرأة التي كانت تقف معها بالأسفل، تنحنح محرجاً وقد بحث بداخل عقله عن كلمات يحدثها بها ولكنها سبقته منقذة إياها سائلة بابتسامة تضمر خبثًا:
_أتيت طالباً أم مطالبٍ؟!
تنهد طويلًا ونظر إليها نظرة راجية قبل أن يقول:
_بل طالبٍ، أين هي؟!
قالت المرأة وهي تدخله الغرفة المجاورة لمدخل المنزل:
_ستجلس أنت هنا حتى آتيك بها، لكن لن تكرر فعلتك معها مرة أخرى...يكفيها من الألم ما نالته حتى الآن.
أصابته كلماتها بحرج كبير، أجابها مؤكداً:
_لئن فعلت لا يكونن رجل على وجه هذه البسيطة أعظم شقاءاً مني!
نظرت وداد إلى عينيه باحثة عما يؤكد لها كذب كلماته فوجدتهما تؤكدان على صدق ما أخبرها به فقنعت بذلك وذهبت إليها تستدعيها إلى لقائه.
دخلت عليها غرفتها فوجدتها كما تركتها منذ دقائق، تستند إلى ظهر سريرها وهي ترتشف بتلذذ المشروب الساخن من كوبها الذي اعدته لها منذ قليل وكانت تحتضنه بكلتا يديها وكأنها تسأله الدفء:
_رمزي هنا.
فجأة أرعدت السماء من خلف النافذة وقد تفتحت أبوابها بغيث منهمر، وكأنها تجيبها بلا بدلاً منها صاحت فيها وقد انهمرت دموعها هي الأخرى:
_ لا أريد لقائه!
هي تخشى لقائه ووداد تعلم أكثر ما تريده، هي فقط تحتاج إلى دفعة كما أخبرتها السيدة وليفة وهذه ستكون دفعتها التي تخرجها مما هي فيه، جلست بجانبها وقد أخذت الكوب من يدها قبل أن تقول:
_ لقد سمعت من إمرأة عركتها الحياة بمختلف المعارك أنه: أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك...لا تتركي نفسك لعدوك يا عزيزتي وواجهي، لا تنظري له وكأنه عدو او غازي سوف يغزو شغاف قلبك الحصينة...اتركي المجال لنفسك قليلاً كما اخبرتك منذ قليل!
أطرقت انچي تفكر وتجيل عقلها بين كلماتها، ثم عقبت مجيبة بعد قليل من التردد والقلق:
_ حسنا! موافقة، لكن...
تركتها وداد وهي تقول مقاطعة:
_ ليس هناك لكن، هيا انهضي واستعدي للقائه وأنا سأكون معه حتى مجيئك.
لم يستغرق الأمر معها كثيراً حتى أقنعتها بمواجهته، فهي تعلم أنها فقط تحتاج لم يآزرها ويشعرها بقربه منها تحتاج إلى عائلة تمدها العون..هذا ما فكرت فيه وداد.وهي تعود إلى رمزي تخبره بموافقتها.
♕♕♕•°•♕♕♕
وقفت وقد تكتفت أمامه تمد نفسها ببعض الإطمئنان الذي فقدته فور رؤيتها له، نظرت إليه وكان هو يضع يديه بجيبي سرواله يبادلها النظر في صمت هو الآخر وكأنهما داخل غلافة شفافة أغلقت عليهما سكنا وحدهما وفي حديث صامت انسجما، فسألته دون أن تنبث ببنت شفة:
_ ابتعد عني و مني لا تقترب!
ليجيبها بنظرة من عينيه وهو يقرأ السؤال بعينيها:
_ كيف ابتعد عنك وأنا أبتغي منك القرب؟!
_ أخبرتك أن تبتعد، فأنا بقربك لا أرغب!
أعادت عليه سؤالها راجية وهي تخطو خطوة للخلف، ليسألها هو الآخر متعجباً وهو يمد كفه وكأنه يمنعها الخطو بعيداً عنه:
_ تمازجت خفقات قلبي بخفقات قلبك؛ وانت تسأليني أن ابتعد؟!
_ نعم هكذا أنا أرغب، سأستعيد نبض قلبي وأعيد نبضك لك.
هو يؤمن بأن لغة العيون هي أفصح من الثماني وعشرين حرفاً وهي حدثته بها، شعر بما أرادت أن تخبره به وتمنى لو كانت هي الأخرى بما أراد إجابتها به، كان هو أول من قطع غلاف الصمت الشفاف قائلاً:
_مرحبا!
_مرحبا!
هو لم يجد من بين حروف الهجاء سوى تلكم الأحرف الخمس كي يتفوه بهما، وهي لم تجد سوى نفس الأحرف التي اختارها كي تجيبه بهم.
بنفس الكلمة أجابته ثم سكتت للحظة وقد لاحت على وجهها آثار دمعة قد كسرت وثاقها وفرت، بينما هو شعر بها كسكين حاد يحز في قلبه، سألها وقد رن في أذنيه صوت يونس السعيد وهو يصيح فيه_ابتعد عني ولا تقربني فأنت عندما تدنو من أحدهم تكن نهايته:
_ جئتك كي أطلــ…
قاطعته بنزق:
_ليس لك حق كي تطلب، جبان مخادع.
هاله ما وصفته به ليصيح فيها وهو يكز على فكه بصبر قد فرغ:
_ لم أك يوماً لا جبان ولا مخادع، أنا فقط رجل أخطئ وأصيب أنا ظننتها تحتاج بعض الوقت...أنا كنت أطمئن عليها يوميا لكنني لم أرد لها أن تعلم كي لا يطمئن جانبها على ذلك وتنسى ما زجت نفسها فيه...كنت أتصل بزوجة أبيها وهي أخبرتني أنها بخير حتى…
لتقاطعه هي:
_ لا تبرر!
_لا ابرر فقط أشرح وقائع.
_لا تهمني وقائعك.
_بل تهمك، انت لم تري في أخ چويرية وإنما أخيك، وانا لست بأخيك..انا رمزي يهمني أن تعرفي ذلك…
صمت قليلاً وهو يبصر تأثير كلماته على وجهها ثم تابع وهو يلحظ تلك الرفة في طرف هينيها وتلك الطريقة القلقة التي تبتلع فيها ريقها كأن كلماته وجدت منفذ لها بقلبها:
_انا وان لم أبكي هجر أمي لي ولا موت اختي ولو لمرة واحدة لكنني سأبكي لفراقك أنتِ ألف مرة ومرة، أنا لي في قربك عزاء عن فقد الدنيا وما فيها فلا تبعديني قسراً!
بدأ توترها يتصاعد بداخلها حد آلمتها دقات قلبها المضطربة وسرت رجفه غريبه في ساقيها وهي تحدجه بنظراتها مستنكرة منه التحدث بما يجيش بصدرها، هي لا تريد منه أن يريدها كما تريده هي لا تريده عاشقاً لها كما تعشقه فإن حدث لن تستطع الإبتعاد.

