آخر 10 مشاركات
88 - لو كنت حبيبي - ربيكا ونترز (الكاتـب : فرح - )           »          393 - معا فوق النجوم - جوليا جيمس - أحلام الجديدة ( كتابة / كاملة ) (الكاتـب : monaaa - )           »          352 ـ حررها الحب ـ روبن دونالد ج.3 (كتابة / كاملة )* (الكاتـب : Just Faith - )           »          328 - العروس المتمردة - جوليا جيمس - أحلام الجديدة ( كتابة / كاملة ) (الكاتـب : داماريس - )           »          102 - لن نموت غداً - مادلين كير (الكاتـب : عنووود - )           »          الاعمى والحب - أن جيبكوفسكى - روايات عبير الجديدة المركز الدولى (كتابة/كاملة)** (الكاتـب : samahss - )           »          رواية ناسينها ... خلينا نساعدكم [ أستفساراتكم وطلباتكم ] (الكاتـب : × غرور × - )           »          أكتبُ تاريخي .. أنا انثى ! (2) *مميزة ومكتملة * .. سلسلة قلوب تحكي (الكاتـب : كاردينيا الغوازي - )           »          في أروقة القلب، إلى أين تسيرين؟ (الكاتـب : أغاني الشتاء.. - )           »          480- أسيرته مدى الحياة -شانيتل شاو -(كتابة /كاملة ) (الكاتـب : Just Faith - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء

Like Tree499Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 04-06-23, 06:53 PM   #81

فاطمة صالح.

كاتبة في قسم الروايات والقصص المنقولة


? العضوٌ??? » 506671
?  التسِجيلٌ » Sep 2022
? مشَارَ?اتْي » 81
?  نُقآطِيْ » فاطمة صالح. is on a distinguished road
افتراضي



الفصل الثامن والعشرون

ماشاء الله، تبارك الرحمن
اللهم صلِّ على محمد

*
*

هتافات عالية، ضباب الغاز يحرق الأعين
إلتحامات جسدية عنيفة، عشرات الحجرات
تحذف على أجساد العساكر، وصوت إطلاق الرصاص لم يكن بالهيّن
تراقب ثورة أبناء أسدام بقلبٍ مضطرب، أتفرح أم يتخلل قلبها الوجع على حال وطنها!
بدأت الإنتفاضة منذ عشرة أيام وهذا يوم جديد يتحملون به المظاهرات الصعبَة، خاصةً مع حالتها النفسية المضطربة بدايةً من وضعها مع سلام الغريب نهايةً بمعرفتها بأن الرجل الذي لطالما آواها بصغرها يكون -أخاها- والمرأة التي لطالما أسمتها -توأم الروح- أختها!!
وهي إبنة لرجل لطالما كالت عليه بالشتائم!
أغمضت عينيها للحظات لتفتحها فترى فريقها يحاول دفع جموع المتظاهرين بشراسة..إلاه!
كان يمسك الحاجز الزجاجي، يقف ثابتاً بمكانه بخواء مقيت إرتداه منذ تلك اللحظة! لم يكلمها ولم ينظر لعيناها..هو حتى لم يعد يراها وهذا الشيء ينحرها!
كانت ستنزل لمواجهة إنتفاضة شعبها بنفسها لكن الرائد الذي سحبها من معصمها قال:"هل جننتِ؟ لو واجهتيهم سيقطعونكِ إرباً إربا!"
إلتفتت له بشراسة، تسحب معصمها وتبعده عنها ليقول بغضب:"هؤلاء الملعونين..قتلوا قائدنا وما زالوا يثورون! اللعنة عليهم لم تسلم أي قاعدة عسكرية في الديجور لقد دكّوها دكاً خلال العشرة الأيام السابقة ولا نعلم سيقصفون ماذا
بالرغم أن بعض الصواريخ قد صدّتها مضاداتنا لكن الباقي نجح بالعبور!!"

أخفت بريق السعادة بصعوبة، تعقد ساعديها بصرامة لتجحظ عيناه وهو يهتف:"لاتطلقوا الرصاص بالقرب من المركز ياحفنة الأغبياء"

لكن لم يكونوا يسمعوا فقد بدأت المظاهرات تشتد ومنهم من هجم على الجنود بالأسلحة البيضاء فلجئوا لأسلحتهم ليفرغوا الرصاص في الهواء والبعض يرميه على المتظاهرين
حتى اضطرّ فريقها للتقدم يدفعون المتظاهرين دفعاً.. لتفتح عيناها فجأة بشكل مخيف وتصرخ بفجعة:"لالالالا، إبتعد يا مجننووون"
لكن صرختها العنيفة ضاعت مع الأصوات العالية
لتهرع بجنون ناحية جسد سلام المسجى على الأرض تنظر للرصاصة الطائشة التي إخترقت صدره لتصرخ بعنف في جنودها وتأمر بتفريقهم بالقوة ثم تحاول سحبَه متناسية فرق الحجم الجسمي
لكنها تتذكر جيداً أن قلبها مقاس قلبه تماماً.

تلك الصورة له وهو غارق بدماءه كانت آخر ما اختزنه عقلها له..حيث أن بعد ذلك الهجوم لم تراه.. لقد عاد للديجور بسبب إصابته الخطيرة
وتباً، حتى أنها لم تعلم حالته كيف أصبحت وكيف هي أحواله فقط تعلم بأنه -حي- وهذا يكفيها!

عادت للواقع، تفرك وجهها بتعب لتهمس بغيظ:"اللعنة على الديجور وجنودهم وبلدهم وقيادتهم كلها"
لتسمع صوت طرقات الباب فترفع صوتها بالإذن ليدلف العسكري طارقاً التحية باحترام:"سيادة المقدم..السيارة جاهزة لإستقبال القيادة الجديدة..لم يتبقَّ سوى القليل لوصول الطائرة"
تمتمت بالدعاء بأن تنقلب بهم الطائرة أو تتصدى لها مضادات بلدها الجديدة لكنها همسات لروحها:"اللعنة عليهم عرفوا يحتلون المناطق الصح..تبور وأسدام والجِبلة.. كلهم تحت سيطرتهم بالتالي المضادات ماتقدر تتصداها إضافة للجارة الغدّارة اللي تسمح بمرور طياراتهم..اللعنة عليهم"

لم يتبين بملامحها شيء من وجعها وغضبها..حتى وهي تقف بوسط الساحة الكبيرة بمهـابتها المُعتادة ونظرة باردة طالما لازمتها حتى بعد سنة مُدمية للروح والقلب! وبمكانتها التي تُظهر خيانتها بينما قلبها يصرخ للقسط بحبه!
في حين تراجع فريقها والرائد للخلف بسبب الهواء العنيف الذي دمر ركود المكان نسبة لوصول الطائرة.. بقت ثابتة تنظر بعمق لوقوف عجلات الطائرة على المكان.. الباب يُفتح
تُرى من هو القائد الأعلى الجديد؟ بعدما قُتل الأول وزلزلوا المكان لأجله بفرق تحقيق وصواريخ دمرت نصف البلاد وغضب قيادة الديجور حتى أنهم بقوا دون قائد أعلى لمدة سنة كاملة..من هو الآن الذي سيُكمل مسيرة الإحتلال والطغيان؟

