شبكة روايتي الثقافية

شبكة روايتي الثقافية (https://www.rewity.com/forum/index.php)
-   الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء ) (https://www.rewity.com/forum/f118/)
-   -   رواية بحر من دموع *مكتملة* (https://www.rewity.com/forum/t481045.html)

روز علي 27-02-21 07:14 PM

دخلت للمنزل بهدوء قبل ان تشعر بقبضة من حديد تمسك بذيل حصانها من الخلف حتى كادت تقتلع خصلاته قبل ان يقربها امام وجهه وهو يهمس بفحيح خافت
"اين كنتِ يا منحلة بمثل هذا الوقت المتأخر من الليل متناسية بأنكِ تحملين سمعة العائلة بين يديكِ وانتِ تدورين بها بكل مكان تدوسين عليه ، ام تظنين بأنه ليس هناك أي رجال يحاسبونكِ على افعالكِ والتي تجاوزت حدودها"

رفعت (صفاء) كفيها بألم وهي تحاول إفلات بعض من خصلات شعرها والتي تقطعت بين قبضتيه بدون ان تذرف اي دموع وقد اعتادت على هذه المعاملة الفظة من شقيقها الكبير والذي يجدها دائما متنفس عن غضبه المقيت ، قالت بعدها بانتحاب غاضب وهو يشدد من هزها من ذيل حصانها بعنف
"لقد كنتُ عند صديقتي وقد اخبرت والدي بهذا ، لذا توقف عن حشر نفسك دائما بخصوصياتي فأنت لست ولي امري"

امتقعت ملامحه بحنق وهو يحرك عينيه بعيدا عنها بلا مبالاة قبل ان يقترب من اذنها اكثر وهو يهمس بتفكير
"ومن هي تلك الصديقة ، هل يعقل بأن تكون دمية قيس"

عقدت حاجبيها بتجهم وهي تضيق عينيها العسلية بقتامة قبل ان تقول بوجوم خافت
"توقف عن مناداتها بهذا اللقب فهي لم تعد تعيش مع عمي قيس لتلقبها هكذا ، فقد عادت لبيت خالها ولعائلته ولمكانها الصحيح"

تصلبت ملامحه بشراسة وهو يعود لهزها من ذيل حصانها بقوة اكبر قائلا بهدوء ينذر بالشر
"اخرسي يا صفاء واجيبِ هل كانت هي ام لا"

صرخت (صفاء) بانفعال وهي تتلوى بألم بدون ان يرحم خصلات شعرها من قبضته
"لا لم تكن هي بل صديقة أخرى ، واترك شعري فورا فأنت تؤلمني كثيرا إذا لم تكن تعرف"

كان يتنفس بغضب اهوج وهو يرجع ذيل حصانها للخلف مع رأسها قبل ان يتمتم بتصلب جامد
"وماذا عن رسالتي ، هل اخبرتها عنها"

توقفت (صفاء) عن المقاومة بعد ان شلت حركة عنقها وهي ترفع حدقتيها العسليتين والمتسعتين بحزن نحو شقيقها من فوقها ، لتتمتم بعدها بابتسامة شاحبة ببرود
"لم اكن اريد اخبارها ، ولكن ما باليد حيلة لأتخلص منك ومن هرائك وسخافاتك"

صرخ فجأة ما ان انهت كلماتها وهو يرفع كفه الآخر نحوها قبل ان يوقفه صراخ آخر من خلفه صارم بوهن
"توقف يا مازن واترك شقيقتك فورا"

عبست ملامح (مازن) بغضب قبل ان يفلت ذيل حصانها من قبضته بقسوة وهو يخفضها للأسفل بوجوم بدون ان يلتفت لمصدر الصوت من خلفه ، بينما استغلت (صفاء) الفرصة لتبتعد عنه وهي تنظر له بنظرات حادة بحزن لتعدل بعدها من خصلات شعرها البنية والتي انفلتت من ذيل حصانها وهي ترجعها لخلف اذنيها برفق ، سارت من فورها نحو والدها والذي كان ينظر امامه بشرود متجهم لتمسك عندها بكفه المجعدة وهي ترفعها لمستوى وجهها لتقبل ظاهرها باحترام كبير تكنه لهذا الرجل والذي يحمل كل معاني الأبوة بالنسبة لها .

رفع (جلال) كفه ببطء شديد لرأسها وهو يربت عليه بحنية وهدوء اعتادت على الحصول عليها منه منذ ولادتها ، ليرفع بعدها نظراته الواهنة لابنه الكبير والذي ما يزال واقفا بمكانه وهو ينظر لهما ببرود جليدي وكأنه ليس من العائلة فهو حقا لا يحمل اي شيء من بوادر الانتماء لهذه العائلة وهو يثبت له بكل مرة يتقدم فيها بالعمر بأن مجيئه لهذا العالم كان اكبر خطأ يقترفه بحياته للآن ، وكأن ولادة الذكور بالنسبة له هي اكبر نقمة بحياته وليس لتخفيف الأعباء عن الوالدين والاهتمام براحتهما بعد هذا العمر الطويل ، بل من اجل التسبب لهما بالمشاكل على الدوام وزيادة الهموم على الوالدين وكأنه ينقصهما هموم والتي ستجلب له يوما ما ازمة قلبية لن يخرج منها حيا .

حرك (جلال) نظراته بعيدا عن ابنه ما ان تمسكت (صفاء) بذراعه وهي تسحبه معها بعيدا باتجاه الأريكة ببهو المنزل البسيط وهو يسير معها بثبات بدون اي اعتراض وكأنها العصا والتي يرتكز عليها ويسير معها بطريق الحياة الطويلة ، وما ان وصلت به (صفاء) للأريكة الوثيرة حتى ساعدته بالجلوس عليها برفق لتفلت بعدها ذراعه وهي تلتقط علبة الحبوب من على المنضدة الجانبية ، لتُخرج عندها حبة دواء صغيرة منها وهي تعيد العلبة لمكانها قبل ان تمسك بأبريق الماء وهي تسكبه بالكأس بجانبه بحذر ، مدت بعدها قرص الدواء امام والدها وهي تعيد الابريق لمكانه فوق المنضدة قائلة بابتسامة رقيقة
"لقد حان موعد الدواء يا ابي ، وعليك ألا تتأخر بتناوله كما قال الطبيب"

اتسعت ابتسامة (جلال) بشحوب وهي تحفر بوجهه بوهن واضح قبل ان يلتقط قرص الدواء من كفها وهو يقربها لشفتيه ليلقي بها بفمه بصمت وانصياع تام فهو يعلم جيدا نتائج اعتراضه فهي لن تتركه وشأنه قبل ان يتناول دواءه على الموعد المحدد وكما قال الطبيب ، بينما قدمت (صفاء) كأس الماء امامه ليلتقطها منها كذلك وامام نظراتها الحزينة مترافقة مع ابتسامة صغيرة بحنية نابعة من قلبها المفطور على والدها والذي اصبح اضعف واوهن من أي مرة بعد ان سيطر عليه المرض تماما بدون أي رحمة ليظهره اكبر من عمره الحقيقي بكثير .

لم ينتبه احد منهما للواقف بجمود والذي تحرك نحوهما بخطوات متمهلة بثبات قبل ان يرتمي بلحظات جالسا على الأريكة المقابلة لأريكة والده بارتياح وهو يتمتم ببساطة
"اذهبي وحضري طعام العشاء يا صفاء فأنا اشعر بالجوع الشديد ينهش امعائي الفارغة منذ أيام"

عبست ملامحها بامتعاض قبل ان تحيد بنظراتها نحو والدها والذي كان يبتسم لها بهدوء شاحب ، لتنسحب بعدها بعيدا عنهما بصمت باتجاه المطبخ بنهاية البهو بدون ان تعود للالتفات لهما ، ونظرات والدها تلاحقها بتركيز وهو يضع الكأس فوق الطاولة امامه بهدوء ، لينقل بعدها نظراته لابنه البكر وهو يشرد به بتفكير وقد وصل عمره للثامنة والعشرين وهو ما يزال يمرح هنا وهناك بدون ان يحدد هدفه بالحياة او ان يعتمد على نفسه بشيء ، قال (جلال) فجأة بحدة وهو ينظر له بتركيز غامض
"إذاً اخبرني ما لذي اعادك للمنزل بعد ان تركته منذ شجارك مع والدك ، ام تظنه منزلك ترحل منه وتعود إليه ريثما تشاء"

ادار (مازن) عينيه بعيدا عنه وهو يتمتم بابتسامة باردة باستخفاف
"لما كل هذا الغضب يا جلال فهذه ليست أول مرة نتشاجر فيها معا وأغيب عن المنزل ، وايضا لقد قلقت عليك من ان تصيبك نوبة قلبية جديدة ، لذا عدتُ إلى هنا على وجه السرعة لأطمئن عليك ام غير مسموح لي بالاطمئنان على صحتك"

ردّ عليه (جلال) بصرامة قاطعة وهو يسند قبضتيه من فوق ركبتيه
"احترم نفسك يا مازن وتذكر مع من تتكلم يا وقح ، وايضا من طلب منك ان تقلق عليّ او تأتي للاطمئنان على صحتي وانت تعلم بأنك المسبب الرئيسي لحالتي هذه ، ولكن لما اتعب نفسي بكل هذا الكلام ولا شيء يجدي معك ابدا"

اسند (مازن) ذقنه فوق قبضته بكسل وهو يهمس بملل ونفاذ صبر
"انت على حق يا ابي الكلام لا يجدي معي ابدا ، لذا ارجوك ان تتوقف عن تكرار نفس الأسطوانة معي فقد مللت منها حقا"

تنفس (جلال) بهدوء متعب وهو يرفع كفه لصدره المهتز بارتجاف وهو يخفض نظره لقبضته المشدودة بقوة ، قال بعدها بصلابة جادة وهو يعود بنظره لابنه بجمود
"اسمع يا ولد ، سأمنحك فرصة أخرى لتثبت لي حقا بأنك ابني من صلبي ودمي ، وستفعل هذا بعملك معي بدار النشر ولا يهمني الوظيفة والتي ستعمل بها هناك فأهم شيء عندي ان يتوقف هذا التهريج عند حده ، وهذه المرة اي خطأ سيصدر منك لن تتوقع عندها ما ستكون عليه ردة فعلي"

التفت (مازن) بوجهه نحو والده ببطء شديد وهو ينظر له ببرود قبل ان يقول بغموض خافت
"أنسيت ماذا حدث يا أبي بآخر مرة عملتُ فيها معك بدار النشر الخاص بك"

تصلبت ملامح (جلال) وهو يتمتم بحزم قاطع
"لن يتكرر هذا مجددا لأني هذه المرة سأضع لك قوانين صارمة وانت عليك بالالتزام بها لتستطيع عندها العيش معنا بهذا المنزل ، وهذا هو الثمن والذي عليك ان تدفعه لأتقبل وجودك معي بمنزلي وغير هذا لا تتوقع مني ان ارحب بك بالمنزل"

كان (مازن) ينظر له ببرود جليدي بدون ان يظهر على ملامحه اي تعبير مقروء ، ليتابع بعدها والده كلامه وهو يقول بجدية هادئة
"وشيء آخر لقد وجدت لك الزوجة المناسبة لنا تماما والقريبة من مستوانا ، لتستطيع معها الاستقرار بحياتك اخيرا وتحمل بعض مسؤوليات الحياة بجانبها ، فقد اصبحت بعمر مناسب جدا لتبني عائلة خاصة بك وتحضر الاولاد...."

قاطعه (مازن) بجفاء حاد وهو ينظر بعيدا عنه
"طلبك مرفوض"

ردّ عليه والده بانفعال حاد وهو يحرك ساقيه بعصبية بالغة
"ولما ترفض اخبرني ، ما لمانع بزواجك وجميع من هم اصغر منك سنا قد اصبح لديهم عائلة كاملة لا ينقصها شيء ، بينما انت تضيع سنوات حياتك بلا شيء ، ام لا تريدني ان افرح بأحفادي قبل موتي"

ابتسم (مازن) بسخافة وهو يقول ببرود مستفز بدون ان ينظر إليه
"بعيد الشر عنك يا كبير العائلة ، ولكني لا اريد الزواج الآن بل سأتزوج بالوقت الذي أراه مناسبا لي ومع الشخص الذي أراه يناسبني ، فهذه الحياة تخصني انا وحدي ولا احد يستطيع التدخل بها"

ادار (جلال) وجهه بعيدا عن ابنه وهو يتنفس بإنهاك وببعض الصداع والذي اصبح يداهمه مؤخرا بكل مرة يدخل بجدال مع ابنه والذي لا يفهم كيف هي طبيعة تفكيره ابدا ؟ بينما شرد (مازن) بأفكاره بعيدا جدا وهو يشعل سيجارة اخرجها من جيبه وهو يشعلها بعود كبريت لينفث بعدها دخانها بشرود وابتسامة جانبية خبيثة تعلو ملامحه ببطء وكل ما يدور بذهنه الآن هي صورة عينان بحريتان تنظران له بكل كره العالم اعتاد على رؤيتهما فيها منذ سنوات طويلة حتى اصبحت جزء من ممتلكاته الخاصة منذ الأزل ولن يتنازل عنها بسهولة مهما حدث .

____________________________
كانت تسير بخطى متخاذلة باتجاه بوابة المنزل الداخلية بعد ان اجتازت البوابة الخارجية بصمت قاتم ونظراتها معلقة بالأرض والتي تدوس عليها بهدوء كهدوء الليل من حولها وهي تشعر بكل الأعباء والتي كانت تتحملها لسنوات تزداد حملا على ظهرها حتى كادت تقسمه لنصفين وجميع خيوط الأمل والتي كانوا يملكونها من قبل قد بدأت بالتسرب من بين ايديهم تدريجيا حتى لم يتبقى لهم شيء يتشبثون به للنجاة بهذه الحياة ، توقفت بهدوء امام درجات السلم القليلة للباب وهي ترفع كفها بهدوء لتمسح بها عينيها الخضراوين بتشوش اصبح يغيم على نظراتها بعد يوم طويل متعب من التنقل بين المدارس الواحدة تلو الأخرى املاً بالوصول للمدرسة والتي تتقبل وجودها فيها ، اخفضت بعدها كفها لترفع قدمها بثبات وهي تحاول صعود الدرجات بكل ما تستطيع من اتزان فقدته بأثقال الحياة ليتحول لاختلال احتل كل طرف من اطراف جسدها المنهك .

لم تنتبه عندما توقفت بسبب الجسد والذي اعاق عليها الطريق وهو يظهر امامها فجأة عند آخر عتبة صعدتها للتو ، ليختل عندها توازنها تلقائياً وهي تتراجع للخلف درجتين من السلم ودوار طفيف بدأ يلفها بقوة مانعا لها من استرجاع توازنها والتشبث بالأرض والتي بدأت تشعر بها تطير بعيدا عن قدميها .

"روميساء افيقي ، هل انتِ بخير"

تغضنت ملامحها بشحوب عندما اخترق الصوت الهادئ بصرامة غمامة دوارها والتي شوشت ذهنها تماما ، لتفتح بعدها عينيها بضيق نصف فتحة ليقابلها عينين رماديتان معتمتين بقتامة تنظران لها بقوة اخترقت هشاشة عينيها الشاحبة وبعض الاحمرار كان يغزو بعض اطراف احداقها المستديرة ، بينما كان (احمد) شارد بشحوب ملامحها الواضح وهالات سوداء طفيفة تحتل اسفل عينيها وفوق جفنيها الواسعين لتحيط بهما حدقتيها الخضراوين مع الاحمرار والذي زاد فتنتهما .

انتفضت (روميساء) بسرعة وهي تفتح عينيها على اتساعهما بانشداه لتخفض عندها نظرها للأسفل وهي تكتشف بأنها محمولة بين ذراعيه بدون ان تشعر ، لتقول بعدها بضيق وببعض الوجل
"لو سمحت هلا انزلتني للأرض رجاءً ، لأستطيع الوقوف لوحدي"

افاق (احمد) من افكاره قبل ان ينظر للأسفل بتفكير وهو يتمتم بوجوم
"هل حقا تستطيعين الوقوف لوحدكِ الآن لأنك كدتِ تقعين عن درجات السلم من صدمة رؤيتكِ لي ، وانا حتى لم ألمسكِ بجسدي بعد"

تنفست (روميساء) بإنهاك وهي تلعن حظها والذي يجعلها دائما تتقابل مع نفس الشخص وبكل مرة تصطدم به لتكتمل صورتها الخرقاء امامه ، قالت بعدها بحدة خافتة وهي تحاول التلوي بضعف بين ذراعيه
"ارجوك يا سيد احمد انزلني ، منظرنا هكذا لا يليق ابدا بسمعة عائلتك وقد يظنون بنا السوء"

تجهمت ملامح (احمد) وهو يشدد من ضم جسدها اكثر وكلمة سيد تضرب لباقته معها بالصميم ، ليقول عندها بجفاء وهو ينظر لها بقوة
"ولكنها عائلتكِ انتِ كذلك ، وهذا يعني بأن سمعتكِ انتِ ايضا ستتأثر"

اتسعت عينيه الرمادية بتركيز وهو ينظر لارتجاف حدقتيها بخضار باهت قبل ان تهمس بشرود حزين استشفه بصوتها المنغم
"لن تتأثر اكثر مما هي متأثرة به يا سيد احمد"

عاد (احمد) لعبوسه وهي تصر على مناداته بلقب سيد وبكل مرة يشعر بنفس الصدمة وكأن احدهم قد ضربه على رأسه للتو بمطرقة من حديد ، ليقول بعدها بتصلب وهو يبتسم بصعوبة امام نظراتها الحائرة
"إلى متى ستبقين تناديني بلقب سيد وكأني شخص غريب عنكِ"

انفرجت شفتيها الممتلئتين ببلاهة وهي تهمس بانشداه
"ماذا..."

قاطعها صوت انثوي بارتفاع وهو يقول من خلفه عند باب المنزل بقوة
"احمد ماذا تفعل..."

ابتلعت (سلوى) المتبقي من كلامها بصدمة وملامحها تتحول بلحظة للغيض الشديد والذي ينبأ على نواياها بأحراق الاخضر واليابس من حولهما وهي تنظر لزوجها يحمل ابنة خاله بين ذراعيه بكل اريحية ، بينما تمالكت (روميساء) نفسها وهي تتملص بين ذراعيه بشراسة وقوة تداهمها لأول مرة من فعل الصدمة والخوف من هيئة زوجته الشرسة والتي تبدو عليها إمارات الجنون ، ليفلتها بعدها (احمد) رغما عنه بهدوء وهو ينزلها على الأرض برفق شديد ، وما ان فعل هذا حتى ابتعدت (روميساء) بسرعة عنه وهي تدفع ذراعيه بعيدا عنها لتعدل من خصلات شعرها السوداء للخلف بارتباك .

تقدمت (سلوى) نحوهما عند مدخل المنزل بخطوات جامدة ونظراتها معلقة ب(روميساء) بتركيز حاد ، لتقف بعدها امامهما وهي تنقل نظراتها بينهما ببرود جليدي يخفي من خلفه الكثير ، وما ان كانت على وشك الكلام بجنون ظاهر بوضوح على ملامحها حتى قاطعتها (روميساء) وهي تقول بخفوت شديد بدون ان تنظر أليهما
"عن اذنكما"

انسحبت بعدها بسرعة بعيدا عن نظراتهما قبل ان تسمع اي تعليق منهما وهي تشعر بأن قوتها قد خارت تماما امام كل هذا الضغط والذي تعرضت له لليوم ولا ينقصها المزيد من الشد والعطا مع اي فرد من افراد العائلة الغريبة بكل شيء يصدر منهم .

صرخت (سلوى) فجأة وهي ما تزال تتابع مسار خطواتها من مكانها
"توقفي بمكانكِ يا ابنة المجرم فأنا لم انهي كلامي معكِ بعد ، إياكِ وأن تتجاهليني..."

قاطعها (احمد) وهو يمسك بذراعها بصرامة حادة
"اتركيها وشأنها يا سلوى فهي لم تفعل شيء لتحقدي عليها هكذا"

استدارت نحوه بعنفوان مشتعل وهي تدفع كفه بعيدا عنها وبعد ان اختفت (روميساء) عن انظارهما بداخل البهو الواسع ، قالت بعدها باستهزاء واضح وحدقتيها تنظران له باشتعال ناري
"ومن الذي فعل إذاً ، هيا اجبني يا احمد من الذي كان يحمل تلك الفتاة بين ذراعيه وامام مدخل المنزل ايضا وكأنه كان ينتظر مجيئ الاميرة للمنزل بفارغ الصبر"

امتقعت ملامحه فجأة من كلامها السافر بحقهما قبل ان يقول باستنكار حانق
"اخرسي يا سلوى واسمعي ما سأقوله لكِ قبل ان تحكمي على ما حدث من تفكيرك المريض وما يوهمه لكِ به عقلكِ الصغير ، فهذا الكلام لا يخرج ابدا من زوجة محترمة تثق بزوجها اكثر من نفسها"

عضت (سلوى) على طرف شفتيها بغيض وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها لتهمس بعدها بعصبية بالغة
"وماذا تتوقع مني ان افعل مثلا وانا أرى زوجي يحمل فتاة أخرى بين ذراعيه"

حرك عينيه بعيدا عنها بملل وهو يقول بتصلب مشتد
"كان عليكِ الاستفسار اولاً والسؤال قبل ان تطلقي لسانكِ الأحمق كالمبرد ، وبالمناسبة تلك تكون ابنة خالي وليست فتاة غريبة"

عقدت حاجبيها بحدة وهي تهمس بحقد دفين بدون ان تمنع نفسها
"ولكنها بالرغم من ذلك تبقى فتاة غريبة عن العائلة ومن بيئة ومستوى مختلف عنا تماما ، وهذا النوع يستطيع جذب اعجاب الجنس الآخر له بكل سهولة وباستخدام حيلهن الرخيصة والمقنعة للرجال الاثرياء"

ارتفع حاجبيه بصدمة وهو يستمع لصوتها الساخر بعدم تصديق ، ليقول بعدها بشراسة وهو يرفع كفه ليمسك بذقنها بقسوة ليديره نحوها بقوة
"أتسمعين نفسكِ وانتِ تتفوهين بهذا الكلام والذي لا يخرج ابدا من امرأة محترمة ، لقد سامحتكِ على لقب ابنة المجرم والذي اطلقته عليها ولكن اي تجاوزات أخرى بحقها لن ارحمكِ بها ابدا يا سلوى ، وإذا كررتِ هذا الكلام امامي مرة أخرى فلن تتوقعي عندها ردة فعلي"

ردت عليه بعبوس حانق
"كل هذا من اجل ابنة المجرم ، انا لم اقل شيئاً سوى الحقيقة والتي عليكم جميعا تقبلها..."

قاطعها بصراخ مرتفع ارجف بدنها وهو يخرج منه لأول مرة
"كفى"

صمتت (سلوى) بالفعل ليدفعها (احمد) من ذقنها بعيدا بالجهة الأخرى بقسوة قبل ان يسير بعيدا عنها بثبات وهو يحاول ضبط اعصابه والتي انفلتت منه لأول مرة وهو المعتاد على وقاحة زوجته وطول لسانها منذ فترة طويلة ليفقد عندها اعصابه دفعة واحدة ما ان اخطئت بالكلام بحق (روميساء) امامه ، بينما كانت (سلوى) تصرخ من خلفه بانفعال متشنج
"انتظر يا احمد واسمع ما سأقوله ارجوك ، فأنت لا تفهم ما اريد ان اوصله لك"

ولكن (احمد) كان قد تجاهلها تماما وهو مستمر بالسير بعيدا عنها قبل ان يختفي عن نظرها تماما بداخل ظلام البهو الموحش ، لتضرب بعدها أرض المدخل بقدميها بغيض مشتعل وهي تتنفس بقوة ولهيب ، ولأول مرة بحياتها تشعر بالنقص بجانب زوجها المثالي والذي لن يكمله سوى وجود طفل صغير يحمل اسمه ويضمن بقاءها معه بهذه العائلة ، فيبدو بأن تهديد خسارته قد اصبح قريبا جدا بعد خمس سنوات من العيش معه بثبات وهدوء وبدون اي اطفال يحملون لقب العائلة .

______________________________
فتحت باب الغرفة بهدوء ليقابلها سريرين منفصلين بجانب بعضهما البعض مع ردهة واسعة بالغرفة والتي اقل ما يقال عنها بأنها اجمل غرفة رأتها بحياتها وهي تجمع منزل بأكمله بغرفة واحدة والمتناقضة تماما عن شكل غرفتهما السابقة والتي لا تصل لربع هذه الغرفة ، استمرت بالتنقل بنظرها بزوايا الغرفة بانشداه منبهر قبل ان تصل بنظرها للتي كانت تتوقع رؤيتها بأية لحظة وهي تأخذ حيزا كبيرا بحياتها ومن لم تبارح تفكيرها منذ خسارتها للعمل ، فكل آمالهما والتي رسماها معا ضاعت بخسارتها للعمل نهائياً .

ابتسمت بحزن وهي تنظر لجلوسها المتكور بمنتصف السرير كعادتها وهي تدفن وجهها بين ساقيها لتطوقهما بين ذراعيها وشعرها متحرر حول رأسها وكأنها بهذه الطريقة تفصل نفسها عن العالم من حولها بدون ان تعرف السبب لتعلقها بهذه العادة ، وهي من طلبت من الخدم تجهيز غرفة مشتركة لهما بدلا من فصلهما كل واحدة بغرفة فهي لن تستطيع ان تنام براحة قبل ان تطمئن على شقيقتها الصغرى والجزء الملتصق بها دائما منذ ولادتها .

تقدمت (روميساء) نحو سريرها بحذر قبل ان تقف بجانبها تماما لتمسك عندها برأس شقيقتها بذراعها وهي تعيده للخلف لتسنده بذراعها الآخر وهي تعيد جسدها للخلف على طول السرير قبل ان تضع رأسها فوق الوسادة برفق شديد ، استقامت بعدها بوقوفها وهي تمسك بساقيها بكفيها معا لتحنيهما على استقامتهما بهدوء لتريحهما على ملاءة السرير من تحتها .

تنهدت (روميساء) بهدوء وهي تحدق بوجهها المتصلب الساكن حتى بنومها والذي لم يمنع جمال ملامحها الباردة من الظهور امامها ليذكرها دائما بصورة والدتها والتي حفرت بداخل شقيقتها الصغرى كوصم لا يزول ، جلست بعدها على طرف السرير لترفع كفها بهدوء وهي تربت على خصلات شعرها بصمت قاتم دام لدقائق ليتضامن مع سكون المكان من حولها بالغرفة الموحشة والشبيهة بغرف القصور ، وما ان كانت ستبعد كفها عن رأسها حتى شعرت بكف تمسك بمعصمها بقوة قبل ان تلتفت بسرعة نحوها بصدمة وهي تكتشف عدم نومها للآن ، وهي التي نسيت بأن (ماسة) غير معتادة على النوم بوقت مبكر وقبل موعد منتصف الليل .