ابتعدت عنه بناظريها واحتمت بأقرب كرسي لها تخفي فيه ضعفها، بينما هو فقد انفجر بداخله بركان الغضب وأخرج ما به من حمم كان صاحبها من جحيمها يتلظى يعلن بكلماته أنه قد حان وقت الخروج من ذاك الجحيم:
_لقد ضربت في الأرض منذ أتممت عامي العاشر وخضت معارك كثيرة مع من حولي اقربهم لي وابعدهم عني، توفي والدي مبكراً فتزوجت أمي من بعده يونس السعيد...تقرب منها وسقاها من خمر الهوى ما أسكرها وانساها بحديثه وحبه المزعوم ابنها الوحيد، وضعت تحت قدميه كل مالها وما تركه والدي لي وتركتني هكذا دونما مال ولا أم..فقدت بفقدانها الأمل في الحياة، خيرها يونس بينه وبيني فاختارته ورمت بي..كان والدي قد ترك لي وديعة نقدية لا يستطيع أحد التصرف فيها سواي، وعندما علم بأمرها عاد وتودد لي وأعاد لي أمي ولكنها وفور اتمامي عامي الثامن عشر وحصولي عليها أخذتها هي مني بحجة مرضها التي أوهمتني به ثم أعطته إياها..وعندما نفذ ما لديها تزوج عليها مرة أخرى، كانت حامل بچويرية وتوفيت فور انجابها لها...أخذتها وهي ما تزال رضيعة وكنت اهتم بها وكأنها ابنتي لا اختي حتى طالبته زوجته الأخيرة بضمها إليه كانت قد أتمت عامها العاشر، لم أك أعلم أنه رأى فيها مورد رزق قد انقطع عنه...صدقيني؟!
تطلعت إليه بعينين مزينتين بنظرة كلها تساؤل، ثم جهرت بما يدور بخلدها وقد نأت بنظرها عنه مرة أخرى:
_لماذا تخبرني بذلك الآن؟!
كانت تسأله بنبرة صوت بدت هجومية أكثر منها تعجبية، بينما كان يتفرس وجهها عينيها بأهدابها الطويلة، انفها الدقيق، وجنتيها الحمراوين غضباً يخالطه الحرج، عنقها المخفي وراء حجابها وهو يرسمه بخياله تلك الرفة التي أصابت شفتيها فاهتزت لها برقة
جاء سؤالها كصعقة برق صعقته كي يستفيق من شروده ليسألها هو في استفهام لحالها معه رغم ما باح لها به من مكنونات صدره:
_ لماذا ما بيني وبينك كما بين الشمس والأرض؟! فأنا وإن حدثتك بما يجيش به صدري تزورين عني، وإن نظرت في عينيك تدفعيني في صدري بالرفض راغبة..في الفينة بعد الفينة أجد منك حالاً غير الحال...ما بك؟!
توترت وقد أصابها ما أصابها جراء كلماته التي جاءت في صميمها:
_أسألك فلمَ الصمت؟!
سألها صارخاً فصرخت فيه هي الأخرى مجيبة:
_ ماذا تريد الآن؟!
شعر باليأس يتآكله وهي تسأله هكذا سؤال، تنهد زافرًا ما في صدره من هذه المرأة وما تفعله به من أعاجيب، تهدلت كتفيه بخيبة أمل، ثم أجابها بصوت ملؤه الرجاء:
_چويرية! لها لدي حق ويجب أن تساعديني في إيفائها إياه!
رفعت بصرها إليه:
_كيف؟!
للمرة الأولى منذ بدأ حديثهما تنظر إلى عمق عينيه وتسأله بمثل هذا الإهتمام الذي لاح في كلمتها وصوتها وعينيها، كان يريد منها أن تتحدث بما يزيد عن كلمة لكنها قاسية القلب اكتفت بها فقط:
_عرفتك بچويرية كي تساعديها وهو..هو ما لم تستطيعين إليه سبيلاً...هي اختارت أبيها ولكنه أراد نفسه..أنا أريد تقديم شكوى بحقه وبحق زوجها…
قاطعته انچي متململة بعدما مسدت مؤخرة عنقها:
_ أبيها أحق بحقها ذاك فلما تسألني المساندة؟!
كان رجاؤها الوحيد هو أن يتركها لسبيلها ويذهب في سبيله؛ فهي لم تشعر بهذا الأمان الذي تشعر به معه من قبل وهو أكثر ما يقلقها ويخيفها.. يخيفها أكثر أن يكون كلام وداد معها صحيح وأنها بالفعل تهرب منه لأنها تعشقه، بينما هو انفرج ثغره عن ابتسامة جانبية ساخرة ثم أجابها بكلمات لاتخلو من التهكم:
_ والدها نال حقها حقا! وتنازل عن القضية..
جحظت عينيها وقد أخذتها كلماته إلى زمان ليس ببعيد عنها وحدث ليس بغريب؛ حينما كانت تصرخ في المرات القليلة التي استطاعت الوقوف فيها أمام زوجها تترجى حريتها منه فيضربها ويذلها ويصرخ فيها هو الآخر إمعانا في ذلها:
_لقد دفعت لأبيك كي تكونين لي كما أشتهي..أنتِ هنا كي توهمين العقربة بأنني مازلت بكامل قدرتي..كلمة تزيد أو تقل عما أخبرك به تكن فيها نهايتك…
شردت في ماضيها بعينين زائغتين وأذنين قد صمتا عما حولها وصدر يعلو ويهبط وقد ضاقت ترائبه فأصبحت على التنفس غير قادرة، حتى أتتها وداد من خلفها ثم وضعت يدها على عاتقها فزفرت انچي مصعوقة ما بداخلها من ضيق، ثم عادت إلى واقعها وسمعتها وهي تقول:
_ يا له من خسيس! كيف استطاع فعلها وهي ابنته لم يبرد جسدها تحت الثرى؟! ماذا يسري بعروقه؟!
انتبهت انچي لأسئلتها ثم أجابت غير واعية:
_كما استطاع غيره من قبله…
ثم استدارت إلى رمزي رافعة رأسها بكبرياء وهي تخبره آمرة:
_أمهلني ساعات الليل وفي الصباح يكن لنا حديث!
كانت السماء ما زالت على حالها من الإضطراب وعدم الاستقرار فسألها برقة قيدتها عن الرفض:
_اسمحي لي بالمكوث قليلاً لحين توقف المطر؟!


