آخر 10 مشاركات
قبل الوداع ارجوك.. لاتذكريني ! * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : البارونة - )           »          السر الغامض (9) للكاتبة: Diana Hamilton *كاملة+روابط* (الكاتـب : بحر الندى - )           »          عشقكَِ عاصمةُ ضباب * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : نورهان عبدالحميد - )           »          سحر التميمة (3) *مميزة ومكتملة*.. سلسلة قلوب تحكي (الكاتـب : كاردينيا الغوازي - )           »          رسائل من سراب (6) *مميزة و مكتملة*.. سلسلة للعشق فصول !! (الكاتـب : blue me - )           »          ليلة مع زوجها المنسي (166) للكاتبة : Annie West .. كاملة (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          تريـاق قلبي (23) -غربية- للمبدعة: فتــون [مميزة] *كاملة&روابط* (الكاتـب : فُتُوْن - )           »          ارقصي عبثاً على أوتاري-قلوب غربية(47)-[حصرياً]للكاتبة::سعيدة أنير*كاملة+رابط*مميزة* (الكاتـب : سعيدة أنير - )           »          بريق نقائك يأسرني *مميزة ومكتملة* (الكاتـب : rontii - )           »          لك بكل الحب (5) "رواية شرقية" بقلم: athenadelta *مميزة* ((كاملة)) (الكاتـب : athenadelta - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > مـنـتـدى قـلــوب أحـــلام > قـلـوب رومـانـسـيـة زائــرة

Like Tree1Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 25-11-20, 08:11 PM   #11

noor1984

مشرفة منتدى قلوب احلام وأقسام الروايات الرومانسية المترجمةوقصر الكتابة الخياليّةوكاتبة،مصممة متألقة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية noor1984

? العضوٌ??? » 309884
?  التسِجيلٌ » Jan 2014
? مشَارَ?اتْي » 23,038
?  نُقآطِيْ » noor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond repute
افتراضي




وماذا بعد...؟!


حملتني عيناكَ كالعصفورِ الصغير
وضعتني في سمــاءٍ علمتني أطير
ألقتني في بحــورٍ ماؤها من حرير
نثرتني ورودًا في نهرٍ في غـــدير

أماني عطاالله


-9-

كانت صدمة عاتية عندما أخبره أحد المسئولين بالداخل أن باب الترشح للمسابقة قد أغلق أمس.. إن أراد التقدم فعليه الانتظار حتى العام القادم.. حاول جاهدًا أن يقنعهم بظروفه الطارئة التي منعته من التواجد في وقت أبكر بلا جدوى.. حتى تقدم سنوات عمره التى قد تمنعه من الترشح لهذه المسابقة مستقبلًا لم تؤثر في قرارهم الذي وجده متعنتًا إلى حد كبير.
أطلق العنان لغضب أحكمه طويلًا فتحول إلى إعصار راح يجرف كل ما حوله ومن حوله.. خرج على إثر صراخه رجلًا أشقر الشعر والبشرة بصحبة آخر أسودهما من إحدى الغرف الجانبية التي كانت مغلقة.. ساد سكون لا يخلو من الرهبة قبل أن يتساءل الأشقر بغطرسة عن سر الضجة التي هزت جدران مكتبه.
لم يكن في حاجة إلى ذكاء ليستنج أن الأشقر الغاضب هو كبيرهم.. ولكن من يكون الأسود الصامت.. يبدو أن سواده لا يقتصر على ملامحه الخارجية فقط.. من الواضح أن قلبه وأفكاره بلون أدكن من وجهه العابس.
حاول باسل أن يبدأ مع الأشقر حوارًا عله يستجيب لمعاناته ويقدر حاجته الماسة للحاق بآخر محطات القطار.. لكن لغته الهزيلة لم تمكنه من التواصل معه طويلًا فأطلق تنهيدة يائسة تاركًا الشرح للمحيطين به.
اقتربت ندى فجأة من الرجل وراحت تتحدث معه بطلاقة وما لبث حديثهما أن تحول إلى حميمية تعجب لها باسل.. كان يعلم التأثير القاتل الذي تتركه كلماتها الممزوجة بنظراتها الشهدية على كل من تتعامل معه.. جربه من قبل.. خورشيد أيضًا لم يسلم منه.. فهل يسلم منه هذا الغريب؟!
انتابه الغضب عندما تمادى الرجل وداعب وجنتها مبتسمًا.. قاوم رغبة تدعوه للبدء في جولة مفتوحة لمصارعة هذا الأشقر الكريه.. لو لم تكن هي الملامة وهي من تستحق العقاب لفعلها دون تردد ولتذهب المسابقة للجحيم.
ولكن ما الذي يغريها لتملق أمثاله.. لماذا تميل دائمًا للعجائز وكبار السن.. تارة خورشيد وتارة هذا الأشقر الوقح..؟! لم يرها يومًا تتقرب لشاب في مثل عمرها بهذا الصوت الناعس والأهداب المُسدلة..!
ربما قُتل والدها في سن مبكر فولد فيها حرمانًا لا يشبعه سواهم.
تضاعف غضبه عندما استدار الأشقر إلى زميله الأسمر مُبتسمًا فبادله الآخر ابتسامته في تهكم.. لو تفهم هذه المعتوهة بأنهما يسخران منها ومن إسلوبها المبتذل ما كانت حطت من قدرها وقدره لهذه الدرجة.. أهى ذاتها من حذرته من التسول منذ قليل.. لماذا لم تقدم لنفسها ذات النصيحة؟
عاد الأشقر ليمسك بذقن ندى قائلًا بصوت دافئ استنفد ما تبقى لـ باسل من رصانة:
- حسنًا يا جميلتي سأمنحه الفرصة من أجلك.
استدار إلى باسل بعدها وقال آمرًا:
- اخلع ملابسك لنرى قوتك العضلية التي تتحدث عنها صديقتك.
تطلع إليه باسل متمردًا ولكنه ما لبث أن شرع في خلع ملابسه رغبة في إرهابه لا نيل رضاه.. فهو لم يعد يرغب في الاشتراك بهذه المسابقة.. عندما انتهى من خلع ملابسه لم تكن لتلك السخرية في عيونهم أثر.. بل تبدلت اهتمامًا.. خاصة من ذلك الأسمر المتهكم الذي كان أشدهم سخطًا واستياءً.
ابتسم الأشقر قائلًا دون أن يرفع عينيه عن باسل:
- ما رأيك يا أوسكار؟
لم يبادله الأسمر حتى ابتسامته بل اقترب من باسل وراح يتفحص عضلاته في تمعن وكأنه يتأكد من حقيقتها.. وأخيرًا هز رأسه راضيًا.. فاتسعت ابتسامة الأشقر وهو يقترب من ندى هامسًا بكلمات لم يسمعها باسل ولكنها زادته جنونًا بلغ ذروته عندما تلألأت عيناها سعادة لإطرائه.. ضحكت ملء شفتيها وشبكت أصابعها العشرة بأصابعه في حماسة وحميمية.. وكأنها تعرفه منذ زمن.
هذا الوقح تطاول كثيرًا.. وهى استعادت عُهرًا ظنها تخلصت منه مؤخرًا.. هل قررت أن تتخذه بديلًا لـ خورشيد؟
استدار الوغد ووجه حديثه إليه وكأنه لاحظ وجوده أخيرًا:
- ادفع قيمة الاشتراك وسجل اسمك في الكشف.. من الجيد أننا لم نرسل الكشوف النهائية بعد.
كان باسل قد انتهى من ارتداء ملابسه مجددًا.. اقترب ليسحبها بعيدًا عنه قائلًا في لامبالاة:
- ليس معي ما يكفي لتسديد قيمة الاشتراك.
- ماذا؟
تطلعت إليه ندى في شك ولكنه استمر في سحبها بعنف لمغادرة المبنى غير عابئ باعتراضها بينما صاح أوسكار على غير توقع:
- انتظر.. سأدفع أنا قيمة اشتراكك.
- وأنا لم أعد أريد الاشتراك.
صمت أوسكار في صدمة انعكست على وجه الأشقر لتشفي شيئًا من غليل باسل بينما أسرعت ندى تسحب ذراعها من قبضته وهي تصرخ فيه مستنكرة:
- هل جننت؟ الفرص الحقيقية لا تتكرر أيها الثور الغبي.
كاد أن يصفعها ولكنها تصرفت كالبرق.. وضعت يدها بين ملابسه وانتزعت محفظته لتخرج منها هويته.. قدمتها للموظف قائلة:
- سجل بياناته.
استدارت بعدها إلى الرجلين الذين وقفا يراقبانها بمرح وابتسمت قائلة:
- متى تريدان منه الحضور؟
هتف أوسكار في حماس:
- صباح الغد.
كافئتهما بعشرات القبلات في الهواء قبل أن تسحبه كـ ثور حقيقي لتغادر المبنى غير عابئة بنظراته النارية التي تلتهمها في غضب.
ربما كانت محقة بالفعل.. فالفرص الحقيقية لا تتكرر.. وأمامه فرصة حقيقية الآن.. وعليه أن يستغلها.. فهذه العاهرة أرخص من أن يضحي بفرصته من أجلها.
تنبه على صوتها الغاضب ما إن ابتعدا عن المبنى:
- لم أكن أقصد أن تتمادى لهذا الحد.. كدتُ أن أصدقك أنا أيضًا.
لم يلتفت إليها فتابعت بعصبية:
- ماذا لو لم تسعفني ذاكرتي بذلك الحل السريع لالتقاط هويتك؟ لكنتَ خسرتَ كل أحلامك التي تتشدق بها.
تطلع إليها وزفر صامتًا فأردفت بدهشة:
- لا تقل بأنكَ لستَ سعيدًا..!
غمغم بتهكم دون أن ينظر إليها:
- سعادتك تكفي.
- نعم.. أنا سعيدة جدًا.. وجائعة أيضًا.. أين البيتزا التي وعدتني بها.. لن أتنازل عن.....
قبل أن تكمل عبارتها كان قد أخرج كل ما معه من نقود وقدمها إليها قائلًا:
- ها هي نقودك.. اشتري بها ما شئتِ.
- باسل.. ماذا حدث؟
أبعد وجهه المكتئب ولم يجبها.. فعادت تثرثر بدهشة:
- ثم أن هذه النقود كثيرة جدًا.. لماذا لم تدفع رسوم المسابقة بنفسك؟
استدار إليها صائحًا:
- لأنني لن أشترك في هذه المسابقة.. أريني إذًا كيف ستسحبينني غدًا كالثور إلى هناك رغمًا عني.
ضحكت في مرح قائلة:
- أهذا إذًا ما يغضبك؟ لأنني نعتك بالثور أمامهم.. لم أكن أقصد أهانتك.. كنتُ مُستاءة من تهورك فحسب.. ثم أنني قلتها بالعربية ولن يفهمها سوانا.
حدق فيها مُستنكرًا فاتسعت ابتسامتها واقتربت لتقبل وجنته ولكنه أزاحها عنه في
تقزز قائلًا:
- لستُ كهلًا بما يكفي لأنال رضاكِ.
قطبت حاجبيها وتطلعت إليه في تساؤل فأردف بضيق:
- ظننتك اتعظت بعد كل ما حدث لـ خورشيد.
- ما الذي تريد قوله؟
- وكأنكِ طفلة لا تدري ما تفعله..!
- كنتُ أريد مصلحتك ليس إلا.. كل ما فعلته كان لأجلك.
- ومن قال بأنني أريد مساعدتك؟
- باسل..!
أمسك بكتفيها وهزها في عنف صارخًا:
- بماذا وعدتِ ذلك الوقح حتى يقبل انضمامي للمسابقة..؟ ما هو ثمن الفرصة التي منحها لي؟
صفعته بقوة لم يتوقعها منها قبل أن تعدو لتصعد إلى إحدى حافلات الركاب التي توقفت في محطة بالقرب منهما.. عندما استوعب الأمر كانت الحافلة قد أغلقت أبوابها وتحركت مبتعدة.. أسرع يشير ساخطًا لإحدى سيارات الأجرة وطلب من السائق تتبعها.
ما إن توقفت الحافلة في محطتها التالية حتى طلب من سائق السيارة التوقف وأسرع يغادرها ليلحق بها.. هدأت رجفتها ما إن رأته لكنها أشاحت بوجهها عنه.. اغتصب ابتسامة وهو يمسك بذراعها هامسًا:
- تعالي معي.
- كلا.. لا أريد معرفتك بعد الآن.
- ندى.. لن نتعارك هنا.. الركاب يتطلعون إلينا.
- ابتعد عني إذًا.
عاودت الحافلة التحرك فعض على شفتيه غيظًا.. من الجيد أن الجالس بجوارها كان مُتفهمًا فترك له مقعده مبتسمًا.. بادله ابتسامته في امتنان وجلس مكانه مُرغمًا.. عبثًا حاول إقناعها بضرورة مغادرة الحافلة لكنها لم تلتفت إليه.. وكأن حواسها توقفت فجأة لم تعد تسمعه أو تجيبه.. حتى لسانها السليط خرس على عكس عادته وكأنه اكتفى بذاءة وأعلن توبته فجأة.
تنفس الصعداء عندما علم أن المحطة التالية ستكون الأخيرة.. تطلع بصبر نافد إلى المقاعد الخالية من حوله.. لم يعد هناك سواهما وزوج آخر طاعن في السن.. راح يعد الدقائق حتى توقفت الحافلة فكان أول من غادرها بينما كانت آخرهم.. ربما لتزيده غيظًا.
رفعت رأسها وتجنبت النظر إلى وجهه وهي تتخطاه عمدًا لتتوغل بين أشجار لا يعلم إلى أين تنتهي.. زفر ضيقًا وهمّ للحاق بها عندما أمسك أحدهم بكتفه من الخلف مُلقيًا على مسامعه بسيل من الشتائم والوعيد.. استدار ليلكمه ولكنه تراجع ما إن عرف هويته.. كان سائق سيارة الأجرة.. معذور لو ظنه لصًا هرب قبل أن يدفع أجرته.
غمغم مُعتذرًا ووضع يديه في جيوب ملابسه يبحث عن بعض النقود ليقدمها له ولكنه لم يجد إلا القليل من العملات المعدنية محدودة القيمة.. والرجل قد تبعه لمسافة طويلة وفي عزيمة يُحسد عليها..!
تذكر أنه منحها كل ما معه فحاول اللحاق بها مُجددًا ولكن الرجل عاود التشبث به كالعلقة.. هتف يناديها ساخطًا:
- ندى.. ندى.. أنا في حاجة ماسة لبعض النقود لأحاسب سائق الأجرة.
استدارت لتتطلع إليه في شماتة قبل أن تعاود السير مُجددًا.. فهتف في مزيد من السخط:
- لا تكوني حمقاء.. ربما يسجنونني بهذه الطريقة.
صاحت دون أن تنظر إليه:
- حسنًا يفعلون.
أزاح الرجل العالق به في غضب أسقطه أرضًا وأسرع الخطى ليمسك بذراعها بحدة صارخًا:
- كفى مِزاحًا ودعيني أسدد للرجل ماله.
- ومن قال بأنني أمزح معكَ؟! هذه نقودي وأنا لن أعطيها لك.. يكفي أن رصيدي في البنك باسمك.
- أنا لا أريد رصيدك سأعيده لكِ.. فقط امنحيني الآن بعض العملات القليلة.
حدقت فيه غاضبة قبل أن تخرج النقود على مضض.. سحبت القليل منها لتقذف به وجهه قائلة في غطرسة يكرهها:
- سدد دينك واشترِ بما تبقى شطيرة رخيصة تشبع بها جوعك أيها المتسول.
أغمض عينيه غيظًا قبل أن يلتفت ليتطلع غاضبًا إلى السائق الذي لحق به مجددًا.. منحه نقوده متغاضيًا عن نظرات التهكم التي ملأت عينيه ممزوجة بابتسامة ساخرة ذات مغزى رفضت رجولته أن تعترف به.
لم يكن ينقصه سوى هذا المعتوه وظنونه الكريهة..!
ما إن لحق بها هذه المرة حتى أمسك ذراعها بقسوة صارخًا:
- كفى هرولة على غير هدى.. ما الذي تريدينه الآن؟
- أخبرتك أنني لا أريد منكَ شيئًا ولكنك غبي لا تريد أن تفهم.
- إن لم تكفي عن وقاحة لسانك سوف أقطعه لكِ.
- جرب أن تقترب مني وسوف أسجنك بالفعل هذه المرة أيها الثور المجنون.
ازدادت قبضته قسوة حول ذراعها حتى تدفقت دموعها رغمًا عنها وهي تصرخ فيه موبخة:
- أترك ذراعى أيها المتوحش.
- ليس قبل أن تعديني بالتعقل.
- أنتَ المجنون وليس أنا.
زمجر بصبر نافد فأردفت وهي تجاهد لتخليص ذراعها من قبضته:
- أتركني أذهب.
- إلى أين ستذهبين؟
- لا شأن لكَ.
- لا تنسي بأنني أقسمتُ على حمايتك.
- وها أنا أحررك من قسمك.. حرر أنت ذراعي من قبضتك التي شوهته.
حرر ذراعها ببطء فعاودت عدوها لتهرب منه وعاود اللحاق بها قائلًا:
- وماذا عن نقودك في حسابي؟
- اعتبرها أمانة عندك.
- وماذا لو لم نلتقِ مرة أخرى؟
- في هذه الحال سوف يعوضني الله عنها.. لا تحمل همي.
رمقها في حيرة صارخًا:
- بالله كيف تكونين المذنبة والغاضبة في الوقت ذاته؟!
- هكذا أنا.. متوحشة مجنونة لا تُعاشَر.. ابتعد عني.
- لا يمكن أن أتركك مادمتِ في حاجة لمساعدتي.
- أنا لا أحتاج إلى مساعدتك.
- حسنًا.. أنا المحتاج إلى مساعدتك إن كان هذا يرضيكِ.
استدارت إليه وتمعنت بقسماته لبعض الوقت قبل أن تعاود السير بخطى متهادية هذه المرة.. سار بجوارها صامتًا.. لم تعترض عندما أمسك يدها وضغطها في حميمية.. بل شعرت بأمان لم تشعر به حتى مع خورشيد.. الأخير نفسه كان يعلم بأنه الأقدر على حمايتها.. أراده أن يبقى معها.. جعله يقسم على رعايتها ليضمن بأنه لن يتركها أبدًا..
أدركت من حركة أصابعه التي تمللت حول أصابعها بأن صبره قد بدأ ينفد إثر تجاهلها له.. سوف يعود إلى توحشه خلال لحظات.. حاولت أن تبدو لامبالية وهي تسأله:
- أين نحن الآن؟
عبست ملامحه وهو يتطلع إلى ما حوله قائلًا:
- لا أعلم إلى أين أخذنا طيشك هذه المرة.. ولا أرى أحدًا سوانا حتى نسأله.
سحبت يدها من قبضته ودارت حول نفسها تتأمل المكان.. أشجار مورقة وارفة الظلال وزهور ملونة ومجموعة من المقاعد المتناثرة في تناسق فوق أعشاب تضيء نضارة.. هتفت في نشوة:
- المكان رائع.. حديقة عامة على ما يبدو.
تركته يحاول استكشاف ما حوله واستلقت فوق العشب تتأمل السماء الصافية وسُحبها القطنية.. لو كانت تمتلك أجنحة تمكنها من التحليق عاليًا.. لشاركت هذه العصافير سباقها ولهوها.. ولتركت هذه الأرض بكل ما فيها من هم وقلق.
تنبهت لظله الضخم الذي حجب الشمس عنها قبل أن يجلس بجوارها ويتأفف قائلًا:
- لن تمر الحافلة من هنا قبل ساعتين على الأقل.. هذا لو كنا سعداء الحظ.
- وماذا لو لم نكن؟
- ربما نضطر حينها للمبيت هنا.
رمقته في تساؤل فأردف:
- المنطقة شبه خالية من السكان.. تُستخدم كمنتزه ترفيهي عام.. عدا أيام الأعياد والعطلات الرسمية.. فوسائل المواصلات التي تأتي إلى هنا قليلة جدًا.. تكاد تكون منعدمة.
- كيف تأكدتَ من معلوماتك؟
- تعثرت بإحدى الأسر القليلة التي تسكنها.
- ولكنني أتخيل أشجارها تتحول أشباحًا في الظلام.. سأموت رعبًا حتى الصباح.
مط شفتيه قائلًا:
- سوف نتمسك بالأمل قدر استطاعتنا.. وإلا سيكون علينا السير لأقرب مدينة تصلها الحافلة.
صمتت في تردد قبل أن تغمغم يائسة:
- ربما من الأفضل بالفعل أن نتمسك بالأمل.. فأنا جائعة جدًا.. لا أملك طاقة تمكنني من السير هذه المسافة الطويلة.
أطلق تنهيدة طويلة وما لبث أن استلقى بجوارها ليتأمل السماء بدوره.. اقتلعت فجأة بعض الأعشاب من حولها وقذفت بها وجهه قبل أن تنهض كطفلة وتبتعد عنه ضاحكة.
تمتم بسباب خافت قبل أن يبتسم قائلًا:
- إن كنتِ تحقدين عليَ فما ذنب العشب المسكين؟
- العشب مسكين بالفعل.. لأنكَ تجلس فوقه.
ضحك وكأنه أدمن شراستها.. فأردفت ساخطة:
- لمَ لا تنهض لتعدو خلفي؟
- ولماذا أنهض مادام استرخائي يغضبك؟
- يا لكَ من ثقيل الظل..!
راحت تفرغ غيظها بين مجموعة من الزهور الملونة على بعد أمتار منه.. انتقت الأحمر منها ونسقته في باقة جميلة حملتها وعادت تجلس بجواره في زهو قائلة:
- ما رأيك؟
- رائعة.. ولكن لماذا اخترت الدم دونًا عن سائر الألوان الأخرى؟
- ربما لأن الدم هو سر الحياة.
ابتسم ولم يعلق فأردفت في شاعرية لم يعتدها منها:
- الأحمر أيضًا يرمز للحب والأحاسيس الجياشة.
ظل يتأملها صامتًا حتى أزعجها فتابعت الثرثرة:
- أنا أعشق تنسيق الزهور.. وأحب الرسم أيضًا.. كما أنني موهوبة في تصميم الأزياء و.........
- واللغات.
قطبت حاجبيها ونظرت له في فضول فأردف وهو يتمعن في ملامحها:
- كنتِ تتحدثين بطلاقة مع ذلك الأشقر.. تحدثتما طويلًا.. علانية وهمسًا.. ولكنني لم أفهم شيئًا.. لغتي الضعيفة لم تسعفني.
برقت عيناها قائلة:
- يزعجك هذا الأمر كثيرًا.. هل تُغار؟
ارتبك قائلًا:
- كلا بالطبع.. ولماذا أغار؟
رفعت ذقنها في كبرياء قائلة:
- ظننتكَ أصبت بالحماقة وتجرأتَ على الإعجاب بي.
- كلا اطمئني من هذه الناحية.. فأنا لستُ أحمق.
عادت تستفزه بعد قليل:
- ولكنكَ تريد أن تعلم فيما كنا نتحدث.. أليس كذلك؟
حاول أن يبدو لامباليًا ولكنه لم ينجح في كبح فضوله فهز رأسه مُستسلمًا.. هتفت فجأة بحدة:
- كنا نتحدث عنكَ أيها الغبي.
تجاهل تطاولها قائلًا:
- وماذا قلتِ له عني؟
- أخبرته بأننا.. أنا وأنت كنا في رحلة بـ باريس وأنكَ قطعتها خصيصًا لتتقدم لهذه المسابقة.. وبأننا تعاركنا لأجل ذلك حتى كدنا أن ننفصل.. وبأنه ليس عدلًا بعد كل ما حدث ألا يمنحك الفرصة التي تريدها.
الراحة التي سرت بين ملامحه أكدت لها بأن كل الاسترخاء الذي سبقها كان مزيفًا.. تماماً كاعتذاره الذي قدمه لها مرغمًا منذ قليل.. همس وهو يداعب وريقات زهرة كانت تداعبها قبله:
- وماذا أيضًا؟
- أوسكار...
- ذلك الأسمر المتغطرس الذي كان معه.
- نعم.. أخبرنى جون بأنه مدرب مُحترف.. وبأنه شعر بالإحباط عندما وجد أن كل المتقدمين للمسابقة دون المستوى المطلوب.
- جون هذا هو الأشقر؟
ابتسمت قائلة:
- وكأنكَ لم تسمع من كل عبارتي إلا اسمه؟!
- فيمَ كنتما تتهامسان؟ ما الذي أسعدك في حديثه لهذه الدرجة؟
صمتت لتغيظه قبل أن تعاود الحديث إشفاقًا:
- لأن أوسكار أعجب بك وقرر تدريبك بنفسه.. وهذا من وجهة نظر جون يعني أنكَ الفائز حتمًا بهذه البطولة.
ابتلع ريقه بعدم تصديق فاتسعت ابتسامتها قائلة:
- لو لم يكن واثقًا من قدرتك على الفوز.. ما كان ضمك للمسابقة على نفقته الخاصة أيها المتهور.
أمسك فجأة بيدها وقبلها قائلًا:
- آسف لأنني أسأتُ الظن بكِ.
- سبق واعتذرت لي.
- هذه المرة اعتذاري عن قناعة.
- اعتذارك في كلتا المرتين لا يعنيني.
تأملها مُعاتبًا فأردفت في ثقة:
- لا تنكر بأنكَ لازلتَ تظن بي سوءًا.
ارتبكت ملامحه وتسمرت عيناه في عينيها لحظات قبل أن يلتقط باقة الورد التي انزلقت منها ليعيدها إليها.. خطفتها منه وهي تغمغم ساخطة:
- هذه باقتي بالفعل.. فلا تقدمها لي وكأنكَ من صنعتها لأجلي.
ابتسم في حيرة تحولت إلى صدمة عندما أعادتها إليه قائلة:
- من حقي أنا فقط أن أقدمها لمن أريد.
اتسعت عيناه وهو يحدق في الورود دون أن يجرؤ على مد يده ليأخذها منها.. فصاحت بدهشة:
- خذها.
- أنا..؟!
- ولمَ لا؟ ليس لي سواك الآن.
هز رأسه في تفهم وهو يلتقطها منها قائلًا في تهكم:
- سبب منطقي لتهديني إياها.
ابتسمت ولم تعلق.. فأردف في شيء من الخجل:
- لم تُهدني فتاة وردة من قبل.
- وها أنا قد أهديتك باقة كاملة.. أرجو أن تُقدر سخائي مُستقبلًا.






noor1984 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-11-20, 08:14 PM   #12

noor1984

مشرفة منتدى قلوب احلام وأقسام الروايات الرومانسية المترجمةوقصر الكتابة الخياليّةوكاتبة،مصممة متألقة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية noor1984

? العضوٌ??? » 309884
?  التسِجيلٌ » Jan 2014
? مشَارَ?اتْي » 23,038
?  نُقآطِيْ » noor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond repute
افتراضي



لعنة خورشيد



ترى مالي شقيٌ في هوايَ كمَّن أجرم
فلا طاغيتي أرضى سواها ولا ترحم

أماني عطاالله



-10-

برقت عيناه واستمر في النظر إليها حتى حاكت وجنتيها لون ورودها الحمراء.. فهمست لتتخلص من نظراته التي اخترقت عظامها:
- هل أفهم بأنكَ لم تعرف امرأة من قبل؟
صاح بلا تردد:
- أبدًا.
- ولكنكَ قاربت الثلاثين من العمر..!
- ربما لأن معرفتي بالنساء كانت تتعارض مع طموحي.
- من قال ذلك؟
- شفيق.
تأملته في تساؤل فأردف موضحًا:
- مُدربي فى الخمس سنوات الأخيرة.
- من حقك أن تفخر به.
- سأحطم فكه عندما تتاح لي الفرصة.
ضحكت في دهشة بينما تابع في جدية:
- وماذا عنكِ؟
قطبت حاجبيها متسائلة فأردف في فضول:
- هل عرفتِ رجالًا قبل خورشيد؟
رمقته صامتة لحظات قبل أن تلمع عينيها قائلة:
- كلا.. لم أعرف رجالًا سوى خورشيد.
- ما الذي كان يربطك به؟
صمتت غير مبالية بقسماته التي تحثها في إلحاح على إشباع فضوله.. فأردف مُرغمًا:
- أعلم أنكِ شرسة ومتوحشة حتى في دلالك.. ولكنكِ رغم هذا تبدين طفلة في أحيان أكثر.. براءتك تعذبني.. هل استغلها خورشيد للإيقاع بكِ؟ لن ألومك لو كان قد فعل.
تنهدت صامتة فأردف في مزيد من الإلحاح:
- أعلم أنه كان داهية ومستبد.
- أنا لستُ عاهرة أيها الأحمق.
- هل جمعكما عقد شرعي؟
- لماذا تهتم لهذا الحد؟
ارتبك قائلًا:
- مُجرد فضول لا أكثر.
نهضت لتبتعد عنه قائلة:
- وأنا لا أحب الفضوليين.
تبعها وهو يهتف ساخطًا:

- كيف تلومينني على سوء ظني بكِ إن كنتِ لا تريدين إخباري بحقيقة علاقتك به؟
- فلتعتقد ما شئت.. أنا لستُ مسئولة عن سوء ظنكَ بي.
أمسك بكتفيها في رجاء قائلًا:
- ندى.. سوف أجن ما لم تخبريني.
- أنتَ مجنون بالفعل.
- أعدك بأن لا أبدي رأيًا في علاقتك به.. حتى ولو كانت غير شرعية.
- لا أريد أن أخبرك أيها المتطفل.
- لماذا؟ لن تجدي أحدًا يهتم لأمرك مثلي.
- أنا جائعة.
- ماذا؟
تركته مصدومًا مُحبطًا لتسترخي في ظل شجرة عتيقة.. اقترب وجلس بجوارها صامتًا.. كان يعلم بأنها عنيده ولن تخبره شيئًا رغمًا عنها.. على أية حال.. يكفي أن ماضيها يُشعرها بالخجل.
راقبها شاردًا عندما نهضت فجأة لتطارد فراشة كبيرة ذات أجنحة ملونة.. ابتسم في مرارة وهي تتبعها في خفة ورشاقة من زهرة لأخرى حتى أطلقت صيحة انتصار ما لبثت بعدها أن عادت إليه تطبق كفيها وتهلل قائلة:
- أمسكتُ بها.
- ما هي؟
- الفراشة الجميلة التي كنتُ أطاردها.. ها هي بين كفي.
- حرريها.
- كلا.. سوف أحتفظ بها.
- سوف تختنق وتموت.
مطت شفتيها في لامبالاة قائلة:
- سوف تموت في كل الأحوال.
- يا لكِ من قاسية..!
- يا لكَ من جبان..!
أمسك كفيها وفتحهما رغمًا عنها ليحرر الفراشة التي انطلقت من بينهما وطارت بعيدًا.. لم يتركها حتى تأكد بأنها لن تستطيع اللحاق بها مجددًا.. راحت تلكمه في عنف ساخطة فأمسك بقبضتيها وهتف مبتسمًا:
- يمكنني أن أطبق عليكِ وأخنقك كما فعلتِ بهذه الفراشة المسكينة.
- لا تستطيع.
- بل أستطيع.. ولكنني سأكون أكثر رحمة بكِ وأتركك لتبتعدي.
نهضت ولكمته بقوة قبل أن تعدو وتضحك قائلة:
- هيا.. أرني قوتك أيها العملاق الجبان.
نهض ثائرًا ليلحق بها.. جسده الفارع أفزعها فضاعفت من سرعتها لتتمكن من الفرار منه.. استدارت بعد أمتار لتنظر إليه فوجدت نفسها أسيرة بين ذراعيه.. زمجر في توحش فشعرت بإحساس الفراشة التي أرهبتها منذ قليل.. تلوت في هيستيريا للتخلص من قبضته حولها حتى همدت قوتها بلا طائل.. رفعت عينيها إلى وجهه وتأوهت يائسة فاتسعت ابتسامته..
ارتجفت عندما تحول بريق النصر في عينيه إلى بريق آخر أكثر تدميرًا قبل أن ينحني كالمسحور ليحكم قبضة شفتيه حول شفتيها.. استمر ينهل منهما طويلًا حتى همست بصوت مختنق:
- كفى.
ابتعد عنها بالسرعة ذاتها التي قبضها بها بينما تحركت بخطوات واهنة لتجلس فوق أحد المقاعد المتناثرة حولها.. دفنت وجهها بين كفيها مُستنكرة نزوتها غير المتوقعة ومع من.. مع باسل..؟!
تنبهت إلى صوته على بُعد خطوات منها:
- لا أدري كيف فقدت السيطرة على نفسي لهذا الحد..! ولكن أعدك بأن هذا الأمر لن يتكرر مُستقبلًا.
قالت بنبرة هادئة تعجب لها:
- ربما حان الوقت لنذهب.
غمغم متلعثمًا:
- نعم.. هيا بنا.
جلسا يتمللان فوق المقعد الوحيد في تلك المحطة المهجورة.. يبدو أن الحظ أبعد ما يكون عنهما في هذه الساعة.. هل قرر القدر أن يمضيا ليلتهما وسط هذا العراء؟ ثم ماذا عن معدتها التي أوشكت على ابتلاع نفسها جوعًا؟
تطلع إليها في إشفاق وهو يراها تمسك ببطنها ألمًا.. إن كان هو يجيد حشو معدته.. فوجبات العصافير التي تتناولها لا تصمد طويلًا.. جوعها يؤلمه أكثر من جوعه ولكن ما الذي يملكه ليفعله لها؟!
لملمت الشمس شعاعها الأخير فالتفتت إليه قائلة:
- يبدو أن الحافلة لن تأتي.. ماذا سنفعل الآن؟
- لو كان الأمر بيدي لقطعت المسافة سيرًا إلى محطتها التالية.
- أنا لن أستطيع.
- أعلم.
مضت فترة من الصمت قبل أن تسأله في يأس:
- هل سنبيت ليلتنا هنا؟
- ما رأيك؟
- لكنني أتضور جوعًا.. ثم ماذا عن موعدك مع أوسكار في صباح الغد؟
- دعكِ من أوسكار الآن ولنهتم فقط بأمر معدتك.
تطلعت إليه في امتنان أشبع بعضًا من جوعها.. أجفلت عندما سحبها فجأة قائلًا:
- تعالي معي.
- إلى أين؟
هتف وهو يشير إلى أضواء خافتة تنبعث من نافذة بعيدة:
- سنطلب المعونة.
- هل تقصد بأننا سنبدأ التسول؟
- نعم.
- وماذا لو اعتقدونا لصوصًا؟
- هل لديكِ حل آخر؟
- كلا.
- اصمتي إذًا واتبعيني.
عندما وصلا إلى المنزل المنشود كانت قواها قد خارت تمامًا وكادت أن تسقط إعياءً لولا أحاط خصرها ليمنعها من السقوط مؤقتًا.. إنهاكها الشديد لم يترك له مجالًا للتردد فأسرع يطرق الباب.. وربما في شيء من العنف أيضًا.
مضى الوقت من دون استجابة فعاود طرقه بعنف أكبر.. صرخت والتصقت به فزِعة عندما فُتح الباب فجأة لتطل منه فوهة بندقية تبعها صوت خشن لرجل أربعيني ذي ملامح أكثر خشونة:
- من أنتما.. وماذا تريدان؟
ربت باسل على ذراعها ليطمئنها قبل أن يوجه حديثه إلى الرجل قائلًا:
- نحن غريبان هنا.. أتينا للتنزه في هذه المنطقة وكنا نريد العودة من حيث أتينا.. ولكن الحافلة تأخرت عن موعدها.
ظل الرجل يرمقه صامتًا وكأنه ينتظر أن يسمع المزيد حتى يعرف ما المطلوب منه.. فأشار باسل إلى ندى في رجاء قائلًا:
- صديقتي مرهقة و.....
- كان يتوجب عليكَ معرفة المزيد عن المنطقة قبل أن تتورط في المجيء إليها.. لو سألت مُسبقًا.. لكنتَ علمتَ أن وسائل المواصلات فيها محدودة جدًا.
- أعلم بأنني أخطأت ولكن....
قاطعه الرجل في حسم:
- عُذرًا.. لم أعتد أن أسمح للغرباء بالدخول إلى منزلي.
هم أن يغلق الباب مُجددًا ولكن باسل أزاحه ليمنعه من غلقه مما جعل الرجل يسارع بنزع صمام الأمان مُتأهبًا للدفاع عن نفسه فعاودت الصراخ بينما أشار له باسل كي يهدأ قائلًا:
- مهلًا.. إن تكرمت فقط.. امنحنا بعض الطعام حتى نستطيع مواصلة السير لأقرب محطة تتوقف عندها الحافلة.
تطلع إليهما الرجل في ريبة وما لبث أن أغلق الباب في وجهيهما دون مقدمات.. لم يمنعه باسل هذه المرة.. بل زفر بضيق وهو يتطلع إليها في عجز لم يشعر بمثله من قبل.. الفزع الذي أصابها به ذلك الأبله من دون قصد زادها إنهاكًا فجلست مُرغمة على بعد خطوات من المنزل.. مسح على شعرها بحنان مُحاولًا حثها على الصمود بعبارات واهية عن العزيمة والتحمل.. كلمات جوفاء لا معنى لها ولا صدى حتى في أعماقه.. خاصة وأن الطقس بدأ يزداد سوءًا.
استمر في التحرك حولها كثور هائج بحثًا عن ملجأ بديل عندما فُتح الباب مرة أخرى.. كان الرجل ذاته.. اقترب منهما وقدم لهما لفافة تفوح منها رائحة الطعام الساخن وهو يغمغم في نبرة أكثر إنسانية هذه المرة:
- هذا أقصى ما يمكنني فعله لكما.. أرجو أن تلتمسا لي العذر.
تقبل باسل عطيته في امتنان وشكره مُبتسمًا على جزيل معروفه.. عاد الرجل إلى منزله وأغلق الباب فجلس باسل بجوارها وراح يطعمها حتى امتنعت عن تناول المزيد فبدأ في تناول طعامه هو أيضًا.. تعجبت عندما صنع شطيرة كبيرة واحتفظ بها بين ملابسه.
غمغم مبتسمًا لنظراتها التي تعلقت به:
- الرجل كان كريمًا جدًا.. أنا أيضًا شبعت.
- هل شبعت بالفعل؟
- بالطبع.
رمقته في عدم اقتناع فأردف ليتخلص من نظراتها:
- إن كنتِ أفضل الآن يمكننا أن نبدأ السير.
نهضت وتعلقت بذراعه ليلحقا بأقرب محطة تتوقف عندها الحافلة.. شعرت بأنها مشت مُدنًا قبل أن تغمغم في إنهاك.
- وماذا بعد؟ وكأن هذه الطريق لن تنتهي أبدًا.
- راودني الشعور ذاته عندما كنا في الحافلة.. فما بالك عندما يكون الأمر سيرًا على الأقدام.
- ماذا تقصد؟
- بقدر تعاطفي معكِ.. أجدني شامتًا بكِ.
لكمته بمرح وأسرعت تعدو لتغريه باللحاق بها.. فابتسم وسايرها عدوًا حتى فعل بعد خطوات قليلة.. أضاءت عيناها الظلام وهي تضحك قائلة:
- أنتَ قوي جدًا على عكس ما تتظاهر به.
نظر إليها ولم يعلق فأردفت:
- تبدو ضعيفًا لدرجة الجبن أحيانًا.
- الضعف والجبن من وجهة نظري مختلفان عن اعتقادك بهما.
تأبطت ذراعه وتطلعت إليه في فضول فأردف مبتسمًا:
- لا يوجد أضعف من رجل عجز عن حكم نفسه وترويضها.
- تتحدث كالفلاسفة.. إلى أي حد بلغ تعليمك؟
- بكالوريوس تجارة.
ابتسمت قائلة:
- أنت جامعي إذًا..!
مدت يدها لتصافحه وأردفت:
- فنون جميلة.
- تشرفت بمعرفتك.
استمرا في الثرثرة والضحك بصوت مرتفع علهما يقتلان الملل الذي بدأ يتسلل عنيفًا بينهما.. أُنهكت وراحت تجر أقدامها في إعياء حتى جلست فجأة في منتصف الرصيف.. جلس بجوارها من دون تردد فهتفت مبتسمة:
- هل تعبت أنتَ أيضًا؟
- ليس بعد.. ولكن لا بأس من بعض الراحة.
فردت جسدها لترقد فوق الرصيف.. تثاءبت بكسل وأغمضت عينيها قائلة:
- ماذا سيحدث لو غفونا هنا قليلًا؟ لم ننل قسطًا وافرًا من النوم منذ فترة طويلة.
شعرت بكونها ثرثرت كثيرًا ولكنه ظل ساكنًا وكأنه لم يسمعها فنهضت لتنظر في وجهه قائلة:
- ظننتكَ نمت بالفعل.. بماذا تفكر؟
أجابها في جدية:
- أفكر في استئجار إحدى الشقق المفروشة.. الإقامة في الفنادق سوف ترهقنا ماديًا وجسديًا أيضًا.. خاصة وأننا قد نضطر للإقامة هنا فترة طويلة.
- ألن يكلفنا هذا مبلغًا كبيرًا؟
- ليس أكبر مما ننفقه على الفنادق والوجبات الجاهزة.
- هل تقصد بأننا سوف نطهو وجباتنا في المنزل.
- بالطبع.
- وهل تجيد الطهو؟
- نعم.. وسوف أعلمك.
- وكأنني سأطهو لكَ..!
- سأطهو لكِ أنا أيضًا.
- لا أريدك أن تطهو لي.. الوجبات الجاهزة أكثر ضمانًا.
- وما الذي يضمنها.. محتوياتها مجهولة المصدر أم النظافة المطلقة للقائمين بإعدادها؟
- يا لكَ من مزعج..!
ابتسم صامتًا فنهضت وشدته بالقوة حتى طاوعها إلى جذع شجرة عملاقة نبتت منذ زمن على يمين الرصيف قبل أن تعاود الجلوس قائلة:
- استند بظهرك هنا وافرد ساقيك لأضع فوقهما رأسي.. الأرض صلبة وغير مريحة.
- حسنًا.. ولو أنني أعلم أن رأسك أصلب منها.
عادت تهمس بعد قليل:
- مرر أصابعك في شعرى حتى أغفو أسرع.
ضحك وهو ينفذ ما طلبته منه قائلًا:
- يا لكِ من قطة مدللة..!
تنهدت قائلة:
- خورشيد كان يفعل ذلك دائمًا.
أبعد أصابعه في عصبية كاد معها أن يقتلع شعرها من جذوره فصرخت وهي تنهض لتوبخه:
- هل جننتَ؟
- حذار أن تذكري اسمه أمامي مُجددًا.
- لماذا؟
- لأنني.. لأنني.. يكفي ما فعله بكِ لأكرهه.
تطلعت إليه متفحصة وعادت تسترخي كما كانت.. أسندت رأسها مُجددًا فوق ساقيه وهي تشير إليه محذرة.. فعاد يمرر أصابعه بين خصلاتها بنعومة هامسًا:
- أحيانًا أتمنى أن تكون وفاته شائعة غير حقيقية.
- أحقًا؟
- نعم.. حتى أعاود قتله بنفسي عندما تتاح لي الفرصة.
سالت دموعها ونهضت لتبتعد عنه.. رمقها بدهشة وتسمر في مكانه يراقبها وهي تركض ساخطة.. لم يكن خبيرًا في الحب ولكنه سمع كثيرًا عن لعنة الحب الأول.. ويبدو أن علاقتها بذلك الطاغية لم تكن تقتصر على الجسد وحده.. لماذا تغضب هكذا لأجله ما لم تكن قد أحبته بالفعل؟!
هل مات خورشيد وترك لعنته حية في قلبها؟






noor1984 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-11-20, 08:17 PM   #13

noor1984

مشرفة منتدى قلوب احلام وأقسام الروايات الرومانسية المترجمةوقصر الكتابة الخياليّةوكاتبة،مصممة متألقة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية noor1984

? العضوٌ??? » 309884
?  التسِجيلٌ » Jan 2014
? مشَارَ?اتْي » 23,038
?  نُقآطِيْ » noor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond repute
افتراضي



لن تُنسى...
لكنني أعــــــــودُ كالطفلِ الرضيع
كـــــــزهرةٍ يحرقُها شوقُـها للربيع
وأرتمي في حضنكِ مُشتهيًا أضيع
فالموتُ في محرابكِ أبدعُ من بديع

أماني عطاالله





-11-

تبعها بخطوات واسعة حتى لا تختفي عن عينيه فتتعرض لمكروه.. وصلا أخيرًا إلى محطة أخرى للحافلة.. ولكنها بدت مهجورة كسابقتها.. فردت جسدها على المقعد الوحيد الموجود فيها وألصقت وجهها بظهره المرتفع.. لم تلتفت له عندما لحق بها بل غطت رأسها بذراعها وكأنها لا تريد رؤيته ولا حتى طيفًا يصيبها ظله.. أزاح ساقيها قليلًا ليفسح لنفسه مكانًا بجوارها متوقعًا أن تهاجمه كعادتها ولكنها ظلت ساكنة حتى غفت بالفعل.
استند برأسه على ظهر المقعد واستسلم لغفوة هو أيضًا.. شعر بها بعد فترة تحرك قدميها في تملل خلف ظهره فاستيقظ جزعًا قبل أن يدرك حقيقة الوضع حوله.. تمطى في كسل وراح يحرك عنقه مرارًا ليتخلص من تصلب أصابه بسبب نومه بهذا الشكل المزعج.
سحبت قدميها واعتدلت في جلستها متحاشية نظراته التي تسمرت فوقها في مزيج من الغضب والعتاب.. قال أخيرًا:
- هل كنتِ تحبينه لهذا الحد؟
- نعم.. وحذار أن تتحدث عنه بالسوء ثانية.
لوى شفتيه في تهكم ولم يعلق.. ما الذي يأمله منها لمجرد كونها أهدته باقة من الورود مصادفة؟


فقط لأنها لم تجد سواه لتهديها له...؟!
تأخر الوقت وتبدد معه الأمل الأخير في العثور على حافلة ركاب تنقلهما إلى الفندق.. عليهما الانتظار هنا حتى الصباح.. وضع يده في ملابسه ليخرج الشطيرة منها وقدمها لها قائلًا:
- تناولي هذه حتى تشعري بالدفء.
تمعنت في ملامحه التي أضاءها القمر قبل أن تنكس رأسها صامتة.. تنهد قائلًا:
- هل سأبسط يدي هكذا للأبد.
- لا أريد.. تناولها أنتَ.
- لستُ بجائع.
- لكنكَ لم تتناول شيئًا يُذكر منذ الصباح.
- تناولت ما يكفيني.. هيا خذيها يدي بدأت تؤلمني.
- مادمتَ مُصرًا.. دعنا نتناولها معًا.
- حسنًا.. اقتربي.
تقدمت في حماسة لتلتصق به فراح يطعمها في سعادة مُكتفيًا بتقبيل الشطيرة بعد كل قضمة تخطفها منها.. لاحظت بأنه بالكاد يمسها بشفتيه فهتفت ساخطة:
- أيها المخادع.. أنتَ لا تأكل شيئًا.
ابتسم في حنان هامسًا:
- ستمتلئ معدتي عندما تأكلينها أنتِ.
ابتلعت ريقها في ارتباك وأسندت رأسها على صدره قائلة:

- هيا ابتلع ما تبقى منها بسرعة لتحكم قبضتك حولي.. أشعر بالبرد.
توقفت أنفاسه لحظات قبل أن يبتلع قطعة الشطيرة دون أن يتذوقها.. فتح أزرار معطفه الطويل ليخبئها داخله ففعلت ضاحكة.. راحت تدلك يديها في صدره فأشعلته كعادتها دون أن تدري.. همس في انفعال:
- لا أثر للبرد الآن.
هزت رأسها موافقة فراح يمرر أصابعه بين خصلاتها ويبث أنفاسه الملتهبة فيها حتى غفت تمامًا.. ازدادت قبضته ضغطًا وحنانًا وهو يضمها في تملك ورجاء.. تطلع إلى السماء في أمنية لم يجرؤ على النطق بها.. ابتسم عندما خيل إليه أن نجومها تزداد بريقًا وتوهجًا.. وكأنها تغمز له مُهنئة...!
استيقظ في الصباح الباكر على تغريد الطيور ورقصها في سعادة فوق الأشجار من حوله.. داعب شعرها حتى فتحت عينيها وتطلعت إليه في عبوس طفلة استيقظت مُرغمة.. قبّل جبينها وبين عينيها حتى ابتسمت وابتعدت لتخرج من معطفه.. احتضنت نفسها لتتخلص من القشعريرة التي سرت بجسدها قائلة:
- يا إلهي.. شعرت بالبرد فجأة.
هو أيضًا شعر بالبرد ولكنه خلع معطفه ليدثرها به رغم اعتراضها.. خلعته عنها بعد قليل وأعادته إليه قائلة:
- ما رأيك في الركض قليلًا؟
- هيا بنا.
وصلا بعد فترة قصيرة إلى محطة ركاب جديدة.. لم تكن عامرة ولكنها كانت أكثر صخبًا هذه المرة.. تطلعا إلى أول شاب وقع عليه بصرهما في سعادة من لم ير

بشرًا منذ سنوات.. ضحكا عندما أسرع الشاب يركض هربًا من جنونهما.. هتفت مُبتسمة:
- جسدك الضخم هو ما أرهبه.
- جسدي أم نظراتك الهيستيرية نحوه؟
- ليست نظراتي بالطبع.
توقفا عن العراك عندما لمحا الشاحنة عن بُعد فأطلقت صيحة انتصار أسرعا بعدها ليواصلا الركض للحاق بها.. تنفس الصعداء أخيرًا وهو يسترخي فوق مقعده بجوارها.. رمقته بابتسامة واسعة وهي تهتف:
- كانت ليلة لا تُنسى.
- نعم.. لن تُنسى أبدًا.
*****
استقبله العاملون في مركز التدريب بالهتاف وكأنهم كانوا ينتظرون وصوله على أحر من الجمر.. أبلغوه أن أوسكار سأل عنه مِرارًا حتى يأس من مجيئه وانتابه الغضب.. أوصاه أحدهم بالحفاظ على علاقته به وألا يحاول إثارته مُجددًا كيلا يخسره.. فرعاية أوسكار حلم لكل مصارع خاصة لو كان مُبتدئًا مثله.. أسرع بعدها إلى غرفته ليُعلمه بحضوره فلم يمض وقت يُذكر حتى خرج لاستقباله بوجه عابس.. تقدم منه بخطى حيوان مفترس وما لبث أن أمطره بوابل من اللكمات أصابته الأولى لفرط صدمته فحطمت فكه.. ولكنه نجح في صد ما تلاها في مهارة نالت استحسان كل من حوله بمن فيهم ذلك الفهد العجوز الذي تيقن من صفحه عنه عندما سأله ساخطًا:
- لماذا تأخرتَ؟
- ظروف طارئة.

- لن أسألك ما هي هذه الظروف.. ولكنني لا أريدها أن تتكرر.
أومأ باسل برأسه موافقًا فتقدمه بخطوات واسعة مُشيرًا له كي يتبعه.. قاده إلى قاعة تدريب فسيحة احتوت العديد من الأجهزة والمُعدات الرياضية الحديثة التي لا تتناسب أبدًا مع مستوى المسابقة المتواضع.
دار باسل حول نفسه وراح يتأمل ما حوله في إعجاب صريح قبل أن يتنبه إلى عيني أوسكار المسلطة فوقه.. تنحنح في شيء من الحرج ووضع يده في جيب سترته ليخرج مبلغًا من المال قدمه إلى أوسكار قائلًا:
- قيمة الاشتراك في المسابقة.. شكرًا لاهتمامك.
غمغم أوسكار في عدم اهتمام:
- احتفظ بنقودك.. سوف أخصمها من قيمة الجائزة.
ابتسم باسل مُمتنًا لثقته بينما أردف أوسكار:
- والآن هيا.. استعد لنبدأ التدريب.
أطاعه باسل في حماسة.. شعر بالسعادة وهو يواصل حلمًا جميلًا لم يغادر مخيلته يومًا رغم الصعاب.. مضت فترة من التمرينات العنيفة التي أظهر فيها ليونة وصلابة أرغمت أوسكار على التصفيق إعجابًا قبل أن يشعر بدوار مفاجئ اضطره للجلوس على أرضية القاعة.. تأمله أوسكار بقلق قائلًا:
- ماذا بك؟
- دوار مفاجئ لا أكثر.
- ماذا أكلت هذا الصباح؟
- لا شيء.

- أتقصد بأنكَ لم تتناول فطورك بعد؟
- لم يكن هناك وقت.
هتف به أوسكار موبخًا:
- يا لكَ من أحمق..! حذار أن تفعلها ثانية.
لم يكن في حالة تسمح له بالتعقيب فأغمض عينيه صامتًا.. تحسس أوسكار جبينه المتصبب عرقًا فزادته برودته جنونًا.. قاده إلى فراش في إحدى زوايا القاعة وأمره بالاسترخاء فوقه قبل أن يغادرها ساخطًا.
عندما عاد إليه يحمل وجبة غذائية كبيرة وجده قد استسلم لغفوة أقرب للغيبوبة.. أيقظه برفق داعيًا إياه لتناولها كاملة حتى يستعيد عافيته التي بددها بحماقته.. خلف قناعه المتغطرس كان يخفي حنانًا يضاهي حنان العم فتحي واهتمامه.
ما إن وضع قطعة من الدجاج المشوي في فمه حتى اكتشف بأنه كان جائعًا بالفعل.. فهو لم يتناول شيئًا يُذكر منذ أمس.. اقتصر كل طعامه على قطعة الخبز الصغيرة التي منَّ بها قاطن المنطقة المنعزلة.
تطلع إليه أوسكار في استنكار قائلًا:
- ماذا فعلتَ بنفسك أيها الأحمق المستهتر.. ألا تدري أن صحتك هي رصيدك في هذه المهنة.. كيف تغامر بها؟!
رفع إليه وجهًا بدأ يتعافى وابتسم قائلًا:
- أصبحت أفضل الآن.. يمكننا أن نكمل التمرين.
- مُستحيل.. عليكَ أولًا أن تحصل على قسط وافر من النوم.. ربما يجب أن أتولى مراقبتك بنفسي حتى أتأكد من كونك تتناول وجباتك بانتظام.. وبكميات مناسبة أيضًا حتى أضمن عدم تعرضك لنوبات مشابهة.
- آسف لأنني أزعجتك.
تجاهل أوسكار اعتذاره قائلًا:
- يمكنكَ النوم هنا.. هذا فراشي الخاص.. سوف أطلب من العاملين أن يخصصوا آخر لأجلك.
- كلا.. أشكرك.. لا يمكنني ترك ندى بمفردها.
- ندى.. تلك الفتاة الشجاعة التي كانت بصحبتك أمس؟
- نعم.
- عليها أن تُقدر ظروفك إن أرادت الاستمرار معكَ.
- المشكلة أنها لا تعرف أحدًا سواي في جوهانسبرج.
ربت أوسكار على كتفه قائلًا:
- باسل.. أنا أعدّكَ لشيء أكبر كثيرًا من هذه المسابقة الهزلية.. تأكد من أنك ستحسم كل المباريات لصالحك في الجولة الأولى.. وسوف يعلم الجميع بأنكَ الفائز من أول صورة دعائية تجمعك بهؤلاء الهواة.
- أتمنى أن أكون عند حسن ظنكَ بي.
ربت أوسكار على كتفه في قوة قائلًا:
- خلاصة القول هي أن مثل هذه المسابقات تقام خصيصًا لاصطياد أمثالك.. إن كنتَ تفهمني جيدًا.. فعليكَ ببعض التضحيات.
تفرس باسل في ملامحه طويلًا.. يبدو أن هذا الرجل يثق بقدراته أكثر مما يثق هو بها.. لا يريد أن يخذله ولكنه في الوقت ذاته لا يستطيع أن يضحي بـ ندى.. فهي بالكاد قد بدأت تشعر معه بالأمان.
*****
عندما عاد إلى الفندق كانت لاتزال نائمة.. أيقظها في نعومة لتتناول الوجبة التي أحضرها لها في طريقه.. ابتسمت في كسل وطبعت على وجنته قبلة سريعة أصابته بالدوار مُجدداً قبل أن تذهب لتغتسل وتبدل ملابسها.
ارتدى منامته واسترخى في سريره حالمًا بغفوة عميقة تعيد التوازن إلى عقله وجسده.. ابتسم عندما دخلت الغرفة مُجددًا وجلست فوق سريرها تتناول وجبتها بشهية دون أن تخوض معه تحقيق موسع عن مصدرها.
غمغم وهو يتثاءب:
- يبدو أن معدتك قد بدأت تتأقلم مع وجبات عالمنا الرخيصة.
ضحكت في مرح قائلة:
- بعد أن تسولنا أمس.. أصابتها مناعة مفاجئة.
ابتسم وهو يسحب الغطاء فوق رأسه ليحجب عن أجفانه أضواء الغرفة لكنها اقتربت ورفعت الغطاء عنه هاتفة في تذمر:
- هل ستنام وتتركني؟
- أنا في حاجة ماسة إلى النوم.
- لكنكَ لم تخبرني بعد كيف استقبلك أوسكار؟
- عندما أستيقظ سوف أخبرك.
- كلا اخبرني الآن.
- بالله يا ندى اتركيني أغفو قليلًا.. لقد فقدت توازني أثناء التدريب وكدتُ أن أفقد الوعي أيضًا.
غمغمت بقلق حقيقي وهي تتحسس جبهته في نعومة:

- أحقًا؟
هز رأسه آملًا أن تتركه.. ولكنها عاودت الثرثرة قائلة:
- ربما كنتَ جائعًا.. بل ربما كانت هذه الأطعمة الرخيصة التي تفترسها هي السبب.
- كفى إزعاجًا أيتها الشرسة.. يبدو أن أوسكار كان مُحقًا.
- محقًا في ماذا؟
- طلب مني الإقامة في مركز التدريب حتى يباشر راحتي بنفسه.
صرخت وهي تحدق به مستنكرة:
- هذا الوغد.. لا تستمع له.
- لم أستمع له.. ولكنني في حاجة للراحة.
سحبت الغطاء عليه قائلة:
- حسنًا.. لن أزعجك مجددًا.
ما كاد يشعر بالراحة حتى عاد يرتبك أكثر من قبل عندما جلست على حافة فراشه وراحت تداعب خصلاته في نعومة سلبته نومًا لطالما اشتهاه حد الجنون فنهض في ثورة قائلًا:
- ماذا تفعلين؟
- أساعدك على الاسترخاء.
ابتلع ريقه قائلًا:
- شكراً لكِ.. لست في حاجة لمساعدتك.
- كيف ترفضها..؟ خورشيد كان يرجوني لأفعلها.

