آخر 10 مشاركات
دموع بلا خطايا (91) للكاتبة: لين جراهام ....كاملة.. (الكاتـب : *ايمي* - )           »          74 - السر الدفين - ماري ويبرلي - ع.ق (الكاتـب : pink moon - )           »          ألم في الصدر -ج4 من سلسلة نعيم الحب- للكاتبة الرائعة: زهرة سوداء *كاملة & بالروابط* (الكاتـب : قلوب أحلام - )           »          بين نبضة قلب و أخرى *مميزة ومكتملة * (الكاتـب : أغاني الشتاء.. - )           »          شيوخ لا تعترف بالغزل -ج3 من سلسلة أسياد الغرام- لفاتنة الرومانسية: عبير قائد *مكتملة* (الكاتـب : noor1984 - )           »          62 - قل كلمة واحدة - آن ميثر - ع.ق ( مكتبة زهران ) (الكاتـب : pink moon - )           »          ليلة مع زوجها المنسي (166) للكاتبة : Annie West .. كاملة (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          عازب فى المزاد (143) للكاتبة : Jules Bennett .. كاملة مع الرابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          41 - شاطئ العناق - آن ويل - ع.ق (الكاتـب : pink moon - )           »          414 - أحلام على الورق - ميلانى ميلورن (الكاتـب : ^RAYAHEEN^ - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > مـنـتـدى قـلــوب أحـــلام > قـلـوب رومـانـسـيـة زائــرة

Like Tree1Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 15-11-20, 04:28 PM   #1

قلوب أحلام

نجم قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية قلوب أحلام

? العضوٌ??? » 266960
?  التسِجيلٌ » Oct 2012
? مشَارَ?اتْي » 334
?  نُقآطِيْ » قلوب أحلام has a reputation beyond reputeقلوب أحلام has a reputation beyond reputeقلوب أحلام has a reputation beyond reputeقلوب أحلام has a reputation beyond reputeقلوب أحلام has a reputation beyond reputeقلوب أحلام has a reputation beyond reputeقلوب أحلام has a reputation beyond reputeقلوب أحلام has a reputation beyond reputeقلوب أحلام has a reputation beyond reputeقلوب أحلام has a reputation beyond reputeقلوب أحلام has a reputation beyond repute
افتراضي في قبضتي - قلوب أحلام زائرة - للكاتبة::أماني عطا الله *كاملة*




السلام عليكم ورحمة الله وبركاته






كتابة وتأليف::أماني عطا الله
تدقيق ومراجعة لغوية::أماني عطا الله
تصميم الغلاف::noor1984
تصميم الفواصل::Gege86
اشراف::noor1984 & Moor Atia



الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع

الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون (الأخير)



قريباً إن شاء الله




ندى تدى likes this.


التعديل الأخير تم بواسطة Moor Atia ; 27-11-20 الساعة 12:23 AM
قلوب أحلام غير متواجد حالياً  
التوقيع
13th year anniversary celebration- احتفالية تأسيس روايتي الـ13

رد مع اقتباس
قديم 20-11-20, 04:55 PM   #2

noor1984

مشرفة منتدى قلوب احلام وأقسام الروايات الرومانسية المترجمةوقصر الكتابة الخياليّةوكاتبة،مصممة متألقة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية noor1984

? العضوٌ??? » 309884
?  التسِجيلٌ » Jan 2014
? مشَارَ?اتْي » 23,038
?  نُقآطِيْ » noor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond repute
افتراضي


أمنية تحت المطر


غنيتُ بكيتُ رقصتُ فانظـــــريني
في قلبي زرعتِ حلمًا يرويه يقيني
لبّي دعــــــــــوتي منّي واغمريني
لن أكفرَ بالأمــــــلِ حتى تسمعيني

أماني عطاالله





noor1984 غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 20-11-20, 04:56 PM   #3

noor1984

مشرفة منتدى قلوب احلام وأقسام الروايات الرومانسية المترجمةوقصر الكتابة الخياليّةوكاتبة،مصممة متألقة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية noor1984

? العضوٌ??? » 309884
?  التسِجيلٌ » Jan 2014
? مشَارَ?اتْي » 23,038
?  نُقآطِيْ » noor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond repute
افتراضي




-1-
أطلق العم فتحي صيحة انتصار واسعة.. فقد نجح أخيرًا في إشعال قطع الخشب المتمردة وإجبارها على التوهج لبث الدفء في غرفته الصغيرة الباردة.. جلس قبالتها وراح يفرك كفيه معًا مستمتعًا بعناق الحرارة التي سرت في أوصاله المتجمدة.
ولكن أين باسل..؟
هتف يناديه فلم يستجب.. كرر نداءه بصوت أعلى فأجابه الصمت مُجددًا.. أيعقل أن يكون قد ذهب وسط هذا الطقس العاصف.. هكذا بين الأمطار الرعدية الغزيرة.. لا شك في كونه قد جُن بالفعل هذه المرة..؟!
تطلع إلى النار أمامه وحرك رأسه في أسى قبل أن ينهض مُرغمًا للبحث عنه.. فتح الباب فرآه واقفًا تحت المطر المُنهمر وقد رفع وجهه نحو السماء وبسط ذراعيه إليها متمتمًا بدعاء خافت لم يصل مسامعه.
صاح مُندهشًا وهو يلتصق بجدار الغرفة مُحتميًا بسقفها من البلل:
- باسل.. ماذا تفعل يا ولدي؟
هتف باسل دون أن يستدير إليه:
- سمعت أن أبواب السماء تُفتح مع سقوط المطر.. سوف أسألها أمنياتي وأحلامي ربما تسمعها وتلبيها هذه المرة.
- السماء مفتوحة كل الوقت أيها الأحمق.. تعالَ الآن.. سوف تُصاب بالتهاب رئوي إن بقيت على هذه الحال مدة أطول.
أجابه بعصبية قلما انتابته:
- لكنها لم تستجب لي من قبل.. دعوتها آلاف المرات ولم تلتفت لي ولو مرة واحدة منها.
تحرك الرجل ساخطًا ليمسك به ويجذبه إلى الداخل عنوة.. أزاحه بقوة لا تتناسب مع سنه الذي تجاوز الستين قبل أن يغلق الباب قائلًا:
- يبدو أنكَ جننت بالفعل..!
أطلق باسل تنهيدة طويلة وتطلع إليه في مرارة صامتًا.. ما الذي يمنعه من الجنون وكل ما يحيط به يدفعه إليه دفعًا.. ليس مُتشائمًا بطبعه.. لم يولد يائسًا.. ولكنهم من يغتالون أحلامه ما إن تصل ذروتها.. يزرعونها في أعماقه ويتركونها لتنمو وتزهر وما إن يمد يده ليحصدها حتى يقتلعوها من جذورها ويلقوا بها عبثًا في أنانية واستهانة.. يتركونها لتجف وتتيبس ثم يدفنونها بأحذيتهم القذرة وكأنها لم تكن.
ربت الرجل على كتفه قائلًا:
- اخلع عنكَ هذه الملابس قبل أن تُصاب بالمرض.
بقى كالصنم بلا حراك فما كان من الرجل إلا أن راح ينتزعها عنه بنفسه.. أحضر منشفة وراح يجفف بها عضلاته المفتولة من حديد وهو يثرثر في مسامعه بعشرات الكلمات المشجعة.. من حقه أن يغضب فهو الأجدر بالفعل على المنافسة.. ولكن ليس إلى الحد الذي يجعله يؤذي نفسه.. أين ذهبت روح المقاومة التي لطالما تحلى بها؟!
- يا إلهي.. لقد بللك المطر حتى النخاع.. اجلس بجوار هذه النار ريثما أجد لكَ شيئاً ترتديه.
- النار بداخلي تكفيني.
ابتسم فتحي في مواساة قائلًا:
- عندما تدير لكَ الدنيا ظهرها تجاهلها حتى ترضى عنك من تلقاء نفسها.. لا تحاول تملقها.
ابتسم باسل ساخرًا فأردف الرجل بنبرة الخبير:
- الدنيا كالنساء يا ولدي كلما زدتهن عشقًا وأظهرت لهن اهتمامًا.. كلما ازددن عليكَ دلالًا وأظهرن لكَ قسوة واستبدادًا.
تنهد باسل في ألم قائلًا:
- ليتها كانت كالنساء.. أنتَ تعرف أن لا سلطان لهن عليَ.
قهقه فتحي قائلًا:
- نعم.. عشقهن هو الشيء الوحيد الذي لم تتعلمه مني.. ومن الجيد أنكَ لم تفعل.
كان قد نبش خزانته وقلبها كلها رأسًا على عقب حتى عاد إليه بجلباب كبير يملكه منذ زمن.. يوم كان أشد عودًا مما هو عليه الآن.
- ارتدِ هذا حتى تجف ملابسك.
ضحك باسل ضحكة قصيرة وهو يتطلع إلى الجلباب قائلًا:
- لا أظنه سوف يناسبني.. فهو بالكاد يغطي ركبتي.
- لا تجادلني يا ولد.
- لا تريد أن تُصدق أنني أصبحتُ أطول منكَ قامة.
ابتسم فتحي وهو يتأمله في حنان.. لايزال يتذكر المرة الأولى التي رآه فيها.. يوم تسلق سور حديقة هذا القصر مع رفاقه ووقعوا أسرى بين يديه.. كان تلميذًا في الثالثة عشرة من عمره.. شيطانًا صغيرًا مُحبًا للمغامرة.. اعترف له يومها بأنه هو من أقنع رفاقه بالمجيء إلى هنا وتسلق السور لرؤية قصر الأساطير هذا.. سمعوا كثيرًا عنه وأرادوا أن يروا ما سمعوا عنه بأعينهم.
جذب انتباهه حينها ذلك التناقض الكبير بين صلابته وهشاشة رفاقه.. كادوا يموتون خوفًا من عصاه التي هددهم بها وبندقيته المُعلقة خلف ظهره.. بينما وقف هو يرمقه كشبل صغير دون أن يهتز له جفن.. كان اسمًا على مسمى.. يعرف معنى اسمه ويعيش به.
كمنت شجاعته بالأكثر في اعتذاره نيابة عن كل زملائه وتحمله المسئولية كاملة.. وإن ظل رغم ذلك مُتشبثًا برغبته في مشاهدة معالم القصر..!
نال إعجاب العم فتحي حارس القصر العتيق فقرر مكافأته على جرأته حتى في الاعتذار وسمح له بجولة استكشافية بين معالمه.. وكذلك سمح لرفاقه أيضًا إكرامًا له.
اعتاد بعدها على زيارته من وقت لآخر.. ليس طمعًا في مشاهدة المزيد من معالم القصر.. فقد اكتفى منها.. بل كان يأتي خصيصًا لرؤيته.. صداقة عجيبة توطدت بين الرجل الأربعيني فارع الطول ضخم الجثة وذلك الفتى الصغير الواعد..!
فتحي الذى تزوج ثلاث مرات ولم يرزق بنين قط.. وكأنه وجد فيه ضالته.. قرر أن يعلّمه جميع فنون القتال التي يعرفها.. بل وطلب من متخصصين تجمعه بهم علاقة ودٍ وإخاء وتبادل منفعة.. أن يهتموا بتدريبه ويزيدوه فنونًا لم يتمكن هو من تعلمها في حداثته.. هكذا أراد لولده أن يكون.
الأوقات التي كان يمضيها باسل معه فاقت تلك التي كان يمضيها بين والديه وأسرته.. تعلم منه ما لم يتعلمه منهم.. عشق فنون القتال وأدمنها حتى اتخذ قراره بأن يحترفه مُستقبلًا.. والعم فتحي شجعه بدوره على ذلك.. مضت الأعوام كالسهم وهو يراقب بزهو وفخر كل إنش جديد يضاف طولًا وعرضًا إلى فتاه العزيز.. واليوم صار عملاقًا يمتلك بنية عضلية هائلة قلما تتكرر.
نعم.. كان هو الأحق بالانضمام لتلك المسابقة وليس ذلك السفيه الذي اختاره شفيق ليحل بديلًا عنه.. فقط لأن والده عمل مدربًا من قبل.. شفيق.. الوغد الحاقد الذي تولى تدريبه خلال الخمس سنوات الأخيرة.
كثيرًا ما راوده إحساس مبهم بأن شفيق يُغار من باسل ويحسده على تفرده وقدراته الكامنة.. كان يتعمد أن يُشركه في مسابقات محلية وودية لا جدوى منها حتى يضمن أن يستنزف قواه ويستنفدها قبل موعد المسابقة الدولية المُقررة كل عام.. عندما تحدث مع باسل حول مخاوفه وظنونه بشأنه وجد أنه يحمل الظنون ذاتها لكنه يخشى الإفصاح بما يعتمل في نفسه.
رفض بعدها بإصرار دخول أية مسابقات يقترحها شفيق عليه قبل تقديم أوراقه لمسابقة المصارعة الحرة التي ستقام هذا العام في دولة جنوب أفريقيا.. ضاعف من مرانه وتدريبه حتى يُقنع شفيق بأحقيته وجدارته للترشح.. لكن ذلك الخنزير أصر بدوره على خذلانه مُجددًا واختار ابن مدرب زميله ليرشحه بدلًا منه.
تنهد بضيق قبل أن يتصنع ابتسامة ويهتف في مرح علّه يجذب باسل من شروده وعنف أفكاره:
- ماذا طلبتَ من السماء؟
- طلبتُ نقودًا.. نقودًا كثيرة.. تمكنني من الاشتراك في المسابقة دون الحاجة إلى شفيق وأمثاله.
- كم تريد؟
- ما أريده لن أحصل عليه أبدًا مادمتُ أعمل مندوبًا لشركات الدعاية.. ما أكسبه من هذه الشركات بالكاد يكفي متطلباتي اليومية.
تنهد الرجل وهز رأسه في تفهم قبل أن ينهض ويتجه إلى خزانته من جديد.. عاد إليه هذه المرة يحمل كيسًا من القماش الأسود فتحه وأخرج منه مبلغًا من المال كان كبيرًا إلى حد ما.. قدمه له قائلًا:
- خُذه يا ولدي وحقق حلمك.
- مُستحيل.
- أليس هذا ما دعوتَ السماء من أجله منذ قليل؟
- لم أكن أقصد أن أسلبك ما أدخرته للزمن.
- أنا على يقين من أنك ستعوضني عنه أضعافًا عندما تفوز بتلك المسابقة وتصبح بطلًا عظيمًا.
- وماذا لو لم أفز بها؟
- لا تكن مُتشائمًا.. سوف تفوز.. ثق أنكَ الأفضل.
- لا تتعب نفسك.. لن آخذ مالكَ أبدًا.
- اطمئن يا ولدي.. الزمن لا يغدر بالطيبين.
- بل هم أكثر من يغدر بهم.
- يبدو أنكَ لا تعتبرني أبًا لكَ كما أعتبرك أنا ابنًا لي.. لستُ غاليًا لديكَ بما يكفي كما كنتُ أظن.
- أنتَ أغلى كثيرًا مما تظن.. لهذا لن أعرضك للحاجة في شيخوختك.
هم الرجل بالاعتراض مُجددًا عندما سمعا هدير محرك سيارة تقترب من القصر وما لبث أحدهم أن طرق البوابة الحديدية في عنف كاد معه أن يحطمها.. أخفى الرجل نقوده وأمسك بندقيته استعدادًا لمهاجمة اللصوص ومنعهم من السطو على القصر.. خلع باسل جلبابه الهزلي وأسرع يتبعه كمارد ضخم.. كان يعلم أن رؤيته وحدها كفيلة بإثارة رهبتهم.
ما إن تحقق فتحي من شخصية زائره غير المتوقعة حتى تحولت لهجته الخشنة الموبخة إلى تهذيب وتبجيل.. بل وخوف أيضًا.
كان قد رآه من قبل مرات معدودة.. فهو لا يأتي إلى هنا كثيرًا رغم كونه اشترى القصر منذ ما يقرب من أربع سنوات.. مصطفى خورشيد.. لا شك في كونه أتى هاربًا من كارثة جديدة.. أيام قليلة سيختبئ فيها هنا قبل أن يعود من حيث أتى.
غمغم وهو يفتح البوابة وينحني احترامًا لخورشيد الذي صعد ساخطًا إلى سيارته مجددًا:
- عذرًا يا سيدي.."العتب على النظر"
هتفت المرأة الشابة التي تجلس بجواره خلف عجلة القيادة:
- يبدو أنكَ شخت ولم تعد تصلح للعمل هنا.
كاد باسل أن يتفوه مُعترضًا لولا فتحي الذي نظر إليه في رجاء كيلا يفعل قبل أن يغمغم موجهًا حديثه الواهن للفتاة:
- خطأ غير مقصود يا سيدتي.. كنتُ فقط أحاول حماية القصر.. ظننتُ أن لصوصـ....
رفعت المرأة رأسها في كبرياء وقاطعته ساخطة:
- كفى ثرثرة وافسح الطريق.
ابتلع فتحي ريقه مُبتسمًا وانزاح جانبًا لتتمكن من عبور البوابة بالسيارة.. ما كادت تبتعد أمتارًا قليلة حتى توقفت من جديد وتقهقرت عائدة بسيارتها إلى حيث وقف فتحي مُرتعدًا بجوار باسل.
تحدث الرجل للمرة الأولى ووجه حديثه إلى فتحي بينما تعلقت نظراته بجسد الفتى الضخم:
- من هذا؟
تجولت عينا فتحى بينهما في بلاهة قبل أن يستوعب سؤاله.. فأجابه مُرتبكًا:
- هذا باسل.. ابن أخي.. يأتي لزيارتي والاطمئنان عليَّ من حين لآخر.
سادت فترة من الصمت تفحص خلالها خورشيد باسل من رأسه حتى أخمص قدميه.. قال أخيرًا موجهًا حديثه إلى باسل هذه المرة:
- ماذا تعمل لتكسب عيشك؟
أجابه باسل في تحدٍ:
- أنا مُصارع.
- مصارع..!
- سأصبح كذلك عما قريب.
- وماذا عن الوقت الحالي؟
قطب باسل حاجبيه مُفكرًا.. كاد أن يخبره عن عمله مندوبًا لشركات الدعاية ولكنه توقف في اللحظة الأخيرة.. تنبه إلى خورشيد عندما أردف:
- ما رأيك في العمل عندي؟
- ماذا سأعمل؟
- سأدفع لكَ عشرة آلاف جنيه شهريًا.
اتسعت عينا باسل في صدمة بينما ابتسم خورشيد بانتصار وهو يشير له نحو باب السيارة الخلفي قائلًا:
- اصعد.
تحرك آليًا لينفذ الأمر عندما تنبه لقبضة فتحي التي أمسكت بذراعه مُتغاضيًا عن نظرات خورشيد النارية التي وجهها نحوه.. ابتسم باسل وهو يتطلع إليه بسعادة قائلًا:
- يبدو أن السماء قد استجابت لي أخيرًا.
غمغم فتحي غير مبالٍ بوعيد خورشيد وتهديده الصامت:
- كلا.. لا تفعل يا ولدي.
- الرجل يتحدث عن عشرة آلاف جنيه شهريًا..!
فتح فتحي فمه ليعترض لولا نظرات خورشيد التي نجحت في إخراسه هذه المرة فأحنى رأسه عاجزًا.. ربت باسل على ذراعه مُطمئنًا قبل أن يجلس بجوار المرأة الخمسينية في المقعد الخلفي للسيارة.
في شهامة اعتادها منذ صغره راح يساعد المرأة المسنة في حمل الحقائب الثقيلة لنقلها إلى غرف الطابق العلوي غير عابئ بنظرات خورشيد وتلك الأخرى إليه.. كان الأجدر بهما أن يفعلا ما يفعله هو الآن مهما بلغ ثراؤهما.. حتى وإن كانت هذه المرأة خادمة.. فهي إنسانة قبل أي شيء آخر.. ولكن يبدو أن مخدومه الجديد لا يعرف الرحمة.. ربما كان هذا سبب تخوف العم فتحي واعتراضه على العمل في خدمته رغم الراتب الكبير.
انتهى أخيرًا من مهمته ووقف في مواجتهما صامتًا.. لم تكن المرة الأولى التي يرى فيها محتويات القصر ودواخله.. كان قد شاهده مرات بصحبة فتحي من قبل ولكنه عاد يتفحصها من جديد في انتظار ما سيوجهه إليه خورشيد من عمل.
أخيرًا وجه خورشيد حديثه إلى رفيقته قائلًا:
- ما رأيك يا حبيبتي؟
ابتسمت المرأة التي شعر بأنه يكرهها قبل أن يعرفها قائلة:
- جسده ضخم بشكل أصابني بالفزع.
قهقه خورشيد وهو يتطلع بدوره إلى جسد باسل قائلًا:
- وهذا ما أريده.
اقتربت لتلتصق به في دلال قائلة:
- أن تثير فزعي..!
ابتسم وهو يقبل وجنتها قائلًا:
- بل فزع أعدائك يا حبيبتي.
تصلب باسل عندما اقتربت الفتاة منه وراحت في وقاحة تتحسس جسده العاري دون أن يهتز لها جفن.. وكأنها تعاين عبدًا سوف تشتريه بعد قليل..!
كانت قبضتها تقبع فوق عضلات صدره عندما قالت في نبرة ضاعفت إحساسه بالمهانة:
- معكَ حق.. سوف أقتنيه.
شعر بغصة في حلقه وهو يبتلع ريقه ومهانته معًا.. لا بأس في أن يحيا عبدًا لعام آخر.. المبلغ الضخم الذي سيدفعه له هذا الثري الجاحد سوف يجعله حُرًا للأبد فيما بعد.. نعم.. هذا العام سيكون ثمنًا يشتري به نفسه لاحقًا.
- ما اسمك؟
تنبه إلى سؤالها.. كانت لاتزال تضع يدها فوق صدره.. جاهد ليبدو صوته طبيعيًا حين أجابها:
- باسل.
- باسل.. أرجو أن تكون بالفعل أشجع ممن سبقوك.
ربت خورشيد على كتفها وقال مواسيًا:
- انسي أمرهم يا حبيبتي.. فقد نالوا ما يستحقونه.
شي ما فى حديثهما أثار قلقه.. عاد إلى مخيلته وجه فتحي المرتعد وكلماته المحذرة.. أحاديثه القليلة عن خورشيد طيلة السنوات الماضية.. وكأنه كان يتجنب الحديث عنه.. لم يكن من عادات العم فتحي الاقتضاب معه في الحديث عن أحد.. فلماذا جعل من خورشيد وطبيعة عمله سرًا لم يكشفه له..؟
- خُذيه إلى غرفة الملابس القديمة ودعيه ينتقي منها شيئًا يناسبه.
قالها خورشيد موجهًا حديثه إلى الخادمة المسنة التي عادت لتتلقى منه المزيد من التعليمات.. أشارت له المرأة ليتبعها ففعل دون تردد.. كان في حاجة إلى الاختلاء بنفسه لبعض الوقت حتى يستوعب تلك المستجدات كلها دفعة واحدة.. يبدو أن الأمر ليس ورديًا كما كان يعتقد.. لم يكن العم فتحي ليصاب بكل ذلك الفزع الذي غطى ملامحه لو كان كذلك.
- أنتَ أيها الخرتيت الضخم...
استدار في حدة إلى المستفزة التي استوقفته.. ولكنها أردفت في مزيد من الغضب غير عابئة به:
- كيف تجرؤ على التحرك دون إذن مني بذلك.. ستكون حارسي الشخصي.. حذار أن تفعلها مرة أخرى.
أحنى رأسه صامتًا ولكنها تابعت في مزيد من القسوة:
- لولا حاجتي المُلحة إليكَ هذه الأيام.. ولولا يقيني بعدم وجود غبي مثلك بسهولة لتركتك تموت بردًا وألقيتُ بكَ في أقرب بركة للصرف الصحي.
زمجر بصوت لم يغادرحنجرته.. لم يرفع وجهه إليها وهو يتساءل في شك.. كيف سيتحمل مخلوقة مثلها سنة كاملة.. هل عليه حمايتها حقًا؟ كيف سيفعل وهو يتمنى أن يقتلها بنفسه لو تمكن من ذلك؟!
عاد صوتها يطن في أذنيه مجددًا:
- اغرب عن وجهي الآن.. وحذار أن تتأخر.