عبير نيسان غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-10-20, 05:42 PM   #9

عبير نيسان

كاتبة بمنتدى قصص من وحي الاعضاء


? العضوٌ??? » 423609
?  التسِجيلٌ » May 2018
? مشَارَ?اتْي » 174
?  نُقآطِيْ » عبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل السادس

هي أذنت له بالمبيت وهو لم يستطع للنوم سبيل، فكان يتقلب على جنبيه وكأنه يفترش الجمر لا القطن الناعم ويلتحف باللهب الحارق، أخذ يفكر فيما حدث ويحدث له.
كيف كان وكيف أصبح؟!
تساءل في تعجب، هو الفتى الذي أعرض عن الحب خوفاً من غدره، وهو الرجل الذي أعرض عن الزواج رهبةً منه، يصارح حبيبته بحبه هكذا وهو في خضم أحزانه! يا لشقاءك يا رجل! لا بل يا لحماقتك!
تذكر حالها حين أخبرها بمدى أهميتها لديه وكيف كان وجهها وهي تجاهد ألا يقع نظرها عليه، كانت ترتعش حتى أنها احتمت بالمقعد كي تخفي ضعفها، هي وإن كان ظاهرها قوي، صلد فباطنها ضعيف لدن، وهو يعلم هذا ليتها تسمح له بما تمنعه عن نفسها وتترك له عنان إخراجها من شرنقتها السوداء تلك!
تراخت أجفانه على صورتها في مخيلته وهو يخبرها متمتماً:
_أنتهي فقط من حساب يونس السعيد، ثم بعدها يأتي دورك.