تضاعفت ثورته وهو يزيحها ليبعدها عنه قائلًا:
- هذا السبب وحده يكفيني لأرفضها.
نفض الغطاء عنه ونهض في حدة ليبدل ملابسه غير عابئ بوجودها معه في الغرفة بينما هتفت في قلق:
- ماذا ستفعل؟
- سأذهب للنوم مع أوسكار.
ابتسمت وهي تتفحص جسده في وقاحة قائلة:
- هل أوسكار أجمل مني؟
تأملها في ارتياب غذته أصابعها التي سرحت فوق عضلات صدره وذراعيه وهي تهتف بإعجاب:
- هل تعلم بأنكَ تمتلك جسدًا رائعًا بالفعل..؟ حتى أوسكار المتعجرف سحر به..!
ابتلع ريقه في انفعال ولم يعلق.. يبدو أنها جُنت.. هل قررت أن تتخذ منه عشيقًا جديدًا؟ وهل عليه أن يتورط معها ويسايرها جنونًا؟
ابتعدت عنه فجأة قائلة:
- أكمل نومك.. سوف أترك لكَ الغرفة.
- إلى أين؟
- سأذهب في نزهة.
- وماذا لو ضللت الطريق؟
- لن أذهب بعيدًا.. وحتى لو ابتعدت بلا قصد.. يمكن لأية سيارة أجرة أن تعيدني لهذا الفندق مجددًا.
هز رأسه بعدم اقتناع قائلًا:
- كلا.. لن أستطيع النوم بهذه الطريقة.
- وماذا تريدني أن أفعل إذًا؟
- ربما من الأفضل أن تكملي نومك أنتِ أيضًا.. كنتُ مخطئًا عندما أيقظتك.
همت أن تعترض ولكنها ما لبثت أن استلقت على سريرها وراحت تتثاءب طويلًا قبل أن تتظاهر بالنوم حتى يطمئن.. ما كادت تستمع إلى أنفاسه المنتظمة وتتأكد من غفوته الثقيلة حتى أسرعت تنفذ خطتها وتغادر للقيام بنزهتها.
*****
عندما استيقظ كان الظلام دامسًا.. تمطى في ارتياح ومد يده ليضيء المصباح الصغيرالمجاور لسريره فصدمه مشهد سريرها الخالي.. لم يكن في حاجة لمن يخبره بأنها فعلتها وخرجت للتنزه بمفردها.. تطلع إلى ساعته فتضاعف جنونه.. لقد غفى النهار كله.. ساعات طويلة.. أكثر من ست ساعات كاملة.. فأين ذهبت؟
تناول هاتفه الجوال وطلب رقم هاتفها مُتلهفًا إلى ردها بصبر نافد ولكنها لم ترد.. كرر المحاولة مِرارًا بلا جدوى.. فأسرع يرتدي ملابسه ويغادر الغرفة بحثًا عنها.
دار حول الفندق وحول نفسه في هيستيريا عله يلمحها بين المارة.. ولكن لا أثر لها في كل المحيط الذي وعدت أن تتواجد به.. عض على شفتيه يطارده شعور قاتل بالذنب.. كان عليه أن يكون أكثر إحساسًا بالمسئولية التي ارتضى أن يحملها على عاتقه.. ربما هو من زرع برأسها تلك الفكرة السخيفة التي دعتها للتنزه منفردة.. هو من طلب منها أن تكف عن التعلق به كالأطفال.
ترى أين هي الآن؟ هل هي خائفة؟ ربما طاردها أحدهم فاختبأت هربًا منه وضلت طريق عودتها إليه.. منحها بعض النقود.. فهل تذكرت أن تحملها معها أم تركتها في الفندق؟
ماذا لو كانت كررت فعلتها المجنونة واستقلت الحافلة إلى ضاحية منعزلة أخرى لا حياة فيها؟ كيف ستتصرف حينها ومن سينقذها هذه المرة؟
كان قد بدأ يهذي عندما رن هاتفه.. لا أحد يعرفه سواها.. أسرع يجيب وهو يصرخ في لهفة:
- أين أنتِ أيتها الطائشة؟
ضحكت قائلة:
- أنا في مقهى قريب من الفندق أشاهد مباراة لكرة القدم.. اسمه مقهى السعادة.. عذرًا.. الضوضاء شديدة هنا فلم أنتبه لرنين الهاتف عندما طلبتني.
- لا تتحركي من مكانك حتى أصل إليكِ.
- سأنتظرك.
أغلق الخط وتوجه مُسرعًا للبحث عن ذلك المقهى.. لم يكن بعيدًا.. كان قد مر به في طريقه للبحث عنها ولكنه لم يلحظها ربما لشدة الزحام وربما لشرود عقله وانشعاله بها.. تنفس الصعداء ما إن لمحها تلوح له مبتسمة.. تطلع إليها بنظرات يتطاير منها الشرر قبل أن يشاركها الطاولة مع اثنين من الشباب عرفته عليهما في حميمية زادته غيرة وسخطًا.
رفعت يدها تطلب له مشروبًا ولكنه أسرع وأمسك بأصابعها ليسحبها إلى الخارج غير مبالٍ بالنظرات المستنكرة التي رماه بها أحد الشابين.
تجاهلت ثورته وهي تتأبط ذراعه قائلة:
- أرجو أن تكون قد نلت كفايتك من النوم.

- ونلتَ كفايتي أكثر من القلق عليكِ.
كانا قد وصلا إلى مطعم البيتزا الذي توقفا عنده أمس.. فأشارت إليه قائلة:
- أنتَ مدين لي بفطيرة من البيتزا.. ومن النوع الفاخر أيضًا.
تفرس في ملامحها ساخطًا.. كيف أصبح أسيرًا حتى لإزعاجها المستمر؟! تبعها صامتًا وهي تدلف مبتسمة إلى المطعم.. لم يجادلها عندما طلبت منه أن يختار أكبرها حجمًا حتى يتشاركاها معًا ولا عندما تمادت وطلبت منه أن يتناولاها في المطعم هذه المرة.. ولكنه أرغمها على تناول كميات أكبر مما اعتادته واعترض عندما دعته للعودة إلى مقهى السعادة لمعرفة نتيجة المبارة التي كانت تتابعها مع رفيقيها.
تأبطت ذراعه وتركته يقود خطواتها للأمام بينما تعلقت نظراتها بنوافذ العرض على جانب الطريق.. أشارت فجأة إلى حذاء من الجلد الأسود اللامع وهتفت في دلال:
- اشترِ لي هذا.
نظر إلى حيث أشارت وقال:
- كعبه عالٍ جدًا.. ربما يتوجب علينا شراء سيارة قبل أن نشتريه.
- أستطيع السير به.. بل والركض أيضًا إذا استدعى الأمر ذلك.
- سوف يؤلم قدميك.
- ألم تخبرني من قبل أن إحساسي يضاهي قامتي قصرًا؟
ابتسم في تسلية فأردفت:
- يمكن لإحساسي أن يرتقي عندما أرتديه.. وحينها سأكون أكثر لباقة معكَ.
ضحك قائلًا:
- حسنًا.. سوف أشتريه لكِ.. فقط انتظري حتى أفوز بجائزة المسابقة.. أخبرني أوسكار بأنني سأحصل على مكافأة مالية كبيرة حال حصولي على المركز الأول.
- لسنا مفلسين.
- كم مرة يجب أن أخبرك بأن نقودك نستخدمها للطوارئ فقط.. ولا تنسي أننا في حاجة إلى تأجير مسكن مناسب.
برقت عيناها قائلة:
- أخبرني باولو بأن لديه شقة للإيجار في منزلهم.. ووعدني بأنه سيكرمني كثيرًا في سعرها.
- من هو باولو؟
- صديق جديد تعرفت عليه خلال نزهتي.. ذلك الذي كان بصحبتي في مقهى السعادة.
- ذلك الأحمق الذي اشتعل غضبًا عندما أخذتك وكأنه أقرب إليكِ مني..؟
- كنا مندمجين في مشاهدة المبارة ومتحمسين لمعرفة نتيجتها النهائية.. ولكنكَ أتيتَ لتفسد كل شيء.
- كدتُ أموتُ قلقًا عليكِ بينما أنتِ تتنزهين بصحبة ذلك الـ باولو..!
- ما الذي يغضبك؟
زفر بضيق قائلًا:
- هيا لنعود إلى الفندق.
- لم تخبرني بعد.. ما رأيكَ في السكن بمنزل باولو؟
ضحكت في مرح عندما تطلع إليها بغيظ قبل أن يتمتم بسباب مطول لها ولـ باولو أيضًا.





noor1984 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-11-20, 08:20 PM   #14

noor1984

مشرفة منتدى قلوب احلام وأقسام الروايات الرومانسية المترجمةوقصر الكتابة الخياليّةوكاتبة،مصممة متألقة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية noor1984

? العضوٌ??? » 309884
?  التسِجيلٌ » Jan 2014
? مشَارَ?اتْي » 23,038
?  نُقآطِيْ » noor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond repute
افتراضي



خـــائـــفــــة..

كنا مطرًا قبل أن يسقط تبخر
كنا أمــلًا قبل أن يخطو تعثر
كنا نَفَسًــــــــــــا عالقًا تحرر
استشـــــهدَ حبٌ إسعافهُ تعذَّر

أماني عطاالله


-12-

انتظم في الأيام التالية بتدريباته مع أوسكار.. التزم بتعليماته كاملة حتى تولدت بينهما حميمية قوية.. وكأنه يعرفه منذ زمن رغم كونه بالكاد أكمل الأسبوعين معه.. شعر بالزهو وهو ينهل من إعجابه به يومًا تلو الآخر.. كان الرجل يعرف مكامن قوته ويبرزها بلا جهد.. حتى في نقده كان إيجابيًا مُقنعًا.. تلافى نقائصه في حنو أرغمه على بذل المزيد من الجهد لنيل رضاه أكثر من أي شيء عداه.
للمران معه مذاق ممتع يختلف تمامًا عما كان عليه أيام ذلك الحاقد التافه.. أدرك للتو كم كان مُخطئًا عندما ضيع من عمره خمسة أعوام كاملة.. بذل فيها كل طاقاته لنيل بعضًا من تعاطفه بلا جدوى.. شفيق كان خصمًا حتى في توجيهاته ونصائحه.. كان يتصيد أخطاءه ليبكته عليها كلما أمكنه.. وفي شماتة عدو لا شريك مصلحة..!
ولكن لا بأس.. فلولا تمسك ذاك الوغد بذلك الكم الهائل من التمرينات اليومية الشاقة التي أراد بها تعجيزه.. ما كان أوسكار أعجب به من الوهلة الأولى.. ولولا محاولاته المستميتة لأثبات صلاحيته وأحقيته في الأفضل.. ما كان وصل أبدًا لما وصل إليه من هذه البنية العضلية الصلبة.
إن كان شفيق قد أراد به شرًا فالله حوله خيرًا رغمًا عنه.
كان قد اغتسل وبدل ملابسه عندما اقترب أوسكار ليربت على كتفه قائلًا:
- أحسنت يا بطلي.. جهز نفسك للانتقال بعد غد إلى المعسكر.
اتسعت عينا باسل في تساؤل مشحون قلقًا.. فأردف أوسكار موضحًا:
- ستقيم العشرة أيام الأخيرة هناك.
- أتقصد إقامة دائمة.. ليل نهار؟
- نعم.. ما المشكلة؟
- ألا يمكنني أن أغادر المعسكر بعد انتهاء التدريب.. على وعد بالعودة إليه قبل أن يبدأ في اليوم التالي.
هز أوسكار رأسه قائلًا:
- مستحيل.
صاح باسل بعصبية لم يستطع التحكم فيها:
- المستحيل هو أن أترك ندى وحدها في الفندق.
- باسل.. هناك قواعد عليكَ الالتزام بها.
- أعلم.. ولكن.. عشرة أيام كاملة.. من سيعتني بها؟
- وكأنكَ تتحدث عن طفلة..! ندى كبيرة بما يكفي لتهتم بنفسها دون مساعدتك.
- ربما كانت كبيرة سنًا.. ولكن داخلها طفلة مُدللة.. لا تجيد حتى إطعام نفسها في غيابي.
ابتسم أوسكار في تهكم فانتبه باسل إلى أنه تمادى كثيرًا في إظهاره لمشاعر كان الأجدر به لو احتفظ بها لنفسه.
*****
تقبلت الأمر صامتة وإن كانت ملامحها أظهرت ضعفًا وحزنًا فازداد قلقًا على مصيرها خلال فترة غيابه.. سقط قناع الاستقلالية الزائفة التي توارت خلفه مؤخرًا.. شجاعتها كانت تمثيلًا لا أكثر.. نزهاتها اليومية بمفردها حول الفندق كانت فقط ليقينها بأنه قريب منها.. ولمعرفتها بأنه لن يتأخر عن نجدتها متى طلبتها منه.

ولكن ماذا بعد أن يصبح أسيرًا لمعسكر مغلق مغادرته ليست بيده..؟ إن كانت هذه هي بداية طموحه فهل عليها أن تخسره هو أيضًا مع من خسرتهم من قبل؟
أمسك يدها بإشفاق واغتصب ابتسامة قائلًا:
- عشرة أيام ليست بالفترة الطويلة.. ستمضى سريعًا كالبرق.
- متى ستتركني؟
- ندى.. أنا لن أتركك أبدًا.
- متى ستذهب لذلك المعسكر؟
- بعد غد.
صمتت في وجوم فأردف في لوعة:
- لو الأمر بيدي.. صدقًا ما كنتُ تركتك.
هتفت في ثورة:
- كلكم تقولون ذلك ثم تتركونني في النهاية.. أنتَ لا تختلف عن خورشيد.. الأمان الذي وعدتني به سراب لن يدوم طويلًا.. لم يكن إلا وهمًا.. الخطر يطاردك أنتَ أيضًا.. حتى ولو كان طموحًا تسعى إليه.. كلها مُسميات لنهاية واحدة.
أجهشت بالبكاء فضمها إلى صدره ومسح على شعرها بحنان.. همّ أن يكرر على مسامعها عبارات كررها كثيرًا حتى حفظتها وما عادت لتقنعها.. صمت حتى انتهت من البكاء وهدأت.. رفع وجهها لتواجهه.. جفف دموعها بأصابعه قبل أن يقول مبتسمًا:
- أنتِ لست في حاجة لمن يهبك الأمان.. ستكونين أكثر طمأنينة لو فهمت أن الأمان في حد ذاته مسئولية قبل أن يكون إحساسًا بالراحة.
ابتعدت عنه قائلة في سخط:
- ما أسهل الوعظ عند نقض العهود..!
- أنا لا أنقض عهدي معكِ ولن أنقضه.. فقط أريدك أن تعلمي بأن الأمان منبعه أنتِ.. لابد أن يخرج منكِ أولًا.. داخلك لا حولك.
رمقته بعدم اقتناع فأردف بهدوء:
- منذ صغري تعلمت أن أخلق الأمان لنفسي أينما كنتُ.. لا أنكر فضل كثيرين قدموا لي المساعدة.. بدءًا من والداي والعم فتحي.. وصولًا لأوسكار.. شعاع الأمل الذي أرسله لي الله في لحظة يأس.
لم يتبدل السخط فوق ملامحها ولكنه تابع في إصرار:
- ولكنني في المقابل كنتُ أعرف دوري جيدًا.. حرصتُ قبل كل شيء على أن أملك أساسًا يقدمون فوقه مساعداتهم.. ضاعفت جهدي كي أكون أهلًا لعطاياهم حتى لا تسقط هدرًا.
أغمضت عينيها وتنهدت بعمق فمرر أصابعه بين خصلاتها في شراسة رجت رأسها بعنف جعلها تغضب وتبادله بوابل من اللكمات راح يصدها في مهارة حتى انتابها يأس من إصابته ولو بواحدة منها فهمدت فوق صدره استسلامًا.
ليتها تعلم بأنها هزمته الآن..
جذبها فجأة ليتخلص من توتره قائلًا:
- هيا بنا.
- إلى أين؟
- أنوي تعويضك عن الأيام التي سأمضيها بعيدًا عنكِ.
تلألأت عيناها في حماسة فابتسم قائلًا:
- تمني ما شئتِ.
صمتت شاردة قبل أن تهتف:
- تعالَ نأخذ حافلة الركاب إلى ذلك المنتزه المنعزل مُجددًا.
تسمرت عينيه فوقها لحظات وما لبث أن تصنع ابتسامه قائلًا:
- وماذا لو تعثرنا في العودة كما حدث سابقًا؟
- ليتنا نبقى هناك للأبد.
- في تلك المنطقة الخربة التي لا بشر فيها..!
- غياب البشر أجمل ما فيها.
*****
كان أوسكار مُحقًا عندما أخبره بأن وجوده في المعسكر يضمن صالحه ويوفر له رعاية لن يحصل عليها خارجه.. اهتمامهم براحته بلغ حد التدليل.
وجوده تحت راية أوسكار سلط عليه الأضواء.. توجوه بطلًا قبل حتى أن تبدأ المسابقة.. المتسابقون أنفسهم شعروا بقلق أقرب للرعب وهم يرونه للمرة الأولى.. كان أشدهم بنية يبدو هزيلًا أمامه.. من حق أوسكار أن ينبذهم جميعًا ويصاب بالإحباط قبل أن يراه ويتمسك به.
شفى غليله وحقده على ماضٍ ضاع هدرًا.. الذهول الذي اعترى وجه شفيق ما إن وقع بصره عليه.. كاد أن يسقط ميتًا عندما فوجئ به بين صفوف المصارعين.. زاده هلعًا وجود أوسكار بجواره وعلمه فيما بعد بأنه من تبنى موهبته بنفسه.
التملق الذي أعقب صدمته لم يلمس في نفس باسل وترًا.. حقده نحوه كان أكبر من أن يغسله نفاق مهما بلغ مقداره.. رمقه مُتهكمًا عندما عاد يتلون كالحرباء وهو يقترب منه مُظهرًا حبًا أبعد ما يكون عن قلبه.. فتح ذراعيه عن آخرهما وهتف كالمشتاق:
- باسل.. يا لها من صدفة رائعة..!
اكتفى باسل بمد يده ليصافحه في وجوم قطع عليه إظهار المزيد من التمثيل الهزيل المبالغ فيه بينما اقترب أوسكار منه وتطلع إلى شفيق في فضول فأسرع الأخير ليعرفه بنفسه في زهو قائلًا:
- أنا شفيق.. أنا من توليت رعاية هذا البطل لخمس سنوات كاملة وكان لي الفضل الأول في بناء قوته العضلية الهائلة.
استدار أوسكار إلى باسل وكأنه يريد تأكيدًا لما يلمح إليه ذلك المدعي.. رفع باسل رأسه في كبرياء تعلمه منه ربما.. وربما منها.. قائلًا بعدم اهتمام:
- لا أتذكره.
اتسعت عينا شفيق استنكارًا بينما جذبه أوسكار قائلًا بغطرسته المعتادة:
- هيا بنا إذًا.. عليكَ ببعض الراحة.
لا سريره الفاخر الذي جهزوه خصيصًا لراحته.. ولا التمرينات المرهقة التي يجتازها اليوم كله غيرت من عادته السيئة لثلاثة ليالٍ كاملة.. ساعات تمضي وهو مشغول بها عاجز عن النوم لشدة قلقه عليها.. صوتها المهموم عبر الهاتف والذي حرص على أن يسمعه عشرات المرات كلما سنحت له فرصة للراحة.. لم يكن يزيده إلا شوقًا إليها ورغبة في الهرب من المعسكر واللحاق بها.
كان قد هاتفها منذ ساعة.. والآن يرغب في سماع صوتها مُجددًا.. لم يفكر طويلًا وهو يعاود طلب هاتفها.. أجابته على الفور وكأنها هي الأخرى كانت ترغب في سماع صوته.
أظهرت لامبالاة ليتها كانت حقيقية.. حتى ولو كانت ستؤلمه وتشعره بعدم حاجتها إليه.. فحاجتها إليه وهو عاجز عن الوصول إليها تؤلمه أكثر.. استمع لثرثرتها بشغف وحنين قبل أن يجن جنونه وهو يلاحظ أن صوتها اختنق فجأة عندما تمنت له ليلة طيبة وأغلقت الخط.
عاود الاتصال بها مجددًا.. تجاهلت رناته مِرارًا ولكنها تجاوبت أخيرًا لتأكد ظنونه.. كان يعلم بأنها تبكي.. حاول أن يبدو مرِحًا وهو يسألها:
- ماذا بكِ؟ الأيام تركض أسرع منكِ.. سأكون معكِ بعد أقل من أسبوع واحد.
- أتراها تركض بالفعل؟! لماذا أشعر أنا بأنها كسيحة؟
أغمض عينيه انفعالًا وجاهد ليحتفظ بهدوئه قائلًا:
- لماذا سهرت حتى هذه الساعة المتأخرة؟
- لأنني خائفة.
سألها بقلق:
- هل أغلقتِ الباب بالمفتاح؟
- نعم.
- لا داعي لخوفك إذًا.
- باسل.. اعتدتُ على وجودك بجواري.
- لا تكوني طفلة.. وهيا اخلدي للنوم.
مضت فترة قبل أن تغمغم بكلمات لم يفهمها وتغلق الخط.. ضغط على هاتفه حتى كاد أن يحطمه.. عندما عاد يتمعن به اكتشف بأنه قد شرخه بالفعل.. لم يكن ليهتم لو لم يكن هو الخيط الوحيد الذي يتيح له فرصة الاطمئنان عليها حاليًا.
*****
انكمشت ندى في فراشها بالفندق وكتمت أنفاسها بكلتا يديها عندما شعرت بأحدهم يقترب من باب غرفتها ويتوقف أمامه.. انتظرت أن يبتعد ولكنه لم يفعل.. بل طرقه في خفة ضاعفت رعدتها.. انحدرت دموعها في صمت وهي تستمع إلى طرقاته مجددًا.. ابتلعت ريقها بعدم تصديق عندما قال بصوت هادئ:
- افتحي يا ندى.
ظلت لحظات ساكنة وكأنها لم تستوعب الأمر بعد.. أيعقل أن يكون هو بالفعل.. أم أنه آخر يقلد صوته حتى يغريها بفتح الباب؟!
عاد الصوت يكرر بصبر نافد:
- افتحي يا ندى.. أنا باسل.
تحركت كالإعصار هذه المرة لتفتح له وما إن تأكدت من هويته حتى ألقت بنفسها بين ذراعيه في شوق لا يضاهيه إلا شوقه إليها.. همّ بتقبيل شعرها وجبهتها عندما رفعت وجهها نحوه فلامس شفتيها مُرغمًا.. أسرع يبتعد بوجهه عنها ولكنها ازدادت التصاقًا به حتى قبِلَ عطيتها سعيدًا ليفرغ بين شفتيها حممًا تسكنه وتؤرق مضجعه.
ابتعدت عنه أخيرًا تحمل انفعالات عذراء وكأنها لم تعرف رجلًا قبله.. ربما لأن خورشيد لم يكن فتيًا مثله.. أو لعله رغم تدليله المفرط لها لم يكن يحمل ذلك العشق المستعد لغفران كل ماضيها مهما بلغت بشاعته.
استجمعت شجاعتها وغمغت أخيرًا دون أن تتجرأ بالنظر إلى وجهه:
- هل سمحوا لكَ بمغادرة المعسكر؟
ابتسم قائلًا:
- كلا.
رفعت وجهها المتوهج نحوه في فضول فأردف:
- تسلقت السور.. عادة سيئة تلازمني منذ الصغر.
ضحكت بعصبية قائلة:
- ولكن ماذا لو اكتشفوا أمرك؟
هز كتفيه في إحباط قائلًا:
- قد يطردونني من البطولة.
- يا لكَ من متهور.. لماذا فعلتَ ذلك؟
- بكاؤك في الهاتف أصابني بالجنون.
تطلعت اليه شاردة.. فوق ملامحه سطور تقرأها للمرة الأولى.. بين نبراته الخشنة نعومة مستترة لعاشق متيم.
هي أيضًا تحمل إحساسًا غريبًا لم تتخيل أن تشعر به يومًا.. ونحوه هو خاصة.. واقع لا يعقل فكيف تصدقه..!
مضت فترة من الصمت المشحون انكمشت فيها على عكس عاداتها.. تسمرت عيناه فوق وجهها في اشتياق زادها ارتباكًا.. لم تكن يومًا بهذه الأنوثة الطاغية.. أحبها حد الجنون حتى وهي طفلة شرسة.. فما الذي سيحدث له الآن؟
بالله كيف لام خورشيد يومًا على عشقه لها بينما هو على استعداد في هذه اللحظة أن يتنازل عن كل أحلامه مُكتفيًا بحلمه بها..؟!
بالكاد نظرت في عينيه قبل أن تخفض وجهها سريعًا وهي تغمغم:
- ماذا ستفعل الآن؟
- إن كنتِ أفضل.. سأعود إلى المعسكر لأجرب حظي للنهاية؟
- نعم.. أنا أفضل.. يمكنكَ أن تذهب مُطمئنًا.
تنهد ونهض ليودعها فنهضت هي الأخرى وعادت لتحدق في عينيه بيأس وحيرة.. ارتعدت عندما مد يديه ليمسك بكفيها فأصابته دهشة ما لبثت أن تحولت إلى ابتسامة واسعة.. يبدو أنها قد شعرت برجولته أخيرًا.
هتف في انفعال وهو يهم بالمغادرة:
- أغلقي الباب بالمفتاح.. وحذار أن تبكي مرة أخرى.
أومأت برأسها مُبتسمة فعاد ينظر في عينيها قائلًا بسعادة:
- تأكدي بأنني سأصل إليكِ متى احتجتني.. حتى ولو كنتُ في كوكب آخر.
أغلقت الباب واستندت بظهره طويلًا.. لازالت عاجزة عن تصديق ما باغتها من مشاعر تحزنها بقدر ما تسعدها.. تكاد تبكي وتضحك معًا.. هيستيريا لم تجربها من قبل..!
تنفس الصعداء ما إن دلف إلى غرفته وأغلق بابها على نفسه.. أسرع يبدل ملابسه ويسترخي في سريره متمنيًا من الله أن يستره للنهاية.
تنهد بعمق وأطلق لمشاعره العنان.. إحساسه بها يفوق العقل والإدراك.. حذروه طويلًا من العشق.. زموا فيه وابتدعوا مآسى لصقوها كلها به ليزيدوه فيه زهدًا.. ولكنه لم يجرب أجمل منه.. ربما لأنها معشوقته فاختلف الأمر.
أمسك بهاتفه وراح يبحث فيه عن مجانين في العشق مثله.. كان في حاجة لمن يشاركه الحديث عنها.. لمن يبثه أحساسًا عجز عن حمله بمفرده.. استقر على محطة تذيع أغنيات مصرية.. أم كلثوم.. سيدة الغناء العربي كما لقبوها.. سمع عنها كثيرًا ولكنه لم يسمع لها شيئًا يُذكر.. بالكاد كان يتصادف وصوتها عندما يجالس أصدقاءه في المقاهى أو أثناء سيره بجوار متجر صاحبه متيم شغوف بها.
استيقظ في صباح اليوم التالي على طرقات تضرب باب غرفته.. عندما فتحه طالعه وجه أوسكار متجهمًا.. حياه فردَّ تحيته في اقتضاب قبل أن يسأله ساخطًا:
- لماذا تغلق هاتفك؟
استدار ليتفحص هاتفه قبل أن يقول مُعتذرًا:
- البطارية نفدت.. سأضعه في الشاحن.
لم يُعلق.. بل ظل يرمقه بغضب أثار ريبته.. أيعقل أن يكون أوسكار قد عرف بأمر تسلله من المعسكر ليلة أمس..؟!
أحنى رأسه في شيء من الخجل مقرون بشعور بالذنب.. هتف أوسكار أخيرًا وهو يغادر الغرفة:
- انته من فطورك والحق بي إلى صالة التدريب.
مهارته هذه المرة لم تلق ما ترجاه منها.. لم تخفف من تبرم وجه مدربه الغاضب بل لربما زادته عبوسًا وضجرًا.. لم ينعم عليه بكلمة استحسان واحدة بقدر ما علق على سهوات لطالما تغاضى عنها سابقًا..!
انتهز فترة الراحة وأسرع يهاتفها.. لازال صوتها مُرتبكًا رغم المسافات بينهما.. عندما أخبرها عن غضب أوسكار غير المبرر منه على عكس عادته أكدت ظنونه بأنه بالتأكيد قد كشف أمره ولكنه لا يريد أن يواجهه خوفًا من أن يضطر للتضحية به.. اتسعت ابتسامته عندما عادت لشراستها وطلبت منه في مكر أن يكرر فعلته مُطمئنًا مادام أوسكار لن يجازف بخسارته.
عادت للصمت مجددًا.. هو أيضًا شعر بقيود لم يعتدها من قبل في حديثه معها.. لجم لسانه فخرجت كلماته قليلة شاردة حتى اضطرا لتوديع بعضهما وغلق الخط على وعد بحديث قريب.
فوجئ بأوسكار على بعد خطوات منه وقد تركزت نظراته على الهاتف قبل أن تنتقل إلى وجهه في تجهم.. بادره بنبرة حادة:
- مع من كنتَ تتحدث؟
- ندى.
- هذه الفتاة تأخذ من وقتك الكثير.
- لكننا في فترة راحة حاليًا.
صاح أوسكار بعصبية:
- فترة الراحة لا تعني أن تهدرها بلا طائل.. كان الأجدر بكَ أن تشاهد بعض الفيديوهات الخاصة بمنافسيك حتى تكون أكثر استعدادًا لمواجهتهم.
قطب باسل حاجبيه قبل أن يقول بهدوء أقرب للبرود:
- لا يعقل أن تكون كل هذه الضجة.. فقط لأنني هاتفت ندى.. ما الذي يغضبك مني؟
بادله أوسكار بروده وهو يبتعد قائلًا:
- أنتَ أدرى بما فعلته.




noor1984 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-11-20, 08:21 PM   #15

noor1984

مشرفة منتدى قلوب احلام وأقسام الروايات الرومانسية المترجمةوقصر الكتابة الخياليّةوكاتبة،مصممة متألقة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية noor1984

? العضوٌ??? » 309884
?  التسِجيلٌ » Jan 2014
? مشَارَ?اتْي » 23,038
?  نُقآطِيْ » noor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond repute
افتراضي



اشــــتـــيــاق...