التعديل الأخير تم بواسطة Moor Atia ; 27-11-20 الساعة 12:06 AM
noor1984 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-11-20, 04:57 PM   #4

noor1984

مشرفة منتدى قلوب احلام وأقسام الروايات الرومانسية المترجمةوقصر الكتابة الخياليّةوكاتبة،مصممة متألقة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية noor1984

? العضوٌ??? » 309884
?  التسِجيلٌ » Jan 2014
? مشَارَ?اتْي » 23,038
?  نُقآطِيْ » noor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond repute
افتراضي



عبدٌ لعام واحد



تدللي يا دنيتي.. تجـَـــــــــبري تملّكي
تغزلي في نكبتي.. بحـــالتي لا تشفقي
عبدٌ أنا ملكٌ لكِ.. لكنني ســـــــــأرتقي
وعدٌ بصبري أشتريكِ فاستعدي واقلقي

أماني عطاالله


-2-
افترش مُرغمًا الأغطية التي وضِعت له بأمر منها أمام باب غرفتها.. تلك البشعة تجعل من عبوديته همًا لا يحتمل.. لو أنها أتت بكلب لحراستها لكانت عاملته أفضل مما تعامله هو الآدمي.. لاحترمت ما له من حقوق قبل أن تطالبه بتلبية ما عليه من واجبات.
فهي حتى لم تفكر في إطعامه رغم الطقس القارص.. وكأنها تتمعن في تجويعه حتى يلتهم كل من يقترب منها.. لولا تلك الوجبة الخفيفة التي أحضرتها له الخادمة إشفاقًا لظل يتضور جوعاً لوقت لا يعلم مداه غير الله.
أطرافه المتجمدة حرمته النوم رغم إرهاقه فراح يتقلب مُتذمرًا فوق الأرضية الصلبة.. كل البطاطين التي أحضرتها فوزية ووضعتها تحته.. ربما ردًا لجميله معها.. لم تخفف من قسوتها كثيرًا.
جلس متأففًا وراح يدلك أصابعه أملًا في بث الدفء فيها بلا جدوى.. أخذه الحنين إلى النار التي أشعلها العم فتحي ودعاه إليها فرفضها في لحظة طيش.. أين هي الآن وسوف يعتذر لها حتى تتقبل منه؟
وكأن تذكره لصديقه العجوز كان شفيعًا كافيًا.. ابتسم لموجة الدفء التي سرت فجأة بين عروقه.. تمتم بالشكر للعم فتحي ولقسماته الحانية العطوفة.. الرجل الذي أحبه وأغدق عليه من الرعاية والتدليل ما لم يفعله والده من أجله.
استرخى من جديد وأطلق أفكاره باتجاه آخر.. لماذا لا تبيت هذه المتوحشة بجوار خورشيد في غرفة واحدة..؟!
يبدو أنه لا يثق بها كما يجب.. وكيف يفعل..؟! ربما كان يخشى أن تستغل فترات نومه أو عدم تواجده معها في الغرفة للتجسس على أشياءه الهامة والعبث بأوراقه التي لا يريد أن يطلع عليها سواه.. رجل مُحنك مثله لابد وأنه يعلم بكونها تعاشره من أجل ماله ليس إلا.. من الحماقة أن يعتقد أنها فضلته عن غيره عشقًا لشخصه رغم فارق العمر الواضح بينهما.
أخيرًا.. تثاءب في كسل وأغمض عينيه مُمنيًا نفسه بوصلة من النوم الهادئ تحمله حتى الصباح.. يكفيه وجودها كابوسًا يعيشه النهار كله.
استيقظ فزِعًا على ركلة حادة في معدته.. تبتعها نبرات أكثر حدة:
- انهض أيها الثور.. قد انتصف النهار.
اعتقده كابوسًا في بادئ الأمر.. ولكنه لم يكن كذلك.. كان حقيقة أبشع.. نهض مُتألمًا يقاوم رغبة ملحة في قذف وجهها بحذائها ذي الكعب المسمارى حتى يثقبه ثقبًا لا يصلح تجبيره قبل أن يكسر ساقها التي ركلته بها.. لو كان الأمر بيده لمزق جسدها قطعًا لا تُعد ولا تُحصى ليلقي بها لكلاب السكك الجائعة.
- لا تصمت هكذا.
قالتها وكأنها قرأت أفكاره السوداء بشأنها.. شعر ببعض العزاء أغراه لكي يغمغم في اعتذار لا يشعر به:
- معذرة.. انتابني الأرق لفترة طويلة ليلة أمس.
- أرق..أي أرق هذا..؟! كنتَ نائمًا كالميت.. لو داسك دخيل بدبابة لما شعرتَ به.. من المفترض أنكَ هنا لحراستي أيها المتخلف.. كان عليكَ أن تسهر الليل بطوله وأن تكون أكثر يقظة وحيطة لا أن تنام ملء جفنيك حتى تتعفن.
تطلع إليها بنظرات لطالما أرعبت شفيق وأجبرته على تبديل معاملته الخشنة معه.. ولكن لحيرته لم تؤثر فيها بلعادت تصرخ في استبداد وهي تشير بغطرسة إلى الأغطية التي توسدها قائلة:
- هيا أيها الكسول.. لملم هذه القمامة واتبعني إلى الطابق الأرضي.
انحنى يجمع الأغطية وما إن ابتعدت حتى ألقى بها في إثرها ساخطًا.. فلتذهب هذه البشعة بأموالها إلى الجحيم.. فهو لم يعد يحتمل جنونها وهمجيتها.. سوف يخبر خورشيد عن تراجعه في قبول الوظيفة.
يمكن لحلمه أن ينتظر لعام آخر.. ولكن كيف هذا وهو على مشارف الثلاثين من العمر.. أمامه عام واحد لا ثاني له..؟!
جلست بجوار خورشيد حول مائدة طويلة تصلح لإطعام قافلة بكاملها.. في ميوعة تناقض خشونتها معه أجابت أحاديث خورشيد وهمساته الخافتة لها.. أغمض عينيه بصبر نافد عندما قذفته فجأة ببيضة مسلوقة أصابت جبهته.
قهقه خورشيد في مرح غير عابئ باستيائه وغضبه قبل أن يتوقف عن الضحك فجأة قائلاً في شي من الوحشية:
- لا تقف كالصنم.. انحنِ وتناول هدية سيدتك.
- هدية..!
- نعم.. من المفترض أنكَ جائع ولم تتناول شيئًا منذ أمس.
حول عينيه إلى الخادمة وأردف مُحذرًا:
- أم أن فوزية أطعمتك دون إذن مني..؟
أحنت الخادمة رأسها في خوف فما كان من باسل إلا أن التقط البيضة من بين أقدامه ووضعها في فمه ليلتهما في بلعة واحدة.. ابتسم خورشيد في رضا قبل أن يلتفت إلى شيطانته الصغيرة ويسحبها إلى غرفته.
مضى بعض الوقت استغله في تناول طعامه الذي قدمته له فوزية بمطبخ القصر.. العبارات المقتضبة التي أجابت بها الخادمة الخبيثة تساؤلاته لم تشبع فضوله.. ليست مُسنة ضعيفة كما تخيلها.. يبدو أنها تعمل لدى خورشيد منذ زمن وجديرة حقًا بثقته بها.. يكفي أنها الوحيدة التي أحضرها معه إلى هنا دون غيرها.
بالكاد كملت الساعة قبل أن تعود بثورتها لتؤرقه مُجددًا.. ترك كوب الشاي في منتصفه ونهض ليلبي أوامرها التي لا تنتهي.. معذور خورشيد إن كان قد طردها من عشه أبكر من المعتاد.. امرأة لا تحتمل فما الذي يغريه فيها..؟!
- هيا سوف نذهب في نزهة.
تبعها ساخطًا ولم يعلق.. الحذاء عالي الرقبة الذي انتعلته أسفل تنورتها القصيرة ضاعف من شعوره بالبرد بينما تحركت هي في حيوية وطاقة ربيعية أدهشته.
انحنى العم فتحي ليمهد الطريق ويفتح لها بوابة الخروج.. سرعتها الجنونية في القيادة أصابته ببعض الخوف فسقط أرضًا.. ضحكت في تسلية بينما هم باسل بفتح الباب للاطمئنان عليه فزجرته في عنف قائلة:
- حذار أن تفعل.
- الرجل قد يكون مُصابًا.
- لا شأن لكَ.
- كيف هذا..؟ لقد سقط بسببك.
- لا تجادلني.
توقف عن مجادلتها بالفعل ولكنه فتح الباب وأسرع يغادر السيارة إلى حيث استلقى فتحي مُمسكًا بساقه في ألم.. ما إن رآه الرجل حتى جلس مُتحاملًا وتصنع ابتسامة قائلًا:
- باسل ولدي.. كيف حالك؟
- هل أُصبت؟
- كلا.. اطمئن.. أنا بخير.
كان مُنحنيًا فوقه عندما ركلت ظهره بعنف قائلة:
- كيف تجرأتَ وعصيتَ أوامري أيها الخرتيت القذر.. سوف تندم.
تماسك بصعوبة كيلا يسقط بجسده الضخم فوق الرجل المسن فيزيده ألمًا.. نهض بعدها متقدمًا منها في جنون أرعبها هذه المرة فتراجعت للخلف خطوات قبل أن تهتف صارخة:
- لا تقترب أكثر.. سوف يقتلك خورشيد إن فعلت.
استمر في تقدمه منها ثائرًا غير مهتم بتهديدها لولا فتحي الذي أمسك بكتفيه وأداره نحوه قائلًا في نبرة متوسلة:
- اهدأ يا ولدي.. الأمر لا يستحق كل هذا الغضب.. أنتَ تعمل لديها وما كان يجب أن تعصي أوامرها أبدًا.
جاهد للتملص من بين يدي فتحي بينما استغلت هي الفرصة وأسرعت إلى سيارتها عائدة بها إلى داخل القصر وهي تصيح فيه متوعدة.
تابعها كلاهما بعينيه حتى ابتعدت فاستدار فتحي إلى باسل قائلًا في قلق أقرب للرعب:
- اهرب يا ولدي.
- هي المخطئة.
- خورشيد لن يقر بهذا أبدًا.
- ماذا تمثل له هذه المرأة؟
- لستُ أدري.. ولكنها الوحيدة التي يحضرها معه كلما أتى إلى هنا.
عاد يزيحه نحو البوابة قائلًا:
- والآن هيا.. لا تضيع الوقت.
- لن أهرب يا عم فتحي.. ولن أخضع لهما بعد اليوم.. سوف أستقيل من هذه الوظيفة.
- الأمر ليس بالسهولة التي تتخيلها.
- أبسط حقوقي..!
- خورشيد هذا مجرم.. رأيته بعيني وهو يعذب أحدهم بمساعدة بعض رجاله قبل أن يحملوه شبه ميت إلى خارج القصر.. ولم أره مجددًا.
- ماذا يعمل خورشيد هذا؟
- لا أدري بالضبط.. ولكن من خلال العبارات التي تلتقطها أذناي مصادفة كلما تحدث أحدهم أمامي.. أستطيع أن أجزم بأن أعماله كلها قذرة وليست مشروعة.
تنهد باسل في مرارة ينعي بها حظه العاثر.. يبدو أن أحواله لن تتحسن أبدًا.. تسمر في مكانه كالجبل رغم محاولات فتحي المستميتة لدفعه خارج بوابة القصر وإجباره على الهرب.. غمغم أخيرًا:
- كفى يا عم فتحي.. أنتَ تعلم بأنه لن يتركني إن أراد ملاحقتي.. بل لن يتركك أنتَ أيضًا حتى تدله على مكاني.. وقد يقتلك إن لم تخبره به حتى ولو كنتَ لا تعرفه.
عض الرجل على شفتيه في عجز قبل أن يحتضنه بقوة وكأنه يرغب في إخفائه بين ضلوعه عله يحميه من ذلك الطاغية.. سيضطر حينها إلى قتله هو أولًا إن أراد الوصول إليه.
ربت باسل على ظهره مُشجعًا قبل أن يبتعد عنه ببطء ليراقب سيارتها التي عادت للاقتراب منهما مُجددًا.. ترجل منها خورشيد هذه المرة وتقدم نحوه شاهرًا مسدسه في وجهه صارخًا بغضب:
- هل تظن بأنكَ ستهرب مني؟
- لم أفعل جريمة لأهرب منها.
لكمه خورشيد بمسدسه في أنفه حتى أدماه وهو يعاود صراخه ثائرًا:
- أيها الخرتيت القذر.. كيف تجرؤ على عصيان سيدتك.. وظفتك لحمايتها لا لإرهابها أيها المتوحش.
وقف فتحي بجسده أمام جسد باسل محاولًا صد عدوانية خورشيد عنه.. وقال متوسلًا:
- اصفح عنه هذه المرة يا سيدي.. وأنا أعدك بأنه لن يكررها.
- ومن قال أنني في حاجة إلى وعودك.. أنا على يقين بأنه لن يكررها حتى ولو اضطررت لقتله.. ابتعد أنتَ.
حاول الرجل التحرك ولكن قدماه لم تطعه فأزاحه باسل في لطف كيلا يتأذى هامسًا في مواساة:
- لا تخف يا عم فتحي.. سأكون بخير.
عاد خورشيد ليلكمه بطرف مسدسه من جديد ليدمي فكه هذه المرة فـصرخ فتحي
وهو يلتصق به مُجددًا:
- الرحمة يا خورشيد بك.
لم يلتفت خورشيد إليه بل أزاحه بعنف أسقطه أرضًا وما لبث أن أمسك بياقة باسل في شراسة وهو يشير إلى نانا لتخرج من السيارة وتقترب منه.
تقدمت الأخيرة وهي تتطلع إلى باسل في تشف حتى أغمض عينيه هربًا من رؤيتها وتلك الشماتة تطل من عينيها.. سألها خورشيد في غطرسة:
- قرري أنتِ ما الذي تريدين مني أن أفعله به.
تطلعت إليه في غيظ وهتفت ساخطة:
- للأسف أنا في حاجة إليه حاليًا.
- لن نقتله الآن إذًا.. كل ما علينا فعله هو ترويضه مؤقتًا.
جاهد ليزيح باسل نحوها وهو يحذره قائلًا:
- أية محاولة للتعرض لها سأقتلك.. بعد أن أقتل عمك هذا أولًا.
تطلع باسل إلى فتحي في فزع بينما وجه خورشيد حديثه إليها قائلًا:
- نانا حبيبتي.. هو لكِ.. افعلي ما شئتِ به.
كقطة شرسة غرست أظافرها بطول وجنتيه تشرحهما تشريحًا مُستمتعة برؤية دمائه التي انهمرت منهما.. وكأن سماع صوت أناته الخافتة التي لم يستطع كبحها ألمًا يطربها.. توالت صفعاتها بعدها فوق وجهه لتبثه المزيد من الألم والاشتعال.
بكى فتحى قهرًا ولكنه لم يجرؤ على الاقتراب منه أو الدفاع عنه.. من الجيد كونهما في حاجة إليه.. فهذا سيمنحه فرصة أخرى للنجاة.
أكتفت أخيرًا وقالت في انتصار:
- افتح عينيكَ أيها الخرتيت واحفظ ملامحي جيدًا.
ما إن فعلها حتى استدارت تتطلع إلى خورشيد في ذعر فـنزع الأخير صمام الأمان من مسدسه وأشار لها مُشجعًا.. فنظرت إلى باسل في تحدٍ وهي تضغط على أسنانها قائلة:
- لازلتَ وقحًا إذًا....
عادت تصفعه بعنف أرهقها قبل أن يرهقه.. هتفت بعد فترة:
- لو لم يكن شكلك مُشوهًا سيقززني لاقتلعت عينيكَ حتى تكف عن النظر لي بهذه الطريقة.
أمسك خورشيد بشعره في قسوة كاد معها أن يخلعه من جذوره قبل أن يغمغم بصوته المميت:
- عندما تتحدث إلى نانا هانم مُستقبلًا.. حذار أن ترفع عينيك عن نعليها.. هل كلامي واضح أم أصيغه لكَ بطريقة أوضح؟
توقفت عينا باسل الشاردة على وجه فتحي الذي استكان أرضًا حيث قذف به خورشيد منذ قليل.. وجهه المبلل بالدموع وعيناه المحترقة أثر دموعه الحارة.. حثاه في صمت على المزيد من الصبر والعطاء.. إن كان قادرًا على تحمل تعذيب هذا المجرم له فهو على يقين بأنه لن يتحمل تعذيبه للعم فتحي.. سنه لن يسمح له بالصمود طويلًا.
أحنى رأسه مُستسلمًا بينما تمادى خورشيد في استفزازه قائلًا بلهجة آمرة:
- والآن هيا.. انحني لتقبل نعلي سيدتك.
تسمر للحظة مذهولًا.. لم يتخيل أبدًا أن يتعرض لاستبداد كهذا الذي يتعرض له الآن مهما كانت مبرراته.. ها هو يعيش العبودية بكل طقوسها المخزية.. مُستحيل.. وماذا بعد..؟
حتى عندما تخيل العم فتحي قتيلًا برصاص ذلك المجرم متحجر القلب والضمير.. مُداسًا تحت نعليها يلثم الثرى.. ظل ما يأمره به فوق طاقته.. كلا.. لن يمكنه أن يفعلها مهما تفاقمت مخاوفه وتعاظمت ظنونه..!
لماذا اختار العم فتحي لينتقم منه..؟ لماذا لم يهدد بقتله هو مباشرة فيستريح ويريحه من معاناته وعذابه؟
أنقذته هي من تمزقه بين كرامته وخوفه عندما هتفت بغطرسة:
- كلا.. لا داعي لذلك.. سوف يُفسد حذائي بلعابه القذر.

*****
لم يعد يتذكر المرات القليلة التي بكى فيها من قبل.. كان يُجاهد طويلًا كيلا يبكي في طفولته.. قامته الفارعة نسبة لأقرانه كانت تمنعه من ذلك.. كان يخجل من أن تنساب دموعه أمامهم مهما بلغت آلامه.. كان حرًا صغيرًا مزهوًا بصلابته.
أما الآن فهو عبد ليس إلا.. حقير ملقى في غرفة مظلمة رطبة بإحدى زوايا القصر العتيق.. دموعه باتت الشيء الوحيد الذي يملكه ويحق له أن يزرفها كما يشاء.. سوف يهدرها كلها الآن عله يتخلص منها.
أجهش بالبكاء غير عابئ بدموعه الملتهبة التي غمرت جراحه الدامية فزادتها اشتعالًا وألمًا.. عندما جفت دموعه أخيرًا كان قد اتخذ قرارًا...
سيحيا عبدًا لعام واحد.. واحد فقط.. سيعيش فيه العبودية ويستسيغها بكل مرارتها وآلامها.. سيتقبل الهزيمة بصدر رحب مادامت جولته الأولى لا الأخيرة.. لكنه سيتحرر بعدها ويتفرغ للانتقام منهم جميعًا.
ما تبقى من المنافسة سيكون ملكًا له.. فهو على يقين من فوزه فى حلبة المصارعة بلا منازع.. المهم هو أن يصل إليها في الوقت المناسب.. بداخله بركان سوف يُفجره ما إن يوضع في مواجهة عادلة.
الأيام التالية ستكون ثمنًا لا مفر من تسديده طالما أراد الخلاص من براثنهم.. ثمن حريته المطلقة.. بعدها لن يحيا أسيرًا لأحد.
يومًا ما.. وسوف يأتي.. سيمتلك نفسه كما وعدها.
لم يكن في حاجة إلى جهد يُذكر لإتقان دوره الجديد.. الانكسار الذي لحق به إثر هزيمته الأخيرة أحنى رأسه مُرغمًا.. لم يعد يجرؤ على رفع عينيه ليواجهها كلما تحدثت إليه.. ولن يجرؤ أبدًا حتى ينتقم منهم.. سيثأر لنفسه منها ومن خورشيد ومن شفيق.. من كل هؤلاء الذين عقدوا حياته وجعلوا منها سلسلة متصلة من عذاب لا يحتمل.
حاول أن يبدو طبيعيًا أمام استفزازها وسخريتها في صباح اليوم التالي.. فما إن رأته حتى ابتسمت في مرح وهي تتأمل وجهه قائلة:
- بصمتي فوق وجهك أكثر من رائعة.. خدوشي منحتك المزيد من الوحشية والشراسة.
غمغم في لامبالاة أدهشته قبل أن تدهشها:
- أشكرك يا سيدتي.
التفتت إلى خورشيد وابتسمت في رضا بينما تعلقت نظرات الأخير بوجه باسل الذي أحنى رأسه أرضًا مُتصنعًا المزيد من الخضوع والطاعة.. تمثيله متقن ربما لطفلة ساذجة مثلها.. إن كان استطاع أن يخدعها فهو لن يخدعه.. تهذيبه المفرط لا يمكن أن يكون حقيقيًا.. العناد الذي استشعره فيه سابقًا من المُحال أن يضمحل بهذه السرعة.
من خبرته في الحكم على البشر يستطيع أن يقسم بأن هذا العملاق يُضمر لها شرًا.. ما أقسى أن يخشى عليها حتى من حارسها..!
ولكن لا بأس.. إن كان هذا المغفل يعتقد نفسه ذكيًا فذلك لكونه لا يعرف بعد من هو خورشيد.. ولا يعرف كيف يُمكنه أن يحمي مقتنياته النفيسة.. ونانا أغلى مقتنياته.
راح يراقبه صامتًا وهو يتولى خدمتها في تملق أزعجه بقدر ما أرضى غرورها.. قال أخيرًا وهو ينهض ليغادر المائدة بصبر نافد:
- نانا.. أريدك في غرفتي.
نهضت في دهشة لتلحق به عندما هتف باسل في مزيد من التملق:
- هل أتبعك يا سيدتي؟
استدار إليه خورشيد في حدة قائلًا:
- كلا.. ابق أنتَ هنا.. وحذار أن تقترب من غرفتي أو غرفتها دون أن أطلب منكَ ذلك.
أحنى رأسه في استسلام زاد خورشيد ضجرًا وهو يدفع نانا لتتقدمه.. وما إن اختفيا عن عينيه حتى ابتسم هازئًا.. أيعقل أن يكون ذلك الكهل المراهق قد شعر بالغيرة من أجلها..؟
لماذا لا يريده أن يقترب حتى من الغرفة..؟
ربما لا يريده أن يستمع لتأوهات النشوة المصطنعة التي تطلقها هذه الغانية القذرة لتوهمه برجولته الزائفة..ذلك المتصابي الوقح أسير المنشطات..!
في غرفته وقف يتطلع إليها طويلًا قبل أن يذرع الأرضية ذهابًا وإيابًا.. لا يرغب في إخافتها ولكن لابد من تحذيرها منه حتى تحترس له.. ابتسم عندما أقتربت لتحيط عنقه في دلال قائلة:
- حبيبي.. ماذا حدث.. تبدو قلقًا..؟
تنهد في حيرة قبل أن يتطلع إلى وجهها الذي يعشقه ويطبع على جبهتها قبلة حملت كل الحنان الذي يملكه قائلًا:
- فقط.. أرى أنكِ صدقت الخضوع الزائف لذلك العملاق الأبله.
- لمَ لا يكون قد تغير بالفعل؟
- مستحيل.
عضت على شفتيها وهي تبتعد عنه وقد انتقل شيئًا من قلقه إليها.. يبدو واثقًا.. وهي تثق في حكمه دائمًا.. خورشيد لا يخطئ أبدًا.. خبايا البشر بالنسبة له كتب مفتوحة ولغة يتقنها.. خُلق للزعامة والتفرد بشهادة كل من عملوا معه ووقعوا في أسر عقله وأفكاره الاستثنائية.
قالت بعد فترة صمت:
- هل تخشى أن يقتلني لينتقم مني؟
- لن أسمح له بذلك.. تأكدي بأنني سأقتله قبل حتى أن يفكر في الأمر.
- لمَ لا تطرده مادمتَ لا تثق به؟
- لأنني اكتشفت فيه غباءً يشفع له.. سأستغله لصالحنا في الوقت المناسب.
- لم أعد أفهمك..!
ابتسم ليخفف من اضطرابها وأمسك بكتفيها قائلًا:
- من يتغاضى عن كبريائه لينقذ خادمة وعم عجوز.. يمكنه أن يضحي بحياته أيضًا في سبيل واجبه إذا اقتضى الأمر.
- وما المطلوب مني إذًا؟
- كل ما أريده منكِ هو أن تكوني حريصة في تعاملك معه مهما أظهر لكِ من ولاء.. ولا تجزعي.. تأكدي بأن كل الخيوط في يدي كالعادة.