تركت أمر مبيته لوداد ودخلت غرفتها تفكر فيما وضعت فيه قسراً، تجهل سبب استساغتها للأمر..هي تريد مساعدته رغم رفضها للاقتراب منه، تذكرت حديثها مع وداد قبل وصوله وهي تقول لها:"أخشى الوقوع في الحب فبقدر ما يمنح من قوة لكنه لن يمنحني سوى الألم!" وكيف سألتها وداد عنه ثم اتبعت قائلة:
_اتركي لقلبك العنان هو سيقرر ماذا يختار...أن البعد فليكن وإن القرب فلا تمنعي!
ليتها تستطيع فقد ذاكرتها القديمة ونسيان ما حدث لها لاستطاعت بحق عيش ما سيأتي!
هكذا تمنت وهي تضغط بسبابتها وابهامها فوق انفها على جانبي عينيها.
♡♡♡♡♡♡♡
أخذت تفكر في غرفتها قرابة الأربع ساعات حتى لاح نور الفجر من خلال نافذتها دون أن تشعر بمرور الوقت، صدى كلماته يتردد في أذنها مصاحبًا لها:
"أنا وإن لم أبكي هجر أمي لي ولا موت أختي ولو لمرة واحدة لكنني سأبكي لفراقك أنتِ الف مرة ومرة…"
تعلق كفيها بعنقها وهي تدلكه بقوة وقد أغمضت عينيها تستعيد كلماته حرف حرف:
".. أنا لي في قربك عزاء عن فقد الدنيا.."
رفعت يدها إلى شفتيها كأنها تتلمس أحرف كلماته: لي في قربك عزاء..عن فقد الدنيا..
وعلى ذكر الفقد تذكرت چويرية فأخذت تتساءل في حيرة وقلق عن الوضع الذي سمحت لنفسها بالوقوع فيه..ترى أتستطيع حقا رد حق انچي وچويرية؟!
قطع عليها خلوتها دخول وداد مخبرة إياها في تعجب:
_مازال صاحبنا نائما على الأريكة وكأنه لم ينم منذ قرون!
رفعت بصرها إليها على حالها فلم تحاول إخفاء حيرتها وما يعتريها من قلق وخوف، فتابعت وداد سائلة:
_فيم الخوف والقلق ذاك؟!
_أخشى ألا أستطيع..سيتهمونها بأبشع التهم و..
قاطعتها وداد راجية، ناشدة طمأنتها وهي تنزل كفيها لجانبها وتدلك لها بيدها هي كتفها:
_ وعسى الذي برأ مريم من ظن السوء بها يبرأها مما قد يلصق في طرفها!
رنين جرس الباب قطع عليهما حديثهما فقامت انچي تجيبه وقد كانت الشمس قد أشرقت بعد تلك الليلة الباردة الممطرة، مانحة الأرض بعض من الدفء تزيح به برودتها وتغمر نواحيها بالنور.
كانت زوجة يونس السعيد هي من تقف بالباب في انتظار الإذن لها بالدخول، بينما رمزي الذي أيقظه رنين الجرس يقف هو الآخر بوجه ناعس مذهول خلف انچي!
كان هو أول المتحدثين سائلاً:
_ما الذي جاء بك إلى هنا؟!
تحدثت في خوف ورهبة بشفتين قد أزرق لونهما ويدين تمسكان بطفلين يرتعشون من شدة البرودة:
_أنا بالخارج منذ الفجر...ذهبت إلى منزلك فلم أجدك فأتيت إلى هنا..ملاذي الوحيد بعدك!
استرقت النظر على استحياء إلى انچي فدعتها إلى الدخول راغمة؛ وقد رأت مبلغ التعب والإجهاد الذي طالها وطفليها، بينما سألها رمزي وهو يساعدك الطفلين في الدخول:
_علم يونس بخروجك؟!
أشارت نافية، ثم تابعت بصوت مكلوم:
_لم أكن أعلم أنه بتلك الوضاعة والخسة..قتلها ذاك الشاب وهو لم يمد يده مطالباً سوى بالمال!
أنهت عبارتها وقد سقطت دموعها التي لم تستطع منعها أكثر فتركها رمزي تنهي ما بجعبتها من ألم وحزن، بينما انچي لم تستطع الصمت فسألتها بنبرة ونظرة لا تخلو من الإتهام:
_ألم تكوني أنت المطالبة بضمها باديء الأمر؟!
رفعت نظرها إليها وقد راعها نظرة الإتهام تلك ثم أجابتها بنبرة صادقة:
_نعم، لكن كنت أرى فيها فتاة تحتاج إلى أم
وأنا كان بي حاجة إلى ابنة بعد وفاة ابنتي من زوجي الأول...كان يونس قد تزوج أكثر من مرة لكن كل زوجاته كن على قيد الحياة بينما هي كانت دون أم...قمت بتربيتها كابنتي ولكنني لم أعلم أنه كان يبحث فيها عن مورد رزق..أقسم لك!
عقب رمزي وهو يمسك بالطفلين:
_ليست بك حاجة إلى القسم...ستكونين بموضع الأخت لي ولن تعودي إليه مرة أخرى وأنا من سيتكفل برعايتك والطفلين، لكن يبقى حق چويرية باديء ذي بدء ثم يكن لنا مقال آخر معه بخصوصك!
كانت انچي تنصت إلى حديثه فلما قال ذلك عظم في عينيها وثبتت مروءته لديها أكثر وتمنت لو استطاعت دك ذاك الحائط الذي أقامته في زمانها بينها وبين بني آدم فقط كي تستطيع النظر إليه كما ترغب روحها!
استضافها رمزي بعد استئذان انچي وهو يقول:
_سأخرج لبضع دقائق اشتري فيها بعض الضروريات، ثم نتحدث حول قضية چويرية.
♕♕♕•°•♕♕♕
بعد مرور ساعات قضتهم انچي في جمع أكبر قدر من المعلومات حول راجح واتصالها بالطب الشرعي الذي أكد العامل به أن والد المجني عليها استخرج شهادة تفيد بأن الوفاة جاءت طبيعية قبل دفنها، تلك الورقة التي لو ثبت صحتها ستغلق أمامها كافة الأبواب!
تبادلت النقاش مع وداد ورمزي واضعين كافة الإحتمالات التي من شأنها غلق القضية والذي أصر فيها الأخير أن يشمل يونس السعيد بالإتهام فيها، وبينما كانوا يتناقشون تدخلت زوجة يونس مخبرة إياهم بما غير مجرى الحديث تماماً:
_چويرية تزوجت من راجح...لكنها لم..هي كانت..هو لم…
حثتها انچي دافعة إياها للمتابعة:
_ إذا كان لديك ما سيعيد حقها كاملاً، فلا تتواني لحظة في قوله...هي ابنتك أليس كذلك؟!
_نعم!
قالتها في تردد وقلق وهي تسترق النظر إلى رمزي، الذي أشار لها أن تتابع:
_لقد تزوجها راجح ولكن ابنه هو من...من..
تابعت انچي سائلة وقد فطنت إلى سبب إحراجها وتمنعها عن التلفظ بالكلمة:
_دخل بها؟!
إشارة المرأة بالموافقة جعلت الدم يغلي في رأسهم جميعا وأولهم كان رمزي الذي قام دافعاً كرسيه بقوة وهو يصرخ:
_الوغد! كيف تقولين ذلك؟!
بينما صرخت وداد:
_ يا الٰه السمٰوات..رحماك ربي!
ارتعشت عائشة وهي تطرق بنظرها أرضاً، بينما صاحت وداد متابعة:
_ما هذه الخسة؟! كيف تأتى لهم ذلك؟!
تمالكت انچي رباطة جأشها وسألتها رغم ما تشعر به من غثيان وألم في معدتها:
_سيدة عائشة، هل ما تفوهتِ به حقيقة أم...إذ أنه لو كان حقيقة فهو ما سيقلب موازين القضية كلها.
أومأت المرأة بالموافقة والدموع تتساقط من عينيها في كفيها المضمومتين.
تذكرت الشاب الذي كان يقف خلف يونس في الطب الشرعي وكان يجيبها في استهزاء وسخرية، وكأنه ببواطن الأمر كان يعلم وبنهايته كان موقن.
التفتت إلى رمزي قائلة:
_إذا كان الأمر صحيح فالموازين هنا تتغير، سنبحث في تاريخ راجح القديم وتاريخ أسرته..كل شئ يمت بصلة لهم ليس لدينا سوى بضعة أيام كي نجمع من الحقائق ما يحفر لهم قبورهم.
كان رمزي يضم قبضته على الحائط يلقي نصف سمعه إلى انچي والنصف الآخر يفكر فيما حدث مع تلك الصغيرة التي كانت تستغيث به وهو لم يغيثها.
ظلمات ودوائر اكثر ظلمه تلقفته وحيداً مأسوراً، ندم، غضب وغليان هكذا كان يشعر...يضم قبضته راغباً في ضرب احدهم يتطاير الشرر من عينيه بطريقة جعلت انچي تنتبه له فصاحت فيه في حنق هائل:
_رمزي ليس وقت الغضب الآن وإنما وقت الأخذ بالثأر...عد إلى رشدك إذا أردت مساعدتي.
♕♕♕•°•♕♕♕♕
كانت إقبال تعلم أن زوجها يهرب من مواجهة أخته لذا هو يختفي خلف الهاتف يطلبها مرة ولت يعيدها ثانية، بينما ابنتها مازالت في سجنها وإن لم تقدم لها يد المساعدة ستحاكم بما ينهي حياتها وإن عاشت!
أخذت رقم الهاتف خلسة دون أن يشعر بها أحد واتصلت بصاحبته التي لم تجب.
دخلت غرفة ابنها الذي أغلق على نفسه منذ الحادث وسألته البحث عن عنوان صاحبة رقم الهاتف:
_لماذا يا أمي؟
هكذا سألها في ذهول لتجيبه بإصرار وثبات لم يتلبسها سوى منذ بضعة أيام:
_ لأنها ستكون ورقة خروجنا مما نحن فيه!
هكذا أخبرته ثم أمرته أن يجد عنوانها دون علم والده وتركته عائدة إلى زوجها.
♕♕♕•°•♕♕♕
على باب قاعة المحكمة وقفت انچي ترتب أوراقها بيد ترتعش وكأنها قضيتها الأولى، هاتفت أمها الروحية سائلة إياها الدعم والذي قدمته كعادتها معها، أتى رمزي من خلفها وهو يقول:
_انا أثق بقدرتك على الثأر لها تمام الثقة، كما أعلم أنه لا مفر من القدر…
قاطعته سائلة بذهول:
_لماذا تخبرني بذلك؟!
ذم شفتيه قليلاً قبل أن يخبرها:
_راجح ويونس من أسوأ الأشخاص الذين قد تقابلينهم...سيفعلون الأعاجيب كي ينفذوا بفعلتهم..لذا لا أريدك أن تضغطي على نفسك كثيراً، كما أنني أستطيع الثأر لها حتى وإن لم يساعدني القانون.
تعلقت عيناها بعينيه وهي تسبر أغوارهما بإعجاب لاح في نظراتها ثم عقبت على حديثه بصوت قد بحت نبرته بعدما جاشت نفسها إليه عشقاً وولهاً:
_لا تقلق سنأتيها بحقها.
بعد دقائق عدة وقفت انچي في منتصف القاعة تقول بصوت جلجل جدرانها:
_لا أحد منا يختار قومه ولا يومه لكننا نعلم أنه
من لا أمس ليومه ولا قديم لقومه هو كنبت شيطاني يخرج لا تعلم متى ولا من أين؟!
وعلى هذا يعمل جميعنا على أن يكون أمسه طيب ليكن حاضره عطر!
كانت هذه ديباجة مرافعة انچي والتي اتبعتها قائلة:
_وفي قضيتنا هذه فتاة أمسها أب جهل من معنى الكلمة ما تقتضيه من معاني كالسند، الحنان، العطف والمحبة التي لن يستطيع غيره إيفائها إياها.
أب وجد في فلذة كبدة قطعة من لحم كلما كبرت كلما ازداد عليها الطلب!
أب وجد في رجل كهل يصرف كثيراً ويجني أكثر تاجر لا مثيل له سيشتري مهما وضع من ثمن!
باع الأب قطعة اللحم خاصته واشترى البائع لكنه لم يشترِ له وإنما لآخر لا يمت للانسانية بصلة وتنأى الحيوانات عن أن يتشبه بها وإن في صفة الوحشية؛ فحتى الوحوش تلتزم في وحشيتها بقانون يحمي الجميع!
سيدي القاضي، ليس من مات واستراح من هم الدنيا وظلمها بميت إنما الميت هو من عاش ميتًا بين الأحياء..الجاهل ميت، الظالم ميت، آكل الحقوق ميت وآكل لحوم البشر ميت!
نعم آكل لحوم البشر من الأموات ففي الصورة يكن صورة إنسان وإنما في الحقيقة هو بقلب حيوان، لا يعرف باب الهدى فيتبعه ولا باب الضلال فيصد عنه و ذلك يكون هو الميت بين الأحياء.
سيدي يقال في السلف: من نصب نفسه للناس إماما فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، و ليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه؛ ونحن هنا بصدد قضية نصب فيها المدعى عليه نفسه كراعٍ على ابنته بعدما كانت في كنف أخيها لمدة تنيف عن العقد بقليل، منحها عطف في ظاهره الحب وفي باطنه الغدر...كان يمني نفسه مع بداية كل حول بصبية تأخذ من حسن حواء ما يجعل أبناء آدم يتدافعون دفعاً أمامه…
وقد حدثنا الرسول الكريم أنه: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان.
"حديث شريف"
هنا الراعي خان أمانته فهو منافق، وقد حدثنا السلف في «نهج البلاغة» وقالوا:
"أحذركم أهل النفاق، فإنهم الضالون المضلون، و الزالون المزلون، يتلونون ألوانا، و يفتنون افتنانا، ويرصدونكم بكل مرصاد، يمشون الخفاء، و يدبّون الضراء، لهم بكل طريق صريع، وإلى كل قلب شفيع، و لكل شجو دموع.
يتقارضون الثناء، و يترقبون الجزاء، إذا سألوا ألحفوا{ألح في المسألة وهو مستغني عنها}، وإذا عذلوا كشفوا، وإن حكموا أسرفوا، قد أعدّوا لكل حق باطلاً، ولكل قائم مائلًا و لكل حي قاتلًا، ولكل باب مفتاحا و لكل ليل مصباحًا… أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون."
وهو ما اتفق وصفة يونس السعيد الذي ألبس الحق باطلا أمام ابنته فجعلها تلقي بنفسها إلى التهلكة ظنّا منها أنها على طريق الحق بإنقاذ عائلتها.
سيدي القاضي:"إن تنصروا اللّه ينصركم و يثبت أقدامكم"
هي آية ذكرت في القرآن الكريم نكررها مرات عدة في جهل منا لمعناها وهدفها الحقيقي، فان نصرنا الحق سينصرنا الحق ونحن هنا لنصر كلمة الله حتى ينصرنا الله على أنفسنا.
المجني عليها هي فتاة في بداية الخامسة عشر من عمرها، حضرت إلى محل عملي الخاص طالبة العون في مواجهة أبيها ورفض عجوز تقدم لخطبتها، وفي اليوم التالي ذهبت إلى المذكور رغبة مني في حل الأمر ودياً، لكنه رفض رفضاً تاما متعللاً بضيق الحال وكثرة الأولاد.
عزمت حينها على رفع قضية ضم للأخ غير الشقيق لاستحالة الرعاية ولكن سبق الأب بخطوة وقام بتزويج ابنته دون موافقة أو استشارة…
وحينما علمت بما حدث ذهبت وأخ المجني عليها إلى بيت الزوج وأخبرتها بأنني ما زلت بجوارها، لكنها وبعد حديث هامس قصير من طرف الأب لها رفضت الخروج وحينما اتهمتها بالضعف والانهزامية نفت معللة:" أستطيع ولكن ليس بأذيتهم، ما أرجوه الحياة ولكن ليس بموتهم، ان كنت ضعيفة فعذري لضعفي أنه أبي وإن كنت انهزامية فعذري لمستقبل أخشى ظلمته!
هكذا أخبرتني سيدي ليلتها، ليأتي لي خبر موتها بعدها بعدة أيام فقط!
تحشرج صوتها فأرادت أن تتوقف وتلفظ الحشرجة دموعها تريحها، لكنها أبت ذلك وتابعت:
_ولأخبر سيادتكم بما يقلق أعشار القلوب ويحرقها حرقاً فمنذ ثلاثة ليال فقط علمت أن الأب قد تزوجها من أجل ابنه المريض نفسياً!
نعم سيدي القاضي ومرفق بالتقرير أمامكم شهادة الطبيب النفسي المعالج له والذي وصفه بالشخص السادي، كما وأنه ارفق شهادة زوجات الجاني السابقات وما أحدثه من إصابات بهن...وهنا_ورفعت إليه ملف آخر_ أرفق نسخ ضوئية من عقود زواج للأب بفتيات اعترفن بأنهن تزوجن بالابن لا بالأب كما كن يعتقدن!
أما هذه الورقة فهي صورة ضوئية عن التقرير الأصلي الذي صدر بادئ الأمر عن سبب الوفاة ألا وهو نزيف حاد إثر علاقة زوجية حادة، والذي طمسه الجاني رشاد راجح بالرشوة المقدمة للطبيب سالم المعداوي.

