آخر 10 مشاركات
جنون المطر (الجزء الثاني)،للكاتبة الرااااائعة/ برد المشاعر،ليبية فصحى"مميزة " (الكاتـب : فيتامين سي - )           »          209 -العودة إلى الحب -راشيل إليوت - مكتبة مدبولي (الكاتـب : Just Faith - )           »          من تحت سقف الشقى أخذتني . . للكاتبه نـررجسـي?? ، مكتملة (الكاتـب : لهيب الجمر - )           »          سِرٌ لا يُقال - الجزء 1 من انتقام الفهد - للآخاذة: عبير قائد (بيرو) *كاملة & الروابط* (الكاتـب : Omima Hisham - )           »          في أروقة القلب، إلى أين تسيرين؟ (الكاتـب : أغاني الشتاء.. - )           »          زهرة .. في غابة الأرواح (3) * مميزة ومكتملة * .. سلسلة للعشق فصول !! (الكاتـب : blue me - )           »          موريس لبلان ، آرسين لوبين .. أسنان النمر (الكاتـب : فرح - )           »          قيد العشق - قلوب زائرة - للكاتبة الرائعة* roqaya saeed alqaisy *كاملة & الروابط (الكاتـب : Roqaya Sayeed Aqaisy - )           »          رحلة امل *مميزة*,*مكتملة* (الكاتـب : maroska - )           »          دموع تبتسم (38) للكاتبة: شارلوت ... كاملة ... (الكاتـب : najima - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء

Like Tree496Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 07-03-23, 11:10 AM   #71

فاطمة صالح.

كاتبة في قسم الروايات والقصص المنقولة


? العضوٌ??? » 506671
?  التسِجيلٌ » Sep 2022
? مشَارَ?اتْي » 81
?  نُقآطِيْ » فاطمة صالح. is on a distinguished road
افتراضي




الفصل الخامس و العشرون

*
ماشاء الله، تبارك الرحمن.
اللهم صلِ على محمد
*
*
طوال اليومين الماضية كانت تلتزم الصمت بشكلٍ مُربك،خاصةً أنها شخصية حارة
إن لم تتحدث تتراكم الكلمات في حنجرتها وتنفثها كنار فجأة!
عندما استيقظت قبل انتقالهم ووجدت أخواتها جاهزات ينتظرنها رمقتهن بخيبة للحظات
قبل أن تتجه للسيارة وتركب بصمت
ومن تلك اللحظة، تعتنق الصمت حتى عندما زرنها أخواتها صباح هذا اليوم وحاولن تغيير حالها إلا أن مساعيهن آلت للفشل
وحتى عندما اطمأنت أنهن مرتاحات وأن انتقالهم كان الأفضل بما أن المدعو عاصي لن يتركها الآن..

التفتت لتراه يجلس على الكرسي الخشبي في وسط صالة شقتهم يزفر نفسه الحار، يغمض عينيه بإرهاق،باتت أيامه مخيفة بل مرعبة خاصةً بعد رسالة يوسف المختصرة له (متجه للقصر الوزاري.. بأمانتك "زوجتي" يا عـاصي
لا يمسّها ضر وكن لها أخ في الرخاء والشدة
بتكون مع عواصف بنفس المكان.. ولما تقرر سكون تجيك وتكلمك لا تردها وصدّقها.. وأنا آسف
آسف يا سندي إني ما بكون معك في الخطوات الجاية.. آسف لكن الوطن قبل كل شيء وانت تعرف! قبل كل شيء حتى قبل قلوبنا..)

تلك الرسالة عصفت بروحه.. يوسف لا يعتذر إلا لأمرٍ جلل وبما أنه لم يحصل شيء حتى هذه اللحظة فيبدو أن القادم موحش
ولماذا خصَّ زوجته وأمّنها بكل هذا التشديد له، وهو يعلم مسبقاً شعوره تجاه الوزير وجميع ذويه!
مئات الأسئلة تعوث برأسه لم ينقذه منها إلا صوتها الذي خرج على شكل وتيرة موسيقية إنما صاخبة جداً:"تفكر بمصيبتك اللي ابتليت فيها؟"
التفت لها بنظرة مستنكرة.. فاعتدلت بجلستها قائلة:"تعرف ليه كنت رافضة تعاملك الطيب مع خواتي؟ ليه أرفض أي مبادرة منك لهم؟"
ينظر لها ينتظر اجابتها بترقب حيث أنها واخيراً بدأت تتكلم كطبيعتها:"لأنهم ما يشبهوني يا عاصي.. هم.. هم"
حك طرف ذقنه ليقول مستدراً منها الكلام:"هم ايش يا سماهر..؟"
أخذت نفس بصعوبة لتقول بغيظ:"هم بيتأذون لما تصحى على نفسك وتكتشف إني مجرد نزوة من نزواتك"
تتسع شهلاءه المميزة بشيء من الصدمة لتكمل بقهر مُر:"ريم قالت لي.. إنك تعتبر زواجاتك مجرد نزوات تفرغ فيها كبتك ولما تاخذ غايتك ترميهم وراك.. وأنا خايفة على خواتي من هالدلال
خايفة لامنك وعيت من نزوتك هذي وطردتنا من هالمكان ونفيتنا عن حياتك.. خايفة عليهم من الخيبة!
أنا أقوى من إني أصدق إن باقي بهالدنيا رجل شهم يأخذ على عاتقه مسؤولية ماهي مسؤوليته
لذلك أقدر أمسحك بشخطة قلم ولا كأنك كنت
بس هم..؟ تظن كم بيستغرق مقدار خيبتهم وهم يرجعون لذات البيت اللي خرجوا منه بآمالهم؟......."

سكتت برهبة بسبب صوته الهادر:"ابلعي لسانكِ اللي يقطر سم يا آدمية"
تنظر له بذهول ليهز رأسه بعدم استيعاب:"ريم من هذي اللي ترمي لك حذاء وانتِ تزرعينه بعقلكِ لدرجة تقولين هالحكي"
تتحول نظراتها للشراسة بسبب جملته لكنه لا يعطيها مجالاً مردفاً:"صدقيني يا سماهر ولو كنتِ مجرد نزوة وقررت بيومٍ ما أرميكِ وراء ظهري ما بتخلى عن خواتكِ.. بيكونون في حماي
أنا يوم قررت آخذ مسؤوليتهم على ظهري ما اعتبرتهم نزوة وبيجي اليوم اللي برميهم فيه واتخطاهم
أنا قلت لهم -أنـتم خواتي- و عاصي الياقوتي
ما يرمي خواته للهلاك لو على موته.."

تلين نظرتها بشكل طفيف لتتلاشى بعض مخاوفها التي كانت تنهش روحها طيلة الأيام السابقة لكن ما آلمها أنه وبكل بساطة سيرميها أما اخواتها فباتوا في منزلة اخواته هو!
إذاً.. وهي؟
تتسع عيناها بخوف من هذا السؤال لترفع رأسها له
وتجده قد أسند رأسه للخلف ووضع ذراعه على عينيه دلالة أن تنصرف أو تصمت
جلست تقبض على طرف بنطالها بكل غضب
تباً.. أي حياة تنتظرها معه؟ وقد أتى بهم إلى منتصف أسدام أي يحوفهم من كل إتجاه ديجوريين محتليين!
لم تعلم أنه اختار هذه البقعة تحديدًا لأمانهم
على الأقل في بداية الإنتفاضة كون الديجوريين لن يقصفوا مكاناً به مواطنين منهم!..
قالت ببعض التصلب قاطعة الصمت:"سألت من ريم؟ جارتنا بنت سلمان زوجتك الرابعة يعني
نسيتها؟ معقولة كانوا..."

صمتت بسبب زفرته الحانقة..ليقول بغيظ:"تدرين أي مصائب تدور برأسي يا سماهر؟ تظنين عقلي يتحمل هالحكي التافه؟"
لم ترد عليه ليرفع طرف ذراعه يرمق جلوسها الثائر بجانبه برغم إطباق شفتيها على بعضها إلا أن وجهها المشتد حمرته وعينيها ذات النظرات النارية
حتى خصلات شعرها ثارت مع أعصابها.. علِم أنها بحرب معه أيضاً لذلك قال بهدوء ينافي تعبه:"ريم كانت زوجتي الرابعة.. ماكانت نزوة، ولا زوجة تزوجتها كانت نزوة.. كانوا مرحلة بحياتي وما بنساها ياسماهر،لكن ماكان بيننا نصيب انفصلنا لأسباب ماكانت بسيطة ولا تافهه
وأنتِ منتِ نزوة بحياتي.. أنتِ زوجتي وبتبقين زوجتي فاتركي عنكِ هالوساوس اللي تضيّق الخلق بالله عليكِ"
افترش الصمت الصالة للحظات طويلة حتى ظن أنها غادرت المكان إلا أنها تنهدت فعقد حاجبيه ينتظر ما ستؤول إليه هذه التنهيدة التي لو كانت أمام جبل لأزاحته!
لتهمس وكأنها لا تريده أن يسمع:"ومصيري معك؟"
أهي تهمس خجلاً أم ضيقاً من حياتها الغريبة معه؟ وهل يلومها؟ مضى عشرون يوماً على زفافهم لم يلمسها بعد تلك الليلة أبداً!
ليقول بعد برهة صمت:"أنا ماني قسيس ولا بكون معك راهب يا سماهـر.. لكن في نفس الوقت ماني بحيوان يتبع غريزته وبس!
أنا مـقدر وضعك والمعمعة اللي تعيشينها لذلك ماودي أزيدها عليكِ.. لكن ماني عايف إن كان هذا ظنك -زفر نفسه الحار- أنا والله مهتوي
لكني مقدّر"

حمدت الرب أنه يضع ذراعه على عيناه كي لايرى وجهها الذي تحول للأحمر القاني من شدة الحرج والصدمة.. هي لم تسأل عن هذه النقطة بالذات لكنه ألجمها برده.
-مهتوي- مازالت نبرته وهو يقول هذي الكلمة ترنّ بأنحاء روحها
بالرغم أنه صمت منذ لحظات طويلة
لتبتلع ريقها وترفع رأسها عندما استشعرته يقف بعدما صدحت من جهازه نغمة معينة تركتها تقف بدورها بسبب قفزته من الكرسي، تفرك يديها بتوتر وهي ترى تصلب فكّه وعينيه التي تقدّح شراً وهو يرى رسالة جهاد (تم القبض على الوزير وحارسه الشخصي يونس صابر..)
ليرفع رأسه لها فتشهق بذعر من منظره المتصلب
تباً لجهاد.. أهذا العقاب المنتظر!!
أن يحرم الدولة رجل داهية بعظمة يوسف الغرابي بسبب كبرياءه الرجولي
صرخ بعنف وكاد أن يهشم الجهاز لولا أن يديها التي عانقت كفّه تركته يلتفت لها وكأنه لم يعيي وجودها إلا هذه اللحظة
راقب ذعرها وحاول تهدئة نفسه كي لايخيفها أكثر
رفع هاتفه يتأمل الساعة ليزفر بتعب قائلاً وهو يربت على وجنتها المتوردة:"نامي أنتِ.. وخليكِ على يقين إن الله معنا وبإذنه ما بيّمسكم ضر
اخترت لكم هالمكان لأجل أمانكم.. الساعات الجاية ويمكن الأيام الجاية ماراح تكون هيّنة
مع ذلك ماني بخايف عليكم.. أنا مدرك إني بروح وبترك وراي مرأة عن مية رجال"

تتسع حدقات عينيها بصدمة من كلماته..مابال هذا المجنون يتحدث كجندي يذهب للمعركة
وأقصى معركة له مع نيران الحديد التي يصهرها!
قالت تدّعي الصلابة رغم تهاوي دواخلها من نبرة الثقة التي ترن بصوته:"وين رايح؟ مارح تنام هنا كالعادة..؟"
يبتسم بخفوت قائلاً بثقة من ترك بصمة بحياتها:"يبدو بأن مكان السرير الخالي مني ترك الكون كله يكون موحش صح؟"
ارتبكت وارتدت للخلف إنما نظرتها كانت ساخرة
ليضحك يخفي ما يعتلّ بروحه ببراعة كما اعتادوا بمهنتهم الحقيقية، يقترب وهو يرفع كفه يمسح على رأسها بحركة رقيقة يرتب خصلات شعرها الثائرة
لترتعش بلا إستيعاب منها وتبتعد عن تأثيره الذي يجعلها أشبه بطفلة صغيرة بحضرة والدها!
قالت بخوف لم تخفهِ:"وش بيصير الساعات الجاية يا عاصي.. وأنت وين رايح؟ فهمني لا تتركني على عتبة الخوف أناجيك.."
يكبح انفعالاته من انتفاضة الخوف التي رآها بعينيها ليقول بهدوء:"لا تخافين..وكل اللي لازم تعرفينه إن القسط تنتفض لنفسها.."
ترمش بعدم فهم ليقترب بهدوء وبلا تردد دنى منها يُقبل وسط عينيها بقبلة طويلة رجف لأجلها قلبها قبل قلبه
ليبتعد منتزعاً نفسه بصعوبة وهو يعلم أن ما ينتظره أهم من زوبعة مشاعره بهذه اللحظة
يربّت على وجنتها من جديد قائلاً بصلابة تليق به:"أنا واثق فيكِ يا سماهر.. بغض النظر عن ماضيكِ وطريقة تعارفنا إلا إني أثق فيكِ هاللحظة وكأنكِ من روحي.."
تنظر له بتوجس ليودعها قائلاً:"نامي هالساعات
يمكن الساعات الجاية تندمين لأنكِ ما نمتِ"
ضحك من ملامحها التي مالت للذعر وقال ملوحاً لها بالوداع:"لا تخافين.. حنا شـعب ما انخلقناx للخوف"
ليخرج مغلقاً الباب خلفه بصعوبة..تباً
لقد تحمل شعوره المُلح نحوها لأيام طويلة
وكاد أن يموت فقط ليحتضنها فحسب خلال اللحظات الماضية، لكنه يعلم يقيناً أنه لو تذوق دفئها لن يقتصر الأمر على عناق فحسب!
لذلك آثر الإبتعاد هذه اللحظة.. متجهاً للمقر السري ليحارب جهاد قبل أن يحارب الديجوريين نفسهم
لقد تعدى على أهم ركيزة في حياته.. على يوسف
ولن يمررها له أبداً أبداً!
أما من تركها خلفه أغمضت عينيها ترمي جسدها على الأريكة قائلة بتعب من أرهقه التفكير:"هنا المشكلة يا ياقوتي.. أنا ما أذكر بأني تعديت عليك وأخذت منك شيء قبل أن تتهمني في المخبز
أنت من وين ظهرت لي لأجل تعاقبني على فعل ما ارتكبته فتحتل كل زوايا حياتي لدرجة إن خروجك هذا أرهقني..؟"
ولم تعلم أنها أخذت أغلى ما يملكه.. سرقته عنوة واحتلته تجبراً.. لقد سلبته قـلبه!

أصوات الطرقات العنيفة على الباب أخرجتها من تلك الهالة لتنتفض بجزع تركض تفتح الباب
لتُفاجئ بالباب يُدفع بكل قوة وصوت ضحكاتهن الصاخبة يملأ بهو شقتها، ترفع حاجبها باستياء واضح تراهن يخرجن من شقتهن بحجاب واحد يغطين به رؤوسهن الثلاثة لتقول بغيظ:"أنعم وأكرم"
تبتسم شادن، تحك طرف ذقنها:"كل اللي بيننا خطوة وحدة تبينا نلبس خيام يا سماهر؟"
كزّت على أسنانها وقالت:"لا ولكن على الأقل حجاب واحد لكل وحدة، صحيح العمارة مافيها غيرنا، ولكن الإحتياط واجب"
ابتسمت شدن للإحمرار الطفيف الذي مازال يعلو وجنتي سماهر فاقتربت قائلة بعبث:"أخونا الكبير وش مسوي فيكِ لأجل أنتِ بجلالة قدرك تخجلين؟"
ضربت يدها بقهر فتعالت ضحكاتهم المرحة لتقول بتأفف مصطنع:"وش جابكم هالوقت؟"
تبتسم شامة بمسكنة، تمسح على معدتها:"جايين نأكل..متنا من الجوع والله"
ترفع حاجبها بسخرية، تلتفت عنهم:"ماعندي أكل..خلـوا أخـ..."
لتلتفت بصدمة لشهقاتهن المتتابعة ليقُلن بالتتابع -"أفا بتموتينا من الجوع؟
-وخليتِ أخونا الكبير يخرج وهو جوعان؟
-زوجة فاشلة!"

تلتفت لهن بوجه محتقن من الغيظ لتصرخ بحنق:"ترى قسماً بالله واصلة لخشمي منكم..يكفي طلعت من بيت أبوي لأنكم لعبتوا بعقلي وخليتوني أمشي وراكم مثل المجنونة
والحين يلا برا لشقتكم.. سووا لكم أكل أو لا بكيفكم"

ينظرن لها بمسكنة لتقول شامة بضحكة خافِتة:"بس أنتِ في كلا الحالتين كنتِ بتخرجين من بيت أبوي، لايكون كنتِ بتعيشين مع أخونا الكبير معنا بعد؟"
لتشاركها شدن الضحكة قائلة:"ونسمع صوت صراخكِ عليه طوال اليوم، وتطيح هيبته من عيوننا"
لتثبّت شادن يدها تحت ذقنها قائلة بتساؤل:"بس علميني أنتِ جالسة مع عاصي بالشكل هذا؟"
ترتبك من تعليقاتهم وتنظر لبنطالها الأسود تعلوه كنزة رصاصية طويلة تغطي فخذها ذات أكمام طويلة:"ليه؟ شكلي.."
قاطعوها بسخرية:"سيء"
لتجحظ عيناها بصدمة عندما أكملت شامة:"هذا شكل تستقبلين فيه عجائز الحي يا أختي غير الأنيقة"
تكمل شدن بتنهيدة أسى:"أو تروحين تشتغلين فيه حفّارة قبور"
غطت شادن فمها بيدها ضاحكة:"أو تتحولين جنية"
لكن صرختها الحانقة بهنّ تركت صوت ضحكاتهن المشاغبة تتعالى بأركان العمارة ليركضن بهلع خارجين من الشقة غير مهتمات حتى بحجابهن الوحيد حيث عبرن الممر بخطوات بسيطة وأقفلن باب شقتهن بكل قوة، تراقب خروجهن، تتنفس بغيظ تكاد تتفتت من قهرها أحقاً شكلها غير مناسب تماماً للجلوس مع عاصي؟ ألهذا كان يصد النظر عنها طيلة الوقت!
ابتلعت ريقها بقهر سرعان ما ذاب و تحول لبسمة صادقة حنونة وهي تسمعهن ما زالن يضحكن
منذ متى لم تسمع صخب ضحكاتهن لهذه الدرجة؟ لدرجة أن يغرد عصفور بين جنبات صدرها!

اتجهت لمطبخها لترى الأغراض التي وضعها عاصي على جهة متذكرة تعقيبه:"هذا نصيب خواتكِ خذيه لهم"
تبتسم وهي تتركه لتصنع لهن وجبة ساخنة تنتهي منها وتأخذ أسدال صلاتها لتتجه به مع بقية الأغراض لهنّ
تطرق الباب لتفتحه شامة بذات اللحظة ترفع قبضتها في الهواء صارخة بفرح:"فزت فزت فزت يسسس، كنت عارفة بأنكِ ماراح تتركينا نموت من الجوع"
ناظرت لها بطرف عينها قائلة:"ليه ومن قال إني بترككم؟"
نظرن شادن وشدن لشامة بقهر لتقول الأولى:" كلنا كنا ننتظركِ ماعليكِ من الدراما هذي"
ركضت شدن لتختطف القدر الساخن منها لتسحب شادن الأكياس ويركضن بضحكاتهن للمطبخ
فتمسك شامة يد سماهر قائلة بضحكة:"مابقى غيركِ لأجل أختطفه والله ما أروح بيدين فاضية"
مشت معهم بضحكة خافتة تهز رأسها برضا على أصواتهن المرتاحة.. ووميض امتنان أضاء بروحها للمتسبب في كل هذه الراحة..
*

تنظر للافتة التي زيّنت مدخل الحفل بشيء من السخرية: (أهلاً بكم في قسط الديجور)
لتعبر من تحتها، تشد على قبضتها بكل قوة حتى ابيضّت سلاميتها لتهمس بغضب:"ياليتني أعطيته إحداثيات هالمكان علّه يفجرهم كلهم مرة وحدة"

تتسع عيناها بذهول عندما أتاها صوت سلام السّمح من خلفها:"قسط الديجور؟ أراه إبِخاس حق، لايوجد عدل في الظلام"
لتلتفت له بوجه لايحمل أي تعابير فيبتسم، يحك طرف ذقنه:"حسناً حتى الجوى لا يوجد بها عدل، أنا أحترق وغيري لا يهتم"

تنظر له من تحت رمشها لترتدي صلابتها من جديد تشتم مخططاتها قبل لحظات فحسب لو أعطتهم الإحداثيات لكان هو معهم
لتناثرت أشلاءه في أنحاء المكان..وتباً تريد الموت على أن يصيبه مكروه!
تبتعد مدعية اللامبالاة في حضوره كما اعتادت خلال الأيام السَّابقة ليتنهد كاظماً غيظه منها
تعلم الحُب معها..وعلمه شيخه أن أفضل أنواع الحب..الحب الحلال في الله!
لذلك يود العيش معها تحت ظل الله لا في معصيته
بينما هي لا تُساعده أبداً بابتعادها..ألأنه ديجوري وهي قسطية! لا يظن أن البلد هو ما يحول بينهما لأنها في النهاية نقيب لجيش الديجور!

تقف بجانب إحدى الطاولات تنظر لساعتها بين فينة وأخرى، ثم تعاود النظر للجنود القادمين فجراً لأرض القسط لتهمس بذات الغل:"آخر أشخاص راح يطئون أرضي ويلوثون ترابها"

ترفع حاجباً للنادل الذي وضع كأس الخمر على طاولتها تهم بزجره لكنه يبتعد بخطوات بدت مهرولة بفزع من نظراتها، بالرغم أن كدماتها بدأت تتلاشى ومع بعض المكياج اختفت عن وجهها

تبتسم باتساع.. وبرغم أن بسمتها تحمل لوعة
إلا أنها كلما التفتت ورأته يقف في زاوية الصالة الواسعة بمفرده.. تارة ينشغل بهاتفه وتارة يتحدث مع صاحبه، مرآه وهو يُناقض أول احتفال رأته به يبعث شعور مختلف لروحها
بحق الله.. لقد غازل بتلك المرة جميع الفتيات بالإحتفال لكنه هنا.. لا يكاد يعير إحداهن نظرة

أشاحت بنظرها عنه بعجل عندما تعانقت عيناه بشهلاءها وأخذت تفرك كفيها باضطراب
مازال صدى كلماته يرنّ بإذنها وتتمنى أن معاملتها الباردة له تردعه عن مُناه
إلا هو.. لا تودّ له هذا النوع من الأذى الروحي خاصةً منها!
لكن أمنيتها تلاشت عندما رأته يقف أمامها بحاجب مرتفع وجبين متغضن بعدم إعجاب
لترتد للخلف مجفلة.. إنها أول إمرأة يتحدث معها منذ دخوله!
لبست رداءها المعروف بالبرود والصلابة وقالت بتأفف:"ماذا تريد؟"
رد باستياء:"أنا من علي سؤالكِ..لماذا تنظرين إلي طيلة الوقت بهذه النظرات؟ هل صعُب عليكِ المجيء لي؟ هل أردتِ أن آتي لكِ أنا! حسناً لقد جئتكِ بنفسي فأخبريني"

ارتبكت لكن لم يتضح عليها سوى البرود وصوت تنبيه بجهازها سلبها انتباهها معه لترفع معصمها تنظر لساعتها فتخفي نظرتها المترقبة
وأعصابها التي تشنجت بصعوبة..لم يرى انفعالاتها لأنه لم يكن ينظر لوجهها أساساً لكنه انتبه لرجفة يدها فاقترب قائلاً بوجل:"مابكِ؟"
تنتفض للخلف لتنظر له بحدة:"لاشيء ابتعد من أمامي.."
تمسك بكأس المشروب ليستلّه بغضب غير معيرٍ أمرها أي إهتمام ليهمس:"ألم أخبركِ بأنه بات محرماً؟"
تنظر له متناسية وجلها لتقول بغيظ:"محرم لك أنت.. أنا لم أسلم بعد"
ليقول بثقة وهو ينتزع الكأس منها:"ستسلمين وعن قناعة لذلك دعي عنكِ كل هذا التشبّث بدين لا يليق بكِ"
كانت سترد عليه لكن صوت دوي الإنفجار الهائل تركها تغمض عينيها بكل قوة تكبح الرغبة في الإختباء تحت الطاولة وإغلاق أُذنيها بصعوبة تامة

أما من في الحفل فقد تعالت صيحات الخوف والهلع واستنفر كل من في المكان ليفاجئوا بأصوات انفجار أخرى متتابعة وأصوات هواتفهم النقالة تصدح بذات اللحظة
يرفع القائد الأعلى هاتفه بذعر ليسمع ما تركه يقف مصعوق:"لقد تم تفجير خمسة من مصانع الأسلحة في العاصمة أسدام وتم إخفاء كل ماكان في المخازن في بقية المناطق في ذات اللحظة"
ينزع هاتفه عن إذنه لتصله مكالمة أخرى من شخص فقد قدرته على الإستيعاب :"لقد تم تفجير ثلاث من الطائرات التي أحضرت الجنود فجر هذا اليوم"

ينظر بتشتت للمكان ليسمع صيحات جنوده وبكاء الجنديات القادمات فجراً من الديجور كونهم لم يسمعوا مثل هذه الإنفجارات طِيلة حياتهم
يقف القائد يحاول تهدئتهم لكنه لم ينجح
ليلتفت فجأة يبحث عنها..يجدها تقف بسكون أمام أحد ملازميها ثم تنسحب بهدوء عن المكان
ليقبض كفه ويتبعها بصمت شديد..تاركاً جميع جنده يعانون الويل من شدة الخوف!
*
بعد ربع ساعة فقط أحس بالوِحشة،برغم صيحات الذعر من أبناء وطنه، منهم من حملوا السلاح وشرّدوا الأطفال وقصفوا المنازل إلا أنه لم يهتز لها، لقد بات يفقد الإيمان بقضية وطنه منذ أشهر طويلة تحديداً منذ أن وطأت قدماه أرض قسط الجوى وعاش فيها ليرى الظلم بأم عينيه..والمجحف بحقه أنه لم يستطع ردعه حتى هذه اللحظة
صحيح أنه أتى لهدف معين.. وحققه
وأنه لم يؤذِ، او يقتل،او يتسبب بوجع لأي قسطي
إلا أن حمله لجنسية الديجور وعلمه فوق صدره وصمته عن ما يحصل في شعب القسط من ظلم يسببه وطنه كان يكفي لأجل أن يكون بنفس المرتبة معهم!.. مجرد ظالم
وهذه الحقيقة تحرق روحه..هو من استمع لويلات هذا الشعب عندما كان يزور الجامع ويتحدث مع رواده!