فلتت نبضة مصعوقة من قلبها..واتساع شهلاءها بدهشة دليل كافي أن من حضر ليس من ضمن توقعاتها!
(تباً.. تباً.. تباً!!)
ابتلعت ريقها بصعوبة تثبت يديها للخلف
تنظر له بعيناها الذاهلة ووجهها الشاحب..
بثقته المعهودة، رأس مرفوع، ووجه غاضب بملامح متشنجة! يستحيل أن يكون هذا -سلام- الرجل الذي لطالما امتلك هالة دفء تحيط بروحها لمجرد رؤيته..!
رمشت بضياع تراه يستقر على الأرض وخلفه كتيبة كاملة يمشي بإتجاهها بخطوات واثقة
ينزع النظارة الشمسية بيمينه بطريقة أربكت نبضات قلبها يقف أمامها دون أن ينظر لها ثم بحركة جمدت كل أعضاءها إنحنى يلتقط وشاحها الذي لم تعلم أنه سقط عن عنقها بسبب شدة الهواء و ذهولها..ليرفعه ببسمة ساخِرة
وعينين سكن الشتاء مآقيها.. قال بهدوء وبـلغته:"اوتش..سقط الوشاح يا مقدم.."
سحبته بيد مرتعشة وبعقلٍ لا يعي شيئاً لتلفه بعجلة على عنقها وتستعيد بعضاً من قوتها لتقول بثبات زائف:"ماذا يحصل هنا؟ أين القائد الأعلى.."
إتسعت عيناها وهي تراه يعود خطوة كبيرة للخلف مع كتيبته كاملة لتُرفع الأيدي بحركة واحدة وتُرفع الأقدام في آنٍ واحد لتسقط على الأرض بدوي عنيف مزامنة بضرب أطراف أيديهم على رؤوسهم في تحية عسكرية مهيبة شلت حركتها وهي تسمعه يقول:"النقيب سلام أرسلان وكتيبته تحت أمر سيادتكِ.. حصل خطب ما مع القائد الأعلى مما أجبره على تأخير حضوره لأسبوع آخر..لكنه سلم زمام الأمور لي لحين حضوره"

أخفت رعشة جسدها تنظر لثغره الذي يتحدث بصوت ثابت لاحياة فيه، لتغمض عينيها للحظات وتفتحها بنظرة هادئة قائلة بسخط مغرور:"وهل أتيتُ لإستقبال نقيب؟ ماهذه المهزلة! كان لابد من إخبارنا بهذا يا حضرة النقيب سلام.. لسنا في وضع يخولنا لنضيع وقتنا بهذه الإستقبالات التافهة"

رمقها بنظرة ساخرة بينما الكتيبة أخفوا غيظهم بصعوبة من غرور هذه المتعالية والتي ذاع صيتها بالجيش الديجوري بشكل مخيف لتقول بلا إهتمام:" ولست بحاجة لتمسك زمام الأمور
أنا هنا.. وسنة كاملة قد أدرتها بإمكانياتي أنا،
ما معنى حضور نقيب ليستلم الأمور بدلاً من مقدم! هزُلت!!"

يبتسم، يجبر عيناه ألا تنظر لشهلاءها ليقول ناظراً للرائد الحانق بجانبها وبقية جُندها والذي كان بيوم ما يقف بجانبهم ..ينظرون له مشدوهين
ولسان حالهم يسأل: (متى أصبح نقيباً؟ وخلال عام فقط! ألم يذهب محملاً على الأكتاف برصاصة في صدره؟ متى عاد بكل هذه القوة ليناطح مقدماً كانت يوماً قائدة فريقه!!)

يهمس لها الرائد من خلفها بشيء من الحنق والتوتر:"سيادة المقدم رفقاً.. لقد كفّله القائد بنفسه لذا لا سلطة لنا..."

أخرسته بنظرة فابتلعها غاضباً لتقول باعتراض:"لم أصل لهذه الرتبة لأسمح لمن هم أقل مني بإلقاء أوامرهم علي، والآن الجميع إلى مهماته
لقد أضعنا الوقت بما فيه الكفاية وأوضاع أسدام لا تخولنا لإضاعته..!"

قالت كلماتها وألقت نظرة باردة على الجميع لتلتفت للخلف فينشق من خلفها لنصفين سامحين لها بالمرور بكل تباهيها وقوتها.. ليسمح لنظرة خائنة أن تنظر لابتعادها، يشدّ على قبضته قائلاً:"لقد عُدت يا عواصف.. لنرى هل ستبقين بهذه القوة التي تتبجحين بها أم لا"

أما هي فعندما وقفت أمام السيارة وأيقنت أن لا أعين تتربص بها، إنهارت مقاومتها وأمسكت بذلتها من جهة صدرها تعتصرها بعنف علّ هذا الألم يتلاشى، علّ نبض قلبها المخيف يهدأ
علّ دمعها لا ينحدر فيفضح ضعفها هذه اللحظة
سحقاً.. لقد عاد وأخلّ كل موازينها.. لم يكن هكذا قبل عام عندما تحول لشبح بعد قتله للقائد
ولا هادئاً بعينين دافئة، ولا حتى متباعداً بذات الهدوء
إنما وكأن شيطان تربّصه وأحال ربيع عينيه لشتاء مخيف! تغمض عينيها على دمعة يتيمة، تأكدت أنه تغير، حتى ذقنه نمى وهي من إعتادت على رؤيته بشارب فقط والرتبة تلك التي زينت كتفيه، همست بضعف وهي تبتلع دمعتها التي سقطت على ثغرها:"من أول لحظة لقاء أصبحت أشك بأني مريضة بأدق تفاصيلك أنا اللي ما أنتبه لنفسي وأنا أمر من الشارع"

سمعت صوت ضربات أقدامهم تعلن قرب خطواتهم لها فمسحت دمعها لتستعيد قوتها و التفتت بوجه وكأنه لم يكن يُعتصر ألماً قبل لحظات تقول بغضب:"أسرعوا.. أسأنتظر تمايع خطواتكم طوال اليوم؟؟"
لتلمحهم يركضون يكبحون غضبهم بصعوبة فتبتسم بانتصارٍ بداخلها،و تهمس:"الله ياخذكم..."
لكنها تغلق الباب بقوة تستغفر الله بقلب يرتجف ذعراً وهي تتذكر أنها قبل ساعات تدعو بسقوط الطائرة بمن فيها..تمسك قلبها بهلع، تهمس برجفة:"الحمدلله الحمدلله..ماصابه مكروه ما تأذى.. يارب لك الحمد"
أغمضت عينيها تضع رأسها على مقود القيادة تهدأ من اضطرابها لترفعه باستنكار من صوته العالي:"تحركي يا سيادة المقدم لنستطيع العبور بدلاً من إضاعة الوقت"

جزّت على أسنانها بغيظ لتبقى لحظات طويلة نكالاً له لمحاولته استضعافها أمام من هم أقل منها بينما هو كبح بسماته بصعوبة موقن تماماً أنه استفزها والدليل وقوفها ليرى السيارة تبتعد مسرعة تقودها لوحدها وانطلق مع الرائد الذي قال بغيظ:"نعتذر منك.. نظن أحياناً أن المقدم مختلة عقلياً وتعاني من اضطرابات لذا لا تأخذ بالك"

تتلاشى بسمته ليرفع حاجباً باعتراض قائلاً:"لا تتحدث عنها هكذا..هي نظامية جداً فقط، لقد إعتدت عليها فلا تخف"

نظر باستغراب ليستريح سلام على المقعد بإرهاق من رحلته المتوترة ليقول:"هل نسيتني يا رائد؟ ألم تكن أنت من حذّرني من عدم لمس وشاحها وقبعتها كي لاتطير رقبتي؟"

إتسعت عيناه بصدمة:"أنت المُلازم الأول؟!"
فتح عينيه ونظر له باستخفاف ليرفع كتفه:"أصبحت نقيباً"
رمش بعدم تصديق ليعود سلام لإغماض عينيه للحظات فقط قبل أن يعيد فتحها لُيصعق بمنظر أسدام.. رباااااه
لم يبقَ جدار سليم بهذا البلد.. لقد ثقبوا كل جدرانها! أترى سُكانها كانوا يبحثون عن النور
أم أن الديجوريين كانت خطتهم ألا يتركوا خصوصية لأي قسطي؟
رباه.. لقد احترقت بلاد الفُل ولم تذبل فقط!
أخذ نفساً بصعوبة يشد على قبضة يده
ليقول للرائد:"هل المقدم عواصف الودادي هي من تولت القيادة طوال السنة المنصرمة؟"
هز رأسه ليقول بغيظ:"كانت تتلقى الأوامر من الديجور لكن نعم..هي من تدير المركز هنا
وتُرسل بقية الأوامر للمراكز في تبور والجِبلة بينما الحصن يتلقى الأوامر مثلها من الأعلى"

هز رأسه، يحك طرف ذقنه ينظر لأسدام بنظرة غامضة..