أما هذه الورقة فمثبت بها مجمل الاتصالات التي قامت بها المجني عليها خلسة بزوجة أبيها وبأبيها نفسه والتي ذكرت فيها ما يحدث من زوجها وابنه مطالبة أبيها بانقاذها.
أذكركم وأذكر نفسي بقول النبي صلّ الله عليه وسلم من ردّ عن عرض أخيه كان له حجابا من النار.
انتهت انچي من المرافعة بعدما انتهى محامي الخصم، ومن ثم بدأ القاضي في استدعاء شهود النفي المثبت أسمائهم في محضر الجلسة، بعدما احتفظت هي بحق استدعاء شهود الإثبات إلى وقت آخر.
لم تجادل انچي ولم تعترض وهي ترى زميلها يرقص رقصته الأخيرة كطير مذبوح أمام الحقائق التي أتت هي بها، ألقت بنظرها تجاه رمزي الذي أشار لها بالمتابعة دون خوف أو رهبة وأشار لها انه بجوارها داعما لها.

كانت تستمع إلى زميلها ودفوعه وهي تبتسم ساخرة مما تؤول إليه الأخلاق من انحدار وسقوط وحينما سألها القاضي عن دفوعها، قامت هي مرفوعة الهامة واثقة الخطى ومنبسطة المنكبين، وقد مسكت ياقة دثارها الأسود المطعمة باللون الذهبي وقالت في كبرياء بعدما سحبت نفساً عميقاً:
_سيدي أطلب فيمن أطلب والدة المدعى عليه صفية المختار!
تعالت الهمهمات مستنكرة بينما كانت المرأة من بين الجالسين واقفة وتعبير الصدمة هو فقط ما يزين وجهها كانت تشير إليها رافضة بينما صاح فيها رئيس الجلسة:
_اذا امتنعت عن الشهادة تكونين ممن كتم شهادة عن الناس وحينها ستكون عقوبة الآخرة أسوأ من الدنيا.
وقفت على امتناع وحذر وتقدمت من الحضور فسألتها انچي وهي ما تزال على حالها من الفخر والكبرياء:
_أسألك فقط وتحت شعار العدالة والقسم باسم الله الأعظم ويدك فوق كتابه العزيز..هل ما ثبت في تقرير الطبيب النفسي عن حالة ابنك صحيح أم غير ذلك؟!
نكست المرأة رأسها وقد تناثرت دموعها كتناثر الثريا في عنق الثور، ولم تجيبها!
تابعت انچي محذرة:
_هنا لا يعترف بالصمت إجابة سيدتي...أنت إمرأة أزهرية ومعلمة بالأزهر الشريف، فلا تكوني سوى لسان صدق عما حدث..هل ما ذكر بالتقرير الطبي صحيح؟!
أومأت المرأة بالإيجاب، فتدخل القاضي مراعياً موقفها:
_هل أعتبر إشارتك تلك بنعم؟!
أقرت بالموافقة فأقر هو الآخر بها، لتعود انچي فتسألها:
_هل تزوج السيد…
رفعت المرأة رأسها راجية بعينين دامعتين منكسرتين وفم يرتعش، فتوقفت انچي مقرة في تفهم:
_سأكتفي سيدي بما قالته حالياً واحتفظ بحق استدعائي لها مرة أخرى، واستدعي السيدة وصال قطب طليقة المدعى عليه الأخيرة.
حضرت المعنية بالطلب وقد أقرت ما بالمدعى عليه من مرض نفسي وسوء معاملة، وسادية أثناء العلاقة قد تصل بالطرف الآخر إلى حد النزف.
هنا وقف رشاد راجح صارخا بكل ما فيه من غيظ وأوداج تنتفض في انچي:
_ماذا ينتظر من زانية مثلك لزانية مثلها؟! هي أقامت علاقة مع رجل آخر وتريدين أنتِ أن تحمليني وزرها هذا أبيها اسأ..
قاطعه القاضي في حزم:
_التزم الصمت ولا تتحدث دون إذن، ولا ترمي المحصنات دون بيّنة.
عقبت انچي موجهة حديثها إلى القاضي:
_كنت أعلم سيدي القاضي أنه سيتطرق إلى هذا الحدث، لكن سيدي مرفق في هذا الملف مقتطفات من قضية مشابهة قذفت فيها فتاة بالزنا دون بينة ولا دليل..
قاطعها القاضي بصوته الجهوري الحازم وهو ينظر من خلف زجاج نظارته:
_هنا يا سيدتي لا يوجد حكم دون دليل أو شهود، وانت يا سيد رشاد هل لديك من يؤكد خيانة المتوفاة؟!
اضطرب المعني بالسؤال ولاح التوتر على وجهه وهو يبحث في عقله عما يجيبه به، وأعاد القاضي سؤاله مرة أخرى فلم يجب ليامره القاضي بالتزام الصمت كي لا يعاقب، لتتدخل انچي مطالبة:
_سيدي أطلب من السيدة عائشة زوجة السيد يونس المثول أمامكم لسؤالها، وفور الإذن للمعنية بالطلب سألتها انچي:
_سيدة عائشة في مساء ليلة...اتصلت بك المجني عليها هل تخبريني السبب؟!
أومأت عائشة وأتبعت قائلة وهي تكفكف دمعها:
_اتصلت بي چويرية طالبة مني الاتصال بأخيها لأنه لم يجيبها على اتصالها وحينما سألتها السبب أجابت أنها تزوجت من الأب لكن الإبن هو من يريد الدخول بها وأنها احتمت بأمه التي أعطتها الهاتف الخاص بها للاتصال بي بعدما أُخذ منها هاتفها..
توقفت وقد تشنج صوتها بدموعها، لتسألها انچي بصوت متوتر:
_ثم؟!
تابعت عائشة بصوت متحشرج:
_أخبرتها أن تدافع عن نفسها بكل ما أوتيت من قوة لحين حضور والدها، وأخبرته لكنه لم يجب بشيء وحينما كررت الحديث أجابني بالسباب واتبع أنه لا شأن لي وأنه المسؤول...بعدها بيوم وليلتين اتصلت بي چويرية باكية ناحبة وهي تقول أنه قيدها كل طرف على حده ووطئها بقوة لا حول لها بها وأنها تريد أخيها..اتصلت به مرارا ولكنه لم يجب فذهبت إليه ليلة وفاتها حينما فاض بي الكيل وأخبرته أنها تعيش في بؤس وتريده ولكنه حينما وصل إليها كانت في حالة يرثى لها..كانت قد..كانت تنزف كثيراً و..توفيت قبل أن تصل إلى المشفى..و…
كانت الصورة ترتسم رويداً أمام ناظري انچي التي عايشت مثلها لتخترق دمعة واحدة حجاب عينيها الرقيق وتمسحها هي بسرعة سائلة في صوت يغالبه البكاء:
_ وماذا كان رد فعل أبيها حينما علم بوفاتها والسبب فيه؟!
أجابتها عائشة في انكسار وقد أسبل الدمع من عينيها المنكسرتين:
_ أعطاه رشاد مزيد من الأموال كي يصمت عما حدث ووهبه بيتاً جديداً كي ينسى ما حدث وهو ما حدث.
نظر القاضي إلى محضر الجلسة وكافة الدفوع التي قدمتها انچي والمحامي الآخر ثم أطرق مفكراً وحينما هم بالحديث قاطعته والدة الجاني صائحة في رجاء:
_سيدي القاضي، لدي كلمة فاسمح لي سيادتكم..
أشار لها الرجل فتابعت مبررة فعلة ابنها كي يرحمه قاضي الأرض، وقد شهقت شهقة أليمة تدفع بها ما تشعر به من خوف يصاحبه ضعف أشبه ما يكون تخاذل ويرع:
_ نحيا كما يحيا الجميع في خضم صراع مع الحياة على الأقوى، وتمر على الواحد منا من المصائب الثقال ما ينساها فور انفراجها لتعركه الحياة بأخرى فيعود لتذكر مجمل مصائبه...أنا زوجة وأم كغيري من الأمهات تحيا فقط من أجل بيتها وأولادها...رزقني الله من الأولاد خمسة ومن البنات ثلاثة..توفي أربعة من الأولاد وتبقى فقط رشاد واخواته الثلاثة، كانت مصيبة ما بعدها أخرى..لم أكن أعلم أن الأخرى ستكون الأقوى وانها ستأتي مني أنا، نعم فحرصي الزائد على من تبقى لي سبــ...انا…
غصت فضاق صدرها لتتوقف معتذرة تلفظ ما غصت به، ثم تابعت منتحبة:
_سيدي ما يحدث هو نتاج زيغنا جميعاً عن الحق وليس لابني وحده دخل فيه، أنا وافقت زوجي على ما طلبه مني رغبة في إسعاد ابني وتحقيق رغبة عائلة في إمتداد نسلها بين بني آدم...
وشرقت بدمعها لتتوقف مرة أخرى، أما رشاد فقد اشتد به القلق وامه تتحدث متطرقة إلى أمور هو في غنى عن ذكرها الآن، ليقف ويقاطعها صارخاً فيها:
_أمي! لا المكان ولا الزمان يناسب ما تذكريه الآن..
نظرت إليه باكية فكان ينظر إليها راجياً في قسمات وجهه تذلل ورجاء، لتنقل نظرها إلى زوجها وتجده ينظر إليها في حزم وتحذير قوي، فتدخلت انچي مناشدة فيها صوت الأم والمعلمة والمتعلمة لدروس دينها:
_ تعلمين أنه لولا إمرأة لما خرجت مما أوحلتني به امرأة أخرى...سيدتي چويرية ماتت ولكن روحها مازالت موجودة بدنيانا مطالبة بما لها من حق بين يديك..أنتِ ستكونين السبب في خروج ذكراها من سبة ليست بها، أرجوك بكل ما في قلبك من بقايا ايمان!
لمعت عينيها بارقة ودموعها منهمرة دون توقف:
_تزوج رشاد منذ سنوات من زميلة له وقد اتفقا على العيش معنا لم أكن أعلم ما بينهما من أمور، فقط كنت أراها تزداد عزلة في كل يوم عن سابقيه، حتى زادت عزلتها وأصبحت حبيسة غرفتها، ثرت غضباً ظنّا مني أنها تتخاذل عن مهام البيت ودخلت غرفتها لأجدها في حالة...ليست..كانت..شبه مقعدة وجسدها مغطى كامله بالكدمات ولا تتحدث فقط تبكي..تقدمت منها لتصرخ هي، أنا..لم أكن أعلم ما يحدث بينهما، صدقيني..هاتفت والدها فقد كان زوجي بالخارج وابني في عمله حينها..أتى مسرعا وأخذها إلى المشفى وحينما علم زوجي وابني ثارا في وجهي ونالني من زوجي ما نلته من…