لم يُعر صيحاتهم المرعوبة وبكاء المجنّدات أي إهتمام..إنما شعور خانق في قلبه أجبره يصعد خلفها لسطح الفندق الذي يُقام فيه الإحتفال بعدما تحجّجت أنها تكره صوت الصراخ
على درج السطح. عقد حاجبيه بوجل وهو يستمع لصرخة مفجوعة..إنما ليست كصرخات المجنّدات المائعة
صرخة شخص جامح، لبؤة تصارع صيّادها! بل شخص لا يجهل صوته أبداً
فُجع قلبه وركض بأقصى طاقته ليقف مصعوق بقلب يختلج رعباً يراها بثيابها شبه الممزقة وشيبها الذي تشعث من شدة صراعها
ويدها التي تدفع بجنون ذلك الذي يجثو فوقها
لتتسمّر أقدامه وهو يسمع صرخاتها العنيفة
وهمهمات من ذلك الرجل، ضاع كلا الصوتين بين صرخات الجنود وأصوات الإنفجار التي لم تسكن بعد..
ينتشله من ذهوله صوت شهقة بكاءها التي أعلنت إنهزامها.. ليدوي صوت طلقة رصاص بأرجاء المكان تتبعها أخرى وأخرى وأخرى فيسقط جسده الثقيل عليها وتتغطى جميع أطرافها بدماءه الملوثة وسط إتساع شهلاءها بشيء من الجنون وتجمد أطرافها برعب..

تنفرج شفتيها عن صيحة كتمتها بصعوبة وهي ترى الشخص الذي دفع جسد القائد الأعلى عنها، يرمقها بوجه شاحب وعينان زائغتين
انحنى يمسح عن وجهها دمعها، يرتب تشعث شعرها، ينزع عنه معطفه الأسود ليلبسها إياه
يوازنها بصعوبة كي تقف؛ يلهث للحظات طويلة وهي تحتضن نفسها ودمعها ينسكب من عمق الرعب،لينظر اخيراً للجسد المُسجى على الأرض فتتسع عيناه بصدمة هامساً بعدم تصديق:"القائد الأعلى... لقد قتلته..قتلت قائدي.. ربااه"
تلتفت له لتخرج من دائرة عدم الإستيعاب لتمسك كتفه تهزه بعنف ودمعها يتساقط على وجنتها:"أنت كنت تحميني، لا تجزع، أنت كنت تدافع عني"
أمّا هو فكان كالمغيب:"قتلته..قتلت القائد"
تضطر لصفعه على وجهه ليعي ما يحصل فتتسع عيناه بنظرات قاتلة تركتها ترتد للخلف برعب لتشد المعطف على صدرها قائلة:"لازم نخرج من هنا،لازم نبتعد"
هز رأسه بنفي: "لالا، أنتِ اذهبي أنا أنا"
تسحبه من معصمه بعنف وهو يسير خلفها وكأن صاعقة حلَت عليه، بالرغم أن صوت الرصاص لم ينتبه له أحد كون أصوات الإنفجارات غطت عليه إلا أن السواد الذي حلّ على روحه هو ما تركه مرعوباً

من كثرة الجنود المتدافعين لم يلحظ خروجهما المشكوك به أحد، إلا أنه قبل أن يركب السيارة معها التفت لها بوجهه الشاحب..إنما عيناه تنطق خيبة وغضب عنيف.. نار مستعرة تربّصت به، ينطق وكأنه يبصق الكلمات في وجهها:"أنتِ خائنة"
تجحظ شهلاءها برعب لتراه يرتد للخلف بخطوات مهتزة وكأنه يستوعب واخيراً كلمات القائد وهو يحاول إنتهاكها (يا خائنة..قسماً لأذيقنكِ أشنع عقاب لخيانتكِ لي ولدولتي..أعطيتكِ كل ما أردتِه وأنتِ لم تعطني سوى الإهانة..خائنة للديجور خائنة لي وخائنة لجيشنا العظيم)

هز رأسه بعدم تصديق يراها تتقدم بوجه محتقن بالألم تهمس:"سلام"
يضع يديه على أذنيه علّه يخفي صوتها مع بقية الأصوات العالية لكنه يخترق كل شيء ليصل لقلبه تماماً، يبتعد أكثر وأكثر ويهز رأسه علّها تختفي عنه لكنها مازالت قريبة..قريبة لدرجة أن تختلط بروحه أن تمتزج مع أنفاسه وأن تذوب بين أوردته فتجري مجرى الدم في عروقه!
قريبة لدرجة وإن ذهب لنهاية هذا الكون لن تختفي عنه..لذلك كانت تراقبه من مكانها
بشفتين ترتجف وعينان تبكيه.. وقلب يبكي مصابها ومصابه!

رفعت هاتفها ترى رسالة جهاد (أغلقنا زر الصبر)
لتفهم بتلك اللحظة أن الصبر انتهى وأن المخططات التي امتدت لعشر سنوات منذ زرعها في بلد الديجور قد بدأت.. تغمض عيناها بقهر أنثوي تتذكر عندما صعدت للسطح ترى إنجازها بأم عينيها، ترى واخيراً ما دفعت دم قلبها لأجله
لتبتسم بانشراح وتطرق بيدها حافة السطح:"تونا بدينا يا قسط الجوى.. قسماً لأنزع قلوبهم من أفئدتهم من شدة الخوف"
-
ترفع ذراعيها لفوق وكأنها طائر لتضحك بصوت عالي ولا يحد من عُلو صوتها إلا كلماته التي وكأنها قطعت أجنحتها قطعاً:"أيتها المقدم عواصف..يبدو بأنك الشخص الوحيد المبتهج لما يحصل معنا من مصائب!"

أنزلت يديها بشيء من الهدوء والتفتت ترسم على وجهها الأسى:"يبدو بأن نظرك بات سيء نسبةً لتقدمك بالعمر سيادة القائد"
يبتسم بسخرية وهو مازال يتقدم منها:"لم تكوني تقولين هذا الكلام في السنين الماضية، ألأنكِ وصلتِ لهذه الرتبة بتُ شيخاً هرماً؟"
تنظر له بصرامتها المعهودة لتقول بفظاظة أحبّها بها:"قلتها سنين ماضية"
يبتسم إنما ليس كبسماته المهللة تلك،واحدة قاتمة،سيئة جداً
وهذا ما استشعرته عندما وقف بجانبها يراقب مصانعه التي تفجر كل مابها من ذخائر، الذخائر التي كان سيشنّ بها حربه الطاحنة مع المقاومة
يبتسم بشيء من الغضب ليقول ببرود مرعب:"إذاً، ست سنوات كانت مدة صبر كافية لكِ صحيح؟ أظن أن لعبة القط والفأر التي كنا نلعبها والتي كنت أحبها بالمناسبة قد انتهت..بما أنكِ وصلتِ للرتبة التي تخولكِ للذهاب لمصانع الأسلحة والتعرف على مهندسيها"

تنظر له بنفس نظراته الباردة ولم تهتز بها شعرة من تهديده المبطن..لقد عانت للوصول إلى هنا
بشكل لن يخطر على بال بشر
بحق الله لقد ابيضّ شعرها من شدة مصائبها، أتراها تخاف بسبب هذا الحيوان اللاهث خلف شهواته؟ تقول بهدوء لايليق بجدية الموقف:"حسناً لقد إنتهت اللعبة، وكما وعدت ستنال ما تريده في النهاية لكن ليس الآن.. أما بالنسبة للإنفجارات فأنا أكثر من متأسفة لما حصل ولكنه ليس بسببي.."

تتجلى الحقيقة أمامه..الحقيقة التي أخفتها شهواته والتي تغاضى عنها قسراً لكي يرضي غروره الذكوري.. لم يكن يتوقع أن ست سنوات من الولاء للديجور، الإنحناء لعلمه ونشيده الوطني، القتال ضد أبناء بلدها
ضريبته هذه الخيانة.. أن تسفك كل مخططاتهم بغمضة عين! يقترب ليمسك خصرها بين يديه بقوة أخافتها فدفعته بعنف لتسمع هسيسهُ الغاضب:"لقد انتظرت بما فيه الكفاية..وهنا على أنغام نصركِ وصيحات فشلي سآخذ ما انتظرته لسنوات"
تجحظ عيناها لمعنى كلماته لتدفعه بجنون وهي تسمعه يصيح بها:"سأريكِ ماذا بوسع الشيخ الهرم أن يفعل"
تؤول كل محاولاتها بالفشل، يمزق ملابسها ينزع قبعتها لتجحظ عيناه بإشمئزاز لمرأى شعرها لكنه لم يتوقف، بل يكمل ما نواه منذ سنين طويلة
يكمل ما حلم لأجله..ماكان يقول أنه كلما صار بعيداً كلما صار الحصول عليه ألذ وأجمل
يخوض معركة مع شراستها وهو يصُب لعانته
عليها لتعترف واخيراً وهي تدفعه بعنف:"خسئت إن كنت تظنني خائنة لوطني يا محتل"
لتدفعه للجنون وهو يسمع صيحتها تلك مقراً بأنها النهاية.. وتعترف هي أنها وصلت لقاع الجحيم وهي تسمع كلماته اللاسعة ولمساته التي دنستها لتشهق ببكاءها واخيراً.. لكن صوت الرصاص الذي أصم أُذنيها وجسده الذي سقط ثقله عليها.. أنبأها أن لكل نهاية.. بداية من سلام!
رؤيته وهو يدنو منها.. يساعدها..يغمرها بالأمان برائحته التي احتوتها عندما ألبسها معطفه
كانت تكفي لإسراف كل الدمع الذي احتفظت به طوال سنواتها الماضية..
رؤية جسد القائد مسجى على الأرض بين دماءه أشفت شيئاً من غليلها برغم أنها تمنت لو كان موته على يديها هي!

عادت للواقع ترى سلام يبتعد عدواً على أقدامه وكأنه قد أُصيب بلعنة لتغمض عيناها على دمعة حارة تمسحها لتكتب لجهاد: (كُش ملك.. سقط الملك)

بعد حوار طويل أقنعته فيه أنها بخير وصلتها رسالته التي جعلتها تذهب بعيداً عن المكان السيء هذا (اختفي عن الأنظار حالياً.. وأنا بتكفل بموضوعه)
والأكيد أنها لم تخبره أن ملازم أول من كتيبتها علِم بأمر خيانتها كي لا يكون مصيره كمن علم من قبله.. إلا سلام لن يمسّه الأذى بسببها ولو ماتت قهراً!
مازال وميض بريء بداخلها يخبرها أنه لن يُضحي بها أبداً.. وعلّ هذا ماجعلها تذهب للمنزل الذي به سكون بعدما أخبرها يوسف بأمر العيش معها طيلة فترة الإنتفاضة لتريح جسدها
لتستقبلها الأخرى بصدمة تبكيها.. تدخلها للحمام لتغسلها بنفسها.. تريها ضعفها ولاتمثل القوة بحضورها أبداً
طالما كانت سكون مرآتها.. إنما المرآة البريئة والطاهرة بعكسها هي
هي من تدنست بلمساتهم، هي من حاولوا أن يعتدوا عليها مئات المرات ولم يفلحوا
حتى شيب شعرها لم تخجل وهي تستشعر أنامل سكون تمسح عليه بعدما سرحته لها في ظفيرة.. ولا عندما اندست بحضنها وهي تحتضنها بحنية أم.. قد يكون هنا
حضن سكون.. المكان الوحيد الذي تشعر بالأمان به
ولا تعلم السبب.. لم تسألها سكون ولم تُشعرها بالوجع إنما احتوتها فحسب.. الإحتواء الذي تحتاجه
*
*


الساعة الخامسة مساءً..
قبل انفجار المصانع الديجورية بثلاث ساعات..

على أعتاب الحصن
يريح رأسه على عجلة القيادة وصداع ينهش جمجمته، منذ أيام والمقر في حالة استنفار
بسبب بعض المتربصين بهم، أشخاص يتعقبونهم وكأنهم باتوا يعلمون من هم.. وهو واحد منهم
صرح جهاد عن غضبه بأبشع الطرق وقوله الصريح بأن هناك خائن يدمي قلوبهم، من عساه يكون من نُزع حب القسط من قلبه؟
ألا يكفيهم مصيبة واحدة؟ إعتقال يوسف الغرابي بهوية يونس صابر ومآل مصيره إلى حيث يذهب الوزير عمران؟
لتأتي مصيبة الخائن هذه في هذا الوقت الحساس جداً!
يرفع رأسه وهو يرى رسالة منتهى له (بتجي اليوم؟)
في الصباح لم يكن ينوي المجيء ولكن جو المقر خنقه وأجبره على اللجوء لها..علّ زُرقتها الدافئة تزيل برود روحه
عقد حاجبيه لمرأى سيارة من نوع -شاص- يملأ خانتها الخلفية خمسة رجال بأشكال غريبة، المثير للريبة أنه في مكان ما في رأسه قد رآه قبلاً لكن أين؟ هذا ما لا يستطيع تذكره!
يتجه لمنزله علّه يريح باله.. لكنه مازال يذكر جملة جهاد.. أن يبتعد عن ما يشغل باله
وباله مشغول بها..إن كانت مطمئنة فسيكون بخير
لذلك اليوم سيفهم مابها وسيحُل قضيتها قبل ذهابه
يقترب من منزله ليعقد حاجبيه أكثر بشيء من الدهشة وهو يرى تلك السيارة تقف بالقرب من منزله وثلاثة منهم يقفون أمام الباب وكأنهم حُراس
ليتجهم وجهه وقد نوى الذهاب والبطش بهم لكن الباب الذي فُتح واليد الرقيقة التي ظهرت تشيرx بالدخول والشخص الذي دخل بكل أريحية أمام عينيه جعلا قلبه ينفجر غضباً، يقف مصعوقاً للحظات قبل أن يتبع -واخيراً- حاسته السادسة فيلتف من الحديقة الخلفية يفتح الباب بخفة ويدخل من نافذة المطبخ المفتوحة..
يحاول تهدئة ثورة قلبه وتنفسه العالي فيغمض عينيه للحظات قبل أن يعود للقفز خارج المطبخ إنما يقف بجانب النافذة وهو يسمع وقع خطواتها حتى وقفت بجانبها
يرتفع ليراقبها تُخرج هاتفها بوجه شاحب ويدين مرتجفة..تطبع رقم هاتف لم يتبينه إنما عرف هوية صاحبه عندما قالت ببحة بكاء:"ليالي..ليالي جاء.. جاء بنفسه هالمرة"
لتأخذ نفس بصعوبة وكأن ليالي نصحتها بذلك، تقبض على الهاتف لتهمس بذات الرعب الباكي:"بيقتله هالمرة بيقتله..يقول هالمهمة صعبة عليكِ وأنا بكملها عنك..ليالي أنا تعبت"

تغمض عيناها لتسمح لأدمعها أن تهوي على صفحة وجهها فتمسحها بعجل عندما سمعت صوت يدوي بإسمها لتهمس بذعر:"يناديني يا ليالي.. لالا لاتجين راح ينهيك، أنتِ مالك عذر
أنا ما يقدر يأذيني بنفسي.. على الأقل"

تغلق الهاتف، تأخذ نفس قبل أن تفتح قارورة العصير تسكب له في الكوب وتخرج من المطبخ
وسط نظراته التائهة والعجز يتمكن من عقله فلم يفهم أياً مما قالته.. يعود للصعود ويتجه بخطوات كما الطير يقف خلف باب الغرفة الصغيرة القريبة من الصالة
ليسترق النظر بعقل يكاد أن ينفجر من الغضب
وقلب لا يعي ما يحصل.. يراها تجلس على الكرسي الخشبي ببعض الربكة
غير مرتاحة..هذا ما عرفه، لكن تباً لها وله من هذا الذي تجلس أمامه دون حجاب يواري حُسنها؟ تباً للإستخبارات التي زرعت فيه عدم الإندفاع فبقي في مكانه يستمع للحوار بهدوء يُحسد عليه..
*
تنظر له بزرقاءها المرتجفة ليبتسم لها ساخراً:"للآن تناظريني مثل القطة يا منتهى.. وكأني كلب وبنقض عليكِ في أي لحظة"
تبتسم له تخفي إرتباكها:"حاشى لله..مرحباً فيك بأي وقت"
يهز رأسه، يرى كأس العصير فيقول بذات السخرية:"عيب عليكِ، جايبه عصير دون ما تقربين وتشربيني إياه؟"
تقف بذات الإرتباك وتتجه له لتُشربه العصير فيفرغه دفعة واحدة في جوفه ليتجشأ فتكتم اشمئزازها بصعوبة وهي تعود للجلوس مكانها
غير منتبه للواقف خلفها يكاد أن يسحب مسدسه الخفي ويفرغه برأسها ورأس من يجلس أمامها
لولا أن الحوار الذي دار كان أهم من مشاعره
إذ قال الرجل ببرود:"لك شهور تماطلين معي يا منتهى.. ما تعودت منكِ المماطلة بشغلك
أول أخذنا المهم في خطوة واحدة..والآن بتنتهي سنة وكل المعلومات اللي جبتيها ما فادتنا بشيء كبير"

تبتلع ريقها بصعوبة لتقول برجفة:"بس انت تعرف، هالمرة ماهو شخص هيّن"
يضحك، يهز رأسه:"صحيح اللي قبل كانوا أغبياء يلهثون ورا كلمة حلوة.. اثنين قدرتِ تاخذين كل اللي نبيه منهم بشهر واحد بس وقبل ما يمسّونكِ حتى، أنهينا أمرهم بسرية تامة وماتوا وكأنهم شهداء
إلا هذا حتى حمدان خوينا قدر يكشفه ويتخلص منه.. لذلك أنا صابر عليكِ ومحتسب لأني أعرف إني رميت بطريقكِ داهية
صحيح هالمرة الثمن كبير كونه صار زوجكِ بس أنا متأكد إنك آخذه احتياطاتكِ وإن انتهت مهمتكِ راح يطير من حياتكِ وكأنه ماكان"
ينظر لشحوب وجهها ونظراتها الزائغة فيصيح بها بعنف:"ماخذة إحتياطاتكِ صح؟"
تهز رأسها بهلع:"ماخذه والله ماخذه"
ليردف براحة، يريح كتفه على الأريكة:"هذا المهم، لا يروح كل اللي سويناه على الفاضي، أنتِ اللي تعرفين كل اللي عانيناه لأجل ندخله بحياتك.. تعرفين كم رجل كلمته لأجل يوصل للمقاومة خبر عن وجود ألغام زرعتها بنفسي في ذيك المنطقة؟ تعرفين كم كلفني لأجل يجي هو بنفسه يفك الألغام؟"
لم ترد عليه ليتنهد، يسند رأسه للخلف:"حتى أنتِ.. كم كلفني حشر المعلومات برأسكِ
حتى اسمه كان صعب عليكِ.. برغم إن الخطة كانت جاهزة وكل شيء واضح إلا إنكِ كنتِ بتفرطين فيه بسبب رجال حيكِ الأغبياء مثلكِ"
تقاطعه، تبتسم بشحوب:"بس كل شيء صار مثل ماودك"
ليهدر بها بعنف ونظراته الخطيرة تشملها كلها:"بس للآن ما حصلنا على المهم يا منتهى.. الرجل يشتغل بالقوات الخاصة لكنه مدعوم بشكل أقوى، كيف يعرف الخونة اللي نزرعهم بلمح البصر كيف يقدر يسيطر عليهم؟ كيف يقدر يفرض رأيه على قائد في القوات وهو مجرد جندي فيه؟! لازم أعرف من وراااه لازم
أنا ما زرعتكِ في حياته عبث يا منتهى، زرعتكِ لأجل تطيحينه على وجهه لكنكِ غبية ماقدرتِ على معلومة واحدة تنفعنا، غير زوجة صديقه اللي تشتغل بالمكتب الرئاسي واللي له يد تطول أشياء واجد مثل ما ذكرتِ.. غيره يا منتهى؟ غير عمّار زوجها وصديقه اللي لنا شهرين نراقبه دون ما نلاقي شييء عليه؟
وعاصي اللي ما مسكنا عليه شيء فتركناه لأن عندنا أشياء أهم من تتبع حداد.. عطيني شيء ينفعني"
تنكس رأسها لتخفي علامات الخوف عن ملامحهاx تفرك يديها ببعض لترفع رأسها قائلة ببسمة:"لاتخاف.. هالمرة راح أجيب لك المعلومة اللي تجيب رأسه بنفسه.."
يرفع نظراته بتهديد وهو يقف:"أبغى المعلومات إللي تخليني أنهيه عن الوجود..أبي آخذ المهم وأتخلص منه مثله مثل ضحاياكِ إللي سبقوه
لأن مهمتكِ الجاي قريبة وما ودي تتعارض مع هذي المهمة.."
تهز رأسها بخنوع ليقول بصرامة:"وإن كانكِ تخفين شيء عني أو مشيتِ في مسار غير اللي رسمته لكِ صدقيني بوريكِ وجهٍ ثاني"
تبتلع ريقها برعب لكنها تخفي خوفها ببسمة خافتة
يخرج من المنزل بخطوات ثابتة.. غير منتبه لمن خرج من الخلف ينظر له بعينين تشع ناراً
قبل أن تجحظ عيناه وهو يرى الرجل الذي خرج بلا ذراعين يلتفت بالمكان بعينيه الزرقاء بنظرات ممشطة ليسمح لأحد الرجال بفتح له الباب ويصعد للسيارة قبل أن ينطلقوا مبتعدين عن منزله
وسط جموده بمكانه وعدم قدرته على الحركة لدقائق طويلة..لتكون أول حركة تدل على الحياة به عندما وضع يديه على رأسه وكأن دُنياه كلها هدمت على رأسه
-أبا عكاشة- أحد أكبر المرتزقة المطلوبين بفرقة القوات الخاصة والذي ينجح بكل مرة في الهروب من بين أيديهم
إذاً حمدان كان ينتمي لحزبه.. وهي!
أغمض عينيه ليمنع دمع الخذلان من الإنحسار وكل هذا الجنون لا يدخل مدار الإستيعاب برأسه

تمر نصف ساعة على وقوفه أمام المنزل.. يتجه الى الباب ليطرقه بطرقات خافتة جعلت صوتها المتحشرج يصله بوضوح:"من يدق؟"
يتنحنح ليجلي صوته ليقول بصوت غامض:"أنا هِشام يا منتهى"
يسمع شهقتها ثم سُرعان ما فُتح الباب ليطل وجهها البهي إنما لم يكن مشرق ككل مرة تستقبله بها.. لقد كان كيوم عاصف، تقول بلهفة تخفي رعبها:"أنت قلت ما بتجي اليوم"
ليسألها بذات الغموض:"ليه كنتِ تبكين؟"
تشحب ملامحها برعب ثم تمسح وجهها بكفيها لتبتسم ضاحكة:"أنا أبكي؟ اي كنت أقطع بصل وتعرف انت يأثر"
يرفع حاجبه بسخرية وهو يدفعها ببعض العنف -الجديد عليه- لتدخل بخوف من نظراته وهو يُغلق الباب من خلفه بكل قوة..