*
في نهاية اليوم وكما اعتادت.. تجتمع بكل الكتيبة
في ميدان المركز المحاط بالحرس المسلحين طيلة اليوم.. وبعد مظاهرة جديدة من أبناء أسدام
تجلس على الطاولة المخصصة لها بينما البقية يقفون في صفوفهم كما اعتادوا، يلقون عليها حصيلة يوم إحتلال جديد لبلدها فتسمعهم بوجه ثابت وقلب يتمنى تفجيرهم جميعاً.. تلتفت لتقدمه منها، يا الله
يكاد قلبها يتفتت من شدة نبضه..هي لاتصدق وجوده منذ الصباح خاصةً بعد ما حصل بينهم
قتله للقائد لأجلها..كشف هويتها وبأنها خائنة
هو حتى لم يفضحها حتى هذه اللحظة..أتراه مازال يحبها؟ لهذا يحميهـ...
بُترت الكلمة، تراقب نظراته الباردة لتهز رأسها بنفي هامسة لروحها:"جاء ينتقم بنفسه لبلده.. هذا الواضح يا عواصف"

تلتفت للرائد الآخر الذي وضع قهوة سوداء على الطاولة ليقول:"تفضلي حضرة المقدم..."

لم يكد يكمل جملته ليرى سلام يسحب الكوب ويرتشفه بتلذذ قائلاً بعدم مبالاة:"المقدم لاتحب هذا النوع من القهوة ياسيادة الرائد"

تتسع عيناها بلهفة للحظة و بعدها بحنق عندما أكمل بسخرية:"أتريد أن تزيد مرارتها مرارة..؟"

تقف بغضب ليتراجع يرفع الكأس:"سآخذه أنا بما أنكِ لن تشربيه، شكراً سيادة الرائد"
ويلتفت قائلاً بذات البرود:"واعذريني لن أكمل هذا الإجتماع، أظن أن رتبتي باتت تخولني لأخذ مثل هذه القرارات صحيح؟"

رمقه الرائد بشيء من الذُهول ثم هز رأسه بإيجاب ليؤمى له سلام بابتسامة ساخرة ثم يبتعد بملامح متشنجة يقبض على الكوب بكل قوة يكاد أن يهشمه، يهمس:"اللعنة، مافائدة هذه الإجتماعات بكل هؤلاء الجنود سوى إضاعة الوقت.. أتراهم يعرفون أنها تتلاعب بهم ويصمتون خوفاً؟"

شيعته وهو يبتعد بعينين غاضبة لتسمع الرائد يقول:"لا تشغلي بالكِ به.. اكتشفت أنه شخص غريب الأطوار و..."

رفعت رأسها له لتصدمه بنظرتها الحادة و قولها:"لاتتحدث عنه.. ثم من طلب منك إحضار قهوة لي؟ هل فعلتها سابقاً لتفعلها هذه المرة..؟"

يتوتر في وقوفه ويشتم ارتباكه أمامها ليقول:"لأنكِ هنا منذ الصباح وظننت أنكِ تحتاجين.."
تقاطعه بغيظ، تسحب مسدسها وتدُسه بحزامها:"لا تظن، ولا تُقدم على شيء لم أطلبه منك حضرة الرائد.. -تلتفت للجنود قائلة- انتهى الإجتماع وعلى كل كتيبة أخذ مكانها كما أمرت، القسطيون مازالوا على أهبة الإستعداد ولم تخبت قوتهم، على كل المناوبين الإنتباه والتركيز عل مداخل المركز ومنع دخول أي مدني قسطي
ومن سيتجه للحي الديجوري ينتبه لكل مدني ديجوري؛ لأن أي جرح يلم به سيُعاقب الجندي بأضعافه"

رمقت الرائد بنظرة محذرة ثم ابتعدت ليضرب كفاً بكف قائلاً:"مابال هؤلاء المجانين..يتناقرون كالديكة كلما تلاقيا وعندما نحاول شتمهم يتحولون للدفاع.. مختلّين حقاً"

أما هي فكانت تختزن نظراته الباردة بقلبها الذي يُعتصر ألماً وشيء من ثباتها سقط بلا عودة بعدما ظنت أنها نسته خلال هذه السنة ليعود حاملاً كل مشاعرها التي خبئتها:"فيا عجبي مني ومنه ومن صبرنا .. على ما نُلاقي كيف نصبو ونصبرُ"

موقنة أنهما لن يعودا.. وهل اجتمعا أساساً ليعودا! إنما أيقنت هذه المرة أنهما عدوان
وليسا بصف واحد!

يُخرجها من وجعها رسالة على هاتفها الخاص من -سكون- لتقرأها باستنكار (أنا متجهة إلى أرماء.. انتبهي لنفسك ولا تخافين علي أنا بأمان الله)
شتمت بغضب، تتجه للسيارة: "منك لله ياعاصي كنت أنتظر منك تنهيها عن الروحه، وين شراستك اللي تنفض بها كل جندي وانت ماقدرت على هالبنية؟؟"

لتصلها رسالة أخرى على الهاتف السري تجعلها تستكين وتهدأ، وتغمض عيناها للحظات تعيد ضبط إنفعالاتها ثم تفتح هاتفها لتكتب لها (انتبهي لنفسك أنتِ.. تعرفين بإني بكون بخير أنا)

كتبتها بسخرية، تستذكر نظرات أختها لبذلتها بكل مرة، كلماتها العفوية التي لاتلقي لها بالاً وهي ترميها على الخائنين، وجعها وهي تحكي عن والدهم الخائن بينما عواصف بنظرها لا تبعد عنه.. من بين كل العالمين وطيلة كل أعوامها ودّت لو أن سكون الوحيدة التي تعلم عن هويتها الحقيقية.. قبل أن تعلم بأنها أختها
لأن نظرة منها فقط.. قادرة على بناء وهدم عواصف تماماً
إن كان -سلام أرسلان- يستطيع أن يطيح بنصف جبلها المهيب فـ-سكون- تحوله لرماااد بنظرة!
تفرك كفيها بكل قوة تكاد تعتصرهما من شدة توترها، ترفع رأسها تتأمل جنود الديجور يحيطون بالباص الذي استقلوه ليذهبوا لأرماء والدكتور المسؤول هو من ترجل ليتحدث معهم
ومنذ نصف ساعة ينتظرون الإذن بالعبور،
شيء يدعو للسخرية صحيح؟ أن تنتظر إذن للعبور في بلدك من شخص احتلّ أرضك عنوة!

ابتلعت الغصة العالقة بحلقها، تشد على عباءتها السوداء، ذلك السواد الذي علق على روحها وكُل تفاصيل حياتها منذ سنة كاملة
تحديداً منذ تأكدت أنه قد رحل عنها.. ليس يونس صابر فحسب.. بل زوجها، ذهب وأخذ كل الألوان من حياتها.

اشتعلت رعباً عندما ضرب أحد الجنود على ظهر الباص وهدر بلغته:"لينزل الجميع حالاً"
تشنجت برعب، أعرفوا أنهم فريق طبي تطوعي لمساعدة المقاومين والمتضررين بأرماء؟ أسيرمونهم في السجن بتهمة مساعدة الإرهاب كما سموهم!
تلألأ دمع الرعب في شهلاءها تتذكر إعتراض عواصف القاطع لحضورها وتردد عاصي .. قطع خوفها صوت هادئ رقيق إنما حازم:"انزلي ولا تخافين.. ما بسمح لهم يأذونكِ"

نظرت للمرأة التي ترتدي السواد كحالها إنما تخفي طرف وجهها تحت وشاح أسود، لم تعرفها ولم تتوتر من تواجدها فالأغلب هنا لا تعرفهم فقط متطوعون مجهولون
هزت رأسها تمنع نزول دمعها فترجلت بعدما نزل أغلب من كان في الباص، تنظر للمرأة تقف بقوة خلفها..لم يهتز لها رمش برغم كل جنود الديـجور المحيطين بالمكان
ليهدر أحدهم بصوت مخيف:"لتخرجوا هوياتكم جميعاً.. وأخبرونا لماذا ستخرجون من أسدام"

وقف كل جندي حول مدني قسطي يتفحصه
ليرفع أحد الجنود يده يحاول إزاحة الوشاح عن وجه تلك القوية إلا أنها دفعت يده بغلاظة جعلت ملامحه تتوحش، تقول:"لاتقرب يدك القذرة مني يا هذا"