احتضنت المرأة كتفيها مرتعدة، كان القاضي ينظر إليها بعينين إحداهما كانت عين الرحمة والأخرى كانت عين الواجب، أرادها أن تصمت قليلا لتستريح، ولكنه أرادها أيضا أن تتابع تفاديا لأي ضغط ممن حولها كي يغلقوا فمها، فتركها تتابع بصوت يقطر ألما ومرارة:
_بعدها بعام كان قد تزوج مرة أخرى ولكن زوجته انفصلت عنه بعد يومين فقط، تكرر الأمر مرتين حتى عرضه والده على طبيب نفسي الذي رأى أنه في حاجة ماسة إلى علاج نفسي..لكنه رفض وتعمد تزويجه مرة أخرى كي يمحق بنصيحة الطبيب…
وانطفأ البريق الذي كان قد لمع في عينيها وهي تقر في تخاذل:
_وتكرر ما حدث مرة أخرى..
تساءلت انچي بصوت رقيق قد بحه كثرة ما به من شجن:
_ما الذي تكرر؟!
تدخل العجوز راجح صارخًا في زوجته زاجراً إياها وقد نظر إليها نظرة بجانب عينه محذراً:
_لن تتفوهي بحرف واحد بعد الآن!
كان ابنها هو الآخر قد وقف بجانب والده فأمرهما القاضي قائلاً:
_سيد راجح ستعتزلنا مجبراً في غرفة جانبية انت وابنك؛ حيث ارتأينا أنكما تعرقلان بحضوركما سير القضية وسيكون حضرة المحامي حاضراً نيابة عنكما.
ما بين هرج ومرج ذُيع بين الحضور ورفض من المأمورين بالخروج امتثلا مجبران ليد الشرطي الذي حضر كي يصحبهما، ثم توجه القاضي إلى السيدة صفية سائلاً:
_طلبت فرصة للحديث! هل لي بمعرفة السبب في طلبك ذاك أم هي مماطلة فقط ؟!
أسبلت أهدابها لوهلة قبل أن تزفر ما بصدرها من ضيق وتقول في حرج بالغ:
_لأوضح أمام أعينكم أنه زوجي هو السبب الرئيسي فيما حدث من إبني وله، جميعنا نعلم أن الراع هو قدوة رعيته في الخير إن سلك طريقه، وفي الشر إن حاد إليه وقد كان زوجي غفر الله له هو راعينا وقد أخذ بيد كل منا إلى طريق مظلم لم يستطع أحدنا الخروج منه..وكان رشاد الأسوأ حظ من جميعنا فقد أخذ والده بيده وسلك به أسوأ السبيلين وأضلهما…
قاطعها القاضي راغباً في مس صلب القضية بعدما شعر بأمر غير هين يحدث خفية في بيت ذلك الرجل:
_سأسألك يا سيدة صفية وأنتِ ستجيبين دون حيد أو ميل عن الحقيقة، لماذا تزوج زوجك من فتاة بمثل عمر چويرية؟!
لم تجبه وقد تعمدت الفرار بنظراتها من نظراته المسلطة عليه، فتابع هو سائلاً:
_حسنا، ليكن السؤال بصيغة أخرى...في الآونة الأخيرة وطبقا لهذه العقود تزوج السيد راجح من عدة فتيات صغيرات بالسن، ثم انفصل عنهن بعد أيام معدودة..لماذا؟!
تمتمت في تهتهة ضعيفة وقد تعمدت الزيغ عن الاجابة المطلوبة:
_لا يوجد قانون يجرم الزواج؟!
كان القاضي يعلم انها تراوغ وتحتال عليه معتصمة بمراوغتها تلك، فصدح بصوته مجلجلا أركان القاعة حتى دب الخوف والقلق بقلوب الحاضرين:
_بلى يوجد قانون يحرم ويجرم زواج القاصرات، كما يوجد قانون يجرم الزواج بإمرأة لم تقبل بذاك الزواج...المرأة تسأل اولا يا ابنة الأزهر!
تملكت منها قشعريرة باردة دبت البرودة في كامل اوصالها فجعلتها ترتعش بقوة، ليتابع هو:
_ستقفين في يوم ما بين يدي الله يا حاملة بقلبك كتابه وبعقلك شرائعه وسنة رسوله وسيسألك عما تعلمتيه هل نفعك ونفعتِ به أم لا؟ سيسألك عن الإسلام الذي آمنت به وتعلمتِ شرائعه لماذا أضعتيه..سيسألك عن حقوق فتيات وأحلامهن التي ضاعت هباء أمام رغبة ابنك الحيوانية وزوجك الدنيوية سيسألك عن قرآن بدل من أن ترفيعه تاج على رأسك يزين حياتك وحياة من حولكِ أرغــ..لا حول ولا قوة إلا بالله، إن أكثر الرجال الخطائين ينئون بأنفسهم رغم أخطائهم عما فعلتيه من ذنب، لا تبحثي بين حواشيه عن علة تلقين بالذنب كله عليها...خطأك واضح؛ أنتِ سكتِ عن الحق والساكت عن الحق شيطان أخرس..
_أنا..
حاولت الدفاع عن نفسها مقاطعة ليقاطعها هو:
_أنتِ ماذا؟! أنتِ تصنعتِ دور شاة ارتضت بأن يلف حول عنقها غلاً تساق به أينما أراد صاحبها حتى أصبحتِ أنتِ الشاة نفسها دون تصنع منك وأصبحت مساقة إلى طريق الهلاك بموافقة منك...
ومع كل كلمة تفوه بها خبا إشراق النور الذي كان قد توقد في وجهها وطفقت تدافع عن نفسها:
_أنا إمرأة واحدة وقفت أمام رجل حرمه الله من نعمة الإنجاب فور إتمامه لعقده الخامس دون سبب أو علة، كأنه عقاب..انا أم لرجل واحد اكتشفت فيه قسوة تسببت فيها قسوة والده معه وخوفه المرضي منه...أنا أم انكسر حائط أمانها بابتعاد بناتها عنها ونشر اخبار أخيهم بين الجميع...أنا لا حول لي ولا بأس مع رجل أراد امتداد لعائلته رغبة في قهر بناته وحرمانهن من ثروته...أنا..
ثم اختنق صوتها بالبكاء فادارت وجهها تتوكأ على ساقين هلاميتين، ليوقفها صوت انچي السائل في استنكار ونفور صارخةً بكل ما يجيش بصدرها وفؤادها من قهر وغل:
_من أي عالم من عوالم الشرق والغرب أتيتم بهذه العقول التي تصور لكم أن النساء سلعة رخيصة لها ثمن يدفع وبدل تالف يلقى به في وجوههن، ثم تبحثوا عن غيرهن؟! ألا تعلمي أنه من أعان ظالما على ظلمه جاء يوم القيامة و على جبهته مكتوب: آيس من رحمة اللّه؟!
_أنا يا ابنتي..
صرخت فيها غافلة عن المكان الذي تقف فيه:
_لست ابنتك، أنتِ… أنتِ معلمة أزهرية مؤتمنة على اكثر من فتاة كيف ترتضين بالزنا يحدث في بيتك...كيف ترتضين برجل ديوث يسيّر لكم حياتكم بتلك النجاسة..
_ بالضرب!
قالتها صارخة بها، وتابعت بصوت باح باكي:
_ بالضرب ارتضيت بالضرب، ارتضيت بضعف قلبي وهوانه، ارتضيت بقسوة زوجي وصلابة رأيه…
تدخل محامي الخصم راجياً في انكسار وتذلل:
_سيدي أطلب من سيادتكم تأجيل نظر القضية لحين..
قاطعه القاضي وهو ينظر إلى عينيه مباشرة من وراء زجاج نظارته:
_ لحين ماذا؟! هل ترى في القضية شيء مبهم أو منقوص يستدعي تأجيل النظر فيها؟!
توتر المحامي وقد غرق وجهه في عرقه الذي يقطر منه وهو يحرك عنقه كالبندول، ليتابع القاضي:
_القضية واضحة وضوح شعاع الشمس ساعة الشروق يا سيد، لا تحتاج إلى تأجيل…
ثم استطرد موجها حديثه إلى الشرطي آمراً:
_ستنتظرنا السيدة صفية بالحجز، ضعها به وائتني برشاد راجح!
استدارت انچي إلى حيث باب القاعة فاستحالت القاعة أمامها إلى قاعة أخرى لكن مشابهة لهذه وكان هو يجلس بآخرها ناظرا إليها في سرور..انتقلت بنظرها إلى نفس المكان هناك بآخر القاعة وعلى إحدى جانبيها لتصطدم به مرة أخرى وكأن الزمان زمانها ولم يتحرك قيد أنملة والمكان كما هو...هو كما هو بنفس نظرة الرغبة تلك والسرور الذي يطغى على قسمات وجهه جميعها!
رفع إسماعيل يمينه مُرحبا وعلى شفتيه ابتسامة تصاحبها غمزة من جانب عينه وقبلة ألقاها في الهواء، أجفلها مرآه واشمئزت من فعلته لتلتفت سريعاً إلى القاضي ويقع فيمن يقع عليهم نظرها على رمزي الذي كان هو الآخر غائبا بعقله في قاعته الخاصة، كأنه يحاسب نفسه ويجلدها على تقصيره تجاه أخته.
_سيد رشاد، أمامي عدة تقارير تختلف في الجهة الصادرة منها وتتفق في مضمونها ألا وهو عنف وسادية في العلاقة الحميمية...هل ما ذكر صحيح؟!
توتر المعني بالسؤال ولم يجد ما يجيبه به شعر بالجميع ينظر إليه منتظرين أن يتحدث هو ارتجف جسده وهو يتخيل ما سيحدث له إن تحدث…سيلتهمونه حتما، فأغلق عينيه وقد ارتعدت أوصاله بُعيد ارتعاد فرائصه كان كطفل صغير وضع وسط حشد كبير دون أمه، أعاد عليه القاضي سؤاله مرة أخرى فلم يجب وقد اطبق شفتيه حتى صارتا كخيط رفيع يكاد يرى ولكن أطرافه ظلت على حالتها.
تنحنح القاضي بعدما لاحظ الحالة النفسية السيئة التي وصل إليها المعني بالسؤال، فدوى صوته باسم راجح المرشدي ليتزلزل ما تبقى من تماسك لابنه رشاد الذي سقط مكانه من شدة خوفه.