تبتسم برجفة..ليتأمل زُرقة عيناها تلك التي سماها يوماً -سماءه الثامنة- صدق القاهر في مقاله عندما قال أن الوطن أحياناً نعتبره سقفنا
وهو اعتبرها وطنه.. لكن لم يتهاوى سقفه فحسب بل تهاوت سماء بعظمتها على رأسه

يمسك أعصابه بصعوبة، يتخطاها ويدخل للصالة، يجلس، يدلك ناصيته علّ ذلك الصداع الذي ينوي الفتك به أن يخف من حدته
ينظر لها وهي تحضر كأس من العصير له، نفس نوع العصير الذي أحضرته لذلك المجرم
تفور أعصابه بشيء حارق لا يستطيع كبحه ليسحب الكوب من يدها ويرميه بكل قوته على الجدار فيتحول لأشلاء وسط شهقتها العنيفة من ردة فعله التي لا تتناسب مع وقاره وهدوءه
ولو دققت النظر به قليلاً لعلمت أنه الآن لم يكن سوى شيطان.. شيطان خرج من سواد روحها هي
تهم بالذهاب لأخذ القطع لكنه يصرخ بها:"اتركيها"
تلتفت له بخوف من تغيره الغريب ليكتم أعصابه بصعوبة ويغتصب بسمة:"اتركيها لا تأذيكِ.. أنا آسف كنت مضغوط"
تبتسم له بربكة وتذهب له لتقف خلفه تدلك كتفيه برقتها المعهودة قائلة:"لابأس.. لو قلت لي إنك جاي كان حضرت لك اللي يريّح أعصابك"
تلك الأصابع التي كان في يوم ما يستشعرها كنقر الفراشات على جلده..لماذا يستشعرها الآن كسوط من نار؟
يبعدها ببعض النزق ليقف قائلاً:"بستريح بالغرفة وبعدها بكون بخير"
تنظر له ببراءة، ليعتصر كفه قائلاً:"أحد جاء بغيابي؟"
ينظر لشحوب وجهها تهز رأسها بالنفي ليكرر السؤال:"تخفين عني شيء؟"
لتلبس زرقاءها غيوم الذعر، تقول بخوف:"لا لا، وش بخفي عنك مثلاً؟ أحد قال لك عني شيء؟"
ينظر لها بهُدوء يخفي نيران ثم هز رأسه بالنفي واتجه للغرفة، لم يستطع التخفف من ثورته
لأنها قريبة منه، اللعنة عليها
" الخائنة،المدنسة،الحقيرة،ا للعينة" كان يهمس بأبشع الأوصاف يذرع الغرفة ذهاباً وإياباً
ليفتح هاتفه بيد مرتجفة إلى المحادثة التي لطالما احتضنت مشاكله وهمومه ليرسل له دون وعي(يوسف)لكن إشارة عدم الإستلام ذكرته بأن يوسف غير متوفر ليغمض عينيه يضرب الجدار بقبضته هامساً بغل:"خذت مننا الملجأ الوحيد لأحزاننا ياجهاد لأجل كبريائك اللعين"
ليضع رأسه بوهن -لايليق به- هامساً بوجع:"مو قلت ما يخفى عليك شيء يا قائد.. مهب بأنت اللي عرفت بزواجي دون ما أخبرك..ليه ماعرفت هوية اللي تزوجتها..أنا جاهل وأعماني هذا الشيء اللعين اللي يسمونه -حب- ليه انت ماعرفت بأني غبي وسفيه لدرجة استغفلوني ببساطة.. يا الله يا الله"

همس بآخر كلمات، يستشعر أن رأسه سينفجر بأي لحظة واختناق عظيم يزلزل روحه
مع ذلك تحامل على نفسه ورفع هاتفه الخاص بالمهمات ليُرسل لقائد القوات العسكرية (أبو عكاشة.. راح يتواجد في مدخل أرماء بعد ساعة فقط من الآن..)
أقفل هاتفه ولم يرد على تساؤلات قائده عندما دخلت على استحياء كان يحبه ولكنه بهذه اللحظة يمقته..وكأنه يرى شيطان أمامه وليس بحبيبته الرقيقة
تقول بربكة:"بتنام؟ تعبان"
يهز رأسه نفياً، يحرك اللاشيء أمام الطاولة، فتبتسم وتتراجع للخلف ليفتح هاتفه يدخل على الإعدادات ثم نغمة الرنين ليضغط عليه وكأن أحد إتصل به
يجيب بصوت جعله جهوري:"تفضل طال عمرك، متواجد معك، أرماء؟ وكل الفريق يتواجد؟ أبشر أبشر ساعة وأكون حاضر قدام مدخلها مع كل الفريق"
لينظر لظلها الذي تلكأ أمام الباب قبل أن يختفي كلياً تاركاً نار هوجاء تستعر بروحه
سحقاً لها تلك الجاسوسة اللعينة.. ماذا يفعل بها؟ ماذا يفعل وأي وجع سيمسَها به سيهلك قبلها؟
ضرب على صدره بعنف وكأنه سيكسر عظامه قبل أن يحزم أمره..يأخذ أشياءه المهمة فقط والباقي يتركه خلفه
يخرج للصالة يراها تكفكف دمعها بعجل فيقول بهدوء لايناسب ملامحه المحتقنة من شدة الغضب:"منتهى.. لكِ قرايب ما ماتوا بالقصف؟"

يراها تبتلع ريقها بصعوبة، تمسك طرف كمها ليعرف أنها ستكذب:"لا..كلهم ماتوا"
يبتسم بسخرية لتستنكر بسمته فيقول:"والشخص إللي كان وكيلك بالزواج من كان؟"
تستغرب سؤاله بهذا التوقيت لتقول بربكة:"شخص من الحي..وكّلته أمي"
يهز رأسه وداخله يغلي.. لهذه الدرجة كان أحمق ومعمي؟ لا إِنصف نفسك يا هشام كان داخلك دائماً شعور بعدم الأمان معها..تلك الشيطانة
وعرفت السبب قبل أن تُجر أكثر.. آه
لم ينتبه أنه أصدرها بصوت واضح إلا عندما اقتربت بخوف حقيقي تضع يديها على صدره:"سلامتك ياروح منتهى.؟"
ينظر ليديها وكأنها ألسنة حية ليدفعها بقوة أثارت خوفها لتقول بخوف وبنبرة باكية:"هشام وش فيك؟ اليوم أنت غريب..؟"
يشد على قبضته يكبح انفعالاته كي لايفجر وجهها أو يشوه عينيها الخائنة أو يرديها قتيلة في أرضها..فهي المسار الذي سيدهسه ليصل لعنق أبا عكاشة.. وسيعرف منه هو من تكون هذه المرأة

ابتعد للخلف قائلاً بجمود غريب عليه:"مع السلامة يا منتهى"
تركض خلفه كطفلة تائهة لتقول بخوف:"ليه بتروح؟ توك جيت تكفى اجلس معي الليلة على الأقل"
ينظر لها نظرات تركتها تفلت يده من كفيها من شدة الرعب، وكأنما شيء تلبسه هذا الشخص ليس بهشامها.. لتسمعه يقول بذات الخشونة:"كنت أقولكِ روحي.. روح هشام.. والحين اعتبري هالروح شهيدة في سبيل حب ملعون"

تجحظ عيناها بصدمة من جملته وتركض خلفه دون حجاب ولم يهتم.. كانت النار التي بداخله حارقة ليلتفت لها عندما سحبته بهلع يشتم نفسه لأنه تفوه بما لايُقال.. لايجب أن تفهم أنه كشفها إلا عندما يقبض روح أبا عكاشة بنفسه
لذلك رسم بسمة بصعوبة، يدفعها لداخل البيت:" لا تخافين.. أو خافي
يعني حسّي باللي ودكِ بس ارجعي البيت"
قالت بنبرة باكية :"وانت؟ ليه متغير وش صاير معك؟ ليه روحك صارت شهيدة مافهمت عليك هشام لا تخوفني"
يسحب الباب قائلاً بهدوء:"ماني متغير.. أنا بسx بس.." (على حافة الموت من شدة القهر) همس بها لنفسه وهو يقول:"لا تخافين عندي مهمة بسيطة.. استدعوني من العمل وتعرفين أهميته"
لتهمس برجاء:"وبترجع؟"
ينظر لها نظرة خائبة.. نظرة لن تنساها ماحييت ليغلق الباب خلفه دون جواب.. وإلى الأبد.


انتهى الفصل~
قراءة ممتعة..





فاطمة صالح. غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 07-03-23, 11:25 PM   #72

غادة تركي

? العضوٌ??? » 507502
?  التسِجيلٌ » Sep 2022
? مشَارَ?اتْي » 17
?  نُقآطِيْ » غادة تركي is on a distinguished road
افتراضي

يوه منتهى من البداية كنت شاكه فيهاا ومارتحت لها ابدًا ، هشام عزتي لكك من الخذلان والغدر😔💔.
مرجان وعمار ، بالبداية كنت احسب عمار يحبها من طرف واحد وكنت مخططة لهم على حياة واخر شي طلعت زوجته فرحتت لما عرفت انها زوجته لان كنت حابتهم مع بعض ، اما غادة مدري شقول عنها🥲🙂. "أحس اني كرهت اسمي🥲😂😂"
يوسف وسكون .... اااهخخخ مادري شقول عنهم بس ياخوفي يصير شي مانبيه🥹

عاصي وسماهر.. مابي اصدمكم واقول انه شخصية عاصي جازت لي من البداية وخبيتها مرهه🥹 وكيف حرصه على يوسف ومحبته له

صراحة فيه اشياء كثيييرر ودي اقولها بس احس التعبير عندي زيروو
المهم اننا منتظريين الاجزاء الجديدة ونتمنى تكون اطول شوي لان فجأة وبنص انسجامي الاقي الجزء مخلص😭

طبعًا اخيرًا حابة اقول انك كاتبة مبدعة يافطوم قرأت كل رواياتك وحبيتها كلها وطريقة سردك الاجداث وانتقاء الكلمات وكله يهبل بالتوفيق لك يامبدعة 🫶🏻🫵🏻


غادة تركي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 09-03-23, 12:24 PM   #73

زهرورة
عضو ذهبي

? العضوٌ??? » 292265
?  التسِجيلٌ » Mar 2013
? مشَارَ?اتْي » 2,283
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » زهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   ice-lemon
¬» قناتك mbc
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

مش مصدقة منتهى جاسوسة لأعداء القسط لارهابيين بس ليش كانها مجبورة ومرعوبة من ابو عكلشة ..اتمنى يمسكوه ويقتلوه .هشان ماراح ينسى خيبته فيها كان مفروض تعترف له مش تنقل له اخبار عمار وزمهرير وعاصم كمان ..مش لاقيه لها مبرر حتى لو مجبورة بعد مااعطاها الامان واتعلقت فيه كانت احتمت فيه طالما عارفت من الي مشغلها انه شخص داهيه ومو قليل .
عواصف اخيرا اتحررت واكيد بتروح المخبأ مع سكون وسلام عرف انها خاينة للديجور وقتل القائد العام عشان يدافع عنها بس هل بيفضحها ويوقف ضدها .ولا حيسكت .
عاصم ومشهد الوداع مع ام مخ مصدي ان شاءالله بس يرجع سالم ويرجع يلاقيها شخص تاني عارفة قيمة الي عندها وماتضيعه
كيف انقبض على يوسف مع الوزير اذا ماكان جهاد وراه من وراه .
منتظرين الفصل الجاي بشوق ماتطولي علينا بلييز .


زهرورة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 09-03-23, 07:03 PM   #74

فاطمة صالح.

كاتبة في قسم الروايات والقصص المنقولة


? العضوٌ??? » 506671
?  التسِجيلٌ » Sep 2022
? مشَارَ?اتْي » 81
?  نُقآطِيْ » فاطمة صالح. is on a distinguished road
افتراضي




الفصل السادس و العشرون



اللهم صلِّ على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
*
*
بعد ساعات..

مثلما خُطط تماماً.. وأخيراً أصبح هو الملك في لوحة الشطرنج، فاز في المعركة وخسر قلبه
فوز بوجع كان لا يوده أبداً.. التفت لعاصي الذي نزل من على السيارة بعدما أفرغ كل مافي الرشاش على أحد السيارات فانفجرت بكل من حولها
بعدما بدأت المهمة واستدرجوا جماعة أبا عكاشة الذين وصلهم البلاغ بتواجد قائد القوات في هذه المنطقة مع كل فريقه
ليستدرجوهم للمنطقة الخاصة بالمقاومة وتبدأ الإشتباكات فتنتهي بموت أغلب جماعة أبا عكاشة وبعضهم هربوا ومن بقي كان قد أُسر لدى القوات الخاصة.
ينظر له عاصي متنفساً بصعوبة وبرغم البرد القارص كانت زخات العرق تطفو على وجهه:"ليه استدعيتني للمهمة الخاصة فيكم؟ تعرف وش كلفني الموضوع؟"
عزّت على هشام نفسه أن يقول (احتجتك) كانت كلمة بسيطة دائماً يقولها ليوسف دون حرج لكن عاصي قرأها بعينيه فابتسم يربت على كتفه قائلاً بمحبة:"تفداك روحي يا سرمد، لكن من هذا اللي متجهين له وكنت بتموت لأجل تقبض عليه بنفسك؟"
ينظر له بحسرة للحظات ثم يصمت وهو يتجه لأبا عكاشة يلتفت بسبب توقف خطوات عاصي ووجهه الشاحب بذهول ينظر لذلك الرجل الخالي جسده من يديه، يهم بقول شيء ما لكن عاصي يقاطعه برعب ظاهر:"هل يبعثون الموتى الآن يا سرمد؟"
ينظر له بجبين متغضن ليمسك عاصي رأسه بصدمة:"هذا مات.. هذا الرجل قتلناه بيدينا.. كيف وصل لهنا-يلتفت بعدم تصديق لهشام- كيف وصلت له؟ من يكون؟ علمني يا سرمد قبل انفجر"
ينظر له بوجل للحظات ثم يقول الحقيقة برغم الخزي الذي اعتراه، لتتسع عينا عاصي بشكل ظن أن شهلاءه ستغادر محجريها
فيسمع ضحكة مُرة من هشام:"طحت من عينك صح؟ أنا اللي يشيدون فيني؛ أتعرض لأتفه موقف وأنغدر من شخص ظنيته أقرب شخص لي"
يمسح على وجهه محاولاً تمالك أعصابه ليقول بذهول لم يخفيه:"لا تجلد ذاتك.. من يصدق إنها توصل للدرجة هذي يارجل؟ تزوجتك هي لأجل تكشف خفاياك لأجل تكون عين هالرجل في بيتك..من بيصدق إنهم وصلوا لهذي الدرجة من الدناءة ياسرمد!! لا تلوم نفسك وأنا أخوك"

ينظر له بحرج مُزج بوجع قاتم خيّم على روحه
ليقول عاصي:"ومن يكون هالرجل لها؟ تظنه يقرب لها؟ أنت قلت إن أهلها كلهم ماتوا بالقصف يعني..."
ليقاطعه يتجه له قائلاً بتأكيد:"يقرب لها.. و صلة القرابة بنعرفها منه الآن"
*
صوت صراخ أبا عكاشة العالي يزيد ناره أكثر.. يحرق جوفه أكثر وأكثر يُذكره أي شخص غبي هو
لتتبدل الصرخات لضحكات مقاومة قائلاً:"لا تتعب نفسك يا هشام عماد.. ماراح تأخذ مني أي كلمة تفيدك"
يضغط السكين أكثر على فخذه ليهمس بفحيح:"إذا مستغني عن رجلك فيا سعدي وأنا أقطعها لك لكن ببطء شديد لدرجة لو فقدتها تحس إنك فقدت روحك من الوجع.. انطق يا لعين يا ** انطق وعلمني قبل آخذ روحك"

يكتم أبا عكاشة غيظه بصعوبة كونه الطرف الأضعف ناظراً لجثث رجاله والبقية الذين أُسِروا بغضب كونهم استدرجوهم بسهولة ليقول بعنف:"ماراح تسمع مني كلمة، سنين ما قدرتوا علي تظن بتقدر على اللي فوقي؟"
يبصق هشام في وجهه ليقول بقرف:"عليك اللعنة انت واللي فوقك، ما أحتاج منك تعترف عنهم لأنهم بيلحقونك في جهنم قريباً، علمني وش تقرب لك
علمني من متى وهي تخدعني، وكم خدعت قبلي علمني بكم اشتريتها الرخيصة"

ينظر له بحدة بسبب بصقته لكن سرعان ما لانت نظراته على نحو مثير للسخرية ليقول هشام بتهكم:"انكشفت خدعتكم يا أبو عكاشة.. كش ملك لنا وانتوا للجحيم"
ليسمعه يشتم بأقبح الألفاظ، يقول:" الخاينة الكلبة، كنت أعرف إن مماطلتها تعني خيانتها
من شهور وهي متغيرة وانت بالذات ماقدرت تطيحك.. كانت متعاونة معك الحقيرة
هي إللي جرّتنا لهالفخ.. بزهق روحها، والله لأقتلها"

يصرخ بعنف، ولو كانت للصرخات قُوة لشُقّ الجبل من شدة قوتها عندما دهس عاصي على الخنجر فغاص بأعماق فخذه ليقول:"قال لك علمه قرابتها معك.. لأجل تنتقل ليxوأنا أكثر من سعيد لاستلامك بعده"
يلتفت له هشام بعدم فهم ليقول عاصي بصوت مكتوم:"عنده لي حساب للآن بيقدمه.. هذا الرجل المفروض إنه ميّت من إثنا عشر سنة"

لم ينتبه لآخر الجملة عندما قال أبا عكاشة بغل:"الحقيرة، كنت أعرف إن جينات أبوها غلابة
الخاين كان يستحق الموت، وهي مثله أبداً ماطلعت علينا.. كانت أحقر من إنها تشبه أختي"

يغمض هشام عينيه بكل غضب مستعر بروحه
لينفض عنه التحلي بالصبر وينقض على عنق أبا عكاشة فيطرحه أرضاً غير عابئ بسعاله المستغيث وعينيه الزرقاء اللعينة التي تشبه سماءه المتهاوية ليزيد الضغط على عنقه يكاد يهشمه لولا عاصي الذي دفعه عنه، يصيح به:"لا تبتلي فيه يا مجنووون"
يصرخ من عمق وجعه، يقف مترنحاً:"اتركني اقتله، علّ روحي اللي تموت تحيا، علّ جوفي اللي يحترق يبرد، على الأقل لامنهم دروا إن هشام عماد اللي استغفلوه بكل غباء يقولون قتلهم وشفى غليله
اتركني ياعاصي أبرد حرقة جوفي"
لكن عاصي المتشبث به يردعه بقوة بينما أبا عكاشة يسعل بجنون بوجه مُزرق من الفجيعة والصدمة ليهمس بين سعاله:"انت عاصي الحداد وانت معهم، يعني كل الأسماء اللي قالتها منتهى صحيحة، يعني ما خانتني بنت أختي"

ليقفز هشام عليه بهمجية وسط جحوظ عيني عاصي من تصرفاته التي لاتمس شخصيته ليردعه بصعوبة
وذلك يصيح بانفعال:"أنا قتاله، قسماً بمن خلق القسم ليموت على يديني أنا.. هو وبنت أخته هذي، أنا قتالها الغدارين"

يهمس له عاصي بغضب:"اكبت جنونك يا سرمد لا تهوي بنا للقاع أكثر.. فريقك كله يناظرك مصدومين.. ينتظرون أمرك لأجل ياخذونه للتحقيق"

يصيح بغضب وهو يدفعه:"هنا بدفنه.. ما ينأخذ من قدامي إلا لقبره تفهم يا برزخ، أنا بحترق بموت من غيظي وأنت تقول تحقيق"

ليقول كاتماً غيظه بصعوبة بعكس شخصيته المتهورة إذ أنه يكتم إنفعالاته بسبب إندفاع هشام الذي عُرف برزانته ووقاره، ليهمس بما أطفأ نار هشام:"بس انت تعرف إن الوطن قبل ثأرنا الشخصي ومشاعرنا يا سرمد.. نسيت العهد؟ اللي تبجحت به؟"

يسكن فجأة، يمسك قميصه من جهة صدره هامساً بصوته الذي بُح:"أنا أفدي الوطن بروحي.. لكن روحي خاينة يا برزخ.. ظنّك يقبل الوطن هالفداء!!"

يحتضن عاصي طرف كتفه ليشد على قميصه من الخلف هامساً بغضب من ضعفه:" إصمد وإركز ظهرك ماهي هالطيحة اللي تليق بك، انت قادر على قلب الموضوع كله لصالحك.. وقلبته وانتهت كل هالخدعة.. كم مرة طالبكم جهاد برأس هالرجل؟ كم مرة قلت أفلت منكم؟ تعرف كم حزب يقوده هاللعين؟ كم جندي استدرجه وقتله؟ تعرف كم رصيدنا بعدما قبضنا عليه وكم جبهة حرب بتاخذها المقاومة لو اعترف؟"

ليفتح عيناه بكل قوة فجأة يدفع عاصي عنه يتقدم نحو المجثي على الأرض قائلاً بصوته المبحوح:"من كانوا ضحاياها قبلي؟"

يرفع أبا عكاشة رأسه بغضب ويده تمسك بفخذه من شدة الوجع، ليتقدم عاصي يقف بجانب هشام قائلاً بحدة:"جاوب.."

يزفر بحنق ليجيب ببرود ساخر وكأنه لا يتكلم عن رجال أمر بقتلهم بنفسه:" قصدك ضحاياي أنا ! واحد من القوات الجوية وهو اللي تسبب بكشف كل أعضاء فريقه للديجور.. ورائد عسكري في صفوف المقاومة هو اللي كشف لنا أماكن حراستهم الضعيفة فقدرنا نستغل هالنقطة والتوغل بالمناطق أكثر"

ليهمس عاصي بشتيمة فجة بينما هشام التفت بعدم تصديق لعاصي:"هي اللي تسببت بحبس جلال وفريقه بما إنهم الفريق الوحيد اللي إنكشف"

ليشيح عاصي بنظره مصعوقاً غير قادر على التفوه بكلمة واحدة ينظر لهشام الذي مزّق قميصه بكل عنف من شدة القهر، يمسكه يحاول تهدئته
ليلتفت لأحد الجنود قائلاً بغضب:"خذه واتجهوا لمقر التحقيق"

يلتفت الجندي لهشام الذي يضرب الأرض بقدمه يصيح بكلمات غير مفهومةxيتصبب عرقاً من كل مكان.. وكأنه على وشك الجنون

لينفذ الأمر بعد صرخة عاصي الحازمة آخذاً أبا عكاشة الذي يضحك بصوت عالي برغم وجعه علّه يظن أن بضحكاته سيبقى منتصراً، يحتضنه عاصي بصعوبة يقرأ عليه الآيات برجفة كون هشام بدأ ينتفض من شدة القهر الذي فتك بقلبه ليستشعر واخيراً قطرات حارة على قميصه من الخلف وهمسة هشام المجروحة:"قتلتني بأبشع طريقة..عساها للوجع"

ليغمض عاصي عينيه بأسى على حال صديقه
الذي وبعد دقائق أصر على الرجوع للحصن وقطع رأسها بيديه لكن لحسن الحظ كان عاصي أكثر حزماً معه إذ منعه بصعوبة شديدة ليقتصر الأمر على رسالة.. كتب فيها بكل بساطة
(أنتِ طالق.. واللعنة علي في اليوم اللي أعطيت كل ثقتي لإمرأة خائنة.. روحي عساكِ تحترقين بنيران خيانتي لين تموتين مقهورة)

رسالة يتيمة..إنما كان يعرف أنه لو ذهب لها لقتلها فعلاً من شدة غضبه.. لتتوقف سيارة عاصي بمكانها بعدما صدحت أصوات الإنفجارات في المكان بشكل متتالي ليلتفت لهشام قائلاً بهدوء:"واحد من مصانع المتفجرات كان قريب جداً من الحصن لذلك ماكانوا يقصفون المحافظة خوفاً من تأثر مصانعهم ومخازنهم"

يضحك ضحكة مُرة، يعيد رأسه للخلف ليزفر عاصي نفسه قائلاً:"أهل الحصن أكيد خايفين وو.."
يصمت فجأة ليقول بحقد:"عساهم يموتون بغيظهم يظنوني بخاف عليهم وهم اللي نحروني من الوريد، أنا رجل شرقي ودمي حار وأشد حرارة من مرجل نار وفي موقف مثل موقفي كان لازم أفور بنفس اللحظة وأحرقهم يا عاصي.. بس حتى هالفوران سلبوني حقه، كان لازم أكبت إنفعالي لأجل نقبض على اللي خدعني مع -زوجتي- فتخيل إن كل النار اللي كبتّها تفور بأوردتي هاللحظة!"