noor1984 غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 20-11-20, 04:58 PM   #5

noor1984

مشرفة منتدى قلوب احلام وأقسام الروايات الرومانسية المترجمةوقصر الكتابة الخياليّةوكاتبة،مصممة متألقة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية noor1984

? العضوٌ??? » 309884
?  التسِجيلٌ » Jan 2014
? مشَارَ?اتْي » 23,038
?  نُقآطِيْ » noor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond repute
افتراضي




شياطينُ الإنس

أمسيتُ أعوذُ بالله من البشـــــــــــر
من قلوب فاقت قســــــاوتها الحجر
فصَّلوا حيّلًا.. قالــــــــــــوا لا قدر
بات منهم حتى الشيطان في خطـر
أماني عطاالله



-3-

جلس حول مائدة المطبخ الصغيرة يحتسي كوبًا من الشاي الساخن أعدته له فوزية.. مضى ما يقرب من الشهر على وجوده بينهم حتى الآن.. إلا أن المرأة لازالت مقتضبة في حديثها معه.. دهرًا كان يمضي بين عبارة وأخرى وكأنها تمتحن حروفها قبل أن تنطق بها...!
بقدر إعجابه بوفائها وإخلاصها لرب عملها وجد نفسه مُتذمرًا منها.. حاقدًا عليها.. لماذا لا تمنحه مزيدًا من الثقة.. ماذا تظن به..؟ جاسوسًا خائنًا يتصيد أخطاءها للوشاية بذلك الطاغية وعاهرته..؟
نعم.. يومًا ما سوف ينتقم من الجميع.. سيملأ قلوبهم ندمًا ورعبًا عقابًا على ما سببوه له من ألم وظلم.. ولكنه سيفعلها بيده.. فهو ليس جبانًا كما تتوهم بشأنه.
استيقظ من أفكاره على دخول خورشيد المفاجئ إلى المطبخ.. نهض واقفًا.. كان يؤدي واجبه وليس احترامًا لشخصه.. فهو لا يرى فيه إلا خصمًا سيحطم أسنانه ما إن يسقط في قبضته.. ومهما طال به الزمن سوف يفعلها.
تأملهما خورشيد في عبوس قبل أن يوجه حديثه إلى فوزية متغاضيًا عن وجوده معها:
- جهزي نفسك سوف نرحل.
سأله باسل بقلق غريزي:
- أتقصد سيادتك بأننا سنغادر هذا القصر الآن؟
- نعم.
- إلى أين؟
- هذا ليس من شأنك.
تركهما بالسرعة ذاتها التي جاء بها.. استدار باسل إلى فوزية في حيرة ولكنها لم تعره انتباهًا بل تحركت كالبرق لتجمع بعض الأغراض من حوله لتضعها فى حقيبة متوسطة الحجم قبل أن تأمره دون أن تنظر إليه:
- ألن تجمع أغراضك أنتَ أيضًا؟
- لا أملك حاليًا إلا ما أرتديه.
- اذهب لغرفة الملابس وانتقِ لكَ شيئًا آخر.
*****
لم ير هذه المخلوقة حزينة يومًا ولكنه شعر بسعادتها تغمرها هذه اللحظة.. تكاد تطير وهي تقود سيارتها بتلك السرعة الجنونية لتغادر القصر وكأنها تهرب من الجحيم.
كعادتها لم تترك له الفرصة لتبادل كلمة واحدة مع فتحي.. لكم تمنى أن يصافحه ويحتضنه قبل أن يودعه.. ربما كان وداعه الأخير..!
اكتفى بالتلويح له صامتًا.. كان واثقًا أن رفيقه العطوف قد رآه بالفعل وإن تجاهل مبادلته التلويح؟ لماذا يتحاشى النظر إليه وكأنه يتعمد عدم رؤيته؟
ألايزال يخشى خورشيد وعشيقته..؟
ربما يريد حمايته من لحظة تهور جديدة لا يعلم بعد أنه لم يعد يملكها.. من الجيد كونه لا يدري بأنه أصبح عبدًا بالفعل.
أغلق البوابة ما إن عبروها.. استدار باسل ليراقبه من زجاج السيارة الخلفي فضبطه مُتلبسًا يجفف دموعه ويتمتم بعبارات كان يعلم بأنها دعاء لأجله.
مضت ساعات من الصمت المزعج قبل أن تتوقف أخيرًا أمام فيلا متوسطة الحجم.. تحرك أوتوماتيكيًا لمغادرة السيارة ما إن فعلت فوزية.. التصقت هي بخورشيد وراحا يتهامسان كمراهقين لم يبلغا العشرين بعد قبل أن يضمها العجوز المتصابي إلى حضنه ويقبلها غير مبالٍ بوجودهما على بعد خطوات منه.
تمتم باسل بسباب خافت بالكاد غادر شفتيه ولكنه فوجئ بنظرات فوزية المستنكرة.. هذه الشمطاء.. وكأنها ترضى بهذه المهزلة الرخيصة بل وتلومه أيضًا لأنه لا يشاركها الترحيب بما يفعلانه علانية وبلا خجل.. تبًا للنقود عندما تعبث بنفوس البشر وتعيد تشكيلها وفقًا لميزانيتها..!
انتهيا أخيرًا من وصلة الحب الصبيانية وترجلا من السيارة ليلحقا بهما.. ما إن فتح خورشيد البوابة الخشبية بنفسه ورفع مفتاح الإنارة حتى كتم باسل أنفاسه وومضت عيناه بأضواء تضاهي تلك التي بعثتها النجفة الضخمة المتدلية من السقف العالي المزخرف وهو يتطلع لما حوله في إعجاب أقرب إلى الحسد.
لم يحسد خورشيد فحسب.. ربما حسد نفسه أيضًا على وجوده في هذه الجنة دونًا عن سائر أهله وأصدقائه.. هل يعلم فتحي شيئًا عنها..؟
كانت الفيلا أصغر حجمًا من القصر العتيق.. أصغر كثيرًا.. من الظلم أن يقارن قزمًا مثلها بعملاق مثله.. ولكنها رغم ذلك كانت أكثر إشراقًا ونبضًا بالحياة.
من قال أن الحجر لا يشيخ..؟!
كل شيء هنا صبيًا يتلألأ.. بدءًا من الحوائط الناصعة لونًا وإضاءة إلى الأثاث المذهب الذي تناثر في رقي فوق أرضية رخامية أزهرت أعمدة لا تقل فخامة عنها.
ربما كان القصر العتيق يومًا ما صبيًا مثلها.. أخبره فتحي بأنه كان الأجمل في المنطقة كلها لولا الز....
قطع صوت خورشيد الآمر تأملاته عندما قال وهو يشير للبوابة الخشبية خلفه:
- أنتَ.. ستمضي ليلتك بجوار هذه البوابة.. إذا استشعرت أية حركة أو سمعت أصواتًا غير عادية بلغني فورًا.
هز باسل رأسه موافقًا بينما عاد خورشيد يوجه حديثه إلى فوزية قائلًا:
- أحضري له بعض الأغطية إلى هنا.
- أمرك خورشيد بك.
أسرع بعدها يرتقي الدرج عدوًا ليلحق بعشيقته في الطابق العلوي بينما اختفت فوزية بإحدى غرف الطابق الأرضي لدقائق قبل أن تعود إليه بكومة من الأغطية أسرع يحملها عنها شاكرًا.. ساعدته في ترتيب بعضها فوق الأرضية بجوار البوابة كما أمر خورشيد قبل أن تتمنى له ليلة طيبة وتذهب من حيث أتت.
استرخى مُتدثرًا بالمزيد من الأغطية لتقيه برودة الطقس.. تنهد في تملل وهو يعاود التطلع إلى الجنة التي لازالت تتألق رغم الضوء الخافت الذي تركته له فوزية.. ابتسم لحوائطها الناعمة البراقة التي عظمت الأضواء وعكستها على سقفها المرتفع كسماء فوقه.. كساحرة طيبة رصعته بنجوم ماسية تلألأت لتؤنس وحدته وتسهر معه في ليل الغربة الت سببها لنفسه.
عجبًا لكونهم لم يتأثروا بجمالها مثله.. حتى فوزيه دخلت إلى غرفتها غير مبالية.. لا يعرف قيمة شيء إلا من حرم منه.. كأنه يخشى أن يغفو ولو قليلًا فتختفي عندما يستيقظ.. أما هؤلاء فقد اعتادوها حتى فقدوا الإحساس بها.. ابتسم مُتهكمًا قبل أن يغمض عينيه أخيرًا مُستسلمًا لسبات عميق.
بالكاد كان الفجر يلقي بخيوطه الأولى عندما تنبه من نومه على بعض الضجة بالخارج قبل أن يدق أحدهم الجرس.. شعر بالدهشة.. لم يخبره خورشيد شيئًا عن زيارة متوقعة.. هل يفتح الباب الآن أم يجب عليه أن يستشيره اولًا..؟
فكر في الذهاب إلى فوزية ليسألها المشورة.. لولا الطرقات التي توالت بصبر نافد فوق البوابة.. كان يقف حائرًا عندما فوجئ بـ خورشيد ينزل الدرج في حماسة من استيقظ منذ ساعات حتى أن باسل تساءل إن كان قد ذاق للنوم طعمًا من الأساس..
قبل أن يتفوه بكلمة أمره بفتح الباب..
أربعة رجال.. اثنان منهم لا يقلان عنه حجمًا وثالث يفوقه.. كان واضحًا أن أقصرهم هو الأسوأ بينهم.. يستطيع أن يجزم بأنه أكثرهم شرًا دون أن ينطق بكلمة واحدة.. تكفى نظراته الشرسة ليتكهن بذلك.
وكأنه يعوض بشرِه ما فقده من قامته..!
تبادلوا مع خورشيد تحية مقتضبة ثم تبعوه صامتين إلى غرفة في الطابق الأرضي أحكم إغلاقها بعد دخولهم..
ابتلع باسل ريقه قلِقًا.. لم يكن جبانًا.. ولكنها مرته الأولى في التعامل المباشر مع شياطين الإنس.. كان يظن أن شفيق هو أشر من رأى.. لطالما نعته شيطانًا.. لم يكن قد صادف هؤلاء من قبل.
لم يمض وقت يذكر حتى غادروا الفيلا.. وإن كانت أذناه قد التقطتا همسات تنبئ بعودتهم مجددًا.
صعد خورشيد إلى غرفته ليكمل نومه بعد أن طلب منه المزيد من الحرص واليقظة دون أن يخبره شيئًا عن نوعية الخطر الذي يهددهم.
استيقظت فوزية فخففت بعضًا من توتره.. كعادتها أحضرت له فطوره.. لم تنسَ كوب الشاي الساخن الذي أدمنه من يدها في هذه الفترة القصيرة.. ربتت على كتفه بابتسامة حنون قبل أن تتركه عائدة إلى المطبخ.. كانت الوحيدة التي تهتم له وتعامله كآدمى لا ثور ولا خرتيت كما يروق لكليهما دعوته.
لو كانت فقط تتخلى عن تحفظها قليلًا وهي تتعامل معه..
مضى النهار هادئًا حتى استيقظت بصراخها وثورتها.. تعجب لكمّ الأوامر التي تنطلق من شفتيها دفعة واحدة.. مصحوبة بسباب وتوبيخ حتى للأثاث والجدران من حولها.. قاموس من البذاءة محشور بحنجرتها..!
خورشيد نفسه لم يسلم من لسانها السليط.. ورغم هذا راح يداعبها ويدللها وكأنه يستعطفها لترضى عنه وترق لحاله.. ما الذي تملكه هذه الشيطانة لتجعل طاغية مثله كاللعبة بين يديها..؟!
*****
أمام إلحاحها المستمر لم يجد خورشيد مفرًا من السماح لها بنزهة قصيرة رغم قلقه الذي بلغ ذروته.. رفعت عينيها تتأمل زخارف السقف في ملل وصبر نافد وهي تستمع إلى نصائحه وخوفه المبالغ به من وجهة نظرها.. أخيرًا همس الرجل في شبه توسل:
- نانا حبيبتي.. بالله لا تبتعدي كثيرًا.
زفرت بضيق وهي تحول نظرها إلى باسل قائلة:
- لستُ أدري لمَ كل هذا القلق..؟ ما جدوى هذا الخرتيت إذًا؟
ابتلع باسل ريقه صامتًا بينما تحول اهتمام خورشيد إليه وسأله بذات النبرة القلقة:
- أواثق أنتَ من قدرتك على قيادة السيارة؟
- نعم.. اطمئن يا سيدي.
- دعني أرى رخصة القيادة التي تحملها.
أخرج باسل من معطفه رخصة القيادة وقدمها له.. من الجيد كونه يحملها معه أينما ذهب فهي تشعره بنوع من الزهو حتى وإن كان لا يمتلك سيارة خاصة به.. تناول منه الرخصة وراح يفحصها بدقة قبل أن يلقيها نحوه في عصبية ويسمح لهما بمغادرة الفيلا على مضض.
بينما يعد لها السيارة.. راحت تعبئ رئتيها بهواء الحديقة المحيطة بالمبنى وتزفره كأنها سجين غادر سجنه بعد حكم مؤبد بين جدرانه.. انحنى في تهذيب ليفتح لها باب السيارة.. شيء ما في نظراته لم يرقها.
تطلعت إليه في شك مُسترجعة حديث خورشيد عنه.. هل استطاعت أن تروضه بالفعل أم أنه يتملقها ويضمر لها شرًا..؟ هل يتحين حقًا الفرصة المناسبة لينتقم منها؟
كل التحذيرات بشأنه لم تزدها إلا عنادًا ورغبة في تحديه لعله يُسقط أقنعته.. استرخت في مقعدها ورفعت ساقيها فوق كرسيه ليلامس حذاؤها وجهه.. عض على شفتيه حتى كاد أن يدميها قبل أن يغمغم بصوت جاهد ليخرج هادئًا:
- هل أبعدتِ نعليكِ قليلًا من فضلك؟
- كلا.
- نانا هانم.. أخشى ألا أتمكن من القيادة بهذه الطريقة.
- لماذا؟ من الحمار الذي منحك الرخصة مادمتَ مُتذبذبًا؟
- أنا لستُ متذبذبًا.. كل ما في الأمر أن رأسك الجميل أغلى من أن أغامر به.
ضحكت طويلًا قبل أن تبعد نعليها وتعتدل في جلستها قائلة:
- رائع.. كنتُ أظن أنكَ متقزز من ملامسة نعلي لوجهك.. رغم علمي بكونهما أنظف من جلدك النتن.
أغمض عينيه بصبر نافد.. ما الذي يمنعه من قتلها الآن ورميها على قارعة الطريق السريع لتدهسها كل السيارات العابرة فوقه بلا استثناء حتى تتسرب ملامحها بين طياته..؟
سيعود بعدها ويخبر خورشيد بأن خصومه تكاثروا عليه وقتلوها انتقامًا منه...
حتى ولو قتله خورشيد لكونه لم يعتن بها كما يجب.. سيكون حينها قد صنع به رحمة كبرى وأنقذه من حياة مظلمة زادها بؤسًا وجودها فيها.
أخذته إلى حفل راقص رواده أكثر طيشًا منها.. شعر منذ البداية بأنها تنوي توريطه في قتال لا محالة.. وكأنها تختبره.. أو ربما كانت تنتقم منه وكأنه هو من أخطأ في حقها..!
يا الله.. عام كامل على هذا المنوال ما أطوله..!
فهو بالكاد قد أكمل شهره الأول في خدمتها والأمر يبدو مستحيلًا.. حتى المبلغ الكبير الذي وضعه خورشيد بين يديه أمس الأول بات زهيدًا في عينيه.. ما عاد يجده مستحقًا ليبيع نفسه من أجله.. أرسله إلى فتحي في خطاب مسجل حتى يدخره له.. وما الذي يضمن ألا تنتهي حياته قبل أن تنتهي خدمته لهذه المجنونة؟
خلعت الجاكيت القصير الذي كانت ترتديه فوق بلوزة مُذهبة بلا أكمام وقذقت به وجهه مُحذرة إياه من تلويثه قبل أن تأمره بانتظارها متشبهًا بأحد الأعمدة الخرسانية الضخمة.. شرط ألا يبعد عينيه عنها ويتقدم لنجدتها ما إن تشير له بالتقدم.
راح يراقبها ساخطًا وهي تتحرك كالشيطانة وتستفز كل من حولها في وقاحة اقشعر لها بدنه.
اقتربت من أحدهم.. كان الرجل جالسًا مع فتاة أخرى حول طاولة صغيرة يتسامران في ودٍ على ما يبدو.. وكأنها لم تجد سواه في هذا الملهى المزدحم لتطلب منه أن يراقصها غير مبالية بنظرات الفتاة المذهولة لها.
لم تشعر بذرة خجل لنظرات الرجل المتفحصة التي التهمت جسدها في تمعن قبل أن يعاود النظر إلى فتاته وكأنه يفاضل بينهما.. ابتسمت بعجرفة عندما قرر أخيرًا الذهاب معها إلى حلبة الرقص.
لم يمض وقت يُذكر حتى بدلته بآخر خطفته كالحرباء من بين ذراعي عاهرة لا تختلف عنها فسادًا.. راحت تكرر فعلتها حتى جن جنون معظمهم وتحولت حلبة الرقص إلى حلبة للمصارعة الحرة بلا حكم.
تأفف في تشفِ عندما تجمعت الفتيات حولها رغبة في الثأر منها.. أشارت له بالتقدم لإنقاذها فتجاهلها عمدًا.. رغبته في الانتقام منها كانت أقوى من رغباتهن مجتمعة.. أدهشه صمودها لفترة لا بأس بها قبل أن تسقط ويهزم عددهن شجاعتها.. أخيرًا تعالت صرخاتها وتيقن من صوتها الذي يحفظه عن ظهر قلب.
تحرك نحوها مُتصنعًا الجزع.. مُدّعيًا تخليصها منهن بينما هو في الوقت ذاته يضعها في مرمى خصومها ليفعلن بها ما أراد أن يفعله هو بها منذ زمن.
يا له من حلم اشتهاه طويلًا..!
حملها أخيرًا فوق كتفه وأسرع يغادر بها الملهى قبل أن يفترسوها كاملة.. وضعها في المقعد الخلفي للسيارة وراح يتأملها في شماتة.. لملمت شعرها المنكوش وعدلت فكها وكأنها تعيده لموضعه.. أمسكت بذراعها وتأوهت ألمًا.
جاهد ليخفي ابتسامته قائلًا:
- نانا هانم.. هل أنتِ بخير؟
- أيها المعتوه الأبله.. خُذني إلى أقرب مشفى حالًا أحتاج إلى حقنة ضد التيتانوس.. هذه المسعورة التهمت ذراعي.. ماذا كنتَ تنتظر لنجدتي أيها المتخلف؟
- كن كثيرات جدًا يا سيدتي.
- لم يكنَّ أكثر من عضلاتك عديمة الجدوى أيها الخرتيت.
- كنَّ نساءً وخشـ..........
- نساء..! قُل وحوشًا مفترسة.. اللعنة عليكَ وعليهن في آن واحد.
*****
ما أجمل السيمفونية التي عزفتها ألمًا بينما كان الطبيب يُنظف جروحها ويطهرها.. كم كان في شوق لسماعها منذ أكثر من شهر مضى..؟! سوف يبيت ليلته سعيدًا للمرة الأولى مُذ عرفها.
رن هاتفها المحمول بغتة فأشارت للطبيب بالتوقف.. اتسعت عيناه إعجابًا عندما تبدلت نبرة الألم في صوتها إلى هدوء لا يدري كيف أتقنته قائلة:
- حبيبي.. أنا بخير اطمئن.. سأكون عندك بعد قليل.. نصف ساعة على الأكثر.. نعم هذا الخرتيت بجواري.. حسنًا.. إلى اللقاء.
أغلقت الخط وعاد صوتها للنبرة المتألمة في مرونة تستحق جائزة كبرى.. لاحظ للتو بأنها رغم كل العذاب والألم الذي تجسد فوق ملامحها لم تذرف ولو دمعة واحدة.. أية امرأة أخرى في مصابها لجفت مدامعها بكاءً.. أما هذه اللعينة فكانت أقوى من كل ظنونه.. ربما لهذا يعشقها خورشيد..!
انتهى الطبيب من تضميد جراحها وحقنها بالمصل الواقي فأخرجت مرآتها ورتبت هيئتها وكأن شيئًا لم يكن.. ساعدها في ارتداء الجاكت لتخفي الضمادة فوق ذراعها المتورم وما لبثت أن استدارت إليه وأمسكت ياقة معطفه في شراسة قائلة:
- حذار أن يعلم خورشيد بما حدث.
- اطمئني يا سيدتي.
- لا تدّعي اللطف وكأنكَ تصنع معي معروفًا.. أعلم أن الأمر لصالحك قبل أن يكون لصالحي أنا.
تطلع إليها صامتًا فأردفت:
- غاية ما سيفعله خورشيد معي هو عدم السماح لي بالخروج وحبسي بين جدران منزله الكريه.. أما أنتَ فسوف يسلمك لرجاله ويوسعونك ضربًا لأنكَ أهملت في واجبك نحوي أيها الثور الكسول عديم الجدوى.
وصلا إلى المنزل وأكملت تمثيلها بجدارة تُحسد عليها أمام خورشيد الذي تنفس الصعداء ما إن رآها سالمة.. من الجيد أن وجهها لم يمسه سوء.
أخبرته بأنها تناولت عشاءها في الخارج لتهرب من مواجهته ولكنه أصر رغم ذلك على وجوب مشاركتها له المائدة حتى لا ينام جائعًا.. مطت شفتيها امتعاضًا قبل أن تستسلم لرغبته مجبرة.. لم تمانع عندما راح يطعمها بشوكته في صبيانية لا تليق به مركزًا ولا سنًا.. انحنى أيضًا وقبلها هائمًا.
- اذهب من هنا.
انتفض باسل اضطرابًا لسماع صوت خورشيد الآمر.. يبدو أنه قد لاحظ وجوده أخيرًا فانتابه الغضب لا الخجل.. تسمر لحظات لا يدري أين يذهب حتى صاح خورشيد ساخطًا:
- كُف عن الدوران حول نفسك كثور هائج.. إلى المطبخ أيها الغبي.
*****
من حُسن الحظ أن خورشيد انشغل تمامًا في عمله المشبوه طيلة الأيام التالية.. سوف يمنعه ذلك من ملاحظة إصابتها.. فوزية التي تولت رعايتها في اهتمام وحب أدهشه لن تخبره.. ربما تكون قد تعافت تمامًا قبل أن يكتشف الأمر.
ولكن أين يختفي مع رجاله كل هذا الوقت خارج المنزل؟ كان واضحًا كونهم يخططون لعملية كبيرة تستحوذ على اهتمامهم كاملًا.. همساتهم المرتجفة ونظراتهم المضطربة المذعورة رغم إجرامهم وصلابتهم.. ضاعفت من حيرته وقلقه فبات ليلته ساهدًا.
سيكون غبيًا لو فكر للحظة واحدة في بقائه بعيدًا عن مرمى الخطر.. وجوده مع خورشيد سيجعله مسئولًا مثله مهما ادعى بأنه لا يعلم شيئًا عن أعماله المشبوهة.. سيضعه في موضع الاتهام كفرد من عصابته.. القانون لن يبرأه على سذاجته أبدًا.. ولكن ماذا عليه أن يفعل الآن؟
هل يمكنه الهرب دون أن يثير هروبه حفيظة خورشيد ضده..؟ قد يعتقد بأنه يتعمد الوشاية به.. وشك خورشيد سيقوده إلى قتله لا محالة.
زفر في هيستيريا.. نهايته السجن أو القتل.. ويا له من اختيار..!
انقضى الأسبوع وأقبل غيره والأمر يزداد سوءًا يومًا تلو الآخر.. بل لحظة تلو الأخرى.. خورشيد الذي أصبح يتحرك كالوحش المذعور راح يبث وباءه في كل من حوله.. حتى فوزية بدأت تتملل وتصرخ هي أيضًا بلا مبرر.. أصبحت الفيلا الجميلة مصحة للأمراض العقلية.
رجال خورشيد يرعون فيها كقطيع للوحوش البرية كل الوقت.. يظهرون ويختفون كالأشباح متى راق لهم.
المكان الذي شبهه يومًا بالجنة بات جحيمًا لا يطاق..!
أجمل ما في الأمر كونها ظلت حبيسة غرفتها تحديدًا وليست الفيلا فقط.. حتى وجباتها حملتها فوزية إليها هناك.. قضبانها أضيق الآن.. ليتها تُطبق على أنفاسها فيستريح منها للأبد.
ولكن هل خورشيد أخفاها عن رجاله غيرة عليها أم خوفًا؟!
انحصرت مهمته في مراقبة الفيلا والطرق المحيطة بها.. خرج خورشيد منها ذلك الصباح مُكشرًا كعادته.. توقع أن يعبره ويكمل مسيرته ولكنه لم يفعل.. بل توقف أمامه واقترب من وجهه قائلًا في نبرة تحمل تحذيرًا:
- لا أريدكَ أن تتحدث مع أحد على الإطلاق.
- أنا لا أغادر الفيلا مُطلقًا يا سيدي.
- أنا أقصد داخل االفيلا.
تطلع إليه باسل في تساؤل فأردف باهتمام:
- حذار أن يعرف أحدهم عنكَ شيئًا حتى اسمك.. نبرات صوتك لا أريدهم أن يتعرفوا عليها.. تكفيكَ لغة الإشارة للتعامل معهم.. إذا لزم الأمر وفي حدود أرجو أن تضيق قدر استطاعتك.
هز باسل رأسه ولم يعلق فتابع خورشيد في شراسة:
- أريد أن أسمع صوتك.. أنا فقط.. ونانا هانم بالطبع.
قال باسل بسرعة:
- وفوزية أيضًا.
لكم خورشيد كتفه في مزحة لم يصدقها وما لبث أن ابتسم ليضاعف دهشته قائلًا:
- أعلم أنكَ تخفي خلف خضوعك عنادًا يفوقك وزنًا.
اتسعت عينا باسل وهو يتطلع إليه مُرتبكًا فعاد يلكمه مازحًا للمرة الثانية قبل أن يتركه وينطلق بسيارته.. هل قرر خورشيد أن يضمه رسميًا إلى عصابته..؟ وإن كان سيفعل.. لماذا يُحذره من مجرد التحدث مع رجاله؟!
رغم خوفه من المجهول فالوضع أصبح أفضل كثيرًا من حراسة تلك المجنونة ومراقبة أفعالها التي لا يقرها عقل.