اقترب بشراسة ينوي التمادي أكثر فكانت تنوي سحب مسدسها وإغراقه برصاصها بكل متعة إلا أن صوتاً صارماً أتى من خلفه:"ماذا يحصل هنا؟"

نظروا له فجأة ثم توقفوا عن الحركة يطرقون التحية باحترام؛ يقف ينظر لهم:"لماذا أوقفتموهم؟ أهم مخالفون؟"
نظر له الجندي بربكة:"لا سيادة النقيب، إنما أوضاع أمنية.. تعلم الوضع"

رفع حاجبه وسحب هوية -سكون- التي كانت بيد الجندي وهو يقدمها لها بعملية:"ليركب الجميع وليُسمح لهم بالمرور.. ماهذا العبث إن لم تجد ما يُشكك فلا تضيع الوقت بمثل هذه التفتيشات التي لا طائل منها"

أخفى الجندي ضيقه وهز رأسه باحترام.. لينظر سلام للمرأة التي تغطي نصف وجهها فيقول بلغتها بعدما شهد موقفها مع الجندي:"نعتذر منكِ"

نظرت له بدهشة، اعتذر لها؟؟؟ أهذا نقيب ديجوري أم أن أحزانها باتت تسبب لها تصدع بالرأس!
أشار للباص بالعبور بعدما ركب الجميع؛ ليكتف يديه ويشيعه بنظرات قاتمة متجاهلاً نظرات الذهول من الجنود.. ما الذي أحضر نقيب عسكري لمدخل أسدام بمثل هذه الظروف؟

أما عاصي الذي كان يمسك المسدس يكاد يفجره بين يديه، يراقب الموقف من بعيد وكان ينوي التدخل عندما لمح سكون تنزل لولا تشبث زميله به وهو يشدد:"اصبر.. لا تتعجل يا برزخ"
ليقول عاصي بغضب أخفى تحت طياته خوف رهيب:"قسماً بربي لو يمسونها بسوء لأحرقهم حرق"
تنهد زميله من تهور هذا المجنون وقال:"ماراح يقدرون، الأعين عليهم هذي التصرفات بس لأجل يفرضون سلطتهم اللعينة.. لاتخاف
وإن صار شيء احنا ما تكفلنا بحمايتهم لأجل نجلس نناظر لهم من بعيد..بنتدخل بس في الوقت الصح.."
صمت عاصي بضيق يراقب الوضع فاستنكر وقوف سيارة أخرى ثم خروج بضع جنود ليتحفز لولا رؤيته ركوب سكون ليسمع زميله يعلق:"والآن رجع المسدس مكانه راح نعبر من عندهم الحين"

أعاده بشيء من الإستنكار الذي اتسع أكثر عندما مر من جانبهم فأشار له -النقيب العسكري- بعدم إهتمام أن (مُر) ففتحت البوابة وخرجت سيارتهم تحت ظل دهشتهم الكبيرة! ولا تقل عن دهشة بقية الجنود!
*
*
بعد أربع ساعات في الطُرق الوعرة وخوف جائر نهش أرواحهم وآلاف التساؤلات المرهقة للروح (لماذا كل هذا الخوف ونحن في وطننا؟ ألم نتعلم في صغرنا أن الوطن آماننا وأمننا؟ من شوه ذكريات طفولتنا؟)

توقف الباص في إحدى قُرى أرماء التي أصبحت تحت سيطرة المقاومة فنزلوا برهبة مما رأوه.. رباه
لقد تدمرت هذه المنطقة عن بكرة أبيها!

استقبلتهم أصوات الزغاريد العالية لدرجة أنها نزلت تحتضن حقيبتها لصدرها وبسمة كبيرة تتسع على ثغرها لتلتفت لتلك التي نزلت وبمآقيها يلتمع الدمع تقول لها سكون بفرحة:"يزفون عريس صح؟"

تنظر لها تلك الملثمة لبرهة ببسمة باكية ثم تهز رأسها بإيجاب:"عريس.. ولكن يمكن مو واحد بس يمكن أكثر من عريس"

نظرت لها ببهجة.. واخيراً سترى مناظر بهجة بعد كل الدمار الذي أحرق روحها لتسمع صوت الخطوات تقترب منهم أكثر فأكثر، خطوات كثيفة وتدك الأرض كأن اهتزازها إهتزاز بُكاء وليس فرحة!

عقدت حاجبيها الرقيق قبل أن تشهق بعنف وتغطي ثغرها بصدمة وهي ترى ما يُرفع على الأكتاف تعد بأنظارها برهبة.. واحد
ثلاثة.. عشرة..! رباه لم يكن شهيد واحد إنما عشرة ومرة واحدة!
احترقت مآقيها بالدمع، تنظر لفريقها التطوعي المشدوهين بما يروه لتقول لها تلك المرأة وهي تُشير ببكاء:"شوفي.."
تلتفت برؤية ضبابية بفعل الدمع لترى التابوت الأخير يتمسك بأطرافه طفل صغير مرفوع على كتف عمه.. يصرخ بعنف:"يبه.. يبه لا تروح.. يبه أنت تقول بتشوف نصر القسط معنا.. يبه لا تتركهم يرمون التراب عليك لاتخليهم يغطون عيونك..كيف بتشوف النصر؟ كيف بتشوفنا نرفع العلم على مدخل أرماء يبببببببه"

صرخ بآخر كلمة حتى بُح صوته وتلاشى مع أصوات بكاء الأمهات الثكالى.. بكاء حزن اختلط بفخر وواحدة منهم تصرخ:"شُهداء، نزفهم لقبورهم مرفوعين الرأس.. مع السلامة يا يمه
عريس بالجنة يايمه.. رفعت رأسي يا يمه"

لتبتسم ببكاء وهي تقف مع بقية الأمهات يزغردن بكل قوة وهنّ يتأملن جثامين أبناءهن تبتعد.. لتسمع أخرى تقول:"عرسه كان الشهر الجاي.. حبيبي يا ولدي يعوضك الله بشبابك في الجنة.."

تكبح نشيجها بصعوبة لتنفجر بلا وعي وهي ترى طفلة لاتتعدى السبع تخترق جموع النساء الواقفات بيدها لحاف قد قُطعت أطرافه واهترأ لتُمسكها والدتها المفجوعة على زوجها لتقول:"وين يانور.. وين رايحة يا ماما"

تنظر لها الطفلة بشيء من الذهول وعدم الإستيعاب لتنفض يد أمها عنها تقول بخوف:"أبوي كان يقول لي سميتك نور لأني أخاف من الظلام.. كيف تتركينه هناك لوحده..سامي ولد عمي قال إنه بيقبرونه بقبر مظلم ماراح أتركه لوحده هناك بروح أعيش معه وأصير له نور"

تهاوت ساق أمها وهوت على الأرض تحتضنها ببكاء عنيف هُزت له القلوب لتبتعد الطفلة قائلة وهي تنظر للثلج الذي يحيط المكان:"ماما أنا خذيت اللحاف حقي عشان أدفيه.. الثلج بارد
بابا بيبرد.. بابا يخاف من الظلام والبرد
أنا نور وبغطيه..خليني أروح معه"

لتصرخ زوجة الشهيد، تضرب صدرها بلوعة:"يارب.. يارب أي وجع هذا.. يارب انصرنا"

لتتهاوى مقاومة سكُون فتنشج بكل قوة، تمسك صدرها بعنف فتتلقفها يد المرأة الواقفة بجانبها، تحتضنها بحنية قائلة لها بصوت من عرف هذا الوجع:"ليه جـيتِ.. مادمتِ ما تتحملين كل هالوجع ليه تجين له برجلينكِ"

بكت سكون في حضن تلك الغريبة بكل عنف وقلبها يئن من الألم لتشاركها الأخرى البكاء..حتى الفريق التطوعي لم يكن بمقدورهم تحمل لتلك المشاهد التي تحرق الفؤاد
بعد دقائق سمعوا الدكتور المسؤول يجلي صوته وينظر لهم بعينيه الحمراوتان بفعل الدمع المحتقن بها:"مثل مافهمت من مختار القرية.. الشهداء ماكانوا هالعشرة بس.. هذول شهداء هذي القرية بس.. اللي يسمونه طوفان قائد المقاومين هنا هجم على سجن للمرتزقة بحدود أرماء وكانت معركة حامية قتلوا فيها الكثير من الطرفين وجُرحوا كثير.. راح نفتح على مدخل هذي القرية خيمة، والجرحى راح ينتقلون لها لأجل علاجهم.. لذلك -صفّق- أرجو من الكل يستعيد رشده.. احنا جينا نساعد ونضمد ماجينا نعيش الجرح معهم.."