ليتنهد عاصي مكملاً طريقه لمقر التحقيق.. في باله تتناوش الرماح غضباًxيتذكر مرأى وجه من يُقال له -أبا عكاشة- كيف ينساه وهو من أُدخل في كل هذه المعمعة بسببه؟ برغم الإضاءة الخافتة التي كانت في ذاك الممر الضيّق، برغم صرخات عواصف المذعورة وهي تهتف(قتلته يا يوسف) إلا أنه مازال يذكر أنه قطع تلك الأطراف بيديه الإثنتين.. وتلك النظرة لم تتغير منذ ذلك الدَّهر!
ليلتفت لهشام الذي أراح رأسه على المقعد يتنفس بصوت مسموع وكأنه يُحارب في معارك لا يعلمها سواه.. وحقيقةً لا يلومه لو مات في أرضه من شدة القهر
أُستغفل ومن أقرب الناس له.. أن يعلم أنه تزوج إمرأة حاكت حكاية كاملة لتدس السم في قلبه.. لشيء ليس بهين على رجل.. فكيف بهشام رقيق القلب؟
حمد الله أن وداعه لتلك البائسة أُقتصر على رسالة فحسب وإلا لقتلها بهذا المزاج الناري، يسحب المكابح بكل قوة إثر صرخة هشام المفاجئة:"زمهرير.. يا الله يا الله"
التفت له بغضب وخوف ولم يكد أن يتكلم حتى قال هشام بذات الرعب:"اتصل على عمّار.. الآن ياعاصي الآن"
لينفذ طلبه بذات السرعة.. فالإنتظار وسط ملامح هشام التي اسودّت من شدة الخوف ليس بالخيار الصحيح..!

《قلت يومًا..إن فى عينيكِ شيئًا لا يخون
‏يومها صدقت نفسى
‏لم أكن أعرف شيئًا
‏فى سراديب العيون
‏كان فى عينيكِ شيء لا يخون
‏لست أدري كيف خان؟》

أمام إحدى المحلات وقبل الإنفجار بنصف ساعة..

كان يقف ينظر لساعته بتوتر ولعبدالله الذي تُمسك له غادة سلة التسوق وهو يرمي كل ما يوده بها ليقول بعدم صبر:"غادة اختصري بالله عليكِ وخذي المهم"
لترفع له عينيها بارتباك، فهو منذ حادثة رشيدة وهو متحفظ بعض الشيء معها:"أنا ما أحتاج شيء بس شوفة عينك من لما نزلت عبودي وهو يرمي كل اللي تشوفه عينه بالسلة"
تشاركه مرجان القلق فتهوي تلتقط عبدالله في حُضنها الذي صرخ متشبثاً بسلة التسوق لتبتسم غادة بارتباك:"لابأس عبودي أنا أحط لك اللي تبي"
تلتقط مرجان علامات التوتر على وجه غادة التي شاركتهم قلقهم فهمست لعمّار بهدوء: "هونها يا عمّار..مازال عندنا وقت ولو حصل شيء أنا وأنت نعرف مواقع الإنفجار وماراح نمر من جنبها..كل شيء بيكون بخير بس أرجوك إهدأ"
ينظر لها كمن يستجدي الأمان، الطمأنينة التي فقدها من اللحظة التي علِم بها أن الإنتفاضة ستشمل القسط كلها.. إذاً عائلته الصغيرة أين ستذهب؟
تهمس مرجان في أذنيّ ولدها عبدالله الذي سكن على إثر همستها فيبتسم بشيطانية محببة ثم يقفز لحضن عمّار متشبثاً بعنقه ويتدلى بقدميه للأسفل يقول بصوت ضخم:"البطل المغوارر عبودديي"
يبتسم عمّار ثم تتسع إبتسامته لتتحول لضحكة على إثر ضحكات عبدالله وقبلاته على وجه عمّار
كان وقع ضحكات عبدالله على قلب عمّار الشيء الوحيد الذي يهدئه لذلك التفت ممتناً لمرجان التي ابتسمت له تخفي داخلها رعباً.. وشعور بالإختناق يكاد يرديها قتيلة
شعور سيء بل بشع جداً يتملكها وهي تستمع لضحكات ولدها وكأنها آخر مرة ستسمعها.. وكأن وقع الموسيقى بضحكاته الرنّانة سينقطع بعد هذه المرة.. وللأبد
وعلى وقع هذه الأفكار تلألأت الدموع بعيناها وسقطت إحداها بغفلة منها لتقترب غادة بوجل وتمسح دمعتها برقة قائلة بخوف:"مرجان أنتِ بخير؟"
يلتفت عمّار بذعر عليها لتتدبّر بسمة مختنقة وتهز رأسها بالنفي:"ولاشيء..."
لم تصدق غادة كلمتها اليتيمة فاقتربت منها تعطي عمّار ظهرها لتقول بتوتر:"عمّار أوجعك؟ أحسكم هاليومين غريبين ودائماً متوترين والخوف حط رحاله بوجيهكم.. بينكم زعل؟"
تنظر لها برغبة ملحة بالبكاء فتهز رأسها لتطمئنها:"لا والله مابيننا شيء ياغادة لا تخافين، انتِ اللي متوترة وش فيك؟"
تبتسم بربكة لترفع يدها تتحسس حجابها لتقول:"توتركم انتقل لي، وهالسفرة المفاجئةxلأقارب عمّار أنا وعبدالله لوحدنا مخوفتني..عمّار هالأيام متحفظ معي بعد الحادثة اللي صارت لو تقولين له انتِ نبقى هنا معكم.. والله خايفة"
يُعتصر قلبها وجعاً.. إذاً ماذا لو أخبرتها أن هذه المنطقة ستتحول لساحة حرب، وأن كل شخص فيها سيفقد لذة الأمان وأن تلك المنطقة هيxالوحيدة التي سيأتمنون عليها وعلى عبدالله فيها؟ لم تود تسريب الخوف لقلبها فاقتربت تحتضنها أمام نظرات عمّار المتسائلة لتهمس لها:"هناك أمان أكثر من هنا"
لتقطعها بوجل:"وانتوا بتكونون بخير؟"
تغمض عينيها بشيء من اللوعة:"بإذن الله.. كل شيء فداء قسط الجوى ياغادة"
تبتعد غادة ببسمة غريبة لتهز رأسها وتلتفت لعمّار قائلة بمرحها الذي بات متحفظاً مشيرة للسلة التي امتلأت :"نعلن إفلاس حضرة جنابك؟"
يبتسم لها بتشجيع بعيداً عن تحفظه معها ليشيرx-ولأول مرة- لعينيه قائلاً:"يرخص لك الغالي ياغادة"
تتلألأ عينيها بشعور لطيف، ويشع بريق بقلبها إثر تصرفه البسيط إلا أنه كبير جداً بالنسبة لها
لطالما ودت لو يُشير لعينيه بكل مرة تطلبه طلباً بدلاً من أنفه -دلالة لـ كلمة؛ أبشري- ولو علمت أن تلك الفراشات ستنتشر في سرب كبير في روحها إثر تصرفه لترجته من قبل أن يفعلها!
تلتفت لمرجان التي تنظر لساعتها فلم تنتبه ثم ترفع رأسها لتأخذ عبدالله من أحضان عمّار الذي ذهبxليُحاسب.. تحتضن مرجان عبدالله بكل قوة فيختنق ليدفعها بلعبه الطفولي:"ماما"
تضحك غادة قائلة :"مرجان..أول مرة أشوف أحد بيموت مختنق من شدة الحب.. بالله عليكِ ترفقي"
تضحك معها برغم الوخز الحارق بقلبها لتبعده لتُمطر وجهه بالقُبلات وسط ضحكات عبدالله التي تزرع الدفء بروحها.. ليقفو بعدها أمام السيارة البيضاء الصغيرة.. يفتح عمّار الباب الخلفي يضع الأكياس به ثم يلتفت ليقف بجانب مرجان التي تحتضن عبدالله بكل قوة ولم تستطع كبح دمعها فبكته وهو بين ذراعيها وسط تململه وخوفه
همس لها بضيق:"مرجان!" لترفع رأسها تكفكف دمعها بصعوبة وتبتسم:"كلها أيام وأكون عندكم..تنتهي مهمتي وأجيكم"
تنظر لها غادة بريبة سرعان ماتحولت لبسمة خالصة لتقترب تحتضنها عن يمينها لتشد مرجان من إحتضان عبدالله وغادة بكلتا يديها وسط تنهيدة عمّار المُتعبة.. رباه أما آن للوجع أن يتبدد؟
يسحب عبدالله قائلاً:"وقت وداعي أنا عبودي" يضحك له عبدالله ليقبل رأس أنفه وسط بسماتهم فتأخذه مرجان لتبتعد قليلاً تترك مساحة خاصة لوداع غادة وعمّار.. وإن كان جزء بقلبها يحترق غيرةً إلا أن الجزء الآخر الذي يحترق من الخوف حجب هذا الشعور
لتُمسك غادة كف عمّار ببسمة رقيقة هامسة:"تعرف لو ماكنت في الشارع وش كنت سويت؟"
ابتسم لها بلطف ليرفع حاجبه متسائلاً فضحكت تضع يديه على قلبها تحتضنها بكل قوة:"لكنت زرعت وجهي بصدرك ياعمّار"
يضحك يداري غصة تمكنت من روحه ليقول بهدوء:"كلها أيام وجايينكم"
لتسأل بضيق:"ولو، ماقلت لي سبب هالسفرة المفاجئة!"
ليجيبها بهدوء:"كله لأجل أمانكم ياغادة..وأيام وراح تجيكم مرجان وأنا بتطمن عليكم.. لاتخافين"
تبتسم له بأعذب بسماتها لتهز رأسها لتقول بخفوت:"سامحني عمّار"
يعقد حاجبيه بعدم فهم لتستطرد:"على ماضييّ.."
قاطعها بتنهيدة، يربت على يديها قائلاً:"نسيت أنا يا غادة وانتِ إنسي.."
تبتسم له مُودعة لتأخذ عبدالله من حضن مرجان التي تمسح دمعها بين تارة وأخرى لتقول غادة بابتسامة غريبة:"لا تبكين مرجان.. بنلتقي قريب"
تهز رأسها وهي تقف بجانب عمّار الذي تنهدxيشد على قبضته.. صحيح أنه أمّن الطريق لهما
وستحرسهما سيارتين لتأمينهما إلى أن يصلا لأقاربهxوأن من وضعهم لحراستهم يثق بهم إلا أنه لم يتمكن من الإطمئنان أبداً
ينحني ليثبت عبدالله في المقعد الخلفي المخصص للأطفال، ثم يفتح الباب لغادة التي ركبت وأغلقته خلفها لتبتسم لهم.. تلُوح بكفيها مُودعة ليشاركها عبدالله التلويح.. بينما هما على قارعة الرصيف يشيعانهما بأعين مُرهقة
ليسمع عمّار صوت نغمة هاتفه يستله من جيبه مُجيباً باستغراب:"عاصي.. أنت مو كنت بمهمة مشتركة مع القوات الخاصة"
يعقد حاجبيه بخوف من نبرة عاصي الملتاعة:"زمهرير يا عمّار.. انتبه لها انتبه لها.. فيه فخ.."


مرجان كانت تنظر لسيارة غادة التي تبتعد بشعور مختنق بالرغم أن عبدالله التفت للخلف وأخذ يلوح لها مُودعاً إلا أنها ودعته بدمعها وهي تضحك وتُشير له بأن يجلس.. تبتعد السيارة
أكثر وأكثر حتى بدأ بشكل طفيف تلاشي وجه عبدالله عن مرأى عينيها.. كانت تلك البسمة البريئة وضحكته المرسومة هي آخر ما رأته قبل أن تنفجر السيارة القريبة من سيارة غادة.. فتنفجر سيارة غادة مخلفة دوي مخيف لم تكد تستوعب ما يحصل إلا عندما ارتفعت بجسدها عنxالأرض مع عمّار الذي كان يقف بجانبهاxفيرتطما بعنف بعيداً عن الرصيف.. وسط دوي الإنفجار الهائل وأصوات البكاء ومُراقبين من بعيد يهتفون بصدمة:"فجر نفسه.. الإرهابي فجر نفسه في سيارته بجانب سيارات غيره"
*
رؤية مشوشة ورأس يكاد أن ينفجر.. يفتح عينيه بصعوبة وجسده يئن من الجروح وبعض الحروق التي تشكلت بجسده، ينظر بعدم استيعاب للمكان، لمرجان الفاقدة للوعي بجانبه.. ينحني بصعوبة كمن كُسر ظهره ليربت على وجنتها بخوف ورؤيته مازالت مشوشة يهمس:"مرجان..مرجان أرجوكِ افتحي عينكِ"
لتهمهم بكلمات غير مفهومة ليستريح جزء في داخله، قبل أن ترفع رأسها بصعوبة تمسكه بين يديها تنظر حولها في المكان كمجنونة، وهو يرى الدخان الذي يتصاعد في المكان جُموع الناس التي انتشرت، أصوات الإسعاف، رجال يجلسون على حافة الطريق يُمسكون رؤوسهم بين أيديهم من الصدمة وآخرين يكفكفون دمعهم بصعوبة.. وغيرهم إنهاروا بكاءً بصوت مسموع غير مُعيري لواجهتهم أي إهتمام
لتقف بتخبط، بجسدها الذي يئن ألماً وينزف بشدة لكن مرأى السيارة وهي تنفجر بهم لم يغادر رأسها
تقترب لتبعد الناس بيديها دون أن تتكلم، عمّار تائه خلفها يحاول الإمساك بها لكنها تلتفت لتصرخ به بعنف:"لا تمسكني.. ابعد عني أنا أبي ولدي"
يحاولون تهدئتها لكنها تصيح وهي ترى الناس يتهاتفون لمكان الإنفجار، تقترب أكثر فأكثر
لتمسك رأسها بيديها تتنفس بصوت مسموع، الدموع تجري بلا وعي على وجهها لتهمس:"يارب يارب.. هذا وش يارب.. يا الله يا الله"
تلتفت لعمّار المفجوع بجانبها لتصرخ به بعدم تصديق:"عمّار .. عبدالله وينه ياعمّار.. غادة وينها؟؟ يا الله أنا شفتهم ،شفت السيارة.. آه"
تصرخ بآخر كلمة وهي تركض من بين أشلاء الجثث:"عبدالله.. عبدالله..يا الله"
ترى الذراع المقطوعة فتغمض عينيها تصرخ بفجيعة، تقترب لترى كف أخرى بين أحد أناملها خاتم تعرفه حق المعرفة تتهاوى ساقيها تغطي وجهها وهي تصرخ..تصرخ بلا وعي وعقلها ينضح بالجنون:"يارب رحمتك.. يارب"
يقف عمّار بجانبها بملابس مضرجة بالدماء تعجز ساقيه عن حمل جسده فيهبط بجوارها.. ينظر للخاتم، يغمض عينيه على دمعة عجز، فترفع مرجان كفيَها عن وجهها تمسك يده، تبكي بإنكار:"عمّار هذا كذب صح.. هذي يد.. هذي غـ"
تضع رأسها على ركبته تئن بفجيعة بينما هو يراقب المكان من حوله برؤية ضبابية شوشتها الدموع، الجميع يتهاتف لجمع أشلاء الجثث من كل الأجناس من مختلف الأديان..الدخان مازال يتعالى وصراخ الأمهات الثكالى ومكلومي القلب يزداد.. عمل إرهابي قد قتل فيه كثر من عشرين شهيد.. لأجل ماذا؟ لأجل دين لا أصل له، لرفع راية ظنوها حق وهي باطلة
أومن يقتل طفلاً لتحقيق مآربه يكون على حق؟ لا والله..!
ترتفع مرجان بجسدها عن عمّار وهي تتوه بين الجثث كالشبح تهمس بإسم عبدالله:"عبودي وينك يا قلب ماما.. وينك يا أبو بسمة تشفي القلب.. تعال وأوعدك ما أبتعد عنك أبداً
لا تخوفني عليك ياماما وينك"
يرفع عمّار يده ليمسح دمعه.. دمعة قهر الرجال وفجيعتهم وآه من قهر الرجال
يمشي خلفها يحاول إمساكها لتصرخ فيه بعنف:"اتركني، عبدالله وحيد..عبدالله يحتاجني معه.."
تسكت فجأة.. تغمض عينيها، تضرب صدرها مطلقة آه مختنقة، تشير بالأخرى خلف عمّار:"هذا جسد عبدالله صح يا عمّار؟"
يبتلع غصّة أدمت حلقه فليتفت ليراه، يمسك رأسه بين يديه دليل عجزه، ليصيح بلا وعي:"ويل قلبي، هذا وش ياربي"
لتصرخxصراخ الأم الثكلى، تركض له تحتضن جسده لها، تنشج ألماً لا يمكن أن يخمد
تبكي بوجع لن ينضب تهدهد جسده الخامد بين ذراعيهاxتهمس بتهويدة النوم التي كان يسمعها قبل أن ينام.. تهمس بها بصوت خافت
علّها تعلم.. أن عبدالله لن يسمعها مرة أخرى أبداً.. حتى أصوات إنفجار مصانع الديجوريين لم تنتشلهم من فجيعتهم..

《ألم تولدوا من نساءٍ؟ألم ترضعوا مثلنا

حليب الحنين إلى أمّهاتٍ؟ألم ترتدوا مثلنا أجنحة

لتلتحقوا بالسّنونو. وكنّا نبشّركم بالرّبيع، فلا تشهروا الأسلحة!
وفي وسعنا أن نتبادل بعض الهدايا وبعض الغناء
هنا كان شعبي. هنا مات شعبي. هنا شجر الكستناء
يخبّئ أرواح شعبي. سيرجع شعبي هواءً وضوءًا وماء،
خذوا أرض أمّي بالسّيف، لكنّني لن أوقّع باسمي
معاهدة الصّلح بين القتيل وقاتله،
وأعرف أنّي أودّع آخر شمسٍ، وألتفّ باسمي
وأسقط في النّهر، أعرف أنّي أعود إلى قلب أٌمّي
لتدخل، يا سيّد البيض، عصرك،سأطلق عصافير أصواتنا: هاهنا انتصر الغرباء
على الملح، واختلط البحر في الغيم، وانتصر الغرباء
على قشرة القمح فينا، ومدّوا الأنابيب للبرق والكهرباء
هنا انتحر الصّقر غمًّا، هنا انتصر الغرباء
علينا. ولم يبق شيءٌ لنا في الزّمان الجديد
هنا تتبخّر أجسادنا، غيمةً غيمةً، في الفضاء
هنا تتلألأ أرواحنا، نجمةً نجمةً، في فضاء النّشيد》
-محمود درويش
*
*
(حكومة القسط تلقي القبض على خمسة من وزراءها بتهمة الخيانة والتزوير)
(إنفجارات متتالية في أنحاء قسط الجوى وسط صمت الحكومة وانتفاض حكومة الديجور لأسباب مجهولة حتى هذه اللحظة)
(وردنا خبر عاجل أن أماكن الإنفجارات كانت مصانع متفجرات للديجور وأخرى مخازن..قد تم تدميرها كلياً من قبل طرف مجهول)
(ندين ونستنكر العمل الإرهابي الذي حصل في العاصمة إذ كما قال الشهود أن أحد الارهابيين فجّر نفسه بالقرب من أحد الشوارع ليصل عدد الشهداء خمسة وعشرون شهيدًا وأربعون جريح)
(رئيس الديجور يعد بأن يزلزل القسط بعد فجيعة مقتل قائد جيشه على يد الإرهاب القسطي، ويتوعد بإرسال محققين أشدّاء للبحث في ما حصل وإنزال أشد العقوبات بمن تسبب بإرهاب مواطنيه في دولة القسط)

وأخرى وأخرى.. شاشة الأخبار لم تهدأ أبداً
لكنها وهي تنظر لها لم تكن منتبهه، كانت سارحة بعيداً بفكرها.. فقط دمعها الذي يغزو سكون وجهها، ويدها التي تعتصر الورقة إعتصاراً حتى كادت تمزقها
أي جنون هذا.. أي سطور قادرة على زعزعتها كل هذه الزعزعة
تمتمت بالحمد برغم إعتصار قلبها لحالة عواصف الضبابية التي عادت بِها للمنزل، لو أنها كانت بوعيها لأدركت أي جنون تخفيه سكون..لتُصعق بحزنها فتحتويها -بـحنية أم- فاضت بعد معرفتها بساعات أن هذه المرأة -أختها-
قرأت هذا التقرير منذ ساعات لمرات لا تحصى ومع ذلك لا تصدق لذلك ذهبت بنفسها إلى سجن القسط
ولحسن حظها كان والدها مازال هنا قبل نقله سرياً للمقاومة
تنتظره..xباختناق يكاد أن ينهيها
منذ أن سمعت أنه قد أُلقي القبض عليه بتهمة الخيانة وهي كمن أُلقيت بين أمواج غاضبة لترميها الموجة بعنف أكثر عندما علمت أن يونس صابر أي -يوسفها- قد أُلقي القبض عليه معه بذات التهمة كونه متواطئ معه بهويته الثانية
لم تعلم تبكي أي مصاب من مصاباتها.. ولكن كارثتها الأقوى كانت بين يديها
تقف كالشبح تتجه لمكان لقاءها معه، تراه بعين ضبابية.. نحيل للغاية قد غارت عيناه وتلوثت بهالات سوداء داكنة، قد طفى على وجهه الإنكسار
تجلس بذات الإنكسار.. تضع الورقة أمامه دون أن تتكلم وسط استغرابه ولهفته وهو يراها واخيراً بعد أسابيع طويلة، يحتضن كفها بتحفظه المعهود معها يبتسم لها بصلابة:"كيفك؟"
تبتسم ببكاء مُوجع، أبتاه ليتك عندما أقصيتني عن حياتك لتحميني علِمت أنك تقصي حبك عني.. أبتاه لقد نزعت عن قلبي الشعور بأمانك وحبي العنيف لك كأي إبنة تحب أباها، وخوفي من فقدك! أولم أفقدك طوال أربع وعشرون عاماً؟
ليقول بتأثر جديد عليه:"الحمدلله إني سمعت نصيحة عمك حازم، صحيح فاجئتِك وأوجعتكِ بس صدقيني لأجل أمانكِ، تعرضت لخمس محاولات إغتيال طوال تلك الأسابيع وأكيد كانوا يبحثون عنكِ بس الأبكم قدر يحميكِ..مثل ما حاول يحميني هالمرة بس ما.."
سكت بتنهيدة فتوترت وحاولت جعله يتكلم لكنه نظر للورقة فأخذها ليقرأ محتواها
دقيقة
وأخرى
وأخرى..
قبل أن تجحظ عيناه بعدم تصديق فيرمي الورقة في وجهها بعنف وهو يصرخ:"أي جنون هذا؟ وجايه لأجل هالترهاتxمنتظرة مني التصديق؟ من أعطاكِ الورقة؟ من تجرأ وأجرى هالتحليل دون علمي من الخائن اللي سرق مني شعرة لأجل يعطيني هالورقة الغبية اللي حتى الجاهل ما يصدقها"