حضر راجح ووقف بكل تفاخر وزهو كما لو كان صاحب حق لا آكله، كان القاضي يبصره بعين خبير فهو رجل يرى فيما فعل حق له وينظر إلى هذه المحاكمة بعين الانتقاص، وقفت انچي منتصبة على قامتها في غضب وهمت بسؤاله إلا أنها صمتت فور اشارة القاضي لها بذلك، ثم سأله:
_ما رأيك فيما أنسب إليك؟!
سخر منه سائلاً:
_ وماذا أنسب إلي؟! كلنا هنا يعلم أن الفرد بمفرده لا قيمة له وإنما بعزوته تزداد عزته،
وليس في الأرض إنسان لا أجداد له، فمن ثَم ليس فيما فعلت ذنب أو جريرة! أنا فقط تابع لرغبتي في التناسل.
_لا در درك يا راجحي!
هكذا صرخا انچي ورمزي في صوت واحد، ليصيح بهما القاضي محذراً:
_التزما الصمت وإلا...


عبير نيسان غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-10-20, 05:43 PM   #10

عبير نيسان

كاتبة بمنتدى قصص من وحي الاعضاء


? العضوٌ??? » 423609
?  التسِجيلٌ » May 2018
? مشَارَ?اتْي » 174
?  نُقآطِيْ » عبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond reputeعبير نيسان has a reputation beyond repute
افتراضي

تم نشر الفصلين 5+6
نلقاكم غدا مع الفصل السابع باذن الله


عبير نيسان غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:20 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.