استقامت (ماسة) بجلوسها من على السرير وهي تنظر لها بأحداق قاتمة بتركيز قبل ان تفلت معصمها وهي تهمس بجمود خافت
"لما تأخرتِ بالعودة للمنزل"

ادارت (روميساء) وجهها بعيدا عنها وهي تقول بابتسامة شاحبة
"لقد تأخرتُ بالعمل ، ولم يكن عليكِ انتظاري لهذه الساعة بل كان عليكِ الخلود للنوم من اجل الاستيقاظ مبكرا للذهاب لجامعتك غدا"

عقدت حاجبيها بتفكير وهي تقول بوجوم حاد
"لما تكذبين عليّ ولا تصارحيني بالحقيقة ، وبأنكِ قد خسرتِ عملكِ بالمدرسة بسبب سمعة بنات المجرم"

زمت (روميساء) شفتيها الممتلئتين بمرارة وهي تشعر بنفس الألم والذي شعرت به عندما اعلموها بطردها من العمل بكل دناءة واجحاف وبدون سماع اي تبرير يخصها وكأنهم قد سلموا بالأمر وبأنها مجرمة مثل زوج والدتها ، لتلتفت بعدها بسرعة نحو (ماسة) ما ان نطقت بكل شر وكل الحقد متجمع بحدقتيها القاتمة
"إذاً فقد فعلوها الأنذال وهذا ليس بعيد عنهم ، ما ان خسرتِ دعم قيس والذي ضمن لكِ الوظيفة حتى تخلوا عنكِ فورا وبدون أي تفكير بالعشرة وكل الوقت والذي قضيته بخدمة مدرستهم العتيقة ، فما كان يدفعهم لتوظيفكِ هو الخوف من بطش قيس فهو بالنهاية رجل عصابة لا يستهان به وليس من الجيد قلبه ضدهم ، فكل ما يهمهم هي السمعة والمظاهر بدون ان ينظروا لماضيهم الأسود والملطخ بالعار"

اتسعت عينيّ (روميساء) بجزع قبل ان تمسك بكتفيها بقوة وهي تتمتم بصرامة حادة
"إياكِ وان تفكري بفعل اي حركة خرقاء نحوهم ، فهذه ليست المدرسة الوحيدة بالعالم والتي سأتوظف بها ، وخسارتي للعمل عندهم ليس نهاية العالم"

عبست ملامح (ماسة) وهي تقول بجفاء بارد
"حقا ليست المدرسة الوحيدة ، اراهن بأنكِ لم تجدي للآن المدرسة والتي توافق على توظيفك"

ضيقت (ماسة) عينيها الزرقاء بحدة وهي تنظر لملامح شقيقتها الحزينة والقريبة للانكسار والتي كانت تتوقعها طول اليوم فهذه هي نتائج السمعة السيئة والتي عانوا منها كثيرا فيما مضى وللآن ما تزالوا تؤثر على حياتهما بسلبية ، قبضت بعدها على كفيها بقوة وهي تهمس بلا تعبير فقط حدقتيها تنظران بعيدا بشرود
"لقد قررت يا روميساء ، انا سأعمل"

رفعت (روميساء) نظراتها نحوها بعدم تصديق لما تسمعه منها لأول مرة ، لتنطق بعدها باستنكار واجم وهي تشدد من القبض على كتفيها
"هل جننتِ يا ماسة ، تريدين ان تعملي بهذا السن بدلا من ان تهتمي بدراستكِ الجامعية والتي تكون أهم عندكِ من كل اعباء العمل"

ردت عليها (ماسة) ببرود وهي تدير احداقها نحوها بلا مبالاة
"وما لمانع وانتِ كنتِ تعملين بالماضي بمحلات بقالة بسن الخامسة عشرة فقط"

صمتت (روميساء) بوجوم حزين للحظات والذكريات السوداء بدأت باجتياحهما لتكون ثالثهما بالغرفة الموحشة بسكون ، قالت بعدها قاطعة الصمت الطويل بقوة وحزم
"ولكنكِ تعلمين جيدا ما لظروف والتي كنا نمر بها بوقتها والتي ارغمتني على العمل ثمن العيش بمنزل يحتوينا بسلام ، ام تظنيني كنتُ سعيدة بذلك العمل"

اخفضت (ماسة) عينيها بهدوء وهي تتمتم بابتسامة غامضة
"ولكنه يبقى افضل من العمل خادمة تحت اقدامهم حتى اصبحتُ بساط قذر تحت افعالهم الدنيئة"

عقدت (روميساء) حاجبيها بريبة وهي ما تزال تدلك على كتفيها بهدوء هامسة بخفوت
"ماذا قلتِ للتو"

رفعت (ماسة) رأسها بسرعة وهي تبعد كفيها عن كتفيها بصمت قبل ان تتمتم بتصلب
"كنتُ اقول بأنني سأعمل وهذا القرار لا رجعة فيه ، وحتى تجدي عمل جديد بمدرسة أخرى انا لن افكر بترك العمل ابدا ، فهذا الحال لم يعد يطاق ابدا فأما ان نرحل من هنا بمهلة اسبوع لا اكثر ، وأما ان نعود لمنزل قيس فأنا اُفضله اكثر من هذا القصر الموحش كأصحابه والذي لا يمت بالبيئة الوضيعة والتي تربينا عليها بصلة"

زفرت (روميساء) انفاسها بإنهاك وهي ترفع كفها لجبينها لتمسد عليه بهدوء وتفكير ، قالت بعدها بلحظات بابتسامة هادئة بتعب
"حسنا يا ماسة سأدعكِ تنفذين ما برأسكِ ، ولكن هذا سيحدث بشرط وهو بأنكِ لن تحاولي العمل بأي مجال قبل ان نفقد الأمل تماما بإيجاد مدرسة توظفني عندها"

حركت (ماسة) رأسها بشرود صامت بدون ان تنظر لها وهي ساهمة بعالم آخر بعيدا عن الجميع ، لتنهض بعدها (روميساء) عن طرف السرير وهي تنظر لها بوجوم قبل ان ترفع كفها لتربت على رأسها بصمت وهي تهمس بخفوت مبتسم
"تصبحين على خير يا ماسة"

لم تردّ عليها (ماسة) بشيء وكأنها لم تعد تسمع اي شيء مما يدور من حولها وهي تنظر بعيدا عنها بتجمد حول ملامحها للرخام البارد ، لتنسحب بعدها (روميساء) ببطء وهي تخفض كفها عن رأسها قبل ان تخلع الحقيبة عن كتفها لتلقي بها على السرير بإهمال ، بينما عادت (ماسة) لتطويق ساقيها بذراعيها بقوة وهي تتنفس باضطراب متهدج ملئ سكون الغرفة بصوت انفاسها الباردة .

مرت لحظات واجمة على كليهما قبل ان تحيد بنظراتها نحو (روميساء) والتي كانت تُخرج ملابس مريحة من حقيبة ملابسهما والملقاة ارضا بزوايا الغرفة لتتجه بعدها للحمام الملحق قبل ان تقفل الباب من خلفها بهدوء ، اخفضت بعدها نظراتها بضعف لا تظهره سوى امام نفسها عندما تحاصرها هموم الحياة ومشقاتها وعندما تلفها الوحدة لتكون انيسها الوحيد طول الليل ، فلن يستطيع اي احد ان يفهمها اكثر من وحدتها والتي تعاملت معها منذ سنوات وهي تُخرج لها كل ما يعتمل بصدرها بدون اي خوف بعيدا عن حياة شقيقتها والتي دائما ما تكون حافلة بمواجهة العالم من الخارج بينما هي محبوسة بجدران خدمة ابشع المخلوقات على سطح الأرض .

رفعت ذراعها بارتجاف نحو نظرها وهي تبتسم بهدوء لعلامات طبعت بداخلها لتبقي آثارها على ذراعها وهي عبارة عن حروق صغيرة منتشرة على طول بشرتها بفعل سيجارة كان يطفئها ببشرة ذراعها كعقاب على عصيان اوامره حتى تحولت لخريطة ستلاحقها لبقية حياتها القادمة لتذكرها بدناءة البشر وما يحملونه بقلوبهم من بشاعة سيفيض بها سطح الكوكب بأكمله .

نهاية الفصل.............

روز علي 06-03-21 07:28 PM

الفصل الرابع
 
الفصل الرابع..................
خرجت من الحافلة بسرعة وهي تسير بثبات بطرقات الحيّ والتي حفظتها عن ظهر قلب بينما كانت تمسك بمقدمة قبعتها الخاصة بالفتيان وهي تتنقل بنظرها بجميع من حولها بحذر وبكل من تصطدم بهم عن قصد ، فكل ما يهمها الآن ان لا تُكشف هويتها امامهم بعد ان اصبحت معروفة بالسمعة السيئة والتي اهداها لهم زوج والدتها قبل دخوله للسجن ، ولن تخرج من هذا الحيّ قبل ان تحصل على ما أتت من اجله .

وصلت بالنهاية للشقة القديمة والخاصة بزوج والدتها وهي ما تزال كما هي على حالتها والذي يرثى لها فيبدو بأنها بالنهاية لم تعجب احدا لتأجر له من قاطنين الحيّ ، وهذا كان من حسن حظها فما تزال هناك امور عالقة بالمنزل وعليها استعادتها والتي لم تجد لها أثر بالحقائب والتي احضروها معهم .

سارت بسرعة باتجاه الشقة قبل ان تفتح الباب الصدئ والموصد بمفتاح الشقة والذي ما يزال بحوزتها للآن قبل ان تدسه بجيب بنطالها الجينز وهي تدخل للشقة بصمت ، لتشعر بعدها بغمامة حزن غريبة مترافقة مع غيوم من الغبار وهي تحوم بالمكان وكأنها قد غابت عن المنزل لمدة سنين وليس مجرد يومين ، اغلقت الباب من خلفها بهدوء لتسير من فورها نحو بهو المنزل الصغير وهي تشعر بأنفاسها ستزهق من رائحة غبار الطلع والذي يملئ المكان على غير العادة بالرغم من حرصها اليومي على تنظيف هذا المكان وتعزيله فيما مضى ولكنه يعود ويتحول لمكان قذر ولا يطاق العيش فيه ابدا فهذا عائد للبناء المتهالك والضعيف وللشقق بأقذر مكان على وجه الأرض .

تنفست بهدوء وهي تحاول حبس اكبر قدر من الهواء النظيف والمتبقي بهذه الأجواء ، لتتجه بعدها لغرفتها وهي تفتح بابها بهدوء قبل ان يقابلها الفراشين المقابلين لبعضهما والذين كانا ينامان عليهما من قبل ، تجاهلت النظر لمحتويات الغرفة والمليئة بالغبار وهي تسير للداخل بحذر قبل ان تجثو على ركبتيها امام فراشها بهدوء ، لترفع بعدها كفها بتوجس وهي تدسها داخل بطانية الفراش الناعمة قبل ان تُخرج منها مفكرة صغيرة بلون الوردي وبعض الغبار يحتل غلافها الباهت وقد كانت تكتب عليها كل ذكرياتها واحداث الأيام منذ طفولتها وهي تتنقل معها لكل مكان تذهب إليه ومن منزل لآخر وستلحقها الآن لمنزل المدعو خالها ، فلم تستطع النوم جيدا باليومين السابقين بسبب عدم كتابة ما يدور برأسها بمفكرتها الصغيرة .

شددت من القبض على مفكرتها بكفيها معا وهي تتصفح بها قبل ان تتوقف عند الصفحة والتي تحوي شفرة صغيرة حادة بشكل مستطيل تستطيع تمزيق اي شيء تلمسه وقد كانت دائما سلاح فعال تستخدمه بطفولتها لتحمي نفسها من دناءة البشر والتي لم تتركها وشأنها لسنوات وخاصة من اصدقاء (قيس) والذين كان دائما يجلبهم معه لمنزله لتضطر عندها لتحمل كل مضايقاتهم وخدمتهم بكل طيبة قلب مرغمة عليها فهذا كان دورها الثابت بمنزله ، نقلت نظرها لأوراق المفكرة وهي تلمح بعض الأوراق المالية والظاهرة من بين صفحات المفكرة والتي كانت تخبئها بمكانها السري لوقت الأزمات بدون ان يعلم عنها احد ، لتخفض بعدها كفها وهي تدس الأوراق المالية بقوة لداخل صفحات المفكرة بجمود حتى اختفت عن مرأى نظرها تماما .

انتفضت واقفة على قدميها وهي تغلق المفكرة على الشفرة بقوة ما ان سمعت صوت خطوات خافتة قادمة من خارج الغرفة ، لتعقد عندها حاجبيها بتوجس وهي تفكر بهوية المزعج والذي تجرأ على دخول المنزل مع عدم وجود اصحابه ، فهي تعلم علم اليقين بأن صاحب البناية لا يأتي للاستطلاع على شققه بنفسه بل الزبائن هم من يذهبون لمنزله للاتفاق معه على تأجير الشقق لهم ، فمن معرفتها عنه انه اكسل واطمع من ان يأتي ليلقي ولو نظرة واحدة على شققه والمستأجرين فيها وقد عرفت هذا بسبب تحملها مسؤولية دفع الإيجار له .

تقدمت (ماسة) بجمود لباب الغرفة وهي تخرج السكين من جيب بنطالها الخلفي بهدوء ، وما ان خرجت من الغرفة حتى قابلها الصمت القاتم والذي خيم على كل زوايا الشقة بغموض ، زمت شفتيها بجزع وهي تشعر بارتجاف يحتل كل اجزاء جسدها كعلامة غير مبشرة وغير محمودة العواقب ، وما ان التفتت قليلا برأسها جانبا حتى شعرت بذراع تطوق عنقها برفق من الخلف وانفاس تهدر فوق رأسها هامسا بانفعال خافت
"لقد تأخرتِ كالعادة وانا قد سبقتكِ بخطوة ، لذا اعلني عن انهزامك بسرعة وألقي بسلاح الجريمة"

تصلبت ملامحها بغضب وهي تحاول التلوي بعيدا عن ذراعه الخانقة لعنقها ، لتشعر بعدها بسكين حاد تلامس اذنها بهدوء ورفق والصوت يعود ليهدر بأذنها بفحيح
"إياكِ وان تفعلي اي حركة خرقاء ستعاقبين عليها بشدة ، أنسيتِ قوانين اللعبة والتي وضعتها بنفسكِ ذات يوم"

زفرت أنفاسها بهدوء قبل ان تلقي بالسكين بعيدا بغضب ، ليقول بعدها بابتسامة عريضة شعرت بها بصوته
"احسنتِ هكذا اريدكِ دائما"

ابتسمت (ماسة) ببرود قبل ان ترفع ذراعها برفق لتدس مرفقها بمعدته من الخلف بقوة حتى أفلتها اخيرا وهو يتراجع للخلف ضاحكا باستمتاع مستفز ، لتستدير بعدها نحوه بسرعة بعنفوان وهي ترفع كفها لتعدل من اتجاه قبعتها من فوق رأسها وهو ما يزال مستمر بضحكه الساذج قائلا بابتسامة جانبية مهتزة
"لقد خرقتي قوانين اللعبة عندما استخدمتِ سلاح آخر من اطراف جسدك ضد خصمك"

انحنت (ماسة) على ركبتيها لتلتقط السكين من على الأرض وهي تتمتم بلا مبالاة
"انا من وضعتُ قوانين تلك اللعبة ، لذا من حقي ان اعدل من قوانينها كما يحلو لي"

توقف (مازن) عن الضحك وهو يحاول ضبط انفاسه ناظرا لرأسها المحني وللقبعة الرجالية من فوق رأسها ، ليقول بعدها بابتسامة صغيرة بتباطء
"وانا لا امانع هذا من الطفلة والتي غلبتني ذات يوم بمصارعة الأيدي ، فكل شيء رائع من دمية قيس"

تجمدت ملامحها ببرود كالصخر وقبل ان تعود لتقف على قدميها كان قد سحب القبعة من فوق رأسها بخفة وشعرها معقود لفوق رأسها بأحكام بدون ان تسقط منه اي خصلة ، لتتسع بعدها عينيها بغضب اهوج وهي تمد يدها لتلتقط قبعتها منه قبل ان يعود للخلف وهو يقول بتسلية ملوحا بالقبعة بكفه
"اريد ان افهم امرا واحدا لما ترتدي دمية قيس قبعة للفتيان ام اختفت كل القبعات الخاصة بالفتيات من العالم ، ولما تحتاجين اصلا لارتدائها ، هل يعقل بأنكِ تتخفين بها"

عضت (ماسة) على طرف شفتيها بغيض من وقاحته الا متناهية معها والمعتادة عليها منه منذ سنوات وهي تقبض على المفكرة مع السكين بقبضة واحدة بقوة ، عادت بعدها لمد كفها الحرة نحوه بحزم وهي تتمتم ببحة غاضبة لا تظهر بصوتها ألا عندما يصل الغضب عندها لأوجهه
"اعد لي قبعتي فورا يا مازن ، وإياك وان تحشر نفسك بما لا يعنيك فليس لديك الحق بسؤالي عن اي شيء يخصني يا ابن جلال"

اتسعت ابتسامة (مازن) باستفزاز وهو يفترسها بنظراته قائلا بانبهار مصطنع
"كم اعشق نبرة صوتكِ الغاضبة وانتِ تنطقين باسمي ، فهي تشكل لدي نغمة عذبة تخترق روحي على الفور"

ردت عليه بعبوس متجهم وهي تخفض كفها بمكانها
"لا فائدة ترجى منك فالمختل سيبقى مختل طوال حياته ، ولن احاول مجاراتك اكثر من هذا فأنت لست من مستواي"

قال (مازن) وقد عبست زاوية من شفتيه بغموض
"هل افهم من هذا الكلام بأنكِ الآن لم تعودي من مستواي بعد ان انتقلتِ لمنزل قريبك الثري ، ولكنك نسيتِ بأنه مهما حاولتِ تغيير اصلك ومكان سكنك فستبقى طبيعتك الثائرة والتي تربيتِ عليها معي تسيطر عليكِ وليس هناك مهرب منها ، وهذا واضح من طريقتكِ باستقبالي يا دمية قيس"

كانت (ماسة) تنظر له بتصلب جمد احداقها الزرقاء حتى تحولت لأحجار منحوتة بالرخام بدون ان تظهر اي مشاعر وهو يذكرها بطبيعتها والتي اعتادت عليها منذ الصغر وليس من السهل ترويضها مجددا فقد عانت كثيرا لتصبح على هذه الصورة الصلبة والتي لا تهزها شيء ، بينما كان (مازن) ما يزال يراقبها بتمعن خبيث قبل ان يرفع كفيه ليمسك بهما كتفيها بقوة وقسوة وهو يقرب وجهه امامها مباشرة قائلا بأنفاس باردة لفحت وجنتيها
"لا تحزني من كلامي ولكنها الحقيقة ، وعليكِ تقبلها بروح مرنة ، ومهما حاولتِ تغييرها فلن تستطيعي تغيير روحكِ الشرسة البدائية والتي اعشقها منذ زمن واحاربها لسنوات ، لذا ألا ترين بأنه قد حان الوقت المناسب لتعلني السلام على روحكِ الأبية"

انتفض (مازن) وهو يبعد كفيه بعيدا عن كتفيها ما ان شعر بسكين تغرز بأصابع كفه بدون ان ينتبه لينفض كفه بحنق ، لترفع بعدها السكين لوجهه وهي تقول بتهديد مشتد
"هذا سيكون بأحلامك يا مازن جلال ، ويمكنك ايضا الاحتفاظ بالقبعة فلم اعد اريدها بعد ان تلطخت بقذارة يديك"

وما ان استدارت بعيدا عنه وهي تنوي الاتجاه لباب المنزل حتى سد عليها الطريق بسرعة وهو يقف امامها بكل همجية ، وقبل ان تنطق بأي كلمة سبقها وهو يضع القبعة فوق رأسها بهدوء قائلا وهو يعود للابتسام مجددا
"اهدئي فكل شيء يهون ألا غضبكِ عليّ ، وتذكري بأني لن انسى لكِ هذه الحركة المباغتة وسأردها لكِ قريبا"

ما ان انهى كلامه حتى اخفض كفه عن القبعة ليلامس مقدمة انفها بأصبعه بخفة قبل ان تدفع اصبعه بعيدا عنها ببرود ، ليرفع بعدها ذراعيه عاليا بابتسامة ما تزال تحتل محياه وهو يرجعهما لخلف رأسه بكسل ، بينما كانت (ماسة) تنظر بتركيز لعينيه الناعسة بلون العسل القاتم والقريب من لون حدقتي شقيقته (صفاء) ولكنها دائما ما تلاحظ اختلاف بطبيعة لون احداقهما ، عادت بعدها للسير بعيدا عنه لتتجه نحو باب المنزل بثبات قبل ان تعود للتوقف لتلتفت عندها برأسها نحوه وهي تهمس بوجوم
"فقط سؤال ، ما لذي تفعله بشقة قيس بهذا الوقت ، واكيد ليس لتستطلع ان كان عمك قيس قد عاد من السجن ام لا"

كان (مازن) يبتسم بسخافة وهو يتمتم ببرود جليدي
"ألا تعلمين لقد قررتُ السكن بشقة قيس حتى عودتكما وقد وافق السمسار على تأجير الشقة لي ، لأنه ليس من العدل ان تؤجر هذه الشقة لأناس لا نعرفهم وعندها لن تستطيعي انتِ وشقيقتك العودة للسكن بها ، لذا ضمنتها لكِ حتى عودتكِ ، فأنا اعرف بأنكِ ستعودين أليها فهذا مكانكِ بالنهاية ومنزلنا المستقبلي"

اعادت وجهها للأمام بقوة وهي تزفر انفاسها بنشيج خافت متجاهلة تلميحاته الواضحة ، لتسير بعدها بسرعة بخطوات جامدة لخارج الشقة بأكملها بدون ان تعلق على كلامه وهي تشدد من الإمساك بمقدمة قبعتها بأصابعها بهدوء ، بينما كانت النظرات المتسلية ما تزال تلاحقها بترقب وهو يقبض على كفيه بقوة بجانبي جسده بتصلب قبل ان يرخيهما وهو يهمس بشرود هائم
"ستعود ، إلى اين ستهرب مني"

____________________________
دخلت للمنزل بهدوء وهي تسير باتجاه السلالم بصمت وبخطوات متمايلة بعض الشيء وهي تحاول الارتكاز قدر الإمكان على كعبي حذائيها المسننين والذين حفرا بقدميها بسبب السير الطويل عليهما ، لتصعد بعدها درجات السلم بهدوء قبل ان تصل بالنهاية لأروقة الممرات لتقف عندها بمحاذاة الغرفة والتي كان يخرج منها الصراخ والعويل والذي اخترق سكون المكان من حولهم وهو يصلها بعض من الصراخ المترافق مع النواح المزعج
"ماذا افعل يا أمي لقد انهارت حياتي الزوجية بأكملها ، فمنذ دخول تلك الساحرات للمنزل وقد ألقوا بلعنة على جميع ساكني المنزل ، وكل الأنظار تلتف من حولهما فقط ، وخاصة الفتاة ذات العينان الخضراء والتي تنوي على سرقة زوجي مني والمسحور بها وكأنه لم يرى فتيات بالعالم غيرها"

ردت عليها المقابلة لها باتزان تحسد عليه
"هدئي من نفسكِ عزيزتي فهذا الضعف والهراء والذي تقولينه لن يفيدكِ بشيء ، بل سيزيد حالتكِ سوءً وستدفعين زوجك للهروب منكِ اكثر بغبائك هذا وبحالتكِ المثيرة للشفقة"

ازدادت دموع الجالسة امامها بانهمار وبحقد دفين وهي تصرخ بانفعال حاد
"إذاً ماذا تريدين مني ان افعل يا امي بعد كل ما شاهدته امامي من خيانة وانا اكاد اجن بكل مرة يتقابل فيها معها ، حتى انه صرخ بوجهي وتجاهلني لأول مرة بحياته"

كانت والدتها تضع كفها على ذقنها وحاجبيها الرفيعين مرفوعين بحدة وهي تقول بتفكير
"ولما تصرف معكِ هكذا ، تكلمي"

ابتلعت ريقها بارتجاف وهي تقول بابتسامة شرسة وما تزال دموعها تسقي وجنتيها
"لأني نعتُ ابنة خاله بكلمات لا تجوز ، لذا ثار عليّ وغضب مني"

ردت عليها والدتها بعبوس متجهم وهي تمسك بشعرها بقسوة
"غبية ومتسرعة ولا تفكرين بعواقب لسانكِ الطائش والذي سيوصلكِ بالنهاية لحافة الهاوية بعلاقتك الزوجية مع زوجك ، فلا تنسي من يكون زوجك وعائلته ومن نكون نحن وانتِ تنزلين لمستوى منحدر اقل منكِ بكثير ، فقط لترضي غروركِ وغيرتكِ الحمقاء"

اخفضت رأسها بخنوع امام والدتها وهي تعود للعويل والبكاء بقوة وإحباط
"ولكني لم اتحمل يا أمي ، لم اتحمل ، لقد فقدتُ زمام السيطرة على الأمور بسبب تلك الشاذة ، وجعلتُ احمد يغضب مني ، واكيد سيفكر جيدا بسير علاقتنا والانفصال عني بما انه ليس هناك اي طفل يربطه بي"

افلتت والدتها شعرها بهدوء وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها بقوة ناظرة لرأس ابنتها المنكس امامها وبكاءها يعلو اكثر وأكثر مع نواح مؤذي للأذن ، بينما كانت ما تزال الواقفة خارج الغرفة تراقب الأجواء الخانقة بالداخل والمعتادة عليها بكل مرة تأتي شقيقتها بزيارة لمنزلهم لتقلب حياتهم لمواجع ونواح .

تنهدت بهدوء وهي تعود للسير بعيدا قبل ان توقفها والدتها وهي تقول بحدة صارمة
"غزل تعالي إلى هنا ، وسلمي على شقيقتك سلوى ، فليس من الأدب تجاهل وجود شقيقتك الكبرى بمنزلنا"

زمت (غزل) شفتيها المتكورتين بحنق طفولي وهي تفكر بالمصيبة والتي وقعت على رأسها لتجعلها تواجه والدتها وهي بهذه الحالة من العصبية البالغة على مشاكل شقيقتها الزوجية ، التفتت بعدها برأسها بهدوء نحو والدتها وهي تحاول طبع ابتسامة صغيرة على شفتيها قائلة بمودة
"لا اعتقد بأن شقيقتي بحالة تسمح لها بأن تستقبل سلامي ، لذا سأترككما لحل مشكلتكما العويصة وبعدها سنتكلم معاً"

زاد عبوس والدتها واتساع عينيها الحادة بطريقة تنبؤ بالشر ، لتزفر بعدها انفاسها بغيض وهي تهمس ببرود ناظرة بعيدا عنهم
"كيف حالكِ يا سلوى ، اتمنى ان تجدي عندنا ما اتيتِ من اجله ، وان لا تطول زيارتكِ مثل المرة السابقة"

وعندما لم تجد اي ردّ من الساكنة بجلوسها منكسة الرأس بانهيار لا تشعر بما حولها حتى انسحبت بسرعة بعيدا عن الغرفة وامام نظرات والدتها المصدومة باستنكار من كلامها الأخير الوقح ، بينما وصلت (غزل) لغرفتها اخيرا لتفتح الباب من فورها وهي تتقدم للداخل قبل ان تغلق الباب من خلفها بقوة وهي تتنفس بلهاث وتعب بعد هروبها من مصيرها الحالك مع والدتها .