تنظر له بوهن، لشهلاءه التي ورثوها عنه، ليتجعد وجهها دلالة على وشوكها على البكاء لتهمس بذات الضعف:"كلنا ورثنا لون عيونك يبه"

يرفع يده وكأنه يقول-هُراء- ليصرخ بعدم تصديق:"هذا مخطط جديد لهالخونة المرتزقة اللي يسمون نفسهم مقاومين، سرقوهم مني من صغرهم وقتلوهم والحين جايين يتبجحون بهالتحاليل الغبية
عيالي ماتوا قبل ثلاثين سنة.. ولدي مات وبنتي ماتت.. وأنا قفلت دفاترهم بموتهم.. تفهمييين؟"

تخرج من ضعفها لتصرخ بذات النبرة وهي تضرب الطاولة بوجع:"بس التقرير ما يقول كذا.. يقول تطابق بنسبة٩٩,٩٩٪؜ يايبه تعرف وش يعني هذا؟ يعنيي هم أخوااااني، اللي تبجحت بأنهم ماتوا بينما هم انخطفوا بسبب أعداءك بذيك السنين، قلبي ما يقول كذاا يبه -بكت بأنين- يبه قلبي يرتجف بالدفا بكل مرة أحضنها فيها، أشم فيها ريحة أمي أحسها قطعة منها، شعوري فيها ماهو زيف.. إن كان التقرير كذااب فشعوري صاادق يبه
عواصف أختي.. يا الله كم كنت غبية وأنا أتجاهل كل هالإشارات من سنين طويلة، أي جهلاء احنا وإحنا نتجاهل كل هالشبه بيننا وكأني توأمها؟ يا الله وش هالوجع"

قالت آخر جملة وهي تمسك عباءتها من جهة صدرها بيدها لتريح رأسها على الطاولة لدقائق طويلة تسمعه يقول بتحشرج كمن بدأ يصدق:"وهو...؟"
تغمض عينيها للحظات قبل أن ترفع رأسها
ببكاء:"اسمه عاصي.. مكتوب بالتقرير"
يبتلع ريقه كأنه العلقم ليقول بتهدج محاولاً عدم الإنهيار:"شفتيه؟"
تهز رأسها كطفلة باكية:"مرتين، مره قبل شهور.. ومرة قبل يومين.. -تساقط دمعها وهي تهمس- شفتك فيه يبه وكأنه أنت -ضحكت من بين دمعها بمرارة- تعرف؟ كان لك صورة تعلقها بغرفة نومك بشبابك.. يا الله وكأنه خرج من إطار الصورة واستقرّ قدامي"
تفيض أدمعه بعدم تصديق ليهز رأسه بوهن جديد عليه وهو من عُرف بجبروته:"ماهو حقيقة، ماراح أصدق هذي لعبة جديدة من ألعابهم"
لتقول بحزم يشوبه ضعفها: "دفنتهم بيدينك يبه؟"
ينظر لها بتيه ثم يهز رأسه بالنفي لتستطرد:"لقيتهم وهم صغار؟ "
يهمس بتهدج:"دورت عليهم، حفرت الأرض لسنين وما لقيتهم"
لتقول وهي تمسك الورقة:"يعني اللي مكتوب بهالورقة صحيح.."
يسأل بضياع:"من أعطاك إياها؟"
لتقول بوجع:"شخص لايمكن يكذب علي.. على الأقل بعد كل اللي حصل معنا"
يتلألأ الدمع بعينيه..ليطلق آه حارقةxيضرب صدره بوجع يبكي بصوت مسموع غير منتبه لمن شحب وجهها من الفجيعة بسبب منظره الضعيف هذا
لتقف بساقيها الرخوية تمسك رأسه بين يديها وتحتضنه لصدرها برعب تبكي معه:"يبه لاتبكي.. يبه ليه تبكي؟ لقيناهم بعد كل هالسنين يبه"
يبكي بأنين كطفل تائه لقي أمه بعد سنين من الضياع:"عايشين.. كنت أدري إنهم عايشين.. يا الله
يارب.. عواصف بنيتي كنت أعرف هالشعور ماهو بعادي.. ذيك البنية بنتي.. يا الله وش هاللي يحصل"
تضع رأسها على رأسه تشاركه بكاءه وهي تهمس:"أربع وعشرين سنة أجهل وجودهم أساساً..وانصدم بأن لي أخوان انخطفوا بصغرهم، مع جنون هالسنة مافكرت أدور عليهم تصدق يبه؟ يجي هو.. هو ينورني بوجودهم
يعلمني إن لي أخوان.. يرشدني لهم.. بعد خمسة وعشرين سنة أكتشف إن صديقة عمري تكون أختي يبه.. تظن هاللي يحصل حقيقي؟"
يهز رأسه بعجز ويحتضنها له، يبكي عجزه بينما يداه تعتصر الورقة قهرًا.. غير منتبه لمن يقف في الغرفة المجاورة
ينظر لهم عبر المرآة العاكسة بنظرات غامضة
يعقد ساعديه إليه وهو يهمس:"يوسف يوسف.. هذا الرجل ولا مرة قدر يخيّب ظني.. هالرجل داهية قسماً بالله ما خلفت إلا دواهي"
ابتسم حازم بتأثر لمرأى سكون وهمس بوجع:"صدقيني يا بنيتي أخفيتهم لأجلهم.. هم رموهم للوجع وأنا حاولت أحميهم، رعيتهم وكأنهم يوسف، كبّرتهم لأجل يصيرون جنود للوطن.. وكبروا وصاروا.. تصدقين لو قلت لكِ إن مصير دولة يعتمد عليهم؟ لو بقوا تحت ظل أبوكِ لكانوا عانوا
مثل ما عانيتِ ياسكون.. سامحيني
كنت أحميهم ونسيتxإني أسلبهم حق اختيارهم
لكن كل شيء مباح في الحرب، صدقيني كان هذا الخيار الصح بالنسبة لهم.."
ينظر بتنهيدة لسكون ليقول:"ليتك توصلين الخبر لأخوانك بالوقت الصح يا سكون"
يخرج لتصله رسائل جهاد (انتفاضة السادس من فبراير قيد الإنتظار) (تم القبض على أبا عكاشة واعترف بأنه المتسبب في سجن فريق الدفاع الجوي كاملاً وهو المسؤول عن التفجير الإرهابي قرابة شارع -الشهيد منصور محمد- أحد رجاله كان يتعقب زوجة الجندي عمّار الغمدان ظناً منه أنها زمهرير.. استشهدت مع ولد أخوه)
(طوفان .. يُودع)

يرفع رأسه عن هذه الأخبار الصادمة ليلتفت للخلف فيقترب بدهشة بسبب عمران الذي وقف يمسك سكون بصدمة:"سكون كلميني.. استهدي بالله يابنتي"
تنظر له بشحوب وبعينين زائغة وكأنها طفت في اللاوعي، ليربت بقوة على وجنتها فتتسع شهلاءها تدريجياً قبل أن تنفجر في بكاء عنيف غير مستوعبة لما يحصل:"كيف مات؟ يوسـ.. يونس كيف مات؟؟ وش هاللي تقوله يبه مستحيل اللي يحصل.."
ينكس رأسه بوجع غير مستوعب لبكاء إبنته على حارس عيّنه لحمايتها فقط:"يونس الأبكم مات يابوك، تسبب بمشكلة مع مساجين السياسة وتقاتلوا فشقوا صدره و.."
سكت مشدوه ينظر لتهاويها ونحيبها المفجوع.. كأم مكلومة تبكي مصاب ولدها، تضرب على صدرها تحاول جعل الغصّة التي استحكمت فرجاتها أن تنجلي لكنها تزداد وتزداد حتى باتت تشعر بأن الموت يزحف لروحها..
يا ويييل قلبي.. يوسـف يودع..
*
*
*[ إنتـفاضة السادس من فبـراير ]

يقف فوق حافة الجبل.. يعقد ساعديه لصدره كالعادة
كصقر شاهـين.. يعد الثواني بدقة شديدة
ثلاثة
إثنان
واحد
ولأول مرة تبدأ إنفجارات يتراقص لها قلبه طرباً.. يبتسم بقسوة وهو يرى خمسة عشر صاروخاً تخرج من وسط الجبل تتبعها عشرة أخرى منطلقة بإتجاه مناطق متفرقة في الديجور
وبعد سنوات عقيمة من الإحتلال هاهم واخيراً يشتعلون ناراً من رمادهم.. كما العنقاء!
يقف بذات المكانxالذي وقف فيه لعشرون عاماً
إنما هذه المرة لم يقف كسيراً موجوعاً
هذه المرة وقف قسطياً.. شامخاً.. أبياً
حـازم الغـرابي.. رئيس الإستخبارات وأكبر المقاومين في القسط ولو كان سرياً
يلتفت ليرى جهاد يقف بجانبه بملامحه الصلبة
يقول له ببسمة هادئة وكأنه يراقب عرض مسرحي لطيف وليس إنطلاق صواريخ مدمرة:"تعرف يا جهاد؟ هذي الصخرة حفرت آثاري عليها لعشرين سنة"
يبتسم بذات قسوة حازم ليقول بقوة:"وهذي المرة حفرت آثار النصر واخيراً.."
يهز رأسه بفخر ليحل عقدة ساعديه قائلاً:"أمنت الحدود؟ جهزت الجيش الوطني؟ فريق الجوى ومن معه؟"
ينظر له بأسى للحظات:"فاجعة زوجة عمّار أربكتهم و..."
ينظر له بحدة:"علّمهم يطلعون من آثار فجيعتهم الآن يا جهاد أو ينتحبون مثل الأطفال في بيوتهم، أحتاج رجال بقلوب من حجر ما أحتاج بكايين.. القسط ينتظر ولو بكينا دم على كل شهيد مننا لصرنا الحين بلا روح"
يتنهد جهاد وهو يعلم يقيناً كم شهيد فقده حازم
في سبيل قسط الجوى ليرد عليه بحزم:"لابأس.. جنود الجوى قدّها وما تهاووا؛ كفكفوا دمعهم وصيّروا وجعهم للدفاع.. الكل أخذ موقعه في المعركة يا رئيس"
يبتسم ليقول بعد لحظات:"عرفت من تسبّب بموت القائد الأعلى؟ لا يمكن تكون عواصف"
-"لا لا..العاصفة لو لها نية تقتله كان ماصبرت عليه طوال هالسنين..بالكاميرات اللي اخترقناها عرفنا إن ملازم أول إسمه سلام تبعهم للسطح وأعتقد إنه هو اللي قتله نسبةً لخروجه المفجوع من المبنى
ولكن لاتخاف تم تمشيط كل السطح وأمان -العاصفة- مستتب، زي ماوصلك من القادة الديجوريين، وكأن إرهابي هو من تسبب بقتله
حتى الملازم الأول ماذكرناه لأجل ما يمسّ الموضوع العاصفة ومثل ماقالت ما لمحها أبداً مع القائد بس لمحها وهي تنزل لأجل كذا تغاضينا عنه"
يصمت، يدقق النظر بالصاروخ السادس والعشرون الذي انطلق والمكتوب عليه -شامخ الغرابي- ليبتسم باتساع.. هذا هو الصاروخ المكتوب بإسمك يا أبي.. ليدوم إسمك فخراً يطير ثم يهدم كل من تسبب باستشهادك لأجل وطنك...
يلتفت لصوت جهاد العابس:"عرفت بأن سكون عرفت بأمر أخوانها..سواها يوسف قبل وداعه"
اتسعت بسمته وعقد ساعديه قائلاً:"هذا الرجل داهيَة وما يخيّب الظن أبداً.. ولكن لا تنسى بأنك عرفتها وهي طايرة مثله!"
هز رأسه بنفي شديد:"أنا الإشارات كانت واجدة قدامي..أنا بنفسي عشت معهم في الدار لسنواتxوشفت الشبه اللي كلهم تغاضوا عنه بصغرهم، ثم انضميت لك فبديت أراقبهم مع العمل الموكل لي، ثم رجعت للدار لأجل أعطي يوسف مكان اللقاء لأجل أضمه لنا
صحيح ما أعطيت تلميح لعاصي لكن زي ماقلت أي مكان بيكون فيه يوسف.. راح يتواجد عاصي
لكن اللي ماحسبت حسابه وجود عواصف معهم
لا والمصيبة قاتلين أبو عكاشة أكبر مرتزق وخائن
كانت هالورقة اللي ضغطت فيها عليهم برغم إنه قدر ينفذ بروحه ويعيش ولكِن ضميتهم بهاxلنا
بعد سنتين من استعباد الديجوريين لهم، اللي بدأ يشككني هو طلبك بإن عواصف تتعين بكلية الضباط في الديجور والقريبة من كلية الطب اللي يصادف إن سكون بنت الوزير فيها.. وتأمينك للصدف اللي تركتهم يتعرفون على بعض، هالنقطة بالذات شككتني وتركتني أفكر وأربط أفكار
ليه عاصي وعواصف بالذات أشرفت على حياتهم بنفسك مع يوسف! يوسف لأنه ولدك لكن هم..؟
خيط وثاني وعشرة ثم نسجت الفكرة وتأكدت منها فاكتشفت الحقيقة.. صحيح كلفني الموضوع شهور لأجل أعرف بأن عاصي أخوهم ولكن يوسف بإسبوع بس يا رئيس!"

يضحك حازم بصوت عالي قائلاً:"غِرت لأنه أذكى منك يارجل؟ لا تخاف محد بيأخذ مكاني برئاسة الإستخبارات غيرك"
رفع حاجبه بسخرية:"ويوسفك؟"
تتلاشى ضحكته لتبقى بسمة حانية:"يوسف بعقل داهية وقلب حنيّن ويدين قوية.. لو بقى لكان يستاهل يكون رئيس الدولة صح؟ كان ودي تذكرني بعدما نخلع هالمحتل من أرضنا نرشّحه للرئاسة ولكن يجيب الله مطر "
ضحك جهاد يهز رأسه بأسى ثم قال:"والوزراء؟ وعمران؟"
-"تم نقلهم لسجن المقاومة هناك بيلقون عقاب ينتظرهم، أعفو عن كل شيء وأغض البصر لكن إن مسّ قسط الجوى ضر ولو كان من لحمي قطعت الجزء اللي ينتمي لي معه.. وعمران أخطأ واجد، عمران برقبته أكثر من مئة رقبة تسبب بقطعها بدم بارد، وخزينة دولة وخيرات وطن وقلوب قريبة منه، وأمان شعب.. وأنا أبداً أبداً ماراح أتغاضى عن هاللي تسبّب به ولو كان أخوي!!"
ليعم الصمت للحظات إلا من صوت القواعد الصاروخية ثم تعلو ضحكاته، يُشير على الطائرة الحربية أول طائرة بصناعة قسطية تُغادر أراضي القسط ومتجهه لأراضي العدو، إنما لاتتجه كأي طائرة
بل وكأنها تتراقص!
ليهز رأسه جهاد بحسرة:"ولا تركت يقودها إلا مجنون الفريق"
ليبتسم حازم، يرفع يده مُحيياً لها برغم أن جلال لا يراه بسبب صراخه بحماس وضحكاته الصاخبة، يخرج من الجبل يتبع الإحداثيات لأكبر قاعدة عسكرية في الديّجور.. متحدياً مضاداتهم الجوية وكل قُوتهم
ليقول جهاد ببعض القلق:"لو صدّوها؟"
ليرد بذات القوة:"نرسل لهم ألف وحدة غيرها"
يبتسم له ليرى حازم يرفع هاتفه يفتح الرسائل التي وصلته من القادة الديجوريين وغضبهم المستعر بسبب قتل القائد، وأخرى من السفير الذي فجّر حفل توقيع الإتفاقية ليشير بضحكة:"سفير (الجَارة) يرسل لي.. يقول خلّوها سلمية مع الديجور والقسط، وإذا تبي راح نتدخل بعلاقاتنا معهم ونعيد الإتفاقية وانت اتفق مع حكومة القسط لأجل يرضون بها"
يضحك جهاد بتهكم:"بعدما أحبطوا الأول وأحبطوا أي إتفاق مع الديجور ولما توقعوا نهضة القسط وردها عليهم بدؤوا يخضعون؟ يعقبون ماراح نتفق إلا على خروج هالكلاب من أرضنا.."
يبتسم وهو يفتح الراديو بذات الهاتف ليسمع صوت المذيع القسطي المنبهر: (من أحد المناطق في قسط الجوى تم إطلاق ثلاثون صاروخاً متجه لعاصمة الديجور ومناطق متفرقة فيها، رداً على الظلم الجائر الذي يحصل بوطننا الحبيب، وانتفاضة عِز في شوارع القسط في مظاهرات عنيفة تحت راية -إنتفاضة السادس من فبراير- لتحترق القسط من فرط جواها ويخرج كل رجالها لنصرة جيشها في الحدود وحول مراكز تجمع الديجوريين.. دون رد فعلي من حكومة الديجور إذ أن المقاومة لم تعطهم فرصة للتنفس والاستيعاب لجنون ما يحصل.. إنها ثورة القسط، إنتفاضة العز المنتظرة، صرخة رجال المقاومة التي كلفتنا سنين من الإضطهاد والإحتلال.. عشتِ يا قسط الجوى وعاشوا رجالك ومقاوميك وجُندك"
يبتسم ثم يفتح الموسيقى.. ليتجه نحو -نشيد العز-
ليقف بشموخ يديه خلف ظهره، رأسه مرتفع بعنق مرفوع وعينين تفيض فخراً وقوة وقلب يرتعش حماساً لقسطٍ أقوى وينتفض عزاً لنهضة قد طالت حتى تحققت ليصدح صوت النشيد الوطني لقسط الجوى بأنحاء الجبل مع إطلاق الثلاث طائرات وبقية الصواريخ..
〔 في شروقِ كُلِ يومٍ ينهضُ الوطنَ المهيب
وفي غروبِ كُلِ ليلة يُشعل الظلماء لهيب
فداكِ يا وطنَ السلامِ.. كل جندي وشهيد
يا عزي وإبائي وشموخي العنيد
لكِ يا قسط الجُوى كل انتمائي والوريد
ولحماكِ سأنتفض ولو كُبلتُ بالحديد
سِلماً كان أو حرب، نحن لكِ جيشٌ سديد
عِشت دوماً آمنة .. يا دولةَ الحكمِ الرشيد ! 〕

انتهى الفصل~
قراءة ممتعة ..




فاطمة صالح. غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-05-23, 01:39 AM   #75

نون الف

? العضوٌ??? » 480774
?  التسِجيلٌ » Nov 2020
? مشَارَ?اتْي » 9
?  نُقآطِيْ » نون الف is on a distinguished road
افتراضي

رواية في قمة الروعه

نون الف غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-05-23, 01:44 AM   #76

نون الف

? العضوٌ??? » 480774
?  التسِجيلٌ » Nov 2020
? مشَارَ?اتْي » 9
?  نُقآطِيْ » نون الف is on a distinguished road
افتراضي

رواية في قمة الروعه ولكن اين تكملة الفصول؟

نون الف غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-05-23, 03:06 AM   #77

نـاي

? العضوٌ??? » 492784
?  التسِجيلٌ » Sep 2021
? مشَارَ?اتْي » 62
?  نُقآطِيْ » نـاي is on a distinguished road
افتراضي

بنات مافي احد عنده خبر عن الكاتبة؟ مو عادتها تغيب كل هالفترة اكثر وحدة شفتها ملتزمة بالمواعيد
اتمنى انها بخير ????


نـاي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-05-23, 05:44 PM   #78

زهرورة
عضو ذهبي

? العضوٌ??? » 292265
?  التسِجيلٌ » Mar 2013
? مشَارَ?اتْي » 2,283
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » زهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   ice-lemon
¬» قناتك mbc
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

السلام عليكم ..افتقدنا لك ياكاتبتنا العزيزة اتمنى المانع خير .

زهرورة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 26-05-23, 06:59 PM   #79

فاطمة صالح.

كاتبة في قسم الروايات والقصص المنقولة


? العضوٌ??? » 506671
?  التسِجيلٌ » Sep 2022
? مشَارَ?اتْي » 81
?  نُقآطِيْ » فاطمة صالح. is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نون الف مشاهدة المشاركة
رواية في قمة الروعه ولكن اين تكملة الفصول؟

أهلاً عزيزتي❤️❤️
بسبب التحديث الجديد في المنتدى أغلب الفصول إحتذفت ، ان شاءالله يتم تنزيلها بعد أن يتم التأكد من عوده التحديث القديم للمنتدى❤️.


فاطمة صالح. غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-06-23, 06:42 PM   #80

فاطمة صالح.

كاتبة في قسم الروايات والقصص المنقولة


? العضوٌ??? » 506671
?  التسِجيلٌ » Sep 2022
? مشَارَ?اتْي » 81
?  نُقآطِيْ » فاطمة صالح. is on a distinguished road
افتراضي


الفصل السابع و العشرون
ماشاء الله، اللهم صلِّ على محمد

*
*
( بعد مرور عام )