أتحسبين الهَــــــــــجرُ منكِ سيشفيني
وأنتِ تحت الجلدِ بينَ شــــــــــراييني
محفورة في قلبي وفكري وفي حنيني
تركتني في وحـــدتي للذكرى تشقيني

أماني عطاالله

-13-
كاد الأسبوع أن ينتهي دون أن ينتهي بعد تجهم أوسكار الذي التصق بوجهه كجلده حتى امتلأ باسل ضيقًا وفاق شعوره بالتذمر شعوره السابق بالذنب.. عدا نظراته الشاردة وكلماته المقتضبة لتوجيهه أثناء التدريب.. فحتى طعامه أصبح يتناوله في غرفته تجنبًا للاحتكاك به.. وكأنه اكتفى من رؤيته مُرغمًا طيلة فترة التمرين..!
يبدو أنه لا مفر من المواجهة العلنية.. فهو يكره أن يبقى في صراع معه للأبد.. إن كان قد تغاضى عن خطئه فلمَ لا يغفره أيضًا؟
حمل صينية طعامه وذهب بها إلى غرفته.. طرق بابه بهدوء ودلف إليها مبتسمًا ما إن سمح له بالدخول.. رفع بصره إليه في دهشة ولكنه ما لبث أن عاد لالتهام طعامه صامتًا.. غمغم باسل بهدوء:
- منذ فترة لم نتناول طعامنا معًا.
- نعم.. منذ ستة أيام.
ابتسم باسل في عصبية قائلًا:
- أتيتُ لأعتذر لك.
استمر أوسكار في تناول طعامه غير عابئ بوقوفه حاملًا طعامه على مقربة منه.. فأردف باسل بعد فترة:
- هل أجلس أم أذهب؟
أجابه دون أن ينظر إليه:
- اجلس.
ابتسم باسل وهو يتطلع إليه في حب انعكس على وجه أوسكار الذي قال وهو يرمقه معاتبًا:
- في المرة القادمة.. عندما يداهمك ذلك الجنون لرؤيتها.. اطلب منها أن تأتي لزيارتك هنا.
هتف باسل في سعادة طفل صغير:
- أحقًا..؟ هل هذا مسموح به في المعسكر؟
- سنعتبره استثناء.
ربت باسل على كفه في امتنان.. فتنهد أوسكار قائلًا:
- على أية حال.. هذا أفضل كثيرًا من كسر عنقك وهدم كل ما بنيناه معًا.
ضحك باسل وراح يتناول طعامه في شهية لم يشعر بها منذ غضبه عليه.. تطلع إليه أوسكار مُستنكرًا ثم مبتسمًا قبل أن يحذو حذوه ويشاركه بذات الشهية.. ما أجمل أن تعود الحميمية بينهما مجددًا..!
في اليوم التالي.. كانت الشمس قد بدأت في المغيب وكانا يتسامران معًا في حديقة المعسكر عندما فوجئ أوسكار بحضورها لزيارته.. وكأنه كان ينتظر موافقته بالسماح لها.. ربما لهذا السبب بقى شاردًا اليوم كله.. وحتى خلال التدريب..!
راح يراقبه وهو ينهض لاستقبالها في عتاب لا يخلو من اللهفة بينما اقتربت هي منه في حذر أثار حفيظة أوسكار بالأكثر نحوها.. لا تبدو متيمة به بذات المقدار.. عشقه لها أعنف وأخطر.. سوف تدمر مستقبله إذا استمر الوضع بينهما على هذا المنوال.
استأذن مُرغمًا ليعفيه من حرج مبادرته بالتخلص منه.. وما إن ابتعد حتى همس باسل مُعاتبًا:
- لماذا تأخرتِ؟
- أردت أن أمنحك الوقت لتنتهي من مرانك.
- ولكن هذا يعني بأنكِ لن تمكثي معي طويلًا.
- مادمتَ تعرف هذا فكف عن توبيخي وقُل شيئًا أكثر تشويقًا.
ابتسم في حنين وهو ينظر إلى الوردة الحمراء التي تمسك بها فقدمتها له صامتة.. ارتبكت عندما راح يستنشق عبيرها في نشوة قبل أن يقربها من فمه ويقبّلها متيمًا.
هتفت في عفرتة ربما للتخلص من انفعالاتها لتصرفه غير المتوقع:
- حذار أن تأكلها أيها المفترس.
ضحك بمرح واستمرا بعدها في الثرثرة طويلًا.. أسعده أن تكون أفضل حالًا مما تركها عليه في المرة السابقة.. تبدو واثقة ومطمئنة وأكثر هدوءًا أيضًا.. وكأنها كبرت في أسبوع واحد.
همّت بالانصراف عندما استوقفها قائلًا:
- انتظري.. سأكتب لكِ شيكًا لربما احتجت شيئًا.
- كلا.. لا تحمل همي.. سأحصل على راتبي قريبًا.
تطلع إليها في صدمة فأردفت في نبرة جاهدت لتبدو قوية:
- وجدتُ عملًا في كشك صغير لبيع الزهور.
- وما حاجتك لهذا العمل؟ لديكِ نقود تكفيكِ طويلًا.. عندما أخرج من هنا سأعيدها كلها لكِ.
- أخبرتني سابقًا بأن هذه النقود للطوارئ فقط.
- أكد لي أوسكار بأنني سأفوز حتمًا بهذه المسابقة.. حينها سيكون معي الكثير من المال و.....
- المسألة لا تتعلق بالمال وحده.. أنا في حاجة للاعتماد على نفسي.. أشعر بأنني أفضل حالًا.. لم أعد خائفة كما كنتُ سابقًا.
- لماذا لم تخبريني منذ وصولك..؟ سهوتِ بلسانك مصادفة.. وكأنكِ كنتِ تتعمدين إخفاء الأمر عني.
- كنتُ أحاول تأجيل هذه المحاضرة الطويلة منك بقدر المستطاع.
- تعلمين كم أخاف عليكِ..!
- خوفكما ضاعف خوفي ووطنه داخلي.
كان يعلم من تقصد معه.. تجاهل مغزاها وهو يتأملها في مزيج من الغضب والحيرة قبل أن يسألها:
- كيف حصلتِ على هذه الوظيفة؟
- عن طريق الإعلان الذي علقه عبدالله على باب الكشك.
- ومن هو عبدالله؟
- شاب طيب.. من أصل أردني.. يسرح بوروده كل الوقت ويحتاج لمن يبقى في الكشك فترة غيابه.
- وماذا عن أخلاقه؟
- لا بأس بها.
- ألم يطلب منكِ أن تسرحي بالورود معه في الشوارع؟
ضحكت في مرح قائلة:
- ليس بعد.
زفر بعصبية وهو يزداد تشبثًا بكفيها حتى حررتهما منه عنوة وخطفت حقيبتها لتبتعد قائلة:
- يكفي هذا.. أوسكار يراقبنا في غضب.. لن أنتظر حتى يأتي ويطردني بنفسه.
استدار ليتطلع إلى أوسكار بدوره.. كان يبدو غاضبًا بالفعل.. تركها تذهب مُرغمًا وهو يمطرها بوابل من التحذيرات والنصائح حتى غادرت المعسكر.. بقى ساكنًا في مكانه فترة قبل أن يستدير ليذهب إلى غرفته.. في طريقه تصنع ابتسامة لم تقنع أوسكار.. ولكنه لن يلتفت لغضبه الآن.. تكفيه معاناته.
*****
قبّلت باقة الياسمين في إعجاب ووضعتها جانبًا لتبدأ في تنسيق باقة جديدة من زهور البنفسج المطعمة بالفل عندما وصل عبدالله إلى الكشك مبكرًا عن عادته.. تطلعت إلى ساعتها وهتفت مستنكرة:
- لماذا أتيت الآن؟
اقترب ليقبل وجنتها ولكنها أزاحته في حدة صائحة:
- ما الذي حدث لك؟
ابتسم قائلًا:
- أردتُ فقط أن أعبر لكِ عن شكري وامتناني وإعجابي أيضًا.
رمقته في تهكم فأردف في حماسة:
- بفضل تصميماتك الرائعة تمكنت من بيع كل الباقات التي صنعتها في وقت قياسي وجئتُ لأطلب المزيد منها.
- أن أردتَ أن تشكرني بالفعل عليكَ أن تزيد راتبي الهزيل.
- سأفعل.. ولكن عليكِ أن تبهريني بالمزيد من إبداعاتك.
تطلعت إلى ما أنجزته في زهو قائلة:
- ما رأيك؟
تطلع بدوره إلى باقات الورود المتناسقة قبل أن يحملها بإعجاب ليضعها في صندوق كبير ملتصق بدراجته قائلًا:
- رائع.. هيا زيديني منها ريثما أذهب أنا لبيع هذه.
هتفت وهو يبتعد بدراجته:
- لا تنسَ شراء المجلات التي طلبتها منكَ.. نفدت جعبتي.
*****
هاتفها المغلق معظم الوقت أصابه بالجنون.. لولا غضب أوسكار وصعوبة غفرانه هذه المرة لقفز الأسوار وذهب إليها بلا تردد.
ما الذي حدث لها؟ هل أصابها مكروه لا قدر الله.. أم أن عبدالله هذا أحسن القيام بدوره فارتضت به بديلًا عنه؟ ربما يكفي كونه مُتفرغًا لرعايتها.
تطلع شاردًا إلى أوسكار الذي اقترب منه ووقف يتمعن بملامحه قبل أن يسأله في إشفاق:
- ماذا فعلت لكَ هذه المرة؟
قال محاولًا التظاهر بعدم الفهم:
- من تقصد؟
ابتسم أوسكار في تهكم فأردف بعصبية:
- لماذا تتحامل عليها بهذه الطريقة وأنتَ لا تعرفها؟
تنهد أوسكار واقترب ليجلس في مواجهته قائلًا:
- كلهن كارولين.. يكفي أن أعرفها لأعرف النساء جميعًا.
- كارولين هذه حبيبتك؟
- كانت حبيبتي.
تأمله باسل في حيرة.. ما الذي يمكنه أن يواسيه به ليخفف ذلك الكم من المرارة التي اكتسحت وجهه في لحظات.. تنهد صامتًا فأغمض أوسكار عينيه بألم لفترة طويلة قبل أن يهمس دون أن يفتحهما:
- لا يضاهي حبها سوى كرهي لها الآن.
- ماذا فعلت لك؟
فتح عينيه ليحدق في وجهه برعب قائلًا:
- احترس منها يا باسل بقدر استطاعتك.. لا تكن أحمق مثلي وتمنحها ثقة لن تكون أبدًا أهلًا لها.
تطلع إليه باسل في شك فتابع بنفس الهيستيريا:
- لم أخبر أحدًا قبلك بمعاناتي معها.. تركتهم كلهم يظنون بي العجرفة والغرور.. قالوا عني حاقد معقد.. أكره حتى نفسي.. ولكن لا بأس.. هذا أهون كثيرًا من شفقتهم بحالي.
- ربما كنتَ تضخم الأمور.
- أبدًا.. أنتَ لا تعرف شيئًا.
- لم تخبرني بعد بما فعلته لتستحق غضبك.. ربما ظلمتها ولو بلا قصد.
ضحك بعصبية قائلًا:
- لقد أحببتُ هذه المخلوقة أكثر من حياتي.. أوليتها ثقة لم تكن من عاداتي.. صدقتها في سذاجة عندما أخبرتني بأنها تبادلني عشقي بأعظم منه.
ابتسم وصمت قليلًا ليتنهد في مرارة قائلًا:
- كنا قد رتبنا لكل شيء.. اشتريت لها منزلًا فاق أحلامها روعة.. هكذا أخبرتني حينها.. حددنا موعدًا لزفافنا بعد انتهاء تلك المبارة اللعينة التي دمرت كل طموحاتي.. وإن كنت أدين لهزيمتي فيها بكشف زيفها وخداعها.
كاد أن يبكي وهو يضرب الطاولة الصغيرة بقبضته في عنف ليكسرها بالفعل.. وعاد يهتف بغضب:
- ما إن رأت هزيمتي وتأكدت من عاهتي التي ظنت أن لا شفاء لها.. حتى تركتني.. تنصلت من عشقي كمن تتنصل من عار تخشى أن يلتصق بها..!
ربت باسل على كتفه في مواساة.. كان واضحًا أن هذه المرأة كادت أن تفقده عقله.. إن لم تكن قد فعلتها لفترة طويلة.. إن كانت هذه هي حالته بعد أكثر من عشرين عامًا فكيف كانت حينها؟!
ولكن ماذا عنه..؟ هل عليه أن يتخذه مُعلمًا في العشق أيضًا؟
لا يستطيع أن ينكر خبرته وتفوقه في فنون المصارعة والقتال.. أتراه بنفس الخبرة في أمور العشق والهوى؟
كلا.. ليته لا يكون.. فليحتفظ بخبرته السوداء لنفسه.. فهو رغم كل ما يكنه له من إعجاب وتقدير لا يتمنى أبدًا أن يكون مثله في هذا المضمار...
- كيف تعرفت عليها؟
رفع وجهه إلى أوسكار تائهًا.. يا له من سؤال هذا الذي أعاده إلى ماضٍ قريب تناساه بقدرة عجيبة.. شيء من الخوف تسلل إلى قسماته.. ربما لا يجب عليه أن يكون بتلك الطمأنينة في علاقته بها.. تضاعفت لهفة أوسكار وازدادت نظراته إلحاحًا حتى اضطر مُرغمًا لسرد قصته معها كاملة.. قصة قصيرة.. شهورها معدودة.. ولكنها بالنسبة له تعني العمر كله.
لم يقصها فقط لإشباع فضول أوسكار.. بل لإشباع فضول آخر يداهمه ويعذبه في سادية.. كان فى حاجة لمن يرتب معه أفكاره التي بعثرتها كلها مؤخرًا.. فقدانه لتواصله معها وتجاهلها الذي لا يدري إن كان مُبررًا أو لا تبرير له كاد أن يصيبه بالجنون هو أيضًا.
تبًا للنساء جميعًا.. كم هزم من عمالقة وتهزمه طفلة مثلها؟!
شعر بالندم والتسرع ما إن انتهى من حديثه.. ربما لم يكن من الحكمة أن يختار أوسكار خاصة ليعيد له العقل.. فهو نفسه يفتقد إليه.. ولكنه لم يجد عنه بديلًا.. اكتشف فجأة بأنه مثلها.. وحيد وغريب هنا.. في حاجة إليها بقدر ما هي في حاجة إليه.
رمقه أوسكار بعدم تصديق وهتف مستنكرًا:
- مصيبتك أكبر كثيرًا من مصيبتي.. وقعت في حبائل مجرمة خبيرة.. وبكل ذلك القدر من الطيش والتهور.. تعلم بأنكَ لستَ أول ضحاياها ولن تكون آخرهم وبرغم هذا مستمر في عشقها حد الوله..!
لم تؤلمه كلماته الموجعة بقدر ما آلمه إحساسه بصدقها.. استرجع بقلق عنفها القديم معه.. وتلك الفراشة المسكينة التي منعها من خنقها بالقوة فغضبت.. بل حتى لونها المحبب اختارته دمويًا.. دائمًا شرسة حتى وهي تسلبه عقله عشقًا.
ترى انتقامها كيف يكون..؟!
عاد أوسكار ليطلق في وجهه سهام كلماته المسممة قائلًا:
- ثم ما الذي يجعلك تجزم بأنها تحبك؟
تردد قبل أن يغمغم بشك:
- يكفي تعلقها بي.. لماذا تركتني أقبّلها لو لم تكن تحبني؟
- أخبرتني للتو بأنها كانت أكثر سخاءً مع غيرك.. ماذا عن ذلك المجرم الذي بالكاد رحل منذ أيام قليلة؟!
هز رأسه في إحباط قائلًا:
- لا أدري كيف أقنعك..؟! ولكنني أكاد أجزم بأن إحساسها معي كان مختلفًا.. رأيتها تقبّل خورشيد من قبل ولكن...
أطبق شفتيه وعينيه أيضًا علّه يهرب من نظرات أوسكار وابتسامته المتهكمة.. ليته استطاع أن يغلق أذنيه أيضًا حتى لا يسمع صوته الساخر:
- وكأنكَ صرت خبيرًا بعد قبّلة واحدة أيها الأبله..!
- بالله يا أوسكار تكفيني معاناتي.
- ولماذا تعاني مادمتَ واثقًا بها لهذا الحد؟
غمغم بقلق:
- منذ زيارتها لي هنا.. لم تهاتفني سوى مرة واحدة.. هاتفها مُغلق ولا أدري لماذا..؟!
ازدادت ابتسامة أوسكار تهكمًا.. فأردف متمردًا على ما يبثه فيه من إحساس بالهزيمة:
- ربما سُرق هاتفها.. أو ربما سهت عن وضعه في الشاحن.. فهي كسولة في هذا الشأن.. كانت تفعل ذلك بخورشيد أيضًا.
تحول تهكم أوسكار إلى إشفاق ضاعف من إحساسه بالهزيمة.. فعاد يغمض عينيه هامسًا:
- ربما انشغلت عني بلا قصد.. فهي قد انتظمت في وظيفة مؤخرًا.
تنهد أوسكار صامتًا.. وكأنه اكتفى بهذا القدر من تعذيبه فلم يعلق.. ساد الصمت طويلًا حتى هتف فجأة وهو يمسك بكفي أوسكار في توسل:
- أريدك أن تأذن لي بالخروج من المعسكر لمدة ساعتين.. بل ساعة واحدة فقط.. سأطمئن عليها وأعود فورًا.
- تعلم أنكَ ستبدأ أولى مبارياتك غدًا.. من المستحيل أن يسمحوا لكَ بمغادرة المعسكر ولو لدقيقة واحدة.
- المباريات بدأت بالفعل منذ أسبوع.. وهي لم تحضر ولو واحدة منها.. أخشى أنها لا تعلم شيئًا عنها بعد.. أخاف ألا تأتي غدًا لرؤيتي أنا أيضًا.
هز أوسكار رأسه بحزم.. فأردف باسل في عصبية:
- ولكنني سأجن بهذه الطريقة.. ربما لن أحسن الأداء غدًا مادمتُ مشغولًا بها لهذا الحد.
تطلع إليه أوسكار في حيرة قبل أن تبرق عيناه قائلًا:
- أعطني عنوان الفندق وسأذهب أنا لأطمئنك عليها.
رمقه باسل في شك قبل أن يغمغم مستسلمًا:
- لا بأس.. ولكن اطلب منها أن تهاتفني.




noor1984 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-11-20, 08:23 PM   #16

noor1984

مشرفة منتدى قلوب احلام وأقسام الروايات الرومانسية المترجمةوقصر الكتابة الخياليّةوكاتبة،مصممة متألقة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية noor1984

? العضوٌ??? » 309884
?  التسِجيلٌ » Jan 2014
? مشَارَ?اتْي » 23,038
?  نُقآطِيْ » noor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond repute
افتراضي



ابحثي عن رَجُلٍ آخر
دع حبنا روحًــــــا ولا تجسدهُ
فكل ما تجســــدَ بالموتِ نفقدهُ
أماني عطاالله

-14-
عادت من عملها مُنهكة تجر قدميها جرًّا.. لم يكن كشك عبدالله بعيدًا عنها.. ولكنها اعتادت مؤخرًا أن تدور حول الفندق ساعات قبل أن تعود إليه.. كانت الطريقة الوحيدة التي نجحت في تخليصها من الأرق وجعلتها تنعم بنوم متصل حتى الصباح التالي.
اتسعت عيناها في قلق عندما فوجئت بأوسكار ينتظرها جالسًا في استراحة الفندق الصغيرة.. ما إن رآها حتى وقف وتعلقت أنظاره بها.. تسمرت في مكانها عجزًا بينما اقترب هو منها وصافحها في وجوم.. سألته قبل أن ترد حتى تحيته:
- هل باسل بخير؟
تطلع إليها بنظرات زادتها قلقًا قبل أن يغمغم بلهجة أقرب للسخرية:
- وكأنكِ تهتمين لأمره..!
هتفت بعصبية:
- بالطبع أهتم.. باسل صديقي.
- ظننتُ ما بينكما أكثر من مجرد صداقة.
- لستُ مسئولة عن ظنونك الغبية.
- ليته يسمعك الآن ليصدقني.
- كفى ثرثرة وقُل أنه بخير.
- نعم باسل بخير.. وسيبقى دائمًا بخير طالما بقيتِ بعيدًا عنه.
شعرت بارتياح رغم دهشتها من كمّ العداء في صوته ونظراته.. رفعت ذقنها قائلة بنبرة لا تخلو من الوعيد:
- هل باسل هو من طلب منكَ أن تخبرني بذلك..؟ أما أنه سيغضب عندما يعلم بأهانتك لي؟
- تعلمين بالطبع أن باسل متيم بكِ.. ولكنكَ في المقابل....
لم يكمل عبارته.. فحتى الصداقة التي تتحدث عنها لا يصدقها.. منع نفسه بصعوبة من توبيخها حتى لا تتضاعف رغبتها في الانتقام من ذلك المسكين.. ربما عليه أن يكون أكثر صبرًا طالما أراد الخير له.
أشار لها بالجلوس.. تطلعت إليه طويلًا قبل أن تستجيب له في فضول لم تستطع مقاومته.. زفرت بصبر نافد بينما تنهد مُفكرًا قبل أن يقول بهدوء:
- أنت فتاة ذكية جدًا يا.... نانا هانم.. رغم صغر سنك فقد اختبرت الحياة و......
خمنت أن باسل لابد وأن يكون قد ثرثر معه بماضيها في لحظة طيش سوف تحاسبه عليها لاحقًا.. قاطعته في عصبية وهمت بالنهوض قائلة:
- لقد مللتُ أسلوبك المستفز هذا.
أمسك بذراعها لتجلس مُجددًا وسألها مباشرة:
- مهلًا.. أريد فقط إجابتك على سؤال واحد.. هل لديكِ استعداد للبقاء مع باسل مهما بلغ حجم الخطر الذي يهدده..؟
أجابته بلا تردد:
- كلا.
ارتفع حاجبه واتسعت عيناه في دهشة أقرب للصدمة.. لم يكن يتوقع أن تكون بهذه الصراحة والوضوح.. هز رأسه في تفهم وعاد يسألها:
- أشكرك على صدقك.. ولكن لماذا تزيدينه تورطًا في عشقك إذًا؟
- ربما حدث ذلك بلا قصد في البداية.. ولكن أعدك بأن أكون أكثر حرصًا مستقبلًا.
تأملها بشك فأردفت في عصبية:
- هل أخبرك بأنني أغلقت هاتفي مؤخرًا؟
- نعم.. وأرسلني خصيصًا لأطلب منكِ مهاتفته.
- ولكنكَ بالطبع لا تريدني أن أهاتفه.
هز رأسه موافقًا فأردفت مُحبطة:
- اطمئن.. لا أنكر أنني تماديت معه قليلًا ولكنني بدأت أشعر بالقلق من علاقتي الخطرة معه.. لن أحيا في رعب للأبد.. أعتقد أن حياتي مع باسل لن تختلف كثيرًا عن حياتي السابقة.
شردت لحظات لتتابع في انفعال:
- يمكنني أن أجعله يكرهني أيضًا إن كان هذا يروقك.
- كلا.. في الكره اهتمام لا يختلف عن الحب.. بل ربما يفوقه.
- يا لكَ من بغيض..!
- باسل ينتظره مستقبل رائع.. يومًا ما سيصبح بطلًا عالميًا.. مادامت اهتماماته لا ترضي طموحك ابحثي لنفسك عن رجل آخر.. واتركيني أنا أحميه حتى من نفسه.
- ولكن.. ماذا لو خلقت له النجومية أعداء؟