عضت على طرف شفتيها بألم سرى بكل إنحاء جسدها وهي ترفع ساقيها لتخلع الحذاء العالي من قدميها الصغيرتين بقوة لتلقي به بعيدا عنها ، لتسير بعدها للداخل وهي تخلع هذه المرة الحقيبة عن كتفها لتلقي بها فوق السرير الواسع بإهمال ، وصلت لطاولة الزينة لتقف امام المرآة كالعادة كلما مرت بجوارها بدون ان تمنع نفسها من النظر لشكلها بنظرة تقييمية ومطالعة نفسها بدقة ، كانت تنظر لعينيها العسلية والمائلة للون الغروب المخضر ولشكلها البسيط والمتناقض تماما عن شكل شقيقتها الكبرى وصاحبة صوت العويل ، لطالما كانت هناك فروق شاسعة بينهما والتي تظهرها دائما اقل بكثير من شقيقتها الفاتنة والتي كان يتمناها الكثيرون من قبل فهي تمتاز بالكثير من المميزات والتي تأهلها لتكون افضل منها بينما هي تعاني من العيوب والتي ماتزال تلاحقها منذ طفولتها فهي بالنهاية عليلة القلب وستبقى هكذا دوما للمتبقي من حياتها .

رفعت كفها بهدوء وهي تتخلل شعرها القصير بنعومة والذي لا يصل لكتفيها وهي تعيده لخلف اذنيها بشرود ، لتفكر بعدها بحزن بأنها قد تقبلت بساطتها بالفعل ولم تعترض عليها ووجدت من يناسب ويكمل بساطتها تلك ولكنهم مع ذلك افسدوا كل شيء عليها ولم يهنئ لهم بال حتى كسروا قلبها العليل وحولوه لشظايا متناثرة من المستحيل إعادتها كما كانت فما يتحطم لا يعود كسابق عهده ومهما حاولوا ترميمه بشتى الطرق .

اخفضت كفها باهتزاز ما ان لمحت دمعة صغيرة عالقة برموشها السفلية بدون ان تفارقها ، لتتلمس بعدها بكفها على سطح الطاولة بارتجاف حتى وجدت مبتغاها وهي ترفع سلسال لعقد رفيع وطويل بعض الشيء لأمام وجهها لتقربه من شفتيها وهي تقبله بهدوء بدون ان تنتبه للدمعة الصغيرة والتي انحدرت على وجنتها بعد ان فارقت رموشها وهي تهمس برقة وحزن على أيام ذهبت خلف الأفق
"اشتقتُ إليك كثيرا يا عاصم"

تنهدت بحزن ومرارة وهي تحاول السيطرة على انفاسها الثائرة بصدرها والتي جعلت قلبها العليل على وشك الانفجار بأية لحظة وهو يضخ نبضاته بإنهاك وضعف ليبقى على قيد الحياة قدر المستطاع ، وهو على وشك فقدان وجوده بعد صبر طويل عليه دام لسنوات لتتحول لسلسلة من معاناة طويلة وكأنه يحارب بمعركة خاسرة تحددت نتيجتها منذ سنوات وتحديدا عندما حرمت من العيش بطفولة طبيعية كجميع الأطفال بسنها آنذاك .

______________________________
كانت تلتقط الأوراق المبعثرة من على أرض المكتب والتي سقطت منها عن طريق الخطأ ، لتستقيم بعدها بوقوفها ما ان انتهت من جمع الأوراق بين ذراعيها وهي تمرر اصابعها على اطرافها برفق لتتأكد من وجود جميع الأوراق كاملة بحوزتها قبل ان يكتشف والدها فعلتها الخرقاء ويحرمها من مساعدتها له بالعمل بأيام العطلة ، فهذا العمل ليس لمساعدته فقط بل من اجل الاطمئنان على حالته كل حين والتأكد من انه تناول ادويته بمواعيدها المحددة بدون اي تأخير ، وكم تتمنى لو يشارك شقيقها ايضا بالعمل مع والده بدون ان يسبب له المشاكل كعادته لتكون عندها اكثر اطمئنانا على صحة والدها المتقلبة إذا تعب او تدهورت حالته فجأة بخضم العمل .

اخفضت (صفاء) كفها عن الأوراق وهي تنظر للأسفل بعبوس لتوزع عندها نظراتها بكل زوايا المكتب بوجوم وهي تتمتم بتفكير
"اين اختفت تلك الورقة يا ترى"

التفتت بسرعة ما ان شعرت بأحدهم يربت على كتفها ليظهر امامها الجسد الطويل صاحب الابتسامة العملية والمحفورة بملامح وجهه المتصلبة بغموض وهو يمد امامها الورقة والتي كانت تبحث عنها للتو ، ولا تعلم كيف طارت تحديدا لكفه هكذا ؟ فكل الذي تعلمه بأن هذا الرجل لم يبارح تفكيرها منذ ايام بل منذ عملها بهذا المكان بأيام العطلة وهو يظهر امامها فجأة عندما تحتاج للمساعدة بشيء او عندما تقع بمشكلة بالعمل وكأنه يقرأ افكارها بدقة لا متناهية وبطريقة معقدة شوشت تفكيرها واحتلته .

ابتلعت ريقها برهبة وهي تخفض نظرها بعيدا عنه بإحراج ما ان قال المقابل لها ببعض الضيق وهو يلوح بالورقة امامها
"ما بكِ ، أليست هذه الورقة هي التي كنتِ تبحثين عنها للتو بكل زوايا المكتب"

زمت شفتيها بابتسامة صغيرة وهي ترفع كفها باتجاه الورقة لتمسك بها وهي تتمتم بامتنان
"اجل ، شكرا"

سحبت الورقة بسرعة منه لتضمها لباقي الأوراق بين ذراعيها وهي تهمس بهدوء
"عذرا ، ولكن كيف وصلت الورقة لك وكيف عرفت بأنها ما ابحثُ عنه ، انا اشعر بأنك تراقبني"

مرت عدة لحظات بدون ان تنظر له وهي تستمع لأنفاسه المكتومة والتي تشعر بها تكاد تلامسها لتجمدها بمكانها من برودها ، لترفع بعدها نظرها نحوه بعد ان استبد بها الانتظار لتفاجئ بنظراته الغريبة وهو يضيق عينيه بقتامة نحوها قبل ان يبعد نظره بعيدا عنها وهو يقول ببرود شعرت به بحزن غير مبرر
"لقد اتيتُ لرؤية المدير ولم اكن اتوقع عدم وجوده بالمكتب وبمحض الصدفة وجدتُ ورقة ملقاة عند إطار الباب ، وعندما رأيتكِ وانتِ تتلفتين من حولكِ بهلع عرفتُ بأنكِ هي ما تبحثين عنها ، لا تحتاج للكثير من الذكاء أنتِ فقط من ابتعدتِ قليلا بتفكيرك يا صغيرة"

عبست ملامحها وهي تنهر نفسها على كلامها بسبب تفكيرها الأحمق وشكوكها الدنيئة نحوه فقد اصبحت مضطربة التفكير كثيرا بالآونة الأخيرة وقد يرجع السبب لمشاكل (ماسة) وصحة والدها المتدهورة ، عضت بعدها على طرف شفتيها بحنق وهي تتمتم بامتعاض
"لستُ صغيرة يا سيد جواد ، ووالدي لم يأتي للعمل بعد ولكنه سيصل بعد عشر دقائق"

ردّ عليها (جواد) بهدوء غامض
"إذاً سأنتظره بمكتبه هنا حتى يصل ، وهذا إذا لم يكن لديكِ مانع يا صفاء جلال"

شددت من ضم الأوراق بين ذراعيها بارتجاف وهي تعيد خصلات شعرها الطويلة لخلف اذنيها قبل ان تهمس بوجوم
"لا لا امانع"

كانت نظرات (جواد) موجهة نحوها بقوة وبدون اي مواربة وهو يتنقل بنظره بداية من شعرها البني الناعم وهو معقود على هيئة ذيل حصان طويل مستريح على كتفها الايمن ليصل لجسدها الممشوق والملتف بكنزة صوفية بيضاء تخفي معالم جسدها بوضوح وهي تبدو كقطة صغيرة ناعمة ضلت طريق العودة ، ليشيح بعدها بوجهه بعيدا عنها ببرود وهو يتمتم بخفوت مشتد
"اخبريني كيف هي صحة الوالد الآن"

رفعت نظرها بسرعة نحوه وهي تعقد حاجبيها بريبة من نبرة صوته الخشنة والتي يطغى عليها البرود وهو يسألها عن حال والدها ببساطة والذي يكون رئيسه بالعمل ، لتقول بعدها بابتسامة لطيفة احتلت شفتيها الورديتين بانتفاخ
"انه بأحسن حال والحمد الله على كل شيء ، شكرا لك على السؤال"

اعاد نظراته الحادة باتجاهها وهو يشرد بابتسامتها لثواني قبل ان يقول بجفاء
"جيد ، فكل ما اتمناه حقا ان يبقى دائما بأحسن حال"

ارتجفت زاوية من شفتيها قبل ان تذوي الابتسامة بمحضرها وهي تشعر بعدم الراحة بكلماته الباردة والتي بعثت القشعريرة بكل انحاء جسدها ، لتحيد بعدها بنظراتها جانبا وهي تدعوّ بداخلها ان يأتي والدها بسرعة لينقذها مما هي فيه الآن وهي تشعر بنفسها تكاد تختنق من الأجواء الكاتمة بالمكان ، انتفضت بوجل ما ان قال (جواد) بجفاء مقيت فاجئها
"واين هو مازن جلال لم اعد اراه بالعمل ، ام انه قد طُرد من العمل اخيرا بعد ان سبب الكثير من المشاكل لصاحب المكان ولكل العاملين بالدار وكل ما يهمه هو ان يحصل على بعض المتعة بالعمل على حساب الآخرين"

عضت (صفاء) على طرف شفتيها بضيق فهذا الرجل قد بدأ يتمادى بالكلام معها وهو يسخر من شقيقها امامها فحتى لو كان (مازن) شخص مقيت ولا يطاق ابدا فهو يبقى بالنهاية شقيقها وجزء من عائلتها وابن والدها الغالي ، لذا لن تسمح بأن يهينه اي احد بهذه الطريقة امامها وتبقى صامتة امامه بخنوع ، قالت بعدها بقوة وهي تشدد من ضم الأوراق لصدرها
"لا لقد توقف عن العمل منذ فترة فقد تبين بأن هذا المكان لا يناسبه وليس من ميوله ، وإذا كان قد سبب لك اي مشاكل من أي نوع فأنا اعتذر بالنيابة عنه ، فهو اكيد لم يتقصد فعل كل هذا مع اي احد من الموظفين بالمكان"

كان (جواد) ينظر لها بتركيز قبل ان يبتسم باتساع متصلب بدون اي مرح قائلا بجمود صخري
"وهل تظنين بأن الاعتذار سيكفي لتدفعي ثمن اخطاء شقيقك والتي لا تغتفر ابدا ، وانتِ تحتاجين للتضحية بالكثير من اجل إرضاء اعداءه الكثيرين"

انفرجت شفتيّ (صفاء) بذهول وهي ترفع حاجبيها البنيين بعدم استيعاب وكأنها تحاول فك شفرة كلامه الغامض ، لتهمس بعدها بتوجس واجم
"ماذا تقصد بكلامك ، ولما تتكلم عن شقيقي بهذه الطريقة ، أتحب مثلاً ان اتكلم عن اشقائك بطريقة مهينة كما تتكلم انت عن مازن"

تراجعت (صفاء) للخلف بحذر ما ان شعرت بصلابة ملامحه واشتعال عينيه والتي تكاد تبتلعها حية وهي لا تعلم بماذا اخطئت تحديدا بالكلام معه ؟ وكل ما نطقت به هي الحقيقة فهو الذي بدأ اولاً بهذا الجدال واهان شقيقها امامها .

ابتلعت (صفاء) ريقها بتشنج وحدقتيها العسلية متسعتين بذعر ما ان قال بخفوت بارد بعد ان عادت ملامحه لهدوئها
"ليس لدي اي اشقاء او اي عائلة ، فأنا وحيد واعيش وحدي منذ زمن"

زفرت انفاسها باضطراب وهي تشعر بحزن عميق غير مبرر نحو هذا الشخص الغريب وقد اصابت بكلامها وتر حساس بحياته بدون ان تقصد ، فلو انها اوزنت كلماتها اكثر قبل ان تنطقها لما حدث كل هذا معها وهي تشعر بالذنب ينهش احشاءها ، قالت بعدها بابتسامة حزينة نادمة
"انا اعتذر حقا على ما قلته فلم اكن اعلم..."

قاطعها بلا مبالاة وهو يشرد بعيدا عنها
"لا بأس فليس بالأمر المهم لتعتذري منه ، ولكن احذري مرة أخرى من كلماتكِ يا صغيرة فلن استطيع مسامحتكِ عليها بكل مرة"

عبست ملامحها والخوف يعود ليجمد اطرافها من جديد من كلماته الغامضة والغير مريحة ابدا بالنسبة لها ، لتقول بعدها بسرعة وهي تحاول تجاوزه بالسير بعيدا عنه باتجاه باب المكتب بعد ان ضاق بها المكان
"حسنا يا سيد جواد ، يمكنك انت انتظار والدي هنا ، وانا سأذهب لأنجز بعض الأعمال بالمكتب المجاور"

بعد ان انهت كلامها اختفت بسرعة خلف باب المكتب قبل ان تسمع تعليقه وهي تتنهد براحة اخيرا بعد ان تخلصت من وجوده والذي كان يسبب لها الخوف على الدوام ، بينما كانت النظرات الشاردة بحدة تنظر بعيدا جدا بنافذة غرفة المكتب وابتسامة جانبية تحمل من الحقد والكره الكثير محفورة بزاوية شفتيه المتصلبة وهو يتوعد بالكثير لعائلة جلال والمسبب الرئيسي لما يشعر به من فراغ بحياته .

يتبع....................

روز علي 06-03-21 07:41 PM

خرجت بخطوات متخاذلة بتباطء من بناء المدرسة البسيطة والتي رفضت وجودها بعد عدة محاولات مع مدارس أخرى غيرها مشابهة لها وهي لم تعد تقترب من المدارس العريقة وحديثة البناء والتي كانت تعمل بهم ذات يوم لكي لا تبدأ نظرات السخرية والاستهزاء بالتوجه نحوها من كل صوب بالرغم من انها لم تتركها وشأنها طول مسيرتها بالتنقل بين المدارس البسيطة ومتوسطة الحال ، تنهدت بعدها بهدوء وهي ترفع نظرها للشمس المتوهجة بمثل هذا الوقت من الظهيرة والذي تكون به الشمس بأقصى درجات حرارتها .

اخفضت (روميساء) نظرها بسرعة نحو الشخص الذي دخل من بوابة المدرسة الخارجية وهي تنظر له بعينين متسعتين بشحوب ، وما هي ألا ثواني حتى رفعت (صفاء) نظرها نحوها قبل ان تتجمد بمكانها بفعل الصدمة وهي ما تزال واقفة بمكانها عند البوابة ليطول صمت العيون بينهما لدقائق قليلة وبعض من المشاعر الحبيسة والتي تخص الماضي بدأت بالتحرر بينهما برقة ، لتقطعه بعدها من تحركت بعيدا عن البوابة لتسير نحو (روميساء) وابتسامة رقيقة تحتل محياها قبل ان تعانقها ما ان وقفت امامها وهي تحاوط كتفيها بذراعيها بهدوء ، بينما افاقت (روميساء) على عناقها لترفع كفها بارتجاف وهي تربت على رأسها بكل حنية تملكها لهذه الفتاة والتي عرفتها منذ كانت طفلة تلعب مع شقيقتها بفناء المنزل .

بعد عدة دقائق صمت أخرى ابتعدت (صفاء) بسرعة عنها وهي تقول بابتهاج بالغ
"انا سعيدة جدا لأني رأيتكِ اخيرا ، فلم اركِ منذ مدة طويلة ، وتقريبا منذ اشهر فأنا لم اعد اعرف شيئاً عن اخباركِ سوى بما تخبرني عنه ماسة وهي كما تعلمين لا تحب الكلام كثيرا"

اتسعت ابتسامة (روميساء) بلطف وهي تنظر لها وهي تتكلم بحزن رقيق يناسبها تماما وهي التي تراها دائما النقيض عن (ماسة) بكل شيء ولم تفهم حتى الآن طبيعة صداقتهما المختلفة والفريدة من نوعها ، ولكنها بالتأكيد مميزة بسبب طول مدتها منذ الطفولة لترافقهما حتى المراهقة لتصل لدخولهما للجامعة معا وهي تشعر برباط قوي متين يربطهما سوياً طول مسيرة حياتهما ، بينما كانت هي شاهدة على صداقتهما وقد كان دورها آنذاك الاهتمام بهما وتقليل تعرضهما للإصابة بسبب انها اكبر منهما سنا وارجح عقلاً لهذا كانت دائما تحميهما من لعبهما المتهور وعدم تفكيرهما بالعواقب وهو قد كان اقصى احلامهم .

نظرت لها (روميساء) بهدوء وهي تهمس بابتسامة منشرحة
"وانا ايضا سعيدة جدا برؤيتكِ وبالصدفة والتي جمعتنا ، واتمنى ان تكون كل اموركِ على ما يرام وان تكون عائلتكِ بأفضل حال"

ردت عليها (صفاء) من فورها وابتسامة جميلة تحتل شفتيها الورديتين
"بل انا اكثر من سعيدة برؤيتكِ ، وجميع افراد عائلتي بأفضل حال ولكن ما يزال والدي يعاني من التعب بعض الشيء ، واما باقي الأمور فهي جميعها تمام"

زفرت أنفاسها بهدوء وهي تحرك رأسها بالإيجاب بشرود قبل ان يقطع عليها غمامة شرودها صوت (صفاء) وهي تقول بحيرة عاقدة حاجبيها البنيين بتفكير
"ولكن ماذا تفعلين بهذه المدرسة يا روميساء ، فأنا اعلم جيدا بأنها ليست المدرسة والتي تعملين بها منذ سنوات"

رفعت نظراتها الخضراء الحزينة نحوها بصدمة وقد نسيت بأنها ما تزال موجودة بمدخل المدرسة الخارجية بسبب ذكريات الماضي والتي اجتاحتها بهذه اللحظة بالذات ، لتقول بعدها بسرعة وهي تبتسم بجدية صارمة
"بل انتِ ماذا تفعلين بهذا المكان وبهذا الوقت والذي من المفروض ان تكوني به بالجامعة ، ام انكِ تريدين العودة لأيام الهروب من المدرسة كما كنتِ تفعلين مع ماسة"

انفرجت شفتيّ (صفاء) الورديتين باندهاش قبل ان تبدأ بالضحك بمرح وهي تتمتم بامتعاض تمثيلي
"لا تغضبي هكذا وقبل كل شيء عليكِ ان تعلمي ان اليوم يكون عطلة عندنا من الجامعة ، يعني لم احاول الهرب ولن احاول ابدا فقد كبرنا على هذه الحركات"

عبست زاوية من شفتيها الممتلئتين وهي تتمتم بوجوم
"اجل صحيح ، كيف فاتتني هذه"

زمت (صفاء) شفتيها بابتسامة صغيرة حالمة وهي تتمتم بامتعاض
"وايضا سبب قدومي لهذا المكان هو من اجل العمل والذي يخص هذه المدرسة ، فهناك اوراق من دار النشر عليّ ان اوصلها لهم وهي تتعلق عن منشورات تخص صحيفة المدرسة"

أومأت (روميساء) برأسها بهدوء وهي تتمتم بإحراج
"حقا لم اكن اعلم ، إذاً بالتوفيق بعملك"

اختفت ابتسامة (صفاء) تدريجيا وهي تنظر لها بتركيز قبل ان تقول بخفوت جاد
"هل حقا خسرتِ عملكِ بتلك المدرسة يا روميساء"

ارتفع حاجبيها السوداوين بتوجس وهي تشدد من القبض على حزام حقيبتها بكفيها لتقول بعدها باستياء واضح
"هل اخبرتكِ ماسة بهذه السرعة"

شهقت (صفاء) بخفوت وهي تهمس بعدم تصديق
"لقد اخبرتني بأنكِ قد تخسرين عملكِ ، ولكن لم اظن بأن هذا سيحدث فأنتِ تعملين هناك..."

قاطعتها (روميساء) بجمود متصلب
"اجل يا صفاء هذا ما حدث ، وانا الآن احاول إيجاد مدرسة أخرى تتقبلني مع سمعتي الجديدة"

صمتت (صفاء) بوجوم وهي تخفض حدقتيها العسليتين بحزن بعيدا عنها وهي تعلم جيدا ما يمثله ذاك العمل من أهمية بالنسبة لهما وهي تتمنى لو تستطيع تقديم يد المساعدة لهما ولو بشيء صغير من اجل الأناس والذين لطالما اعتبرتهم جزء من عائلتها الصغيرة ليكملوا النقص بحياتها والذي كانت دائما تشعر به منذ ولادتها بين عائلة من الذكور بعد وفاة والدتها قبل ان تعي للحياة حتى .

عادت (روميساء) بنظرها نحوها بجمود ما ان نطقت المقابلة لها بارتباك وتوتر
"كنتُ اريد اخباركِ بأن ماسة قد طلبت مني ان ابحث لها عن عمل بأقصى سرعة ، هل اخبرتكِ شيء عن هذا الموضوع"

تغضن جبين (روميساء) بوجوم وهي تفكر بأنها قد فعلتها حقا ولم يكن كلامها السابق مجرد كلام عابر فيبدو بأنها قد بدأت بتنفيذ ما برأسها بدون الرجوع لأحد كما تفعل دائما ، لتعض بعدها على طرف شفتيها بتوجس قبل ان تتمتم بتمهل شديد
"وماذا حدث بعدها ، هل وجدتِ لها عمل"

حركت (صفاء) رأسها بسرعة بالنفي وهي تقول بخفوت
"لا لم اجد لها عمل حتى الآن ، ولم نعد نتكلم عن هذا الموضوع مرة أخرى"

زفرت انفاسها براحة وهي ترفع كفها بهدوء لتعيد خصلات شعرها السوداء لخلف اذنيها وهي تفكر بعيدا عنها ، عادت (صفاء) للكلام وهي تهمس بوجل
"ولكن ماذا ستفعلين معها فهي تبدو مصرة بشدة على إيجاد عمل مهما كان ، وخاصة بأنكِ قد خسرتِ عملكِ الآن...."

قاطعتها (روميساء) بابتسامة جانبية وهي تربت على كتفها برفق
"لا داعي للقلق يا صفاء ، فأنا اعرف جيدا كيف تفكر شقيقتي وسأهتم بهذا الموضوع ، وانتِ من جهتكِ حاولي ان تماطليها ولا تفعلي ما تريد"

اومأت (صفاء) برأسها وهي تبتسم بنعومة هامسة بمودة
"اعرف بأنكِ ستهتمين بالأمر جيدا ولن تسمحي لها بالعمل وهي بهذا السن ، وهي محظوظة جدا لأن لديها شقيقة كبرى مثلكِ"

اخفضت (روميساء) يدها وهي تبتسم بشرود ولسان حالها يردد (اشك بهذا) ولم تعلم بأن عبارتها قد خرجت من شفتيها العابستين لأذن المقابلة لها ، لتقول بعدها (صفاء) بعدم استيعاب
"ماذا كنتِ تقولين"

عادت (روميساء) للابتسام بارتباك وهي تقول بحزم خافت
"هذا يكفي عليكِ الذهاب لإكمال عملكِ فقد أخرتكِ كثيرا بالوقوف هنا ، لذا هيا غادري بسرعة فلا نريد ان نسبب لكِ المشاكل مع السيد جلال"

اتسعت ابتسامتها بسعادة وهي تحرك رأسها قائلة بطاعة
"حاضر يا معلمتي روميساء الفاروق"

لم تشعر (روميساء) بنفسها وهي تضحك بخفوت محرج على اللقب والذي كانوا يطلقونه عليها كل من (ماسة) وصديقتها فيما مضى عندما كانت تلعب دور المعلمة عليهما ، بينما تجاوزتها (صفاء) وهي تسير باتجاه البوابة الداخلية للمدرسة قبل ان تعود للوقوف وهي تستدير من فورها نحو مصدر الصوت وهو يقول بهدوء
"صفاء ، اريد منكِ ان تبقي دائما بجانب ماسة وان لا تتركيها وحدها ابدا ، فأنا لا اثق بأحد غيركِ ليهتم بها بغيابي"

ابتسمت (صفاء) باتساع وهي تلوح لها بيدها بقوة قبل ان تعود للسير بعيدا عنها بهدوء ، وما ان اختفت عن نظرها تماما حتى استدارت هي الأخرى لتسير بالطريق المعاكس لها وهي تخرج من البوابة الخارجية للمدرسة ، لتقف بعدها عند قارعة الطريق وهي تعود للنظر بحدقتيها الخضراء الشاحبة ببعض الاحمرار للشمس المتوهجة من فوقها بدون ان تحمي عينيها من اشعتها القوية والتي اخترقت نظرها بتشوش ، وهي تفكر بأنه قد حان الوقت الآن لاستخدام الخطة البديلة والتي تخص التقدم بالعمل للمدارس والتي ستتقبلها بدون اي عناء او جهد وسمعتها هي آخر ما يفكرون به ، فهي من سابع المستحيلات ان تسمح لشقيقتها الصغرى بالخوض بعالم العمل بدون اي شهادة او خبرة بين وحوش جائعة تبحث عن الفريسة الأسهل للانقضاض عليها بدون اي رحمة ، فهذه هي حرب الحياة إذا لم تقاتل بها بكل قوتك ولم تحمل معك سلاح الوظيفة فأنت خاسر ولا تستحق هذه الحياة من الأساس .

_____________________________
كانت تسند جانب وجهها بسطح الطاولة وحدقتيها تنظران لحركة البشر المتزامنة جيئاً وذهاباً بدون توقف او تمهل وكل منهم ينطلق لوجهة معينة بهذه الحياة الوسيعة ، رفعت احداقها ببطء بعيدا عن الواجهة الزجاجية للمقهى لتنظر للشاب الواقف امامها وابتسامة مهذبة تحتل محياه البشوش ، ليقول بعدها الشاب بسرعة باحترام شديد بدون ان يفقد ابتسامته البلهاء
"ما هي طلباتكِ يا آنسة"

مرت لحظات وهي ما تزال تنظر له بقوة بدون ان ترفع رأسها بعيدا عن سطح الطاولة ، لتعود بعدها للنظر للواجهة الزجاجية بجانبها وهي تهمس بجمود
"نفس طلبي المعتاد"

حرك الشاب رأسه بتأكيد وقد اهتزت ابتسامته قليلا قبل ان يقول بثقة بالغة
"ثواني ويكون الطلب عندكِ"

لم تعيره (ماسة) اي اهتمام وهي ما تزال شاردة بعيدا عن الجميع ، ليبتلع بعدها الشاب ريقه بتوتر قبل ان يتراجع بخطواته بعيدا عنها بخذلان ، بينما كانت (ماسة) تستمع لخطواته المبتعدة بسمع مرهف قبل ان يختفي ليحل محلها خطوات رواد المكان المتزنة بكل مكان يتبعها اصوات تحريك المقاعد وارتطام اجسداهم بالطاولات .