سعل بشدة وهو يريح رأسه على طرف الجدار حتى التفت للقابع بجواره قائلاً بنزق:"سد فمك يارجل تراك أبلشتني، كلنا تلوثت حلوقنا بهالتراب مهب بس أنت"
رفع جلال حاجبه بامتعاض وفتح فمه بالكامل، يقول:"تفضل تكلم مع رئتي وخاصمها هي"
نظر له بقرف، يشيح برأسه للحظات و يقول:" تتوقع كم باقي بنبقى محبوسين؟"
نظر له جلال بسخرية:"يوم أوجع عظامك العزيزة؟"
ليرد بقهر:"أنا عضو في القوات البرية يا.."
قاطعه بانبهار طفولي يشير على الهواء الخارج من فمه:"تصدق لامنك تكلمت البخار اللي تنفثه يرسم جناح طيارة!"
نظر له بازدراء فقال جلال بلهفة مضحكة:"تكلم يارجل يمكن بكل مرة نجمع جزء وآخرها تكتمل القطع ونركب الطيارة ونهرب من هالحبس"
وقف هِشام وكاد أن يضربه فتراجع جلال ضاحكاً وسط مراقبة المحبوسين معهم، قال هِشام وهو يعود ليجلس:"لا تخاف.. جايك الفرج..صحيح تأخر عن توقعاتنا بس ما يبطي السيل إلا من كبره!"
ابتسم جلال، يعقد ساعديه:"صحيح.. واثق إنه بيجي ويحررنا هو ماخذلنا ولا مرة.. بيخذلنا هالمرة!"
ليقول هشام بنزق وهو يغمض عينيه:"أنا ودي أعرف بس ليه طيار حربي ناشب بحلقي وبكل مهمة لي ألقاه في وجهي..ياخي اركب طيارتك روح تلاعب بأعصاب مضادات الديجور، زعزع ركودهم، خذلك كم لفة في سماهم زي كل مرة تسويها، عطهم كم صاروخ.. ليه ناشب بحلقي، حتى بالسجن نشبت فيه معي!"
ينظر له بطرف عينه ليردف هشام بامتعاض:"علمني سنتين مسجون ماصرت مجنون! لا باب مقفل تخاف منه لاظلام يخليك تصرخ مثل الأهبل، جاي تحشر عمرك معي حتى بالسجن
يارجل مكانك السماء أنت، محيط واسع وشاسع
اترك الأرض لأهلها"
يبتسم جلال للحظات بعمق بطريقة لاتناسب شخصيته المجنونة كما سماها فريق الجوى ليقول:"صدقني..لو استسلمت للظلام اللي رموني فيه لكنت مت بأول شهور.. لما رموني بالمنفردة بلا ضيّ لأشهر طويلة تدري وش كان نوري فيها؟
قطعة قماش من طرف ثوبي أغمر فيها وجهي ساجد له وحده، خاضع لجبروته متذلل لرحمته وعفوه وفرجه.. قسماً بربي بأني كنت بكل مرة أتعذب فيها على يدينهم موقن بأني بخرج وبأرد لهم الصاع صاعين، وهالظلمة اللي عيشوني فيها لأشهر بعيشهم فيها للأبد.. ووفيت بعهدي، كان النور في صدري، مادام الله معي ظنك ظلامهم بيرهبني؟"
يبتسم له هِشام بفخر ليصمت جلال لبعض الوقت ثم يقول بضيق:"مرت ثمانية أشهر على اعتقاله وأخذه أسير يا هِشام.. لا خبر يطمنا إنه بخير وسليم ولا خبر انه استشهد.. تعرف هذا السجن رقم كم اللي ندخله بأقدامنا للمرتزقة وندمره ورانا وماله أثر! عمّار خرج في مهمة مع فريق رقم إثنين ومن ذيك المهمة هو وأعضاء الفريق مختفين.. ثمانية أشهر يا رجل ماهيب هينة، والرجل كان منتهي أصلاً من الإنفجار اللي دمّر عائلته، من تظنه يقدر يتخطى ذيك الفاجعة، يشوف زوجته وولد بحسبة ولده يتناثرون قدامه بسبب إرهابي، أنا خايف عليه، ولا هو أنا بس.. كلنا يالجوى وانت بنفسك تشوف حالة زمهرير كيف منتهية مثله.. مع ذلك تدور على زوجها بكل طاقتها..تبيهم يقولون بركان يتلاعب بطائرته بسماهم وزمهرير تحفر الأرض عشان زوجها لوحدها؟ لاو..."
قطع كلماته بجبين متغضن بدهشة بسبب ملامح هِشام المسودة والبريق الذي يسطع بعينيه وكأنه يحبس الدمع بصعوبة كاد أن يتكلم لولا أن هشام أشاح بوجهه عنه، يشد على قبضته بكل قوة حتى ابيضّت سلاميتها واجتياح الغضب يُهلك روحه التي باتت سوداء بشكل مخيف يهمس بعنف:"اللعينة..اللعينة الله ينتقم منها.."
لم يكن يقصد سواها -منتهى- من تسببت بنظره في قتل غادة وعبدالله، لقد كان الإرهابي الذي يتتبعهم لأسابيع من رجال أبا عكاشة وهي من دلتهم على مرجان ويبدو بأن توقعهم لم يصب فقد قتلوا الضحية الخطأ!
اللعينة.. لقد تسببت بإردائهم أمواتاً وقتل إثنين آخرين، كان يتقلب على نيران الوجع لسنة كاملة
أيبكي غدرها وخيانتها؟ أم يبكي وجعه على ماتسببت به؟ هو حتى لم يستطع النظر لوجه عمار بالرغم بأن أول أشهر الإنتفاضة كانا بذات المهمة!
لذلك يبذل جهده أكثر من الطبيعي علّه يُحرر عمّار من الأسر فيرد ولو بعض دينه لعائلة الغمدان، ويتحرر من ذنب عبدالله فيُعيد عمّار لمرجان!
التفت بسبب جلال الذي قال:"أنا بنام.."
نظر له بطرف عينه فقال جلال بتبرير:"نعم؟ لي خمسة أيام ما غفت عيني.."
ليرد الآخر ببرود:"لي اسبوع ما غمضت عيني براحة لذلك انثبر"
تأفف بضجر ووقف يقول بتبرم مضحك:"أنا بشتكيك له إذا جاء، آخر مرة أكون أسير معك تفهم؟ أبي شخص ونيس يضحكني وانت من سنة وانت هالة كآبة متحركة"
أمسك مؤخرة رأسه بحركة غريبة فانتفض جلال مذعوراً يتذكر عندما أسروهم مساء البارحة؛ دفعوا هشام على الجدار فارتطم رأسه بكل قوة فانحنى له بلهفة:"انت بخير؟ أوجعك شيء؟!"
نظر له نظرة غريبة للحظات ثم قال:"بركان..تتذكر لما تعرفنا أنا وياك؟"
-"ايوه ايوه أذكر.. كنا مخطوفين من ذاك الدنيء اللي يسمونه العبسي وقدرنا نهرب مع خمسة أطفال وعشنا بالشارع لسنين ثم بعدها أسرونا الديجور سنتين وبالهجوم اللي هجمته المقاومة على مخيمات المحتل أنقذنا فيها القائد جهاد.."
قاطعه قائلاً بصوت مكتوم، يتذكر مواقف توقع بأن زينة قد سردتها له بحكايتها مع طفلها المخطوف:"طيب تتذكر شيء من طفولتك؟ خزان ماء مثلاً كنت بتغرق فيه ورجل غريب ماتذكر هويته أنقذك؟ كانت لك أخت وحدة وتصغرك بأعوام؟ وقدام بيتكم كانت ساحة كبيرة تلعبون فيها برغم أصوات الطيارات ودوي القصف، ووحمة غريبة، والمنطقة اللي كنت عايش فيها؟ أمك..؟"
عقد حاجبيه بتساؤل وقال:"وش هالأسئلة عقب كل هالسنين!"
قال بضيق:"جاوب يارجل.. أنا بين هالجنون لقيت فرصة أسألك..ولو لقيت صاروخ من هالمحتل ينسيني اللي أذكره"
همّ بالإجابة لولا الرجل شنيع المظهر الذي تقدم إليهم..كان له وجه أسود وملتحي، يلبس ثوب أبيض ويربط عمامة فوق رأسه ورشاش يثبته بين كفيه قائلاً بلهجته :"اللي أسماءهم بركان وسرمد يتقدمون"
قفز جلال ينفض التراب عن قميصه قائلاً:"واخيراً.. وبالمناسبة سجنكم سيء جداً أعطيه صفر من عشرة"
رمقه بنظرة حادة ليقف هِشام غامزاً بعينيه لمن أُسروا معهم فالتقطوا الإشارة..خرجا معه ليتجها لغرفة أخرى بها مكتب صغير دخلا فوجداه يجلس بهيمنته على الكرسي الخشبي فاستحلّه كله بجسده ووجهه مُلتف بشال أبيض امتزج بأسود لايُظهر سوى عيناه..كشكل بات معرُوف ومُشهور به ينظر لهم نظرة شاملة ليطمئن أنهما مازالا بخير..يلتفت بنظره للرجل القابع خلف المكتب وآخر واقف بجانبه وهما من تفاوضا معه على المبلغ الكبير للإفراج عنهما عبر الهاتف ثم أتى ليأخذهما وثالث على الباب يمسك الرشاش بيده
اشار بعيناه لهِشام بسؤال واضح: (لقيتوه بالسجن هذا؟) ليكتفي بهزة رأس نافية وكانت كافية ليمد ساقه بحركة خاطفة يسحب مسدسه الكاتم الذي كان جاهز للإطلاق فانحنى هشام وجلال للأسفل بذات اللحظة ليطلق رصاصة أصابت رأس الواقف بجانب الباب فيهوي على الأرض ليلتفت بذات السرعة يرمي أخرى على صدر الثاني ويُشير على الثالث الذي توقفت يده عن سحب مسدسه برعب قائلاً بغضب:"ماكان هذا إتفاقنا"
ليقول بصوته العميق :"مابيني وبين الخونة اتفاقات.. أنتم عار على القسط"
لتنطلق الرصاصة الأخيرة إلى رأسه، انحنى جلال ليلتقط الرشاش بحماس بينما هشام التقط المسدس الذي رُمي عليه من طرفه
يقول جلال وهو يراقب المكان:"تأخرت واجد، يارجل أقلقني ذا اللي دبستوني معه بهالمهمة"
يبتسم له ليحك طرف ذقنه بالمسدس:"اعذروني بس قلت تتأدبون.."
شهق هشام ووقف بجانب الشباك يراقب الوضع:"يعني طولت علينا متعمد"
ضحك وأشار برأسه بإيجاب:"شايفكم هاليومين مو طبيعيين وطول الوقت تتهاوشون..قلت تصفون حساباتكم"
أشار هشام بقرف للمكان:"وهذا مكان تصفية حسابات يارجل؟"
رفع كتفيه ببسمة مرحة تتعارض كلياً مع النظرة التي طفت على عينيه وهو يطلق على من تقدم للغرفة ليقول:"خمسة رجال خارج المبنى من الجهة الخلفية.. ثلاثة على الباب"
يكمل جلال:"وعلى كل زنزانة فيه واحد وهم ثلاثة زنزانات بجنب بعض وواحد خارجها"
ليكمل هشام:"إذاً إجمالاً هم إثني عشر رجل..اللي داخل علي واللي خارج عليكم.. غزوة مباركة يارجال"
ابتسم بخفوت ليقول جلال بضحكة:"اعذره سرمد تقمص شخصيتك لدرجة قال جملتك المشهورة"
ضحك، بينما هشام هز رأسه بأسى:"خمس دقايق وجايكم.."
ليقاطعهم جلال قائلاً:"بقى سجن واحد..ولو ماكان فيه تعرفون اننا بنتأكد..."
لينهره الذي شد على المسدس بغضب:"عمّار عايش..وهالحين الحقني يالله فيه خونة لازم نبيدهم عن أرض القسط الطاهرة"
ليرفع جلال الرشاش قائلاً شطر من النشيد الوطني:"سلماً كان أو حرب..نحن لك جيش سديد"
ليبتسم بفخر خارجاً أمامه مدمراً كل خائن وقف في وجهه..منذ سنة كاملة وهذا عمله! يبيد كل من يقف في وجه انتصار القسط.. القسط التي منذ سنة وهي في خراب ودمار وحرب عنيفة
بين المرتزقة والمقاومة.. والمحتل!
الذي برغم كل شيء يرفض الخروج من وطنه!

يقفون خارج السجن بعدما انتهوا منه ليقول هشام:"هذا آخر سجن بأرماء"
ليبتسم الآخر بعمق:"بالضبط..أرماء صارت لنا كاملة"
تنهد جلال قائلاً:"بكذا يبقى ثلاثة مناطق تحت سيطرة المحتل..أسدام ،العين، وتبور، وأنتم تعرفون إنها أهم المناطق في القسط لذلك يرفضون الخروج منها إلا بدمارها كلياً"
قال بلهجة ذات مغزى:"وسيطرتهم على محافظة الحِصن.."
ليرى الأخير نظرة السواد القاتم التي احتلّت عينا هشام
وهذا مايغضبه.. هِشام منذ سنة نسي وقاره وتناسى هدوءه فبات كروح شريرة سوداء،
غضبه يضعفه ويزيد من أخطاءه وهذا ما يغيظه فكم مرة حذره ولكنه لايفهم.. يقول جلال مُشيراً على أعلى الجبل البعيد:"هناك السجن الأخير"
يهز رأسه ناظراً لساعته:"روحوا ريحوا أنا راجع للمقر عندي اجتماع مع الرئيس"
يغمز له جلال بطريقة مضحكة:"أسرار هاه..؟ لايكون يبي يوضح لك كم يفتخر فيك وإن إسمك إذا انقال بصوت عالي بهالجبال كل ما فيها ارتعش حتى الصدى يخاف وما يكرر صوتك.. سنة وحدة وصرت كابوس مرعب للمرتزقة يارجل"
يضحك بمرحه اللطيف الذي يناقض غضبه الشنيع.. كما سبق أن وصفه حازم هذا الرجل.. رجل حب وحرب في آنٍ واحد، يستطيع أن يتلون بشخصيته بشكل يترك كل من يقف أمامه مشدوهاً لبراعته
يشير بمسدسه بحركة وداع قائلاً:"رجالي بيوصلون بعد دقايق ياخذون جثث الخونة ويهدمون المكان.."
جلال بحسرة:"جايبهم بعد إيش؟"
يضحك هشام بعدما خرج من إطار غضبه من ذكر الحصن ليقول:"لاتنسى..ماشُيعت مهاراته عبث! جاي وحده لأجل يثبت لنا إنه يستاهل كل هالخوف"
يبتسم لهم وهو يتجه -للهمر- الذي فتح بابه وسحب العلم من المقعد ثم اتجه للصخرتان الكبيرتان يحشر طرف العلم بينهما ليرفرف عالياً
فيقفوا في خط واحد مرددين بفخر:"في شروق كل يوم ينهض الوطن المهيب"
*
*

الـرابع من فبراير..
العاصمة أسدام
أمام المركز الديجوري..

أصوات الرصاص تتعالى في المكان..دخان القنابل الغازية تغزو الهواء وتتشعب بأفئدة المتظاهرين
زعزعة الأرض تحت أقدام المنتفضين أمام المركز كان له صداه، بالرغم بأن الجنود قد قمعوا بعضهم..
تقف بعنفوانها القوي، بشموخها المهيب.. كوطن يأبى الخضوع للذليلين والجُبناء
عباءة سوداء، حجاب أسود يغطي رأسها ولا يكشف سوى عن وجه تطفو على ملامحه سِمات القوة، اشتدّت حمرته إثر انفعالها، ولهاثها دليل صريح وواضح أنها تجاهد لأجل أن تنقل الحدث للمشاهدين:"أمام أخبث الأماكن على وجه هذا الوطن الكريم أقف لأكشف عن بعض تعاملهم-اللاإنساني- مع من تظاهروا لنهضة وطنهم
رجال وأطفال بحجارة وعُصِي يتم مهاجمتهم بالرصاص والقنابل الغازية فقط لأنهم انتفضوا قهراً لوطنهم.. سنة كاملة منذ الإنتفاضة التي زلزلت هؤلاء الجُبناء ومازلنا نقاوم، نثور لأجل وطن يخلو منهم
هم طفيليون، لعينون مازالوا ينهشون أرضنا برغم صواريخنا التي استقرت في وسط أراضيهم
بقي يومان فقط لذكرى انتفاضة السادس من فبراير
والتي تعيدنا لذكرى هوانهم، لزلزلة أرضهم بثلاثون صاروخاً وطائرة حربية من صنع أبناء وطننا نزعت أمانهم ولعبت بأعصابهم وتلاعبت بمضاداتهم ثم عادت بأمان لتكرر فعلتها مراراً
ثم طائرات أخرى انطلقت خلال سنة وصواريخ تدك أراضيهم وتواجد المرتزقة بوطننا
لذلك؛ الشعب بأسدام يثور لذكرى الإنتفاضة
وهؤلاء الجبناء يحاربونهم خوفاً من علو أصواتهم فقتلوهم بالغاز،
والعرب؟ والإنسانيون؟ والدول المجاورة؟ قابلت كل شيء بالصمت
وعندما ثارت القسط ماذا حصل؟ انتفضوا رفضاً
ألا لعنة الله على الظالمين..!"
تأخذ نظرة مختنقة للمنتفضين اعتراضاً ولوقوف الجيش الديجوري أمامهم، منهم من انحنى يسعل بوجع ومنهم من يقاوم بالحجارة ومنهم من بقي يصرخ بصمود..لتبتسم بفخر من بقي يجاهد برغم كل المعوقات:"بقي فقط ثلاثة.. وبعدها تعود لنا.. قسماً بربي أنها ستعود قسط الجوى، ومن أمامهم أقف وبرأس مرفوع وبعينان لا تحمل للخوف نظرة أقول أن هؤلاء الكلاب سيعودون لديارهم ذليلين، وكما استطاع مقاومينا استعادة مناطق ظننا أنها أُُحتُلت للأبد ولكن بجهودهم عادت.. وأسدام ستعود
قسماً بربي ستعود!"

تبتسم تحبس دمعة مختنقة لترفع يدها قائلة:"كانت معكم المراسلة القسطية حتى النخاع -ليالي- من أمام المركز الديجوري"

ليغلق المصور الكاميرا وهو يؤمئ لها بفخر فتُنزل المايكروفون بتنهيدة، تهمس:"بقي قليل.. اصبري يا قسط"
ليقترب المصور قائلاً بهدوء:"زدتِ العيار هذه المرة.. تتوقعين ماراح يجرونكِ لحبسهم بعد كل هذا الكلام؟ لاتنسين إن أسدام مازالت محتلة وتحت حكمهم وبرغم كل محاولات المقاومة ماقدروا عليهم"

تنظر له بشراسة لتقليله من شأن المقاومة لتقول بثقة:"أنا واثقة من خطوتي.. وأثق بقدر خطوتي في قوى المقاومة مثل ما انتزعوا أراضينا راح ينتزعون أسدام منهم -وبغلّ- ومثل ما خرجنا من الحصن بسبب احتلالهم العسكري لها راح نستردها بجهود المقاومين وفوق هذا المركز راح نرفع العلم قبل مهده بيدينا!
أما زيادة الجرعة فلا تخاف أنا ماني جبانة
أنا أكثر من قادرة على ردعهم لو حاولوا يقتربون مقدار ذرة مني -وبسخرية من خوفه- هم ما يقدرون يهزّون مني شعرة فلا تخاف ولاتنسى ماصرت بهالمكان إلا ومدير المحطة يعرف بإني أستاهله!"
ابتعدت عنه بعدما سلمته الميكروفون، ترفع اللوحة بين ضوضاء المكان وذرات الغبار المتطايرة والضباب نتيجة الغاز المتراكم
تسعل تارة وتارة أخرى تبتسم بوهن.. (ستعودين يا أرض الفُـل والـبُن.. ستعودين يا أرض الإباء والعِزة.. ستعودين ولو كلفنا الأمر كل أرواحنا
سنبذلها في سبيلك)
*
تدخل ليالي للمنزل بعد يوم طويل جداً، لتتجه تلقائياً للصالة الداخلية تسترخي بكتفها على الباب ثم تسمح للدمعة اخيراً بالمرور من على وجنتها
تتأمل زينة.. والدتها التي تُشاهد النشرة الإخبارية تحديدًا مقالها هي بابتسامة باكية
ثم تنتبه لها فتُشير لها بإبهامها، تهز رأسها بمحبة ظاهرة قبل أن تشيحه تكتم شهقة بكاء خائنة بصُعوبة، هذا مايجعلها تثور أكثر وأكثر على المحتل اللعين
لقد فقدت والدتها القدرة على الكلام من شدة الصدمة.. تحديداً قبل إحدى عشر شهراً عندما هجموا الجنود على الحِصن، مشردين كل من بها ومن ثار قتلوه بكل دم بارد، لقد أبادوا نصف المحافظة ومن نجى فقد أصابه وجع ماحصل في وطنه
منذ تلك الليلة، عندما نزحوا من بيتهم ليلاً من شدة الخوف كانت في آخر كلماتها تحثهم على الصمود والمقاومة حتى وصلوا للعاصمة فكانت بتلك الأيام مازالت صامدة، ناموا بوجع وعندما استيقظوا كانت قد فقدت قدرتها على الكلام.. هكذا سلبوها وطنها وأرضها وشرّدوا أهلها ثم قالوا [جئنا لننقذكم من بطش رئيسكم فقتلناكم ببطش أكبر]
التفتت لتسمع صوت مناغاة لطيفة شدّتها من بين غمرة بكاءها، لتضحك، تقترب بلهفة
تدنو منها حتى لامست أرنبة أنفها:"أفنان، يا حبيبة خالة"
تضحك أفنان بمحبة لمناغشة ليالي فتأخذها لحضنها تدللها بضحكة لاتشابه دمعاتها قبل لحظات:"الله يجعلني أفدي هالعيون اللي تسرق القلب من حلاوتها، علميني شعوركِ وانتِ تحتجزين المحيط بعيونكِ؟"
تغازلها بكلمات لا تفقهها ومع ذلك تضحك لها بطفولية تُذيب حسرات القلب وتزرع فيه رغبة بالصمود أكثر لنصرة وطن سيحتضن بين أرضه وسماءه هذه الطفلة
تلتفت لترى منتهى تقترب بصحن يحمل كوبين من شاي لترفعها بمرح:"شاهي يريح أعصاب مراسلتنا العصبية! وقسم صوتكِ واصلني بوسط المطبخ، وش هالحماس يابنيّة!"
تضحك ليالي لتقترب تنزع كوب الشاي فترتشف رشفة بلذة:"لأجل القسط"
تبتسم لها ثم تضع الصينية لتأخذ أفنان بين ذراعيها تحتضنها وهي تُقبل أصابعها:"وجاية تاخذين جرعة حماس من بنتي بعد؟ لا أرجوكِ يكفي مافيكِ، بعد مظاهرة قدام المركز عارفة إنكِ بتاخذين أوراقك وتهبّين توزعينها على خلق الله، يعني لو بعد كل هالطاقة بتاخذين جرعة من بنتي راح تهجمين على المركز بنفسك"
ضحكت على كلمات منتهى لتقول:"تظنين بنتكِ منشطات يا مجنونة؟"
تشاركها منتهى الضحك، تستنشق رائحتها بلذة:"بنتي ريحتها تكفي لأجل تكون منشط ومخدر بعد.. ريحة فُل يا ليالي"
لتجيبها بهدوء:"ريحة وطن .."
ترفع رأسها بعدما تلاشت ضحكتها لتتنهد:"رجعنا لنفس الموضوع؟؟"
تنظر لها ليالي بضيق":تعرفين إني ماقفلته، أفنان صار عمرها سبعة أشهر يا منتهى وأبوها.."
قاطعتها بصرخة شرسة:"أفنان مالها أب ، أنا أمها وأبوها، هذا الرجل لا تجيبين سيرته من جديد يا ليالي ولا قسماً بالله.."
بترت ليالي جملتها فقالت بقهر:"تعرفين إنه مايحق لكِ، الرجل ماكان يعرف بوجودها واللي حصل معه صعب وانتِ تعرفين ذاك اللي إسمه عمّار وزوجته..."

قاطعتها وسماءها تلبدت بالغيوم الماطرة بالغضب الذي امتزج بالذنب:"كنت بقول له، كنت بعلمه لكن ما أعطاني فرصة ذاك الرجل سلبني حق التبرير.. ليالي طلقني برسالة!
بعدما جاء والأكيد إنه لمح خالي يخرج من البيت لأجل كذا كان متغير ما سألني .. يا الله
ما كلمني ما صارحني.. لأجل أشكي له لأجل ألجأ له وأبكي خوفي، لكنه كان أحقر من كل هذا
راح ينتقم من الخاين خالي، راح يتأكد منه هو
ثم وداعه لي كيف كان؟ بسطرين طلقني بها وذلني ذل ما ذقته بحياتي حتى على يدين خالي!
كان يستاهل التبرير بعد كل هذا؟ كان يستاهل أعلمه عن حمل خفى حتى علي من شدة خوفي ورعبي؟ أنا حتى ماكان لي ذنب بموت.."

صمتت عند هذه النقطة وأخذت تبكي بحرقة:"أنا عشت حياتي كلها بخوف، بظلام، برعب
وأنتِ بنفسك شاهدة أي رجل طاغي عشت تحت ظله.. خرج لي من العدم بعدما ظنيت إن مالي أهل، ضحك علي بالبداية وأوهمني إنه يحبني
ولما كنت بعلم أمي زينة عنه رفض لأنه سبق و حُررت شهادة وفاته، هددني بأني لو علمت أحد ماعاد بيزورني وأنا كنت طفلة طبعاً بلتزم بكلماته خوفاً من فقده
سنين يستغلني وأنا غافلة ما أفهم، يعلمني وبرغم كل شيء كنت أشك بتصرفاته وبدينه
وبطريقة عبادته، حتى لما جاء لما بلغني إني خُطبت لأول مرة ، إرتبكت صحيح! لكن بداخلي شع ضوء فرحة يااااه مازال أحد من عائلتي موجود ويدور لسعادتي .. ولكني جاهلة ماكنت أعرف إن هالضوء قبس من نار كلما اقتربت احرقني حتى صار قلبي حفنة من رماد ! قلت لك
بالمرة الأول لما طلب مني أبحث عنه وعن عائلته وخلفيته وعمله ما حسسني بأنه ممكن يأذيه
كنت أظنه حرص علي ! وأنا الغبية الجاهلة كنت أعطي خالي الحنون كل المعلومات اللي توصلني لأجل يتطمن! لكنه سلبني كل الطمأنينة لما وصلني خبر موت خطيبي بأبشع طريقة !!