noor1984 غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 20-11-20, 04:59 PM   #6

noor1984

مشرفة منتدى قلوب احلام وأقسام الروايات الرومانسية المترجمةوقصر الكتابة الخياليّةوكاتبة،مصممة متألقة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية noor1984

? العضوٌ??? » 309884
?  التسِجيلٌ » Jan 2014
? مشَارَ?اتْي » 23,038
?  نُقآطِيْ » noor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond repute
افتراضي




رحلة غير متوقعة

بينَ السِطورِ سطور يقرأُها القليل
لكلِ حرفٍ سِــــــرهُ يسكنهُ الدليل
فتنجلي غشـــــــــاوةٌ ويفتحُ سبيل
فاقرأ بلا مللٍ لا يوجد مســـتحيل

أماني عطاالله



-4-

القبعات والنظارات الداكنة والأوشحة التي يتخفون تحتها ضاعفت قلقه وخوفه من المستقبل.. يتعمدون التسلل ليلًا معظم الوقت.. يحتمون بسترة الظلام.. هو أيضًا يتستر عليهم مهما أنكر ذلك.. يدرك تمامًا كونه شريكًا معهم في هذه الجريمة التي لا يعرفها بعد.. ولكن ما الذي بيده ليفعله؟!
حسبها في عقله مئات المرات.. خياراته كلها ستقوده إلى كارثة حتمية.. إن كان خاسرًا في كل الأحوال فلمَ العجلة..؟
لم يعد يملك إلا الدعاء إلى الله.. فهو الوحيد القادر على إخراجه سالمًا من محنته.. هو الأعلم بكونه لم يكن يقصد التورط مع هؤلاء الوحوش.
تحول انتباهه إلى السيارة التي اقتربت من الفيلا.. لم تكن سيارة خورشيد التي اعتادها ولكنه كان يقودها بمفرده.. توقف بها أمامه فأسرع يفتح له الباب ليترجل منها.. أشار له بسبابته كي يتبعه إلى الداخل فلبى باسل دعوته صامتًا.
ما كاد يدخل من البوابة الخشبية حتى اتسعت عيناه دهشة وهو يرى حقيبتي سفر كبيرتين.. ترى من سيرحل الآن؟ وإلى أين سيرحل هذه المرة؟
تحولت دهشته إلى صدمة عندما قال خورشيد:
- سوف تسافر الآن مع نانا هانم إلى فرنسا.
المفاجأة لجمت لسانه.. لم يكن يتخيلها أبدًا.. أقبلت فوزية تحمل حقيبة يد صغيرة.. أخذها خورشيد من يدها وناولها لـ باسل قائلًا:
- هذه لك.. يمكنك أن تحملها معك داخل الطائرة.
أشار بعدها إلى الحقيبتين وأردف:
- ستأخذ معك أيضًا واحدة من هاتين الحقيبتين.. سوف تسلمها إلى نانا هانم في فرنسا.
- عُذرًا.. ولكن ماذا عن جواز سفري و........
رفع خورشيد سبابته وكأنه تذكر للتو.. اختفى في غرفة مكتبه لحظات عاد بعدها ليسلمه مظروف ورقي كبير يضم جواز سفر وبطاقة هوية ومجموعة من الأوراق كلها تخصه.. لم يعد يدهشه الأمر.. نفوذ خورشيد بات واضحًا له.
سأله في تردد:
- وماذا عنكَ يا سيدي.. ألن تسافر معنا؟
- سألحق بكما خلال أيام قليلة.
هز رأسه في تفهم بينما تابع خورشيد وهو يشير بيده مُحذرًا:
- سوف تسافر مع نانا هانم في ذات الرحلة الجوية.. ولكنك ستتظاهر بعدم معرفتك بها.. وكأنك لم ترها من قبل.. فقط ستلاحظها عن بُعد.. لن تحتك بها أوتتحدث إليها إلا عندما تصلان باريس.. هناك سوف تسلمها حقيبة ملابسها وتبقى معها في الفندق حتى ألحق بكما.
- أمرك يا خورشيد بك.
- حجزت لكما غرفتين في فندق رائع وسط المدينة.. نانا تفضله.
وكأنه كان يناجيها ظهرت فجأة.. يبدو أن اكتئابها حقيقيًا هذه المرة.. اندهش عندما ألقت نفسها بين ذراعي خورشيد واحتضنته بقوة لفترة طويلة قبل أن تبتعد عنه هامسة:
- لا تتأخر.
قبلها وابتسم قائلًا:
- بمجرد أن أنتهي من هذه العملية ستجدينني معكِ.
دق جرس الباب فـخمن باسل بأنه لابد وأن يكون أحد رجاله.. فهو لم ير أحدًا منهم طيلة النهار.. ولكن ما إن فتحته فوزية حتى تفاجأ من جديد.. كان أحد قائدي سيارات الأجرة اتصل به خورشيد لتوصيلها إلى المطار.. أشار له خورشيد فأخذ إحدى الحقيبتين ليضعها في السيارة بينما عادت نانا لتحتضنه بقوة قبل أن تسرع لمغادرة الفيلا وكأنها تخشى أن تضعف وتبكي أمامهم.
علق باسل حقيبته الصغيرة في كتفه وحمل حقيبة نانا الثانية ليلحق بها لكن صوت خورشيد استوقفه قائلًا:
- باسل.. أنتظر.
كانت المرة الأولى التي يناديه فيها باسمه بلا ألقاب كريهة يتحملها مرغمًا.. يبدو أن مفاجآت هذه الليلة لن تنتهي.
تطلع إلى وجهه في انتظار.. تنهد خورشيد بمرارة ومضى بعض الوقت قبل أن يتحدث بصوت مرهق ونبرة ضعيفة لم يلمسها فيه مُذ عرفه:
- باسل.. أرجو أن تلتمس العذر لـ نانا هانم لو كانت قد قست عليك أحيانًا.. نانا تبدو صلبة ظاهريًا.. حياة الخطر التي عاشتها برفقتي هي السبب.. هي ما أجبرتها على الدفاع عن نفسها حتى قبل أن تتعرض للهجوم.. ولكنها تخفي داخلها زهرة رقيقة في حاجة إلى حماية ورفق.
زهرة رقيقة..؟! من هي الزهرة الرقيقة..؟! وكأنه يتحدث عن امرأة أخرى غير هذه الشرسة.. لكنه في النهاية أمام نظرات خورشيد التي تركزت فوق وجهه في تمعن.. اضطر لهز رأسه قائلًا:
- اطمئن يا سيدي.. أعدك بأن أبذل قصارى جهدي لحمايتها.
هتف خورشيد في حدة:
- وعدكَ وحده لا يكفي.
تطلع إليه باسل في دهشة يبدو أن فراقه لعشيقته الصغيرة قد أفقده عقله.. ما الذي يريده منه الآن أكثر من وعد بحمايتها؟!
راح يراقبه وهو يتحرك حوله بلا هدف محدد.. أخيرًا أمسك بكتفيه قائلًا:
- أريد منكَ قسمًا يجعلك مسئولًا عنها أمام الله قبل أن تكون مسئولًا عنها أمامي.
اتسعت عينا باسل في بلاهة بينما تابع خورشيد:
- كرر ورائي.
ابتلع باسل ريقه دون أن يرفع عينيه عن وجهه.. فأردف بجدية:
- أقسم أمام الله أن أعتني بـ نانا وأن أبذل حياتي فداء لها إذا استدعى الأمر ذلك.
صمت باسل واستمر فترة يتطلع إليه مصدومًا.. ولكنه أمام نظراته الجادة التي تحثه في إصرار على طاعته.. غمغم مُستسلمًا:
- أقسم أمام الله أن أعتني بـ نانا هانم.. وأن أبذل حياتي فداء لها لو استدعى الأمر ذلك.
- جيد.. تأكد أنني سأعوضك عن رعايتك لها أضعافًا.. والآن هيا.. خذ السيارة أمام الفيلا واذهب لتلحق بالطائرة.
- تلك التي أتيت بها سيادتك منذ قليل؟
- نعم.
- ومن سيعود بها إلى هنا؟
- لا تشغل نفسك بذلك.. هيا اذهب.
*****
كانت المرة الأولى التي يحلق فيها.. تلاشى توتره سريعًا وهو يسبح بين السحب فوق هذا العلو الشاهق.. لم يحجز له خورشيد في الدرجة الأولى كما فعل معها.. ولكن لا بأس.. يكفي وجودها بعيدًا عنه ليستمتع بكل ما حوله.
شرد ذهنه مُرغمًا إلى القسم الذي أقسمه لخورشيد.. لماذا أصر عليه ذلك الطاغية إن كان سيلحق بهما خلال أيام قليلة كما أخبره؟
الأمر مثير للريبة..! هل أرسل نانا إلى باريس لحمايتها بالفعل أم أنه أراد التخلص منها؟
قطعت مضيفة الطائرة أفكاره وهي تناوله وجبته مبتسمة.. بادلها بابتسامة شاردة لم تتحرر بعد من القلق الذي استبد به.. ماذا لو كان خورشيد قد ملها بالفعل فتركها له..؟ ولكن أيعقل هذا.. بعد هيامه الواضح بها؟!
خرج من باب المطار ودار حول نفسه بحثًا عنها.. وكأنها تبخرت من بين كل ركاب الطائرة.. لم يعثر لها على أثر.
الشيء ذاته حدث في مطار القاهرة.. هل سافرت بالفعل معه على نفس الطائرة أم تراها هربت في اللحظات الأخيرة؟ ما الذي يحدث حوله؟
لم يعد يفهم شيئًا...!
لعلها هي أيضًا خططت للهرب من خورشيد حتى لتستريح من القلق والخوف المستمر الذي يحيط به.
بماذا سيخبر خورشيد عندما يتصل ويسأله عنها..؟!
تنفس الصعداء عندما لمحها أخيرًا تلوح له من داخل سيارة أجرة.. أشارت بصبر نافد ليتقدم منها.. وما إن أصبح بجوارها حتى هتفت ساخطة:
- أين كنتَ كل هذا الوقت؟
- كنت أبحث عنكِ.
زفرت في وجهه حتى كادت تحرقه قبل أن تأمر السائق بالتحرك.. راح يحدق فيما حوله منبهرًا بالمعمار الأوربي الرائع حتى نسى وجودها بجواره.. أطلق تنهيدة طويلة.. باريس فاتنة بكل المقاييس.. ورغم ذلك كان يفضل أن يكون في جنوب أفريقيا الآن.. حيث يوجد حلمه.
انتفض عندما لكزته بعنف ليستيقظ من غفلته.. كان السائق قد توقف أمام فندق ضخم طرازه المعماري العتيق ينم عن عراقة وفخامة.. لا شك في أن رواده كلهم أثرياء مثل خورشيد.. إن لم يكونوا أكثر ثراءً ونفوذًا منه.
تركته يحمل الحقائب كلها بما فيهم حقيبته الصغيرة.. لولا العجلات التي ساعدته على سحبها فوق الأرضية الرخامية لأصيب بانزلاق غضروفي قضى على مستقبله للأبد.. تأملها ساخطًا وهي تتقدمه مختالة كالطاؤوس حتى وصلت لموظف الاستعلامات الذي أكد لها وجود غرفتين بالفعل محجوزتين باسمها واسمه لمدة أسبوع كامل.. أخذ الحمال الحقائب من يده لتوصيلها إلى الغرف.
يبدو أن غرفتها أيضًا كانت أغلى ثمنًا وأرقى منزلة من غرفته.. ولكن لا بأس أيضًا هذه المرة.. راح يكرر لنفسه.. يكفي كونها بعيدًا عنه.
ما إن فتح باب غرفته حتى اتسعت عيناه سعادة وهو يطلق صفيرة إعجاب طويلة.. إن كانت غرفته الرخيصة على هذا القدر من الجمال والرفاهية فماذا عن غرفتها؟
دون أن يخلع نعليه راح يلقي بنفسه مسحورًا فوق سرير لم يره منذ زمن.. هذا النوع من الأسرة خاصة كان يراه للمرة الأولى وإن كان يأمل بألا تكون الأخيرة.. فهو على يقين رغم ظروفه الصعبة أن الحياة ولابد ستبتسم له يومًا.
مضى بعض الوقت وهو يتقلب فوقه مُستمتعًا بالملمس الناعم لمفرشه وأغطيته قبل أن يقرر أخيرًا النهوض لتفقد بقية محتويات الغرفة.
ابتسم شاكرًا للحمام المرفق بها.. هز رأسه طربًا وهو يغني أغنية يعشقها.. فتح الصنبور ليملأ حوض الاستحمام بالماء الساخن ونزع ملابسه متأهبًا للغوص فيه عندما رن هاتفه المحمول فجأة...
وكأنه سقط من علو شاهق راح يتطلع إليه مُحبطًا .. ومن يعرفه هنا سواها.. هادمة اللذات ومصدر البؤس كله.. ها هي قد بدأت فى إزعاجه باكرًا.. ليتها انتظرت قليلًا حتى ينال جرعة من المتعة تساعده على تحمل طباعها البشعة ولسانها الأقسى من المطرقة.. لكم يتمنى أن يقطعه لها يومًا من منبته..!
جاهد ليبدو صوته هادئًا:
- سوف آتي حالًا.
- أين ستذهب أيها المتخلف؟
كان صوت خورشيد لا صوتها.. ابتلع ريقه قائلًا في تلعثم:
- عذرًا يا سيدي.. ظننتكَ نانا هانم.
- أين هي نانا؟ انا أحاول الاتصال بها منذ أكثر من ساعة بلا جدوى.
- في غرفتها.. بالكاد وصلنا إلى الفندق منذ قليل.
- أعرف متى وصلتما.. فأنا لن أتركها معك بلا مراقبة.
أخرسته المفاجأة بينما أردف خورشيد:
- هل سلمتها الحقيبة التي كانت بحوزتك؟
- نعم.
تنهيدة الراحة التي أطلقها خورشيد عبرت إليه خلال الهاتف حتى شعر وكأنه يرافقه في الغرفة قبل أن يعاود القول بهدوء:
- أذهب إليها الآن واطلب منها أن تحدثني فورًا.
- أمرك يا سيدي.
أغلق الخط وعاد يرتدي ملابسه متأففًا ليذهب إلى غرفتها.. الطريق القصير الذي أخذه إليها كان أجمل من كل كل الحدائق التي تنزه فيها منذ صغره.. استنشق في نشوة عبير الورود التي وضِعت بـ فن على جانبي الممر بين الغرف.. تبختر مزهوًا فوق السجادة الحمراء الطويلة.. كأنه نجم سيتسلم جائزة الأوسكار بعد قليل.. ولمَ لا؟
أحلامه لم تنبت من العدم.. لم يأمل في الفوز عبثًا.. كل من رآه تنبأ له بمستقبل لامع.. ليس عليه سوى أن يلاحق أحلامه التي تجسدت أمامه قبل أن تختفي فجأة عندما توقف أمام بابها.
تعلقت عيناه بالرقم المدون فوقه ليتأكد من صوابه قبل أن يطرقه بهدوء.. لم يتلق ردًا في البداية فعاد يطرقه مرات حتى سمع صوتها يسأله عن هويته في شيء من الحدة وما إن عرفته حتى أطلقت للسانها العنان وراحت توبخه بسيل من الشتائم التي يحفظها لكثرة ما رددتها على مسامعه قبل أن تختتم سبابها قائلة:
- ماذا تريد؟
- خورشيد بك يريد التحدث إليك على الفور.
- خورشيد..!
- نعم.. أخبرني بأنه حاول الاتصال بكَ مرارًا ولكن هاتفك لا يجيب.
ساد صمت تخيل معه بأنها لم تستوعب حديثه فعاد يكرره من جديد ولكنها قاطعته من خلف الباب صارخة:
- سمعتك.. هيا اذهب.
زفر بضيق وتحرك ليغادر ولكنه ما كاد يصل لنهاية الممر حتى فتحت بابها وصاحت بصوتها المزعج:
- انتظر.
استدار إليها.. تسمرت عيناه فوقها لحظات وكأنه يتأكد من هويتها.. كانت قد لفت جسدها في منشفة كبيرة وغطت شعرها بمنشفة أخرى أخفت معظم تفاصيل وجهها.. كان واضحًا بأنها قد خرجت للتو من حوض الاستحمام.
عاد صوتها ينتشله من شروده:
- أعطني هاتفك.
ناولها هاتفه في ارتباك فصاحت به ساخرة:
- وكأنني سأطمع في هذه الخردة..!
خطفت الهاتف من يده كالحرباء ودخلت غرفتها.. الباب الذي أوصدته بعنف في وجهه لم يمنع صوتها المزعج من الوصول إلى أذنيه وكأنها تتحدث معه لا مع خورشيد.
"نعم.. الحقيبتان أمامي الآن.. كنت أستحم عندما أتى ذلك الخرتيت ليخبرني باتصالك.. كلا.. يقف فى الخارج منتظرًا هاتفه.. عذرًا.. نفذ الشحن من البطارية ولم أنتبه لإعادة شحنها.. حسنًا.. سأحدثك من هاتفي بعد قليل".
فتحت الباب وقذفته بالهاتف وهي تهتف مشاكسة:
- لولا يقيني بأن صوتي من خلاله يزعجك أكثر لاحتفظت به.
تطلع إليها لحظات قبل أن يأخذ هاتفه ويبتعد عنها.. ابتسم مُرغمًا وهو يستعيد كلماتها الأخيرة.. يا لها من كتلة شر تلك التي تجسدت فيها وحولتها إلى شيطانة صغيرة.. كم يتمنى أن يوسعها ضربًا حتى تتحرر من الجنية التي تسكنها.
صرخت لتصم اذنيه مجددًا:
- أجدك هنا بعد ساعة بالضبط .. حذار أن تتأخر.
اغتسل سريعًا وبدل ملابسه بالزي الوحيد الذي وضعته له فوزية في الحقيبة الصغيرة.. كل هذا حتى يتسنى له حمل حقيبتها الكبيرة.. وكأنها في حاجة إلى المزيد من الملابس.. حقيبتان كبيرتان كاللعنة كادتا ان تتسببا له في انزلاق غضروفي لأجل قضاء أسبوع واحد في هذا الفندق.. من أين لها بالوقت لترتدي كل هذه الملابس..؟!
اضطر لغسل ما كان يرتديه ووضعه بجوار المدفأة ليجف.. سيتوجب عليه شراء ملابس أخرى في أقرب فرصة ممكنة.
طرق بابها ففتحت له هذه المرة وكأنها كانت تنتظره.. من الجيد كونه لم يتأخر فهو في غنى عن لسانها السليط.. انتهت من طلاء وجهها بـ طن المساحيق التي اعتادت أن تتزين به ولكنها لاتزال ترتدي قميص نوم بلا أكمام بالكاد يصل ركبتيها.. شعرها البني الفاتح يغطي كتفيها.. يبدو أنه شعرها الحقيقي هذه المرة.. لكم أرهقت عينيه بألوان عجيبة من الشعر المستعار..!
قميصها الحريري بلون السماء انسدل ليعانق بشرة فاقته نعومة وإشراقًا.. ابتلع ريقه بصعوبة وهو يلتمس لـ خورشيد بعض العذر لافتتانه بها وغيرته عليها.. فهي بلا شك صيد ثمين لكهل مثله.
دعته للدخول وهي تتبختر أمامه في لامبالاة فتقدم ساخطًا.. تجاهل ملابسها وتحول بنظراته إلى تأمل محتويات الغرفة.. كتم أنفاسه مأخوذًا بما حوله من فخامة وثراء.. كيف يتمتع أناس بكل هذا النعيم على الأرض وحدهم بينما آخرون يموتون جوعًا وعطشًا ومرضًا؟!
كانت قد انتهت من إفراغ محتويات إحدى الحقيبتين ورتبتها في خزانة ملابسها.. أشارت إلى الحقيبة الأخرى قائلة:
- أرفع لي هذه فوق السرير لأفرغ محتوياتها هي أيضًا.
تطلعت إليه وهو ينفذ ما طلبته منه بلا عناء وابتسمت قائلة:
- أنتَ خرتيت بالفعل.. حاربت لأفعلها ولم أستطع.
تجاهل وقاحتها قائلًا:
- هل أستدعي العاملة لمساعدتك.
- كلا.. وعدت خورشيد أن أرتبها بنفسي.
ضاقت عيناه وهو يتطلع إلى الحقيبة في شك.. هناك حدس خفي يغزوه بشأنها.. طبيعة خورشيد الإجرامية تجعل اهتمامه غير العادي بها مثيرًا للريبة.. فتحت الحقيبة بمفتاح خاص كان بحوزتها فازداد يقينه بأن خورشيد يخفي شيئًا فيها.
تناولت بعض الملابس منها ووضعتها في الخزانة.. همت بتناول المزيد عندما رن هاتفها فأسرعت تلتقطه.. جلست فوق فراشها ووضعت ساقًا فوق الأخرى فازداد الوضع سوءًا ولكنها لم تبال بوجوده.. وكأنه هواء وبخار.. لا عيون بين قسماته.. أتخاله أعمى؟!
همست بصوت ناعم يزيدها عُهرًا:
- حبيبي.. كنتُ سأتصل بكَ حالًا.
تطلعت إلى باسل في مكر وأردفت:
- نعم.. أنا بمفردي.. انتهيت من ترتيب ملابسي ووضعتها بنفسي في الخزانة.. نعم أفرغت محتويات الحقيبتين.. المفاجأة..؟ نعم.. رائعة جدًا.. لم أتوقع هذا الكم الهائل.. شكرًا حبيبي.. لن أحتاج سوى وجودك معي.. وأنا في انتظارك.. إلى اللقاء يا حبي.
أغلقت الخط وألقت الهاتف بلا اهتمام وهي تغمغم ساخرة:
- أصبح معكِ كنزًا سيكفيكِ العمر كله.. لن تحتاجي شيئًا بعد الآن.. وكأنني سأكتفي بما وضعه في هذه الحقائب من ملابس..!
تسمرت عيناه فوق الحقيبة وابتلع ريقه صامتًا.. كان واضحًا أنها تكرر كلمات خورشيد لها دون أن تفهم معناها الحقيقي.. خورشيد يخفي كنزًا في هذه الحقيبة ولكنه ليس الملابس بالطبع.
عادت تثرثر مستنكرة:
- بالله كيف أكون في باريس عاصمة الموضة ومستودع الماركات العالمية ولا أشتري شيئًا جديدًا..؟!
فتحت الباب فجأة وأزاحته خارج الغرفة قائلة:
- انتظرني هنا.. سأبدل ملابسي ونذهب للتسوق.
- وماذا عن الحقيبة؟
تطلعت إليه في تساؤل فأردف بهدوء أبعد ما يكون عن أعماقه:
- أنتِ لم تنتهي من إفراغ كل محتوياتها بعد.
- ولكن خورشيد يعتقد الآن بأنني انتهيت منها وهذا ما يهمني.. سأرتبها لاحقًا.
استند برأسه على الحائط بجوار بابها شاردًا.. ترى ما الذي يخفيه خورشيد في هذه الحقيبة؟ ما هو الكنز الذي هربه معه إلى هنا مُستغلًا سذاجته وعدم خبرته؟
مضى وقت طويل قبل أن يطرق بابها بصبر نافد.. جاءه صوتها آمرًا:
- انتظر.. لم أنتهِ بعد.
زفر ساخطًا وراح يذرع الأرض ذهابًا وإيابًا حتى خرجت أخيرًا وتقدمته في لامبالاة قائلة:
- اتبعني.
- أغلقي الباب بالمفتاح.
- الفندق آمن.
- لا ضرر في المزيد من الحرص.
زفرت في وجهه بضيق ولكنها عادت بالفعل وأغلقته وما لبثت أن صرخت في وجهه مجددًا:
- هيا بنا.