اخفضت جفنيها على احداقها الداكنة بهدوء بعيدا عن مرأى الناس وهي تحاول التمتع ببعض اللحظات الاستقلالية لوحدها بالمكان المفضل عندها والذي يطلقون عليه مقهى السعادة بالرغم من ان اسمه يتناقض مع حقيقته فجميع زواره من انواع الناس المهمومين من الحياة والطلاب الفاشلين بحياتهم اكاديميا وعاطفيا والذين يبحثون عن بعض الراحة بالمقهى والذي يحتل وسط البلد ، ولكن بما ان الاسم يجذب جميع انواع البشر إليه فلا فائدة من التفكير بتناقض اسمه عن هدفه وحقيقة رواده ما دام يجلب كل السكان إليه من كل المحافظات .

قبضت (ماسة) فجأة على كفيها من تحت الطاولة ما ان شعرت بالخطوات الهادئة المتجهة نحو طاولتها باتزان ثابت ، لتعض بعدها على طرف شفتيها وغريزة الحذر بدأت بنهش اطرافها بقوة فهذه الخطوات تحفظها منذ كانت طفلة وتعرف جيدا لأي نوع من الناس تكون وخاصة مع رائحة العطر والتي زكمت انفاسها وهي تسبق وصول صاحبها ، ليتبعها بعدها الصوت الخافت ببحة خشنة ما ان وقف امام طاولتها تماما
"مرحبا ماسة الفاروق ، لقد مرت فترة طويلة منذ رأيتكِ بها آخر مرة ، هل يعقل بأنكِ قد نسيتنا بهذه السرعة"

تجمدت ملامح (ماسة) بدون أي تعبير فقط انفاسها ازادت حدة عن السابق وهي تستمع للكرسي المقابل لها وهو يرجعه للخلف قبل ان يجلس فوقه بهدوء بالغ ، مرت لحظات ساكنة قبل ان ترفع وجهها بعيدا عن سطح الطاولة ببطء شديد وهي ترفع يدها لتعيد خصلات شعرها المتحررة عن عقدتها لخلف اذنيها ، لترفع بعدها نظراتها الجامدة نحوه وهي تنظر للشكل والذي حفظته من بين اشكال كثيرة كانت تلازم منزلها ليل نهار مع اصدقاء (قيس) الكثيرون والذين لا يحصون .

كانت (ماسة) تنظر للوجه الملثم بوشاح حول عنقه يرتفع لطرف ذقنه بقليل وللعمامة من فوقه والتي كانت تغطي شعره لتصل بنظرها لنظارته الداكنة والتي تغطي سواد عينيه الحاد ولكن لم تستطع اخفاء خباثة ملامحه والتي تستطيع التعرف عليها من مسافة ميل ، تقدم بعدها النادل باتجاه الطاولة وهو يحمل كوب قهوتها ، وما ان وصل امامها حتى وضع الكوب عند طرفها من الطاولة وهو ينظر بحيرة للرجل الجالس امامها بغموض ، ليرفع بعدها الرجل يده وهو يشير له ليبتعد من امامهما بأمر وفظاظة ، ليرحل الشاب بعيدا عن طاولتهما بخنوع وهو ينظر للرجل بامتعاض واضح وتذمر يكاد ينطق من ملامحه العابسة .

عادت (ماسة) بنظرها للرجل وهي تقول بابتسامة جامدة
"ألا تظن بأنه من الخطر عليك التنقل هنا وهناك على رجل مثلك مطالب من القانون ، حتى أنني ما زلتُ مصدومة من استطاعتك الهروب منهم بينما لم يستطع قيس والباقون فعل ذلك"

اتسعت ابتسامة الرجل بغموض وهو يخلع النظارة من فوق عينيه ليضعها امامه قائلا بتصلب وخبث ببحة خشنة
"لا شيء يستطيع الوقوف امامي يا حلوة ولا تفكري ولو قليلا بأن رجال الشرطة الحمقى يستطيعون اخافتي ببدلاتهم وصفارات الشرطة والتي تلازم قدومهم والتي تلاحقهم بكل مكان ، واما باقي الرجال فلم يستطيعوا الهروب بسبب ثقتهم العمياء بقيس والذي يكون حديث بعالم الإجرام وحتى الآن ما يزال يتصرف بحماقة وتهور وحتى انني ما زلتُ اشعر بالخزي لأنني فكرتُ ان اعطيه ثقتي منذ البداية"

اخفضت (ماسة) نظرها لكوب قهوتها وهي تتمتم بلا مبالاة
"إذاً بماذا استطيع مساعدتك يا سيد راكان"

رفع (راكان) يده ليسند ذقنه عليها وهو يتمتم بقوة
"لما لا تشربين القهوة الخاصة بكِ قبل ان تبرد"

ردت عليه (ماسة) ببرود جليدي وهي تشيح بنظرها بعيدا عنه
"لا أحب القهوة"

حرك (راكان) رأسه بتفكير وهو يقول بوجوم
"ولما طلبتها إذا كنتِ لا تحبين القهوة"

نظرت له (ماسة) بحدة وهي تهمس بنفاذ صبر
"هل ستجيب على سؤالي ام لا ، فإذا كنت قد نسيت انا من سألتك اولاً ، لذا ليس من اللائق تجاهل اسئلتي"

ابتسم (راكان) بهدوء وهو يقول بروية وتمهل شديد
"لا تنفعلي هكذا ، سأجيبكِ على سؤالك اريد منكِ العودة للعمل معنا بقوانيني انا وليس بقوانين قيس"

شددت (ماسة) من القبض على كفيها معا وهي تعقد حاجبيها السوداوين بحدة وحدقتيها تتحول لأمواج بحار معتمة قبل ان تقول بعصبية بالغة وهي تحاول تنظيم انفاسها بشق الأنفس
"هذا سيكون فقط بأحلامك يا سيد راكان ، فما لا تعرفه بأني قد توقفت عن العمل كعبيد عندكم وتنفيذ اوامركم بالحرف الواحد ، فالشخص الذي كان يملك حياتي رحل واختفى وهذا يعني بأن جميعكم ايضا ستختفون من حياتي وللأبد"

انتفضت (ماسة) بجمود ما ان ضرب (راكان) على سطح الطاولة بقوة اهتز معها كوب قهوتها بارتجاف والسائل بداخلها يتموج معها بهدوء ، لتخفض بعدها نظرها لكوب قهوتها وهي تنظر لانعكاس صورتها بمرارة لتلمح بعض الانكسار وهو يحتل حدقتيها البحرية ما ان مرت امامها ذكريات الماضي عندما كانت مجرد خادمة وضيعة ووسيلة للوصول لأعمالهم الدنيئة والغير قانونية .

رفعت وجهها بسرعة نحوه ما ان قال باستياء متجهم
"انتِ بهذه الطريقة تضيعين فرصة ذهبية بالعمل معنا وهذه المرة سنضاعف لكِ مكافئتك المالية والتي ستحصلين عليها ، ولن يكون صعبا كما كان بوقت قيس بل سيكون عبارة فقط عن اختراق الأجهزة الأمنية وكلمات المرور المعقدة ، وهذا ليس بالصعب على الفتاة والتي اقنعت وزير الداخلية ليعطينا دعمه وثقته...."

قاطعته (ماسة) بانفعال حاد متشنج
"كفى ، لا اريد التكلم عن هذا الموضوع وطلبك مرفوض تماما"

تصلبت ملامح (راكان) بجمود وهو يضيق عينيه بتركيز حاد ، لتتابع بعدها كلامها وهي تنظر له بعبوس متصلب
"الظروف الآن قد اختلفت يا سيد راكان ، وما كان يدفعني لفعل كل هذا هو الحفاظ على حياتي بمنزل قيس ، واما الآن فأنا لا احتاج لأي احد منكم ولا اريد ان ألطخ نفسي بمستنقعكم بعد الآن"

اشاح (راكان) بوجهه بعيدا عنها وهو ينظر من الواجهة الزجاجية بتصلب وكفه ما تزال تشدد على ذقنه بقوة يكاد يخلع فكه من مكانه ، بينما كانت (ماسة) تتابع حركاته وكل تشنجات جسده الواضحة بانتباه ولولا وجودهما بمكان عام لكان انقض عليها بشراسة واذاقها من قسوته المعتادة كما كان يحدث معها بالماضي عندما كانت تخطئ بعملها معهم ولو خطأً صغيرا غير مقصود .

رفعت يدها بسرعة وهي تمسح خديها بعنف من الشحنات والتي اصبحت تحتل كل اطراف جسدها بانتفاض وهي تحوم من حولها تكاد تخنقها ، لتصطدم عندها بنظراتها بالشخص والذي كان يجلس بطاولة بعيدة عن طاولتهما بأميال ونظراته السوداء عالقة بوجهها بدون ان يرمش ولو للحظة ولا تعلم كم المدة والتي طالت بينهما وهما على هذه الحال ، لتقطعها بعدها (ماسة) وهي تخفض نظرها بارتباك نحو كوب قهوتها البارد والذي اختفت عنه الأدخنة ليحل محلها البرود فقط وقد تحول السائل للون قاتم لا طعم له .

ابعد (شادي) نظره بعيدا عن تلك الطاولة وهو يفكر بما لمحه الآن بعينيها الزرقاء القاتمة من ذبول يراه بها لأول مرة بعيدا عن الجمود والمعتاد على رؤيتهما بها ، ولكن ما يحيره هو من يكون ذلك الشخص والذي يجلس مقابلا لها ومن سبب لها كل هذا الحزن بملامحها الباردة الحادة ؟ عاد (شادي) بنظره للأمام ما ان قالت المقابلة له بنعومة وجمال
"اين شردت يا شادي ، انا اتكلم معك منذ ربع ساعة وانت تعيش بعالم آخر بعيدا جدا عني ، إذا كنت لم تحب المكان والذي اخترته لك فصارحني بذلك ولا تقلق لن اغضب عليك"

ردّ عليها (شادي) بابتسامة طريفة
"لا لم يعجبني"

عبست ملامح (لينا) وهي على وشك البكاء ليسبقها بعدها بالكلام وهو يقول بابتسامة جانبية بمرح
"اهدئي فقد كنتُ امزح معكِ ، والمكان رائع جدا ويعجبني كثيرا"

عادت (لينا) للابتسام باتساع مغري وما ان كانت على وشك الكلام حتى عادت للصمت وهي تنظر بحيرة للذي وقف عن الكرسي بقوة وهو يغادر بعيدا عن الطاولة باندفاع متجاهلا هتافها باسمه من الخلف بانشداه ، بينما كان (شادي) ينظر لطاولتهما وتحديدا للرجل والذي كان يمسك بمرفق (ماسة) بقوة رغم ممانعتها ، وما ان وصل خلف الرجل تماما حتى قال بخفوت خطير
"مرحبا يا ابنة عمتي ماسة ، صدفة جميلة ان اراكِ هنا وبصحبة هذا الرجل الغريب ، إلا إذا كنتِ تريدين ان تعرفيني عليه"

انتفض الرجل وهو يفلت مرفق (ماسة) وما ان استقام بوقوفه حتى عاد ليضع النظارة فوق عينيه وامام نظرات (ماسة) المتوجسة من ان يكشف امره الآن امام الجميع ستكون عندها قد اوقعت نفسها بمشاكل هي في غنى عنها ، عقد (شادي) حاجبيه بتفكير من انتفاضته وهو ما يزال يعطيه ظهره وما ان رفع يده نحوه حتى اندفع (راكان) وهو يستدير للخلف ليتجاوزه بعنف بعد ان دفعه بعيدا عن طريقه ليكمل سيره لخارج المقهى بلمح البصر ، بينما توازن (شادي) بوقوفه وهو ينظر لأثر الرجل والذي اختفى لخارج المقهى بدون اي كلمة وهو يشعل الشك بداخله نحوه تدريجيا فهذا التصرف لا يخرج ابدا من رجل عاقل شريف .

حاول اللحاق به بسرعة ليوقفه فجأة من امسكت بذراعه لتعيده للخلف بقوة قبل ان تقف امامه قائلة باندفاع شرس حاد
"ما لذي تفعله هنا ، وماذا تظن نفسك فاعلا وانت تخيف بطريقتك الهمجية هذه اصدقائي ، ولم يطلب منك احد ان تُعرف القرابة والتي تجمعنا معا لكل من تراه امامك"

ارتفع حاجبيه بدهشة وهو يحرك رأسه باستفزاز امامها قائلا بسخرية واضحة
"أتقصدين بأني قد اخطئتُ عندما عرفته بالعلاقة والتي تجمعني بكِ يا ابنة عمتي ، واي نوع من الاصدقاء هذا والذي يفر هاربا ما ان يقترب منه اي شخص ، حتى أنه لم يعرفني على نفسه ودفعني بعيدا عنه بكل وقاحة"

ردت عليه (ماسة) بانفعال وهي تشير له بكفها بقوة
"أولاً ليس هناك اي علاقة تجمعنا معا ، وثانيا لستُ مضطرة لأبرر لك تصرفات اصدقائي فهذا ليس من شأنك يا ابن عائلة الفكهاني"

امتقعت ملامحه بعدم رضا وهي تطرده من دائرة اهتمامها ومن عائلتها بأكملها ، ليقاطع الأجواء المشحونة بينهما والتي تكاد تحرق المقهى بأكمله صوت أنثوي رقيق يقول من خلفهم بنعومة
"مرحبا انا هنا ، ألن تعرفني على الفتاة يا شادي"

زفر (شادي) أنفاسه بإنهاك فهذا ما كان ينقصه ان تدخل (لينا) معهما على الخط والتي لن تنجو ابدا من نيرانهما وقد تخرج الآن الفتاة الشرسة من داخلها لتدافع عن صديقها بكل اسلحتها كعادتها وهذا واضح من نبرة التهديد والتي تحملها بصوتها ، ليستدير بعدها بسرعة نحوها وهو ينظر لها وكما توقع كانت تكتف ذراعيها فوق صدرها بهدوء وملامحها بعيدة تماما عن الرقة ، قال عندها (شادي) باتزان قاطعا الأجواء القاتمة والتي بدأت تدور بين ثلاثتهم
"لا ليس كما تظنين يا لينا ، فهذه تكون ابنة عمتي ماسة وهي من اخبرتكِ عنها من قبل"

لانت ملامح (لينا) وهي تبتسم بدلال لتعود للعبوس وهي تنظر بعيدا عنه من خلف كتفه قائلة بحزن مصطنع
"ويبدو بأنها لا تطيقك ابدا وهذا واضح تماما"

عقد حاجبيه بتفكير قبل ان يستدير بسرعة برأسه للخلف وهو يلمح خيالها الخارج من بوابة المقهى بهدوء وبدون ان تنتظر تعليقه على كلامها ، ليعض بعدها على شفتيه بغيض من تصرفاتها الوقحة والمستفزة وهي تصر على تحويله لشخص مختلف تماما عن صورته الباردة والمعتاد على تمثيلها منذ سنوات ، ولكن الذي لا يفهمه هو لما تثير عنده كل هذه الحيطة نحوها والانجذاب لشيء فريد نادر الوجود بعالم لا يعرف سوى تمثيل الأدوار الرخيصة وارتداء الأقنعة المزيفة خلف حقيقتهم الشنيعة والتي لا تسر مخلوق ابدا ؟

____________________________
كانت تسير بهدوء وهي تنظر امامها بشرود مشوش تكاد تفقد توازن جسدها المنتفض بارتعاش بعد ان قابلت ماضيها الملطخ بالسواد والذي ما يزال يلاحقها للآن وهو مصر لأعادتها لتلك الدناءة ولعالم الإجرام والذي خرجت منه بعد عناء طويل ، لتخفض بعدها نظرها للأسفل باهتزاز وهي تعود بذاكرتها للخلف لأكثر من خمس سنوات عندما كانت جالسة على طرف الأريكة المهترئة وجسدها يرتعش لا إراديا ونظراتها معلقة بالورقة والقلم من اسفلها وكلمات ورموز مبهمة مكتوبة على طول الورقة ، بينما كانت محاطة بجميع انواع الرجال وكل منهم يتميز بخلفيته الإجرامية والظاهرة بخبث ملامحهم وزوج والدتها فرد من هذه الزمرة وهو من كان يجلس امامها تماما ويتأملها بانتظار وقد كان مشغول بنفث الدخان من سيجارته بكفه بنفاذ صبر ، نطقت الصامتة اخيرا بعدها بلحظات وكأنها تعلن عن حكمها وهي تقول بشفتين مرتجفتين بوجل
"انا لم افهم ، ماذا تريدون مني بالضبط"

اخفض (قيس) السيجارة عن شفتيه وهو يشير للورقة بالسيجارة بكفه قائلا ببرود خبيث
"هل رأيتِ هذه الورقة امامكِ ، اريد منكِ ان تحلي الرموز بها لتخرجي لنا بكلمات السر والتي تحتوي بها ، واعلم بأنكِ قادرة على فعلها"

عضت على طرف شفتيها المرتجفتين بألم وهي تتمتم بعبوس
"غير صحيح انا لا أعرف كيف تحل ابدا ، لذا بحثُ عن شخص آخر يساعدكم بها"

تقدم (قيس) فجأة بجلوسه ليصبح على مسافة قصيرة بين رأسيهما قبل ان يهمس بتشديد وهو يسحق طرف السيجارة بقوة فوق سطح الطاولة
"لا تحاولي خداعي يا شبيهة والدتك ، ام تريدين مني التعامل معكِ بطريقة أخرى لن تعجبكِ ابدا ، فالصبر عندي له حدود ، فهمتي"

رفعت (ماسة) نظراتها الدامعة بشحوب وخصلات شعرها السوداء ملتصقة بجانبي وجهها من العرق الغزير والذي يغطي خديها ، لتهمس عندها بارتجاف متصلب
"انا افعل كل جهدي لإرضائك يا عمي قيس ، واحاول دائما إتقان دور خادمتك الوضيعة ، ولكن امور اخرى لا علاقة لي بها وليست من مهام دوري"

رفع (قيس) قبضته فجأة وبلمح البصر ليمسك بمؤخرة شعرها بقوة وهو يقول بابتسامة جامدة تنطق بالكثير
"وانا اعلم ايضا بأنكِ متفوقة جدا بالبحوث العلمية والتي تحتاج للكثير من الحلول والبراهين ، وهذا الكلام ليس من عندي بل من شهادة اساتذة كثيرين يهتمون بتعليمكِ"

تغضنت ملامحها بألم بدون ان تهتم بخصلات شعرها والتي على وشك اقتلاعها وهي تتمتم بامتعاض
"الدراسة بحقول علمية مقتصرة فقط على الفهم شيء والتطبيق بالواقع شيء آخر يا عمي قيس"

شدد (قيس) من القبض على خصلات شعرها وهو يرجع رأسها للخلف ببطء قائلا بتصلب شرس
"لا يهمني كل هذا الكلام الفارغ فأنا اعلم جيدا بالمهارات والتي تملكينها خلف سحر والدتك ، المهم عندي الآن ان تنفذي ما اخبركِ به وتزيدي على مهامكِ مهمة جديدة يا شبيهة والدتك"

انتفضت (ماسة) وهي تقرب وجهها امامه رغم الألم برأسها وهو يكاد يخلع رأسها عن جسدها ، لتقول بعدها بحنق مشتعل والدموع تتجمد بحدقتيها بحرارة بدون ان تسيل اي دمعة منهما
"لن افعل فأنا لستُ مضطرة لتحمل كل هذه الأوامر ، يكفي اني اخدمك انت واصدقائك المجرمين واتحمل قرف حياتكم الرخيصة ، وتريدون مني ايضا اشراكي بعالمكم الإجرامي الرخيص وكأنني حيوان عندكم"

ما ان انهت كلامها حتى ادارت وجهها بعيدا عنه بعنف للجانب الآخر بفعل الصفعة والتي طبعت على خدها بقوة من كفه القاسية قبل ان يعود ليدير وجهها نحوه بيده القابضة على خصلات شعرها وهو يقول بتحذير شرس تعرف نتائجه جيدا
"إياكِ وان تعيدي هذا الكلام على اسماعي مرة أخرى ، فلا تنسي بأنكِ تعيشين هنا انتِ وروميساء تحت رحمتي وسلطتي وألا لكنتما الآن تعيشان بالملاجئ كباقي الأطفال المنبوذين ، لذا نفذي كل ما أقوله لكِ بدون أي مشاكل لكي لا اضطر للتفكير عندها بثمن سكنكما بمنزلي"

اغمضت (ماسة) عينيها بقوة وهي تحاول منع انهيارها من الخروج امامه وجسدها يزداد ارتعاشا وهي تشعر بانقباض حاد بصدرها بدون ان تظهر ايً من هذا على ملامحها الجامدة فهو دائما يصيبها بشعور بالانكسار من كلامه الحقير وهو يذكرها على الدوام بأنه الوحيد والذي بقي لهما بهذا العالم القاسي ، لتهمس بعدها باستسلام خانع وكأنها تعطيه وثيقة حريتها منه
"سأفعل ما استطيع"

افلت (قيس) خصلات شعرها بعد ان حولها لخصلات مجعدة فوضوية من فعل قبضته عليها ، ليربت بعدها على خدها برفق وهو يقول بابتسامة جانبية برضا
"احسنتِ لقد بدأتِ تفهمين ما هو دوركِ بهذا المكان ، لذا لا تحاولي استفزازي مرة أخرى لأني احيانا لا أستطيع السيطرة على اعصابي والتي تنفلت مني بسرعة فقط من خطأ واحد مهما كان صغيرا"

افاقت من ذكرياتها ما ان كادت تتعثر من الحجر الصغير والذي اصطدمت قدمها به ، لترفع بعدها يدها وهي تمسد على جبينها بحنق بسبب الذكريات والتي اخذتها بعيدا جدا لتعود للغرق بالوحل والذي لطخت نفسها به من قبل ، وهي التي عاهدت نفسها بأنها لن تفكر بكل احداث الماضي فقد كانت كلها تحدث فوق إرادتها الحرة وحياتها معلقة بيد شخص واحد هو من يملك مقاليد حياتها بأكملها بدون ان تملك حق الرفض او القبول بأي شيء يخصها .

جلست بعد ان سارت عدة خطوات للأمام على مقاعد انتظار الحافلة وهي تضع حقيبتها فوق حجرها ، لتنظر بعدها للطريق السريع امامها والسيارات تتحرك امامها بلمح البصر بدون التفكير بالأرواح والتي قد يدهسونها امامهم فقط من اجل الوصول على وجهاتهم بالموعد المحدد لهم وكأنهم يقولون للعالم كل شخص مسؤول عن حياته وهو من سيتحمل ملامة إصابته .

رفعت كفها لتعيد خصلات شعرها المتطايرة امام نظرها وهي تدسها خلف اذنيها بقوة ، لتعود لذكرياتها البعيدة مرة أخرى بدون ان تمنع نفسها من التذكر وتحديدا بعد ان اصبحت شريكتهم بأعمالهم الغير قانونية ومهمتها الجديدة قد اصبحت اختراق كلمات مرور الأجهزة الأمنية والتكلم مع المدراء الكبار لتحصل منهم على المعلومات المهمة والتي تساعدهم بما يسعون إليه من دناءة ، ولكن كلما كانت تخطئ بعملها بقصد او بدون قصد او كلما حاولت خداعهم بكلمات المرور لتعريضهم لخطر الانكشاف امام العالم تتحول عندها حياتها لجحيم من تعنيف جسدي وحشي وضرب لم تذقه بحياتها لحرمان اسابيع من تناول الطعام ، وهي ما تزال تذكر بكل مرة يحدث نفس الشيء تبدأ بالرجاء والتوسل بلهاث وانفاسها ستزهق منها من الألم الشديد والذي تشعر به دائما فأهم شيء بالنسبة لهم هي الحفاظ على سرية اعمالهم بعيدا عن العالم
"كفى توقف أليس بقلوبكم أي رأفة او رحمة يا مستبدين ، لقد اكتفيت حقا واعدك بأني لن اعيدها مرة أخرى ، فقط كفى"

ولكن المجرمين والذين يحومون من حولها لا يفكرون سوى بعملهم والذي كان على وشك الدمار بسبب خطأ صغير منها كانت تتعمده لتكون نهايتها جسد هامد بفعل ضربات (قيس) المبرحة لها والقريبة للوحشية باستخدام كل انواع الأسلحة وبدون اي شفقة نحوها ، وما أن تغيب عن الوعي بعيدا عن كل انواع الضجيج وبعد ان اشبعت بالضربات بكل انحاء جسدها الهامد حتى يتوقف الضرب ليختفي بعدها صاحب الضجيج يتبعه باقي اصدقائه وكل واحد منهم يأخذ دوره بضربها كلما حاولت ان تخطئ مع احد منهم ، واحيانا اخرى يستخدم الطريقة الأسهل معها وهي اطفاء سجائره ببشرة ذراعها لتشعر بألم حارق يكاد يحرقها من الحرارة المشتعلة بداخلها وهو يستمتع بما يفعله بتعذيبه البطيء لها لتبقى آثارها عالقة معها للآن .

زفرت انفاسها بتهدج وهي تقف بعيدا عن المقعد ما ان وقفت الحافلة امام الواقفين منتظرين قدومها ، لتسير بعدها باتجاه الحافلة باتزان وهي تنظر لتجمعات الناس والتي تكومت عند باب الحافلة وكأنها نهاية العالم وعليهم اللحاق بركوب آخر حافلة موجودة على سطح الكوكب مثل حياتها والتي فاتتها الكثير من الحافلات ولم يبقى لها اي حافلة تستقلها بعيدا لتخرجها من كل هذه القسوة والتي كانت تحيط حياتها دوما .

نهاية الفصل يا حلوين..................

Giba.22 20-03-21 07:49 PM

كل الشكر لك على الرواية

شكرا لك على تعبك

روز علي 20-03-21 08:00 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة giba.22 (المشاركة 15421316)
كل الشكر لك على الرواية

شكرا لك على تعبك


كلك ذوق حبيبتي واتمنى ألا اخيب ظنك بالفصول القادمة ❤❤

روز علي 20-03-21 08:08 PM

الفصل الخامس
 
الفصل الخامس...............
كانت واقفة امام باب المكتب وهي تمسح يديها من العرق بسترتها الخريفية بارتباك خوفا من ان تتعرض للرفض مرة أخرى بعد يوم شاق طويل مهلك وقد اصابها إحباط كبير من كل ما تعرضت له لليوم وهي تحاول بكل جهدها بوظيفة مستحيلة كانت يوما ما بين يديها ، تنفست بعدها بهدوء وهي تدعوّ ربها بالتوفيق بما هي مقدمة عليه فقد تعبت كثيرا من الدوران حول المدارس واحدة تلو الأخرى بدون اي نتيجة وهذه ستكون القشة الأخيرة بالنسبة لها والتي ستحدد مصير وظيفتها المحتومة .