- بالتأكيد هذا سيحدث.. وسيكون قادرًا على مواجهة الجميع.. لن يضعفه سوى وجودك في حياته.
- ما الذي تريده مني بالضبط وسوف أفعله؟
- أريدك أن تخرجي من حياته بلا ذكريات.. أن تصبحي كالماء فيما يتركه من أثر.. لا لون ولا طعم ولا رائحة.
تطلعت إليه مُحبطة وهو يخرج هاتفه ويقدمه إليها قائلًا:
- أخبريه أن هاتفك تعطل فجأة.. وبأنكِ ستذهبين لتصليحه حين تجدين وقتًا.
- ألا تعتقد أن هذه ربما تكون حجة لصالحي؟
- كلا.. لو كنتِ تهتمين لأمره لكنتِ سعيتِ لإصلاحه ما إن تعطل.. أو على الأقل كنتِ حاولتِ التواصل معه من أي هاتف آخر.. سوف أفسر له الأمر بطريقتي الخاصة.
ابتسمت ساخرة وأطلقت تنهيدة طويلة وهي تتناول الهاتف منه لتتصل به.. تتطلع إليها في شك وهي تبتعد عنه قليلًا.. ليتها تصدق فيما وعدته به.
كانت تحفظ رقم هاتفه عن ظهر قلب.. ربما كان الأمر طبيعيًا.. ما لم يكن طبيعيًا أبدًا هو ذلك العشق الذي تجسد فوق ملامحها وهي تتحدث إليه.. ما نفته شفتاها منذ قليل صرح به كمّ من الحنين لم تستطع كبحه.. حنين يمنحه ألف عذر للهيام بها..!
لا تدري كم من الوقت مضى قبل أن تغلق الخط.. بقيت تتطلع إلى الهاتف لحظات أعادته بعدها إلى أوسكار وهي تصرخ به في غضب ضاعف حيرته من أمرها:
- والآن اذهب.. أنا في حاجة إلى الراحة.. بالكاد عدتُ من عملي.
أسرعت بعدها عدوًا إلى غرفتها دون حتى أن تصافحه.. ظل يتابعها بعينيه حتى اختفت.. لو لم يكنَّ ماكرات ويظهرن عادة عكس ما يبطنَّ.. لكان أقسم بأنها فتاة عاشقة.
خلعت حذاءها واسترخت في سريرها بكامل ملابسها.. بكت وهي تلعن أوسكار بسبب ما أعاده إليها من هموم وقلق مُتعللًا بخوفه عليه.. وكأن أمره يهمه أكثر منها.. وكأنه في قلبه أغلى..!
*****
استقبل أوسكار بهدوء لا يمت لأعماقه بصلة.. اللامبالاة التي حاول التظاهر بها لم تقنع الثعلب العجوز الذي انتظر أن يبادره بالسؤال عنها ولكنه لم يفعل حتى شعر بالقلق لأجله فاضطر أن يبدأ هو الحديث قائلًا:
- أرجو أن تكون أفضل حالًا.
- لن تأتي غدًا.
كلماته المقتضبة خرجت هادئة ولكنها زلزلت أوسكار.. كان على يقين بأنه يخفي بركانًا تحتها.. فهذه الفتاة تمثل نقطة ضعف أكبر من أن يداويها في ساعات قصيرة.. لا يمكن أن ينتزعها من قلبه بنفس السهولة التي نفذت بها إليه.. إن كان هو نفسه.. وبعد مضي أكثر من عشرين عامًا.. لا يزال يحمل آثار خيانتها وغدرها به..!
قال في خبث ليزيد من حقده عليها:
- مسكينة.. انتظرتها طويلًا حتى عادت إلى الفندق.. لم أتوقع أبدًا أن تبقى لبيع الزهور بعد التاسعة مساءً.
أيقن بأنه قد نجح في بث سمومه عندما سأله باسل في لهفة:
- هل كانت وحدها؟
- نعم.. ولكنها كانت شديدة الإعياء وكأنها خرجت للتو من حلبة للمصارعة الحرة.
- ما الذي تريد قوله؟
- أنا لم أقل شيئًا.. أنتَ من قلتَ مسبقًا بأن عملها يقتصر على الجلوس في كشك لبيع الزهور.. مهنة لا تحتاج لكل ذلك الوقت والإجهاد الذي وجدتها عليه.
حاول بعدها أن يتجاهل نظراته التي تسلطت كالنار فوق وجهه قبل أن يسأله فجأة:
- متى سأتمكن من مغادرة هذا المعسكر؟
- ربما بعد شهر.
- بل غدًا.. ولو لم يكن الوقت قد تأخر بالفعل لغادرته الليلة.
- تعقل يا باسل.
هز رأسه في عناد وتصميم.. فهتف أوسكار جزعًا:
- حسنًا.. سأعقد معكَ اتفاقًا وأرجو أن تلتزم به.
تطلع إليه باسل في فضول فأردف بجدية:
- سأسمح لكَ بالخروج لمدة ساعتين على مسئوليتي الخاصة.. شرط أن تنتهي أولًا من مبارياتك الثلاث الأولى.
- متى؟
- بعد أسبوع.
- أسبوع كامل.. فترة طويلة جدًا.
- ولكنك ستلتزم بها.. عدني بذلك.. أنتَ لستَ حُرًا لتتخذ قرارك منفردًا.
تطلع إليه باسل في يأس ولكنه أمام إلحاحه ولجاجته لم يجد مفرًا من الموافقة على طلبه.. فأغمض عينيه وهز رأسه مستسلمًا.
*****
لم تشعر في ذروة اهتمامها بتقليد الباقة التي استوحتها للتو من مجلة لتنسيق الزهور.. بعيني عبدالله اللتين تسمرتا فوقها في إعجاب صريح.. حتى عندما لاحظته أخيرًا رمقته في لامبالاة أصابته في مقتل.. فهو لم يعتد أن تصده فتاة بدأ هو بالنظر إليها.
عادت إلى الاهتمام بزهورها فتصنع ابتسامة قائلًا:
- أتعرفين يا ندى..؟
صمت قليلًا ليجذب انتباهها إلى أهمية حديثه قبل أن يتابع:
- لولا ارتباطي بابنة خالتي منذ الصغر لكنتُ عشقتك أنتِ بلا تردد.
قالت دون أن تنظر إليه:
- وكأنني كنتُ سأقنع بعشق متسول مثلك؟!
تحولت رغبته في استمالتها إلى صدمة لم يتوقعها.. فهتف مستنكرًا:
- كيف تتحدثين معي بهذه الطريقة؟
- وكيف تريدني أن أتحدث معكَ..؟ لربما كنتَ تنتظر أن أبكي وأتوسل كي تنعم على ضعفي بعشقك..؟
- من المفترض بأنكِ تعملين عندي وليس العكس.
- وما الذي يجب أن يعنيه هذا؟
- لا تجادليني بهذه الوقاحة.
- هل تُفضل أن أتملقك؟
تلعثم قائلًا:
- على الأقل كان يتوجب عليكِ أن تكوني أكثر تهذيبًا.
- وها أنا لم أكن.. ماذا ستفعل؟
- سوف أفصلك.
رمقته في حدة وما لبثت أن ألقت بأدواتها جانبًا ونهضت لتخلع عنها ملابس العمل قائلة:
- حسنًا.. أعطني أجرتي.
- بهذه السرعة..!
رفعت رأسها في لامبالاة فبرقت عيناه قائلًا:
- اعترفي بأنكِ وجدتِ عرضًا آخر للعمل.
- هذا ليس من شأنك.
- هل هو أفضل من العمل هنا.
- أي عرض آخر سيكون أفضل من العمل معكَ أيها النتن.
- أنا نتن..؟!
- هيا أعطني نقودي.
- لا نقود لكِ عندي.
أمسكت فجأة بالسكين الصغير الذي تستخدمه في تهذيب الزهور ووضعته تحت ذقنه في سرعة أصابته بالرعب فأخرج حافظة نقوده وقدمها لها قائلًا:
- خذي ما شئتِ منها.. فقط اهدئي.. كنتُ أمزح معكِ لا أكثر.
أخذت ما يخصها من نقود وألقت بالمحفظة في وجهه قائلة:
- وداعًا أيها الجشع.
مضت فترة قبل أن يستوعب ما يحدث حوله.. تقدم بعدها ليلحق بها وأمسك بذراعها قائلًا:
- أين ستذهبين؟
أزاحته بعنف وهتفت ساخطة:
- أخبرتك أن لا شأن لكَ بي.
- على الأقل ابقي معي حتى أجد فتاة أخرى.
- أنتَ لا تستحق.
- أعطني فرصة ثانية.
- شرط أن تضاعف راتبي.. وتمنحني إياه في بداية الأسبوع وليس نهايته.. فأنا ما عدت أثق بك.
- ولكن هذا ليس عدلًا.
- ابتعد إذًا عن طريقي.
ظل يرمقها مستعطفًا ولكن قسوتها لم تتبدل.. أخيرًا تنهد في استسلام قائلًا:
- حسنًا أيتها المستبدة.. هيا أكملي عملك.
تطلعت إلى ساعتها في تملل قائلة:
- كلا.. سآخذ ما تبقى من هذا اليوم إجازة.. عقاب إضافي لك.. أو إنصافًا اخصمه من راتبي إن شئتَ.
- ومن سيتولى تنسيق هذه الزهور؟
هتفت وهي تبتعد لامبالية بصراخه خلفها:
- من كان يتولى تنسيقها قبل ظهوري أيها النبيه.
جاهدت طويلًا لتقاوم رغبتها في حضور مباراته الأولى.. وعدت أوسكار بأن تبتعد عن طريقه.. كانت تنوي أن تصدق في وعدها.. إن لم يكن لأوسكار فلنفسها على الأقل.
ولكن ماذا عليها أن تفعل الآن وكل الظروف تدفعها دفعًا إليه..؟ فهي لم تبدأ الصراع مع عبدالله.. لم يكن في نيتها أن تغادر الكشك مبكرة.. ولم تقصد أن تحصل على هذه النقود التي تمكنها من شراء تذكرة لدخول النادي ومشاهدة المبارة.. لم ترتب لكل هذا..
يمكنها أن تراه دون أن يراها.
لم تشاهده يقاتل أحدًا من قبل حتى شكت في قدراته رغم جسده الضخم.. فحتى تلك الفراشة الملونة لم يستطع قتلها..!
وجدت نفسها فجأة في طابور حجز التذاكر.. لا تدري متى وكيف أخذت الحافلة إلى هنا.. وكأن أحدهم يقودها إليه كالمسحورة دون إرادتها..!
اختارت تذكرة في المقاعد الأخيرة.. ليس فقط لأنها رخيصة.. بل لكونها أبعد ما تكون عن رؤيته أيضًا.. ابتلعت ريقها بعصبية عندما ظهر المتنافسان وتعالت الصيحات ترحيبًا بهما.
وقف يتطلع إلى منافسه الذي بدا كالقزم أمامه.. كان المسكين يبدو مرتعبًا منه حتى قبل أن يبدأ الصراع بينهما.. لكماته المهزوزة تلقاها باسل في خفة أقرب للمزاح.. ابتسم ساخرًا مُكتفيًا بصد هجومه حتى مضى وقت لا بأس به فأصابه بلكمة لم يكررها.
مبارة هزلية شعر الجمهور بأنها مُدبرة فتعالت صيحات الاستنكار والتنديد من قِبل الجميع.. لا مجال للمنافسة بين هذا وذاك.. فها هو وحش أوسكار الجميل قد أنهى المبارة قبل أن يبدأها.. خرج منها بلا خدش واحد وكأنهم يهتمون لوسامته أكثر من اهتمامهم بما تحملوه هم من نفقات وإرهاق حتى وصلوا لتلك المدرجات..!
ساد الهرج والمرج فاكتفت بما سمعته وأسرعت تغادر المدرجات قبل أن يلمحها.. باسل سيصبح بطلًا عظيمًا كما تنبأ له أوسكار.. سيكون له أعداء يفوقون أعداء خورشيد عددًا وقوة.. الخطر سيلازمه هو أيضًا أينما ذهب.
لم تكن مُخطئة أبدًا في قرارها بالبعد عنه قبل أن تتورط في عشقه أكثر.. إن كان ما تعانيه من عذاب لا يعني بعد أنها قد تورطت بالفعل..!
*****
انتهى عبدالله من بيع وروده مبكرًا وعاد ليجلس معها في الكشك.. علاقتهما توطدت مؤخرًا بعد أن بدأ يعتاد طباعها النارية ويتأقلم معها.. هى أيضًا بدأت تعتاد مزاحه الثقيل الذي لطالما أزعجها سابقًا.. كانا يتسامران عن أحداث يومهما ويضعان معًا خطتهما للغد.
ضحكت بمرح عندما راح يقلد عجوز مراهق اشترى منه باقة ورد ليهديها إلى حبيبته ذات الخمسة عشر ربيعًا.. شاركها الضحك في حميمية وزهو قبل أن يتوقف فجأة ويشاركها التحديق في ذلك العملاق الذي تسمر على بعد خطوات منهما وراح يراقبهما بغضب لا يعرف له سببًا.
ظل يرمقها في عتاب طويل تلاشى تدريجيًا مع نظراتها له.. إن كان ما تجسد للتو فوق ملامحها ليس حبًا.. فشكل الحب كيف يكون..؟
ولكن ماذا أيضًا عن ضحكاتها التي بلغت حد اللامبالاة والمجون..؟ مزاحها مع بائع الورد هذا بماذا يصفه؟!
وجهه المتجهم أضفى عليه المزيد من الرهبة والوحشية وهو يتقدم منهما بخطوات ثابتة أصابت عبدالله بالذعر فالتصق بها لا إراديًا وكأنه يحتمي بها منه.. تمالكت رباطة جأشها أخيرًا فهتفت بصوت جاهدت ليبدو طبيعيًا:
- باسل.. هل أفرجوا عنكَ أخيرًا؟
اتسعت عينا عبدالله في مزيد من الفزع قبل أن يعاود النظر إلى باسل بقلب يكاد يقفز من بين ضلوعه رعبًا.. لن يستغرب لو أخبرته بأن هذا العملاق الغاضب فارع الطول هو أحد أعضاء المافيا.. بل وزعيمها أيضًا.. كان يعلم منذ البداية بأن هذه الشبيهة بالملائكة ظاهريًا تخفي داخلها مجرمة عتيدة.. وها هي ظنونه قد صدقت.. شريكها هذا خير برهان.
أمسك بياقة عبدالله وأزاحه جانبًا ليبعده عنها.. عضت على شفتيها وابتسمت في إشفاق عندما سقط الأخير أرضًا دون أن يحاول الاعتراض على ما فعله به باسل.. بل أنه حتى لم يجرؤ على الصراخ.. جلس أرضًا مُلتصقًا بالجدار كفأر مذعور بعيون كبيرة تسمرت فوق قط بري.
قال بلهجة خشنة:
- إن كنتِ أنهيتِ عملك فهيا بنا.
- أمامي نصف ساعة على الأكثر.. انتظرني.
صاح عبدالله كمن استرد صوته بعد خرس طويل:
- كلا.. لا تدعيه ينتظر.. اذهبي معه وأنا سأكمل ما تبقى.
- لم يكن هذا رأيك منذ قليل أيها الجبان.
تطلع إليها في عتاب ولم يعلق فأردفت مبتسمة:
- أقدم لكَ باسل.. صديقي.
استدارت إلى باسل وتابعت:
- هذا عبدالله.. حدثتك عنه سابقًا.
تطلع باسل إلى عبدالله مُتفحصًا.. شاب في نهاية العشرينات تقريبًا.. فاتح البشرة ذو شعر أسود لامع وشارب متوسط الحجم يحرص على تهذيبه بعناية.. عيونه البنية التي تلمع الآن ذعرًا كانت تلمع لها إعجابًا منذ قليل.
نهض عبدالله قائلًا دون أن يقترب منه:
- حمدلله على سلامتك يا سيد باسل.. السجن للرجال على أية حال.
ضاقت عينا باسل في دهشة بينما وضعت هي كفها على فمها لتكتم ضحكة كادت أن تنطلق من شفتيها وقد فهمت ما توارد إلى ذهن ذلك المعتوه.. أمسك بيدها في خشونة ليعلقها بذراعه عنوة ويسحبها ليغادرا الكشك.
ساد صمت ثقيل حتى قطعه في ضجر صائحًا:
- ما الذي حدث لكِ في هذا الشهر؟
- ربما كبرت.
- ليتك ظللتِ طفلة.
- أصبحت أكثر قدرة على حماية نفسي.
- أتقصدين بأنكِ ما عدتِ في حاجة لحمايتي؟
- أريد أن أحررك.
- ومن أخبرك بأنني أريد أن أتحرر منكِ؟
- هل تريدني أن أثقل كاهلك للأبد؟
- بُعدك عني أثقل أنفاسي.
توقف عن السير ليتفرس في عينيها طويلًا وراحت أعماقه تهتف بمكنونها الثائر عشقًا وشوقًا وغيرة مرة:
في البعدِ يا حبيبتي كأسي شديد مُرها
ما بين شوقٍ وجوى العين فرَّ نومها
واللحظة تمضي كأنها سلاحف في بطئها
تحمل لي ظهورها موتًا بطيئًا مثلها
حولت عينيها عن وجهه في ارتباك.. وارتعدت شفتاها وأوصالها قبل أن تتظاهر بالمرح قائلة:
- ما الذي دربوك عليه في ذلك المعسكر.. أصبحتَ رومانسيًا فجأة.. وكأنكَ لم تكن تتدرب على القتال والعنف..!
همس في انفعال:
- ربما لأنني أفكر فيكِ حتى أثناء التدريب.
صرخت في حدة لتهرب من إحساسها الطاغي به:
- لم تخبرني بعد كيف خرجت من المعسكر.. حذار أن تكون قد قفزت من فوق الأسوار ثانية.. لن يصفح عنكَ أوسكار هذه المرة.
غمغم مهمومًا من تجاهلها لإحساسه:
- سمحوا لي بإذن حتى نهاية اليوم.
تنفست الصعداء قائلة:
- لن تعود معي إلى الفندق إذًا.
لاحظ راحتها فأشاح بوجهه عنها قائلًا:
- كلا.. اطمئني.
ذابت صلابتها تحت وطأة آلامه التي أصابتها.. لم تعد تحتمل المزيد من أحزانه التي تتعاظم لحظة بعد أخرى.. هتفت في لوعة:
- لماذا يضايقك كوني أصبحتُ أكثر استقلالية واعتمادًا على نفسي؟ ألم يكن هذا ما أردته مني منذ البداية؟ ألم تطالبني مِرارًا بتحمّل المسئولية ولو قليلًا؟ كنتَ محقًا يوم أخبرتني بأن الأمان يأتي من داخلنا.. وها أنا قد بدأت أشعر به للمرة الأولى في حياتي.. فلماذا أنتَ غاضب لهذا الحد؟!
تأملها في ألم ولم يعلق.. إن كانت لم تشعر بالفجوة التي تتعمق بينهما فلا فائدة ترجى من كلماته.. إن لم تكن تبادله ولو القليل من أشواقه فخير له أن يحتفظ بها لنفسه.
سألها بعد فترة في فضول لم يستطع مقاومته:
- هل هاتفك مُعطل بالفعل أم أنكِ أغلقته عمدًا؟
كم كانت تتمنى أن تمنحه كذبة بيضاء لتهدئ من روعه وتداوي عذابه.. ولكنها لم
تستطع.. أشاحت بوجهها عنه في خجل.. فصاح غاضبًا:
- لم أكن أعلم بأنني أزعجك لهذا الحد؟
لم تلتفت لتنظر إليه بل استمرت في التطلع إلى نوافذ العرض دون أن ترى منها شيئًا.. عض على شفتيه ليجبرهما على الصمت صونًا لكرامته التي يهدرها أمامها بلا طائل.. ولكنه لم يستطع الصمود طويلًا بل عاد يغمغم في مزيج من الغضب والتوسل:
- كل ما أريده هو أن أطمئن عليكِ فحسب.. ماذا لو رجوتكِ أن تفتحيه مُجددًا؟
أغمضت عينيها بقوة وتنهدت صامتة فتوقف عن السير وأمسك كتفيها ليديرها إليه رغمًا عنها.. رفع ذقنها ليتعمق بعينيها مُتسائلًا في لهفة عن سر تبدلها.. دفنت رأسها في صدره فضمها إليه بقوة كادت أن تسحق عظامها فتأوهت في ألم دون ان تحاول التحرر من قبضته.. غمر شعرها بقبلاته الملتهبة حتى رفعت وجهها تائهة فأطبق على شفتيها بلا استئذان.
هي من جعلته يدمنها فلتتحمل إذًا نوبات جنونه بها.
لا تدري كيف تحررت منه أخيرًا ولكنه كان مبتسمًا.. رضاه أسعدها بالقوة ذاتها التي ضاعف بها إحساسها بالذنب.. لم يرهقها كونها ستبدأ طريق الفرار من بدايته بقدر ما أرهقها ما وهبته له من طمأنينة زائفة.
لم يقل شيئًا بعدها.. بل التفت ذراعه حول خصرها في سعادة كاد معها ان يحملها إلى الفندق.. رفعها مِرارًا عن الأرض مُتستمتعًا بصدى ضحكاتها الطفولية التي افتقدها طويلًا.
شدها فجأة إلى متجر الأحذية ليشتري لها الحذاء الذي طلبته منه ذلك اليوم.. كانت قد نسته بالفعل.. ربما لأنها لم تكن تأخذ الأمر بجدية حينها.. فتحت فمها مستنكرة ولكنه أشار لها بالهدوء مُبتسمًا حتى لا تحرجه أمام البائع.
تطلعت إلى قدميها في سعادة.. منذ فترة طويلة لم تشتر شيئًا جديدًا رغم شغفها الدائم بالتسوق.. طلب منها أن تنتعله لحظتها.. هامسًا في أذنيها بأنه يريد لإحساسها به أن يرتقي كما وعدته.
رفضت دعوته للعشاء بحجة أن لا وقت لها هذه الليلة.. اكتفت ببعض الشطائر وراحت تتناولها معه سيرًا متلذذة بوجوده قريب منها.. أرهقهما السير فجلسا ليستريحا في منتزه صغير على جانب الطريق.. بريق عينيه عكس ضوء القمر فزاده تألقًا.. استندت برأسها على كتفه وتثاءبت في طمأنينة تفتقدها.. مسح على شعرها هامسًا:
- هل تريدين العودة إلى الفندق؟
نظرت في ساعة يدها قائلة:
- قاربت العاشرة.. دعنا نذهب.
نهضت فتبعها على مضض.. لم يكن يريد لتلك الليلة أن تنتهي أبدًا.. تطلع إليها في دهشة عندما عاودت الجلوس بعد أمتار قليلة.. خلعت حذاءها لتبدله بذلك الرياضي القديم فقال مُبتسمًا:
- قلتِ بأنكِ تستطيعين الركض به أيتها المخادعة.
- يبدو أنه يحتاج إلى سيارة بالفعل.
- دعيني أحملك إلى الفندق.
برقت عيناها قبل أن تضحك مستنكرة.. اقترب وحملها بين ذراعيه فابتلعت ريقها بتوتر قبل أن تصارعه ليعيدها إلى قدميها وهي تهتف به في شقاوة:
- قلت أنه يحتاج إلى سيارة وليس إلى شاحنة.
ضحك لمزاحها طويلًا قبل أن يسحبها من يدها ليركض بها غير مبالٍ باعتراضها وصراخها.. شعرت بالتعب فاستسلمت لذراعيه وهو يحملها هذه المرة.. لفت ذراعيها حول عنقه واستكانت برأسها فوق صدره مغمضة العينين حتى وصلا الفندق.
همس أخيرًا:
- يمكنني أن أحملك إلى فراشك أيضًا إن أردتِ.
انتفضت كمن استيقظت من غيبوبة وطلبت منه أن ينزلها ففعل مبتسمًا.. قبّل جبينها قائلًا:
- سوف تفتحين هاتفك مجددًا.
- شرط أن تتصل بي مرة واحدة فقط كل يوم.. فلتكن في المساء حتى تتمنى لي ليلة طيبة.
- أيتها الجاحدة..!
هزت كتفيها في لامبالاة فأردف ساخطًا:
- فلنجعلها صباحًا ومساءً.. أحب يومي عندما يبدأ بصوتك.
ابتلعت ريقها بصعوبة وهزت رأسها موافقة قبل أن تركض وتبتعد عنه لكيلا تزداد ضعفًا.




noor1984 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-11-20, 08:25 PM   #17

noor1984

مشرفة منتدى قلوب احلام وأقسام الروايات الرومانسية المترجمةوقصر الكتابة الخياليّةوكاتبة،مصممة متألقة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية noor1984

? العضوٌ??? » 309884
?  التسِجيلٌ » Jan 2014
? مشَارَ?اتْي » 23,038
?  نُقآطِيْ » noor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond repute
افتراضي



استجابة فاقت أمنياتي

سلبتني عيناك يا عمري حتى الخجل
تحملُ الحبَ والشــــــــــــوقَ والأمل
كلَ ما قيلَ في العشـــــــــــقِ والغزل
عالــــــــــــــمٌ عيناك إلى عيني انتقل
أماني عطاالله