noor1984 غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 25-11-20, 08:05 PM   #7

noor1984

مشرفة منتدى قلوب احلام وأقسام الروايات الرومانسية المترجمةوقصر الكتابة الخياليّةوكاتبة،مصممة متألقة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية noor1984

? العضوٌ??? » 309884
?  التسِجيلٌ » Jan 2014
? مشَارَ?اتْي » 23,038
?  نُقآطِيْ » noor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond repute
افتراضي



تعويض
-5-

حذرها لحظة خروجهما من الفندق أن الطقس ينذر بعاصفة ودعاها لتعويض نزهتها لاحقًا ولكنها كعادتها لم تنصت له.. كل ما فعلته هو أنها صعدت إلى غرفتها وأمرته في غطرسة أن ينتظرها في بهو الفندق.. عادت بعد لحظات ترتدي معطفًا للمطر..
السحب الرمادية كست الأفق كاملًا.. مراكز التسوق التي خرجت من أجلها بدأت في غلق أبوابها قبل الموعد المحدد لها.. وليتها اتعظت.. لازالت تريد السير في الطرقات بلا هدف محدد يهدئ البركان الذي يغلي داخله.
باريس.. بلد الجن والملائكة كما يلقبونها.. ازداد الطقس سوءًا وهطل المطر غزيرًا مصحوبًا بعاصفة شرسة تزداد ضراوة لحظة تلو أخرى فهربت الملائكة وتركوه وحده معها.
ولا يبدو أنها تكترث للأمر.. ولماذا تفعل وهي ترتدي معطفًا للمطر وتتدثر بقبعته بينما ابتل معطفه الصوفي حتى أمطر هو أيضًا..؟!
احتضن نفسه بذراعيه يلتمس دفئًا فازداد برودة حتى كاد أن يتجمد.. هتف بصوت هزمه المطر وزوابعه فخفف من وطأته:
- نانا هانم.. علينا أن نعود الآن.
وكأنها لم تسمعه استمرت في تهورها.. بل ازدادت جنونًا ونزعت القبعة عن شعرها الأحمر فبدت كالشعلة الملتهبة بين الثلوج التي تنهمر فوق رأسيهما بشراسة فاقت شراستها.. كطفل مشرد أبله راحت تطارد حبات الثلج.. رفعت وجهها للسماء مستمتعة بصفعاتها فوقه وهي تستنشق رائحتها في نشوة محروم جائع.
كل من عاشره يعلم بأنه يمتلك أعصابًا أكثر صلابة من عضلاته الفولاذية التي عذبته قبل أن تعذب خصومه.. يشهدون له بكونه خير من يحكم نفسه ويروضها في أشد المواقف تفتيتًا للصخور.
حتى ولو كان قد فقد صبره مؤخرًا فهو معذور.. يكفي ما تعرض له من خداع لخمسة أعوام متتالية استنفزت كل قدراته على الصبر والتحمل.
على أيه حال ها هو قد نال جزاء تهوره بأسرع مما يتخيل.. وكأن الزمن كان يترقب هفوته وينتظر لحظة طيشه ويتلهف لمعاقبته..!
في حكم عاجل رماه أسيرًا في قبضة هذه المجنونة وعشيقها المستبد.
زفر غاضبًا وهو يراها ترقص وتدور حول نفسها غير مبالية.. لو لم يكن مجبورًا لتركها وذهب وحده قبل أن يلقي حتفه معها.. عاد يهتف بصوت جهور:
- نانا هانم.. الطقس أصبح لا يُحتمل.
قالت دون أن تنظر إليه:
- اخرس.
فكر في حملها إلى الفندق عنوة.. ما الذي يمكنها أن تفعله به أكثر مما تفعله الآن.. أمسك ذراعها في شيء من القسوة فاستدارت نحوه ورفعت وجهها إليه بغضب صارخة:
- ماذا تفعل أيها الأحمق؟
أجفل لحظات وابتلع ريقه جزعًا.. المساحيق السوداء والحمراء التي تلطخ بها وجهها سالت مع المطر لترسم فوق ملامحها صورة أكثر بشاعة مما رسمها هو في مخيلته لها.. حولتها إلى جنية بالفعل.
استعاد جأشه قائلًا في حسم أدهشه قبل أن يدهشها:
- إن لم تأتي معي الآن إلى الفندق.. سأعود بمفردي.
لم يكن ينقصها سوى احمرارعينيها غضبًا وهي تهتف:
- لازلتَ عصيًا إذًا.. كان خورشيد مُحقًا عندما أخبرني بأنكَ تتملقني لا أكثر.. حذرني منكَ مِرارًا ولكنني لم أتعظ.
تتطلع إليها صامتًا.. لم يدهشه كون داهية مثل خورشيد سبر أغواره واكتشف رغبته المكبوتة في الانتقام منهما معًا وليس منها فقط.. ما أدهشه هو كونه استأمنه وحده على حمايتها دونًا عن سائر رجاله.. رغم كل شكوكه وظنونه به..!
أتراه حقًا يثق في قسمه لهذا الحد..؟!
أشار لإحدى سيارات الأجرة فتوقفت بجوارهما.. فتح بابها وانحنى يشير لها بالدخول في لياقة مزيفة زادتها جنونًا بينما همس:
- تفضلي يا سيدتي.
راقبته بعدم تصديق قائلة:
- وماذا لو رفضتُ..؟ هل ستذهب وحدك بالفعل وتتركني هنا؟
أجابها بلا تردد:
- نعم.
لم تستمر في مجادلته طويلًا بل صعدت إلى السيارة ساخطة متوعدة كعادتها كلما غضبت.. هذا الوقح.. استغل وجودها وحيدة معه في هذا البلد الغريب ليذلها ويجبرها على طاعته.. ولكن هيهات لو ظنها سوف تستسلم لخنزير مثله.
غمغمت في قهر:
- أيام قليلة ويلحق بنا خورشيد إلى هنا.. سأطلب منه أن يقتلك بالفعل هذه المرة.. لن تفلت بفعلتك هذه أبدًا.
تنهد صامتًا ولم يعلق.. إن كان خورشيد يمتلك عقلًا فيجب عليه أن يشكره لا أن يوبخه.. بفعلته لم ينج بحياته فقط.. بل أنقذها هي أيضًا من الإصابة بالتهاب رئوي مؤكَد.. تطلع من زجاج السيارة بحثًا عمن يراقبهما كما أخبره في الهاتف ولكنه لم ير أحدًا.. داهية مثله لن يسقط في هفوة كهذه.. لن يترك رجاله في مرمى بصره بالطبع.. ولكن رجاله سوف يخبرونه بما حدث للتو.. وهو سوف يعقلها بالتأكيد وسيعلم أنه لم يخطئ.
ولكن.. إن كان خورشيد يمتلك عقلًا بالفعل ما كان سقط في عشق مجنونة مثلها منذ البداية.. الرجال عادة يفقدون عقولهم عندما يتعلق الأمر بالنساء.. خاصة عندما يقعون في العشق .. وخورشيد يعشقها.. يستطيع أن يقسم رغم قلة خبرته بأمور العشق والهوى أن هذه الشيطانة هي نقطة ضعفه الوحيدة.
الشي الجيد الذي صدق فيه شفيق هو تحذيره له من مكرهن.. كانت الحسنة الوحيدة بين كل مساوئه.
توقفت السيارة فأسرعت تغادرها.. عبرت بوابة الفندق كزوبعة رعدية سقطت مع المطر.. شكلها المرعب جذب أنظار الموجودين في الردهة فأجفلوا كما فعل هو منذ قليل.. ابتسم مُرغمًا عندما تنبهت لنظراتهم المستنكرة وهمساتهم وابتسامتهم التي لم ينجحوا في كبتها فزادتها عدوانية وغيظًا.
حمد الله كونهم لا يفهمون اللغة العربية حتى لا يترجموا سبابها ولعناتها التي انهمرت في كل الاتجاهات بعنف يضاهي السيول خارج الفندق.
تركها غير مبالٍ بوعيدها واتجه مُسرعًا إلى غرفته.. نزع ملابسه المبتلة وألقى بها أرضًا.. البلل وصل جلده واخترقه ليعبر إلى عظامه فيبسها.. غمر نفسه بالماء الساخن حتى استعاد جسده حرارته.. اكتفى أخيرًا وغادر حوض الاستحمام ليبدل ملابسه فواجهته فاجعة غابت عنه.. ملابسه التي غسلها منذ ساعات قليلة لم تجف بعد.
ماذا سيرتدي الآن..؟
من الجيد أنه لم يغسل معطفه الآخر.. ولكنه بالطبع لا يكفي..!
اتصل بخدمة الغرف وطلب منها المساعدة.. لم يمض وقت يُذكر حتى طرقت بابه إحدى العاملات وأخذت ملابسه لتجففها.. وعادت بها في زمن قياسي مفرودة نظيفة وكأنها اشترتها للتو خصيصًا لأجله.. كل شيء بدا رائعًا عدا المبلغ الكبير الذي طلبته ثمنًا لخدمتها.. لم يتردد طويلًا وهو يخبرها بإضافته إلى فاتورة نانا هانم مُدعمًا طلبه برقم غرفتها في الفندق.
ارتدى ملابسه الدافئة واسترخى آملًا في غفوة قصيرة.. بل ما الذي يمنعه من غفوة تستمر حتى الصباح.. من المفترض أن تغفو هي أيضًا مادامت محسوبة على البشر.
ما كاد يغمض عينيه حتى عاد ليفتحهما على اتساعهما عندما تذكر الحقيبة.. كنز خورشيد.. هل اكتشفته تلك الحمقاء أم ليس بعد؟
أسرع يغادر غرفته إلى غرفتها للمرة الثالثة خلال ساعات قليلة.. طرق بابها فلم تجبه.. حرك مقبض الباب فانفتح معه.. هذه الغبية لم تحكم إغلاقه مجددًا..!
عبر إلى غرفتها بلا تردد.. كانت في الحمام.. الموسيقى الصاخبة التي تسمعها حجبت عنها كل الأصوات الأخرى.
تطلع إلى الحقيبة وتسارعت نبضاته إثارة وهو يقترب منها.. كانت لاتزال فوق السرير كما تركاها قبل أن يغادرا الغرفة.. حاول أن يبدو حريصًا وهو يُخرج منها الملابس ليضعها فوق السرير.. كان قد اقترب من نهايتها عندما عثر على صندوق كبير...
فتحه بأنفاس لاهثة توقفت كلها ما إن وقع بصره على ما يحتويه من مجوهرات تكفي لفتح متجر ضخم.. استعاد رشده أخيرًا بعد أن كاد يفقده للأبد.. نعم.. كان كنزًا يكفيها لتحيا به ملكة ما تبقى من عمرها حتى وإن كانت في بدايته.
ولكنه لم يعد لها الآن....
إن كان خورشيد قد استغل سذاجته فهو سوف يستغل كنزه في المقابل.. الانتقام منهما غايته وها هي قد أتت اللحظة الحاسمة.. سوف يحقق انتقامه من كليهما بضربة واحدة.. وبسهولة لم يتخيلها.
الصندوق أضخم من أن يخفيه في معطفه رغم اتساعه.. لفه في أقرب قطعة من ملابسها وأسرع يغادر به قبل أن تشعر بوجوده.. هو من حمله من مصر إلى باريس.. ويستحق أن يحمله معه أينما ذهب.
هو الملك الآن....
أغلق باب غرفته واستند عليه طويلًا حتى استعاد أنفاسه.. وضع الصندوق فوق سريره.. فتحه ووقف يتطلع إليه في حيرة.. سيكون عليه أن يغادر الفندق قبل أن تكتشف الأمر وتبلغ خورشيد به.. ولكن كيف وما يملكه من نقود لن يمكنه من الذهاب بعيدًا؟
قطعة واحدة من محتوياته كفيلة بحل كل مشكلاته.. فقط لو استطاع أن يتصرف فيها.. ولكن كيف؟
عليه أن يتمهل حتى لا يورط نفسه في مصيبة أكبر.. لو حاول بيع أي منها الآن قد يعرض نفسه للمساءلة القانونية.. ثم ماذا عن رجال خورشيد الذين يلاحقونه أينما ذهب كما أخبره؟!
ارتجف مُرغمًا عندما رن هاتفه فجأة.. ابتلع ريقه وهو يراقبه حتى توقف عن الرنين دون أن يجرؤ على لمسه.. عندما عاود الرنين مجددًا كان قد استعاد رباطة جأشه إلى حد ما.
النبرة المرتعدة التي تتحدث بها وهي تدعوه للمجيء إلى غرفتها على الفور.. أنبأته بأنها قد اكتشفت الأمر.. أخذ نفسًا عميقًا قبل أن يغلق الصندوق ويضعه في الحقيبة الصغيرة التي أعطتها له فوزية.. وكأنها أحضرتها من أغراضها الخاصة.. من منزلها المتواضع.. فمثلها لا يليق بـ خورشيد وعشيقته.
كانت رخيصة ولكنها لم تعد كذلك الآن.
من الجيد أن مظهرها لا يغري أحدًا لسرقتها.. ولكنه رغم هذا أخفاها في خزانته وأغلق بابها بالمفتاح.. أغلق باب غرفته أيضًا بإحكام .. لو أمكنه أن يطرد كل رواد الفندق ويغلقه هو أيضًا بالمفتاح لكان فعلها دون تردد.
باب غرفتها مفتوح.. كانت تنتظره على أحر من الجمر.. ما إن أبصرته حتى صاحت معنفة:
- أين كنت أيها الغبي؟
تطلع إلى وجهها الخالي من المساحيق وغمغم بهدوء:
- كنتُ استحم.. ماذا حدث؟
عضت على شفتيها في اضطراب قائلة:
- تسلل أحدهم إلى غرفتي بينما كنتُ استحم أنا أيضًا.
- ومن فتح له الباب؟
عادت تعض على شفتيها في إحساس بالذنب قائلة:
- يبدو أنني نسيت إغلاق الباب بالمفتاح.
- رغم أنني نبهتك لهذا سابقًا.
- لم أطلب منكَ المجيء لتعظني أيها الخرتيت عديم الجدوى.. لُم نفسك قبل أن تلُمني.. أنتَ السبب.. أنتَ المسئول عن حراستي.
تجاهل ثورتها قائلًا:
- هل سرق شيئًا ذا قيمة؟
اقتربت من الحقيبة وراحت تعبث في محتوياتها بعصبية قائلة:
- عبث بمحتويات هذه الحقيبة فحسب.
- ما الذي اختفى منها؟
- وكيف لي أن أعلم.. خورشيد هو من أعدها بنفسه.
قال بسرعة حتى لا تفكر في سؤال خورشيد وإطلاعه بالأمر قبل أن يتمكن هو من الهرب بكنزه ومغادرة فرنسا كلها:
- أنتِ أخبرته سابقًا بأنكِ أفرغتِ محتوياتها.. سوف يغضب إذا علم بأنكِ كذبتِ عليه.
- كُف عن إخباري بأشياء أعرفها وأخبرني ماذا أفعل الآن؟
هز كتفيه في لامبالاة قائلًا:
- لا شيء.. ربما كان ما اختفى منها لا يستحق القلق بشأنه.
تطلعت إليه بشك فأردف بسرعة:
- قد تكون إحدى عاملات الفندق راقها شيء من ملابسك فقررت الاحتفاظ به.
- أتظن ذلك؟
- لا يوجد تفسير آخر.. ومن سيتجرأ ويدخل غرفتك سواهم..؟ رواد الفندق أثرياء وليسوا في حاجة إلى ملابسك.
- هذا لو سلمنا بأن ما سرق كان ملابس بالفعل.
- وماذا سيكون غير ذلك؟
تطلعت إليه في حيرة وراحت تذرع الغرفة ذهابًا وإيابًا وهي تحدث نفسها قائلة:
- قلبي يخبرني بأن هذه الحقيبة كان بها شيء أكبر من مجرد الملابس.. لماذا فتشني رجال الأمن في المطار إذًا؟
خرجت عبارتها عفوية ولكنها لم تسقط كذلك على مسامعه.. لا شك أن خورشيد كان على علم مسبق بأن هذا حتمًا سيحدث.. لذلك لم يضع المجوهرات في الحقيبة التي كانت تحملها.. بل وضعها في الحقيبة التي حملها هو لكونه بعيدًا عن الشبهات.. وللسبب ذاته طلب منه التظاهر بأنه لا يعرفها حتى يصلا إلى باريس.. لو وجدوه برفقتها لكانوا فتشوه هو أيضًا.
كانت مغامرة غير مضمونة من ذلك الطاغية.. لو تم تفتيشه في المطار كان سينكر معرفته به ويتركه يتلقى بمفرده المصير المظلم.. وإذا نجح في المرور بها سالمًا سوف يسلمها إلى عشيقته وكأن شيئًا لم يكن.. هذا الحقير....
- باسل.. أين ذهبت؟
تطلع إليها بدهشة.. ما كاد يستوعب أنها نطقت اسمه للمرة الأولى بلا إهانة حتى لكمته في فكه بشراسة وكأنها تعفيه من أي إحساس بالتعاطف معها قبل أن تصرخ فيه:
- أنا أستحق الشنق لأنني ثرثرت بوجعي مع خرتيت مثلك.
تعجب لكونه لم يحقد عليها هذه المرة كعادته كلما أساءت إليه.. ربما شفقة بضعف لم يلمسه فيها من قبل.. وربما.....
رن هاتفها فأسرعت تلتقطه كطوق نجاة..
هتفت في شبه انهيار:
- خورشيد...
- ماذا بكِ يا حبيبتي؟
- لا شيء.. أنا فقط اشتقت إليكَ.
مضت فترة من الصمت قبل أن تعاود الحديث وكأنها تحث الطرف الآخر على الحديث بدوره:
- حبيبي.. ألازلتَ على الخط معي؟
- نعم.. نعم يا حبيبتي أنا معكِ دائمًا.. إن لم يكن بجسدي فـ بعقلي وروحي وكل كياني.
- أنا في انتظارك بعد غد على أحر من الجمر.. كدت أجن بغيابك عني.
عاد الصمت مجددًا فهتفت ساخطة:
- خورشيد لماذا تستغرق كل هذا الوقت للرد.. هل حدث شيء ما؟
- اسمعيني جيدًا يا نانا.. أنا لن أستطيع المجيء إلى فرنسا.
- ماذا؟
- أنتِ أيضًا يجب أن تغادريها على الفور.
- ماذا تقول؟
- عليكِ أيضًا أن تسحبي كل رصيدك من البنك الليلة إن أمكن.. افتحي لكِ حسابًا جديدًا.. ويفضل أن يكون باسم باسل لا باسمك أنتِ.
- وكأنكَ جننت.. وتقودني أنا أيضًا للجنون.
- حبيبتي.. رصيدك الحالي لا يستحق كل هذا الغضب لأجله.. علمتُ الأسبوع الماضي فقط أن الشرطة تضع اسمي ضمن قوائمها السوداء.. تأكدتُ من ذلك عندما تم تفتيشك في المطار.
صرخت في انهيار:
- أنتَ تعلم إذًا.. ورغم ذلك تصر على بقائكَ بعيدًا عني.. تتركني في الغربة وحدي.
- بالله يا نانا لا تصعبي الأمور.. يكفيني ما أعانيه هنا.. أنا على يقين بأن باسل سيعتني بكِ.. وحتى إن لم يفعل.. المجوهرات التي بحوزتك سوف تغنيكِ عن كل شيء.
صرخت في هيستيريا:
- أنا لا أريد مجوهراتك ونقودك.. أنا أريدكَ أنتَ.. وعدتني أن نبدأ حياة جديدة.. عاهدتني على أمان لم أشعر به يومًا.. وها أنتَ قد حنثت بعهودك من جديد.. أهديتني المزيد من الخوف والقلق.. إلى متى تظنني سأحتمل هذه الحياة..؟!
ألقت الهاتف أرضًا وراحت تنتحب في انهيار لم يتوقع أن يصيبها يومًا.. تجولت نظراته في حيرة بينها وبين الهاتف قبل أن ينحني ليمسك به قائلًا:
- أنا باسل يا خورشيد بك.
- أين نانا؟
- نانا هانم.. أعصابها متوترة قليلًا.
- اسمعني جيدًا يا باسل.. لم أعتد الوثوق بأحد قط ولكنني وثقتُ بك.. أنا على يقين بأنكَ ستفي بالقسم الذي عاهدتَ الله قبل أن تعاهدني به.. خذ نانا واهرب إلى لندن حالًا.. أنا.....
لم يكمل جملته.. حتى باسل فقد النطق وهو يستمع في ذهول إلى صوت الرصاص الذي حل بديلًا لصوته قبل أن يُغلق الخط فجأة.. ظل يتطلع كالصنم إلى الهاتف بين يديه طويلًا.. انتفض عندما عاود الرنين.. وضعه على أذنيه صامتًا وراح يستمع في ترقب إلى صوت محدثه.. لم يكن صوت خورشيد هذه المرة.. كان شيطانًا آخر قال بنبرة خشنة:
- اسمعيني جيدًا يا حلوتي.. من الخير لكِ أن تخبريني بمكان الألماس قبل أن أرسلك إليه في الجحيم.
حانت من باسل نظرة إليها.. كانت لاتزال منهارة بكاءً غير مستوعبة لما يحدث من حولها.. غادر الغرفة بهدوء قبل أن يقول مُخاطبًا محدثه على الهاتف:
- من أنتَ؟ وعن أية حلوة تتحدث؟
صمت الآخر قليلًا وكأنه يستوعب صوته قبل أن يغمغم ساخطًا:
- أنتَ رجل إذًا ولستَ امرأة كما سجلك هذا اللعين على هاتفه.
صمت باسل ولم يعلق فأردف الرجل بوحشية:
- لا يهمني إن كنتَ رجلًا أو امرأة.. كل ما يهمني هو الألماس فقط.. إن كنتَ تظن أن فرنسا بعيدة فأنـ........
أسرع باسل يغلق الخط وما لبث أن نزعه من الهاتف وأتلفه ثم ألقى به في سلة المهملات.. لم يعد يهمه ما سيقوله ذلك المجرم.. يكفيه أنه على علم بمكانه وقد يصل إليه بين لحظة وأخرى.. أسرع يدخل غرفتها من جديد.. كانت لا تزال تبكي وإن كان انهيارها قد بدأ يقل إلى حد ما.
قال في انفعال:
- نانا هانم لابد أن نغادر فرنسا حالًا.
رفعت إليه وجهها غاضبة وهزت رأسها في عناد صارخة:
- كلا.. لن أطيعه هذه المرة.. لقد سئمت وعوده الباطلة لي بالأمان.
- بالله يا نانا هانم ليس هناك وقت.. لقد قتلوا خورشيد بك وهم في طريقهم إلينا الآن.
اتسعت عيناها ذعرًا فأردف لبث الطمأنينة فيها:
- لا تقلقي.. سأبذل قصارى جهدي لحمايتك.. لقد أقسمت بـ.........
غمغمت بصوت مرتعد:
- ماذا قلت؟
- أقسمت على حمايتك.
- كيف علمتَ بأنهم قتلوا خورشيد؟
- سمعت صوت طلقات الرصاص على الهاتف قبل أن يغلق الخط.. كما أن أحدهم عاود الاتصال بي وهددني......
سقطت فجأة مغشيًا عليها قبل أن يكمل عبارته.. يبدو أن الصدمة قد فاقت تحملها.. تحرك بعصبية ليلتقط إحدى زجاجات العطر بجوار مرآتها في محاولة لإسعافها بأسرع وقت ممكن.. ما إن استعادت وعيها حتى راحت تنتفض في هيستيريا وما لبثت أن ألقت نفسها فوق صدره وراحت تنتحب بحرقة غسلت كل أحقاده عليها دفعة واحدة.
امتدت كفه في حركة لا إرادية لتمسح شعرها بحنان وهو يقول بنبرة هادئة تحمل إلحاحًا:
- أنا أقدر أحزانك.. ولكن صدقًا.. لابد أن نغادرفرنسا حالًا كما أمر خورشيد.. فهو أدرى بهم منا.
غمغمت تائهة:
- خورشيد مات..! مستحيل..!
- كان واضحًا من نبرات صوته القلقة أنه على علم مسبق بالخطر المحدق به وبنا نحن أيضًا.. بل يبدو أنه كان يعلم بذلك حتى قبل أن يرسلنا إلى هنا.
انخفض صوته وأردف:
- كل همه كان حمايتك أنتِ.
عادت تبكي بحرقة وتعض على شفتيها في ألم.. همس في مزيج من التعاطف والقلق:
- بالله يا نانا هانم.. دعينا نهرب من هنا بأقصى سرعة ممكنة.
ابتعدت عنه وهزت رأسها في انكسار دون أن تتوقف لحظة واحدة عن البكاء.. ربت على كتفها وهو ينهض مشيرًا إلى حقائبها قائلًا:
- أعيدي ملابسك إلى الحقائب ماعدا الضروري منها.
رفعت إليه وجهها المبلل بالدموع في تساؤل فأردف:
- سأذهب وأشتري حقيبة صغيرة لتضعي فيها مستلزماتك الضرورية فقط.. أما هاتان فسوف نتركهما فى أمانات الفندق حتى لا تعيقان حركتنا أثناء السفر.
ما كاد يصل إلى باب الغرفة حتى عاد يسألها بعض النقود.. فتحت حقيبتها وأخرجت كل ما بها من مال ووضعته بين يديه صامتة.. تطلع إليها في دهشة.. بدت كالطفلة فجأة لا حيلة لها ولا قوة.
وبقدر انكسارها وجد نفسه مسئولًا عن رعايتها.