كفكفت دمعها بكفها بخشونة تستطرد بإنهاك روحي باكٍ:" أنتِ بنفسكِ تتذكرين لما جاء خاطب ثاني وش كانت ردة فعلي ؟ كنت بموت من خوفي
كنت مازلت أتذكر بشاعة خطبتي السابقة والظلام وتأنيب الضمير اللي عشته بسبب اللي حصل !
رفضت تذكرين؟؟؟"
أشفقت عليها ليالي من هذا وزر الذكريات لتهز رأسها بإيجاب تتذكر رفضها الهستيري للخطبة وإستغراب زينة فقد كان الرجل، نعم الرجل! لتقول:" ولو ماقلتي لي بعد هالسنين سبب موافقتك السريعة بعد رفضك الهستيري لكنت أظن إنك وافقتي بسبب حالة أمي الي ساءت بذيك الفترة

ضحكت بلاروح، ضحكة كما العلقم تتذكر حينما عادت زينة ذات ليلة بوجهٍ شاحب تغطي الدماء ملابسها لتهلع قلوبهن يسألن ماذا جرى لتجيب برجفة الرعب: ( رجال غريبين ، مسلحين بلحى طويلة ووجيه سوداء قاتمة نزلوا من الشاص ومعهم خروفين قتلوهم قدامي في لمح البصر ورموا بروؤسهم علي ، هذا مو دمي هذا دم الخروف ) بقت تردد الجملة الأخيرة بهلع والرعب خيم على روحها ل ليالٍ طويلة بسبب ماحصل
ليتلاشى تدريجياً حينما وافقت منتهى على الخاطب الجديد ظناً منهن أنها أرادت لهن الفرحة": ما عرفتم إنه بسبب خوفي ، إنه تهديد واضح وصريح بأن هالرأسين اللي رماها بتكون رأسك ورأس أمي زينة .. تعرفين أي نار عشتها؟ أي حياة ملعونة عيشوني بداخلها وأنا آخذ المعلومات منه؟ كم دمعة بكيتها؟ حتى قلبي صار رماد يا ليالي وأنا أعرف بأني بأذي أبرياء - بكت بمرارة - لكن وش كان بيديني ؟ ساومني على حياتكم
خالي الي من دمي يساومني على حياتك أنتِ وأمي زينة ظنك وش كان بيديني ؟؟؟"
تقترب ليالي بوجع لتأخذ أفنان المفجوعة من حالة أمها وهذيانها الهستيري لتقول بخوف:"اهدي منتهى خوفتِ أفنان.."
تقاطعها منتهى، لتضرب على صدرها بوجع:"أنا تعبت من هالموضوع؛ سنين وأنا أتعذب
سنين وأنا أكابد في غياهب الظلام وأتقلب بالرعب
ولكن مع هشام كان الوجع أضعاف اضعاف من لما قال لي بأمره ولما قلت لعزة عنه لأجل أضبط المسرحية وأنا أبكي وجعي لحتى أرسل لي رسالة بالموقع واللي المفترض إني أسويه، حتى لما نطقت إسمه بالخطأ وشكّك فيني وحتى بأول ليلة عشت فيها الرعب معه، كنت أموت من الوجع والغربة
أعيش مع رجل غريب والمفترض بأني أتقرب منه وأفرض نفسي عليه لأجل أستغله، برغم الخوف اللي يزحف على روحي كان لازم أقاوم
ولكن اللي كسرني أكثر بأني -سكتت بوهن وهي تنكس رأسها لتقول بتهدج- حبيته يا ليالي
قسماً بربي حبيته أكثر من روحي لدرجة ماقدرت أوجِعه
وبسبب تهديدات خالي حاولت أجمع معلومات تسكته، أتفه المعلومات اللي ما تقنع طفل صغير كنت أقولها له من خوفي ثم.. ثم.."

علمت ليالي أنها تقصد -عندما حضر أبو عكاشة لأول مرة لمنزلها مع هِشام في غيابه و هددها بقتله بل وبكل بساطة أقسم أن يقسم جثته لأربعة أجزاء ويضع كل جزء أمام مدخل مدينة مختلفة لتذوب كمداً وهي تجمعها إن لم تستعد رشدها وتُكمل مهمتها وصدف أنها ذهبت لزيارتها فرأته وبتلك المرة علِمت عن مايحصل معها جُن جنونها كادت أن تنهار من الفجيعة وأنّبتها بعنف حتى أنها لأول مرة تبكي بتلك القوة! وعندما علمت أساس الموضوع أقسمت أن تحميها من بطشه لذلك ذهبت للعاصمة أسدام لوحدها، وغامرت في جُنح الظلام للذهاب لوكرهم بعباءتها وعلمها الوطني ظناً منها أنها سترى المدعو أبا عكاشة فيه لكن ظنونها خابت وتعثرت بعصابة لا تعرفها وهي ذات العصابة التي تخصهم حقيبة النقود تلك! لا تعرف ماذا حصل سوى أنهم انتزعوا الورق منها وحاولوا اللعب بها فانتزعت تلك الحقيبة من بينهم وركضت حتى أنقذها ذلك الرجل، ومنذ تلك المرة وهي تؤازر منتهى وتقسم أن تنقذها من براثينه فقد علمت أن أبا عكاشة من أكبر المرتزقة وأخبثهم، خلط دينه المائل بخيانة الوطن فتبعوه خفيفيّ العقل!
اقتربت لتحتضنها فدفعتها عنها مستطردة بذات النبرة التي تقطر وجعاً:"قبل يجي بساعات بس عرفت إني حامل تعرفين جاهلة وما فكرت من قبل بتأخر موعدها، متلهفة أخطط لمفاجأة هِشام، لكن بعد حضوره ظنّك كنت بغامر بحياة ولدي؟ وحياة هِشام؟ قسماً بالله ظنيت المعلومات اللي أعطيته ما بتأذي أحد يا ليالي .. تافهه من بيظن إنها بتسبب هالدمار
كنت أقول معلومة سخيفة لشخص ما أعرفه ولا معلومة تهد روحي هشام
على الأقل شخص ما أعرفه ولا شخص صار يجري مجرى الدم في عروقي! أنانية لعينة أعرف ولكن بكلا الحالتين كان بينوجع أحد
مع ذلك ماقدرت، حتى لما خبرته بأصدقاء هِشام اللي حضرت معهم العرس ماقدرت أفرط إلا بتوافه الأمور واللي الكل يعرفها
أربع شهور أبكي كل ليلة من الوجع ويشوف دموعي ولا يسأل بس يواسي، أدعي وأنتحب روحي على سجادتي من شدة الخوف وتهديدات المدعو خالي كل مرة توصلني بأبشع طريقة ممكن تفكرين فيها ، لدرجة لو حس بأني مِلت عن طريقه أرسل لي رأس حيوان ظناً منه إنه بيردني لطريقه المستقيم
انتِ ما تعرفين أي حياة سيئة عشتها بسببه، كنت أقاوم طول حياتي الخُوف لأجلكم ثم لأجله
هو مايعرف أي موت عشته لما شفت خالي قدام بابي يوقف من جديد ولا كم مرة اهتز قلبي وأنا أجلس بحضرته، مايعرف حرارة الدمع اللي حفر خدي من شدة الرعب
مع ذلك حضر وأقام محكمته واستمع لكل الشهود إلا المتهم حتى حق الدفاع عن نفسي ما أعطاني!حكم علي بالموت دون ما يسمعني
هو حتى ماكان يعرف بأني لو فرطت بكلمة له أو لغيره لكان رأسه بالحصن وباقي أعضاءه بمدن مختلفة!
رماني للشتات، للضياع، لأيدي المحتلين
ومع ذلك ما التفت، هو وعدني يكون الضماد واليقين و الملجأ ولما صارت اللحظة اللي وجب يوفي بوعده! صار المنفى والوجع والشك الحارق..كنت أتوسله لأجل يصدقني لامني صرت بموضع شك يسألني لاصرت بوضع مرتاب لكنه خان العهد بأبشع طريقه.. هو حتى
ما سأل عني برغم معرفته التامة بأن الحِصن أُحتلت بعد انتفاضتهم وتبغين أحِن وأسأل عنه؟ لأجل -سكبت الدمع وقالت بسخرية لاتُناسب مرارة دمعها- أبشره بأني كنت حامل قبل يطلقني وبأني من خوفي على طفلي ماقدرت أصرح بالخبر؟ تظنينه يستحق يعرف بأنه أب بعد كل هذا؟"

تنظر لها بشحوب والوجع يزحف أكثر لقلبها فيكاد أن يخنقه، لأول مرة تبوح بهذا الإنهيار
ولأول مرة تبكي هِشام علناً بعدما طلقها -برسالة- وذهب بلا عودة حتى بولادتها الشنيعة والتي كادت أن تنهي بحياتها لم تذكره!
وبرغم تلميحات ليالي، وإصرارها على البحث عنه كانت تكتفي برد غاضب أو بالصمت
ولكن هذه المرة.. أعلنتها ثورة كلام عن صمت دام لسنة
لتكتم شهقات بكاءها بصعوبة وهي تأخذ أفنان لحضنها وتقول بصوت بُح من شدة البكاء:"صحيح ببقى ممتنة له لأنه خلصني من كابوسي الأكبر والشخص اللي سلب مني الحق بالحياة
ولكنه ماراح يتواجد بحياتي أبداً من جديد، ولا راح يملك حق يكون أب لأفنان ولو ركع على قلبه قدامي.. لذلك لا تفتحين هالموضوع من جديد
تفهمين؟ انتهى"

راقبتها ليالي وهي تخطو بتعثر لغرفتهم المشتركة فأخذت تكفكف دمعها، ترفع رأسها لعنان السماء هامسة بلوعة:"يا الله.. لأي وجع نبكي؟
لوجع الـحب.. ولا لـوجع الحرب..!"
*
*
أسدام.

انفرجت عن شفتيّ سكون بسمة خافتة، تستمع لمجادلة الثلاثي التي لاتكف عن الضحك بسببهن
لتقول شدن بسخط:"مايكفي بأنكم منزليني من بيت الأمان لوكر الأعداء وتجادلوني بوسط البقالة بعد؟"
تنظر شامة للمكان بنظرة مشمئزة:"إذا كنتِ تسمينها بقالة، وبعدين لكِ خيارين بس يا
شاي أخضر ولا حليب معلب غيره لا!"
تنظر شادن للمكان نظرات سريعة والخوف يزحف لأوردتها زحفاً فقالت بصوت مختنق:"بنات تأخرنا، يالله نرجع حتى سماهر بتخاف"
تأففت شدن وأمسكت بعلبة القهوة:"تكلمت القطوه الخوافة، تتوقعين بيهاجمنا عسكري ديجوري بوسط الشارع؟"
سحبت شامة علبة القهوة وقالت بغيظ:"تعرفين كم سعرها هذي؟"
سحبتها من يدها :"أعرف بأنهم زادوا سعرها أضعاف بس حتى الشاي ياحلوة زادوه لذلك.."
أخذت تسحبها والأخرى تحاول استردادها حتى قاطع حنقهن الطفولي صوتها الرقِيق الضاحك:"لا بأس القهوة على حسابي.. المهم نرجع للبيت لأن فعلاً تأخرتوا"
التفتن جميعهن إليها لترفع شامة حاجبها بعبث:"احنا بس تأخرنا؟ ولا لأن أختنا سماهر اللي فجأة تنقلب وحش يعض كل ما يتحرك وانتِ أخوك عاصي حنيّن معكِ ودايماً أليف بعكس المجنونة أختنا؟"
ضربتها شادن بحنق بسبب كلامها عن سماهر بينما سكون ضحكت.. ضحكة لطالما زعزعت ركود قلبها الذي تظنه ميتاً من قبل عام
ضحكة تخص فقط -أي حديث يدور حول أخوانها- لتأخذ العلبة وتحاسب سعرها ثم تمسك بكف شامة لتقول الأخيرة بسخط:"يا سلام.. صرت طفلة يعني؟"
تنظر لها بطرف عينها فتسكت على مضض بينما أخواتها يتضاحكون عليها..
تمشي معهن متجهات للعمارة التي باتت تسكن بها منذ عشرة أشهر.. تحديداً منذ هجوم بعض المقاومين على مكان سكنها مع عواصف
ليرفض عاصي رفض قاطع بقاءها هناك ويأخذها تحت جناحه لتعيش مع أخوات سماهر في الشقة المقابلة له
وقد يكون هذا أفضل قرار فعلته خلال آخر فترة
لأنهن ولحسن الحظ؛ طبطبن على بعض جراحها
وصوت ضحكاتهن اللطيفة بات يعلو على أصوات القصف ودوي الإنفجارات
وصلت للعمارة وقبل أن تدخل مع الفتيات وجدته يتكئ بكتفه على طرف الباب يغمض عينيه بإرهاق
فتزعزع قلبها لمرآه المُتعب، تسللن الأخوات من جانبه ودخلن بصمت للمنزل
بينما هي اقتربت؛ وبجرأة غريبة عليها وهي من اعتادت التحفظ معه
رفعت يدها تفك تغضنات جبينه وتمسح بحنية -أم- على ملامح وجهه
ليفتح عينيه بابتسامة هادئة قائلاً بخفوته المريح للفؤاد:"يامرحبـا يا ضي عيني"
تبتسم له بهدوء فيقترب ويحتضنها ويُقبل رأسها قائلاً:"اشتقت لكِ يا بنت، علميني كيفكِ؟"
علمت أنه لا يود الدخول لشقتها مع الفتيات لخصوصيتهن - برغم وجود غرفة لها ولعواصف في شقته إلا أنها فضلت البقاء في الأخرى-ويبدو بأنه لم يدخل لشقته مع سماهر بعد
بل وصل وبقي ينتظرها بجانب الباب، لتبتسم بحنية:"أنا طيبة، رجعت قبل دقايق من المركز الصحي وطلعت للبقالة القريبة مع البنات"
ليهز رأسه ويقول بضيق:"لاتخرجون مرة ثانية دون علمي تعرفين أوضاع العاصمة.. وانتِ أمانة برقبتي -بسخرية- أمّني زوجكِ عليها، قبل أعرف بإنكِ -من دمي-"
تبتلع غصة عنيفة لذكر زوجها مع ذلك تقول برجفة:"عاصي"
تنهد عاصي يشيح بوجهه عنها يخفي وجعه الذي يدمي روحه، مازال يتذكر اللحظة التي قصمت ظهره
عندما علِم بأنه من صلب -الرجل الذي لطالما كرِهه- يا الله
وكأنه البارحة علِم.. عندما عاد لمنزله بعد مهمة تأمين خروج الأسلحة من أسدام إلى أرماء قبل سدّ المخارج من قِبل الديجوريين وقبل معرفتهم بالمدخل السري، على جسده يطفو الإرهاق وقلبه مُهشم من شدة الوجع على حالة عمّار أما روحه فتحطمت من الدمار الذي حل على وطنه بسبب آثار الإنتفاضة العنيفة
وهاهو ذا يعود قبل موعد حظر التجول الذي فرضه عليهم المحتل فرضاً!
تستقبله سماهِر بوجه شاحب إثر خوفها من دوي القصف الذي عاد بشكل عنيف تقول بقلق غاضب:"وين كنت لهذي الساعة؟ انت ماتعرف بأنك مسؤول عن عائلة!"
قطب باستياء فهو في وضع لا يخوله لخوض نقاش محتد معها فقال بسخرية:"صحيح لو أرسلوا عليكم صاروخ كنت بفتح فمي وأبلعه قبل ينفجر عليكم.. روحي بس يا سماهر الله يرضى لي عليكِ"
رمقته بغيظ فالأكيد أنه لايعلم أنها ومنذ ثلاث ساعات تبكي من شدة الرعب، فحالة أسدام بل القسط كلها ومنذ خمسة أيام مخيفة خاصةً بعد تصدر الخبر (قـسط الجوى -تنتفض-) وبالطبع لن تصمت الديجور! لتقول بقهر :"لو ماكنت قدها لا تتبَجح انت تعرف بأننا مازلنا..."

جحظت عيناها بهلع عندما تقدم خطوة كبيرة نحوها مُعتقلاً كتفيها بحدة، يهمس بغضب:"أعجبك وضع الأخوان اللي حنّا عايشينه صح؟ بين كل لحظة ولحظة باقي على بر وباقي على زفت..سماهِر ترى والله ماهو عاجبني وودي آخذك وهاللحظة وبهالمكان بس لأجل تنهين فصول كلامكِ الغبية واللي تستفز كل خلايا جسدي وأنا اللي مابي طاقة للحياة حتى، لذلك اسكتي.. تعرفين إني ما أغيب إلا للشديد القـ.."

بُترت كلماته عندما صدح صوت جرس المنزل فابتعد عنها بجبين متغضن تاركها بوجهٍ متورد بسبب إنفعاله وكلماته التي أربكتها، لكن من يلومها.. تأخره وبكاءها خوفاً من هذا التأخر، خوفها من أنه أُصيب أو مات خاصةً مع وضع الوطن المتدهور!
التفتت لهمسته:"من بيجي قبل الحظر بدقائق!!"

خطت خلفه تود رؤية الطارق لكنه رمقها بحدة فتأففت تعود أدراجها للخلف، ليسحب مسدسه من خلف ظهره يدسه خلف الباب ويفتح بيده الأخرى يطُل برأسه ليرى جسد ضئيل يلف نفسه بعباءة قاتمة ووجه وضّاء فقط هو ما يظهر منها ليعيد المسدس بحركة سريعة لحزامه يشيح بنظره عنها قائلاً:"تفضلي يا أخت كيف أقدر أسا..."
سكت بحاجب معقود عندما سمع صوتها الباهت برجفة بكاء:"عاصي.."
هز رأسه دون النظر لها:"وصلتِ خير.. تفضلي أختي عسى ماشر؟"
لتقول بذات الرجفة:"أرجوك ناظر عيوني"
لتجحظ عيناه من طلبها فيرتبك ويعود خطوة للخلف ينوي مناداة سماهِر للتعامل مع هذه المجنونة إلا أنها قالت ببوادر بكاء:"أرجوك، انت عاصي الياقوتي صح؟"
يرفع رأسه بتيه لا يفهم ما الذي يحصل، ميّز ملامحها بتلك النظرة فأشاح نظره بانصعاق هادراً بغضب:"انتِ مجنونة؟ ليه خرجتِ من البيت؟ تعرفين عاقبة خروجكِ بوقت الحظر..!"
كتمت بسمة باكية وهزت رأسها:"لاتخاف أعرف وماخذة احتياطاتي.. ظنّك الديجور راح يقدرون علي وأنا أمشي مع مقدم ديجوري..!"
يعقد حاجبيه بعدم فهم، وعقل ينضح بالغضب العارم..تلك السكون الغبية زوجة صديقه الذي يكون أغبى منها..لكن عيناه تجحظ أكثر وهو يرى عواصف تصعد درجات المكان بوجه متورد ويبدو أنه من شدة البكاء..نظرات عيناها كانت بها لمعة غريبة ولكن ليس هذا ما استنكره
بل عندما سارعت بخُطاها باتجاهه ترمي نفسها دون تحفظ بين ذراعيه، لتتجمد كل أجزاءه ويثبت مكانه دون حراك وكأنه قد تحول لجماد
حتى عندما صرخت سماهر بجنون لمرآهم بعدما اقتربت لترى سبب تأخره وعندما فزعن أخواتها خرجن بإسدال الصلاة ليروا مايحصل حتى شاركنها الصراخ وهن يرن امرأة تدس وجهها في صدر زوج أختهن.. وأخرى تقف بوجه محتقن من شدة كتم البكاء
ليقلن بالتتابع وكالعادة:"يا مصيبتنا وقدام البيت، هذا المجنون، وجايب ثنتين بعد!!"

أما الثلاثي فلم يكونوا في إطار يسمح لهم بالإنتباه لما حولهم، لقد كان يسمع صوت نحيب عواصف بشكل أخل كل اتزانه..صغيرته التي ربّاها بيديه ليعيش فقدانها بأبشع طريقة ثم يعلم أي حياة بائسة عاشتها لتحمل وطنها للنصر لم يراها تبكي يوماً بهذا الإنهيار سوى لحظة قتلهم لذلك اللعين الذي اتضح أنه لم يمت أصلاً!
متجمد بمكانه ولم يرفع رأسه إلا عندما سحبت سكون عواصف من بذلتها العسكرية قائلاً بعبث محبب:"أنتِ مقدم ولك كل الوقت..أنا مواطنة مسكينة لو شافوني بالشارع سجنوني"
ابتعدت عواصف بوجه قد تورم من شدة البكاء
تماماً منذ اللحظة التي عادت للمنزل واستقبلتها سكون ببكاءها الحاد بعدما خرجت من صدمة موت يوسف التي فجّرها والدها بقلبها لتصارحها بالحقيقة وبعد ساعات من البكاء هاهن هنا.
تلتفت لها ضاحكة ببكاء:"تظنين بتركهم يضرون أختي الصغيرة؟ والله غير أقلب مركزهم"
ترمش بمحبة وتنقل نظرها لعاصي الذي مازال كالصنم يقف بمكانه بعدم فهم وكأنه قد جُر لمشفى مجانين لايفقه من كلماتهم شيء.. لتلمع الدموع بمآقيها وهي تقول:"له عيون عمران يا عواصف"
تهز رأسها، تعقد ساعديها لها تمنع رجفة جسدها غير منتبه للفتيات الواقفات بجانبهم تكاد أعينهن تخرج من محاجرهن يتأملن الموقف وتضخم أختهن نتيجة كبتها لغضبها ليتضخم أكثر عندما اقتربت تلك الضئيلة ترتفع على أصابع قدميها تمرر يدها على عيني عاصي قائلة برهبة:"تشبهه وكأنك خرجت من إطار صورته وتمثلت قدامي..يارالله كم تشبهه"
لتتحرر سماهِر من صدمتها واخيراً فتقترب لتدفعها بحنق هادرة:"مبارك، وش هالفضيلة اللي تعيشينها! تحضنون رجل وما باقي شيء وتعيشون بحضنه بس لأنه يشبه شخص تعرفونه؟"
تنظر لها بتوتر وكأنها لم تنتبه سوى هذه اللحظة للموقف وزواياه..فتحولت حمرة البكاء لحرج تنظر لعواصف التي تحفزت بسبب أسلوب سماهِر الحاد.. كسى وجهها الخجل وعادت خطوة للخلف فاصطدمت بشادن التي دفعتها على شدن فدفعتها الأخرى على شامة فكادت تسقط لولا الجدار الذي ثبّتها وهي تنظر لهن مصعوقة ينظرن لها نظرات بريئة.. ارتبكت وهي ترى عواصف تهدر فيهن بعنف فاستقامت بعجل تشير لهم، تبلع ريقها قائلة:"أنا سكون عمران.."
تنظر لها سماهر بطرف عينها وهي تقف أمام زوجها الذي يحرك عينيه بتيه لتشير سكون على عواصف:"وهذي أختي.. عواصف -ضحكت ببكاء- عمران ..!"
يزداد تغضن جبين عاصي بشيء من الذهول لتشير عليه بكفها المرتجفة ولؤلؤ عينيها يتساقط مدراراً على صفحة وجهها:"وهذا عاصي..عمران..أخونا..!"
افترش الصمت المكان برهبة..ينظرون لبعض كمن تلقوا خبر لا يُصدق قد قيل من أحد الهاربين من مستشفى المجانين ليتحرر الصمت بصوت شدن:"وش هاللي ينقال؟ اللي نعرفه عاصي الياقوتي ماله خوات ولا لا يا سماهر!"
تتحرر سماهر من صدمتها لترى سكون تغطي فمها بيديها وتنظر لعاصي بعينان تذرفان الدمع كالمطر لتنظر لعاصي الذي لم ينبس ببنت شفة يرمقها بجمود ليقول اخيراً بصوت صلب:"هذا جنون..!"
لتقف عواصف بجانب سكون تنظر له بهدوء مُتعب:"هذي حقيقة ياعاصي.."
يهز رأسه بالنفي بشكل مخيف، ينظر لهم بحدة لتبكي سكون اخيراً بصوت مسموع تقول برجفة:"من بيصدق أصلاً كل هالجنون.. كله منه
هو أعطاني التقرير لي أنا.. هو رماني للدوامة هذي لوحدي دون رحمة.. ثم تركني وراح
من بيصدقني يا عواصف..؟"

يعم الصمت المكان للحظة قبل أن يقول بذات الجمود:"من تقصدين؟"
تتكفل عواصف بالإجابة بذات الإرهاق:"يوسف.."
يعقد حاجبيه بعدم فهم:"يوسف..؟ يوسف مـ.." يصمت بسبب زيادة حدة بكاءها لتقول عواصف باقتضاب:"هو دس التقرير بشنطتها.. التقرير اللي يفيد بأننا يعني أنا وأنت أبناء الوزير عمران.."