رفعت قبضتها المتصلبة لتطرق على باب المكتب بهدوء قبل ان تسمع الإذن بالدخول لتفتح عندها الباب من فورها بارتباك وهي تنظر امامها بحذر ، تقدمت بعدها بعيدا عن باب المكتب وهي تنظر بريبة للشخص والذي من المفروض ان يكون المدير وهو لا يظهر منه سوى قدميه المستريحتين فوق سطح المكتب بكل وقاحة وصوت خافت يخرج من خلف المكتب وهو يجلس نصف استلقاء على كرسيه لتصلها نبرة صوته الخافتة وهو يبدو يتكلم مع احدهم على الهاتف بنبرة غريبة
"حبيبتي لا تقلقي سأحاول كل جهدي المجيئ للمنزل مبكرا ، ولكن لن اعدكِ فأنا لدي اعمال كثيرة عليّ إنجازها بسبب مركز المدير والذي اصبحت احتله منذ فترة ، بالرغم من انني لا احبذ كثيرا هذه الوظيفة"

وقفت (روميساء) امام المكتب وهي تبتلع ريقها بتشنج احتل كل اطرافها من كلامه الخاص والذي جعل وجهها الشاحب يتلون باحمرار قاني وهي التي تحاول دائما عدم الدخول بخصوصيات الآخرين وأحاديثهم الخاصة بينهما على انفراد ، لتسعل بعدها بقوة بامتقاع ما ان وصل لسمعها المزيد من كلامه الخافت والذي ضرب اذنها بإيذاء سمعي
"لا تنسي يا حبيبتي إياكِ والنوم مبكرا حتى انهي باقي اعمالي ، لأن اليوم ستكون سهرتنا طويلة بطول ايام عمرنا"

تنهدت براحة وهي تحاول تنظيم انفاسها المرتجفة ما ان اخفض الهاتف عن اذنه اخيرا بعد ان ودعها بقبلات على الهاتف بدون اي حياء او اهتمام بوجودها ، ليستقيم بعدها بجلوسه وهو يخفض قدميه عن سطح المكتب قبل ان يدس هاتفه بجيب سترته قائلا ببرود بدون ان ينظر إليها
"نعم ، بماذا استطيع المساعدة"

زمت شفتيها بحنق وهي تفكر بالهروب من هذا المكان الموبوء بكل شيء فيه وخاصة بمديرها والذي يبدو عليه غير مباليا بالأصول ولا يعلم اي شيء عن مهنة المدير حتى ، وكيف سيعلم وهو يبدو صغير على هذه المهنة بل اقرب لطالب مجنون نجح بحياته بواسطة من والديه ؟ وهذا غير سمعة المدرسة المنحدرة والتي تكون تحت المستوى ولا يدخل إليها سوى الطلاب والذين يعانون من نقص بالميزانية بسبب عدم مطالبتها بأي رسوم او دفع اقساط وكل هذا لأن الحكومة هي من تهتم بالكتب والقرطاسية المدرسية الخاصة بالطلاب وحتى رواتب الموظفين ايضا وهي تستقبل جميع الأطفال من كل المناطق النائية الفقيرة .

زفرت انفاسها بقوة وهي تضيق عينيها الخضراء بتركيز لتقول بعدها بلحظات بابتسامة عملية
"لقد اتيتُ للتقدم على وظيفة معلمة بمدرستكم ، وانا جاهزة لأي اختبارات او معاملات لأستطيع التعين عندكم بهذه اللحظة"

رفع المدير رأسه بسرعة نحوها وكأنه قد اكتشف شيء كان قد غفل عنه ، ليدور عندها بعينيه من رأسها حتى اخمص قدميها بتباطء متعمد وابتسامة صغيرة بدأت بالحفر على شفتيه العابثتين ، بينما عقدت (روميساء) حاجبيها بحيرة وهي تنتظر مصير طلبها ، ليقف بعدها المدير عن مقعده بهدوء وهو يقول بصوت غامض ارهبها
"ما هو اسمكِ يا آنستي"

امتعضت ملامحها من كلمته الأخيرة وهو يضيف عليها حرف الملكية ، لتهمس بعدها بعبوس متصلب
"اسمي هو روميساء الفاروق"

قبضت على كفيها وهي تنتظر ما سيحدث وما يتبع اسمها عادةً والملطخ بالسمعة السيئة بالرغم من انه اسم عائلة والدها الراحل ولكنه قد تثبت بعقول الناس بذلك الاسم والمقترن مع السمعة السيئة بعد ان اصبحت قصتهم على كل لسان ، رفعت نظرها بسرعة نحو المدير والذي قال بابتسامة مندهشة
"انتِ تنتمين للعائلات الريفية ، أليس كذلك"

ردت عليه (روميساء) وهي تحرك رأسها باهتزاز
"اجل عائلة والدي تنتمي للريف ، ولكنه قد انتقل للعيش للمدينة منذ سنوات طويلة"

حرك المدير رأسه بتفكير قبل ان يدور حول المكتب ليقف امامها تماما وهو يقول بنفس ابتسامته المتسعة
"يشرفني كثيرا التعرف على فرد من العائلات الريفية ، فأنا إذا لم تكوني تعلمي اعشق كل شيء يخص تلك العائلات البسيطة وطريقة حياتهم والتي تختلف تماما عن حياة المدن"

ابتسمت (روميساء) بارتجاف وهي لا تعلم إذا كانت هذه بداية مبشرة للحصول على الوظيفة ام لا ؟ لتنتفض بعدها بجزع ما ان شعرت بيده تمسك بذراعها وهو يمد ذراعه الآخر امامها قائلا بسعادة بالغة
"تفضلي لا تبقي واقفة هكذا ، واجلسي على الأريكة هنا لنستطيع التفاهم بحرية اكبر"

أومأت (روميساء) برأسها بسرعة وهي تنزع يده عن ذراعها لتتقدم باتجاه الأريكة قبل ان تجلس فوقها باتزان ، بينما سار المدير امامها ليجلس بنفس الأريكة بجانبها تماما بدون اي حواجز ، وهذا ما دفع (روميساء) للزحف بعيدا عنه بجلوسها وهي تضم قبضتيها معا فوق ساقيها بتوتر ، ليقول بعدها المدير بخفوت وهو يتأملها بنفس التركيز البطيء
"إذاً دعيني اعرفكِ على نفسي يا روميساء ، انا اسمي نادر سلطان ولا احب الألقاب بالعمل ابدا ، لذا تستطيعين مناداتي باسمي بدون لقب"

تشنجت ملامحها بغضب قبل ان تندفع واقفة عن الأريكة وهي تقول بأعصاب منهارة من الضغط والذي تعاني منه منذ دخولها لهذا المكان
"سيدي المدير لقد اتيتُ من اجل التقدم على وظيفة بمدرستكم ، لذا اخبرني هل ستقبل بتوظيفي ام لا"

كان (نادر) ينظر لها بهدوء بدون ان يتأثر من كلامها قبل ان يقول ببرود مريب
"الأمر لا يحتاج كل هذا الغضب ، كل ما عليكِ فعله هو طلب التوظيف مني بلطف وانا بكل سعادة سأوافق على طلبكِ بكرم ، فيبدو بأنكِ متحمسة جدا لهذه الوظيفة"

التفتت (روميساء) برأسها نحوه وهي تبتسم بإحراج مما بدر منها امامه لتهمس بعدها بتلعثم
"انا اعتذر منك ، لم اقصد ان..."

قاطعها (نادر) وهو يرفع كفه باتزان مبتسم
"لا اريد اي اعتذار منكِ ، فليس هناك اي اعتذارات بين الأصدقاء"

عبست ملامحها وهي تفكر منذ متى اصبحوا اصدقاء وهي لم تدخل مكتبه سوى منذ عشر دقائق ؟ لتنفض بعدها كل هذه الأفكار عن رأسها وهي تقول بابتسامة مبتهجة
"هل هذا يعني بأنك قد وافقت على توظيفي بمدرستكم"

وقف (نادر) عن الأريكة بكسل لينظر لها بهدوء قبل ان يقول بابتسامة صغيرة
"اجل موافق ، ويمكنكِ ان تبدأي بالعمل بالوقت الذي تريدينه"

اتسعت حدقتيها الخضراء الشاحبة بالبريق والذي عاد ليملئ غابة عينيها وقد عادت بارقة الأمل بحياتها بحوزتها قبل ان تخسر عملها والأحب على قلبها ، لتختفي الابتسامة بلحظة عن شفتيها ما ان قال المقابل لها وهو يتقدم امامها لا يفصلها عنه سوى خطوة واحدة
"ولكن هل ستدفعين ثمن موافقتي على عملكِ بمدرستي هنا وقبولي بكِ رغم سمعتكِ السيئة والتي دفعت الكثيرين ليرفضوا توظيفك"

تراجعت (روميساء) للخلف عدة خطوات بحذر وهي تتنفس بنشيج وتوجس من فحوى كلامه ، وقبل ان تنطق بأي كلمة سبقها (نادر) وهو يقول بضحكة صاخبة بسخرية
"أهدئي يا روميساء فقد كنتُ اختبركِ فقط وقد نجحتِ بالاختبار بالفعل ، لذا اهنئكِ على استلامكِ للوظيفة"

ارتفع حاجبيها بانشداه وعدم استيعاب وهي تحاول فهم كلماته الغريبة والتي تبدو كالطلاسم بالنسبة لها ، وهي ما تزال تطرح على نفسها نفس السؤال كيف حصل على وظيفة المدير ؟ لتحرك بعدها رأسها بقوة وهي تقول بوجوم جاد
"اذاً هل استطيع العمل الآن ، ام سأنتظر إلى ان يتم توظيفي رسميا"

ردّ عليها (نادر) بسرعة بثقة بالغة
"لا ليس هناك داعي للانتظار ما دمتِ قد اتيتِ إلى مكتبي بنفسكِ ومستعدة حقا للبدء بالعمل ، فأنا لن امنعكِ ولا احب ان اخذل احد من الموظفين عندي طلب مساعدتي ، واما باقي معاملات توظيفك فأنا من سأهتم بها بنفسي"

ابتسمت باهتزاز وهي تقول بامتنان شديد
"شكرا لك سيدي المدير ، واتمنى حقا ان اكون عند حسن ظنك ، ولكن ألن تخبرني كيف سيكون برنامج الفصول والذي سأعمل عليه"

تراجع (نادر) بخطواته للخلف وهو يلتقط الورقة من على سطح المكتب ، ليرفع بعدها الورقة امام نظره وهو يضيق عينيه بتركيز قائلا بجدية
"ستأخذين مكان المعلمة ليلى لتدرسي فصولها بدلا عنها ، ويمكنكِ ان تسألي رئيسة مكتب الطابق الثاني عن اماكن فصولها ، وهذا كل شيء عندي"

اومأت برأسها بطاعة وهي تقول بدون ان تمنع نفسها بحيرة
"وماذا حدث للمعلمة ليلي"

اتسعت ابتسامة (نادر) وهو يقول بهدوء
"هذا ليس من اختصاصكِ يا روميساء"

اخفضت نظرها للأسفل بامتقاع قبل ان تتمتم بجمود
"حاضر يا سيدي المدير ، انا ذاهبة لعملي الآن ، وشكرا لك على الوظيفة مرة أخرى"

كان (نادر) يحرك رأسه بهدوء ونظراته ما تزال تدور على جسدها الطويل امامه بتمهل متعمد ، لتستدير بعدها (روميساء) بعيدا عنه بصمت قبل ان تغادر المكتب بأكمله بسرعة وابتسامة جميلة تحتل شفتيها الممتلئتين بسعادة ، بينما كان (نادر) ما يزال يبتسم بغموض قبل ان يحيد بنظراته باتجاه الورقة بيده وهو يتمتم ببرود مريب
"سامحيني يا ليلى ، ولكن للضرورة أحكام"

__________________________
كانت تصعد درجات السلم باتزان على كعبيّ حذائيها المسننين وهي تمسك بحاجز السلم بيدها بقوة وتمسك بمذاكراتها بيدها الأخرى ، لتشعر بعدها بما يصدمها من الخلف باندفاع لتقع على الجانب الآخر من حاجز السلم وهي تتمسك به بكفيها بتشبث بعد ان اوقعت مذاكراتها لتتدحرج على الدرجات من خلفها وانفاسها تخرج بنشيج متقطع ، التفتت بعدها برأسها للخلف وهي تنظر للفتاتين الضاحكتين على وضعها بسخرية واحداهما تقول باستهزاء ذات الوجه المتبرج بكل انواع مساحيق التجميل
"كان عليكِ الانتباه امامكِ وانتِ تسيرين يا صغيرة ، ام تريدين مني ان اعلمكِ كيف تسيرين بالشكل الصحيح"

ضحكت بعدها بصخب لتشاركها صديقتها الأخرى الضحك وكأنهما ليس لديهما شيء يفعلانه غير اغاظتها على الدوام مثل ايام بداية دوامها بالجامعة قبل سنتين بالرغم من انها بدأت تعليمها بعمر متأخر بسبب حالتها الحرجة والتي ارغمتها على ملازمة المنزل وخوض عالم التعليم بداخل جدران المنزل بسنوات طفولتها ، تحاملت بعدها على نفسها وهي تبتعد عن حاجز السلم لتنحني عندها على الدرجات الرخامية امامها وهي تلتقط مذاكراتها والتي سقطت من فوقها بدون ان تعيرهما اي اهتمام ، لتسمع بعدها كلام الفتاة الأولى المتبرجة وهي تكلم صديقتها بجانبها بخبث
"انظري إليها لم تتغير ابدا ، ما زالت غزل تلك الطفلة البريئة والساذجة والتي تحاول دائما جذب جميع المخلوقات إليها بدافع الشفقة لا أكثر ، ولا تعلم بأنها ليست مرغوبة من الجنس الآخر ابدا فهي لا تمتلك صفات الانوثة والجاذبية وكل ما يدفعهم نحوها هي الشفقة فقط"

كانت (غزل) مستمرة بجمع مذاكراتها وكلماتها تصيبها بنقطة ضعفها لتنحر روحها بانكسار قبل ان تستقيم بوقوفها بحذر شديد ، لتنظر بعدها للكتاب بآخر درجات السلم والذي لم تنتبه لوجوده وما ان كانت متجهة نحوه حتى سبقتها الفتاة الوقحة لتلتقطه من على الدرجة وهي تلوح به قائلة بحزن مصطنع
"هل تريدين هذا الكتاب حقا ، إذا كنتِ تريدين استعادته فعليكِ اولاً ان تجيبي على سؤالي ، كيف استطعتِ مواعدة عصام شرفات وجعله يتعلق بكِ"

تجمدت ملامح (غزل) بصدمة وهي تدير عينيها العسلية بعيدا عنها ما ان نطقت باسم من كانت تحاول جاهدة نسيانه واعتباره صفحة من حياتها وانطوت لتعود هي للنبش بالماضي وجعل قلبها يأن ألماً بصدرها وهو ينزف دما منذ خروجه من حياتها ، همست بعدها بعبوس مرتجف وهي تشدد من احتضان مذاكراتها
"انا لا اعلم عن ماذا تتكلمين"

عبست ملامح الفتاة المقابلة لها وهي تنطق بالشر قبل ان تقول بامتعاض ساخر
"بل تعلمين جيدا عن من اتكلم ، ذلك الشاب الهادئ والذي ترككِ واختار أخرى ونبذكِ مثل الشيء المستهلك والذي انتهت صلاحية استخدامه ، ولكن ما يحيرني هي الفترة الطويلة والتي قضاها برفقتكِ ، وانا لا اعلم ماذا وجد بكِ ليميزكِ عنّا"

عضت (غزل) على طرف شفتيها بتشنج وهي تحاول السيطرة على اعصابها من الذكريات والتي عادت لاختراق غمامة ذهنها المشوش ، تدخلت بعدها الفتاة الأخرى وهي تصرخ بصديقتها بهلع
"سامية انظري خلفكِ"

التفتت المدعوة (سامية) برأسها للخلف لتصطدم نظراتها بارتعاد بجسد فائق الطول قبل ان يسبقها صاحب الجسد وهو يقول بصرامة متزنة
"ما هذه التصرفات الصبيانية يا سامية ، ألم يأتي الوقت المناسب لتتعقلي وتتركي الناس وشأنها بعيدا عن جنونك"

اخفضت (سامية) نظراتها بعيدا عنه بإحراج وخزي قبل ان تقول بخفوت نادم
"انا اعتذر يا استاذ هشام ، ارجوك ان تسامحني"

كان (هشام) ينظر لرأسها بهدوء وهو يحرك رأسه بتركيز ليقول بعدها بجدية صارمة
"لا بأس سامحتكِ ، ولكن لا تعيديها مجددا ، وهيا غادري لكي لا تفوتي موعد محاضرتكِ وتوقفي عن اللهو بالأرجاء واضاعة وقت المحاضرة بالسخافات والتي لن تفيدكِ مستقبلا بشيء"

اومأت (سامية) برأسها بامتعاض واضح وهي تحاول السير وتجاوزه بعيدا ، ليعود ليقف امامها بقوة وهو يرفع يده قائلا بأمر
"اعطيني الكتاب اولاً وبعدها غادري"

تجهمت ملامح (سامية) وهي تضع الكتاب بيده بعنف قبل ان تسير بعيدا عنه بصمت وهي تكاد تشتعل من الغيض ، لتتبعها بعدها صديقتها وهي تتجاوز الاستاذ بحذر قبل ان تسرع بخطواتها باتجاه صديقتها .

افاقت (غزل) من شرودها بخضم ما حدث على صوت (هشام) وهو يوجه كلامه لها بهدوء
"هذا الكتاب لكِ صحيح"

اخفضت نظراتها نحوه وهي تنظر لأول مرة للأستاذ الجديد والذي بدأ يعمل بجامعتها من فترة وجيزة وقد حضي على إعجاب الكثير من الشبان والفتيات بالجامعة من وسامته والتي تنضح بملامحه الرزينة ومن ثقافته الواسعة وذكاءه الظاهر بطريقة ألقاءه للمحاضرة بقاعة تعج بكل انواع الطلاب ، اكملت بعدها نزولها الدرجات المتبقية قبل ان تقف امامه وهي تقول بخفوت شديد يكاد لا يسمع
"اجل هذا الكتاب لي ، هلا اعدته إلي لو سمحت"

كان (هشام) يجول بنظراته بهدوء نحوها من شعرها الأسود القصير والذي يحف اذنيها لعينيها الغريبتين بلونهما العسلي ومع اخضرار بسيط بحدقتيها ، ليشيح بعدها بوجهه بعيدا عنها وهو يرفع الكتاب امامها لتلتقطه من جهتها وهي تدسه بين مذاكراتها ، ليسمع بعدها همسها الخافت والذي يرف بأذنيه مثل صوت عصفور جريح يأن
"شكرا"

اعاد نظره نحوها وهو ينظر لها بتفكير تثيره دائما بداخله وهو لا يستطيع تحديد نوعها للآن إذا كان من صنف تلك الفتيات المدللات واللواتي قابلهن منذ لحظات ام من الصنف الآخر من الفتيات المجتهدات واللواتي لا يهمهن سوى الحصول على الشهادة والتي تؤهلهم للوظيفة ، اخفض نظره لوجهها والذي ارتفع نحوه ببطء وهي تهمس بنفس النغمة الحزينة
"عذرا منك ، ولكن عليّ الذهاب للقاعة فقد بدأت محاضرتي"

تصلبت ملامحه وهو يدس كفيه بجيبي بنطاله بهدوء ليقول بعدها ببرود قاسي
"ومن منعكِ من المغادرة ، هيا اذهبي"

عضت (غزل) على طرف شفتيها المتكورتين بحنق من اسلوبه البارد معها وكأنها تعمل عند سيادته لتنتظر الإذن منه للمغادرة ، ولكن كل هذا بسبب غباءها والذي دفعها لتبقى صامتة امامه بدلا من الرحيل بعيدا عنه وهي تظنه ما يزال لديه المزيد من الكلام بجعبته لها ليتبين بأنه كان فقط يتسلى بوقوفها جامدة امامه كالبلهاء .

تحركت (غزل) بعيدا عنه وهي تتجاوزه بصمت وحذائها العالي يطرق الأرض الصلبة من اسفله بقوة ليعبر عن مدى القهر والذي تشعر به بهذه اللحظة ، لتتابع بعدها سيرها بتمايل متقن وهي تعيد خصلات شعرها القصيرة لخلف اذنيها ، بدون ان تنتبه للنظرات والتي كانت تلاحقها بوجوم وحتى بطريقة سيرها الغريبة والتي تختلف عن طريقة باقي الفتيات وهي تدل على صعوبة سيرها بكعبيّ حذائيها المسننين وكأنها تتعمد فعل كل هذا بإرادتها او بدونها .

________________________________
كانت تنظر للدفتر بحجرها وهي تتلمسه بكفها بحالمية وكأنه شيء ثمين افتقدته كثيرا بحياتها منذ زمن ، وكم كان شعورا رائعا العودة لحياتها والتي تمثلها لها تلك الوظيفة رغم الاختلافات الشاسعة بين طبيعة ومكان الوظيفتين ، فأهم شيء بالنسبة لها الآن هو العودة لما كانت عليه والشيء الوحيد والذي تتقنه بجدارة بحياتها الفارغة ليملئ الفجوة والتي يحدثها اليتم بحياتهم .

حادت بنظراتها نحو مصدر الصوت وهو يقول بجمود متصلب
"انا سعيدة جدا لأنكِ استطعتِ إيجاد المدرسة والتي تقبل بتوظيفك ، ولكن ألن تخبريني ما نوع تلك المدرسة بالضبط واين هي"

اخفضت (روميساء) نظراتها بعيدا عنها للدفتر بحجرها وهي تتمتم ببرود متعمد
"لا يهم ما هو نوعها واين مكانها ، فالمهم الآن بأني وجدتُ وظيفة بمدرسة ستضمن لنا راتبا شهريا سنستطيع العيش عليه بالأيام القادمة"

شددت (ماسة) من ضم ركبتيها لصدرها وهي تجلس بتكور بمنتصف السرير ، لتقول بعدها بابتسامة غامضة غير معبرة عن شيء
"ولكني لم اقتنع بعد بكلامكِ ، واريد ان اعرف كيف وافقت المدرسة على توظيفك إلا إذا كانت مدرسة فاشلة معتادة على استقبال مشوهين السمعة ، ام انكِ دفعتي لهم شيء قيّم مقابل توظيفك"

ردت عليها (روميساء) بانفعال حاد
"ماسة كفى"

ادارت (ماسة) حدقتيها بعيدا عنها بدون اي كلمة ، بينما شردت (روميساء) بكلام المدير عن الثمن وهي لم تفهم بعد ماذا كان يقصد بكلامه وإلى اين كان يريد ان يصل ؟ كل الذي تتمناه ألا تضطر لترك العمل بتلك المدرسة بسبب أي ظرف كان فهي لن تتحمل المزيد من الإحباط واليأس بحياتها .

قالت بعدها بلحظات بخفوت وهي تتلاعب بأوراق الدفتر امامها والذي يحوي على جميع اسماء الطلاب بالفصل
"اعتقد بأن الفضل يعود لأسم عائلة والدنا فهو بعد كل شيء ما يزال نظيف ولم يلطخ بالسمعة السيئة"

عقدت (ماسة) حاجبيها بتركيز وهي تتمتم بوجوم
"أتعنين عائلة الفاروق والتي لا نعلم عنها شيئاً إذا كانت على قيد الحياة ام لا ، وحتى لو كانوا موجودين بالواقع فلم يحاول احد منهم السؤال عنّا طيلة السنوات الماضية"

عبست ملامح (روميساء) وهي تنظر لها بحزن قبل ان تهمس بحنق
"توقفي عن التصرف بهذا التشاؤم ، فليس هذا ما قصدته بكلامي"

حركت (ماسة) رأسها بلا مبالاة لتتابع بعدها (روميساء) كلامها قائلة بابتسامة حزينة
"لولا اسم عائلة والدنا والذي ما يزال يحتل مكان بسمعتنا لما استطعتُ الحصول على هذه الوظيفة ، فلا تنسي بأن والدي لم يخطئ بحياته ولم يفعل شيئاً يمس سمعته وسمعة عائلته بل بقي محافظا على اسمه نظيفاً حتى رحل بعيدا عن العالم"

كانت (ماسة) تسند ذقنها فوق ركبتيها بجمود وهي تستمع لكلام شقيقتها الحالم بتركيز ، لتهمس بعدها بشرود واجم
"أتقصدين بأن حياتنا كانت ستختلف لو ان والدي ما يزال على قيد الحياة"

تنهدت (روميساء) بهدوء وهي تتنفس بنشيج واضح بدون دموع قبل ان تهمس بشحوب حزين
"ربما"

عضت (ماسة) على طرف شفتيها بألم بدأ ينهش بأطرافها ببرودة اعتادت عليها وهي تفكر بطبيعة حياتها والتي عاشتها بدون اي سند او والد تحتمي من خلفه فقط كانت تعيش طول حياتها تحت ظل زوج والدتها والذي هيمن على حياتها بأكملها حتى اصبح مالكها الأصلي ومن يملك زمام امورها ، ليقطع بعدها الوجوم والذي خيم على الغرفة بأكملها صوت (روميساء) وهي تقول بحزم قاطع
"بما اني قد عدتُ للعمل مرة أخرى ، فإياكِ وان اعرف بأنكِ تريدين البحث عن عمل او تفكرين بالعمل عند احد ، وركزي فقط على دراستكِ فهي كل ما يهم ، فهمتِ يا ماسة"

ردت عليها (ماسة) بجفاء بارد
"ومن اخبركِ بأني قد وجدتُ عمل ، او ان هناك من سيقبل بتوظيفي بدون اي شهادة او خبرة"

زفرت (روميساء) انفاسها براحة وقد اقتنعت اخيرا بالعدول عن قرار البحث عن وظيفة وقد ظنت بأنها لن تستسلم قبل ان تفعل ما برأسها ، لتتابع بعدها (ماسة) كلامها وهي تدير رأسها نحوها بقوة وحدقتيها تلمع بزرقة قاتمة
"ولكن ما ان اتخرج من الجامعة سأبدأ عندها بالبحث عن عمل بأي مكان وحتى لو لم يكن من مجال دراستي ، لأستطيع عندها مساعدتكِ بالمصاريف وبالسكن بشقة لوحدنا وهذا لن يكون ببعيد"

امتعضت ملامح (روميساء) بعدم رضا وقبل ان تنطق بأي اعتراض سبقتها (ماسة) وهي تقول بتشديد صارم
"هذا قرار نهائي يا روميساء ولا رجعة فيه ابدا"

صمتت (روميساء) وهي تزم شفتيها بحنق من تصرفات شقيقتها الغير مسؤولة والغير قابلة للنقاش وكأنها ليست تكبرها بخمس سنوات كاملة ، لتدير بعدها (ماسة) حدقتيها بعيدا عن شقيقتها وهي تعود لتسند ذقنها فوق ركبتيها بشرود باهت ، بينما كانت (روميساء) تراقبها بابتسامة امومية معتادة على النظر بها نحوها فبعد كل شيء هي تبقى شقيقتها الصغرى من والديها ومن شهدت على كل مراحل حياتها من المهد حتى وصلت لما هي عليه الآن .

عادت للنظر للدفتر بحجرها بهدوء وهي تغلقه بصمت قبل ان تهمس بابتسامة شاردة
"ما رأيكِ ان اخبركِ القليل عن والدنا"

ردت عليها (ماسة) ببرود جليدي
"لا أريد"

اختفت ابتسامة (روميساء) ليحل مكانها الوجوم وهي لم تفهم حتى الآن لما ترفض (ماسة) دائما التكلم عن والدها والتعرف عليه ولو معرفة تفاصيل صغيرة عنه فهو قد توفي وهي لم تتجاوز عمر الرابعة ؟ وبالرغم من ذلك فهي تصر دائما على ان تبقى بعيدة عن كل ذكرياته وعن كل شيء يخصه وكأنه لا يعنيها ولا يقرب لها بشيء ، تنهدت بعدها بحزن ما ان دفنت (ماسة) وجهها بين ساقيها وهذه طريقتها الخاصة بإنهاء اي حديث مع احدهم بأن تتجاهله وتنعزل بعالمها الخاص والبعيد عن الجميع ، وكم تتمنى لو تستطيع الغوص بعالمها هذا والذي صنعته بينهما منذ وفاة والدتها فقط لو تعطيها الإذن .