noor1984 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-11-20, 08:06 PM   #8

noor1984

مشرفة منتدى قلوب احلام وأقسام الروايات الرومانسية المترجمةوقصر الكتابة الخياليّةوكاتبة،مصممة متألقة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية noor1984

? العضوٌ??? » 309884
?  التسِجيلٌ » Jan 2014
? مشَارَ?اتْي » 23,038
?  نُقآطِيْ » noor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond repute
افتراضي





الهروب
-6-

لم يشتر حقيبة واحدة بل اثنتين.. ملأ إحداهما ببعض الملابس الرجالية المستعملة دون أن يقيسها للتأكد من مدى ملائمتها لجسده الفارع.. على أية حال فهو لن يرتديها كلها.. سيلف بعضها حول كنزه الثمين ليمنحه الدفء والأمان حتى يعود إليه ما إن تستقر أوضاعه.
دخل إلى غرفته أولًا وأخرج صندوق المجوهرات.. لفه بإحكام في بعض الملابس التي اشتراها للتو قبل أن يضعه بإحدى الحقيبتين ويغطيه بالمزيد منها.. بعد تفكير مرهق قرر أن يتركه في الأمانات هو أيضًا.
نعم.. هذا هو الحل الأمثل.. فهو ليس في حاجة إلى المزيد من القيود والقلق.. يكفيه قيدها الذي تورط فيه دون وعي.. وضع ما تبقى من ملابسه في الحقيبة التي أعطتها له فوزية وأسرع يغادر الغرفة عائدًا إليها.
كانت لاتزال ترتب ملابسها في الحقائب وقد وضعت بعض مستلزماتها جانبًا كما طلب منها.. تطلع مُستنكرًا إلى التنورات القصيرة.. بلوزات بلا أكمام.. قمصان النوم العارية التي لا يعرف لمن سترتديها بعد أن مات خورشيد..؟!
هتف وهو يناولها الحقيبة التي اشتراها ساخطًا:
- ضعي هنا ما يلزمك فقط.
- ولكنها صغيرة جدًا.
هتف مستنكرًا وهو يتطلع إلى الأشياء الكثيرة التي قررت أخذها معها:
- نانا هانم نحن نحاول الهرب.. معظم هذه الأشياء لا جدوى منها.
ألقت بالحقيبة في تذمر قائلة:
- رتبها أنتَ إذًا.
وكأنه كان ينتظر أوامرها راح يجرد أغراضها بسرعة ليعيد معظمها إلى الحقيبتين مُكتفيًا بالقليل جدًا منها غير عابئ بنظراتها المستهجنة.. بل تجرأ أيضًا وبدل بعض القطع الثمينة التي لطالما تباهت بها بأخرى صوفية ثقيلة كان خورشيد هو من اختارها لها دون رغبتها.
هتفت مُعترضة:
- ألا ترى أنكَ تماديت كثيرًا..؟! أنا في حاجة إلى هذه الملابس.
- ستحتاجين هذه أكثر.
- وماذا عن مستحضرات التجميل؟ هل سنتركها في أمانات الفندق هي أيضًا؟
- نعم.. اطمئني.. سوف نستعيدها قبل أن تفسد.. وإن فسدت سيكون هذا أفضل.
- ماذا؟
غمغم وهو يغلق الحقائب استعدادًا للرحيل:
- لاشيء.. هيا بنا.
وضع الحقائب الثلاث باسمه في الأمانات.. من الجيد أن رجال خورشيد أنفسهم لا يعرفون عنه شيئًا.. أدرك الآن فقط لماذا كان يتعمد أن يبقيه بعيدًا عنهم.
وهي لم تجادله ولم تتشبث بحقائبها.. يبدو أن ثقة خورشيد التي نالها دون قصد منه كان لها مفعول السحر عليها حتى بعد مقتله.. ذلك الطاغية كان عبقريًا بالفعل.. سيبقى أكثر من صادفهم ذكاءً وفطنة.. ليته استغل ذكاءه في الخير.. لو سلك
طرقًا لا يجرمها القانون لأصبح ثريًا أيضًا.. ربما تأخر ثراؤه قليلًا.. ربما احتاج لمضاعفة جهده أكثر مما اعتاد...
ولكن الشيء الأكيد هو أنه كان سينجح في النهاية.
ربما لم يكن ليحقق هذا القدر من الثراء والنفوذ.. ولكن للأمان مذاق أشهى من أن يضحي به.. على الأقل ما كان مات هذه الميتة البشعة.. بماذا نفعه كل ما حصده من مال..؟!
أطلق تنهيدة مريرة وحمل حقيبته ليذهب.. ما كاد يتحرك مُبتعدًا عنها حتى جاءه صوتها في غطرسة لم تتخلص منها بعد:
- وماذا عن هذه؟
تطلع إلى حقيبتها التي أشارت إليها وهم أن يعنفها لكنه لم يفعل.. عيناها المتورمتان.. قسمه لخورشيد.. أم شهامة تربى عليها واعتادها منذ صغره..
لا يدري ما الذي منعه من عصيانها هذه المرة؟
ولكن عليها أن تعلم بأنه لم يعد عبدًا لها.. صار حُرًا.. بل صار ملِكًا.. يمكنه أن يشتريها الآن بنقوده ويذلها كما أذلته هي من قبل.
غادرا الفندق بخطوات ثقيلة ولسان أثقل.. كان المطر قد توقف وإن كان الصقيع لايزال يخترق العظام.. حانت منه التفاتة إليها فوجدها في عالم آخر.. شاردة.. حزينة.. دموعها تتساقط في صمت.. لم يكن يتخيل أنها تكن لـ خورشيد كل هذا الحب.. ولكن ربما كان حزنها لمجرد كونها فقدت مصدرًا للثراء والأمان لا أكثر.
تنبهت لنظراته إليها فجففت وجنتيها بظهر يدها وغمغمت بصوت خافت:
- أين سنذهب الآن؟
صمت قليلًا يفكر فيما طلبه منه خورشيد.. هل ينبغي أن يسافرا إلى لندن؟ ولكن إن كان سفرهما مفروغ منه.. فلينقذها ويحقق حلمه في آن واحد.
قال في حسم:
- سوف نسافر إلى جنوب أفريقيا.
- ماذا؟
- حتى أنتِ لم تتوقعي وجهتنا.. فما بالك بمن يلاحقنا؟
صمتت وكأنها تحاول استيعاب الأمر قبل أن تقول بنبرة شاردة:
- لم أزرها من قبل.. هل زرتها أنتَ؟
- كلا.. ولكنني أحلم بزيارتها منذ زمن.
- هل هي جميلة لهذا الحد؟
- بالنسبة لي هي كذلك.
تنهدت بضيق ولم تعلق.. كانت تعلم بأنه لم يعد من حقها الاختيار.. عقلها أيضًا توقف عن العمل.. عليها فقط أن تتبعه حتى يظهر لها بديل سواه.. سارت بجواره حتى شعرت بالإنهاك فتوقفت وهتفت ساخطة:
- استدعِ لنا سيارة أجرة.
- لم أحدد وجهتنا بعد.
- أتقصد بأننا سنستمر في السير على غير هدى حتى الصباح؟
- كلا بالطبع.
تأملته ساخطة فعض على شفتيه في حيرة قائلًا:
- نريد فندقًا صغيرًا في ضاحية منعزلة.
أخرج ما تبقى معه من نقود.. عدها بسرعة وأردف:
- بعد أن نحجز تذاكر السفر لن يتبقى لنا إلا القليل.
- وماذا ستفعل؟
- سأبحث عن عمل.. لا تشغلي بالك بهذا الأمر.. كل ما عليكِ هو أن تكوني حريصة في إنفاقك حتى نتدبر مصدرًا آخر للمال.
تمعنت في ملامحه قائلة:
- معي بعض النقود في البنك.. طلب مني خورشيد أن أسحبها كلها وأسلمها لك لتضعها في حساب آخر باسمك.
اتسعت عيناه وهو يتطلع إليها بعدم تصديق قائلًا:
- وهل ستفعلين؟
- نعم.
- أتثقين بي لهذا الحد؟
- يكفي أن خورشيد كان يثق بك.
ظل يرمقها صامتًا حتى صاحت به:
- إن كنتَ قد شعرتَ ببعض الراحة ولو مؤقتًا.. استدع لنا سيارة أجرة.. كدت أسقط إرهاقًا.
نفذ ما طلبته منه شاردًا.. تبدو ضائعة عديمة الحيلة.. لطالما تحامل عليها كثيرًا فيما مضى.. كان يعتقد بأنها هي من أغوت خورشيد وأسقطته في شباكها..
لكنه يعتقد الآن بأنها من كانت ضحيته.
قادهما سائق الأجرة إلى فندق صغير في ضاحية saint-Denis لا يمت للرفاهية التي تركاها للتو بصلة.. ترجل باسل من السيارة ولف ليفتح بابها ويدعوها للخروج منها ولكنها تسمرت بمكانها وهي تتطلع إلى الفندق الرخيص مُتذمرة.. ابتسم مشجعًا حتى استجابت أخيرًا ليده الممدودة وغادرتها مُضطرة وهي تغمغم بتقزز:
- فندق قذر.. ألم يكن في استطاعتك تدبر آخر أكثر آدمية؟!
- ليلة واحدة فقط.
ما إن اقتربت من عتبته حتى تسمرت قدماها مجددًا وهزت رأسها بعدم اقتناع.. كادت أن تتراجع جزعًا لولا تجرأ وجذب ذراعها ليرغمها على الدخول معه عنوة.. حجز لهما غرفتين متجاورتين في الطابق الثاني والأخير في الوقت ذاته.. أوصلها إلى غرفتها واتجه لغرفته التي ما كاد يفتح بابها حتى سمع صرخاتها فألقى بحقيبته أرضًا وتوجه مسرعًا لنجدتها.
ألقت نفسها مذعورة بين ذراعيه وهي تغمغم بصعوبة:
- لن أبقى في هذه الغرفة.
- لماذا؟
- أخرجني من هنا.
- اهدئي واخبريني ماذا حدث..؟
ابتلعت ريقها قائلة:
- توجد حشرة كبيرة فوق الفراش.
ابتسم في تهكم وأبعدها برفق ليفتش الغرفة قبل أن يعود إليها قائلًا:
- أين هي هذه الحشرة.. لا يوجد شيء؟
- هربت عندما صرخت.
- صوتك أزعجها.
تطلعت إليه مستنكرة وما لبثت أن ابتسمت لدعابته غير المتوقعة.. ربت على كتفها وتأهب لتركها ولكنها تشبثت بذراعه صارخة:
- أين ستذهب؟
- نانا هانم.. بالله تحملي قليلًا.
- مستحيل.
- وماذا سنفعل إذًا.. هل لديكِ حل آخر؟
هزت رأسها في مزيد من العناد فأخرج ما تبقى معه من نقود وسلمها لها قائلًا:
- ها هي نقودك.. يمكنكِ أن تستأجري سيارة وتعودي إلى الفندق الفخم الذي أتينا منه للتو.
- وماذا عنكَ؟
- أنا سأبقى هنا.. الحشرات أفضل كثيرًا من الوحوش الآدمية التي تلاحقنا.
- وماذا عن قسمك لـ خورشيد؟
تنهد بصبر نافد قائلًا:
- نانا اسمعيني جيدًا.
- اسمي نانا هانم أيها الخرتيت.
أمسك ذراعها في شيء من العنف قائلًا:
- لقد تحملتك أكثر مما ينبغي.. إن كنتِ لم تلحظي بعد فأنا لم أعد أعمل عندك.. حذار أن تسبيني مرة أخرى.
جاهدت للتحرر من قبضته قائلة:
- أترك ذراعي أيها القذر.
زفر فى وجهها بضيق قبل أن يزيحها لتسقط فوق الفراش خلفها وأسرع ليغادر الغرفة غير مبالٍ بتأوهاتها ولا بسبابها.
جلس فوق فراشه ودفن وجهه بين كفيه مُكتئبًا.. لم يكن يرغب في تركها ريشة بمهب الريح.. لم يكن في نيته الحنث بوعوده وقسمه حتى وإن كان خورشيد قد أرغمه عليه.. ليس من الرجولة أن يتركها وحدها بعد أن لمس هشاشتها بنفسه.. ولكنها هي من حررته من كل التزاماته نحوها بعنادها وطيشها ولسانها السليط.. فلتتحمل إذًا ما......
فُتح الباب فجأة ليجدها على عتبته.. تنهد في شيء من الارتياح قبل أن يسألها بنبرة خشنة:
- ماذا تريدين؟
- أريدك أن تستمر في حراستي.
- كلا.
- سأدفع لك الراتب الذي كان يدفعه لكَ خورشيد كاملًا.
- أنا لا أريد نقودك.
تطلعت إليه في قلق فأشاح بوجهه عنها.. عضت على شفتيها حتى لا تبكي قائلة:
- وماذا عن قسمك لخورشيد.
- الفضل لكِ.. حررتني منه.
- هل ستتركهم يقتلونني؟
عقد ذراعيه حول صدره ولم يعلق.. لم يكن ينظر إليها ولكنها أدارت له ظهرها حتى لا يرى الدموع التي ترقرقت في عينيها وهي تغمغم بألم:
- خورشيد كان يثق بك.
ظل صامتًا فتحركت لتغادر غرفته باكية لولا أنه أمسك بذراعها قائلًا:
- إن أردت البقاء معي فليكن ذلك بشروطي أنا.
قالت دون أن تستدير لمواجهته:
- وما هي شروطك يا باسل بك؟
- أنا لستُ بك.. سأكتفي بأن تناديني باسل كما أطلقت عليَ والدتي.
غمغمت في شراسة فُطرت عليها:
- باسل.. ولمَ لا مادامت الأسماء مجانية؟
أجابها وهو يبتسم مرغمًا:
- وكأنكِ ندى بالفعل.. كان الأجدر لو أطلقوا عليك عاصفة أو إعصار.
استدارت إليه وسألته في جدية:
- كيف عرفت أن اسمي ندي؟
- سمعته من موظف الفندق قبل أن نغادره.. وسوف أناديك به من الآن فصاعدًا.
- لم ينادني به أحد منذ زمن.
- منذ أن بعتِ نفسك لخورشيد.. أليس كذلك؟
تطلعت إليه بحدة وكادت أن تسبه لولا نظراته المُحذرة.. عادت ترخي أهدابها
مستسلمة بينما عاد يقول آمرًا:
- هيا اذهبي إلى غرفتك.
- مستحيل.
- ما هو المستحيل؟ ظننتك تعقلتِ.
- لم أكن مجنونة لأتعقل.
تنهد بصبر نافد فأردفت:
- غدًا سأذهب إلى البنك وسأمنحك رصيدي كاملًا.. على الأقل أنا أستحق غرفة أكثر نظافة ورُقي من تلك القذرة التي وضعتني فيها.
- إن كنتِ تثقين بي.. بغض النظر عن ثقة خورشيد بي.. سوف تمنحيني هذا الرصيد لأحدد أنا كيفية التصرف به.
- يا لك من مستفز..!
تجاهل ثورتها قائلًا:
- يمكنك أن ترفضي إن شئتِ.. نحن لم نبدأ بعد.
غادرت الغرفة غاضبة فزفر بضيق.. يبدو أنه تمادى أكثر مما ينبغى.. ربما كان عليه أن يكون أكثر صبرًا حتى تعتاد خشونته.. هل يلحق بها؟ ولكن إن فعلها الآن فسوف تزداد همجية وفسادًا ولن يستطيع ترويضها مجددًا.
حاول أن يخفي سعادته عندما عادت إلى غرفته تجر حقيبتها خلفها.. تطلع إليها متسائلًا فقالت في حسم:
- سوف أبيت ليلتي معكَ في هذه الغرفة.
- ماذا؟
- ألا تريد أن توفر بعض النقود؟
رمقها صامتًا وما لبث أن سحب بعض الأغطية من فوق السرير وألقى بها أرضًا استعدادًا للنوم فوقها.. أشار للسرير الوحيد في الغرفة قائلًا:
- لا بأس.. نومًا هنيئًا.. ارتدي المعطف الصوفي فوق ملابسك إذا شعرتِ بالبرد.
- الحسنة الوحيدة في هذا الفندق القذر هو أن المدفأة تعمل بشكل جيد.
فتحت حقيبتها وأخرجت قميص النوم الوحيد الذي وضعه فيها.. أزرق اللون بأكمام قصيرة وذيل طويل وفتحة صدر ضيقة.. ابتسمت ساخرة عندما لاحظت أنه الأكثر احتشامًا بين كل أثواب النوم التي أحضرتها معها من مصر.
حملته والمنشفة إلى الحمام لتغتسل وتبدل ملابسها.. عادت بعد قليل متبرمة واجمة.. تتمتم بسباب خافت لم يفهم منه شيئًا.. تطلع إليها في تساؤل لكنها أستلقت فوق سريرها ودفنت وجهها في وسادته التي غطتها بالمنشفة الخاصة بها اشمئزازًا من مفرشها رغم نظافته الظاهرية.
لم يلح في معرفة أسباب تبرمها.. من الجيد أنها صمتت.. ربما كانت حشرة أخرى هربت من صوتها المزعج.