انتهى من كلامه ليشير للباص..فابتعدت تلك المرأة عن سكون وقالت للدكتور بهدوء:"تعرف لو لقوا أسرى بذاك السجن..؟"

نظر لها باستغراب فهو لأول مرة يلمحها:"لا للأسف هالمعلومات ماراح تعرفينها مني"

أشارت له برأسها، تنظر للقرية وبلا اهتمام تخطته وهي تدخل للقرية بصمت كاد أن يعترض لكنه شد على قبضته..تلك لم تكن بدكتورة معهم.. فمن هي؟ ولماذا ركبت معهم!

لم يملك رفاهية التفكير فلم يكن يملك الوقت
ركب الباص واتجهوا للخيمة التي بدأ المقاومين بنصبها لجرحاهم..بعدما تم قصف المستشفى المركزي بأرماء، والعيادات لم تملك الأيدي العاملة المطلوبة!
بعد ساعتان من الآن.. دخل أحد الرجال يغطي وجهه بشماغ أحمر وأبيض يُشابه ألوان علم القسط يلفه بذات طريقة المقاومين- يغطي وجهه بالكامل ولم يترك سوى عيناه ظاهرة-
نظروا له الفريق الطبي بتوتر.. بينما هو قال بصوت عالي:"نحتاج دكتور.."
رمقوا بعض بإرتباك فهيئته مخيفة خاصةً والدم يلوث كل أطرافه حتى طال وشاحه، تراجع الجميع يكملون مداواة الجرحى بخوف إلا هي، كانت قد أخذت حقيبة الإسعاف الأولية المُجهزة، وتقدمت قائلة بقوة:"أنا دكتورة.."

نظر لها جلال بعدم رضا ليتجاهلها هادراً من جديد:"نحتاج دكتور!!"

من الرهبة صمتوا ولم يجبه أحد، ليكزَّ على أسنانه بغيظ، ينظر لسكون التي مازالت تقف أمامه بعدم إستحسان مع ذلك لم يملك رفاهية الرفض لذلك رضخ لها وقال بتوتر جديد عليه:" استعجلي..القائد ينزف من ساعتين"

نظرت له بصدمة، تركض خلفه:"ساعتين!، انتوا أغبياء ليه.."

قال بخشونة وتوتره يتصاعد بشكل عنيف:"كنا بمواجهة يا دكتورة وهو ما أعطانا خبر عن الرصاصة اللي اخترقت كتفه إلا قبل دقائق"

لمحت السيارة التي ركبها فتقلصت عضلاتها بتوتر، صرخ بغلاظة:"مادمتِ خايفة ليه تطوعتِ؟ يادكتورة هذي حياة ماهي لعبة!!"

جمعت بقايا شجاعتها وركبت في الخلف بقلب ينتفض رعباً وعقل شُل عن التفكير..تفرك يديها وتكاد تكسرها تراه يصعد لأحد الطرق الجبلية فقالت بصوت ضعيف:"وين رايحين؟"

لم يهدأ بعد من خوفه، يتذكر مرآه، يميل برأسه فاقداً لوعيه ليقول:"متجهين لقائد المقاومين يادكتورة..ظنّك وين بيكون؟"

ابتلعت ريقها بصعوبة ترى الجبال الشاهقة لتوقن أنه فعلاً..يجب أن يكون مكانه هنا! فسمعته وصلت حتى أسدام.. طـوفان..
أكبر القادة للمقاومة، خلال سنة فقط حرر منطقتين ويسعى لتحرير أرماء وبهذه المواجهة قد نجح بتحرير كل حدودها بعد خمسة أشهر صعبة قضاها في سبيل تحريرها من المحتلين والمرتزقة!
لاتعلم لم قلبها يهتز بتلك المشاعر المخيفة..إلا أنها تشبّثت بسواد عباءتها تقرأ آية الكرسي
لتخفف من رعبها وهي تتذكر سبب تواجدها على هذه الأرض أن تكون سبباً ولو ضئيلاً للتقليل من تلك المشاهد الحارقة للفؤاد..أن تكون ضماداً لكل جريح ستهلك عائلته لو أُستشهد.. قالت بصوت خافت من خوفها لتواجدها كإمرأة لوحدها هنا:"رجعني لو سمحت، رجعني ناخذ دكتورة أو ممرضة معنا على الأقل.."
ولكن صوتها تلاشى مع سرعة إنطلاقه..
إتساع أعينهم بانصعاق دليل كافي أن المنظر والخبر الذي هز أركان المكان لم يكُن بهيّن.. لقد تمادى الإحتلال الجائر حتى سمح لنفسه بالتعدي على الحكومة التي عقدت ذات يوم إتفاقية سلام معهم!

ارتجفت يدا جهاد برعب ليتصل بجهازه الخاص على أحد أعضاء فريقه لكن لا رد.. يضرب الطاولة بعنف يرى الخبر (إنفجار عنيف في المركز الرئاسي للدولة خلّف عشرات الشهداء والجرحى)

وهي هُناك.. لم تبرح مكانها منذ سنة لم تعش حزنها ووجعها..لم تملك تلك الرفاهية
رباه.. أهي آخر ضحية في تلك العائلة الصغيرة؟
أإنتهت عائلة عـمار الغمدان باستشهاد آخر أفرادها؟
سحب اللاسلكي يقول بصوت ثابت لايفضح لوعة روحه:"من القائد لـ فريق الجوى حول!!"

وصله صوت عاصي القلِق والمشحون بالغضب:"هنا برزخ ! حول"

يقبض على اللاسلكي حتى كاد أن يهشمه:"تم تفجير المكتب الرئاسي.."

صوت عاصي فقط الحاضر، يقول بفجعة:"زمهريررر!"

يضغط جهاد على رأسه بتعب من بقي مستيقظاً لليالي طويلة دون راحة:"برسل فريق خاص للبحث عنها.. ماترد على جهازها الخاص وإشارة التتبع من الصبح متواجدة في المركز الرئاسي وبعد التفجير فُقدت.. الأمل ضعيف بس.."

همس عاصي بغضب ووجع:" الله ياخذهم.. الله يبيدهم عن هالأرض..قسماً بربي لأسخّر كل وقتي لأجل أبيد روح كل محتل بيديني هذي"

تنهد وهو لايلومه على هذا العنف..فهذه السنة كانت أرهق سنة والتي زاد بها ظلم وطُغيان المحتل دون وجود من يردعه من الدول المجاورة أو غيرها!

أرسل جهاد الفريق.. ليصله بعد ساعات خبر وجود خمس جثث متفحمة لم تتبين هوياتها حتى هذه اللحظة ويظنون أنها أحدهم.. ليغمض عينيه على وجع جديد ولوعة لن تتلاشى أبداً:"سامحني ياعمّار، ماحفظت أمانتك"
*
أما عاصي فكان يقف بجوار الخيمة الطبية يصرخ بعنف:"الدكتورة سكون وين اختفت؟ كل الفريق الطبي متواجد عداها.. وينها..؟؟؟"

يرتبك كل من في الخيمة ليقول الدكتور المسؤول:"جاء أحد المقاومين بخبر وجود جرحى فاتجهت لهم"

شهق الدكتور بصدمة عندما انقضّ عاصي على عنقه يصرخ بغضب:"مجنون انت؟ تترك إمرأة تروح مع رجال وانت طول وعرض.. ماعندك نخوة أنت.."

خلصوه من بين يديه بصعوبة ليقول الدكتور بغضب:"ماجينا هنا للتفرقة يا سيّد.. احنا هنا يدينا وعقولنا اللي تتكلم وماهو فرق أجناسنا
يدي ويدها تملك نفس الدواء لكل داء لأجل كذا ما يهم لو كانت رجل أو مرأة..جينا نساعد ولو كان الجريح فوق غيم السحاب.. هي تعرف وحضرت وكل هالمعلومات تعرفها وهي تطوعت للذهاب لذلك تصرفك هذا همجي.."