يتبع...............

روز علي 20-03-21 08:24 PM

كانت تحيد بنظراتها بين الحين والآخر لصف المقاعد بجانبها بتركيز قبل ان تعود بالنظر للأمام بجمود وهي تستمع بملل لحديث الاستاذ والذي ملئ صوته صدى القاعة بأكملها ، لتنظر صديقتها نحوها ومن تجلس بجانبها تماما وهي تتمتم بحيرة
"ماذا هناك يا ماسة ، لما تنظرين بهذه الطريقة"

ردت عليها (ماسة) ببساطة وهي تنظر امامها بتصلب
"نحن مراقبان"

امتعضت ملامح (صفاء) وهي تهمس بخفوت متذمر
"ها قد بدأنا مرة أخرى ، انتِ تعلمين بأننا مراقبان من كل الطلاب بالقاعة ومن الاستاذ نفسه"

التفتت (ماسة) نحوها بعنف وهي تهمس بامتقاع ساخر
"انا جادة بكلامي يا صفاء ، واعلم جيدا كيف افرق بين المراقبة الطبيعية وبين المراقبة المتربصة لنا"

اعادت (صفاء) وجهها للأمام وهي تبرم شفتيها هامسة بلا مبالاة
"لا فرق بينهما ، انتِ فقط من تضخمين الموضوع لا أكثر"

عقدت حاجبيها بحدة وهي تعيد رأسها للأمام قائلة ببرود قاتل
"بل انتِ التي لا تشعرين مما يدور من حولك"

زمت (صفاء) شفتيها وهي تتجاهل كلامها فهي كلما دخلت معها بنقاش تخرج منه بالنهاية خاسرة محملة بأذيال الخيبة وكأنها تهوى تدمير خصومها بدون ان تهتم إذا كان عدو او صديق ، بعدها بدقائق وقفت (ماسة) عن مقعدها بهدوء ما ان انتهى وقت المحاضرة ليخرج الاستاذ من القاعة بعد ان اعاد على اسماعهم للمرة الألف قوانين وموعد الاختبار القريب ، لتتبعه بعدها (ماسة) وهي تضع حزام الحقيبة فوق كتفها قبل ان تغادر القاعة من فورها بجمود وقبل مغادرة باقي الطلاب .

سارت (صفاء) بسرعة لخارج القاعة وهي تحتضن مذاكراتها بذراعيها قبل ان تتبعها بخطوات متمهلة ، لتقف بعدها بمكانها ما ان سمعت صوت هتاف باسمها لتستدير للخلف وهي تنظر للشاب والذي وقف امامها وقد كان يبدو عليه خارجا من نفس القاعة والتي خرجت منها للتو ، لتبتسم بعدها برقة وهي تنظر للشاب بريبة بينما كانت (ماسة) تقف على مقربة منهما ونظراتها موجهة بتركيز للشاب الواقف امام صديقتها .

بدأت (صفاء) بالكلام وهي تقول بابتسامة صغيرة
"هل هناك مشكلة يا سيد"

تشنجت ملامح الشاب وكأنه يحاول حل معادلة عويصة ليفتح شفتيه عدة مرات قبل ان يغلقهما بإحباط ، ليتمتم بعدها بالنهاية بإحراج متلعثم
"الحقيقة لقد اردتُ طلب مساعدتكِ ، إذا كنتِ تستطيعين مساعدتي بالحصول على شرح المحاضرات الماضية فقد فوتها بسبب غيابي المتكرر بالأيام السابقة ، وهذا إذا لم يكن لديكِ مانع"

انفرجت شفتي (صفاء) بارتجاف قبل ان تهمس بتأكيد
"اجل اكيد ، لا امانع ابدا"

ابتسم الشاب باتساع وهو ينظر لها وهي ترفع الدفتر امامه بابتسامة لطيفة برقة تستطيع سحر القلوب ، ليرفع بعدها يده بسرعة وهو يلتقط الدفتر منها قبل ان تنسحب بعيدا عنه بفعل اليد والتي امسكت بذراعها لتؤخذها بعيدا عن امامه ، بينما قال الشاب بسرعة وهو يلوح لها بالدفتر ببلاهة
"شكرا ، على ما اعتقد"

كانت (صفاء) قد اختفت عن نظره تماما قبل ان تسمعه وهي تحاول مجاراة خطوات صديقتها بصعوبة ، لتتوقف بعدها وهي تتشبث بالأرض بقدميها قائلة بتجهم
"كفى يا ماسة ، واخبريني لما سحبتني بعيدا عن الشاب قبل ان انهي كلامي معه"

توقفت (ماسة) عن السير وهي تفلت ذراعها لتستدير نحوها وهي تقول بجمود متصلب
"ألم تفهمي يا غبية ، هذا الشاب نفسه من كان يراقبنا ويبدو بأنه كان يحاول الدوران من حولكِ من نظراته والتي لم تتركنا منذ بداية المحاضرة"

كتفت (صفاء) ذراعيها فوق صدرها بعبوس وهي تقول بامتعاض
"غير صحيح فقد كان يريد مني المحاضرات الماضية بسبب تغيبه عنها"

ابتسمت (ماسة) بسخرية وهي تحرك كفيها بعصبية قائلة بغضب
"وانتِ بكل بساطة قد صدقته ، ألم تلاحظي بأنه قد اخذ اكثر من وقته ليستطيع طرح السؤال عليكِ وطلب المساعدة بدل من ان يدخل بالموضوع مباشرة معكِ"

عبست ملامح (صفاء) وهي تحرك ساقيها بتوتر قبل ان تتمتم بوجوم
"ماذا تقصدين بكلامكِ يا ماسة"

ردت عليها (ماسة) بدون اي مواربة
"يعني بأنه لم يكن يريد منكِ المحاضرات بل شيء آخر مختلف تماما"

اتسعت عينيّ (صفاء) العسليتين بتوجس قبل ان تحرك رأسها بقوة نافضة كل الأفكار عن رأسها ، لتعود بعدها للسير بعيدا عنها وهي تتجاوزها باتجاه السلالم الخاصة بمدخل الكلية ، لتقول بعدها بنفاذ صبر وهي تنزل درجاتها بعجلة
"هذا يكفي لا اريد التكلم عن هذا الموضوع مرة أخرى"

كانت (ماسة) تنزل السلالم بهدوء من خلفها بدون ان تهتم للأنظار المتجهة نحوهما بسبب المشادة والتي حدثت بينهما من لحظة ، وما ان وصلت لنهاية السلالم حتى تابعت سيرها خلف صديقتها وهي تقول من خلفها بتذمر جاف
"توقفي عن الهروب يا صفاء ، وانا اعدكِ بأننا لن نتحدث عن هذا الموضوع مرة أخرى"

توقفت (صفاء) بالفعل وهي تلتفت نحوها بعبوس حزين ، لتتوقف (ماسة) امامها وهي تقول بملل
"ماذا الآن ، اما زلتِ غاضبة مني"

انحنت عينيّ (صفاء) بحزن وهي تهمس بابتسامة شاردة بمحبة
"تعلمين بأنني لا استطيع الغضب منكِ لفترة طويلة ، فقط لو تقدرين ما احمله لكِ بقلبي من عاطفة جياشة اخصها لكِ وحدك"

ادارت (ماسة) عينيها الداكنة بعيدا عنها ببرود وهي تتمتم بابتسامة باهتة
"جيد"

تجهمت ملامح (صفاء) قبل ان تعود للابتسام بسعادة وهي تعانق كتفيّ صديقتها بذراعها بقوة قائلة بحنق
"جيد فقط ، أهذا كل ما لديكِ من اجل صديقة العمر"

اشاحت (ماسة) بوجهها جانبا بصمت بدون ان تنطق بأي كلمة ، لتتابع بعدها (صفاء) كلامها وهي تقول بابتسامة حالمة
"ماسة اخبريني ، هل جربتِ شعور الحب ، وهل هو رائع كما يقولون"

ابتسمت (ماسة) بجمود وهي تنظر بعيدا عنها قائلة بخفوت مشتد
"تعلمين جيدا رأيي بالحب"

ابعدت (صفاء) ذراعها عنها لتلوح بها قائلة بنبرة مقلدة لها بسخرية
"الحب مجرد كذبة ابتدعها المغفلون وصدقها العاقلون ليس لشيء سوى للحصول على المتعة وتجربة شيء جديد مختلف تماما عن المعتاد ، أليس هذا هو كلامكِ"

صرخت (ماسة) فجأة بانفعال حانق
"صفاء"

انسحبت (صفاء) وهي تجري بعيدا عنها ضاحكة بمرح وكل الأنظار تدور من حولها وهي تتجاوز تجمعات الطلاب بساحة الجامعة بتعثر ، بينما حركت (ماسة) رأسها بغضب منها قبل ان تحفر ابتسامة صغيرة على شفتيها الحزينتين ، لتتابع بعدها سيرها باتزان نحو التي لم يعد يظهر منها شيء سوى يدها الملوحة من بعيد وشعرها البني الطويل يتراقص مع حركتها .

______________________________
خرجت من الحافلة بسرعة وهي تجري بتعثر قبل ان تقف بانتظار وهي تنظر لصديقتها الأخرى والخارجة من الحافلة بهدوء قبل ان تبتعد الحافلة وهي تكمل سيرها بعيدا عنهما ، امسكت (صفاء) بكف صديقتها الأخرى وهي تسحبها معها قائلة بعجلة
"هيا بسرعة يا ماسة قبل ان تغيب الشمس علينا ، اريد تجربة المطعم الجديد والذي فُتح على اطرف المدينة"

زفرت (ماسة) انفاسها بضيق وهي تنظر لخطواتها المسرعة قائلة بتذمر
"ألا ترين بأن الوقت قد تأخر كثيرا ، وقد اصبح من الافضل لنا العودة للمنزل"

التفتت (صفاء) نحوها وهي تهمس بعبوس حانق
"لا بل اريد تجربته الآن ، ولن استطيع فعلها بوقت آخر لأن شقيقي مازن يراقب كل تحركاتي بالمنزل ولا يسمح لي بالخروج منه إلا لأماكن محددة وهذا الأمر يدفعني للجنون"

ردت عليها (ماسة) وهي تحرك رأسها بملل
"هذا يعني بأن مازن قد عاد للعيش معكم"

قالت (صفاء) بهدوء وهي تسير باتزان مع خطوات صديقتها
"اجل لقد عاد وقد يكون لفترة قصيرة ، فقد شرط عليه والدي ليستطيع العودة للسكن معنا بالمنزل فعليه تنفيذ اوامره بالحرف الواحد ، ولا اعلم إذا كان مازن سيستطيع فعلها ام لا"

تصلبت ملامح (ماسة) وهي تفكر بالشقة الخاصة بزوج والدتها والتي استولى عليها (مازن) بحجة الحفاظ عليها لها ولشقيقتها لحين عودتهما ، ولا تعلم إذا كانت الشقة ما تزال له او انها ذهبت لشخص آخر بعد ان يأس من عودتها لها ؟ ولكن طبيعة شخص مثل (مازن) تعايشت معها منذ سنوات تثبت لها بأنه من المستحيل ان يستسلم بهذه السهولة ويترك كل شيء من خلفه بدون ان يحصل على مراده وهي قد كانت دوما مراده كما يقول منذ ايام الشجارات بالطرقات ومضايقاته لها بالمدرسة .

توقفت بعدها بلحظات عن السير ما ان توقفت صديقتها والتي شهقت بهلع وانتفاض ، لتنظر بعدها لما تنظر إليه وقد تبين بأن (مازن) هو من اعاق عليهما طريقهما وهو يبعد عنهما بمسافة قصيرة ونظراته تتنقل بينهما بكسل بارد ، ليسير بعدها امامهما ونظراته معلقة بوجهيهما قبل ان يقف على بعد خطوة منهما وهو يضع ساق خلف الأخرى قائلا بدهشة مزيفة
"هل هذه شقيقتي صفاء ، ومعها ايضا دمية قيس ، وغير هذا بمنطقة على اطراف المدينة والشمس على وشك المغيب ، رائع تتصرفان وكأنه ليس هناك اي مسؤول او كبير بحياتكما الرخيصة الفارغة...."

قاطعته (صفاء) بارتباك شاحب
"غير صحيح فهو ليس كما تظن"

ابتسم (مازن) باستفزاز وهو يقول بتعجب ساخر
"حقا يا صفاء ، هل تريدين مني ان اكذب ما اراه امامي ام تريدين مني ان اخبر والدي بأفعالكِ الشائنة والتي لن تسره ابدا"

اتسعت حدقتيها العسليتين وهي تصرخ بجزع
"لا تفعل"

رفع كفه بهدوء ليربت على كتفها قبل ان يمسك بذراعها بقوة واصابعه تنشب بلحم ذراعها بقسوة وهو يهمس بفحيح متصلب
"ليس من الجيد ان ترفعي صوتكِ امامي يا شقيقتي الصغرى"

زمت شفتيها الورديتين بارتجاف وهي تتلوى بذراعها بألم واصابعه تخترق قماش قميصها الخفيف ، لتتدخل بعدها (ماسة) وهي تنطق لأول مرة قائلة بصرامة شرسة
"ما تفعله بحق شقيقتك لا يجوز وخاصة امام العالم ، فأنت هكذا ستظهر امامهم بمظهر المجرم المستبد وقد يلقون بالقبض عليك بإشارة واحدة منّا ، فلا تنسى بأن المجتمع دائما يتعاطف مع المرأة مهما كانت جريمتها"

تلفت (مازن) من حوله بارتباك وهو يلمح بعض الأنظار والتي بدأت تتجه نحوهم بريبة وكأنهم يستعدون للانقضاض عليه بأية لحظة ، ليترك بعدها ذراعها بهدوء وهو يشيح بوجهه بعيدا عنها بحنق بالغ ، بينما فركت (صفاء) ذراعها بموضع قبضته بألم وهي تنظر لصديقتها بابتسامة حزينة ممتنة ، لتقابلها الأخرى بابتسامة هادئة غير معبرة .

قال (مازن) بعدها بلحظات بوجوم وهو يشير بعينيه بعيدا بأمر
"هيا بنا لنعود للمنزل ، وحسابكِ معي لم ينتهي بعد ، لتفكري مرة أخرى عندما تتجرأين على اللهو بشرفنا كما يحلو لك"

نظرت له (ماسة) باشمئزاز وهي تتمتم باستهزاء واضح
"عليكم محاسبة انفسكم قبل محاسبة غيركم"

امتقعت ملامح (مازن) وهو يحيد بنظراته نحوها بتركيز ليبتسم بعدها بميلان وهو يقول بثقة بالغة
"وانتِ ايضا حسابكِ معي لم ينتهي بعد يا دمية قيس ، فقط امهليني بعض الوقت لأتفرغ لكِ جيدا ويصبح كل ما اريده ملكي"

اشاحت (ماسة) بوجهها بعيدا عنه بغضب وهي تتنفس بحدة ، بينما تدخلت (صفاء) وهي تهمس له بحزن شاحب
"اتركها وشأنها يا مازن ، ولا تضايقها فهي لا علاقة لها بما حدث الآن وانا التي جلبتها لهذا المكان بنفسي"

عاد (مازن) للنظر لشقيقته بملل وهو يقول بنفاذ صبر
"اخرسي انتِ ، وهيا تحركي امامي لنعود للمنزل قبل ان اضربكِ امام الناس"

قالت (ماسة) فجأة ببرود جليدي
"يمكنك ترك صفاء معي ، فنحن نستطيع العودة للمنزل لوحدنا ولا نحتاج لمرافقة احد معنا"

تجهمت ملامح (مازن) بغضب لتسبقه (صفاء) بالكلام وهي تقول لصديقتها بابتسامة حزينة
"لا بأس يا ماسة ، فأنا سأعود للمنزل مع مازن ، واعتذر لأني ورطتكِ معي بكل هذا فكل ما يحدث الآن بسببي انا وبسبب فكرتي الغبية بالذهاب للمطعم"

عقدت (ماسة) حاجبيها بحدة وهي تنظر لها بهدوء متصلب قبل ان تتمتم بابتسامة باردة
"كما تريدين"

اتسعت ابتسامة (صفاء) برقة قبل ان تتراجع بخطواتها لتلحق بشقيقها من الخلف والذي سبقها بالسير بعيدا ، لتلوح بعدها بكفها بهدوء لصديقتها بدون ان تفقد ابتسامتها والتي تحتل ملامحها الجميلة ذات التفاصيل الناعمة عكس شقيقها ، بينما كانت (ماسة) ما تزال تراقب طريق سيرهما وابتسامتها الباردة تختفي تدريجيا عن وجهها ليحل مكانها الجمود ويتبقى فقط الفراغ وهو يحوم من حولها يكاد يبتلعها .

____________________________
كانت تمسك بالطبشور بأصابعها وهي تكتب به على سطح اللوح الأملس امامها بثبات وبيدها الأخرى تمسك بالكتاب المدرسي وهي ترفعه لأمام نظرها بجانب موضع يدها الممسكة بالطبشور ، ليتصلب بعدها ظهرها باستكانة ما ان وصلت طائرة ورقية بجانب رأسها قبل ان تهبط واقعة بجانب قدميها بهدوء ، تنهدت بهدوء وهي تخفض يديها للأسفل بعيدا عن اللوح لتقول عندها بدون ان تلتفت نحو وجوههم وهي تشعر بضحكاتهم المكتومة تصلها بوضوح
"والآن من المسؤول هذه المرة"

عضت (روميساء) على طرف شفتيها بوجوم وهي لا تصدق مدى الوقاحة والتي يملكونها وصوت ضحكاتهم والتي ارتفعت تزيد من إحباطها وهي التي اعتادت على التعامل مع كل انواع الاطفال ومجاراتهم بحركاتهم بعد ان تعايشت مع محيطهم لفترة طويلة ، ولكن هؤلاء الاطفال اثبتوا لها بأنها لم تتعلم شيئاً بعد كل هذه السنوات وكل خبرتها معهم تتبخر ما ان تحاول الاندماج معهم واستخدام الاسلوب والذي يناسبهم ، فقد اكتشفت بالنهاية بأن العيب ليس بها بل بسبب قوانين المدرسة الفاشلة والتهاون والذي يتعاملون به مع طلاب اقل شيء يستحقونه هو الصرامة والعقاب على افعالهم والتي تسبب الأذى ليس لهم فقط بل لجميع من يرتبط بهذه المدرسة وبالحكومة بشكل خاص ، ولكن لما يهتمون مادامت جميع معاملات المدرسة بالمجان والحكومة تقدم لهم دعماً سخياً لم يحصل عليه احد من قبلهم من بين جميع المدارس بالمملكة .

تصلبت ملامحها وهي تقبض على كفيها الممسكين بالطبشور والكتاب ما ان وصلت طائرة ورقية اخرى بجانب قدميها بدون ان تطير بجانب رأسها ، لتستدير عندها بعنف وخصلات شعرها تدور مع استدارتها وهي تنظر للوجوه المبتسمة ببراءة خبيثة حفظتها جيدا ، كانت تتنقل بنظرها بينهم بحذر قبل ان تقع على فريستها ومن كان يحاول تجنب النظر لها وهو يكتم ضحكته بصعوبة بدون اي حياء ، لترفع بعدها الطبشور نحوه وهي تشير له قائلة بصرامة نادرا ما تظهر عليها
"تعال إلى هنا يا هاني ، وقف امامي"

تحرك الطفل المدعو (هاني) ليتقدم نحوها بخطوات صغيرة حذرة ، ليقف بعدها امامها وهو ينظر للأسفل بدون ان يرفع رأسه نحوها وهو يمثل الخنوع والبراءة امامها ، قالت (روميساء) بحزم قاطع وهي تنظر لرأسه الصغير بتركيز
"ارفع رأسك يا هاني ، واخبرني عن ماذا كنا نتحدث الآن"

ردّ عليها (هاني) بسرعة بتلعثم بدون ان يرفع رأسه
"لم نتحدث بشيء ، بل انتِ من كنتِ تتحدثين طول الوقت مع نفسك"

تغضن جبينها بغضب من وقاحته وهو يقف امامها بدون اي اعتبار بوجودها ، لتبدأ بعدها الضحكات بالارتفاع تدريجيا بصخب حتى تحول الفصل لضجة صاخبة وكأنها بوسط حفلة ، عبست ملامحها وهي على وشك الصراخ بهم بتوبيخ قبل ان يخرج صوت آخر اكثر صرامة من عند باب الفصل قائلا
"فليصمت الجميع فورا"

خفتت صوت الضحكات حتى انعدمت تماما وجميع الانظار تتجه بوجل نحو باب الفصل والواقف عند إطاره المدير بنفسه وهو ينظر لهم بنظرات باردة تحمل الكثير من الشر غير المنطوق ، بينما نظرت (روميساء) بحيرة للمدير وهي تفكر عن سبب مجيئه للفصل بنفسه إلا إذا كان هذا تمرين يومي يفعله كل يوم ، فهذه ليست اول مرة يزور بها الفصول الخاصة بعملها وكأنه ليس لديه اي اعمال اخرى يفعلها غير زيارة فصولها كل حين .

تقدم (نادر) بعيدا عن باب الفصل وانظاره معلقة بالمعلمة الواقفة امامه بتركيز بطيء بدون ان يرمش حتى ، وما ان وقف امامها تماما حتى حانت منه التفاتة نحو الطفل والذي يكاد يختفي خلف ساقيّ المعلمة وهو ينظر للمدير بعبوس واضح ، ليقول بعدها وهو ما يزال يحدق بالطفل بابتسامة غامضة
"هل تعانين من مشاكل مع الطلاب الاشقياء ، إذا كانوا يسببون لكِ اي ازعاج فأنا استطيع التكفل بهم واخفائهم من الفصل بأكمله"

اخفضت نظراتها الخضراء بهدوء نحو الطفل والذي كان ينظر بتجهم عابس نحو المدير قبل ان تتنقل بنظراتها بين الطلاب الصامتين بخنوع وكأنهم ليسوا انفسهم من كانوا يسببون لها الضجة بالفصل ، فيبدو بأنهم لا يطيقون مديرهم هذا ويكنون له بالشر والظاهر بملامحهم الصغيرة العابسة .

ابتسمت (روميساء) بعملية وهي تعود بنظرها للمدير قائلة بجدية
"لا ليس هناك اي مشاكل من اي نوع ، فأنا هنا اسيطر على زمام الأمور جيدا ، ولكن شكرا لك على وقتك الثمين والذي اضعته بالتأكد من ان العمل يسير على ما يرام"

اختفت ابتسامة (نادر) وهو يستمع للكلمة الأخيرة والتي خرجت منها صارمة بتشديد ، ليقول بعدها وهو يرفع حاجبيه باستنكار واضح
"ولكن ليس هذا ما كان ظاهر امامي عندما دخلت لحجرة فصلك منذ لحظات"

عبست ملامح (روميساء) وهي تعيد خصلات شعرها المتمردة لخلف كتفيها قبل ان تقول بنفس ابتسامتها العملية
"كل معلم ولديه طريقته الخاصة بإدارة الأمور ، وهذه هي طريقتي الخاصة بالتعامل مع الفصل والذي اديره ، لذا ليس هناك داعي لتتعب نفسك بالتفكير بمثل هذه الأمور والتي تكون ليست من اختصاصك"

حرك (نادر) رأسه بعيدا عنها وكأنه قد تلقى للتو صفعة غير مباشرة وهي تعيد كلامه السابق لها وكأنها ترده بالمثل وهو ينظر لها بغموض هادئ ، ليقول بعدها بابتسامة جامدة لا تعبر عن شيء
"إذاً بما ان كل شيء يسير بخير بالفصل والذي تديرينه ، فأنا اريد منكِ ان تشرفيني بمكتبي لإنهاء بعض المعاملات والتي تخصك"

ردت عليه (روميساء) وهي تحرك رأسها بابتسامة واثقة
"اكيد سأفعل هذا يا سيدي المدير ، ولكنك ستضطر للانتظار اكثر حتى ينتهي موعد الحصة ، فكما ترى امامك انا ما ازال اقدم الدرس وعليّ انهاءه قبل موعد الحصة الذي تليه ، لذا عذرا منك فأنا مضطرة الآن لإكمال الدرس"

ابتسم (نادر) باهتزاز وهو يهمس بجمود متصلب يكاد ينطق من ملامحه بغضب مكتوم
"حسنا كما تريدين يا روميساء..."

قاطعته (روميساء) بابتسامة صغيرة بتصلب
"معلمة روميساء ، فأنا لا احب ان ينطق احد باسمي مجردا بدون اي لقب"

كان (نادر) يحدق بها بغموض طال للحظات قبل ان يتمتم بجفاء
"أياً يكن"

اهتزت حدقتيّ (روميساء) بارتباك وهي تشيح بنظراتها بعيدا عنه لتنظر لرأس الطفل والذي ما يزال ملتصق بها ، لتسمع بعدها وقع خطواته المبتعدة لخارج الفصل قبل ان يقول ببشاشة مريبة
"اتمنى لكم يوماً سعيداً بباقي اليوم وخالي من اي مشاكل"

زمت شفتيها وهي ما تزال تستمع لخطواته والتي اختفت عن مرمى سمعها ، لتعود بعدها للالتفات باتجاه باب الفصل وهي تتنهد بهدوء وقد آمنت الآن بالمقولة القائلة (لن تكتشف خيري إلا إذا جربت غيري) وهذا ينطبق على مديرها السابق الفظ بالمقارنة مع هذا المدير العابث .

سارت بعدها عدة خطوات للأمام قبل تشير للطفل بالطبشور والذي ما يزال بيدها وهي تقول بأمر صارم
"هيا عد لمقعدك بسرعة ولا اريد ان اسمع اي نفس منك وألا ارسلتك للمدير وهو من سيهتم عندها بك"

سار (هاني) بسرعة نحو مقعده قبل ان يجلس فوقه بطاعة تامة ، بينما كانت (روميساء) تنظر للأجواء الساكنة والتي خلفها وجود المدير بها بعد ان اجتاح المكان فجأة ، لتزفر بعدها انفاسها بإنهاك قبل ان تعود لرفع الكتاب المفتوح امام نظرها وهي تشير بالطبشور بكل زوايا الفصل متزامنا مع كلماتها الناطقة بعملية وهي تكمل ما بدأته وبطريقتها الخاصة والتي تتقنها وكأن شيء لم يحدث .

_____________________________
كان يقود السيارة على اطراف المدينة وهو يدندن بلحن غربي متزامنا مع الموسيقى والصادرة من مسجل صوت السيارة وهو يحرك رأسه برتابة ، لتعبس بعدها ملامحه وهو يتوقف عن الغناء ناظرا من نافذة السيارة الجانبية بتركيز للجسد البعيد والمتهدل على حاجز الجسر المتحرك نصف جسده ملقى بالهواء وقد اكتشف بأنها انثى من شعرها الاسود الكثيف والمتطاير امامها ورأسها محمول بالهواء يحركها كيفما يشاء .