noor1984 غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 25-11-20, 08:08 PM   #9

noor1984

مشرفة منتدى قلوب احلام وأقسام الروايات الرومانسية المترجمةوقصر الكتابة الخياليّةوكاتبة،مصممة متألقة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية noor1984

? العضوٌ??? » 309884
?  التسِجيلٌ » Jan 2014
? مشَارَ?اتْي » 23,038
?  نُقآطِيْ » noor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond repute
افتراضي



كانا أهون....


ولستُ إلا ريشــةً في معقلِ الخطر
بطلًا على قصيدةٍ في قبضةِ المطر

أماني عطاالله


-7-

انتظمت أنفاسها بعد وقت قصير فأيقن أنها استسلمت للنوم وراح يقلدها.. أغمض عينيه وتثاءب بكسل.. ذهبت أفكاره مُرغمًا إلى غرفته في فندق ( ( Le A في قلب باريس.. مرتبته اللينة وأغطيته الحريرية ومغطسه المعطر..
كان حلمًا لم يكتمل.. تنهد في حسرة.. لا بأس.. يبدو أن الأرض ستبقى بساطه لفترة أطول.
لم يدر كم من الوقت مضى عندما استيقظ مذعورًا على صراخها.. نهض مهرولًا ليضيء المصباح قبل أن يتقدم منها ويمسك بكتفيها متسائلًا.. ارتمت فوق صدره وهي ترتعد هامسة بصوت مختنق:
- كانوا يطاردونني بضراوة.. يريدون قتلي أنا أيضًا.
أحاطها بذراعه في لطف قائلًا:
- كان كابوسًا فحسب.. أنتِ في أمان معي.
ازدادت التصاقًا به قائلة:
- أحكم قبضتك حولي بكل ما أوتيت من قوة.
ابتلع ريقه توترًا ونفذ ما طلبته منه متشنجًا.. لم يكن هذا هو ما تخيله سيحدث عندما يضمها في قبضته.. لم يكن يظن أبدًا بأنه سيصبح الأضعف لحد يفقد فيه السيطرة حتى على نفسه.. ركلاتها ولسانها السليط كانا أهون كثيرًا مما تفعله به الآن.
هدأت أنفاسها أخيرًا بعد أن كادت أنفاسه هو أن تتوقف.. همس وكأنه يخشى أن يفزعها مجددًا:
- هل أنتِ أفضل الآن؟
هزت رأسها صامتة.. هم أن يحررها ولكنها تشبثت به باستماتة.. رفعت عينيها الدامعتين إليه في توسل قائلة:
- أقسم بأنكَ ستظل تحميني للأبد.
ابتسم بمرارة قائلًا:
- أقسمتُ على ذلك بالفعل.
- أقسم مرة أخرى.
هز رأسه في حيرة ولكنه أمام نظراتها الهلعة التي تعلقت به لم يجد مفرًا إلا أن يعيد على مسامعها:
- أقسم بأنني سأظل في حمايتك حتى تحرريني أنتِ من قسمي.
تنهدت بارتياح قائلة:
- وأنا لن أحررك أبدًا.
ابتسم مُرغمًا وهو يضمها إليه في حميمية ويقبل شعرها بجرأة صدمته فأسرع يبتعد بوجهه عنها مذهولًا.. استكانت كرضيع فوق صدره غير مدركة بما تحركه فيه من مشاعر لم يكن يعلم بأنها تسكنه.. عبثت بأزرارالقميص القديم الذي يرتديه كمنامة وتحركت أصابعها فوق عضلاته المنقبضة تلتمس المزيد من الأمان والطمأنينة وتبثه هو مزيدًا من التوتر حتى كاد أن يجن فأمسك بأصابعها لتكف عن العبث بأعصابه المحترقة.
رفعت عينيها إليه في براءة يستطيع أن يقسم صادقًا بأنها ليست مفتعلة.. ابتسم في توتر قائلًا:
- الطقس بارد جدًا.
وضعت أصابعها فوق وجنتها وهمست:
- ولكن أصابعي ليست باردة إلى الحد الذي يجعلك ترتجف بهذه الطريقة.
ابتلع ريقه ولم يعلق فأردفت وهي تريح رأسها أكثر فوق صدره:
- عذرًا لأنني أيقظتك.. كنتُ خائفة جدًا.
- هيا عودي إلى النوم.. أمامنا غدًا رحلة طويلة.
- سوف أنام هنا حتى الصباح.
- هنا أين؟
- هكذا.
ضحك في عصبية عندما أغمضت عينيها واستكانت كعصفور صغير فوق عضلاته العريضة.. ظل يتأملها مُستنكرًا لفترة طويلة.. تبدو كطفلة صغيرة بلا مساحيق تلوثها جلدًا وخُلقًا وتضيف إلى عمرها سنوات لم تعشها بعد.
وكأنها نامت بالفعل.. ولكن كيف سيتمكن هو من النوم بهذه الطريقة؟!
أخيرًا.. أطلق تنهيدة طويلة ومد ذراعه يلتقط بطانيته من فوق الأرضية.. فردها لتغطيهما معًا قبل أن يحكم قبضته حولها من جديد ويستند إلى ظهر سريره شاردًا حتى استسلم للنوم بعد عناء.
استيقظ مُبتسمًا على صوت العصافير التي غزلت لها عشًا بالقرب من نافذة الغرفة.. وكأنها تغني لأجله.. عاد يبتسم في خجل وهو يحاول التحرر من جسدها المستكين فوقه دون أن يوقظها.. استطاع أخيرًا إبعادها عنه.. غطاها كطفلة صغيرة ونهض يمارس بعض التمرينات الخفيفة يحرك بها فقراته التي تشنجت ألمًا بسبب رقدته غير المريحة.
بدل ملابسه ليذهب إلى المطار ويحجز تذاكر السفر.. سيعود إليها قبل أن تستيقظ.. كتب لها ورقة صغيرة ليخبرها بخطته الصباحية حتى لا تنزعج.. هم بمغادرة الغرفة ولكنه ما إن فتح الباب حتى فتحت هي عينيها فابتسم قائلًا:
- صباح الخير يا ندى.
لم ترد تحيته بل نفضت عنها الغطاء وغادرت فراشها لتتعلق بذراعه قائلة:
- أين ستذهب وتتركني؟
- لماذا ترتعدين مجددًا..؟ أقسمت مرارًا بأنني لن أتركك.
- أنتَ كاذب كنت تنوي الهرب لولا استيقظت أنا في الوقت المناسب.
زفر بضيق وناولها الورقة التي كتبها لها ليخبرها عن وجهته.. قرأتها بعدم اهتمام قائلة:
- انتظرني.. سآتي معكَ.
- لا داعي لترهقي نفسك.. سأعود سريعًا.
- هل نسيتَ أنني أريد الذهاب للبنك.
مط شفتيه وجلس في استسلام على حافة الفراش قائلًا:
- حسنًا.. اذهبي وبدلي ملابسك.
- سأبدلها هنا.
اتسعت عيناه استنكارًا بينما تابعت في لامبالاة:
- الحمام آخر الممر.. هناك الكثير من الرجال بالخارج.
- وماذا عني؟
هزت رأسها قائلة:
- أدر ظهرك.. أو اغمض عينيك.
رفع حاجبيه ساخطًا فأردفت بصبر نافد:
- هيا لا تضيع المزيد من الوقت.
رمقها بغضب وأسرع يغادر الغرفة مُغلقًا الباب بعنف خلفه.
*****
التفت إليها عندما التصقت به فجأة بينما يسيران على جانب من الطريق المزدحم.. كانت قد غطت شعرها بقبعة صوفية ووضعت نظارة داكنة فوق عينيها.. هو نفسه لم يكن ليتعرف عليها.. يكفي كونها بلا مساحيق.. ولكنها رغم ذلك كانت ترتعد خوفًا.
سألها في عتاب:
- ماذا بكِ؟
أجابته في توتر وهي تتطلع إلى الوجوه الكثيرة التي تتحرك حولها:
- أخشى أن يكتشف أحدهم هويتي.
- اطمئني حتى خورشيد نفسه لم يكن ليكتشف هويتك.
- أتظن ذلك..؟!
- نعم.. على أية حال بعد ساعات قليلة سنغادر فرنسا كلها إلى وجهة لا يتوقعها أحد.. وهناك لن تحتاجي للتنكر مُجددًا.
حولت عينيها إليه في رجاء قبل أن تتأبط ذراعه بتلقائية نقلت كل توترها إليه فتوقف عن السير وتعلقت عيناه بوجهها في صدمة.. فهمست في ذعر وهي تزداد التصاقًا به:
- باسل هل لاحظت شيئًا مُريبًا؟
- كلا.
- لماذا توقفت إذًا؟
جاهد ليتحكم ف انفعالاته قائلًا:
- أبحث عن وسيلة نقل توصلنا للمطار.
- سيارة أجرة.
- الأفضل أن نأخذ الأتوبيس.. هناك محطة قريبة في الجهة المقابلة.
ما كاد يتنفس الصعداء لكونها تركت ذراعه وحررته من فيض الكهرباء التي سرت به منذ لمسته.. حتى عادت تطبق على كفه لتجذبه عدوًا إلى الجهة الأخرى.. تحرك معها مسلوب الإرادة يتخبط في خضم من المشاعر لم يستوعبها لكثرتها ربما.. وربما لأنه لم يصادفها من قبل.
الشعور الوحيد الذي استطاع تفسيره.. هو ذلك الإحباط الذي انتابه عندما تركت يده ما إن وصلا إلى المحطة.
وقفت تنتظره على بعد أمتار من شباك حجز التذاكر في مطار شارل ديغول.. شبكت أصابعها في توتر وهي تنقل عينيها بينه وبين الموجودين حولها بهلع يبلغ ذروته كلما اقترب أحدهم منها أو نظر إليها مصادفة.. أين خورشيد الآن ليرى كمّ الفزع الذي يلاحقها أينما ذهبت؟
سقطت دموعها لا إراديًا وهي تتذكر أيامهما الأخيرة معًا.. هو أيضًا كان يعلم بأن
صفقة الألماس هي الأخطر على الإطلاق.. المخاطر أحاطتها من كل الجهات.. الشرطة والقانون وحتى العصابة التي استقل عنها ليعمل بمفرده ويفوز بنصيب الأسد من كل صفقاته.
بقدر صلابته كان مُرتعدًا خائفًا.. لم يكن يجيد إخفاء مشاعره عنها.. فهي الوحيدة التي كانت تفهمه كما يفهمها.. لكم رجته أن يعيد التفكير بشأن هذه الصفقة الملعونة ولكنه أصر على المجازفة غير عابئ بتوسلاتها ولا حتى بتحذيراتها.. فقط وعدها بأن تكون صفقته الأخيرة.. صفقة العمر كما أطلق عليها.. وبعدها سيلحق بها إلى فرنسا ليعوضها عن كل الخوف والمعاناة التي عاشتها بسببه.
القدر لم يمهله ليتمم هروبه الكبير.. الموت كان أسرع من الشرطة في القبض عليه.. كان أسرع حتى من أفراد العصابة الذين بدأوا في مطاردته بغية الانتقام منه....
شهقت وتراجعت بفزع عندما لمس أحدهم ذراعها فجأة.. وضعت يدها على صدرها لتهدئ أنفاسها المضطربة بينما هز باسل رأسه مُستنكرًا قبل أن يتنهد ويغمغم مُعتذرًا:
- عُذرًا.. لم أكن أقصد أن أسبب لكِ كل هذا الخوف.
ابتلعت ريقها صامتة وتعلقت بذراعه ليغادرا المطار.. رجفتها هذه المرة قللت من نشوته باقترابها منه.. شعوره بالالتزام نحوها وضرورة تخليصها من الخوف الذي يلازمها فاق أي إحساس آخر داخله.
قال بعد فترة:
- الطائرة سوف تقلع في تمام السابعة.. سنذهب الآن إلى البنك لتنهي إجراءات حسابك.. بعدها نتناول شيئًا ونعود إلى الفندق لنستريح قليلًا ونستعد للسفر.
في فرع البنك الدولي قدمت طلبًا لسحب رصيدها كاملًا.. لم يكن المبلغ كبيرًا فقد اعتادت أن تمتلك أضعافه قبل تلك الكارثة التي حلت بها.. ولكنها رغم ذلك جلست تنتظر الموافقة بقلق وصبر نافد.. ماذا لو علموا عن علاقتها بـ خورشيد.. ربما لن يكتفوا حينها بمصادرة المبلغ فحسب.. قد تتعرض للمساءلة القانونية هي أيضًا..؟ هل يمكن أن تدخل السجن بدلًا منه؟
- ندى مصطفى.. ندى مصطفى.
تنبهت عندما ربت باسل على ذراعها ليوقظها من شرودها قائلًا:
- ندى.. ندى.. موظف البنك يناديكِ.
هزت رأسها بقلق ونهضت لتذهب إلى مكتبه.. همّ باسل أن يتبعها ولكنها استوقفته قائلة:
- كلا.. انتظرني هنا.
- هل أنتِ على ما يرام.
- نعم.. فقط لا أريدهم أن يكتشفوا أننا معًا.
قطب حاجبيه قبل أن يومئ برأسه مُتفهمًا.. عاود الجلوس مُستسلمًا لوجهة نظرها إلى أن خرجت إليه بعد قليل تحمل حقيبة بلاستيكية.. أشارت له بطرف عينيها فتبعها إلى زاوية متطرفة.. سلمته مظروفًا كبيرًا يحتوى المبلغ الذي سحبته للتو قائلة:
- احتفظ بجزء منه يكفي نفقاتنا حتى نصل جنوب أفريقيا ثم ضع بقيته في حساب جديد باسمك.
قال وهو يتطلع إليها متفحصًا:
- أي وقت تريدين فيه أن تستقلي بنفسك عني اخبريني فقط.. وأقسم بأن أعيد لكِ نقودك كاملة.
ربتت على كفه وهمست بابتسامة باهتة:
- أعلم.
ربما لم يكن هذا المبلغ ليمثل لها شيئًا لو لم يعد هو كل ما لديها حاليًا.. كان يمكنها أن تنفقه في أيام معدودة لو شاءت.. لكنه بالنسبة لـ مُعدم مثله كان ثروة حقيقية لم يحلم أن يمتلكها يومًا.. على الأقل في المستقبل القريب.
ما إن ابتعدا عن البنك خطوات قليلة حتى صاحت به:
- أنا جائعة جدًا.
ابتسم في إشفاق قائلًا:
- حسنًا.. ها نحن عائدان إلى الفندق.
- لن آكل شيئًا من طعامه.
- سأشتري لكِ من المطاعم هناك ما تريدينه.
- ولماذا لا نشتري من هنا؟
- الأسعار هنا مبالغ فيها.
- يكفي أنها نظيفة.
زفر بضيق ولم يعلق فأردفت ساخطة:
- معك نقود كثيرة فلا تكن بخيلًا.
- أنا لستُ بخيلًا.. قليل من الحرص واجب حتى نجد مصدرًا آخر للنقود.
أشارت إلى مطعم على بعد خطوات منهما وهتفت كطفلة:
- فقط واحدة من هذه البيتزا الساخنة.. رائحتها الشهية زادتني جوعًا.
- لو طاوعتك في الإنفاق سوف نتسول بعد شهر واحد.
- ولو طاوعتك أنا فسوف نموت قبل أن ننفقها.
غمغم مُحذرًا:
- ندى...
قبلت وجنته في توسل هامسة:
- باسل.. أريد بيتزا من هذا المطعم.
ابتلع ريقه بانفعال هامسًا بصوت مختنق:
- هذه المرة فقط.
اتسعت ابتسامتها وهي تهز رأسها موافقة قبل أن تتأبط ذراعه إلى المطعم الفاخر.. اشترى واحدة.. قدم لها العلبة وسحبها للخارج فهمست متذمرة:
- إلى أين؟
- ستتناولينها في الخارج.
- ولماذا لا أتناولها هنا؟
- لأن هذا سيضيف علينا المزيد من التكلفة لا جدوى منها.
قادها رغمًا عنها إلى أحد المقاعد المتناثرة على الرصيف وجلس بجوارها مُنتظرًا كي تنتهي من طعامها ولكنها وضعت الصندوق على فخذيها وظلت تتطلع إليه ساخطة.. سألها بدهشة:
- ماذا حدث؟ لماذا لا تأكلين؟
- تريدني أن آكل هنا كالمتسولين؟!
- المتسولون لا يأكلون هذه البيتزا.
رمقته في عناد فأردف بشيء من القسوة:
- متى ستدركين أن وضعك تغير الآن.. نانا هانم ماتت مع خورشيد.. أنتِ الآن ندى.. الفتاة التي يجب أن تكافح لكي تعيش.. إن كان الله قد منَّ عليكِ ببعض النقود.. فاعتبريها فرصة حتى تستطيعي تدبر حياتك مجددًا.. عليكِ أن تشكريه على رحمته بكِ لا أن تبددي نعمته بتهورك.
دمعت عيناها ووضعت الصندوق جانبًا وهمت بالنهوض فأمسك بها قائلًا:
- لا تكوني طفلة.. هيا اجلسي وتناولي طعامك.
- كلا.. لم أعد جائعة.
زفر بصبر نافد قائلًا:
- وماذا نفعل بهذه البيتزا؟
- كلها أنتَ.
- أنا لا أريدها.
- أعطها لأحد المتسولين.. أو ألقها في صندوق القمامة لم يعد الأمر يعنيني.
- بعد كل ما دفعناه ثمنًا لها؟!
نهضت في لامبالاة ورفعت رأسها بكبرياء قائلة:
- هيا لنعد إلى الفندق.
تحركت بالفعل لتذهب ولكنه اعترض طريقها ووقف يتطلع إليها في حيرة فهتفت غاضبة:
- أنتَ أهنتني.. لم أعتد أن يذلني أحد بهذه الطريقة.. حتى ولو كنتُ قد أصبحت فقيرة فجأة.. فهذا لا يعني أن تحول حياتي جحيمًا بحديثك المستمر عن مصيبتي.. على الأقل امنحني بعض الوقت لأتأقلم معها كيلا أُجن.
غمغم في تلعثم:
- أنا.....
صرخت به في مزيد من العصبية:
- أنتَ لا تفهم معاناتي.. لا تقدرها حق قدرها.. لم تجرب أن تخسر كل شيء في لحظة واحدة.. مع العلم أن لا شيء لكَ حتى تخسره.
ابتسم بمرارة قائلًا:
- ومن قال بأنكِ خسرتِ كل شيء.. لازال لسانك السليط كما كان بل وأسوأ أيتها المتعجرفة.
لمعت عيناها وهي ترمقه في مزيد من الغضب.. فأمسك رأسها العنيد بين كفيه ليطبع فوق جبهتها قبلة اعتذار هامسًا:
- أنا لم أقصد إهانتك.
تحولت نظراتها إلى عتاب صامت تلاشى بعد فترة فعاودت الجلوس ولكنها لم تلمس صندوق البيتزا.. ابتسم وهو يتناوله ليقدمه لها بانحناءة قائلًا:
- تفضلي نانا هانم.
أخذته من يده في تذمر وما لبثت أن قالت بلهجة آمرة:
- أين علبة المياه الغازية..؟ لن أستطيع أن أبتلعها بدونها.
رفع حاجبه استنكارًا قبل أن يضحك قائلًا:
- عُذرًا نانا هانم لقد نسيت.
رفعت ذقنها قائلة:
- أعذارك كثرت جدًا.. هيا اذهب وأحضرها.
عاد بعد قليل يحمل علبة مياه غازية قدمها لها قائلًا:
- طلباتك أوامر يا نانا هانم.. ولكن أرجو أن تنتهي سريعًا من وجبتك حتى نستعد للسفر.
فتحت الصندوق واستنشقت رائحة البيتزا في نشوة قبل أن تقضمها مُتلذذة.. أشارت إليه كي يشاركها طعامها قائلة:
- لماذا لا تأكل؟
- البيتزا لا تناسبني.
- جربها.. ستروق لكَ.
- كلا.
- لماذا؟
- كُفي عن الحديث و تناولي طعامك حتى نذهب.
كشرت واستمرت في تناول طعامها صامتة بينما جلس هو يراقب المارة بصبر نافد حتى قالت أخيرًا:
- ها أنا قد انتهيت.
- هيا بنا إذًا.
نهضت لتتبعه عندما لاحظ أنها بالكاد انتهت من نصف البيترا فقط.. فقال مُعاتبًا:
- لماذا لم تكمليها؟
- شبعت.
- البيتزا مُعظمها نشويات سريعة الهضم.. بهذه الطريقة ستشعرين بالجوع قبل أن نصل الفندق.
مطت شفتيها وهزت كتفيها في حيرة فأجلسها مُجددًا وحاول أن يطعمها رغمًا عنها ولكنها أطبقت شفتيها بإصرار فهتف ساخطًا:
- بالله يا ندى.. قليل من الإحساس بالمسئولية.
- ماذا تريدني أن أفعل..؟ حتى وإن طاوعتك فمعدتي لن تطاوعني.
- أسنانك سوف تطاوعك.
- وماذا لو أصابني مغص وتقيأت بعدها؟
- كلا لن يحدث.
رمقته مستنكرة واستمرت تهز رأسها في عناد ولكنه لم ييأس بل أمسك بشريحة من البيتزا وقربها من فمها مُبتسمًا مُدللًا كمن يطعم طفلًا صغيرًا مشاكسًا.. ذكرها بلا قصد بما كان يفعله معها خورشيد كلما أراد أن يرغمها على تناول طبقها كاملًا.. بادلته ابتسامته في حنين وقضمت قطعة من شريحة البيتزا شاردة قبل أن تتنبه لواقعها وتزيح يده لتضع ما تبقى منها في فمه بدلًا من فمها.
كان قد تذوق البيتزا من قبل مِرارًا ولكنها لم تكن على هذا القدر من اللذة.. هذه أشهى بيتزا تذوقها في حياته.. بل أشهى ما تذوقه من طعام على الإطلاق.. أيكون ثمنها المضاعف هو ما منحها هذه النكهة المميزة أم أن الشهد بها تسرب من شفتيها عندما قضمتها قبله؟
ظل يتطلع إليها حتى ابتلع شهدها كاملًا ولعق شفتيه مسحورًا بها.. نهض فجأة
وجمع ما تبقى منها قائلًا في توتر:
- سأحتفظ بها لكِ عندما تشعرين بالجوع مُجددًا.
- هل تظنني سوف أتناولها باردة؟!
زفر وهو ينظر إليها بغيظ قائلًا:
- سوف نسخنها.. هيا بنا.