رمقه بنظرة خطيرة فنفض الدكتور ياقته يخفي رعبه وهو يرى تحفز جسد عاصي ورجل آخر يحاول تهدئته ولكن يبدو أنه لم يفلح.. فقد هاج عاصي مرة أخرى وهو يخرج من الخيمة يبَحث عنها ويسأل عله يجدها.. تباً تباً
لقد تأخر فقط لدقائق معدودة عن وصوله لهم بسبب ذهابه لقبر الشهداء مع أهل القرية والصلاة عليهم.. فأين تراها ذهبت! ثم ماذا سيفعل لو كان عمّار ضمن الأسرى في سجن أرماء الذي حرروه ظهر هذا اليوم.. كيف سيخبره أن مـرجان المرأة التي كان يتوجع بحبها لشهور طويلة أمام أنظارهم قد ذهبت للأبد
بأبشع طريقة ممكنة!!

*
جسد صغير متهالك قد غطته الأغبرة والدماء
حتى تلاشت ملامح وجهه، ذلك الوجه الذي كان يضحك لها بصوت عالي ويطرب له قلب الأم الذي في صدرها.. صوت ضحكاته العالية صمتت فجأة ليصدح صوت انفجار عالي تركها تفتح عينيها بكل قوة بعدما صرخا بعنف وزخات العرق تحيط بوجهها قد مُزجت بدمعاتها الحارقة
تتنفس بعنف تمسد على صدرها تئن بحرقة:"يارب..مرت سنة والوجع نفس الوجع.. يارب خذ روحي وريحني.. يارب"
سرعان ما هزّت رأسها بالنفي برعب :"أستغفرالله أستغفرالله.. "
تذكرت عمّار أنه يحتاجها هذه اللحظة وهي لن تتوانى أبداً بمساعدته.. تذكرت لقاءها قبل ساعات طويلة بجندي من الجيش العسكري الشعبي والذي أُسس قبل أشهر على يد أحد أكبر الرؤساء وما يجهلونه أن -حازم الغرابي- هو من أسسه
: (حررتم الأسرى)
رمقها باستنكار شديد خاصةً عندما وقفت فجأة أمامه وبلا تحفظات سألته، حك وجهه بتعب فقد كانت معركتهم حامية خاصةً مع مقاومة المرتزقة والإرهابيين والتي كلفتهم أرواح وعتاد
-(أكيد هذي كانت أول أوامر القائد، تم تحرير كُل الأسرى)
نضحت اللهفة بعيناها فقالت بأمل
-(ووينهم الآن؟ تعرف مكانهم؟ مع القائد؟؟)
هز رأسه بالنفي الشديد
-(تم أخذهم لمركز المقاومة في المنطقة اللي جنبنا والكشف عن أحوالهم؛ ليه يكونون مع القائد!!)
خفتت اللمعة بعيناها البندقية لتتسلل دمعات الخيبة قائلة
-(أنت ماتعرف لو قدروا يلاقون صديق القائد بسجونهم؟)
صمت للحظات ثم قال بعد تفكير بعدما تذكر إحباط القائد وغضبه العنيف بعدما حرروا الأسرى وذكره لكلمة صديق أو زميل
( لا ما لقوه، أتذكر غضبه وقول صاحبه و- أكيد مات مادام آخر سجن بأرماء ماتواجد فيه-)

وهذا كان آخر شيء تتذكره قبل أن تنخرط ببكاء هستيري مخيف خلّف بعده صداع كاد أن يفجر رأسها ويبدو بأنه أتلف أحد خلايا التفكير بعقلها
إذ أنها تخلت عن التعقُل والحذر.. عندما إلتقت بعجوز غريبة الهيئة بعد خروجها من القرية تتذكر بشكل ضبابي عندما استدرجتها العجوز وأطعمتها وسألتها عن حالتها.. لم تحكِ لها شيئاً إنما لم تكن بوضع يسمح لها بالتفكير
أن هذه العجوز ماهي إلا وسيلة حقيرة لتواجدها هنا.. في قلب بؤرة الإرهابيين.. كآلة تسلية للمرتزقة.. لقاتلي طفلها
متى دست ذلك المنوم في الشراب؟ ومن جلبها إلى هنا؟ ومتى ستُدرك أنها تجلس على أقدام إحداهن؟

دفعتها بغضب، تقول بحنق:"كلنا هنا نعاني أرجوكِ يعني"
نظرت لها مرجان باستنكار ثم صُعقت وهي تقف تضغط على رأسها برعب بعدما نامت لوحدها بهذه الغرفة قبل ساعات لتستيقظ على تواجدهن:"أنا وين؟ انتوا من؟؟"

نظرت للفتيات الصغيرات اللاتي يرمقنها بذات النظرة التي تحمل كم هائل من الرعب لتقول تلك التي جلست على أقدامها بصوت باهت من شدة البكاء:"العجوز اللعينة، هذي بؤرة الارهابيين من صراخهم بشعاراتهم عرفت!"

انتفضت إحدى الصغيرات، تقول ببكاء مذهول:"وش بيسوون لنا؟ليه خطفونا؟"

نظرت لهن مرجان بنظرة مصعوقة.. تباً
هل ماتفكر به صحيح؟ أهؤلاء الملعونين اختطفوهنّ لمآربهم الفاسقة؟ أيريدونهن -سبايا؟-

جحظت عيناها عند هذا الخاطر ولم يتركن لها فرصة للفِهم فقد دخلت واحدة ترتدي السواد وتغطي وجهها تسحبها بغلاظة وهي تهتف بفضاضة:"القائد ينتظر لحظة راحته من ساعات وانتوا تتسامرون هنا -صرخت بعنف أرعبهن- الكل يلحقني لغرفة التجهيز، الجنود راح يتجهون لمهمة مستعجلة لازم نرسلهم بأعصاب مسترخية! تظنون تكبدنا عناء جيتكم لهنا على الفاضي!!"

كن مذهولات لم يتركوا لهن فرصة للفهم.. حتى تلك التي لم تتعدى الخمسة عشر عاماً والتي حاولت نفض يد التي تجرها بعنف، تبكي هلعها وطفولتها.. لم تستطع الهروب إذ أن كف عديمة الرحمة الذي طُبع على وجهها أخرسها بل تركها تقف كالتمثال من الوجع فجروها جراً..

مرجان تتأمل الوضع بتقييم.. انحنت بطريقة مدروسة لتُمسك خلف فخذها تتأكد من وجود سلاحها فارتاحت حواسها لوجوده مكانه، بالطبع لن يُدركوا بأن إمرأة كانت تهيم على وجهها ستملك مسدساً بل وبأنها تكون إحدى مُجندات الوطن السريات.. لكن ماذا ستفعل مجندة واحدة مع مئات الإرهابين وعشرات الضحايا؟ أستتمكن من إنقاذهن جميعاً؟!
*
من يكره النُور؟ أن تتسلل شعلة ضوء عظيمة فتُبهر أنظاره؟ من يكره لحظة إنقشاع الظلام!
لا أحد سوى من عاش في العتمة طيلة الوقت
من اعتادها فلم يعد يغريه النور.. بل يؤذيه وبشدة!
بعد حبس إنفرادي في حجرة لا تتعدى مترين لشهر كامل هاهم يجرونه من جديد من عتمته لنور قد زلزل أركانه
لم يسأل، لم يستنكر بل كان يعلم.. هم لا يخرجونه من الإنفرادي إلا عندما يكون هناك عمل إرهابي أو زلزلة من الإحتلال لوطنه
آخر مرة اجتمع مع أعضاء الفريق الذي أُسر معه وبقية السجناء كانت قبل شهر..تحديداً عندما قصف الإحتلال أكبر مستشفى حكومي في أحد المناطق، ليشهدوا ثورتهم وغضبهم ويتم قمعهم بالضرب حتى تخدرت أطرافهم..
دخل الزنزانة ذات العشرة أمتار والتي تكدس بها جميع المساجين الذين تعدو سبعين شخصاً
ليراقبوا المرتزقة وهم يجرون كرسياً فوقه وُضع تلفزيون صغير وثُبت الرسيفر بجانبه.. ليبتسموا ببشاعة علم كل من في المكان أن خلف تلك البسمة خبر سيفجعهم