عاد بنظره للأمام بسرعة ما ان كان على وشك التسبب بحادث وهو يطفئ مسجل الصوت بيده الأخرى ، ليوقف بعدها السيارة على قارعة الطريق بحذر وهو يعود بالنظر لنفس الجسر والمعلق به جسد الفتاة ، خرج بعدها من السيارة وهو يضع نظارته الداكنة فوق عينيه بهدوء قائلا بتسلية واضحة
"يبدو بأننا سنستمتع كثيرا بلعب دور البطل المغوار مع هذه الضحية"

اتسعت ابتسامة (شادي) بإثارة وهو يتحرك بخطوات واثقة باتجاه الجسر الطويل المتحرك ونظراته ما تزال متعلقة بانتباه بشعر الفتاة المتطاير بكثافة مع تيارات الهواء القوية ، وما ان وقف بجانبها وهي ما تزال على وضعها هذا حتى قال بابتسامة مسرحية وهو يمرر نظراته على جانب وجهها المخفي بين كومة شعرها
"مرحبا ، أهناك ما يضايقكِ يا آنسة ، فأنتِ تبدين بنظري مهمومة جدا والانتحار ليس بالحل المناسب ابدا"

اهتزت ابتسامة (شادي) بدون ان يجد اي إجابة على سؤاله وكأنه يكلم نفسه والآن فقط عرف شعور (احمد) عندما كان يكلمه بدون ان يجد منه اي استجابة ، ليعض بعدها على طرف شفتيه بتفكير قبل ان يستند بذراعيه على سياج الجسر المتحرك كما تفعل وهو يهمس بحزن مزيف
"اسمعي اعلم بأنني اضايقكِ بوجودي هنا ولا تريدين من اي احد ان يكون معكِ الآن ، ولكن صدقيني نواياي شريفة وما دفعني للمجيئ إليكِ هو منعكِ من فعل ما برأسكِ والذي سيكلفكِ الكثير ، لذا استمعي لكلامي وثقي بي"

همست (ماسة) لأول مرة بخفوت بدون ان تعتدل بوقوفها
"هلا صمت للحظة واعرتني سكوتك ، فقد بدأ رأسي يؤلمني من كلامك الفارغ"

انفرجت شفتيّ (شادي) وهو على وشك الكلام قبل ان يعود للصمت بصدمة وقد بدأ يتعرف اخيرا على الصوت الخارج من الفتاة بجانبه ، ليلتفت بوجهه بسرعة نحوها وهو يرفع النظارة لفوق رأسه بعيدا عن عينيه قائلا بتأكد
"ماسة"

رفعت (ماسة) وجهها نحوه ببطء وهي تبعد بكفها خصلات شعرها المتطايرة من امام وجهها قبل ان تقول بابتسامة ساخرة
"ألم تتعرف عليّ بعد ، ام تحتاج لأثبات هوية شخصية لتتأكد من هي التي تريد ان تُقدم على الانتحار ، وتتوقف عن تمثيل دور البطل امامي"

ابتلع (شادي) ريقه برهبة من الموقف والذي وضع نفسه فيه وهو يحاول التقرب ومساعدة الفتاة والتي تبين بأنها ابنة عمته المجنونة ، وهو لا يعلم ما لذي احضرها لهذا المكان تحديدا ؟ وكأنها تصر على ملاحقته لكل مكان كلعنة والتي وقعت على رأسه وبكل مرة تكون بوضع مختلف ومريب تماما عن سابقه ، وقد يكون القادم منها افظع ؟

كان يتنقل بنظراته بوجهها الجامد وهو ينظر لأول مرة لشعرها الطليق من حولها وهو يشكل هالة سوداء من حول رأسها تزيد بشرتها الرخامية بياضا غريبا مثل بياض الثلج وخاصة مع شفتيها الحمراوين بشكل مبالغ به بلون الدم بدون اي طلاء او مساحيق لتظهر مثل قصة بياض الثلج بالحكايات والتي لا ينقصها سوى وجود التفاحة المسمومة بيدها ، ليتوقف بالنهاية بنظراته عند حدقتيها الزرقاوين وهما تبدوان لأول مرة ساكنتين بدون اي امواج او بحار .

همس (شادي) بعدها بلحظات بابتسامة شاردة
"بياض الثلج"

عقدت (ماسة) حاجبيها بتركيز قبل ان تبتعد قليلا عن حاجز الجسر المعلق وهي تتمتم بوجوم
"ماذا كنت تقول عني للتو"

افاق (شادي) من شروده لينظر بعيدا عنها وهو يحرك كتفيه بلا مبالاة قائلا ببرود
"ليس بالشيء المهم"

عبست ملامحها بتصلب لتعود لتسند ذراعيها فوق حاجز الجسر وهي تعود للشرود بعيدا عنه وشعرها يرافقها بنفس الشرود ، بينما تجهمت ملامح (شادي) وهو ينقل نظره للأفق وللشمس والتي اختفت نصف استدارتها ليتبقى فقط القليل منها بوقت المغيب ، ليخفض بعدها نظره وهو يقول بصرامة مفاجئة
"صحيح لم تخبريني ما لذي تفعلينه بهذا المكان وعلى اطراف المدينة ، بدلا من ان تكوني الآن بالمنزل منذ ساعات ام انكِ تهوين التمرد على القوانين بالمنزل كما كنتِ تفعلين بمنزل زوج والدتك"

ردت عليه (ماسة) بجفاء متعمد
"هذا ليس من شأنك"

زفر (شادي) انفاسه بغضب وهو يقول بجدية صارمة
"لا تبدأي مجددا ، فأنا ليس لدي مزاج الآن لأبدأ بالشجار معكِ ، لذا تعالي معي بهدوء لنعود للمنزل بدون اي مشاكل وبعدها يمكنني التشاجر معكِ بأي وقت تختارينه"

امتعضت ملامح (ماسة) وهي تقول بحزم قاطع بدون ان تنظر إليه وهي تتأرجح بتعلق جسدها بحاجز الجسر بدون ان تهتم لخطر السقوط عنه
"ومن اخبرك بأني ارغب بالشجار معك او اني اريد العودة للمنزل معك ، فأنا إذا لم تكن تعلم استطيع العودة بمفردي وقتما اشاء وكما يحلو لي"

ازداد امتقاع ملامحه وهو يقبض على كفيه بقوة قبل ان يتهور ويسحبها معه من شعرها الطويل ويرتاح من هذه المهمة بأكملها ، فهو يعلم جيدا اي نوع من الوحوش ستقابلها وتتعرض لها بشكلها الملفت هذا وقد اصبح وجودها بهذا المكان خطرا عليها وعلى سمعتها وهذا إذا كانت تبالي بالسمعة اصلا ؟
تنهد (شادي) بهدوء وهو يقول بصبر حانق
"ماسة لا تدفعيني للغضب وفعل ما نندم عليه كلينا ، لذا هلا نفذتِ ما اقوله لكِ واتيتِ معي لنرحل من هنا"

ولكن لا حياة لمن تنادي وهي ما تزال تتأرجح بجسدها ورأسها يتحرك بالهواء وكأنها تختبر شعور الانتحار لو سقطت فجأة عن الجسر بدون اي اهتمام بحياتها ، لتعبس بعدها ملامحه وهو يتمتم بلا مبالاة متعمدة ناظرا لجسدها المتأرجح برتابة
"حسنا كما تشائين ، انا الآن راحل من هنا وتحملي انتِ تبعاتِ تهوركِ هذا عندما تنقض عليكِ الذئاب الجائعة او يلقون بكِ من على الجسر ، فأنا لم اعد اهتم"

عاد (شادي) للابتسام ببرود وهو يعيد نظارته الداكنة لفوق عينيه السوداوين وهي ما تزال تتأرجح بلا مبالاة وعدم اهتمام بوجوده ، ليتراجع بعدها بخطواته وهو يغادر بعيدا عنها ، بينما كانت هي تستمع لخطواته بتركيز قبل ان تلتفت بسرعة نحو مكان اختفاءه وهي ترفع حاجبيها بصدمة من سرعته بالرحيل حتى لم يعد يظهر منه اي أثر وكأنه كان ينتظر بفارغ الصبر الفرصة ليتخلص منها ، ابتسمت بعدها بجمود وهي تخفض نظرها للأسفل لأمواج البحر الهائجة بوقت الغروب وقد تلونت بألوان الغروب الناعمة وهي تظهر انعكاس صورة الشمس والتي توشك على الرحيل .

شعرت بدفعة طفيفة بفعل تيارات الهواء من خلفها لتنزلق ذراعيها بعيدا عن الحاجز ورأسها تتهدل لأسفل الجسر وقد اصبحت ساقيها معلقتان بالحاجز الرخامي تثبتانها لكي لا تقع وهي تمسك بقضبان الجسر بيديها بتشبث ، لتشعر بعدها بقوة تمسك بساقيها لتسحبها عاليا وهي تعيدها لفوق الجسر كما كانت قبل دقائق ، استدارت بسرعة للخلف لتنصدم بنفس الشخص والذي رحل قبل قليل وهو يمسك بساقيها بقوة وابتسامة ساخرة تحتل محياه قبل ان يقول ببرود متجمد
"اخبرتكِ ان تتحملي تبعاتِ تهوركِ ، ولكنكِ لم تفعلي ، وها انتِ كدتِ تقعين عن الجسر بدون ان يراكِ احد لتختفي بين امواج البحر والتي ستؤخذكِ بعيدا جدا ، وهذا الذي لن اسمح بحدوثه ابدا فخسارة شيء فريد مثلكِ ستكون خسارة فادحة"

انفرجت شفتيها الحمراوين بذهول من مغزي كلامه وهو ما يزال متشبث بساقيها ورأسها متهدل بالهواء ، ليرفع ذراعه عن ساقيها ليمسك بخصرها وهو ينزلها عن الجسر بسلاسة قبل ان يضع ذراعه الأخرى اسفل ساقيها ليحملها عاليا بين ذراعيه ببساطة ، قال بعدها بابتسامة متسلية متلاعبة
"هذه المرة سنعود للمنزل فأنا لن اعود لمساعدتكِ مرتين ، وحتى لو غرقتِ بتلك المياه وتجمدتِ بقاعها ، فلن اهتم لأنكِ انتِ من اخترتِ هذا المصير ، لذا ليس لديكِ حل الآن سوى ان تختاريني فأنا الآن الخيار الافضل لكِ"

افاقت من صدمتها لتعبس بتجهم وهي تدفعه بقبضتيها قائلة بانفعال
"اتركني الآن وفورا ، وايضا انا لا احتاج لمساعدتك فقد كنتُ استطيع تدبير امري لوحدي بدون ان اسقط عن الجسر"

حرك (شادي) رأسه بتفهم وهو يرفع جسدها النحيل لفوق حاجز الجسر قائلا ببساطة
"حسنا إذا كنتِ تختارين هذا المصير"

صرخت (ماسة) وهي تتمسك بقميصه بقبضتيها بهلع
"لا تتركني يا مجنون"

عبست ملامح (شادي) وهو يقول بحاجبين مرفوعين ببراءة
"لم اعد افهمكِ ابدا ، هل تريدين مني ان اترككِ ام لا"

رفعت وجهها نحوه بقوة وهي تقول باقتضاب بارد
"لا تتركني"

اتسعت ابتسامة (شادي) وهو يرفع حاجبيه بتسلية قائلا بطاعة
"حاضر يا آنسة ماسة ، الآن فقط عرفتُ ما هو مغزى اسمكِ فأنتِ باردة وقاسية كالألماس"

اشاحت (ماسة) بوجهها بعيدا عنه بضيق وهي ما تزال متمسكة بقميصه بقوة ، ليتراجع بعدها (شادي) بخطواته بعيدا عن حاجز الجسر قبل ان يتمسك بجسدها جيدا وهو يشعر بتشنجاته الواضحة بكل انحاء جسدها ، ليسير عندها باتجاه سيارته بصمت وابتسامته المتسلية ما تزال تحتل ملامحه الباردة ، واما (ماسة) فقد اكتفت بالصمت وهي تنظر لملامحه الغريبة والتي تظهر باردة غير مبالية بأي شيء مما يدور من حوله ، فهل هو قناع لإخفاء دواخله عن جميع من حوله ام هي طبيعته والتي تمتاز بالبساطة بكل شيء يفعله بدون ان يفكر بنتائج افعاله بالعالم ؟

_____________________________
كانت تتلاعب بالطعام بطبقها بالملعقة بشرود وهي جالسة حول طاولة الطعام مع العائلة وتستمع لهدر من النصائح والتي كانت تلقيها والدتها على اسماع ابنها الثالث ورجل العائلة الوحيد والذي يبلغ من العمر عشر سنوات وكل آمالهم معلقة به ليستطيع حمل كل اثقال العائلة بالمستقبل ونقل عمل العائلة للأفضل ، ولكنها ترى عكس ذلك تماما فماذا سيخرج من طفل الألعاب الإلكترونية وهو يدمن عليها اكثر من حياته وكل شيء يتمناه يصبح بين يديه بدون ان يطلبه ، حتى اضطروا بالنهاية لشراء نظارة طبية صغيرة خاصة به على طفل بالعاشرة من عمره .

صرخ شقيقها (يامن) وهو يقول بتذمر شديد
"هذا يكفي يا امي ، اريد الذهاب للعب فقد انتهيتُ من تناول الطعام بالفعل"

كانت والدته على وشك الاعتراض بغضب قبل ان يسبقها والده والجالس على رأس المائدة وهو يقول بوقار
"اتركيه يفعل ما يشاء يا جويرية ، فهو لم يعد طفلا صغيرا لتتحكمي بتصرفاته"

تحرك (يامن) بسرعة وهو ينهض عن مقعده لينطلق بعيدا عنهم قائلا بمرح بالغ
"شكرا يا ابي"

تجهمت ملامح (جويرية) وهي تلتفت بوجهها نحو زوجها قائلة بعدم رضا
"هذا الوضع غير مقبول ابدا ، إلى متى سيبقى متعلق هكذا بتلك الألعاب السخيفة والتي اخذت عقله بالكامل بدون ان يهتم بدراسته او بأمور أخرى غير اللعب"

ردّ عليها زوجها ببساطة بالغة وهو يحرك رأسه باتزان
"لا بأس فهو ما يزال صغيرا ويريد ان يعيش حياته ، وعندما يكبر قليلا سيكون عندها لكل حادثٍ حديث"

اعادت (جويرية) نظراتها للطبق امامها ببرود بدون ان تعلق على كلامه ، ليتابع بعدها كلامه وهو يقول بتفكير
"هل عادت سلوى لبيت زوجها"

امسكت (جويرية) بطبق ابنها الصغير لتسكب الأرز المتبقي منه بطبق منفرد يحتوي بواقي الطعام من العائلة وهي تقول بهدوء
"اجل لقد غادرت بمنتصف النهار مع السيارة الخاصة والتي اتت من عائلة زوجها لتوصلها للمنزل"

قال بعدها بلحظات وهو يعقد حاجبيه بحيرة حادة
"ولكن زيارتها هذه المرة قد طالت كثيرا عن السابق ، كان من المفروض ان تعود لعائلة زوجها منذ ايام ، فهذا التصرف غير لائق ابدا امام عائلة زوجها وامام المجتمع"

وضعت (جويرية) الطبق مكانه بصمت بدون ان تخبره بالذي حدث قبل مغادرة (سلوى) مع السائق وهي تصر على عدم العودة لبيت زوجها قبل ان يأتي بنفسه لها ويعتذر منها عما حدث ، ولكنها مع ذلك ارغمتها على الذهاب مع السائق والتفاهم مع زوجها بمنزله بدل الهروب هكذا كالجبناء والسماح للعالم بتشويه سمعتها بالقيل والقال .

قالت (جويرية) بعدها بلحظات بابتسامة هادئة وهي تضم قبضتيها معا بتحفز
"بالمرة القادمة سأتأكد من ان لا تطول زيارتها اكثر من الازم ، ولا تقلق من كلام الناس فلن يتجرأ احد على قول كلمة تسيء لبنات العائلة ولسمعتهن"

حرك رأسه بالإيجاب بدون اي كلمة ، بينما كانت (غزل) تستمع لكلامهم بعدم مبالاة وهي مشغولة بتناول طعامها بوجوم ، ليقول بعدها والدها بجدية صارمة وهو يضع الملعقة جانبا
"اسمعي يا غزل ، لقد تقدم صديق لي بالعمل بطلب يدكِ مني لابنه البكر ، وهو الآن ينتظر ردي على طلبه ، فما رأيك..."

ردت عليه (غزل) فجأة بانقباض مشتد
"اعتذر ولكني غير موافقة"

تجمدت ملامح والدها بدون ان يتأثر برفضها وهو ينظر لها بتركيز ، لتتدخل بعدها والدتها وهي تقول بخفوت حاد
"إلى متى ستبقين ترفضين كل عروض الزواج والتي تصل لكِ ، ام تفكرين بقضاء طيلة حياتكِ وحيدة بدون زواج وبدون تكوين عائلة مثل شقيقتك الكبرى"

حادت (غزل) بنظراتها نحو والدتها وهي تهمس باقتضاب
"وهل تظنين بأن سلوى سعيدة بزواجها"

عبست ملامح (جويرية) وهي تنظر لها بتصلب لتقول عندها بابتسامة جامدة
"ولكن زواجها يبقى افضل من عرض الزواج الرخيص والذي لا يستحق الذكر ، وانتِ توقفين حياتكِ بأكملها فقط من اجل شخص واحد ليس من مقامنا ولا من مستوانا ، وان كنتِ انتِ تسمحين لنفسكِ بالنزول لهذا المستوى المنحط فنحن لا نسمح ابدا ولا نقبل ، فلا تنسي بأن هناك دائما فروق بين من يعيش على الأرض ومن يعيش على السماء"

زمت شفتيها بارتجاف وهي تنظر لوالدتها بدون اي تعبير وحدقتيها تلسعانها بنار تأبى التوقف بداخلها حتى تحرقها بالكامل وتختفي من هذا العالم القاسي والذي لم يعطها اي لمحة من السعادة منذ ولادتها مشوهة الروح والقلب ، قصف بعدها صوت والدها وهو يقول بأمر صارم
"يكفي كلام يا جويرية ، لا اريد سماع اي شيء عن هذا الموضوع فقد مات بأرضه وانتهى منذ زمن"

امتعضت ملامح (جويرية) وهي تعود لسكب الطعام بالأطباق بنفس الطبق المنفرد بصمت ورتابة وهي تقرع الملعقة بالصحون بقوة ، بينما وقفت (غزل) عن مقعدها بهدوء وهي تتنفس بنشيج متقطع قبل ان تهمس بخفوت مشتد
"سامحني يا ابي ، ولكني لا افكر ابدا بالزواج بهذه الفترة ، واعتذر إذا كنتُ اسبب لكما اي نوع من الإحراج امام الناس وسماع الكلام المسيء منهم ، والآن عذرا"

غادرت (غزل) بخطوات خافتة بعيدا عن طاولة الطعام بدون ان تنتظر اي تعليق منهما ، ونظرات والديها تلاحقها بتركيز حتى اختفت عن نظرهما تماما ، ليقطع بعدها الصمت صوت (جويرية) وهي تقول بيأس
"حالة هذه الفتاة لا تعجبني ابدا"

ردّ عليها زوجها وهو ما يزال شارد بمكان اختفاء ابنته بهدوء
"اعطيها وقتها يا جويرية ولا تحاولي الضغط عليها ، وانا متأكد بأنها ستتحسن لوحدها فبعد كل سقوط ستعود للوقوف اقوى من قبل ، وهذه هي ابنتي"

نهاية الفصل......................
منتظرة آرائكم بفارغ الصبر ❤❤

عيون حايرة 24-03-21 08:48 PM

قرات انها جميلة
جهود مشكورة

روز علي 25-03-21 02:48 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عيون حايرة (المشاركة 15427612)
قرات انها جميلة
جهود مشكورة


تسلمي حبيبتي كلك ذوق ❤❤

روز علي 27-03-21 07:45 PM

الفصل السادس
 
الفصل السادس................
كانت تجلس على طرف السرير وهي تعض على طرف شفتيها بغيض مشتعل مما يحدث من حولها وبعد ان ارغمت على العودة لمنزل زوجها صاغرة وهي التي عاهدت نفسها بأنها لن تعود إليه قبل ان يطلب منها السماح على ما فعله معها ، ولكن بالنهاية لم يحدث شيء مما كانت تفكر بفعله وعادت بدون ان تحصد اي نتائج من فعلتها وغيابها الطويل عن المنزل لم يجلب لها اي فائدة ، وحتى انه لم يحاول اي احد السؤال عنها بطول الفترة والتي لازمت بها منزل عائلتها وكأن وجودها لا يشكل اي فارق بالنسبة لهم ، وهذا هو المتوقع عندما تكون تلك الساحرات قد حصلوا على نصيبها من كل الاهتمام والحب بالعائلة .

زفرت انفاسها بابتسامة ناعمة ما ان سمعت صوت دخول احدهم للبهو الخاص بجناحهما ، وما هي ألا لحظات حتى انفتح باب الغرفة ليطل منه زوجها بكل ضخامته ووسامته الرزينة وهو يتنقل بنظره بالغرفة بهدوء قبل ان تقع نظراته عليها لتتجمد بريبة وكأنه يتأكد مما يراه امامه ، ليغلق بعدها باب الغرفة من خلفه بحذر وهو يحرك عينيه بعيدا عنها ببرود .

تقدم (احمد) بخطواته باتجاه طاولة الزينة ليقف امامها وهو يخلع الساعة عن معصمه بصمت ، بينما نظرات (سلوى) تتابعه بتجهم وهي لا تصدق بأنه قد تجاهلها ببساطة بدون حتى ان يلقي عليها السلام كعادته عندما يعود من العمل ولو كان بأشد لحظاته سوءً .

تبرمت شفتيها بغضب وهي تهمس بجفاء
"لقد عدتُ للمنزل إذا كنت لم تلحظ ذلك"

طال الصمت بينهما قبل ان يقطعه (احمد) وهو يقول بجمود ساخر ناظرا لها من المرآة
"مرحبا بعودتكِ ، كأنكِ اطلتِ بالغيبة علينا هذه المرة ام ان المكوث عند عائلتكِ قد اعجبكِ كثيرا"

عبست ملامحها وهي تستمع لنبرته المعاتبة بصوته وهذه طريقته الخاصة بمعاقبة اي احد اساء إليه ، لتهمس بعدها بتصلب خافت
"لقد كنتُ انتظر قدومك لتأتي وتؤخذني معك من عند عائلتي ، ولكنك لم تفعل"

كان (احمد) يفك ربطة عنقه برفق قبل ان يلقي بها فوق طاولة الزينة قائلا بجمود حاد
"ولما أليس سائقكِ الخاص هو الذي ذهب بكِ لمنزل عائلتك واحضركِ منه ، إذاً ما فائدة مجيئي لمنزلكِ واضاعة الوقت بما ان السائق موجود"

ردت عليه بغضب مكتوم
"ولكن عائلتي كانت ترغب بزيارتك لها لأنك لم تعد تأتي لمنزل عائلتي ألا نادراً ، وانا قد اشتقتُ كثيرا لزياراتك واصطحابك لي بسيارتك"

اخفض (احمد) ذراعيه بقوة وهو يقول بعصبية بالغة
"ما هذه الترهات الجديدة والتي تتفوهين بها ام انكِ اصبحتِ تستمتعين كثيرا بإغضابي ، فليس هناك اي امرأة عاقلة تسعى لإغضاب زوجها بهذا الكلام التافه ، وانتِ اعلم الناس بظروف العمل والتي تمنعني من زيارة اي أحد"

ردت عليه (سلوى) بابتسامة ساخرة بانفعال
"وكيف ستبقى اي زوجة عاقلة وهي ترى زوجها يهينها ويفضل امرأة اخرى عليها وقد تصادف بأنها ابنة مجرم حقير"

صرخ (احمد) فجأة بيأس وهو يرفع يده لجبينه ليمسد عليه بغضب
"اخرسي يا سلوى ، حقا الكلام معكِ لا يجدي نفعاً ابدا"

تنفست (سلوى) بارتجاف وهي تفكر بتوجس بالغباء والذي نطقت به للتو بعد ان عادت للمنزل مرة أخرى وها هي تعيد نفس الخطأ السابق مجددا ، ولو علمت والدتها بفعلتها لوبختها بشدة على حماقتها وعنفتها بقوة ، فيبدو بأنها لم تتعلم شيئاً من خطئها السابق وكيف ستمسك نفسها ولسانها وهو ما يزال يعاملها بكل هذا الجفاء والذي يكاد يقضي عليها .

نهضت (سلوى) عن السرير ببطء متشنج قبل ان تجري بسرعة نحوه لتعانق خصره من الخلف بذراعيها وهي تقول برجاء متوسل
"سامحني يا احمد ، فأنا لم اقصد ان اغضبك من كلامي المتهور والمجنون ، ولكن مشاعر الغيرة هي التي تتحكم بي ، لذا اقول كلام لا انتويه ولا اعلم كيف يخرج مني"

ابعد (احمد) ذراعيها عن خصره بهدوء وهو يستدير نحوها بتجهم ليقول عندها بغموض وهو يفلت ذراعيها برفق
"انا لستُ غاضبا منكِ ولم اطلب سماحكِ ، ولكن كل الذي اريده واتمناه منكِ هو ان تتصرفي كأي امرأة عاقلة محترمة بدون ان تقلل من مستوى احد من افراد العائلة ، وهذا الكلام ينطبق على بنات عمتي مايرين ، لذا إياكِ وان اعرف بأنكِ قد عدتِ لمضايقتهما بكلامكِ او حاولتِ التقليل من شأنهما بأية طريقة"

زمت (سلوى) شفتيها وهي تهمس باستنكار
"ولكن..."

قاطعها (احمد) وهو يشدد على كلامه بصرامة خافتة
"هل كلامي مفهوم"

امتعضت ملامحها وهي تومأ برأسها بالإيجاب على مضض ، ليتنفس بعدها براحة وهو يبعد نظراته بعيدا عنها بهدوء ، شعر بعدها بلحظات بكفين مستريحتين على صدره وهي تتلاعب بأصابعها بأزرار قميصه والمفتوحة عند مقدمة صدره قائلة بدلال مصطنع
"ألم تشتق لي يا حبيبي ، فأنا قد اشتقتُ إليك كثيرا"

تشنجت ملامح وجهه وهو يمسك بكفيها ليخفضهما بعيدا عن قميصه قائلا ببرود
"عليّ الذهاب لأخذ حمام والنوم باكرا فأنا لدي غدا يوم حافل بالعمل ، لذا عذرا منكِ"

ترك كفيها ليسير بعيدا عنها باتجاه الخزانة والتي تحتل الجدار بأكمله وهو يخرج منها قطع ملابس مريحة للنوم قبل ان يكمل سيره نحو الحمام الملحق بدون ان يهتم بنظراتها الذاهلة ، ليغلق بعدها باب الحمام الملحق بوجهها قبل ان تعبس ملامحها وهي تتلقى رفضه العلني لها لأول مرة وكأنها لم تعد مرغوبة بالنسبة له ، وهذا يعني بأنه قد يكون الآن يبحث عن غيرها لتستطيع التعويض عنها وسد حاجته فما كانت تملكه وتجذبه نحوها قد خسرته بالفعل ولم يتبقى لها الآن شيء لتتفاخر به وتعلق زوجها به كما كانت تفعل بالماضي .