ينظر لها بعدم فهم للحظات قبل أن يتذكر توصية يوسف على -سكون بالذات- ليلحقها بجملة لم يفهم معانيها (لو جاتك بنفسها لو تحررت من صدمتها ولجأت لك صدِقها ولا تردها عن بابك
تراها جاتك لأنه حقها بالجيَة)

ابتلع ريقه بصعوبة ليرفع يد مرتعشة بغير وعي:"التقرير..؟"
تقترب سكون بتخبط مثير للشفقة تفتح حقيبتها وتُخرج ورقة قد تمزقت بعض أجزاءها وتبللت بدمع عدم التصديق لتمدها له فيأخذها يقرأ مابها بجمُود للحظات قبل أن يتحول لـصدمة،دهشة،عدم تصديق
ثم لشيء أشبه بالوجع استحلّ روحه وجعل الرجل الضخم القوي يكبح أدمعه بصعوبة شـديدة
أيكذب؟ ويخفي شعوره ناحية عواصف منذ صغرهم؟ شعور الإنتماء الذي غمره بأول لحظة رأى سكون في المركز الصحي والذي كذّبه ونفاه بخوف؟
أيُكذب تقرير طِبي أشرف عليه يوسف بنفسه؟
بالطبع.. فيوسف إن كذب على تلك المسكينة وبسهولة أنه مات، وهو حي يرزق يرهب كل معشر المرتزقة فلماذا لا يكذب بهذه النقطة
هاجس أتاه وهو يعلم أنه بسبب الصدمة فحسب
لذلك استغله وهو يرميه بعدم اهتمام قائلاً بجمود:"ما راح أصدق هالترهات ممكن أي شخص يزورها.. إذا كان اللي تقولونه صحيح فبتأكد منه بنفسي"
تنظر له عواصف بحدة وهي تريد أن تهم بخدش وجهه بأظافرها لولا تصرف سكون السريع وهي ترفع طرف حجابها وتنزع شعرة من شعرها قبل أن تمدها له بيدها المرتعشة دون كلام
تكز عواصف على أسنانها بغضب لتسحبها بغضب:"اتركيه هالمجنون.. على أساس ميتين على ضمه لسجل العائلة.. عساه ماصدق تعالي يلا لأجل.."
لكنها سكنت بسبب إحتضان سكون لعضدها ونظراتها المتوسلة لتضرب الأرض بعنف وتبتعد بخطوات واسعة عنهم تنزع قبعتها ثم تسحب شعرة بيضاء من شعرها تطويها طياً بين كفها وتقترب لتضعها مع شعرة سكون قائلة بغضب:"خذ راحتك بالتأكد يا غبي.. مادام هو بنفسه اللي سوى التقرير ظنك بيكذب.. ظنك بيحتال؟ ماخبرتك تكذبه وانت اللي تهديه روحك على طبق من ذهب"

قالت كلماتها وهي تسحب سكون سحباً والتي قالت بنبرة بكاءها التي تقطر وجعاً:"بنتظرك ياعاصي.. أنا صدقت وبنتظر تصديقك..-ضحكت من بين بكاءها- يا أخوي.."

راقب ابتعادهم بجمود قبل أن يشد على قبضة يده غير منتبه للمشدوهين بجانبه ليتخطى وقوفها يسحب معطفه وينوي الخروج تعترضه بصوت باهت من الصدمة:"عاصي.. وين رايح؟ حظر التجول بدأ واللي صار.."

قاطعها بصوت صلب:"قفلوا الباب عليكم.. ولا تخافون علي بتأكد من الجنون اللي انقال وبرجع"

قالها وقرن كلماته بخروجه وسط شهقات أخواتها:"عنده أخت بطولي.. أختين ياغبية.. يا صدمتك يا سماهر ووحدة منهم خاينة تلبس بدلة عسكرية ديجورية"

تنظر لهن بتشتت سرعان ما صرخت:"ليه خرجتوا أساساً انتِ وياها؟ داخل لشقتكم قبل..."
تدافعن بالدخول مستعيذات بالله من شيطانها وبرغم أصوات الرصاص العالي وصوت الإنفجارات البعيدة إلا أنهن يعلمن يقيناً أن هذا الحي أأمن حي بالعاصمة حالياً! تغمض عينيها بصعوبة، تمسح على وجهها قائلة برجفة:"يارب هذا اللي عشناه حلم ولا واقع؟ أخوات بعد ثلاثين سنة! أي وجع بيعيشه هالمسكين لو كان حقيقة!!"
*
وكأنها علِمت.. هاهو ذا يقف بعد يومين كجبلٍ سقط بهوان وتناثرت كل أحجاره، بعينين تحتقن الدمع بصعوبة ووجهٍ واجم لا يناسب كبحه لدمع عيناه الشهلاء..وكأنما أُحتل وطنه من جديد
يا الله.. وجع معرفته بوجود أُختين عشن كل هذه السنين دون سند حقيقي وهو حي يتنفس ووجع الطيارات التي تطير من فوق رأسه هذه اللحظة يتنافسان ويتعافران بروحه!
رفع يده المرتجفة ينوي طرق الباب لكن الباب كان قد فُتح بكل قوة وصوت لهاثها الحاد يصل لسمعه وكأنها كانت تنتظره وتركض لأجله
وقفت أمامه بضآلتها وقامتها الصغيرة نسبةً له
بوجه وضاء يشع بضحكة نيرة وعينان تذرفان الدمع..لتنبجع شفتيها قائلة بثقة:"كنت أعرف إنك بتجي.. كنت أنتظرك"
رمقها بتشتت وملامح حائرة..لماذا تُشعره بكل هذا التوتر؟ متى أصبح ذو قيمة كبيرة لديها وهي من تعرفت على وجوده قبل أيام فقط
رفع التقرير بيده المرتجفة ليقول بصوت مُهتز بعد سنين من الثبات:"أنا..التقرير صحـ.."
لم تُعر باقي كلماته إهتمام وهي تقترب لتحتضنه بكل قوة تُمسك بطرفي قميصه من جانبي خصره وتدفن رأسها بصدره قائلة برجفة بكاء:"عاصي..أنت أخوي..مئة تقرير ماراح يشكك بهالحقيقة"
استشعرت تقلص عضلاته وزيادة نبضات قلبه بشكل هائل ليستشعر هو دمعها الذي أغرق قميصه فرفع يده المرتعشة يحتضنها بتردد وعندما قربها له أجهشت في بكاء عنيف تتشبّث به أكثر وأكثر.. فامتلأ قلبه بعاطفة فياضة لا يعلم متى ملأت جزءاً خاوياً بروحه لم يعلم بخواءه سوى هذه اللحظة.. لتفر دمعة حارقة غصباً عنه وهو يحتضنها بكل حنية متأوهاً من شدة وجع قلبه:"حسبي الله..حسبي الله على من فرق شملنا..حسبي الله"
كان يتحسب على من أفقده لذة هذا الشعور
وعلى من سلب من أخواته حق وجود سند حقيقي لهن في ظل هذا الوجع! لترفع رأسها بعد لحظات طويلة تقول ببحة بكاء:"أبـوي.."
أُعتصرت ملامح وجهه بشكل مُضني وهذا الخاطر بالذات يخنقه..رباه هو إبن خائن بعد كل هذه السنين في سبيل وطنه! أي خزي هذا! لقد انهار لأيام من فرط وجعه بعد ذلك!
لمحت الحرج يطفو على وجهه فغيرت الحوار بمرحها الرقيق:"ماراح تصدق عواصف إنك جيت بنفسك كانت تقول بأنك غبي لدرجة ماراح تصدقنا"
رفع حاجبه فضحكت ترفع يديها بجرأة غريبة على شخصيتها، تُنزل حاجبه برقة:"ماعليك أنا كنت واثقة فيك.. انت صديقه
هو أعطاك الثقة يعني بأنك قدها"
قالت كلماتها بثقة شديدة فعرف بأنها تقصد يوسف، يبدو بأنه تطرق لهذا الحديث معها
تزايد الحنق بأضعافه على صديقه وقد نوى رمي كل شيء وإخبارها بالحقيقة لكنه تشبّث بآخر خيوط التعقل وطلب الدخول لمنزلها مُنتظراً عواصف والتي مذ أتت وهي تتشاكس معه بمحبة وتقف بثبات عكس انهيارها قبل يومين فاستقبلته بقولها:"رجع للمجنون عقله! الحمدلله.."
لينظر لها بطرف عينه فتضحك وهي تدس نفسها تحت ذراعه بلا أي تحفظ وهو من شدة التأثر لم يمانع بل إحتوى سكون في الجهة الأخرى!
كانت سكون ترمقهم بأعين تفيض عاطفة..تشعر بأنها عاشت طيلة حياتها معهم
وإلا لما كل هذه الحميمة؟ لماذا وكأنهم قد قُدوا من قلبها فأصبحوا أجزاءً يتكلمون أمامها؟
كان عاصي هادىء جداً ومتسامح ناحية بذلة عواصف العسكرية..مما أثار من حفيظتها أنه لم يُعلق لم يغضب بل تقبلها بكل عيوبها..فأرجحت هذا لصدمته وأنه مجبور لتقبل أخواته مثلما رآهن
فبعد عشرات السنين لن يأتي ويغيرهن..
طبطبت على قلبها ببسمة مختنقة تكبح سيل دمعها على حبيبها لتهمس:"ماني مصدقة بموتك بليّا دليل..انت عايش بروحي يا حبيبي"

لتُصعق بعد يومان بحضور شهادة وفاته كيونس صابر.. ومرأى قبرٍ نُصب لتلك الشخصية تهاوت عزومها وكادت تفقد وعيها من شدة البكاء
في ظل تجهم وغضب من عاصي..يوازيه غضب عواصف وكبحها له بصعوبة!
*
عاد لواقعه يقول بحنية -خصّها لأخواته فقط-:"يا روح عاصي"
تبتسم، ترفع يده وتقبلها قائلة برقة:"أنا بخير..وأعرف إنك جاي تقنعني بعدم روحتي..أعرف إن عواصف جات تشكيني عندك.."
تجهم وجهه وقال بتأنيب غاضب:"سكون..للجنون حد! لكن تاخذين نفسكِ وتتطوعين مع فريق للذهاب لأرماء في ظل هالحرب هذا تعدى الجنون تظنين بسمح لك..!"
رمشت بهدوء ورسمت بسمة عنيدة على وجهها ليتأفف بحنق، يهتف:"لا تبتسمين هالبسمة
ماراح تروحين ولو اضطريت أكبّلكِ بالحديد
وماشاءالله حزمت الآنسة أمرها وجاية تأخذ أغراضها وتودع سماهر وخواتها..!"
اتسعت بسمتها واقتربت تُقبل وجنته فابتعد بحرج يدفعها، يكز على أسنانه:"اتركي عنكِ المياعة ويالله قدامي البيت..هالمرة بتنتقلين غصباً عنكِ لشقتي يكفي مصايبي تبين تبليني بمصايب ثانية..!"
رمقته بصدمة مصطنعة ورسمت البؤس ببراعة على وجهها لتقول:"احنا مصايب؟ صرنا ابتلاء صح ياعاصي؟ اللي تقوله صحيح ولا خوات بعد كُل هالسنين وش لك فيهم؟ اتركنا وكمل حياتك بدون مصايب وخلنا.."
قاطعها اقترابه المرتبك ووجهه المتغضن بوجع قائلاً:"وش هالحكي يابنت..لاوالله أنتم روحي
وحياة مابها وجع..ولكني خايف عليكم والله العظيم هذا قصدي.."
تكبح بسمتها بصعوبة..فقد قالت لها عواصف مرة أن عاصي منذ أن عرف بأمرهن وهو متغير بشكل واضح..لم يكن يلين أبداً وكان قاسياً بشكل كبير
لذلك هذه الملامح البائسة ألهبت روحها بمشاعر حنونة لتكمل قائلة بحسرة:"كل فريقي بيتجه معهم ياعاصي..ودك يقولون سكون ضعيفة
تركت مساعدة مقاومين وطنها وانت تعرف خروج المدنيين من أسدام بسيط كل المطلوب نخفي البطاقات الطبية -وبسخرية مريرة- صحيح إني درست آخر سنة هنا لكن انت تعرف بأن الوثيقة ورقة أقدر أخبيها وبس، وقائد التطوع الدكتور جمال شدّد على كلامه بأن حمايتنا واجبة وراح يأمنها بنفسه"

ضيّق عينيه بعدم ارتياح فتعلقت بذراعه بمسكنة ترمش ببراءة:"عصفوري تكفى"
تحولت ملامحه للصدمة وهو يدفعها بغلاظة لذيذة يقول مصعوقاً:"عصفوري؟ -أشار لجسده بصدمة- أنا عصفور؟؟؟"
تعالت ضحكاتها المحببة له وأشارت على قلبها:"انت عصفوري أنا ياعاصي..لذلك ايوه.. تكفى ياخوي لا تردني على الأقل وحدة من بنات عمران تهد ووحدة تبني!!"
عصرت الجملة قلبه عصراً وهو يعلم أن سكون لاتعرف بهوية عواصف الحقيقية ولا حتى بهويته
وبالرغم من سؤالها الملح على طريقة تعارفهم مع يوسف وكيف عاشوا طيلة سنينهم بالدار
ولماذا اختاروه هو ليكون حارس والدها.. لما لم يكن إبنه عاصي!! وهذا ما يجهله هو أيضاً!
أخذ نفس بصعوبة يفكر للحظات قبل أن ينظر لعينيها شبيهة عينيه فيبتسم بخفوت
تلك الإبتسامة التي تعرف معانيها -موافق-
لذلك رفعت يده وقبّلتها باحترام وهي ترفعها لجبهتها فرقّ قلبه وغرق بالعاطفة، يتذكر عندما قبّلته أول مرة قائلة: (هالعادة ما كانت من نصيب أبوي.. لأنه أخذ نفسه عن حياتي وحرمني منه وهو حي..لكنها من نصيبك انت ياعاصي
انت تستحقها)
اقترب وقبّل رأسها، يحتضن كتفيها:"يلا تعالي.. خلينا نشوف سماهر وش طبخت"
كتمت ضحكتها قائلة:"مكرونة محروقة..؟"
رفع حاجبه وكأن كلماتها لم تعجبه فتلاشت ضحكتها بحرج، ليكبَح ضحكته هو الآخر قائلاً:"أو مكرونة بالسبانخ"
تعالت صدى ضحكاتهما سوياً، يشدد من احتضانها أكثر لتقول بصدق:"ما أسمح لك تخطي على سماهر حبيبتي.. ترى لما حرقتها كان بالها مشغول بالأحوال العامة للبلد"
هز رأسه بضحكة:"صحيح والدليل سكبت السبانخ مع المكرونة وتركتها تسبح كأنها بين طحالب وآخر شيء تقول اخترعت أكلة جديدة، أنا مدري كيف تحملوا خواتها هالطبخ طول السنين.. كيف حبّوه.. كي.."

رسم بسمة واسعة فجأة بعدما التزم الصمت فاستغربت ورفعت رأسها لترى سماهر تقف بجانب الباب وملعقة خشبية بيدها ترفع حاجبها بتهديد لترى أخيها يكتم ضحكته بصعوبة، يشيح بعينيه قائلاً:"يلا حياكِ سكون على أفضل أكل ممكن تاكلينه بحياتكِ.."
تغضن جبينها بعدم فهم ليتسلل الإدراك لعقلها فتنفجر ضاحكة وتغرق أكثر بضحكاتها عندما قرص ذراعها قائلاً بغيظ:"اسكتي راح تمردغكِ بالسلاح اللي معها بعدين حتى أنا ما أقدر أنقذك"
لملمت شتات ضحكاتها بصعوبة داخلة للشقة بعدما سلمت على سماهِر..ليقف عاصي بجانبها
يشير بعيناه على الملعقة:"فيه زوجة تستقبل زوجها بعد غياب ثلاثة أيام بملعقة خشبية؟"
أمالت شفتيها بحسرة، تقول:"ايه إذا كان زوجها يوم حاضر وعشرة أيام غايب.. تستقبله بخيشة بعد..ليه عندك اعتراض..؟"

قالت آخر كلماتها بتهديد فابتسم قائلاً بمشاكسة:"أفهم من كلامكِ بإنك زعلانة من غيابي!"
رفعت كتفيها بعدم اهتمام، تنوي الولوج للشقة فتخطته بخطوة:"ما يهمني..من البداية قلت لك غيابك ماعاد يعنيني.."

شهقت عندما سحبها وألصق طرف جسدها على الباب قائلاً بحاجب مرفوع:"واللي تتصل فيني أربعة وعشرين ساعة من الخوف؟ واللي أرجع وهي تنتظرني بجنب الباب وعيونها متقرحة من البكاء؟ واللي.."

سكت بسبب حِدة نظراتها فكتم بسمة هادئة قائلاً بترفع:"مايهمني كلامكِ أنا يا سماهر.. لأن دمعة وحدة من عينكِ تذرفينها بسبب غيابي تكفيني"
هدرت بقهر، تدفعه من ثقته المقيتة تلك:"انت من لأجل أبكي عليك يا بجيح..لما تغيب ما تسأل عن أحد وراك وأنا أتصل بس لأجل يكون عندي علم لامت أعتكف أربع أشهر بعدك"

رمقها بصمت للحظات قبل أن يقول بسخرية:"وعشرة أيام يا شُعلة من نار"
ضربته على كتفه بخفة من الغيظ:"هالشُعلة بتحرقك بيوم من الأيام بإذن الله"
ابتعدت عنه فسمح لها بالمرور ليضع كفيه بجيبي بنطاله يراقبها بصمت..يلومها على طباعها الحادة معه؟ بالطبع لا
يستحق كل هذا الجفاء والكلمات.. فهي لم تسامحه أبداً بعد تركها لأيام طويلة بعدما امتلكها ثم عدم تبرير غياباته.. فعلها مع أربع غيرها فلم يتحملن لأشهر
أما هي فمشكورة لأنها بقيت طيلة هذه المدة.. يرجح بقاءها لعدم وجود ملجأ لها غيره في هذه الظروف.. تنهد وقبل أن يغلق باب شقته التفت للباب المقابل لينظر بدقة قبل أن يقول:"معيّنكم مراقبات على بيتي وزوجتي وأنا أجهل؟؟"
قال الجملة فسمع الشهقات الثلاث وخطوات تطوي الأرض طي فكتم ضحكته يهز رأسه بيأس
لا يتضايق أبداً من تصرفاتهن التي تبدو أحيانًا طفولية فهو بات يعلم أي قلوب نظيفة يمتلكن
دخل ليسمع ضحكات سكون مع سماهِر فينبلج النُور بصدره يراقبهما بمحبة سخية..وتمنى لو أن عواصف تستطيع المجيء إلى هنا
لكن للأسف..بعد كل هذه الأمور لا تستطيع الإقتراب من هذا الحي تحديدًا خوفاً من الثوريين..
*
*
في المقر السِـري..

تسند رأسها على طاولة الإجتماعات..تستمع لضوضاء الأعضاء، مناقشاتهم العالية وهتافاتهم
ترفع رأسها بإرهاق عندما سمعت إحداهن تقول:"طـوفان بيتجه لآخر سجن لأرماء"
ليرد الآخر:"ينوي تحريره وهذا آخر أملنا في إنقاذ الفريق اللي أُسر قبل ثمانية أشهر"
تتنهد تلك بحسرة لتقول:"الله يسدد خطاهم ويرجعون أشبالنا"
لتمنع مرجان دمعة يتيمة من الترقرق وتكبحها بعنف تردد بقوة ضعيفة:"ماببكي..ماببكي..ماببك ي.."
لتقف مستمدة بعض الصمود من همساتها لتتجه إلى جهاد تقف قائلة بهدوء:"ياقائد..هذا آخر سجن وإن مالقيناه.."
نظر بهدوء للشاشة التي أمامه دون أن ينظر لها ليصمت دون رد.. تكزّ على أسنانها قائلة بغضب مكبوت:"بتوقفون عن البحث عنه؟ لو سويتوها قسماً بالله ما يردني أحد عن البحث عنه بنفسي
لاتظن وقوفي هنا ضعف مني..والله ما وقفني إلا مخافة من عتابه لا لمحني خارج أسدام وهو اللي وصاني ما أخرج منها إلا بموتي"

شد على قبضة يده وقال بضيق:"شواظ بخير يا زمهرير..احنا نبحث عنه بكل مكان، لاهو ولا بقية أفراد الفريق راح يصيبهم شر"
قالت بغضب حقيقي محاولة إخفاض نبرتها:"هذا كلامك قبل ثمانية أشهر يتكرر مثل مسجل متعطل ولا شفته يا قائد..أنا أبغى أعرف على الأقل خبر واحد يكفيني.. لو كان عايش أو استُشهد"

نظر للمكان بلوعة..وهذا ما يتمناه هو أيضاً
فمنذ أسره مع الفريق قبل ثمانية أشهر وهو يكاد يُجن!! ولولا معرفته بأن -يوسف والآخرين- يتكفلون بالأمر لجُن جنونه فعلاً! هذا شعوره وهو مجرد قائد
فكيف بهذه المرأة التي تدّعي الثبات؟ بعد رؤية أشلاء طفلها تزين الأرض وانفجاره أمام عينيها
ثم حرب طاحنة لم تستطع رثاء إبنها بسببها
ثم تُصعق بأسر زوجها.. لم تستطع التنفس حتى..!

يتنهد ليقول بخفوت:"المهمة الأخيرة بيشتركون فيها كل أعضاء فريقنا.. وفريق أرماء راح يمهدون الطريق للفريق الطبي التطوعي لمساعدة المقاومة دون علم الديجور والمرتزقة.. وبإذن الله راح يمشطون المنطقة ويقلبون كل الأحجار
ولو ما لقيناه بأرماء راح ننتـقل لـ -تبور- نحررها وندور على أبطالنا فيها ولو لقيناهم أسارى دفعنا الغالي والنفيس لأجل يبادلونا"

لتقول بنبرة ساخرة:"ولو كان البدل أبو عكاشة..؟"

ليرمقها بغضب قبل أن يشيح بنظره بعجل:"أبو عكاشة ماهو في قائمة تبادل الأسرى أبداً يا زمهرير سبق ووضحت"
لترد بوجع:"لو كنت رضيت لكان عمّار بيننا الحين..لكان بخير
لكنك تخليت عنه وعن فريقه في سبيل بقاء هالمجرم معك"
ليقول بغلّ:"هالرجل مجرم..سفااااح لو خرج راح نرجع نلم أشلاء الجثث بعده.. هالرجل قتل أكثر من خمس مئة رجل تعرفين ولا لا! وبرغم ذراعيه المقطوعة واللي قطعها عاصي بيدينه مازال طاغية.. وتبغين أبدله ب.."

سكت عندما سمع طريقة تنفسها السريع دلالة غضبها فرفع يده يقاطع النقاش:"انتهى يا زمهرير.. أنا أعرف أمور شغلي أكثر منكِ.. وشواظ بيرجع"
قالها وابتعد فكتمت دمعها بصعوبة.. رباه
لماذا لايفهمها أحد؟ في روحها نار لا تُبقي ولا تذر
تلتهم كل أعضاءها بلا رحمة..خاصةً قلبها!
كيف تقنعهم أنها من دفعته دفعاً لتلك المهمة اللعينة.. ليس قولاً
لكن بأفعالها.. لقد حملته ذنب موت طفلها وغادة
لو لم يُرسلهما لأهله في المنفى.. لو لم يُصر على ذهابهما لكانا بخير.. ليتحمل غضبها ثلاثة أشهر وعندما فاض الكيل ذهب في أول مهمة بعيدة عنها.. ليذهب بلا عودة!
تكبح دمعها، تشد على قبضة يدها هامسة:"كل فريق الجوى.. أتمنى إنك ما استثنيتني يا قائد لأني بنفسي بروح.. ماعاد ببقى منتظرة وهو يعاني بسببي"

خرجت وهي تُمسك حقيبتها.. تلمح نظرات الشفقة بعدم اهتمام.. حسناً لا تلومهم
فهي أصبحت كالشبح تهيم على وجهها في هذه الأرض..نحيلة تكاد تختفي، حتى عظام وجهها برزت بشكل مخيف وعيناها أصبحت حفرتين غائرة بألوان داكنة حولهما.. لكن أيلومها أحد على حالها؟ وصوت صراخ الإنفجار يدوي في أذنيها طيلة عام؟ ومرأى طفلها وغادة يؤرق مضجعها؟ وفقدانها لعمّار يكسر ظهرها؟
سالت دمعة يتيمة لتهمس بقوة وهي ترى عاصي يدخل المقر:"سامحني ياعمّار لأني ماراح أمشي على وصيتك..سامحني يا حبيبي ولكن مرجانك
تعبت بدونك.."
تذكرت بسخرية آخر لقاء لها معه وهي تنفجر قائلة له(تعبت منك تعبت معك..اتركني بحالي) ليتركها بأبشع طريقة!!

تتنهد محاولة إزاحة الجبل عن قلبها لتهمس بصلابة:"بنقذك بنفسي لو كل الفرق ما قدرت تنقذك!!"



انتهى الفصل~
قراءة ممتعه..



فاطمة صالح. غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:05 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.