أغمض عينيه بإرهاق شديد ليجلس في زاوية الغرفة يضع ذراعيه على عينيه، لقد استُنزفت كل طاقته حقاً، حتى وهو يسمع كلمات الخوف والرعب من السجناء لم يحرك ساكناً
لقد هاج لثمانية أشهر كاملة، قاتلهم بشراسة
وبرغم تعذيبهم له وسلكهم أبشع الطرق لإذلاله إلا أنه كان يتصدى لهم بقوة.. ولكن كان لا يعلم أنه يُستنزف حتى بات يود العودة لتلك الحجرة الخانقة فقط ليريح عينيه من قوة هذا الضوء اللعين

أصوات السجناء تزايدت وصخبهم يعلو أكثر فأكثر
حتى أنه وصله صوت بكاء بعضهم المقهور
وضرباتهم على الجدارن والحديد الحاجز

التلفزيون فقط يعرض الأخبار مرئياً بلا صوت
لذلك لم يعلم ماحصل.. ويعلم أن ما رأوه سيحرق روحه فلم يرفع رأسه.. فقط شدد بالضغط على عينه وهو يحاول تهدئة نفسه
هل تلاشى كل أمله بالنجاة؟
هل سيستسلم بعد ثمانية أشهر من المقاومة؟
هل سيترك مرجانه... إحترق قلبه على حضور إسمها الذي لم يغب أصلاً من عقله وقلبه
هل سيبالغ لو قال أن ما يُبقيه على قيد الحياة هو معرفة أنها تنتظره؟؟؟
عند هذا الخاطر الذي جال فيه رفع رأسه وفتح عينيه تدريجياً ليترك لنفسه فرصة استقبال الضوء ثم تمرير أنظاره على السجناء وحالتهم اليائسة
ليقف وهو يتجه لناحية التلفاز.. يعقد حاجبيه بعدم فهم وهو يرى النيران تنبعث من مبنى..

لحظة واحدة.. هذا المكتب الرئاسـ...

جحظت عيناه بصدمة وتحولت خضراءه المُتعبَة لأخرى ذابلة بلا حياة تصرخ بالفجعة وهو يقرأ الخبر (إنفجار عنيف في المركز الرئاسي للدولة خلّف عشرات الشهداء والجرحى)

صرخته العنيفة كانت كافية لتدثر المكان بالصمت المهيب، بعد أشهر طويلة لأول مرة يسمعون صوته بل لأول مرة يلمحون منه ثورة!

كان يضرب الحديد بكل قوة وكأنما سينزعه نزعاً من مكانه، يصرخ وينتفض بطريقة أرهبت الحراس ولم تطربهم ككل مرة، كان يتوعدهم وهو يقسم بأغلظ الإيمان أنه سينهيهم
بعدما تركهم لأشهر يستمتعون بعذابه أقسم أنه سيحيل حياتهم لجحيم.. لم يعلموا سبب ثورته
لم يملكوا خبراً أن أمله الوحيد بالحياة قد تكون من ضمن شهداء المكتب الرئاسي.. لم يعلموا أنهم فتحوا على أنفسهم أبواب الجحيم!

حتى عندما ظنوا أن ثورته انطفأت خابت ظنونهم،
كان يمشي في الزنزانة كالأسد المحبوس حتى زملاءه ممن أُسروا معه لم يتجرؤوا على التحدث معه

عندما حاول الحارس إرجاعهم للإنفرادي أشار له آخر باضطراب:"إذا بنخرجهم ادعِ كل الإخوان اللي في الخارج.. الوضع مضطرب"
أشار لعمّار بعينيه ففهم الآخر الرسالة وفعلاً خرج واستدعى كل الحراس حتى إذا مافتحوا باب الزنزانة ظنوا أنه سيهجم عليهم لكن ولصدمتهم تركهم يقودوه بصمت.. حتى أقفلوا باب الإنفرادي عليه واستكانوا
علق الآخر برهبة:"اللعنة عليه، أقسم بالله ماشفت شخص مجنون مثله.. كان بيذوب الحديد بيدينه من غضبه"

هز رأسه الآخر باستخفاف فقال:"السلاح بيدك وتخاف منه وهو عاري، راقب بس كيف بخليه يثور فعلاً!"

اقترب وبطريقة التعذيب النفسي كان يلقي على مسامع عمّار كلمات الفجور.. كلمات لا تُقال إلا من أشخاص مدنسين مثله.. يخبره ماذا سيفعل لو كانت زوجته على قيد الحياة.. كيف كان سيتلذذ بها
لقد كان يقصد غادة.. لأن مرجان لم تكن زوجته سوى بعقد شرعي أما المدني فلم يُكتب..
وأن يتكلم هذا الفاجر خليفة أبا عكاشة عن زوجته الشريفة الشهيدة بهذه الطريقة جعلته يفور بطريقة شنيعة.. تركت الحارس الآخر يهرب من الفجيعة إنما الآخر يضحك باستمتاع برغم قلبه الذي ينتقض من الذعر من ثورة هذا الرجل..!
*
*
وفي غرفة الإستعداد، كانت تمسك رأسها بيديها تحتضن حجابها بهلع
ترى تلك التي دخلت بوجه ملطخ بالوجع قد بكت حتى ابيضّت عيناها وجسدها يرتعش من وجع الإنتهاك
تدخل إحدى الخائنات لتقول بصدمة:"لو تشوفون الخاين السجين وحالته بعدما عرف بخبر التفجير، كل الحراس خافوا واستدعوا كل الإخوان لأجل يدخلونه"
نظرت لها التي تتشح بالسواد لتقول وهي تزين إحدى الباكيات تحت يديها:"وقدروا يدخلونه؟"
جلست تلك وهي تعبث بوجه أخرى:"الصدمة إنه دخل بكل بساطة ولا كأنه اللي ثار قبل لحظات ظنيت إنه بيهجم عليهم"

نظرت لها بعدم اهتمام وهي تصرخ بالفتيات:"سمعتوا؟ الإخوان الآن نفسياتهم اختلت لذلك الكل يستعد -صمتت لبُرهة ترى مرجان مازالت بعباءتها، لتصرخ بعنف- أنتِ يا ** ليه ما تجهزتِ إلى الآن!!!"

تنظر لها مصعوقة بسبب القول الفاحش الذي قالته لتقف تقول بصلابة:"ماراح أدخل لأحد
أفضّل أموت قبل يمسّني حيوان همجي.."

سكتت وهي تمسك يد تلك التي حاولت صفعها والغضب يتلألأ بعيناها لتهدر بها:"بتتجهزين وغصباً عنك.. احنا ما تكبدنا عناء وجودكِ هنا لأجل تعارضين أوامرنا.. انتِ هنا لأجل رغبات الإخوان..."