__________________________
كانت تتنقل بالمكتبة بهدوء وهي تنظر لصف من الكتب المرصوصة بجانب بعضها البعض ، واصبعها يتلمس الكتب امامها بشرود حائر فقد استعارة من هذه الكتب من قبل ولم يتبقى منها لم تجرب قراءته والتهامه بنهم كما تفعل عادةً مع بقية الكتب بحوزتها وجميعها من النوع الخيالي الحالم والبعيد كل البعد عن الواقع ، لتنقل بعدها نظراتها لصف آخر من الكتب قبل ان تقع على مجموعة جديدة من الكتب تراها لأول مرة ويبدو بأنها رزمة جديدة اضافوها لرفوف المكتبة مؤخرا بما انها لم تزر المكتبة منذ اسابيع طويلة .

توقف اصبعها الصغير على كتاب من بين المجموعة ذات غلاف محمر ملفت للنظر ، لتخرجه عندها بحذر من بين الكتب الأخرى قبل ان ترفعه لأمام نظرها وهي تقرأ العنوان الواضح بخط عريض وبنفس اللون المحمر
"جحيم الحب"

رفعت نظراتها العسلية بهلع لصف الكتب والذي بدأ يتساقط الواحد تلو الأخرى تباعا ومنها كان يتساقط داخل الرف بدون ان يقع ، لتخفض بعدها نظراتها لمجموعة الكتب والتي سقطت امام قدميها بعد ان سقط آخر كتاب من الرف بهدوء ، سكنت بمكانها للحظات قبل ان تشهق بجزع وهي تتلفت من حولها لتتأكد بأنه لم يشهد احد على الفاجعة والتي حدثت معها الآن ، لتجثو بعدها على ركبتيها وهي تلتقط الكتب بكفيها بتوتر شديد ومنها كانت تمسح على غلافه بكم قميصها برفق خوفا من ان يكون قد تلوث بالأوساخ والأتربة .

تجمدت بمكانها وهي تلمح ظل احدهم بجانبها قبل ان ينحني على ركبتيه وهو يلتقط الكتب الساقطة معها بصمت ، لتهمس بعدها بابتسامة مرتجفة بتوجس
"لا داعي ، استطيع فعلها لوحدي بدون مساعدة"

استقام بوقوفه بعيدا عنها وهو يقول بصرامة هادئة
"لا بأس ببعض المساعدة فأنتِ لن تستطيعي حل مشكلتكِ والتي تسببتِ بها لوحدك ، لذا انتِ الآن تحتاجين لي وبشدة"

عبست ملامحها بارتجاف وهي تشعر بإهانة غير مباشرة تصلها بصوته بدون ان تستطيع تحديدها وهي تنظر لظهره وهو يرتب الكتب من على الرف بحذر ؟ لترفع بعدها حاجبيها البنيين بصدمة وهي تهمس بانشداه
"الاستاذ جواد"

التفت نحوها (جواد) ببرود وهو ينظر لها من علو قبل ان ينحني بجذعه ليصل لمستواها وهو ينظر لوجهها بتركيز ارهبها ولا يفصله عن وجهها سوى شعرة فقط وقد بدأت تشعر بأنفاسه تضرب ملامح وجهها بسخونة اشعلتها ، وما ان فتحت شفتيها بارتجاف تنوي الكلام حتى سبقها (جواد) وهو يسحب الكتب من بين ذراعيها برفق وقد كانت يديه تحتك بكفيها بوضوح ، لتخفض عندها ذراعيها بسرعة بعيدا عنه وهي ترجعهما لخلف ظهرها بحركة دفاعية غير مقصودة ، بينما ابتسم (جواد) ببرود وهو يراقب تشنجها الواضح ليستقيم بوقوفه بعيدا عنها قبل ان يلتفت للرف ليرتب الكتب المتبقية معه بمكانها كما كانت .

ابتلعت (صفاء) ريقها برهبة وهي ترفع كفها لترجع خصلات شعرها البنية لخلف اذنيها بارتباك ، لتتلفت بعدها من حولها بتشوش وهي تبحث عن الكتاب والذي كان بحوزتها الآن .

وقفت بعدها بلحظات على قدميها باهتزاز وهي تنظر بكل الاتجاهات بدون ان تجد له اي اثر ، لتنتفض عندها بصدمة ما ان اخترق صوت (جواد) غمامتها وهو يتمتم بغموض
"جحيم الحب ، اسم مميز جدا ، ولكن هل هو موجود بالواقع ام لا"

رفعت نظراتها بارتباك نحو الذي استدار نحوها وهو يمسك بالكتاب والذي كان بحوزتها ، ليرفعه بعدها باتجاهها وهو يقول بابتسامة متصلبة
"هذا الكتاب لكِ"

رفعت (صفاء) يديها بسرعة لتلتقط الكتاب منه بلمح البصر وهي تهمس بامتنان
"شكرا جزيلا لك"

وبعد كلماتها استدارت من فورها بعيدا عنه وهي تسير بخطوات سريعة متعثرة نحو طاولة المحاسب بعيدا عن الغمامة الخانقة والتي تحوم من حولها ما ان تراه امامها بكل ما يحمله من غموض وهدوء وكأنه يعمل مع المخابرات ليتجسس على حياتها .

خرجت بعدها من المكتبة وهي تتنفس براحة بعد الضغط والذي تعرضت له بالداخل ، لتنظر بعدها للكيس البلاستيكي والذي يحوي الكتاب الجديد ذات الغلاف المحمر ، وما ان سارت بعيدا عن المكتبة عدة خطوات حتى شعرت بقوة تمر بمحاذاتها لينتشل منها حقيبتها قبل ان تقع ارضا بقوة ، لترفع بعدها نظراتها بوجل للغبار والذي خلفه من وراءه وقد تبين بأنها دراجة بخارية وشخص يركب من فوقها وهي من مرت بجانبها منذ لحظة ، اخفضت نظراتها بسرعة وهي تتلمس ذراعها بارتجاف بعد ان سرقت منها حقيبتها بفعل صاحب الدراجة .

انتفضت (صفاء) واقفة على قدميها وهي تصرخ ببكاء منتحب
"لقد سرق مني حقيبتي ، ذلك اللص ، امسكوه"

شعرت بعدها بيد تمسك بذراعها برفق وصوت (جواد) يقول بحيرة حادة
"ماذا هناك ، لما تبكين"

التفتت (صفاء) بسرعة نحوه لتمسك بذراعه بيد وهي تشير له بيدها الأخرى بعيدا قائلة بتوسل متلعثم
"صاحب الدراجة ذاك سرق مني حقيبتي ، ارجوك اعدها لي..."

صمتت (صفاء) وهي ترتجف ببكاء مرتعش بانتفاض ، بينما ابعد (جواد) كفها عن ذراعه قبل ان يتجاوزها وهو يجري بعيدا عنها ليختفي عن نظرها بلمح البصر وهي لا تصدق مدى سرعته بالجري وهيئته الرياضية وكأنه لاعب رياضي مشهور معتاد على الجري السريع لأمتار طويلة ؟

اخفضت (صفاء) نظرها للأسفل بإحباط وهي تستند بعامود الإنارة بيدها بتشبث لكي لا تقع على وجهها وتصبح بمصيبة أخرى ونظراتها العسلية الحزينة تتنقل بين الأرض امامها وبين مكان اختفاءه كل حين ، لتبتسم بعدها بسخرية وهي تعلق آمالها بذلك الشخص الغريب والذي يصر دائما على السخرية منها بكل مرة تتقابل فيها معه وهي لا تعلم للآن ماذا فعلت له ليعاملها بهذه الطريقة الغريبة ؟

اتسعت حدقتيها العسليتين بكامل استدارتها وهي تنظر للقادم من بعيد بنفس المكان والذي غادر منه ، لتتسع ابتسامتها تلقائياً وهي تنظر لحقيبتها والتي كان يمسك بحزامها بقبضته بجانب جسده الرياضي والقادر على الركض لأميال طويلة وهذا ما اثبته لها الآن ، وهو يبدو امامها بهذه اللحظة بالذات مثل ابطال الحكايات والتي تقرأها من الكتب عندما تقابل البطلة اميرها بنهاية حكاياتها الخيالية .

وقف (جواد) امامها بهدوء وهو ينظر بتجهم لبريق السعادة والذي يراه لأول مرة وهو يحتل حدقتيها العسليتين بانبهار غريب ، ليرفع بعدها قبضته الممسكة بالحقيبة نحوها وهو يقول بهدوء بالغ
"هذه حقيبتكِ المسروقة ، صحيح"

اومأت (صفاء) برأسها بالإيجاب بسرعة وهي ترفع يديها لتلتقط الحقيبة منه قبل ان تفتح سحابها بارتجاف وهي تتأكد من وجود كل محتوياتها بداخلها كما وضعتها ، لتسمع بعدها صوت (جواد) وهو يقول ببرود ناظرا لها بانتباه
"هل كل اغراضكِ بداخلها ، هل ينقصها شيء"

رفعت (صفاء) نظراتها نحوه بهدوء وهي تحرك رأسها بالنفي قائلة برقة ممتنة
"لا كل شيء موجود بداخلها ، وهذا كله بفضلك انت ، شكرا جزيلا لك استاذ جواد ، لا اعلم كيف ارد لك جميلك بالذي فعلته من اجلي"

حفرت ابتسامة شاحبة على شفتيه وهو يتمتم بغموض
"لا بأس اتركيها للأيام ، فنحن لا نعلم ما نوع الظروف والتي تنتظرنا بالأيام القادمة"

لم تنتبه لكلامه بل لم تعره اهتماما وهي تضع حزام حقيبتها فوق كتفها بهدوء وابتسامة متسعة ما تزال تحتل ملامحها ببريق السعادة الجديد ، لتقول بعدها بحيرة وهي تنظر له برقة
"لم تخبرني استاذ جواد ، كيف استطعت الإمساك بصاحب الدراجة بهذه السهولة ، وقد كان يبدو سريعا جدا بسرعة الريح وليس من السهل اللحاق به"

كان (جواد) ينظر لها بهدوء للحظات قبل ان يتمتم بابتسامة باردة
"لا استطيع اخباركِ فهذا سر يخصني وحدي ، ولن يكون سرا إذا اخبرتكِ به يا صفاء"

اهتزت ابتسامتها وهي تعبس بوجوم بدون ان تفهم ماذا يقصد بكلامه وكأنها قد طلبت منه ان يفشي لها معلومات تخص اسرار الدولة وليس عن حادث بسيط يخص ملاحقة لص ؟ عادت بنظراتها نحوه بتوجس ما ان قال بخفوت مبتسم
"لقد عادت الحقيبة لكِ ، إذاً لما ما تزال الدموع تحتل اطراف عينيكِ"

رفعت كفها بسرعة وهي تمسح خديها وعينيها بقوة امام نظراته الشاردة ، لينحني بعدها امامها وهو يلتقط الكيس البلاستيكي والذي يحوي كتابها من على الأرض قبل ان يعود ليستقيم امام نظراتها الذاهلة ليمد ذراعه الأخرى وهو يمسك بكفها قبل ان يضع الكيس براحة كفها بصمت ، قال بعدها بلحظات بهدوء وهو يغلق راحة كفها بقبضته ذات الأصابع الطويلة بقوة
"انتبهي على نفسكِ يا صغيرتي"

كانت (صفاء) تتنفس بارتجاف متشنج من ملمس يده على راحة كفها لتبعد عندها يدها بعيدا عن قبضته وهي تشيح بنظرها جانبا بارتباك واضح ، ليتراجع بعدها بخطواته بعيدا عنها وهو ما يزال يبتسم لها بغموض قبل ان يستدير وهو يسير بنفس الطريق والتي جاء منها قبل قليل مثل بطل الحكايات ، لتعود بعدها بلحظات لرفع نظراتها نحوه ببطء وابتسامة صغيرة احتلت جانب شفتيها الورديتين بحالمية وقد تحولت حكاياتها الخيالية لحقيقة متجسدة امامها .

_____________________________
كان يسير بممرات الشركة وهو يمسك بالملف بيده ناظرا له بتركيز ، ليصطدم بعدها بفتاة التوصيل والتي كانت تحمل صينية تحوي على اكواب القهوة وقد انسكب قطرات منها على سترته السوداء ، ابعد نظره عن الملف وهو ينظر لسترته بهدوء واجم للقطرات المنتشرة على سترته بوضوح ، بينما قالت الفتاة امامه بتلعثم مرتجف
"انا اعتذر سيد احمد ، لقد كنتُ...."

قاطعها (احمد) وهو يقول بابتسامة هادئة بدون ان يتأثر بما حدث
"لا بأس اهدئي ، ليست بالمشكلة الكبيرة فأنا املك الكثير بمنزلي مثل هذه السترة ، لذا لا داعي لكل هذا الجزع"

تنفست الفتاة بهدوء وهي تحرك رأسها قائلة بأسف شديد
"انا اعتذر حقا ، لم انتبه"

كان (احمد) يتلمس البقع الصغيرة المنتشرة على سترته بيده وهو يقول ببرود جليدي
"اخبرتكِ لا بأس ، فقط لو كان معكِ منديل من اجل..."

قاطعته الفتاة بسرعة وهي تخرج المنديل من جيبها لتمده نحوه قائلة بارتباك
"ها هو المنديل سيدي ، تفضل"

رفع (احمد) رأسه نحوها باتزان ليلتقط المنديل منها وهو يهمس بهدوء
"شكرا ، هذا سيفي بالغرض"

ابتسمت الفتاة باهتزاز وهو تتمسك بالصينية بين يديها لتقول عندها بخفوت محرج
"والآن عذرا سيدي"

حرك (احمد) رأسه بهدوء بإشارة منه بأنها تستطيع الذهاب الآن ، لتسير بعدها بعيدا عنه وهي تتجاوزه قبل ان تغادر بالطريق المعاكس له ، بينما انشغل (احمد) بمسح سترته من البقع والتي اصبحت باهتة غير مرئية باستخدام المنديل ، ليكمل بعدها سيره باتجاه غرفة المكتب وهو يدس المنديل بداخل جيب بنطاله ، طرق بهدوء على باب غرفة المكتب قبل ان يدخل وهو ينظر للرجل الكبير والذي طل عليه وهو يجلس خلف مكتبه بكل قوة ونفوذ استطاع به ان يتحدى بوجوده جميع المدراء بعالم الاعمال ومنهم من سحقهم بسهولة واخفاهم عن العالم بأكمله لكي لا يتجرأ احد على الاستخفاف به مجددا .

تقدم (احمد) بخطواته باتجاه مكتب والده وهو يبتسم له باتزان هادئ معتاد عليه امام والده ، وما ان وقف امام المكتب حتى وضع الملف والذي ما يزال بيده امام والده تماما وهو يقول بابتسامة متصلبة بوقار
"لقد وافقوا على الشراكة ، وهذا الملف الخاص بشراكتنا معهم وبه جميع التفاصيل الخاصة بهم وايضا موجود به مطالبهم"

نقل (محراب) نظراته من ابنه للملف امامه بتركيز قبل ان يعود بنظره لابنه وهو يقول بتفكير متصلب
"كيف وصلت بقع القهوة لسترتك ، هل اصطدمت بأحدهم قبل مجيئك إلى هنا"

اخفض نظره لسترته وقد كان يتوقع حدة نظر والده ويقظته الدائمة من كل ما يجري من حوله ، ليقول بعدها بعبوس وهو يعدل من وضع سترته بشكل لا تظهر به البقع
"اجل لقد اصطدمتُ بالفتاة والتي كانت توصل اكواب القهوة للمكاتب ، ولكن الخطأ ليس خطأها هي بل خطأي انا لأني كنتُ اسير شارد الذهن حتى اصطدمت بها"

تجهمت ملامح (محراب) وهو يقول ببأس شديد
"واكيد سامحتها على خطأها ولم تحاسبها على فعلتها ، وتركتها تمر مرور الكرام"

ابتسم (احمد) بهدوء بدون اي كلام وهو ينظر له بصمت ، ليتابع بعدها (محراب) كلامه بحدة وهو يزفر انفاسه بيأس
"لا اصدق ما اراه امامي لن تتغير ابدا يا احمد وستبقى دائما ذلك الشاب النبيل والضعيف والذي يداس عليه بقوة ، عليك ان تفهم امرا مهما وهو بأننا نحن الكبار لا ننزل لمستوى احد اقل منّا بل نجعل الناس هي التي ترتفع لمستوانا لتستطيع التكلم معنا او طلب السماح والغفران منّا"

كان (احمد) يحرك رأسه بطاعة بدون ان يحاول مناقشته بكلامه والذي اعتاد على سماعه منه دائما بدون ان يجلب اي فائدة او يغير من حاله كما يريد والده فأكثر شيء اكتسبه بعمله مع والده هو الصمت بكل شيء يحدث ويدور من حوله بدون ان يعلق او يبدي رأيه بشيء يفعله والده ، وهو واثق بأن كل شيء يفعله بحياته من قرارات واوامر يصدرها والده سترجع على الجميع بالفائدة بالنهاية وسيدر على مصلحته دائما فعلى هذا تعلم وتربى .

قطع الصمت الطويل بينهما والذي لفهما بهالة من الجمود وهو صوت طرق على باب المكتب باتزان ، ليطل منه بعدها رأس السكرتيرة وهي تقول بعملية جادة
"سيدي هناك ضيف يريد رؤيتك وهو يقول بأنه من عائلة نصران"

ردّ عليها (محراب) من فوره بصرامة قاطعة
"اتركيه يدخل"

استدار (احمد) بحيرة وهو ينظر لمكان اختفاء السكرتيرة ليحل مكانها بعدها بلحظات رجل كبير يقارب عمر والده وهو يتبعه شاب صغير يحمل بين يديه مجموعة من الملفات وهو يرتدي فوق عينيه نظارة طبية ، ليدخل بعدها الرجل الكبير وهو يتقدم نحو المكتب قائلا بسعادة بالغة
"مرحبا يا سيد محراب الكبير ام اقول حوت عائلة الفكهاني"

وقف (محراب) عن مقعده ليرحب بالضيف والذي ما ان وصل امام مكتبه حتى صافحه بيده بقوة ، ليقول عندها بنفس ابتسامته القوية والتي لا تخلو من تجاعيد العمر
"لقد تشرفنا حقا بقدومك يا سيد نصران ، هيا تفضل اجلس فقد اتيت بالوقت المناسب تماما لنتكلم به بحرية عن العمل"

التفت الرجل نحو (احمد) والذي ما يزال جامد بمكانه ليقول عندها بابتسامة بشوشة
"مرحبا بك يا ابن محراب ، كيف هي احوالك بني"

حرك (احمد) رأسه بهدوء وهو يتمتم بوجوم خافت
"بخير ، شكرا لك على السؤال ، ولكن ألن تعرفنا بصديقك"

ضرب الرجل جبينه براحة كفه بتذكر ليشير بعدها للشاب بذراعه وهو يقول بهدوء جاد
"هذا الشاب الصغير يكون مدير اعمالي ، وقد بدأ بالعمل معي منذ فترة وجيزة ولكنه يملك خبرة تعادل خبرة عشر سنوات عمل"

حرك (محراب) رأسه بتفكير وهو يقول بابتسامة متصلبة
"مرحبا بك وبمدير اعمالك ، وشركتي ترحب بكم بأي وقت"

جلس (محراب) بهدوء على المقعد خلف المكتب وهو يستمع لكلام المقابل له وهو يقول باتزان
"هذا كرم بالغ منك"

اكتفى (احمد) بنقل نظراته بين الشاب والذي ما يزال واقف عند باب المكتب بريبة وبين الرجل الكبير والذي جلس امام مكتب والده بابتسامة لم تفارقه منذ دخوله ، ليبدأ بعدها (محراب) بالكلام وهو يقول بجدية حازمة ممسكا بالملف امامه
"لقد وصلني الملف والذي يخص الشراكة والتي وافقت عليها ، ولكني لم اطلع عليه بعد ، وارى بأنك قد اسرعت بالمجيئ من اجل التكلم عن الشراكة ولم يمر على وصول الملف سوى دقائق"

تنهد الرجل بهدوء وهو يقول بغموض مريب
"الحقيقة لقد اتيتُ إليك لاستفسر منك عن شيء آخر بعيدا عن شراكة العمل ، وكنتُ اريد سماع الجواب منك تحديدا"

عقد (محراب) حاجبيه بحدة بدون ان ينطق بأي كلمة ، ليتابع بعدها الرجل كلامه قائلا بتركيز حاد
"لا اريد التطفل على ما لا يعنيني ، ولكني قد سمعتُ بأنهم قد ألقوا بالقبض على المجرم زوج مايرين الفكهاني ، وانت الآن تستقبل بنات شقيقتك بمنزلك بعد دخول والدهم المجرم للسجن"

تصلبت ملامح (احمد) بشراسة وهو يقبض على كفيه بقوة حتى ابيضت مفاصل اصابعهما ، ليقول بعدها (محراب) بصوت حازم بخفوت خطير
"اعتقد بأن هذه امور تخصني وحدي ، وليس هناك اي احد له علاقة بحياة عائلتنا وما يحدث بها والبعيدة تماما عن امور العمل"

ابتسم (احمد) بقليل من الراحة بدون ان يختفي الغضب والذي يشعر به باتجاه هذا الرجل المتطفل والذي اقل ما يستحقه هو الطرد من هذه الشركة بأكملها ، بينما كان الرجل يضم قبضتيه معا فوق ساقيه وهو يقول بابتسامة غامضة
"اعلم هذا جيدا ، ولكن لا تنسى بأن اهم شيء بالشراكة بيننا هي الثقة المتبادلة بين الطرفين ، ولكي نستطيع الاستمرار بهذه الشراكة علينا ان نتأكد بأنه ليس هناك اي شيء سيفسد علينا هذه الشراكة بالمستقبل ، واقصد بكلامي هي سمعة الشركتين النظيفة بهذا العمل"

كان (احمد) يتنفس بحدة وهو يحاول ضبط اعصابه امام هذا الرجل والذي يقارب بعمر والده وهو يحاول تهديدهم من بين كلامه بطريقة غير مباشرة وببساطة بالغة ، مرت بعدها لحظات فاصلة بين اربعتهم قبل ان يقصف صوت (محراب) بصرامة مشددة وهو يقدم وجهه امامه
"إذا كان هذا هو الأمر ، فلا املك سوى ان اخبرك بأن هذه الشراكة قد انتهت قبل ان تبدأ ، وهذه الثقة والتي تتكلم عنها لا تحصل بهذه الطريقة يا عزام نصران ، ولعلمك فقط سأخبرك بأن ذلك الملقى بالسجن لا يربطني به اي علاقة وتلك الموجودات بمنزلي لا يقرب لهم شيئاً وليس بوالدهم الحقيقي بل هو يكون مجرد شخص اهتم ببنات مايرين الفكهاني بعد وفاتها"

اخفض (عزام) نظره للأسفل بهدوء قبل ان يرفع نظره ببطء قائلا بابتسامة هادئة
"لا تقل مثل هذا الكلام يا محراب ، واعذر فضولي والذي دفعني لأتكلم بكل هذا فقد لعب الشيطان بعقلي وجعلني اغُضب شريكي بالعمل ، لذا انسى كل ما فات ولنفكر فقط بشراكة العمل والتي تربطنا الآن"

اشاح (احمد) بوجهه بعيدا عنه بعدم رضا وهو يتمنى لو يطرده والده ويصر على انهاء هذه الشراكة والتي بدأت بالشك والتهديد وستنتهي بالفشل ، قال بعدها (محراب) وهو يحرك رأسه بهدوء متزن
"لا عليك لقد سامحتك ، ومن اجل ان نبدأ بداية جديدة معاً وموفقة لشراكتنا انا اريد ان ادعوك لحفلة صغيرة بمنزلي وكل الموظفين بالشركتين مدعوين لها ، ويمكنك اعتبارها معاهدة سلام بيننا"

التفت (احمد) برأسه بعنف باتجاه والده وهو لا يصدق بأنه قد فعل مثل هذا التصرف بدعوة ذلك الرجل والذي يشكك بشراكتهم لمنزله ؟ بينما ابتسم (عزام) باهتزاز من المفاجأة وهو يقول ببعض الارتباك
"حقا هذا شرف لي ان تدعوني لحفلة بمنزلك ، ولكن عليك ان تسمح لي بأنه انا الذي عليّ ان اخطو مثل هذه الخطوة وادعوك لمنزلي فأنا الذي بدأتُ اولاً واغضبتك مني"

ردّ عليه (محراب) بهدوء قاطع وهو يضم قبضتيه معا بقوة
"بل انا الذي دعوتك اولاً ، لذا غير مسموح بالاعتراض ابدا ، ولا نعلم قد تكون الحفلة التالية نجاح المشروع بمنزلك انت"

اتسعت ابتسامة (عزام) وهو يضرب بقبضته على صدره قائلا بثقة
"وانا جاهز لأي حفلة قادمة ، ولدي ثقة كبيرة بنجاح هذه الشراكة بيننا يا محراب الفكهاني"

وقف (محراب) عن مقعده بهدوء ليتبعه (عزام) وهو يقف امامه تماما ، ليرفع بعدها الواقف خلف المكتب كفه عاليا وهو يقول بابتسامة جادة بقوة
"اذاً لقاءنا القادم بمنزلي ، ولا تنسى المجيئ فهذا الحفل سيكون على شرفك ونحن سنرسل لك الدعوة ما ان نحدد الموعد المناسب للحفلة"

ردّ عليه (عزام) بتأكيد وهو يرفع كفه ليصافحه بنفس القوة
"اكيد سآتي فهذا شرف لي ، فأنا متشوق جدا لحضور حفلكم هذا"

حرك (محراب) رأسه بالإيجاب وهو يترك كفه ليغادر بعدها (عزام) باتجاه باب المكتب وهو يلوح بكفه عاليا قائلا باحترام
"وداعا يا حوت عائلة الفكهاني ، واتمنى لكم يوما سعيدا"

خرج بعدها من باب المكتب يتبعه مدير اعماله بصمت ، لتختفي بعدها ابتسامة (محراب) بغموض وهو يستمع لكلام ابنه والذي كان يقول بتجهم واضح
"لما فعلت هذا يا ابي ، واخبرته معلومات عن عائلة عمتي مايرين كما كان يريد"

ردّ عليه (محراب) بهدوء وهو يستند بكفيه على سطح المكتب بتحفز
"لأن هذا ما كان عليه ان يحدث ، فقد حان الوقت المناسب لنسكت افواه الناس ونضع حدا لكلامهم المسيء عن سمعة عائلة مايرين والتي لطخوها بالوحل بما فيه الكفاية ، بالرغم من انها تستحق ما يحدث لها فهي التي جلبت العار لنفسها منذ البداية"

نظر (احمد) بتفكير نحو والده قبل ان يتمتم باستنكار خافت
"وماذا عن الحفلة والتي تفكر بعملها على شرفه ، ما لداعي لكل هذه الرسميات يا ابي وانت الذي لم تحب يوما كل هذه المظاهر الخادعة"

عاد (محراب) للابتسام بتغضن وغموض وهو يبعد كفيه عن سطح المكتب قائلا ببرود يخفي من خلفه الكثير
"لا تستعجل الأمور يا بني ، وكل شيء سيتضح امامك بالحفلة القادمة ، فكل شيء بوقته جميل"

ادار (احمد) عينيه وهو يعيد نظراته لمكان اختفاء المدعو (عزام) وكل شيء يتمناه ان لا يحدث مزيد من المشاكل والاساءة بالكلام عن عائلة عمته وبشراكة العمل المريبة والتي لم يرضا عنها للآن .

يتبع..................


على هذا الرابط
https://www.rewity.com/forum/t481045-3.html


الساعة الآن 06:49 PM

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.