-15-

استقبله أوسكار بوجه يحترق غيظًا.. فتح فمه ليعنفه ولكنه أسرع يعانقه بسعادة أيقن منها بأن هذه المشعوذة قد سحرته مجددًا.. ها هي قد نقضت عهدها معه.. وعدته بأن تتركه وشأنه وأن تبحث لها عن رجل آخر.. ولكنها ككل النساء لا عهد لهن...
زفر بضيق قائلًا:
- أمرك لا يصدق.. العمالقة يتساقطون تحت قدميك كالذباب.. وهذه الطفلة تتلاعب بك كالدمى.. ماذا أقول لكَ؟
- لا تقل شيئًا.. بالله اتركني سعيدًا حتى ولو كنتُ واهمًا.
تطلع إليه أوسكار في حيرة ما لبث بعدها أن صمت بالفعل.. وماذا عساه أن يفعل لينقذه مادام مُصرًا على هدم كل الحواجز التي يتفنن لوضعها بينه وبين تلك الحية.. كل ما يتمناه الآن هو أن يكون قادرًا على إسعافه من لدغتها في الوقت المناسب.
النشاط الذي أظهره في الأيام التالية أسعد أوسكار بقدر ما ضاعف من قلقه بشأنه.. انتهت المسابقة ولم يخطئ حدسه.. تألق الفتى فتألق معه.. عادت الصحف لتطارده بضراوة أملًا في الفوز بسبق صحفي معه.. يبدو أنه سيعيد أيامًا ظنها لن تعود أبدًا..
أوسكار يولد في جسد جديد.. عملاق أوسكار قادم بلا منازع.. قبضة أوسكار الذهبية تحطم منافسيه قبل أن تلمسهم...
حمل الصحف مزهوًا وأسرع بها إلى غرفته.. طرق بابها في عجالة ودلف إليها قبل أن يأذن له بالدخول.. متوقعًا أن يشاركه سعادته عندما يرى صوره تتصدر أغلفة الصحف والمجلات الرياضية الكبرى لتجعل منه عملاقًا في سماء المحترفين.. ولكنه وجده في عالم آخر حمله إليه هاتفه الصغير الذي ألصقه بأذنيه في عشق تبثه فيه بجرعات ثابتة لتضمن إدمانه لها.. مُسترخيًا في سريره هائمًا بصوتها وأنفاسها.
اعتدل ما إن وقع بصره على أوسكار.. لا يدري كيف تنبهت إلى اضطرابه رغم كونه جاهد ليخرج صوته طبيعيًا.. اقتضبت كلماتها بلا مقدمات وأغلقت الخط.. وهو أيضًا لم يعترض.
لم يكن يخاف أوسكار بالمعنى التقليدي للخوف.. لكنه كان يخشى لومه المستمر وإسقاطه لحقد ماضيه الأسود عليها.. يريد أن يعالجه منها.. ولو كان يعلم أن دواءه أشد آلامًا من الداء ذاته.. لربما توقف عن نصائحه له.
نهض ليكمل ارتداء ملابسه.. غمغم وهو يتحاشى النظر إليه:
- كنت سألحق بكَ في قاعة الطعام.
انتبه أوسكار للمنشفة التي يلف بها جسده فهتف مُعاتبًا:
- على الأقل كان يمكنها أن تنتظر حتى تنتهي من ارتداء ملابسك.. كم مرة يجب أن أنبهك إلى ضرورة الاهتمام بصحتك؟!
ضغط باسل على شفتيه ولم يعلق.. وكيف لها أن تعلم بأنه كان يغتسل عندما اتصلت به؟ وماذا لو تجاهل رنين الهاتف فظنته نائمًا وحرمته من صوتها مجددًا..؟
ابتسم مُرغمًا عندما اقترب أوسكار ليجفف جسده المبلل في عناية وهو يعاود الثرثرة غاضبًا:
- إن دل ذلك على شيء فهو....
قاطعه باسل بصبر نافد:
- إن دل ذلك على شيء فهو كونكَ أتيتَ في وقت غير مناسب.. بالكاد كنتُ قد بدأتُ الحديث معها.. هل تعلم بأنها أصبحت تخافك؟
بادله أوسكار نظراته الساخطة.. كاد أن يخبره عن ذلك الاتفاق الذي أبرمه معها ولكنه تراجع في اللحظة الأخيرة.. ألقى بالمنشفة مُتذمرًا وتأهب لمغادرة الغرفة قائلًا:
- سأنتظرك في قاعة الطعام.. لا تتأخر لأنني جائع جدًا.
استدار فجأة ليلقي بما يحمله فوق السرير وأردف في ضجر:
- ألقِ نظرة على هذه الصحف ربما لفت انتباهك شيء فيها.
برقت عيناه واتسعت ابتسامته وهو يتناول إحداها في عدم تصديق هاتفًا:
- هذا أنا..!
تطلع إليه أوسكار بحنان وعاد ليقترب منه ويربت على كتفه بقوة قائلًا:
- نعم.. هذا أنتَ.. وهذه لازالت البداية فقط.. يومًا ما ستكون الأعظم على الإطلاق.. ثقتي بك لا يهددها إلا حماقتك.. هذه الفتاة سـ.......
رفع عينيه إليه في مزيج من العتاب والتوسل.. فتنهد أوسكار بضيق قائلًا:
- حسنًا.. سأصمت.
تحرك بلا مقدمات ليساعده في ارتداء ملابسه ويتأكد من إحكامها حول جسده فضحك باسل قائلًا:
- أنتَ تدللني أكثر مما كانت تفعل والدتي.
- على الأقل دعني أرمم ما تهدمه برعونتك وطيشك.
*****
كانت بمفردها هذه المرة.. عبدالله لم يكن قد انتهى بعد من بيع وروده.. انحنت في حب تدلل باقة ورد حمراء انتهت للتو من لفها بشريط ملون.. فليتهمها بالشراسة إن أراد.. ولكن الأحمر سيبقى أبدًا لونها المفضل.. شهقت مذعورة عندما خطفها أحدهم من يدها على غير توقع..
أغمضت عينيها وابتسمت بانفعال عندما همس في نعومة:
- كم ثمن هذه؟
فتحت عينيها وتطلعت إليه في حنين عجزت معه عن النطق.. أخرج حافظته وقدم لها مبلغًا من المال قائلًا:
- أيكفي هذا؟
استعادت صوتها أخيرًا فهتفت وهي تعيد إليه ماله:
- يمكنني أن أهديها لك إن كانت تعجبك.
- كلا.. سأهديها أنا لمن أحب.. فقط اكتبي هذا الإهداء عليها.
أحضرت القلم وتطلعت إليه بفضول فتابع في عشق:
- إلى استجابة فاقت أمنياتي في سماء ممطرة.
قطبت حاجبيها وتطلعت إليه في مزيد من الفضول والدهشة فخطف منها القلم
ليكتب إهداءه بيده قبل أن يقدمها إليها وهو يهمس مُتيمًا:
- إليكِ.. أنتِ.
فتحت فمها في بلاهة قبل أن تستسلم كالمخدرة لقبلاته النهمة.. أزاحته عنها فجأة وهي تغمغم بانفعال:
- كفى أيها المتوحش.. أنتَ تلتهم شفتي لا تقبلها.. لو رأيتها كيف التهبت في المرة السابقة لكنتَ.....
ابتسم في حنين وهو يقاطعها قائلًا:
- لكنتُ شعرتُ بالفخر لكوني تركتُ بصمتي فوقها.
صاحت بوجه تورد خجلًا:
- أخلاقك تزداد سوءًا يوم بعد آخر.
ضحك وهو يضمها ليقبلها مجددًا لولا تنحنح أحدهم خلفه فاستدار ساخطًا ليجد عبدالله واقفًا يتطلع إليهما مبتسمًا.. لم يخف منه هذه المرة بل اقترب ليصافحه بحرارة قائلًا:
- مرحبًا أيها البطل.. شرف لي أن أراك في محلى المتواضع هذا.
ابتسمت ندى قائلة:
- رأينا صورك في إحدى المجلات الرياضية.
إعجابها به أسعده أكثر مما فعل جمهوره مُجتمعًا.. فتسمرت عيناه فوقها لحظات قبل أن يتنبه إلى كف عبدالله التي مدها نحوه.. فصافحه قائلًا:
- أريدك أن تمنح ندى إجازة لبقية النهار.
- بالطبع.. هي لك.
هتفت ندى غاضبة:
- وكأنني مِلك لكما أيها الطغاة..!
ابتسم باسل وهو يسحبها لمغادرة الكشك قائلًا:
- بالطبع لكِ الحرية المطلقة في المجيء معي.
- الحرية المطلقة في المجيء معكَ..!
- نعم.
- وماذا لو لم أكن أريد المجيء معك؟
سحبت يدها من قبضته عنوة فتحول مرحه إلى دهشة أقرب للصدمة.. هل هي حقًا لا تريد التنزه بصحبته؟ هل تهتم لعملها التافه هذا أكثر من اهتمامها به؟
تنفس الصعداء عندما هتفت ساخطة:
- سأحضر حقيبتي أولًا.
امتزج شعور الزهو بالقلق داخلها عندما بدأ بعض المارة حولهما في التعرف عليه من صوره التي انتشرت في كثير من الصحف مؤخرًا.. سارعوا بالهتاف له وتنافسوا في التقاط الصور التذكارية معه.
يبدو سعيدًا وهو يتقبل إعجابهم وتهافتهم عليه.
خيارها يزداد صعوبة يومًا بعد يوم.. إلى متى عليها أن تستمر في خداع نفسها..؟ شعورها نحوه تخطى الإعجاب كثيرًا.. لن تبالغ لو اعترفت بأنها متيمة به.. تبادله عشقه لها بأكثر منه.
فاجعتها فيه حال تعرض لمكروه ربما ستفوق فاجعتها في خورشيد نفسه..!
ولكن ربما ليس من العدل أيضًا أن تحرمه من مستقبل لامع ينتظره.. ماذا لو خيرته بينها وبينه؟ هل سيبقى على عشقه لها أم سيفضل طموحه عليها؟
حينها سيكون عليها أن تُحرم منه للأبد.. اختفاؤه عن عينيها وانقطاع أخباره عن مسامعها.. أهون كثيرًا من خبر سيء يأتيها عنه وهي معه.
ولكنها رغم كل مخاوفها.. ليست مستعدة لفراقه بعد.
راح يتطلع إليها مبتسمًا كلما وقعت عيناه على مجلة جديدة زينت غلافها بصورة له.. شاركته سعادته في قلق جاهدت كيلا يطفو فوق ملامحها.. جسده المتناسق لم يعد يخصها وحدها.. قبضته الحديدية لم تعد حكرًا عليها من دون سواها.. سحره تخطاها ليأسر جمهورًا يزداد عددًا كلما تألق.. فهل سيستمر في ازدياده كالطوفان حتى يحجبها عنه يومًا؟
إن كان قُدر لها أن تكون أول امرأة في حياته.. أتراها ستكون الأخيرة أيضًا؟ ويلها لو توارى وميضها عن عينيه وخلى منها قلبه لتسكنه سواها..!
تنبهت لنظراته الدهشة التي تعلقت بوجهها فتصنعت ابتسامة عريضة وصدمت كتفه برأسها مشاكسة.. ضحك في مرح بادلته بالمزيد منه قبل أن تتجهم قسماتها فجأة وتتسع عيناها رُعبًا.. تابع نظراتها بقلق حتى استقرت عيناه على غلاف آخر.. تسمرت أقدامها على بُعد خطوات من البائع بينما اقترب هو منه في بطء ليمسك بتلك الصحيفة التي سلبته اهتمامها به.. كان إصدارًا قديمًا لصحيفة مصرية تعرض أخبار أهم الحوادث وأكثرها تأثيرًا في المجتمع.. صورة خورشيد مقتولًا تحتل جانبًا من غلافها.. أعطى للبائع ثمن الجريدة وأمسك بذراعها شبه مغيبة ليعودا إلى الفندق.
ما إن أغلق باب الغرفة حتى أسرعت تخطف منه الجريدة في لهفة.. جلست على حافة فراشها وراحت تقرأ ما سُطر فيها بعيون شاردة وفم مفتوح ذهولًا.. انهمرت دموعها وبدأت تنتحب في لوعة أقرب للهيستيريا غير مبالية بنظراته المستنكرة ووجهه الغاضب.
لا يدري إن كان عليه أن يواسيها أو يلعنها لعدم إحساسها به..!
أطلق تنهيدة طويلة وراح يذرع الغرفة حولها بصبر نافد.. ألا يكفي أنه ارتضى بها مُتغاضيًا عن ماضيها القذر.. لماذا تصر على تذكيره بعهرها كلما وجدت لذلك سبيلًا..؟
كان الأجدر بها ان تشكر الله وتبدأ معه عهدًا جديدًا.
تضاعف جنونه عندما احتضنت الجريدة وراحت تُقبل صورة خورشيد في حنين فاق قدرته على التحمل.. وجد نفسه بلا وعي ينتزع الجريدة من بين يديها ليلقي بها أرضًا ويدهسها بحذائه صارخًا:
- كفى نحيبًا لأجله.. ما الذي قدمه لكِ ولم أقدمه أنا؟ علام كل هذا الحنين إليه؟ هل اكتفيتِ طمأنينة فاشتقتِ لليالي الرعب بجواره..؟
وكأنها لم تسمعه انحنت لتزيح حذاءه من فوق الجريدة وهي تهتف باكية:
- ابتعد أيها الخرتيت سوف تمزقها.
هز رأسه في عدم تصديق وما لبث أن أمسك بشعرها وأزاحها بقسوة الصقتها أرضًا.. انحنى والتقط الجريدة.. جعدها بعصبية قبل أن يقذفها بوجهها قائلًا:
- كان يجب أن أستمع لأوسكار.. اذهبي للجحيم.
*****
أقنعه أوسكار بأن كل ما يحدث له ما هو إلا نتيجة حتمية لتجربته الأولى مع النساء.. أخبره بأنه في فترة نقاهة سيعود بعدها أقوى كثيرًا مما كان عليه قبل أن يراها.. أوصاه بألا يقلق فمعاناته سوف تنتهي بمرور الوقت.
رفض باسل مُستنكرًا اقتراحه المشين بتوفير بديلًا عنها لإشباع شهوته منهن إن شاء.. لم يبال بسخريته وهو يخبره بأن الجنس بلا حب كالجسد بلا روح لا حياة فيه..
انقضى أسبوعان وفترة النقاهة التي تحدث عنها أوسكار لم تنتهِ.. معاناته تزداد سوءًا رغم كل نجاحاته ورغم كل الحوافز التي قدموها له..!
لم يسعده انضمامه رسميًا لـ نادي المصارعين المحترفين.. ولا ذلك المسكن المستقل الذي وفروه له على نفقتهم الخاصة.. ولا تلك السيارة الفارهة التي وعدوه بها حال فوزه في المباراة القادمة.
كل أمنياته لازالت محصورة فيها لا سواها.. مذاق كل النعم التي وهبوها له لم يلذذ جوفه ولم ينتزع مرارته.. لم يصل بعد لمذاق قطعة البيتزا الصغيرة التي وضعتها يومًا بين شفتيه بلا قصد.
قادته قدماه إلى مِقعد صغير تشاركاه يومًا في ليلة مُقمرة.. بريق ابتسامتها تلك الليلة غمر أعماقه أكثر مما تفعله هذه الشمس التي تعانق كبد السماء في زهو وخيلاء.. حبيبته كانت تفوقها نورًا وبهاءً رغم الظلام.
عشقها عاهرة مشردة.. ورفضته ملكًا عشقها تاجه..!
- سيد باسل.. سيد باسل.
تنبه ساخطًا لذلك المتطفل الذي اخترق أفكاره فجأة.. عبدالله.. يسرح بوروده مُستخدمًا دراجته كما اعتاد أن يفعل.. مقعده بين صفوف العشاق يقع ضمن أسواقه المفضلة لبيع باقاته.. استطاع أن يتعرف عليه رغم النظارة الداكنة التي توارى خلفها أملًا في تقليص شهرته التي اتسعت حتى بدأت تزعجه أحيانًا وتحرمه خصوصية بات يشتهيها في ظل همومه المتراكمة وحاجته للهروب حتى من نفسه.
نهض ليصافحه في حرارة وحنين غير مقصود.. توقع أن يدلي له بخبر عنها ولكنه بدلًا من ذلك فوجئ به يسأله في لهفة:
- أين ندى؟
تظاهر باللامبالاة قائلًا:
- ألم تذهب اليوم إلى الكشك؟
- لم أرها منذ ذهبت معكَ.
تحولت لامبالاته إلى صدمة أجبرته على الصمت قليلًا قبل أن يسأله بقلق:
- أتقصد بأنكَ لم ترها منذ أسبوعين؟
- ولا مرة واحدة.
- ألم تسأل عنها؟
- حاولت.. ولكنني لا أعرف لها رقم هاتف ولا حتى عنوان إقامه.. هل تعرف أنتَ؟
- ألم تذهب إلى الفندق؟
- أي فندق؟
أيقن من دهشته أنها احتفظت لنفسها بأسرارها كعاداتها.. غموضها يعجبه أحيانًا بقدر ما يزعجه أحيانًا أكثر.
قال فجأة:
- هل يمكنني استعارة دراجتك؟
قبل أن يأذن له عبدالله كان قد استقلها وابتعد بالفعل.. فهتف خلفه ساخطًا:
- لا بأس.. ولكن احرص على زهوري بالصندوق.
من الجيد أن الغرفة في الفندق لازالت باسمه.. ربما لو تنبهت لهذا الأمر لكانت اتخذت إجراءً لتغييره.. ولكن ماذا لو كانت فعلت ذلك خصيصًا لترغمه على دفع الفاتورة؟
أخرج حافظته واستدار ليدفع الأجرة المتأخرة عليها.. شعر بالصدمة مُجددًا عندما أخبره الموظف بأن ندى دفعتها ولمدة شهر كامل لاحقًا.. قطب حاجبيه في دهشة واتجه إليها بخطوات واسعة.. كان في فضول ليستعلم منها عن سر ثروتها المفاجئة.
شهقت مذعورة ورفعت وجهها لحظات لتحدق في ذلك المقتحم الذي يمتلك مفتاحًا لغرفتها.. ما إن تأكدت من هويته حتى عادت لتأخذ وضعيتها السابقة وتنكمش فوق سريرها.. احتضنت ركبتيها ودفنت وجهها بينهما.
مظهرها كان كارثة بكل المقاييس..!
عادت لوضع شعرها المستعار بينما تلوث وجهها بأطنان من المساحيق التي يبدو أنها اشترتها مؤخرًا.. أما الغرفة فقد تحولت إلى صندوق قمامة كبير.. كراتين البيتزا الفارغة.. من النوع الفاخر.. بعضها فوق أرضية الغرفة وبعضها فوق سريره.. الكثير من علب المياه الغازية.. وزجاجات من الخمر أيضًا..!
سرت القشعريرة بجسده وابتلع ريقه جزعًا عندما خمن مصدر ثروتها.. تستحق القتل.. ولكن بأي حق يقتلها؟ يتوجب عليه أن يقتل نفسه أولًا.
ألم يسلبها ثروتها ويتركها ضائعة..؟ ربما لو كان ترك لها بعض النقود ما كانت اضطرت لبيع نفسها مُجددًا.
أطلق تنهيدة طويلة وهو يتقدم ليزيح بقايا الطعام عن سريره ليفسح لنفسه مكانًا للجلوس في مواجهتها.. تطلع إليها مُحبطًا حتى رفعت وجهها أخيرًا ورمقته شاردة.. بدت أضعف من أن يهاجمها ولكنها لن تخدعه هذه المرة...
نهض فجأة وانتزع الشعر المستعار عن رأسها ومزقه غيظًا وما لبث أن أمسك وجهها بقبضته في عنف كاد معه أن يقتلع قسماتها غير مبال بصراخها وتأوهاتها المستنكرة بل هتف بمزيد من القسوة:
- كنتُ مُخطئًا عندما اعتقدت أن خورشيد هو من استغل براءتك وأرغمك على معاشرته.. لا عُذر لكِ هذه المرة.. كنتُ مُستعدًا للموت فداء لكِ..!

حاولت أن تتخلص من قبضته ولم تستطع فأغمضت عينيها وتنهدت بمرارة صامتة.. أمسك ذقنها ورفع وجهها ليجبرها على مواجهته قبل أن يضغط على أسنانه قائلًا:
- تغاضيتُ عن عهرك عِشقًا.. ولكنني الآن سأشتريكِ كما يفعل غيري.
أزاحته في إنهاك قائلة:
- أنا أكرهك.
- لا بأس.. ليس على المومس أن تعشق من يضاجعها.
حاول أن يضمها رغمًا عنها فراحت تلكمه وترفس وتصرخ لتتخلص منه.. بدت كعصفور يصارع صقرًا هجم على عشه بلا مقدمات.. عاد يهتف فى قسوة مضاعفة:
- كان الأجدر بكِ أن تحاولي إغرائي بدلًا من أن تصارعيني بهذا العنف أيتها الشرسة.. أو ربما كان هذا نوع من الإغراء وأنا لا أدري.. اعذريني .. لستُ خبيرًا في هذا الشأن بعد.
- أرجوك اتركني.. ابتعد عن طريقي.. لماذا عدتَ ثانية؟
- أعرف ما الذي يضجرك مني.. ولكن لا تقلقي.. سوف أتخلص من سذاجتي وأصبح أكثر خبثًا ودهاءً حتى أغدو من نوعك المفضل.. سأفوق خورشيد سطوة ونفوذًا.. ذلك المجرم كان يحتمي خلف سلاحه.. أما أنا فتكفيني قبضتي.
حاولت أن تنهشه بأظافرها ولكنه أمسك قبضتها بقوة كاد معها أن يطحنها وهو يصرخ فيها غير مبالٍ بدموعها وتوسلاتها:
- والآن دعيني أنزع أوساخك ولو حتى الظاهرية منها.. تعالي.. سوف أحممك أولًا.
حملها بالفعل ومعها المنشفة الكبيرة متوجهًا بها للحمام فهتفت بصوت مختنق خوفًا:
- أنتَ لا تفهم شيئًا.
- بل فهمتك أخيرًا أيتها الغامضة الصغيرة.
- خورشيد كان أبي أيها الأحمق.




noor1984 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-11-20, 08:28 PM   #18

noor1984

مشرفة منتدى قلوب احلام وأقسام الروايات الرومانسية المترجمةوقصر الكتابة الخياليّةوكاتبة،مصممة متألقة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية noor1984

? العضوٌ??? » 309884
?  التسِجيلٌ » Jan 2014
? مشَارَ?اتْي » 23,038
?  نُقآطِيْ » noor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond repute
افتراضي



لا أملكُ إلا أن أكونَ ضعيفًا
عني اسألي النجـــــومَ والليلَ الطويل
والجفنَ إن أغمضتهُ ما حلمهُ الجميل
أماني عطاالله

-16-
تراخت قبضته حولها وهو يغمغم بعدم تصديق:
- ماذا قلتِ؟
أجهشت بالبكاء مجددًا.. فتحرك كالتائه ليضعها فوق فراشها برفق وعاد يسألها في لهفة:
- هل حقًا قلتِ للتو أن خورشيد كان والدك؟ هل هذا صحيح؟
أخرجت الصحيفة التي احتفظت بها تحت وسادتها وقذفتها في وجهه بعنف تحمله راضيًا وهو يقرأ عناوينها للمرة الأولى:
سقوط أكبر عصابات التهريب في مصر وانتحار زعيمها مصطفى أحمد ابراهيم الشهير بـ مصطفى خورشيد.. العصابة انقسمت على ذاتها فسهلت مهمة الشرطة في اصطيادها فردًا تلو الآخر.. التحفظ على شحنة الألماس المهربة وكذلك كافة ممتلكات مصطفى خورشيد وابنته المختفية....
وضع الصحيفة جانبًا وأطلق زفرة طويلة أخرج معها همومًا عبأت صدره وجثمت فوق أنفاسه دهرًا.. استمر في النظر إليها وكأنه يراها للمرة الأولى.. اقترب أخيرًا ليجلس بجوارها ويهمس باسمها خجلًا .. راحت توبخه بعنف وتلكمه بشراسة حتى خمدت قواها فعادت تبكي مُجددًا.
حاول أن يضمها إليه فأزاحته في ثورة قائلة:
- لا تقترب مني.. اتركني أيها الأحمق الغبي المتوحش.
- نعم.. أنا أحمق وغبي ومتوحش.. وأستحق القتل أيضًا.. ولكنكِ المسئولة عن سوء ظني بك.. كم مرة رجوتكِ أن تطلعيني على سر علاقتك بخورشيد ورفضتِ إجابة تساؤلاتي أيتها المستبدة؟!
أشاحت عنه بوجهها فأردف معاتبًا:
- بعد كل ما فعلته من أجلك.. كان عليكِ أن تكوني أكثر ثقة بي.
انهمرت دموعها وكأنها لن تجف أبدًا.. أمسك بيديها رغم اعتراضها وقبل أصابعها هامسًا:
- لطالما غفرتُ لكِ حتى أسوأ ظنوني عنكِ.. فاغفري لي حماقة أصابتني سهوًا.
- تتظاهر بالتهذيب الآن.. بعد كل ما نعتني به أيها الوقح.
عض على شفتيه قائلًا:
- وكيف لي أن أتوقع بأن يكون خورشيد هو والدك؟ ذلك الطاغية أتقن دوره حد الإبداع.
رمقته غاضبة فأردف مبتسمًا:
- كان يتعمد أن يخفي هويتك حتى عن أقرب الناس إليه..!
- نعم.. لأنه كان يخشى أن يكون مصيري مثل أمي.. خسرت حياتها لأنها زوجته.. عذبوها أمامه لإرغامه على طاعتهم.. وفي النهاية قتلوها أيضًا رغم رضوخه لكل مطالبهم.
- وأين كنتِ حينها؟
- تحت السرير.
- ماذا؟
- كنتُ في العاشرة من عمري.. خبأني ليلتها تحت السرير وطلب مني كتم أنفاسي حتى يذهبوا.. قاوم صراخه ولوعته على والدتي رغم عشقه لها حتى لا أصرخ أنا أيضًا فيكتشفون وجودي ويفعلون بي مثلما فعلوا بها.
- ولكن كيف لم يكتشفوا أمرك كل هذه السنين؟
- لأن خورشيد أرسلني لأكمل دراستي بإحدى المدارس الداخلية في فرنسا مكتفيًا بزيارتي خلسة كلما سنحت له فرصة.. وعندما عدتُ أخيرًا.. أهداني صندوق كبير من مساحيق التجميل وعددًا من ألوان الشعر المستعار.. طلب مني أن أتقن دوري أنا أيضًا ضمانًا لحمايتي حتى نحقق انتقامنا منهم ونهرب خارج مصر لنبدأ حياة جديدة بلا خوف من أحد.
دفنت وجهها بين كفيها وهزت رأسها في ألم قائلة:
- أراد أن يعوضني عن كل القلق والخوف الذي ملأ حياتي.. لكن الموت لم يمهله.
تنهد بمرارة وجذبها ليضمها إلى صدره في حنان كانت في أمس الحاجة إليه.. قال أخيرًا:
- أنا سأفعل.. وخورشيد كان يعلم بأنني سأفعل لذلك وهبك لي.
كانت تعلم بأنه محق ولكنها تطلعت إليه مستنكرة فأردف مبتسمًا:
- تأكدي بأنه يشعر بنا الآن.. أتخيله يراقبنا كعادته دائمًا.. ربما كانت روحه المتسلطة هي ما تدفعني إليكِ دفعًا كلما حاولت الهرب منكِ.
ابتسمت في حنين هامسة:
- كان بارعًا.. ليته سلك طريقًا أكثر أمنًا.
ربت على كفها قائلًا:
- هيا اغتسلي وبدلي ملابسك حتى أجمع أغراضنا لنرحل من هنا.
- هل حجزت في فندق آخر؟
- بل منحوني منزلًا مستقلًا بالقرب من مركز التدريب.. ووعدوني أيضًا بمنحي سيارة فاخرة عما قريب.
- لهذا انشغلت عني أيها الجشع.. ماذا ستفعل عندما يزيدون حوافزهم أكثر؟
قرص وجنتها في مزيج من اللطف والعتاب قائلًا:
- بالكاد توسدتُ سريرًا في غرفة لا أعلم بعد ألوان جدرانها.
- لا تقُل بأنهم يغيرونه من أجلك كل يوم.
ضحك قائلًا:
- لو أردتُ لفعلوا.. يومًا بعد آخر يقوى نفوذي وترتفع مكانتي بينهم.
ابتسمت بقلق قبل أن تهتف فجأة:
- ولكنني دفعتُ أجر شهر كامل لهذه الغرفة.
- لا بأس سوف نستعيد النقود.. ولكن اخبريني أولًا.. من أين حصلتِ عليها؟
تطلعت إليه فى شراسة قائلة:
- خمن أيها العبقري.
- كلا.. اخبرينى أنتِ.
- لماذا؟ قد أثبتت التجربة بأنكَ تمتلك عقلًا أسمن من جسدك.
- وأنتِ تمتلكين قلبًا أقسى من قلب خورشيد.. ظننتُ تشابهكما نتاج معاشرة لا أكثر.. والآن أدركتُ بأنها جينات شيطانية أورثها لكِ كاملة.
لكمته ورفعت رأسها في فخر قائلة:
- يشرفني جدًا أنه فعل.
- ويقلقني جدًا أنه فعل.
- يمكنك أن تبتعد عني إن شئت.
- ليتني أستطيع.
- مادمتُ لا تستطيع أن تحكم نفسك.. فأنتَ ضعيف إذًا.
- معكِ لا أملك إلا أن أكون ضعيفًا.
غرقت ما بين نظراته المتيمة وكلماته الجياشة بالمشاعر فصمتت على مضض.. ساد التوتر بينهما حتى هتف في انفعال:
- والآن اخبريني.. من أين أتيتِ بالنقود؟
- يا لكَ من لحوح حد الإزعاج..!
نظر إليها شزرًا.. فأردفت مُجبرة:
- اضطررت لبيع بعض المجوهرات التي تركها لي خورشيد.
- أية مجوهرات..؟!
- عقد اللؤلؤ الذي لطالما تباهيت به.
هز رأسه في تفهم وتنهد في أسى لم تستوعبه فظنته إشفاقًا على حالها البائس.. أردفت ساخطة:
- لا أدري كيف تخيل خورشيد بأنها سوف تكفيني كل العمر.. بالكاد أنفقتها في الأيام القليلة الماضية.. هناك شيء لا أفهمه.
صاح بانفعال:
- كفى مشاكسة واذهبي لتبدلي ملابسك.. وإلا أقسم بأن أعود للخطة الأولى وأبدلها لكِ بنفسي.
- ماذا؟
زمجر وهو يلوح لها مُحذرًا فأردفت جزعة:
- أنتَ ترهبني بحديثك هذا.. ماذا سيحدث عندما يجمعنا منزل واحد؟
قبل كفيها وتوهجت نظراته قائلًا:
- اطمئني.. سأنتظر حتى تجمعنا غرفة واحدة.. عما قريب.
- باسل...
- أحبك يا نانا.. وأتوق كي أكمل ما تبقى من عمري معكِ.
تطلعت إليه في ذهول.. مشاعره كانت تغمرها كل الوقت ولكنها لم تكن تتوقع أبدًا أن يعلنها صراحة بهذه الجرأة.. والسرعة أيضًا..!
غمغمت وهي تتصنع ابتسامة:
- هذه هي المرة الأولى التي تناديني فيها نانا.. كنتُ أظنكَ تكره هذا الاسم.
- كنتُ أظنه ملكًا لرجل آخر.
- كنتَ تظنني كلّي ملكًا لرجل آخر.. ورغم هذا تدّعي بأنكَ أحببتني أيها المحتال.
همس حالمًا:
- حبكِ لم يكن باختياري.
- باسل أنتَ مفتون بي لا أكثر.. من المحال أن تكون عشقتني بهذه السرعة.. كل ما في الأمر هو أنكَ لم تعرف امرأة من قبل.
ابتسم في مزيج من الصدق واللامبالاة قائلًا:
- استغلي الفرصة إذًا.
ضاقت عيناها وابتسمت مستنكرة.. فأمسك بكفيها ليقبل باطن يدها مردفًا:
- بعثري مشاعري وأعيدي ترتيبها كما تشائين.. أعماقي كلها ملك لكِ.
تأملته طويلًا قبل أن تحني رأسها هربًا من مواجهته أكثر.. ترك يدها وأردف متوترًا:
- بالكاد بدأت أخطو نحو مستقبل مضمون يتيح لي الارتباط.. لم أكن أرغب في تعذيبك معي.. أريدك أن تنعمي برفاهية اعتدتِ عليها.
هتفت في لوعة:
- وما الذي أدراك بأن مستقبلك هذا مضمونًا..؟ ماذا لو...
كانت تتمنى أن تصارحه بمخاوفها وقلقها الذي يطاردها ليل نهار.. كانت تريده أن يتحرر ويحررها من هذا الكابوس ويبحث لنفسه عن مهنة أخرى تضمن بها بقائه معها بلا خطر.. ليته يقبَل رصيدها المتواضع ليبدأ به مشروعًا لهما وهي مستعدة لمساعدته حتى....
قاطعها قائلًا:
- أوسكار أكد لي ذلك.. وليس أوسكار وحده.. بل معظم المحترفين في هذا المجال تنبأوا لي بمستقبل عظيم.. كل ما أريده منكِ هو أن تنتظريني قليلاً حتى أحقق لنا حياة أفضل.
استمع إليه أوسكار في غضب مكبوت وهو يقص عليه ما حدث بينهما من تطورات جذرية.. لم يشفع لها في عينيه أو قلبه ما عرفه للتو بأن خورشيد كان والدها وليس عشيقها كما ظنا سابقًا.
يكفي أن هذا الأمر زاد فتاه الأحمق تورطًا فيها.
من وجهة نظره.. باسل شاب ساذج يمتلك قلب طفل لم يتلوث بعد بخبرات الحياة وخباياها.. أما هي.. فقد مرت بكم من الخبرات السيئة يكفي ليجعل منها مريضة نفسيًا.. ولكم يخشى أن تنقل عدواها لهذا المسكين المتيم بها..!
تنهد بصبر نافد عندما راح باسل يلوم نفسه ويوبخها على كل ما سببه لها من إهانات وألم نتيجة جهله وحماقته.. وكأنها ليست هي من أخفت عنه أسرارها بحرفية فاقت إجرام والدها؟!
ولكنه رغم كل مخاوفه وقلقه الذي تضاعف بسببها.. لم يجد في نفسه القدرة على الاعتراض بشأن انتقالها للسكن معه.
ومن يكون هو حتى يمنع القدر..؟!
ماضيه البشع يسخر منه.. يصر على أن يعيد نفسه مجددًا غير عابئ بتوسلاته وتضرعاته ليل نهار.. تجسد فوق ملامح عملاقه المسكين وراح يكشر عن أنيابه بوحشية وتحدٍ مقيت.
نهض أخيرًا وربت على ذراعه بابتسامة باهتة لم يحاول دعمها بكلمة طيبة وتهنئة مزيفة.. فأمسك باسل بمعصمه قائلًا:
- أوسكار.. لا تقلق لأجلي.. ندى ليست كارولين.
تنهد أوسكار بمرارة وهو يتطلع إليه في مزيج من الحنان والإشفاق وما لبث أن غادر الغرفة متمنيًا له حظًا موفقًا.
*****
شقته الصغيرة بغرفتيها وردهتها الضيقة تحولت إلى جنة بوجودها فيها.. الورود التي اشتراها كلها من عبدالله الأسبوع الماضي وأهداها لها.. وزعتها بانسجام ورونق بين زواياها.. حتى المطبخ والحمام المكتنز نالا نصيبهما من الغنيمة.
حتى ما جف منها عبيره لم يضمحل بعد.
اشترى لها ثوبًا فضفاضًا لترتديه في المنزل مع ذاك الذي كاد أن يبلى لفرط ما غسلته.. سوف يشتري لها المزيد كلما حصل على نقود من عمله.. دخل إلى الشقة ونادها بلهفة ارتد صداها كلكمة إلى صدره.. لم تكن قد عادت بعد من عملها الذي أصرت على العودة إليه رغم اعتراضه.
بدّل ملابسه وجلس ينتظرها ساخطًا لتساعده في إعداد الطعام.. لم يكن في حاجة لمساعدتها الواهية بقدر ما كان يريدها أن تتعلم بعض الواجبات البسيطة وتلتزم بها.. قليل من الإحساس بالمسئولية نحوه.. ونحو أبنائهما مُستقبلًا.
عادت أخيرًا وتطلعت إليه مُتهللة قبل أن تقترب لتطبع على وجنتيه قبلاتها التي تبدد ثورته قبل أن يبدأها.. جاهد ليبدو حازمًا وهو يعنفها:
- كم مرة أخبرتك بضرورة العودة من عملك قبل عودتي؟
- وأنا أيضًا أخبرتك بألا تكن مُتسلطًا.
- استقبالك لي يجعل الأمر مختلفًا.
- لم يكن عبدالله قد عاد بعد.. ماذا تريدني أن أفعل؟
- سأتحدث مع عبدالله في هذا الشأن.. والآن اذهبي لتبدلي ملابسك حتى تساعديني في إعداد المائدة.
ما كادت تدخل غرفتها حتى عادت إليه تحمل الثوب الجديد الذي وضعه فوق
فراشها وهي تهتف بسعادة:
- باسل.. هل هذا لأجلي؟
هز رأسه مُبتسمًا فأسرعت إلى غرفتها مجددًا.. لم تدم لهفته طويلًا وهو ينتظر رؤيتها به.. خرجت كالبرق وراحت تدور حول نفسها كطفلة في ليلة عيد.. مقاسه يناسبها تمامًا.. لونه الأبيض ازداد نقاءً عندما عانق بشرتها الوردية.
تقدمت منه لتحيط عنقه بذراعيها وتمس شفتيه بقبلة امتنان صغيرة هدمت كمًّا من أسوار يحرص على زرعها بينهما كل يوم منذ أتيا إلى هنا.. هذه الشيطانة الصغيرة.. كيف يحق لها بعد ذلك أن تتهمه بمحاولة إغوائها؟!
غمغم بصوت مختنق:
- هيا لتساعديني.
- من ترتدي ثوبًا أبيض لا تدخل المطبخ.
- من زعم هذا؟
- أنا.
جذبها في مرح إلى المطبخ رغم استنكارها ومشاكستها التي تغريه لابتلاعها حية.. لولا بقايا من عقل سلبته أيضًا.
*****
كلما اشتاق إليها تجدد حماسه للسباق مع الزمن حتى تغدو جائزته.. كل نجاح يحرزه بمثابة درجة تحمله علوًا ليبلغها.. وهو لن يكف عن النجاح طالما شوقه إليها لن يهدأ أبدًا.
لم يعد أوسكار وحده هو المهتم بموهبته وإن كان لايزال الراعي الرسمي لها..
عديدون التفوا حوله مؤخرًا وبدأوا يراقبونه عن كثب كما تراقب الصقور فرائسها.. تبقى له أقل من أسبوعين على خوض المباراة الأخيرة في هذه البطولة.. فوزه بها سوف يحدد ماهيته القادمة.
أما هذه المباراة التي أنهاها للتو بفوز ساحق فقد لا تمثل أهمية تذكر له.. اعتاد التصفيق والإطراء بعد كل جولة شبيهة حتى بات يمل ويتذمر.. عدسات الكاميرات أصبحت تصيبه بشيء من العمى المؤقت.. صفير الإعجاب يصيبه بالصمم أحيانًا.. وحتى ولع الفتيات به حد البكاء ما بات يؤثر فيه.
رفع ذراعيه لتحية جمهوره الذي يزداد تعلقًا به بعد كل مباراة.. استدار يحدق في الوحش الآدمي الذي اقترب ليربت على كتفه بقوة قائلًا:
- مايكل جوناثان.
انصرف بعدها قبل أن ينتظر تعليقه.. تابعه باسل بدهشة ضاعفتها صيحات الجمهور التي تعالت فجأة وكأنها ترحب بلقائه بهذا الغريب المتحفظ.
تنبه إلى أوسكار عندما اقترب منه في وجوم قائلًا:
- ماذا قال لك؟
- من تقصد؟
- مايكل جوناثان.
- هل تعرفه؟
- لا تقل بأنكَ لم تسمع عنه من قبل..!
- اسمه يبدو مألوفًا لي.. ولكن...
برقت عيناه فجأة وضحك بعصبية قائلًا:
- يا إلهي.. أيعقل أن يكون هو ذلك المدرب الأمريكي صانع النجوم؟!
- تبدو سعيدًا بمقابلته القصيرة.
- ومن لا يسعد بها؟!
- أيعني هذا بأنكَ قد توافق على السفر معه إلى أمريكا؟
- بالطبع.
- وتتركني بعد كل النجاح الذي أحرزناه معًا؟!
- تعال معي.
- حتى أصبح ظلًا لـ مايكل جوناثان.. أليس كذلك؟!
- لا تُعقد الأمور.. يمكننا أن نعمل سويًا.
- مستحيل.. هذا لن يحدث أبدًا.
تنهد مهمومًا.. طيف أوسكار الغاضب لازال يطارده رغم سيره بخطوات واسعة لأكثر من نصف الساعة في محاولة لقتل أفكاره بلا جدوى.. كان يتعاطف معه حد الألم.. ولكنه في المقابل لم ولن يستطيع أن يمنحه الوعد الذي تمناه بالبقاء معه في جوهانسبرج مكتفيًا بالشهرة المحلية التي أحرزاها معًا.
عاد بذاكرته للفرصة التي أهدرها يومًا مُفضلًا البقاء مع شفيق امتنانًا له على بعض البطولات المحلية الهشة التي لطالما أشركه فيها.. كان ذلك منذ ثلاث سنوات.. حينها كان يشارك في بطولة ودية مع مجموعة من الهواة من جنسيات مختلفة.. كلمات ذلك المدرب لاتزال تطن في أذنيه كما كانت دائمًا.. لم يعطها يومها حق قدرها وإن كان قد احتفظ بها واستمرت حافزًا قويًا يوجهه كلما شعر إحباطًا.. صوته الذي بلغ حد التوسل وهو يدعوه للسفر معه إلى غانا لم يفارق أذنيه لحظة واحدة.. يستطيع أن يسمعه الآن بذات الوضوح.
ابتسم ساخرًا وهو يتذكر أفكاره الساذجة عن الوفاء والانتماء.. كم كان غبيًا عندما أسرع كطفل ليخبر شفيق عن إعجاب مدرب الخصم به..؟!
لم يكن قد أدرك بعد رغبة ذلك السفيه في تدميره.. حقده كان مُغلفًا بالتملق والاهتمام الزائف الذي خدعه لسنوات طويلة.
أسرع الخطى عائدًا إلى شقته.. بل إليها.. علاقتهما توترت كثيرًا في الفترة الأخيرة.. أصبحت تغلق باب غرفتها بالمفتاح على عكس عاداتها.. الأمر في حد ذاته لا يزعجه.. فقط كونها أصبحت لا تثق به.. وكأنها بدأت تخافه..!
ربما عليه أن يُسارع بالزواج منها.. سوف يوفر لها كل ما تتمناه العروس المرفهة ليلة زفافها.. حتى ولو اضطر إلى استغلال صندوق المجوهرات الذي لم يمسه بعد.
أغلق الباب مُبتسمًا لضحكاتها المرحة قبل أن يستوعب الأمر.. ضحكات الرجل التي عانقت ضحكاتها لم تخرج من شاشة التلفاز كما كان يعتقد.. بل خرجت من المطبخ.. يوجد رجل معها هناك.. ولكن من يكون هذا الوقح الذي تجرأ ودخل شقته دون إذن منه؟
تقدم بخطوات متربصة قبل أن تضيق عيناه غضبًا ويمسك بعنق عبدالله صارخًا:
- ما الذي أتى بك إلى هنا؟
اتسعت عينا عبدالله ذعرًا وتوقفت ضحكاته بحلقه حتى كاد أن يختنق بها.. لم يكن يرغب في المجيء معها منذ البداية.. ولكنها مستبدة كعادتها.. استغلت حاجته للسكن وزينت له مصيدة صديقها العملاق حتى سقط فيها كالأبله.. غمغم في مزيج من الخوف والحيرة:
- أنا.. أنا...
اقتربت ندى لتزيح يد باسل عن عنقه قائلة:
- ابتعد.. سوف تقتله.
- يستحق القتل بالفعل.. كيف تجرأ ودخل إلى مسكني في عدم وجودي.. بل وإلى المطبخ أيضًا؟!
- كنا نعد لكَ طعامًا.
ضغط على أسنانه غيظًا قبل أن يعاود الإمساك بعنق عبدالله ليسحبه خارج المطبخ.. زاحه بعدها بعنف ليصطدم بباب الشقة ويسقط أرضًا وهو يهتف به صارخًا:
- سأتركك تذهب هذه المرة.. ولكن حذار أن تفعلها مرة أخرى.
تنفس عبدالله الصعداء ونهض مُسرعًا ليغادر الشقة لولا ندى التي أمسكت بذراعه ووجهت حديثها إلى باسل قائلة:
- كلا.. عبدالله يجب أن يبقى معنا.
تطلع إليها بدهشة فأردفت:
- إما أن يقيم معنا في هذه الشقة أو أذهب أنا للإقامة معه.