noor1984 غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 25-11-20, 08:10 PM   #10

noor1984

مشرفة منتدى قلوب احلام وأقسام الروايات الرومانسية المترجمةوقصر الكتابة الخياليّةوكاتبة،مصممة متألقة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية noor1984

? العضوٌ??? » 309884
?  التسِجيلٌ » Jan 2014
? مشَارَ?اتْي » 23,038
?  نُقآطِيْ » noor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond repute
افتراضي



مُدلَلَتي...

العذرُ إن وجدتِني أصغرَ من صغير
غدا كما العصفورِ نِســــرًا كان كبير

أماني عطاالله


-8-

ما إن وصلا إلى سان دوني حتى أسرع يشتري لنفسه بعض الشطائر الرخيصة وراح يلتهمها بشراهة في طريقهما إلى الفندق.. قطبت حاجبيها وهي تطلع إليه قائلة:
- هل هي شهية لهذا الحد أم أنكَ جائع جدًا؟
- الاثنان معًا.
قدم لها إحداها قائلًا:
- جربيها.
- من أي شيء صُنعت؟
- لحوم متبلة.
استمرت في النظر إلى الشطيرة بشك قبل أن تغامر وتأخذها من يده ولكنها ما كادت تتذوقها حتى أعادتها إليه وهي تلهث صارخة:
- حارة جدًا.. كيف تأكلها؟
زمجر مُعترضًا وهو يقضم شطيرته بتلذذ قائلًا:
- بأسناني.. هكذا....
ضحكت في مرح طفولي أوقف شهيته لحظات وهو يتأملها صامتًا قبل أن يبعد عينيه عنها ليبتلع طعامه ويتصنع الجدية قائلًا:
- سوف تعتادين عليها بمرور الوقت.
- مستحيل.. هنيئًا لكَ بها.
أغلق باب غرفتهما بالفندق ونظر في ساعته قائلًا:
- أمامنا ثلاث ساعات كاملة قبل أن نغادر إلى المطار.. يمكننا أخذ غفوة لساعتين على الأقل.
هزت رأسها موافقة قبل أن تهم بتبديل ملابسها أمامه للمرة الثانية فأسرع يمسك بها قائلًا:
- اذهبي إلى الحمام وبدلي ملابسك هناك.
- أخبرتك أن نظرات الرجال تخيفني.
اتسعت عيناه بغضب وهمّ أن يوبخها لولا أردفت قبل أن يتكلم:
- ولكنكَ مُحق.. فأنا في حاجة للاغتسال.
رمقها مُستنكرًا وهي تلتقط المنشفة والملابس على مضض لتذهب إلى الحمام.. بقى ساكنًا لفترة حتى بعد أن غادرت الغرفة قبل أن يخلع ملابسه ويلقي بها على الأرض غاضبًا.. وماذا لو لم تكن تريد أن تغتسل..؟ ماذا تظن به هذه المعتوهة وهي تتعرى أمامه وكأنه رفيقتها في الغرفة..؟!
زفر بضيق عندما لاحظ انعكاس صورته في المرآة وما لبث أن اقترب منها وراح يتطلع إلى نفسه مُتذمرًا.. ما جدوى كل هذه العضلات المفتولة إن كانت المرأة الوحيدة التي حركت مشاعره لا ترى فيه رجلًا..؟!
ولكن.. ماذا سيحدث لو لاحظت رجولته وتأثرت بها.. وإن حتى عشقته.. كيف سيبادلها هذا العشق.. هل بإمكانه أن يعشقها هو أيضًا..؟
لم يعرف امرأة من قبل.. فكيف يبدأ معرفته بهن مع عاهرة..؟ مهما بدت صغيرة
وجميلة مثلها؟!
ربما رحمة له ألا تراه أبدًا.
عندما عادت إلى الغرفة كان قد استكان فوق أرضيتها مُتظاهرًا بالنوم.. لاحظته صامتة قبل أن تحول عينيها في تقزز إلى الفراش الذي تركه لتتنعم به وحدها.. أغمضت عينيها واستلقت فوقه مُرغمة.. لم يمض وقت يذكر حتى انتظمت أنفاسها فأدرك أنها غفت.. أطلق تنهيدة طويلة وسحب الغطاء فوق رأسه ليجبر نفسه على النوم مثلها.
*****
حلقت الطائرة عاليًا تحمل معها أحلامه التي تعطلت طويلًا حتى ظنها أوهامًا لن تتحقق أبدًا.. تنهد في نشوة واستدار ليتطلع إليها.. كانت قد التصقت بالنافذة الصغيرة بجوارها وتعلقت عيناها بالسحب شاردة.
علِم من نظراتها ما إن صعدا إلى الطائرة أن التذكرة الرخيصة التي حجزها لها بين هؤلاء الصعاليك لم ترقها.. لا تشبه شيئًا من التميز الذي اعتادته بين ركاب الدرجة الأولى.. أفضل ما في الأمر هو أن تذمرها توقف عند نظراتها المستنكرة وقسماتها الممتعضة ولم تعترض شفهيًا.
من الجيد أن تبذل بعض الجهد وتحاول التأقلم مع وضعها الجديد.
استند إلى ظهر مقعده وترك أفكاره تأخذه بعيدًا عنها.. عندما يصلان إلى جوهانسبرج سيذهب ويرشح نفسه للمسابقة.. لا شك في كونه سيجد مدربًا يهتم بأمره هناك فهو يمتلك بنية عضلية رائعة باعتراف جميع من تعامل معهم سابقًا.. حتى شفيق نفسه لم يستطع أن ينكر هذا الأمر رغم حقده الدفين.
إن كان كل المتقدمين لهذه المسابقة يشبهون سلماوي.. ذلك التافه الذي اختاره
شفيق ورشحه بديلًا له.. فسوف يكون الأجدر للفوز بها.. يكفي أنه هزمه بلا عناء يذكر في أكثر من مباراة ودية تشاركا فيها من قبل.. يبدو أن ذلك الخبيث شفيق كان يمتحن قدراتهما مسبقًا.. ولكنه رغم ذلك رشح الخاسر في النهاية وكأنه يريد الانتقام منه..!
تذكر القطع الذهبية التي أخفاها في حقيبة ملابسه قبل أن يترك الصندوق كله في أمانات الفندق.. سيكون عليه أن يتصرف فيها سريعًا حتى يوفر قيمة الاشتراك في المسابقة.. عليه أيضًا أن يهتم بطعامه كثيرًا خلال الفترة المقبلة حتى يضمن سلامة بنيته.. سيكون في حاجة إلى المزيد من التمرينات التي توقف عنها مؤخرًا لأسباب خارجة عن إرادته .
تنفس في عمق.. الأمر ليس مستحيلًا.. لن يكون أصعب من تلك المعجزة التي أتت به إلى هنا على غير توقع.. ذلك الحظ الذي لازمه مؤخرًا ليته يستمر حليفًا له حتى النهاية.
تنبه لمضيفة الطائرة التي اقتربت منهما مبتسمة لتقديم وجبة عشاء خفيفة.. ما إن انصرفت حتى قالت ندى للمرة الأولى منذ ساعات مضت:
- يمكنك تناول وجبتي أيضًا فأنا لست جائعة.
- لابد أن تأكلي شيئًا.. انتقي من الوجبتين ما شئتِ.
- وماذا عن قطعة البيتزا التي سخنتها لي قبل أن نغادر الفندق مباشرة؟
كشر قائلًا:
- أخبرتك أن البيتزا لا تصمد طويلًا.. ما رأيك.. ربما تفضلين هذه المعلبات الصغيرة؟
رفضت بإيماءة من رأسها ولكنه لم يبال باعتراضها بل أخذ شريحة من الخبز وفرد فوقها بعض المربى والزبد وقدمها لها مبتسمًا حتى قبلتها منه.. اتسعت ابتسامته
وهي تتذوقها في تردد قبل أن تقرر أخيرًا أن تبتلعها.. راح يتناول بعدها شطائر الجبن بشهية كعادته.. لم تعترض عندما قدم لها شطيرة أخرى.. تقبلتها أسرع هذه المرة وتناولتها بشهية وكأنها تحاول تقليده فضحك في مرح وعاد يلتمس لخورشيد ملايين الأعذار في تدليله لها.
عندما جاءت المضيفة بالحلوى.. وجد نفسه يطعمها بلا وعي فاستجابت سريعًا.. بدت سعيدة وكأنها تفتقد هذا النوع من الحياة.. لا بأس.. وهو لن يبخل عليها به مادام في استطاعته أن يوفره لها..؟!
مر طيف خورشيد أمامه فجأة.. كثيرًا ما رآه يفعل ذلك معها.. كان هو أيضًا يطمعها بشوكته مستمتعًا بابتسامتها التي تأسر العقول وتحول أعتى الرجال لحمقى يتسولون رضاها.. أغمض عينيه في ألم وما لبث أن قدم لها الطبق لتتناول منه ما شاءت دون مساعدته.. ولكنها لدهشته امتنعت عن تناول المزيد وأعادته إليه كطفلة غاضبة.
شعر بالحماقة وهو يقاوم رغبة مُلحة تدعوه لتدليلها مُجددًا.
*****
الغرفة الرخيصة التي حجزها لهما في الفندق بـ جوهانسبرج لم تكن تختلف كثيرًا عن تلك التي في سان دوني.. عدا أن هذه كان بها سريرين لا سرير واحد.. إن لعظامه عليه حق.. وعظامه بدأت تشكو.. الأرض الصلبة التي يبيت فوقها منذ ما يقرب من الشهرين أفقدتها مرونة يبغى استعادتها.
تذمُرها كان واضحًا ولكنه بقى أسير شفتيها لم يغادرها.. كانت تحاول أن تتجنب عظة جديدة من عظاته التي لا تنتهى عن ظروفهما المادية السيئة.. ألقت حقيبتها بعصبية فوق سريرها لتخرج ملابسها.. زفرت ساخطة عندما وقع نظرها على قميص نومها الوحيد الذي أحضره لها.. أمسكت به غاضبة وصرخت بصبر نافد:
- وكأنني لن أغسل هذا أبدًا.. لماذا لم تضع في الحقيبة بديلًا له؟
زم شفتيه قائلًا:
- عُذرًا.. لم أكن أفكر في هذا حينها.
- عليكَ إذًا أن تُكفر عن خطأك وتشتري لي قميص آخر.
ابتسم وأومأ موافقًا.. فأردفت:
- أين الحمام؟
- في الممر .. ليس بعيدًا عن الغرفة.
تطلع إليها بتمعن وأردف متهكمًا:
- وليس هناك رجال يزعجونك هذه المرة.
- تعالَ معي.
- لماذا؟
- سوف تنتظرني أمام الباب حتى أنتهي من تبديل ملابسي.
فتح فمه ليعترض ولكنه ما لبث أن أخرج ملابسه هو أيضًا وأشار لها ساخطًا كي تتقدمه.. فهتفت مستنكرة:
- هل أفهم من ذلك بأنكَ لن تنتظرني؟
- كيف تريدينني أن أنتظرك أمام حمام النساء؟
- وما المشكلة؟
- ندى.. لا تثيري جنوني.
ما إن عادا إلى الغرفة حتى ألقى بجسده المنهك فوق سريره وأطلق تنهيدة عميقة.. فتح فمه ليتثاءب بكسل وما كاد يغلقه حتى أغمض عينيه وغرق في سبات عميق.. تطلعت إليه مستنكرة قبل أن تبتسم وتسترخي فوق سريرها في شيء من القناعة تعجبت له.
يبدو أنه لا مفر من التأقلم مع بؤسها ولو مؤقتًا حتى تتحسن الأوضاع.
اكتفى نومًا واستيقظ أخيرًا.. مضى بعض الوقت قبل أن يتنبه لوضعه ومكانه الجديد.. توقفت عيناه عندها لبعض الوقت.. كانت نائمة كملاك صغير لا يمت بصلة لشيطانة ظلت تسكنها طويلًا.
تذكر المسابقة فانتفض على عجل وغادر الفراش.. عليه أن يذهب ليرشح نفسه قبل أن ينتهي موعد التقديم.. كان حريصًا على ألا يزعجها ولكنها استيقظت ونهضت مذعورة تحمل عينيها الاتهام ذاته الذي حملته له فى المرة السابقة.. لم تثق به بعد.. ويبدو أنها لن تثق به أبدًا.
قبل أن تفتح فمها أسرع يقول مُعاتبًا:
- متى ستتعلمين الوثوق بي؟
- ربما عندما تخبرني بمشاريعك مُقدمًا.
صمت في حيرة ضاعفت ريبتها فأسرع يقول:
- هناك مسابقة للمصارعة الحرة ستقام قريبًا.
ظلت ترمقه في فضول لم يُشبع بعد فأردف في تلعثم لم ينجح في التخلص منه:
- قررت أن أتقدم لها.
- لا يبدو أنكَ قررت ذلك خلال هذه الساعات القليلة.
تأملها صامتًا فأردفت وقد زاد البريق في عينيها:
- كنتَ تعلم ذلك من قبل.. لهذا اخترتَ أن نأتي إلى هنا..؟!
- نعم.
اتسعت عيناها مُستنكرة فأردف ليدافع عن نفسه:
- وما المشكلة..؟ أنا لم أقصر في واجبي نحوك.. فلماذا تعترضين على....
- ومن قال بأنني أعترض؟
- قسماتك الغاضبة خير دليل.
- فقط لأنكَ لم تكن صريحًا معي منذ البداية.
- ربما لأنكِ من عالم آخر.. لم أتوقع منكِ التفهم لطموحاتي.
رفعت رأسها في تهكم قائلة:
- عالم آخر.. ها قد تشاركنا عالمك البائس.. على أية حال.. لم يكن باستطاعتي أن أمنعك سابقًا ولا الآن.. ولكنكَ خبيث على ما يبدو.
- أنا لستُ خبيثًا.. كنتُ فقط....
مط شفتيه في حيرة تلميذ فاشل وهو يبحث عن كلمات مناسبة يكمل بها عبارته.. فأردفت وهي تلوح بإصبعها في وجهه كمعلمة غاضبة:
- حذار أن تكررها وتخفي شيئًا عني.
هز رأسه مُبتسمًا قبل أن تتوتر عضلات فكه عندما اقتربت منه لتمسك بياقة قميصه بنعومة هامسة:
- وماذا لو فزت بهذه المسابقة وأصبحت بطلًا.. هل ستتركني حينها؟
قبض على يديها وابتلع ريقه قائلًا:
- أقسمت مِرارًا بأنني لن أتركك أبدًا.
احتوته بعينيها.. لو ظلت تنظر إليه بهذه العيون الأحلى من العسل فلن يحقق شيئًا أبدًا.. بل سيذوب ويتحول لهلام يتلاشى بعد قليل.. أبعد عينيه عنها مُرغمًا وأزاحها في لطف قائلًا:
- ينبغي أن أذهب الآن.
- وماذا عني؟
- لن أتأخر.
- سآتي معكَ.
- إلى متى ستتعلقين بي بهذه الطريقة؟
- وعدتَ للتو بأنكَ لن تتركني أبدًا.
- نعم.. ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن أصحبك معي كطفلة أينما ذهبت.
هتفت في حماسة وهي تهم بخلع ملابسها:
- لن أعطلك.
أسرع يمسك بيديها صارخًا:
- حذار أن تبدلي ملابسك أمامي مُجددًا.. اذهبي للحمام.
- أخشى ألا تنتظرني.
- بل سأنتظرك.
اتسعت عيناه دهشة عندما عادت إلى الغرفة بعد دقائق معدودة وقد بدلت ملابسها بالفعل.. لم تفعلها يومًا بهذه السرعة.
وقفت أمام المرآة لتمشط شعرها.. رفعته لأعلى وهمت بتغطيته بآخر أشقر اللون فاقترب ليمسك بيدها قائلًا:
- لماذا..؟ لونه الطبيعي أفضل كثيرًا.
- أخشى أن يتعرفوا عليَ.
- لا أحد يعرفنا هنا.
تطلعت إليه بقلق فأردف بجدية:
- لا أريدكِ أن تخافي أحدًا بعد الآن.. لا هنا ولا في أي مكان آخر.
امتزج القلق في عينيها ببعض الألم وهي تغمغم وكأنها تحدث نفسها:
- قتلوا والدتي من قبل.. حتى خورشيد نفسه لم يستطع حمايتها.
قطب حاجبيه وصمت لحظات ليستوعب ما صرحت به مصادفة قبل أن ينتزع المشابك من شعرها لينسدل فوق كتفيها قائلًا:
- هيا بنا.
ساد الصمت طويلًا وهي تلاحق خطواته في عصبية دون أن تكف عن مراقبة كل من حولها بقلق.. سألها بنبرة هادئة:
- ماذا بكِ.. ألازلتِ خائفة؟
- أشعر وكأنني عارية.. لا مساحيق تجميل.. ولا شعر مستعار.. لم أعتد السير في الشوارع بهذا المنظر.
- اعتبري نفسك ولدتِ اليوم من جديد.
التفتت إليه في شك ورجاء.. فعاد يسألها بفضول:
- لم تخبريني بعد.. أين والدك من كل هذا؟
تنهدت في أسى قبل أن تغمغم بعد فترة:
- قتلوه هو أيضًا.
توقف عن السير وتسمرت عيناه فوق ملامحها في إشفاق جعلها تُدمع مرغمة.. فراح يدور حول نفسه يلتمس معونة.. داهمته رغبة في مواساتها بلغت حد المعاناة معها.. بحث طويلًا عن كلمات منمقة من تلك التي يتفوهون بها في مثل هذه الكوارث.. هتف فجأة:
- سأشتري لكِ بيتزا.
ضحكت في مرارة قائلة:
- هل أشفقت عليَ بعد أن علمت بأنني يتيمة الأبوين؟
تلعثم في حرج قائلًا:
- كلا بالطبع.
أشار لأحد مطاعم البيتزا أمامه وأردف:
- تذكرت الأمر مصادفة.. عندما رأيت هذا المطعم.. كفى مشاكسة وانتهزي الفرصة قبل أن أحسبها وأبدل رأيي.
- لستُ جائعة.
- كيف هذا؟ أنتِ لم تتناولي شيئًا منذ كنا في الطائرة.
- دعنا نلحق بموعدك أولًا.. فلنؤجل البيتزا لحين عودتنا.
تطلع إليها في حيرة وما لبث أن أمسك بيدها وضغطها في مواساة صامتة وهو يواصل سيره.. فهمست:
- من الجيد أنكَ تمتلك قلبًا يفوقك حجمًا.
- وأنتِ تمتلكين إحساسًا أقصر قامة منكِ.
- لستُ قصيرة جدًا على أية حال.
وصلا إلى مكان المسابقة فارتجف قلبه كطفل صغير وانتقلت رجفته إلى أصابعه الملتفة حول يدها مما جعلها تلكمه بالأخرى وهي تهتف مازحة:
- كُن أكثر صلابة.
ابتسم وهو يعنفها:
- كوني أنتِ أكثر إحساسًا وقدّري مشاعري.. الفوز بهذه المسابقة يعني لي الكثير.
- لهذا عليكَ أن تكون أكثر صلابة.. احتفظ باهتمامك لنفسك ولا تظهره للمسئولين عنها حتى لا تبدو لهم متسولًا.
تطلع إليها بشيء من الغضب فابتسمت قائلة:
- احتفظ بهذه التكشيرة لهم في الداخل.
- شكرًا للنصيحة.. والآن اصمتي.
تابعت وكأنها لم تسمعه:
- ارفع صدرك لأعلى.. قليل من الكبرياء يليق بك.
زفر بصبر نافد فأردفت في استفزاز:
- رائع.. هذا ما أريده.








noor1984 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:54 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.