noor1984 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-11-20, 08:30 PM   #19

noor1984

مشرفة منتدى قلوب احلام وأقسام الروايات الرومانسية المترجمةوقصر الكتابة الخياليّةوكاتبة،مصممة متألقة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية noor1984

? العضوٌ??? » 309884
?  التسِجيلٌ » Jan 2014
? مشَارَ?اتْي » 23,038
?  نُقآطِيْ » noor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond repute
افتراضي



لــــــو تــفـهــــم..!

تحدثي.. تجادلي.. حتى تصارعي
أو اتركي عينيكِ كي تهمســـــا معي
كفاكِ صمتًا طالَ ومـــــزّقَ أضلعي
تكلمي لصوتكِ ظمأى مســـــــامعي

أماني عطاالله

-17-

قطب حاجبيه في صدمة.. ما الذي تريده أن يفهمه من كلامها المسموم هذا..؟ هل يُعقل أن تكون قد تزوجته خلسة بينما هو يسابق الزمن للفوز بها؟ وإن كانت قد فعلت فما الذي تتوقعه منه الآن..؟ هل تريده أن يقسم على رعايته هو أيضًا كما أقسم على رعايتها من قبل..؟!
استسلم لها وهي تسحبه شاردًا إلى إحدى الغرفتين.. أغلقت بابها وقالت بهدوء:
- عبدالله ترك الشقة لصديقه حتى يتزوج فيها.
ظل يتطلع إليها بفضول فتابعت:
- ليس له مسكن آخر.
صمتت فغمغم بشك:
- أهذا كل شيء؟
- نعم.
زفر بارتياح قبل أن يهتف غيظًا:
- وما شأننا نحن؟ يمكنه أن يبحث عن مسكن له في أي مكان شاء.
- ولكنكَ تعرف أن الإيجارات هنا مرتفعة جدًا.
- هذه ليست مشكلتنا.
- كيف هذا؟ وماذا عن العروبة التي تربطنا؟ أم أنها مجرد أحاديث في مؤتمرات وكلمات نغني بها؟
ضرب كفًا بأخرى وهو يتطلع إليها بعدم تصديق.. كيف تتخيل هذه المعتوهة بأنه قد يسمح لرجل آخر بمشاركته فيها تحت أي شعار مهما غنوا له؟
قال أخيرًا:
- الشقة صغيرة.. ليس بها سوى غرفتين فقط.
- يمكنك أن تضع له سريرًا آخر في غرفتك.
- لا أحب أن يشاركني أحد غرفتي.
- لكنكَ شاركتني إياها من قبل.
- الأمر مختلف.. كنتُ مُجبرًا.
- حسنًا.. ضع السرير في غرفتي أنا.
- أي سرير؟
- سرير عبدالله.
- يبدو أنكِ جننتِ بالفعل.
- لا تضخم الأمور.
عاد يضرب كفًا بأخرى قائلًا:
- هل تريدين المبيت معه في غرفة واحدة؟
- سبق وفعلتها معكَ.
- أنا.. أنا.. أنا.. خورشيد كان يثق بي.
- هذا لا يغير من الأمر شيئًا.. كلاكما غريبًا بالنسبة لي.
تأملها بعتاب.. هل هي جادة بالفعل في المساواة بينهما أم أنها تفعل ذلك لتستفزه لا أكثر..؟
غمغم أخيرًا بصبر نافد:
- من المستحيل أن أسمح له بالإقامة هنا.
- على أية حال.. الشقة لك.. إن لم تكن تريدنا فيها يمكننا الرحيل.
- تعرفين أنني لم أقصدك.
- أنا وعبدالله في سلة واحدة.
- لماذا..؟
- لأنه غريب ووحيد مثلي.
- يستطيع الاعتناء بنفسه.
- كلا.. أنا سأعتني به.
همت بمغادرة الغرفة فأسرع ليمسك بذراعها هاتفًا في يأس:
- لا تكوني حمقاء.. أنتِ في حاجة لمن يعتني بكِ.
سحبت ذراعها من قبضته بشراسة قائلة:
- هذه وجهة نظرك أنتَ.
تبعها مستنكرًا إلى حيث وقف عبدالله يخفي ابتسامة تراقصت فوق ملامحه.. كان واضحًا أن هذا اللئيم قد استمع إلى عراكهما لأجله.. صاحت بلهجة آمرة:
- انتظرني يا عبدالله.. سوف أعد حقيبتي وآتي معكَ.
استند باسل إلى الجدار.. عقد ذراعيه وراح يراقبهما صامتًا.. دخلت إلى غرفتها لتحضر ملابسها وتذهب مع ذلك الغريب.. ربما ستشاركه غرفة في فندق رخيص كتلك التي تشاركاها من قبل.. وربما تكون الغرفة ذاتها ما الذي يمنع..؟
ولكن ذلك المتمسكن الذي لا حول له ولا قوة.. قد يتحول إلى ذئب مفترس ما إن يُغلق عليهما باب واحد.. وهو الأقوى مهما تظاهر بالضعف الآن.
خرجت من غرفتها وتوجهت إلى باب الشقة في عزم ضاعف دهشته وجنونه.. تنهد بقوة قبل أن يغمغم مُستسلمًا:
- انتظري.
وقفت ولكنها لم تنظر إليه.. اقترب منهما وعاد يمسك بـ ياقة عبدالله بغضب قائلًا:
- سأضع لكَ سريرًا في غرفتي.. سأسمح لكَ بالبقاء هنا حتى تجد لنفسك مكانًا آخر.. ولكن حذار أن تدخل هذه الشقة قبل أن تتأكد من عودتي إليها.. لو حدث وفعلتها سوف أقتلك مهما كانت مبرراتك.
هز عبدالله رأسه موافقًا بينما ابتسمت هي بامتنان فسره انتصارًا منها وشماتة من ذلك الكريه الذي دفعه أمامه بعنف جعله يسقط أرضًا وهو يقوده خارج الشقة.. هتفت بارتباك:
- ظننتكَ وافقت على بقائه معنا؟!
تطلع إليها غاضبًا ولم يعلق بل غادر الشقة بصحبة عبدالله وأغلق الباب خلفه بقوة.
تنهدت بمرارة.. معاناته تعذبها ربما أكثر منه.. ولكنها معذورة.. لم يكن أمامها خيار آخر.. وجودها معه تحت سقف واحد بات يؤرقها.. حاجة عبدالله إلى المسكن كانت فرصتها الذهبية لتتخلص من حيرتها وتوترها.
*****
ألقى جسده بعنف فوق سريره حتى كاد أن يكسره.. زفر في ضيق متحاشيًا النظر إلى عبدالله الذي أحضر أغراضه ووضعها معه في ذات الغرفة.. لم يكن مُدللًا إلى الحد الذي يأبى فيه أن يشاركه آخر غرفته.. ولكن.....
الوضع لا يحتمل....
غمغم عبدالله في حرج:
- أعلم أنك لا ترحب بوجودي في غرفتك.
غمغم ساخرًا دون أن يلتفت إليه:
- هل كنتَ تفضل الوجود في غرفتها؟
- كلا بالطبع.. لم أكن أرغب في المجيء إلى هنا منذ البداية.
- ولكنكَ رغم هذا أتيتَ.. لا تتظاهر بكرامة لا تملكها.
- ندى هي من أصرت على ذلك.
- وأنتَ استغللت حماقتها.
- ندى ليست حمقاء.
استدار إليه في حدة صارخًا:
- لا تدافع عنها وكأن أمرها يهمك أكثر مني.
سادت فترة من الصمت المشحون.. أغمض باسل عينيه وأخذ نفسًا عميقًا محاولًا الحد من عنف انفعالاته.. قال عبدالله فجأة:
- إن كنتَ تغار مني يمكنك أن تطمئن.. أنا......
- أغار منكَ أنت؟!
- ولمَ لا.. ألستُ رجلًا أنا أيضًا؟
نهض باسل في غضب لم يستطع مقاومته هذه المرة ليقبض على عنقه صارخًا:
- حسنًا.. أرني رجولتك أيها المستفز.
شعر عبدالله بالفزع عندما وجد نفسه فجأة يتأرجح في الهواء بفعل قبضته كالخرقة البالية فهتف صارخًا:
- أردتُ فقط أن أخبرك بأنني مرتبط بابنة خالتي منذ الصغر.. وسوف نتزوج ما إن تتحسن الظروف.
قبل أن تسترخي ملامحه كانت ندى قد دخلت الغرفة مأخوذة بما تسببا به من ضوضاء إثر عراكهما.. شهقت بفزع فألقى بـ عبداالله فوق سريره في قسوة تأوه لها المسكين قبل أن يلتقط أنفاسه ويشرع في ترتيب هندامه صامتًا.. اقتربت منه ندى لتساعده هامسة بنعومة:
- هل أنتَ بخير؟
حانت من عبدالله نظرة سريعة إلى وجه باسل المشتعل وما لبث أن أزاحها عنه قائلًا:
- لا تعامليني بهذه الطريقة أمامه فتزيديه جنونًا.
نظرت بدورها إليه فأيقنت أنه محق.. ربما سيمتد عنفه ليطالها هي أيضًا إذا استمرت في تحديها له.. تصنعت اللامبالاة وهي تبتعد عنه قائلة:
- ظننتكَ أنضج عقلًا.. كيف تفعل ذلك بضيفك؟
نظر إليها في شراسة ولم يعلق فاستدارت لتغادر الغرفة قائلة:
- أتمنى لكما نومًا هادئًا.. بلا عنف.
في صباح اليوم التالي استيقظ واجمًا.. لم يرد تحية عبدالله التي بادره بها مُبتسمًا.. فهتف ذاك معترضًا:
- التحية صدقة.. في ردها حسنة لا يجب أن تحرم نفسك منها.
زفر في وجهه بضيق حتى كاد أن يحرقه.. ولكن عبدالله عاد يثرثر متجاهلًا غضبه:
- كان يجب أن تردها مهما.......
- أنتَ أكثر من قابلتُ تطفلًا.. احتفظ بحسناتك لنفسك واصمت.
- لماذا تعاملني بهذا الجفاء..؟ إن كنتَ تريد أجرة المبيت هنا يمكنني أن أدفعها لك.
- ادفعها في مكان آخر إذًا وارفع عن نفسك المهانة.
- ولكن ندى لن توافق.
- لا شأن لـ ندى بهذا الأمر.
- كيف هذا؟ هل من أخبرتني بأنني أفضل من الشيطان.
ضاقت عينا باسل وهو يتأمله بدهشة فتابع في خبث:
- نعم.. هي فتاة شرسة وعنيفة كالرجال.. ولكنها محقة في خوفها منك.
- ماذا تعني؟
- من حقها أن تحترس لنفسها.. ما الذي يمكنها أن تفعله حال سقوطها بين ذراعي عملاق مثلك؟
- هي من أخبرتك بذلك؟
- ليس مباشرة.. فهمت هذا من حديثها القلق عنكَ.. فأنا لستُ غبيًا بلا مشاعر كما تتوهم أنت.
تطلع إليه باسل شاردًا.. هذا الأبله يبدو محقًا.. هو نفسه لاحظ مؤخرًا بأنها تحاول أن تتجنبه كلما استطاعت ولكنه لم يرد أن يصدق كونها بدأت تخافه.. ورغم هذا فالخوف أنواع.. ليس مُضرًا في كل الأحوال.. بعضه ضروري وصحي أحيانًا.. ولكن أي منهما الذي يطاردها من وجوده معها تحت سقف واحد؟
قال عبدالله في تلقائية:
- في البداية ظننتها متحررة أكثر مما ينبغي.. ظننتها تعاشرك بلا زواج شرعي.
رمقه باسل مُحذرًا فتابع مبتسمًا:
- لم أكن قد عرفتها جيدًا بعد.. الآن تأكدتُ من أنها فتاة على خلق.. بغض النظر عن لسانها السليط واستبدادها الدائم.
تنهد باسل بمرارة وهو يدفعه أمامه قائلًا:
- وأنتَ من جاءت بكَ لتحميها مني؟!
- نعم.
ابتسم مُرغمًا ثم قال متهكمًا:
- هيا أيها الملاك لتذهب إلى عملك.
- ينبغي أن أنتظرها.. طريقنا واحد.
- اسمعني جيدًا.. مهما كانت مبرراتك ومبرراتها لوجودك هنا.. حذار أن تنفرد بها في هذه الشقة دون وجودي.
- لا تضخم الأمور.. دقائق معدودة وسوف نغادر نحن أيضًا.
- إن كنت أخشى عليها من نفسي فكيف تريدني أن أئتمنك أنتَ عليها؟!
- هل تحبها إلى هذا الحد؟
- هذا ليس من شأنك.
ابتسم عبدالله قائلًا:
- ألم أخبرك بأنها مستبدة؟
دفعه باسل أمامه ساخطًا.. استقبلتهما ندى مبتسمة.. كانت تُعد فطورًا.. لم تفعلها من قبل..!
رد تحيتها في اقتضاب واستدار يتطلع إلى عبدالله بشك.. هل هو صادق بالفعل في حجته للوجود بينهما أم أنهما يخدعانه ليكونا معًا؟
- ما رأيكما؟
أمطرها عبدالله بوابل من المديح والثناء وهو يجلس مُتحمسًا لتناول الطعام بينما جلس باسل في بطء دون أن يعلق.. رمقته في حنين وهو يضع بفمه بعض اللقيمات شاردًا دون أن ينظر إليها.. تنبهت إلى عبدالله الذي يراقبها مبتسمًا فحولت نظرها إلى طبقها وراحت تلتهمه صامتة.. ما الذي كان من الممكن أن يفعله ما لم يكن عبدالله يجلس بينهما الآن؟
كان سيبتسم ويفوقه ثرثرة ومدحًا في الفطور الذي أعدته حتى قبل أن يتذوقه.. كان سيضمها ويقبلها أيضًا.. ورغم كل محاولاتها لصده كانت ستستسلم له في النهاية حتى يكتفي منها مؤقتًا.. نعم كان يجيد التحكم بانفعالاته نحوها في الوقت المناسب.. ولكن إلى متى سيتمكن من الصمود أمام رغبته فيها خاصة وأنها لا تملك مقاومته؟!
ماذا لو تهور ذات مرة فتورط وورطها معه في سبيل لا مهرب منه؟
من المحال أن تقبل بارتباط أبدي به.. حتى لو قبلت بمصير والدتها واضطرت لدفع حياتها ثمنًا لعشقها له.. فهي لن تغامر أبدًا بحياة طفل يكرر معاناتها مجددًا.. لن تحتمل أن يحيا صغيرها بألف وجه وأن يقاتل في كل لحظة للبقاء على قيد الحياة.
زفر عبدالله ضجرًا من ذلك الصمت والوجوم الذي أحاط بهما وأصابه هو الآخر رغمًا عنه.. رمقته بابتسامة باهتة.. وجوده يسعدها بقدر ما يحزنها لكونه أبعد باسل عنها.
*****
حاول أوسكار مرارًا أن يغريه بالبوح عن سر تعاسته وشروده الدائم في الفترة الأخيرة من دون جدوى فاحترم صمته ورغبته في التكتم.. وتمنى باسل منه أن يظل صامتًا حتى يبقى هو صامدًا للنهاية تجنبًا لعظات معلمه ونصائحه التي تصدعه وتزيده همًا مهما كانت مبرراته ودوافعه الطيبة.
حانت اللحظة الحاسمة التي أخبره فيها بحتمية بقائه في المعسكر استعدادًا للمباريات الأخيرة.. عندها كان لابد من إعلامه بمخاوفه بشأن عبدالله..
ابتسم أوسكار ابتسامته المشفقة التي حاول باسل تجنبها ولم يفلح.. قال بعد فترة:
- لا أظن أنك ستكون مُطمئنًا حتى ولو أقسم لكَ ذلك الرجل بأنه سيبحث لنفسه عن مكان آخر ليبيت فيه هذا الأسبوع.
هز باسل رأسه موافقًا.. فهو لا يستطيع الوثوق في عبدالله رغم ظاهره السلمي وحرصه على الالتزام بشروطه كاملة.. تنهد أوسكار قائلًا:
- حسنًا.. أحضره معكَ للمبيت هنا.. سأجد له عملًا مناسبًا حتى تنتهى المسابقة.
ربت باسل على كتفه مبتسمًا في امتنان.. لقد أزاح عن كاهله همًا ما عاد يتحمل ثقله.
*****
بات ليلته الأخيرة في المعسكر تداعبه أحلام كثيرة.. أقربها كونه سيراها غدًا في مباراته الفاصلة.. عليه أن يحسمها لصالحه.. فالفوز فيها لم يعد اختياريًا بعد أن أصبح سبيله الوحيد ليمهد لفوز أعظم.. فوزه بها..
الطرقات العنيفة التي دقت بابه في الصباح التالي أصابته بالصمم ورغم هذا ظل أسيرًا لفراشه ولم يستطع مغادرته.. أصابه شلل مفاجئ خدر كل حواسه عدا ألم رهيب احتله كاملًا.. بلغ نداء عبدالله بالخارج حد الصراخ حتى اضطر أخيرًا إلى الدخول لغرفته عنوة.. قطب حاجبيه دهشة وهو يراه مغمض العينين يضغط رأسه بين كفيه في وجوم.. أزاح الستائر جانبًا ليغمر ضوء الشمس الغرفة وهتف مُبتسمًا:
- يا لكَ من كسول.. الساعة تخطت التاسعة وأنتَ لم تستيقظ بعد.
تشبث باسل بأنفاس مختنقة وراح يزفرها بصعوبة فغمغم عبدالله وهو يتطلع إليه بقلق:
- لا تقل بأنكَ قلق بشأن خصمك.. أوسكار على يقين من أنكَ الأفضل وسوف تفوز عليه بـ...
أشار له باسل كي يصمت في اللحظة ذاتها التي دخل فيها أوسكار إلى الغرفة وصاح موبخًا عبدالله:
- أرسلتك لتستعجله وإذ بكَ تأتي لتجلس وتثرثر معه..!
- يبدو متوعكًا.
- ماذا؟
اقترب أوسكار منه وراح يفحصه بعناية قبل أن يدلك عضلاته بخبره وهو يقول معاتبًا:
- أجهدتَ نفسك كثيرًا في التدريب أمس رغم تحذيري.
- أريد الفوز بهذه البطولة.
- لم تكن في حاجة لكل ذلك العناء.. أنتَ تفوقه بمراحل.. ذاك يستغل شحومه لا أكثر.
ابتسم عبدالله في خبث قائلًا:
- هذا الفوز قد يخلصه مني.
توقع أن يشاركه أوسكار المزاح.. كان يعلم بأنه على دراية مسبقة بعشق باسل لـ ندى.. ولكن أوسكار لم يفعل بل ازداد وجهه تجهمًا وهو يهتف فيه قائلًا:
- جهز له حمامًا دافئًا حتى يسترخي ويتخلص من التقلصات التي تؤرقه.
أسرع عبدالله ينفذ ما طلبه في حماسة.. فهو قد أصبح مؤخرًا من معجبي باسل وعشاقه إلى الحد الذي جعله يفكر جديًا في ملازمته أينما ذهب.
*****
تقدم من حلبة المصارعة في ثقة أرهبت خصومه بقدر ما أسرت معجبيه وأضافت إليهم المزيد كعادته كلما ظهر في جولة جديدة.. حيا جمهوره بانحناءة صغيرة رفع وجهه بعدها ليمسح بعينيه القاعة بحثًا عنها.. تسمرت عيناه لحظات على مايكل جوناثان الذي ابتسم له متوقعًا أن يسعده وجوده ويزيده عزيمة ورغبة في الفوز سعيًا لكسب وده.. شعر بصدمة عندما تجاهل باسم رد ابتسامته وتحولت عيناه إلى المحيطين به..
أيعقل كونه لم يعرفه بعد؟
كل مبرراته التي اختلقها ليرضي بها غروره لم تقلل من إحساسه بالمهانة والغضب بلغ حد رغبته في الرحيل.. يا له من وقح حتى ولو كان لا يعرف هويته..! بل أن مجرد عدم معرفته له يعتبر إهانة في حد ذاتها.
ابتسم الوحش أخيرًا فتحولت الأنظار إليها حتى شعرت بالخجل.. مايكل جوناثان نفسه استدار لا إراديًا في فضول لم يستطع مقاومته قبل أن يبتسم مُتهكمًا من تلك العصفورة الصغيرة التي سرقت اهتمامًا كان هو الأولى به.
هذا الوحش المتناقض يثير فيه المزيد من الفضول والإصرار على امتلاكه لنثره في سماء المحترفين.. من الفخر أن يترك بصمته فوق نجوميته.. هناك من يمنحون صُناعهم مجدًا لا يقل عما يحصدونه منهم.. وهذا الفارس سيكون علامة مميزة مختومة باسمه.. صناعة مايكل جوناثان.
تنفست الصعداء أخيرًا عندما بدأت الجولة الأولى فعادت عيونهم الفضولية تتعلق به وتتركها.. مضى بعض الوقت حتى استطاعت أن تتخلص من رجفتها وتشاركهم الهتاف في حماسة تشجيعًا لكل لكمة صائبة يوجهها لخصمه.
صلابة منافسه هذه المرة أصابتها بالفزع.. لم يكن يشبه هؤلاء الأقزام الذين صارعهم من قبل.. كان عنيدًا ضخمًا ويبدو مُصرًا على هزيمته وكأنه ينتقم منه لثأر قديم بينهما.. شهقت بألم لتلك اللكمة التي أصابت فكه فأدمته.. وتلك الأخرى التي ضربت عينيه كالعاصفة فترنح لها وكاد أن يسقط لولا تمالك نفسه في اللحظة الأخيرة وردها بأعنف منها.
وماذا بعد كل هذا الرعب والقلق.. قد يقتله أحدهم يومًا في مباراة كهذه.. وحتى لو فاز بـ جميعها.. سيتحول المهزوم عدوًا ويسعى لينتقم منه.. مهنته تخلق له أعداء جدد كل يوم.. سوف يبحثون في حياته عن نقطة ضعف.. عن خنجر مسموم يطعنونه به ويهزمونه.. ووجودها معه سوف يساعدهم...!
كانت أشد جمهوره إثارة بعد مايكل جوناثان الذي انحصرت كل حواسه في عينيه فجحظت وهو يراقبه متمعنًا ليسجل حتى أنفاسه.. ضربات قلبه بات يسمعها لشدة توحده معه.. مضت فترة من انقطاع الأنفاس قبل أن ينهض ليضرب الهواء بقبضته ويطلق صيحة انتصار أعلن بعدها الحكم فوز باسل بالمبارة.
كان أول من صعد إلى الحلبة دون أن يعترض أحد طريقه.. صافحه مُبتسمًا وراح يكرر عبارته مجددًا:
- مايكل جوناثان.
غمغم باسل وهو يصافحه مُنهكًا:
- أهلًا بك.
- تعرفني إذًا..؟!
- نعم.
زم جوناثان شفتيه قائلًا:
- لو لم يكن الغرور يحق لك.. لكان لي معكَ شأن آخر.
قطب باسل حاجبيه وانفرجت شفتاه المتورمة عن ابتسامة شاحبة قبل أن يلتفت إلى أوسكار الذي أتى ليمسك بذراعه في تملك طفل صغير يتشبث بـ لعبته حتى لا يأخذها منه غيره.. وكأن جوناثان فهِم مقصده فأراد مضايقته.. ربت على ذراع باسل الأخرى وابتسم في تحدٍ قبل أن يختفي كالشبح بين الجمهور العريض الذي بدأ يقترب هو أيضًا من باسل طمعًا في الفوز بكلمة وابتسامة وصورة تذكارية مع النجم القادم..
لمحها أخيرًا وقد سمرها الزحام على بُعد امتار منه.. اشار لهم كي يفسحوا لها طريقًا.. ارتبكت عندما عادت عيونهم الفضولية تتعلق بها مجددًا.. تقدمت منه عدوًا وما إن فتح ذراعه ليستقبلها حتى أسرعت تختبئ فيه من نظراتهم المتفحصة التي تطاردها.
ابتسم في حنان فهتفوا للحب الذي حول الإعصار الهادر الذي زلزل حلبة المصارعة منذ قليل إلى نسيم هادئ يثير العجب.
لو لم يلحوا عليه طويلًا للحصول على رعاية طبية عاجلة لفحص ما سببه له خصمه من إصابات لكان ذهب معها إلى المنزل مُكتفيًا بأنفاسها بديلًا عن كل الأدوية والمسكنات.
تحرك بها في صعوبة وسط الطريق الضيق الذي أفسحوه له حتى غادر القاعة.. وما إن اقتربوا من غرفة الطبيب حتى همس أوسكار في أذنه بضرورة ذهابها الآن.. وعده بأن يرسل معها سائقه الخاص لتوصيلها حتى باب المنزل على أن يأتي بها غدًا لحضور حفل التكريم الذي سيقيمه النادي حفاوة به.
حررها عن صدره مُجبرًا وابتعد بها قليلًا ليوصيها بضرورة حضور الحفل.. الكدمات التي ملأت وجهه والدم الذي تجمد أسفل فكيه والإجهاد الذي أوشك معه على السقوط إنهاكًا.. كلها أعذار تكفيها كي تطلب هي منه أن يذهب ليستريح ويعرض نفسه على الطبيب.
أشار لأوسكار فاقترب على مضض مُتحاشيًا النظر إليها.. منحه المال الذي طلبه منه فناوله لها قائلًا:
- اشتري فستانًا جديدًا.. أريدكِ غدًا الأجمل.




noor1984 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-11-20, 08:31 PM   #20

noor1984

مشرفة منتدى قلوب احلام وأقسام الروايات الرومانسية المترجمةوقصر الكتابة الخياليّةوكاتبة،مصممة متألقة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية noor1984

? العضوٌ??? » 309884
?  التسِجيلٌ » Jan 2014
? مشَارَ?اتْي » 23,038
?  نُقآطِيْ » noor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond repute
افتراضي



لا مـــــفـــــر

ملأت الحــــواجزُ كل الطرق
لا مفـــــــــــــرَ من أن نفترق
بدموعٍ أو بدمٍ بقلوبٍ تحترق
فكما ينمو الحبُ أيضًا يختنق

أماني عطاالله

-18-
أمضت يومها كله تتأمل نفسها في المرآة وهي ترتدي فستانها الجديد الذي اشترته من أجله.. تزينت وبدلت زينتها مِرارًا.. ليتها تكون الأجمل كما تمنى أن يراها هذا المساء.
أطلقت تنهيدة طويلة وهي تتخيل نظراتهم التي تتعلق بها ما إن ينظر إليها.. عادت تحدق في المرآة مجددًا.. رضاها عن مظهرها لا يستمر طويلًا.. كلما تذكرت الأضواء التي يسلطها عليها واهتمامهم المُفرط بها غادرتها قناعتها وعاودها ذلك الإحساس المزعج بالنقص.
سمعت نفير سيارة أوسكار فتناولت حقيبتها مسرعة وغادرت لتلحق بسائقه.. إن كان يعشقها فسوف تكون الأجمل في عينيه كما كان هو بالأمس رغم كل الكدمات التي شوهت ملامحه.
تسلطت عليها الأضواء ما إن دخلت القاعة.. رفعت رأسها في كبرياء زهدها مؤخرًا.. تجاهلت عدسات الكاميرات التي تابعتها كأنها إحدى نجمات هوليود حتى وصلت إليه فاستقبلها بعيون تتوهج عشقًا.. اتسعت ابتسامته رغم تمزق شفتيه وهو يقترب منها.
همس بسعادة لا تضاهيها إلا تلك التي رقصت في قلبها:
- كنتُ على يقين بأنكِ ستكونين نجمة حفل الليلة.
همت أن تُعلق عندما وجدتهم تجمعوا حولها مُجددًا فأثرت الصمت مُكتفية بابتسامة ناعمة زادته هيامًا بها.. عانق كفها بقبضته وراح من خلاله يبثها كل كلمات الحب دون أن ينطقها.. عيناه لم تكن ترى سواها بينما يرد لسانه على الأسئلة التي أمطره بها المعجبين تارة والصحفيين تارة حتى شعر بالضجر فاستدار وتطلع إليها بصبر نافد.
كان واضحًا أنه سيعاود الحديث بشأن ارتباطه الجدي بها.. خمنت لهفته فازدادت قلقًا.. هي أيضًا تتلهف للبقاء معه إلى حد يغريها بالمغامرة مهما بلغت المخاطر.. ولكنها لازالت مُتذبذبة العقل.. ماذا لو لم تكن هذه المخاطر تتعلق بها وبأطفالها منه فقط.. ماذا لو كانت ستحطمه هو أيضًا...؟!
لا تريد أن تصبح نقطة ضعف في حياته.
جاهدت لتتحاشى نظرات أوسكار الغاضبة التي رماها بها.. في عينيه اتهام بنقض عهد لم تستطع الوفاء به.. كلماته وهو يدعوها للبحث عن رجل آخر لازالت تطن في مسامعها رغمًا عنها.. لولا كرهه المسبق لها وتربصه بها.. لربما صارحته بمخاوفها والتمست منه العون والنصيحة.
ابتسمت لفتيات يراقبنها في تعاطف وإعجاب لا يخلو من الغيرة والحسد.. نظراتهن لم تزعجها على أية حال.. أما هؤلاء اللواتي نظرن إليها في حقد وكأنهن يرغبن في قتلها انتقامًا لكونه فضلها عليهن فقد فعلت.
حتى تلك الهيفاء قوية البنية التي وصلت للتو بصحبة مايكل جوناثان.. لم ترفع عينيها عن وجهه الذي كانت تظنه مشوهًا ولن يعجب أحدًا سواها.. ولكن حتى لو راق هو لها.. أتراها سوف تروقه أيضًا..؟
لارا جاكسون.. تحترف المصارعة مثله.. نجمة جديدة سوف تضيء سماء المحترفين قريبًا.. موسوعة متعددة المواهب.
كانت تمتلك من العقل ما يكفيها لتفهم بأن هذا الوقح يقدم رفيقته هدية لكسب ود
باسل ورضاه.. وتلك الـ لارا.. بدت كجارية تقبلت بيعها سعيدة بسيدها الجديد مُستعدة لتقديم نفسها قربانًا لنيل رضاه..!
عملاقة وشرسة حتى في نظراتها التي حاولت استمالته بها.. وأيضًا في نظراتها التي حذرتها فيها لتبتعد عنه.. كان واضحًا أن التصاقها بـ باسل وتعانق أصابعهما لم يرض غرورها وخططها المستقبلية بشأنه.
أدركت للتو من هو جوناثان.. فهمت من حديثه بأنه يريده أن يسافر معه إلى أمريكا فانتابها القلق وتضاءلت رغبتها في المغامرة رغمًا عنها.. أمريكا بلد كبير.. كبير جدًا.. ولكن خورشيد كان له الكثير من الرجال فيها.
شعرت بحماقتها عندما تخيلت أن أحدهم قد يتعرف عليها هناك إذا ما قرر أن يصحبها معه..
ولكن لمَ لا..؟ العالم يتحول إلى خندق صغير عندما يسخر القدر.. وهو لم يكف يومًا عن السخرية منها...
بلغ خوفها ذروته عندما استدار إليها أحد الصحفيين فجأة ليسألها عن علاقتها به.. وضعت قبضتها فوق صدرها لتنعش قلبًا كاد أن يتوقف هلعًا.. سؤاله لم يكن غريبًا على مسامعها.. بل كان كابوسًا تعيشه كل لحظة بجوار خورشيد.. إجابته كانت مقدمة حتمية لكل نزهة بصحبته.. يلقنها لها بحرفية مخرج مخضرم.. ويكررها على مسامعها كل يوم وكل ساعة حتى يتأكد من أنها لن تخطئ فيها أبدًا.. حياتها وحياته هو أيضًا دامت رهنًا على اتقانها وحسن تمثيلها...
ألم ينتحر في نهاية المطاف حتى لا يضطر إلى كشف هويتها تحت وطأة التعذيب فتنال مصير والدتها..؟
كانت ابنته الوحيدة ونقطة ضعفه الوحيدة .. والـ.......
عاد الصفحي يكرر سؤاله بصيغة أخرى:
- هل ننتظر خبرًا سعيدًا عما قريب؟
ضغط باسل على قبضتها مُبتسمًا.. هو نفسه في شوق لسماع إجابتها.. ليس عليها سوى أن تُحدد الموعد الذي يروق لها وسوف يلبي بسرعة البرق ويجهز كل ما يلزم للزفاف.
تحاشت النظر إليه حتى لا تتردد وهي تهتف في لامبالاة:
- ليس لهذا الحد.. أنا مُغرمة بـ باسل كرجل قوي مشهور.. تتهافت الفتيات للفوز به.. ولكن.. نحن بالكاد تعارفنا.
تقلصت ابتسامته واقتربت للبلاهة وهو يستمع إليها مصدومًا.. هذه ليست المرة الأولى التي تنعته فيها بالغريب.. ساوته حتى بـ عبداالله منذ أيام قليلة.. وكأن كل ما جمعهما لا يكفيها.. إلى هذا الحد لم تتأثر بوجوده وعمق مشاعره نحوها..؟!
إلى متى سوف يفسر أحاديثها وفقًا لأهوائه؟
لو كانت ترغب في الاقتران به لقالتها صراحة.. لكنها تريده بجوارها جشعًا لا أكثر.. رغبة في اقتنائه لإثارة غيرة من حولها وحسدهم لها.. مجرد تملك لأشياء يظنها الآخرون ذات قيمه حتى ولو لم تكن هي تشعر بقيمتها.
تراخت قبضته حول كفها حتى تركها فسحب الدم كله من جسدها وكادت تسقط أرضًا.. لا تدري كيف صمدت وابتسمت وأكملت كذبتها وتمثيلها المتقن للنهاية.. لو كان خورشيد معها الآن لرقص قلبه سعادة بها....
ربت أوسكار على كتفه فاقترب منه مُرغمًا تراوده رغبة مكبوتة في إلقاء نفسه بين ذراعيه وتقبل مواساته.. شعر بضعف وحاجة طارئة لمن يُدلله.. طفولة لم يعشها في صغره بدأت تطارده.
جذبته لارا إلى حلبة الرقص فتحرك معها تائهًا وراح يقلد حركاتها الراقصة دون أن ينظر إليها.
حذرته يومًا بألا يكن أحمق فيتجرأ على الإعجاب بها.. وهو لم يكتف بالحماقة وحدها.. ولم يتورط في الإعجاب بها فحسب.. بل عشقها حد الجنون أيضًا.. عليه إذًا أن يدفع ثمن تطاوله.
كيف تخيل أن مرفهة مثلها قد ترضى بصعلوك مثله حتى ولو أصبح نجمًا..؟
مهما رفع الآخرون عيونهم لرؤيته ستبقى هي تنظر أرضًا إلى حيث كان ينام ذليلًا أمام باب غرفتها.. سيبقى بالنسبة لها ذلك الخادم الأجرب والعبد الذي اقتنته في لحظة ضعفه واحتياجه.
شعرت بالبرد فجأة فضمت نفسها بذراعيها.. نبذتها أنظارهم وتوجهت إلى العملاقة الهائمة التي تراقصه.. لم تعد نجمة الحفل الآن كما أخبرها ما إن رآها فى بداية السهرة.. هناك نجمة أخرى سرقت الضوء من أعماقها وعينيها...
ارتجفت عندما ربت أحدهم على ذراعها وراح يردد اسمها بقلق .. استدارت تحدق في وجه عبدالله ببلاهة قبل أن تتصنع ابتسامة وهي تصافحه في مرح قائلة:
- مرحبًا عبدالله.. تبدو مختلفًا.. وكأنك.. وكأنك....
ضحك لحيرتها قائلًا:
- بنيتي صارت أقوى.. من الجيد أنكِ لاحظتِ.. فأنا أتمرن كل الوقت من أجل ذلك.. لن أمتلك بنية باسل بالطبع.. ولكن على الأقل سوف يلاحظني الناس وأنا أقف بجواره عندما يصبح نجمًا.
ابتسمت قائلة:
- ربما لن يسعفك الوقت.. عليكَ العودة إلى كشك الزهور قريبًا.
- كلا.
تطلعت إليه بدهشة فأردف في حماسة:
- وعدني أوسكار بإيجاد عمل لي معهم.. الحياة في المعسكر تغريني بالبقاء فيه.. باسل أيضًا وعد بمساعدتي.
- ولكن.. ماذا عن الكشك؟
- سوف أعيده للمالك.
- وماذا عني أيها الجشع؟
ابتلع ريقه في تعاطف وما لبث أن هتف قائلًا:
- لا داعي لقلقك.. أنتِ لن تحتاجي إلى العمل بعد الآن.
اقترب من أذنها وأردف هامسًا:
- باسل ينوي الزواج منكِ.. ألم يخبرك بهذا بعد؟
هزت رأسها بانفعال قائلة:
- ومن قال بأنني سأقبل بالزواج منه؟
اتسعت عينا عبدالله في شك فأردفت بحسم:
- لا رغبة لي في الزواج حاليًا.. لا من باسل ولا من سواه.
- وهل توجد امرأة عاقلة ترفض الزواج من باسل؟!
- اعتبرني مجنونة إن شئت.
- راودني هذا الشعور كثيرًا.. ولكنني الآن تأكدتُ بأنكِ مجنونة بالفعل.
تنهدت في مرارة واستدارت متوجهه لبوابة الخروج فأسرع ليعترض طريقها قائلًا:
- أين ستذهبين؟
- سأعود إلى المنزل.. أشعر بالملل.
ابتسم في خبث قائلًا:
- ملل.. أم أنكِ تُغارين لأنه يراقص سواكِ؟
التفتت مرغمة إلى باسل ولارا قبل أن تعاود التحرك صامتة فأسرع عبدالله ليمسك بذراعها قائلًا:
- مهلًا.. مادمتِ مُصرة على الرحيل فسوف أرافقك.
*****
مضت الأيام لتشفي جراحه الجسدية بينما جراحات نفسه تزداد سوءًا حتى أيقن بأنها لن تشفى أبدًا.. كيف ينسى العنوان العريض الذي نشرته إحدى جرائد اليوم التالي.. والذي بسببه حققت مبيعات تحسب لها..؟
"العملاق الوسيم فاز بقلوب الجميع إلا قلبها.. إلا قلب من أحب"
السطور التي توالت تحته حولت فوزه لانتكاسة أقرب للفضيحة.. لازال صداها يتردد حوله حتى هذه اللحظة.. أما هي فقد اختفت بعدها دون أن تحاول تبرير موقفها وتصريحاتها المهينة.. وكأنها تتمعن في إثارة غضبه ونفوره منها..!
لو كانت تخلت عن كبريائها واتصلت هاتفيًا لتطمئن على أحواله ولو حتى مجاملة لصديقها كما كانت تدعوه كذبًا.. لكان عاد كالدلو وغرق فيها مُلتمسًا لها كل الأعذار والحجج.
لكنها لم تفعل.. وأبت كرامته هذه المرة أن يبدأ هو بالغفران كعهده الدائم معها..!
أعلنتها في وجهه مِرارًا بأنه ليس أكثر من غريب قوي كان يحميها من خوف تعافت منه.. بقيت معه فقط لأنها لم تكن تعرف غيره.. قالتها صراحة حتى وهي تهديه باقة الورود التي سحرته بها.
ولكنه لا يريد أن يصدق بأنها ما عادت في حاجة إليه..!
أسعده وجود عبدالله معه في المعسكر بقدر ما أقلقه وجودها وحيدة.. لا يريد أن ينسى بأنها كادت أن تذهب معه وتتركه عندما خيرها بينهما.. وفي الوقت ذاته يسخر من نفسه ويجاهد ليقنعها بأنها لا تعرف رجلًا سواه.
على الأقل لا يمكن أن يكون هذا الرجل هو عبدالله.. فهو أضعف من أن يرضي طموح مجرمة بالوراثة مثلها.
تنهد في ألم ويأس.. لم يشعر يومًا أن الفقر عيبٌ.. كان فقط يتمرد على كثرة عطائه بلا مقابل.. شعوره بالظلم هو ما كان يوجعه ويؤلمه.. ورغم هذا فقد ظل وفيًا لقيم ومبادئ تخلى عنها الكثيرون سعيًا وراء طموحاتهم وأهدافهم.
التفت في حدة ليمسك بأصابع لارا التي عبثت بشعره مبتسمة.. أزاحها في لطف لتبتعد عنه فتلاشت ابتسامتها وحدقت فيه مستنكرة.. كانت تعلم بأنه لازال يفكر في تلك الطفلة الغبية التي أهانته وحطت من شأنه أمام الجميع.
تركته ساخطة واقتربت من جوناثان الذي استقبلها فاتحًا ذراعيه في إشفاق ليضمها إليه.. كان يراقبهما كل الوقت ولاحظ قسوته معها.. راح يداعبها كقطة مُدلله علّه يجبر ما حطمه ذلك الفولاذي العنيف فيها.. مواساته زادتها غضبًا فزمت شفتيها في تمرد.. لم تعتد أن ينبذها رجل من قبل.. خاصة من كانت تتودد هي إليه حد التملق.
جوناثان أيضًا كان يعلم سر تعاسته وحاول أن يستغلها لصالحه.. رغبته في ضمه إلى مجرته ليزيدها توهجًا لم تكن أقل من رغبة لارا في الفوز به.. ولا من تشبث أوسكار ببقائه معه في جوهانسبرج.
حمل كأسًا من النبيذ وتوجه بها إليه.. منذ زمن لم يسع خلف أحد ويتملقه كما يفعل مع ذلك الأحمق الزاهد.. ولكن الفتى مُختلف عن كل من سبقوه.. يكفي كونه لم يتودد إليه ولم يحاول استمالته بشتى الطرق كما يفعل غيره من المصارعين الذين يتوسلون مساعدته.
وكأن كل تاريخه الحافل بالنجاحات لا يرضيه.. يا له من أبله..!
ورغم هذا فقد حفزت لامبالته رغبة جوناثان في التحدى وزادته إصرارًا وعنادًا في الحصول عليه.
- اشرب هذا.
ألقى باسل نظرة عابرة إلى يد جوناثان الممدودة نحوه وهز رأسه قائلًا:
- أشكرك.. لستُ من مدمني الخمر.
- ولا أنا.. فقط نحتاجها أحيانًا.. تجرعها دفعة واحدة وسوف تنساها.
ابتلع باسل ريقه ساخطًا ولم يعلق.. هل معاناته واضحة لهذا الحد؟ أين وعده لها ولنفسه بأن يكون أكثر خبثًا..؟ ربما كانت سذاجته سببًا لابتعادها عنه.
- ليس على النساء حرج.. أنتَ الملام لأنكَ وثقت بها.
تجاهل باسل كلماته حتى لا يضطر لمجاراته فيزداد وضعه مهانة وبؤسًا.. ولكن جوناثان أردف مُتهكمًا:
- اعتذر لنفسكَ إن شئت ولكن لا تنتظر منها اعتذارًا.. حتى وإن فعلتها أنصحك بألا تصدقها.. سيكون ذلك مصيدة منها لـ فخ أكبر.
خطف باسل الكأس من يده وتجرعها بالفعل دفعة واحدة حتى احترق حلقه وأظلمت عيناه.. ثرثرته غير عادلة.. إن كان لا يستطيع أن يُخرسه فليصم حواسه حتى لا يسمعه.
ضحك جوناثان في مرح مُستنكرًا طغيان الكأس الأول على ملامحه البكر.. فغمغم باسل عابسًا:
- من المفترض أن تحافظ على بنيتي وتمنعني من الخمر لا أن تقدمها لي بنفسك.
- للخمر تأثير هين إذا ما قورن بما يفعله الفكر فينا.. خاصة عندما يتعلق الأمر بهن.. كُن أقوى واطردها من مخيلتك.
زفر باسل بصبر نافد فصمت جوناثان مُبتسمًا.. عاد يثرثر بعد فترة وهو يشير إلى لارا التي كانت تراقبهما بوجه متجهم:
- داوني بـ التي كانت هي الداء.. لماذا أغضبتها مادمتَ في حاجة إليها؟
- ماذا تظن بي؟
- رجل.
- إن كنتَ لا تفهم معنى هذه الكلمة.. فلا جدوى من حديثي معكَ.
- طباعك أكثر حدة من قبضتك.. لو لم تكن مُتألمًا بما يكفي لكنتُ.....
انحنى باسل في حركة غريزية ليتفادى قبضة جوناثان المُفاجئة التي وجهها إلى فكه.. بينما ضحك الأخير في شراسة قائلًا:
- جيد.. استعد.. سوف تسافر معي خلال أيام إلى أمريكا.
تأمله باسل شاردًا وما لبث أن هز رأسه موافقًا.. نعم سوف يسافر بصحبة جوناثان حتى ولو لم يذهب معه أوسكار.. تضحياته الغبية لا جدوى لها.. فعلها كثيرًا.. وكلما ضحى بالأكثر ابتلى أكثر وتعذب أكثر وأكثر.
ولكن ماذا عنها؟
أخبره عبدالله بأنها لا تفكر في الزواج أبدًا.. صارحته بذلك عندما وصلها إلى المنزل تلك الليلة.. على الأقل هي لم تتخل عنه لأجل رجل آخر.. عاد يلتمس لها مبررات جديدة.. ربما كانت خائفة بعد كل ما أصاب والديها من محن .. بأمر الحب عليه أن يمنحها فرصة أخرى.
كل خططه وعزيمته تأتي عندها وتتوقف.. تضمحل إرادته ويصاب بعجز مباغت لا يعلم كيف يصيبه.. أقر في النهاية.. لن يستطيع أن يتركها هنا بمفردها حتى بعد كل ما فعلته به.
لم يرها منذ تلك الليلة التي توقع فيها أن يولد من جديد ولكنها قتلته ودفنته في جسد كالجحيم يطعمه عذابًا ليل نهار.
*****
حاول أن يبدو هادئًا وهو يدخل شقته التي لم يزرها منذ أكثر من شهر مضى.. كيف سيجدها الآن..؟ ما الذي فعله بها الدهر الذي أمضته بعيدة عنه؟
هو قد أصبح آخر.. لم يعد فيه منه إلا عشقها الذي تعمق في قلبه حتى استحال نزع جذوره منه أبدًا.
لم يكن عدم وجودها هو ما أزعجه.. بل ذلك السكون القاتل الذي أوحى إليه بأنها لم تأتِ إلى هنا منذ فترة.. ترى أين ذهبت وما الذي فعلته بنفسها هذه المرة؟
أسرع متوجهًا إلى غرفتها فصدق ما توقعه.. أغراضها لم تكن موجودة بها.. جمعت حقيبتها ورحلت إلى حيث لا يعلم.
كان قد أرسل لها مع عبدالله رصيدها كاملًا على هيئة شيكات منفصلة وقعها كلها باسمها.. فهل ستتخلى عن خوفها المزمن لتنفق منها؟
مجوهراتها التي تلجأ لبيعها من وقت لآخر كلما احتاجت للنقود كادت أن تنفد.. القطع القليلة المتبقية معها لن تسد حاجتها طويلًا.
ليته ترك معها المزيد من صندوق خورشيد.
غرفة الفندق الرخيصة كانت أول ما خطر له فتوجه إليه على الفور.. ولكنها لم تكن هناك.. في كل المناطق حوله لم يجدها.. لم تعد تعمل في كشك عبدالله الذي منحه المالك لمستأجر جديد.
من الجيد كونه يمتلك سيارة الآن.. لم يتوان عن الذهاب إلى ذلك المنتزه المنعزل.. ربما جُنت وذهبت إلى هناك مجددًا.. كانت فكرة غير متوقعة.. ولكنها تمتلك من الطيش ما قد يغريها للذهاب.
في حنين راح يراقب الطرقات والأشجار والمقاعد التي مرا بها تلك الليلة.. ناداها بصوت جهور مِرارًا بلا جدوى.. صنع لنفسه باقة من الزهور الحمراء كتلك التي أهدتها إليه يومها وقدمها لنفسه ساخطًا.
أين ذهبتْ...؟
بات ليلته ساهدًا.. عليه أن يسافر غدًا إلى أمريكا بصحبة جوناثان ولم يعرف مصيرها بعد.. كل ما استطاع أن يعرفه هو أنها سحبت مبلغًا كبيرًا من رصيدها الذي أعاده إليها.. يبدو أنها قررت فعليًا أن تبدأ حياه جديدة لا وجود له فيها.. ربما عليه هو أيضًا أن يتعقل ويحذو حذوها....



noor1984 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:06 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.