سكتت بصدمة عندما قالت مرجان بقرف:"مادمتِ خايفة على نفسيات إخوانكِ فتفضلي لهم أنتِ
أكيد ما راح يرفضون وحدة مثلكِ"

تصرخ الأخرى بغضب وتندفع لتحاول ضربها:"يا*** الأخت صالحة نصيب الأمير ولا يجوز تتكلمين عنها كذا"

أمسكت مرجان بمعصمها ولفته للخلف ببساطة وهي تضغط عليها لتنظر للمسماة بصالحة باشمئزاز وتلك تمطرها بنظرات غاضبة.. بينما الفتيات بالغرفة ينظرن للموقف بصدمة، كل واحدة منهن نوت التمرد لاقت أبشع العقاب ويبدو بأن نصيب مرجان حضر فقد صرخت صالحة بغضب
فدخلت ثلاثة نساء بهيئات مخيفة بأيديهن عصيّ
لتتقاتل معهنّ بشراسة جعلت الجميع يفغر فاهه قبل أن يدخلن أخريات بأجساد ضخمة وفي آنٍ واحد إنقضن عليها فلم تستطع تفاديهن إذ ضربتها إحداهن على معصمها والأخرى كبلتها بيديها بطريقة أقرفتها فحاولت التملص ولم تستطع.. تحسست المرأة شيء بجيب عباءتها فسحبته وسط صرخة مرجان الثائرة وهي تتلوى بعنف بين أيديهن:"رجعيه.. رجعيييه يا حقيرة"

نظرت صالحة للكيس البلاستيكي الذي بيد المرأة فاقتربت تأخذه وتتفحصه باهتمام.. تفتحه وسط ثورة مرجان وصراخها العنيف بطريقة استنكروها بل وقفن مشدوهين وصالحة تقول بقرف:"تراب؟ كل هالثورة لأجل تراب..؟"

صرخات مرجان التي تخلت عن دثار القوة المتهدجة صعقتها عندما لمست التراب:"لا تلمسينه بيدينك النجسة، لا تنجسين طُهره"

لُتستفز صالحة فتضحك بسخرية قاتمة:"هذا تراب الوطن اللي تتبجحون به صحيح؟ الوطن الغدار اللي سلبنا كُل حقوقنا وأخذ مننا حقنا بالحياة! الوطن اللي يستحق الدّمار وياليته يتدمر فلا تبقى حجر فيه واقفة"

قرنت كلماتها وهي ترمي كل التراب الموضوع في الكيس على الأرض فتدهسه بقدمها بقرف وسط عينا مرجان الجاحظة وكأنما دهست قلبها هي
وكأنها أشعلت النار بروحها.. لتتسلل الدهشة لقلوبهن هن وهي تنفجر ببكاء عنيف تزحف على الأرض تزيح قدم صالحة عن التراب وتحاول جمعه وهي تبكي بطريقة تقطع نياط القلوب هامسة:"هذي بقايا عبودي.. هذا اللي يتركني واقفة لأجل أواجه.. هذي ذكرى قبره.. قبره اللي احتضنه وهو ماشاف من الحياة شيء"

جمعت بعض حبات التراب بيدها وهي تضرب صدرها بطريقة مفجوعة ومتتابعة والنار تحرق روحها أكثر فصرخت بوجع:"هذي النار ما بتنطفي.. هذي النار بتقتلني"

إنها لا تملك قوة الجبال لتحمل هكذا ثقل ولا صلابة جدران عاتية لتنجو من الزلازل المدمرة هذه! إنها ضعيفة.. ضعيفة للغاية ولم تعد تملك سنداً، قبضت على حفنة التراب وهي تتكور على نفسها تمرغ وجهها ببقايا تراب قبر ولدها وصوت شهقاتها يصم الآذان:"ويحي عليك.. ويحي عليك يا ولدي"

سنة ولم تنسَ.. ومن يملك قلب أم ينسى!

لم يهتمن لوجعها.. سحبنها بعنف من على الأرض، ضربنها حتى تخدرت أطرافها، أنسوها ولو بعضاً من جراح قلبها لتلتفت لجراح جسدها
ثم أعدنها للغرفة الأخرى يشتمنها لتطبطب أخرى جراحها بعنف قائلة:"لازم تطيبين بسرعة لأجل تقومين بواجبكِ على أكمل وجه.. ماراح يرضون فيكِ وانتِ بكل هالكدمات"

لتبكي بطريقة مُرهقة.. وتعد نفسها
أنها ومنذ رحيل عمّار لم تبكِ بهذه الطريقة
وبعد هذه اللحظة لن تبكي..
تحسست المسدس المثبّت بإحكام وأخذت تكفكف دمعها وتضغط على كفها الذي يحمل بقايا التراب الذي أخذته من قبر عبدالله الصغير قبل أن تخرج مع الفريق الطبي التطوعي
لتحتضنه قائلة:"ألقى أبوك يا ولدي وراح ينتهي كل هالعذاب.. صدقني باخذ بثأرك بنفسي"



انتهى الفصل~​
قراءة ممتعة.. ​




فاطمة صالح. غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-06-23, 07:00 PM   #82

فاطمة صالح.

كاتبة في قسم الروايات والقصص المنقولة


? العضوٌ??? » 506671
?  التسِجيلٌ » Sep 2022
? مشَارَ?اتْي » 81
?  نُقآطِيْ » فاطمة صالح. is on a distinguished road
افتراضي


الفصل التاسع والعشرون
ماشاء الله، بارك الله
اللهم صلِّ على محمد وآله الطيبين.
*
*


يُمسك هشام بجهة من قميصه يعتصرها بكل قوة ، وزخات العرق تتصبب من جميع أجزاءه
النار الهوجاء تعثو فساداً في روحه ولا ماءَ ليُطفئها
يقف بجانب رأسه يتأمله يعتصر ملامحه من الألم ومقاومته الكبيرة كي لا يظهره ، تحامله العنيف كي لا يُطلق آهاته اللعينة التي تنهش جسده
يدنو منه بوجع، يفك تغضن جبهته:" لابأس يا يوسف.. لابأس بلحظة ضُعف .. "

لكن لأن يوسف غائب عن وعيه بسبب شدة النزيف والتعب المهلك لم يسمعه..خرج يجر خُطاه يقف أمام البيت الجبلي الصغير
يشتم جلال الذي تأخر عن الحضور..ألا يكفي بأن المجنون أُصيب في بداية المواجهة مع ذلك صمد لساعتين كاملتين احتدّ بها القتال ونجحوا بصد مقاومة الخائنين!
ولكن عندما لم يرَ عمّار من ضمن الأسرى تهاوت كل مقاومته وثار كالمجنون بشكل أذهلهم
حتى جلس وعند تلك النقطة رأوا قميصه الملطخ بدماء صموده..

تحفزت كل أجزاءه وهو يرى سيارة الدفع الرباعي التي تطير حرفياً من على الخطوط الجبلية المخيفة ، صرخ بعنف:" طِر .. ركّب جناحات يا جلال .. قسماً بربي لو يصيبه أذى ما يكفيني راسك"

لم يسمعه جلال بالطبع ولكن رؤية هشام يقف على رأس الجبل يمسك وسطه كانت تكفي كي تصل سرعة السيارة لآخر مستوى
حتى أنه لم يدرك بأن المسكينة تبكي رعبها خلفه وهي تتشبّث في المقعد بجنون وتحاول الصراخ لكن لم تستطع من الخوف.

وقفت السيارة بطريقة جنونية ونزل يجر خُطاه
يركض ناحية هشام الذي صرخ بغضب:" وين الدكتور يا خايب الرجاء"

التفت باستغراب فلم يجدها فعاد أدراجه يبحث عنها يفتح الباب الخلفي ليتفقدها فيندهش عائداً للخلف عندما تقيأت كل ما في معدتها على بنطاله وحذاءه .. تجعدت ملامحه باشمئزاز بينما هي ويا للعجب أعادت رأسها للخلف تمسك بطنها بوجع دون أن تعتذر .. يستحق !

تقدم هشام بعد لحظات بكوب ماء يمده لها دون النظر اليها فارتشفت الماء بينما هشام سحب جلال مصعوقاً: " انت بليّا عقل .. جايب مرأة ؟؟ مرأة لهالمكان ولوحدها يا غبي يا جاهل؟"

حك ذقنه بعدم فهم لثورة هشام:" يا سرمد
الرجال خافوا على أنفسهم ورفضوا يجون.. وهي الوحيدة اللي تقدمت بشجاعة..وبعدين لا تسوي لي محاضرة عنصرية .. المهم يدين تعالج..."

سكتا عندما تذكرا من يُشارف على الموت من شدة النزيف فركض جلال بوجه شاحب يطرق الباب." استعجلي يا دكتورة ، القائد بيموت وانتِ تتدلعين لو اني داري ما جبتكِ"

( تتدلع !) هذا الرجل مصيبة ! تكاد أحشاءها تغادر بطنها من شدة الوجع ! مع ذلك تحاملت على نفسها وأمسكت بشنطة الإسعاف وهي تخرج بخطوات مرتجفة حتى إذا ما استقرت واقفة وتواجهت مع هشام لتتسع عيناها بعدم فهم .. لمرأى الرجل أمامها
بسبب جحوظ عيناه بشكل مخيف واحمرار وجهه وحتى جسده كان يرتعش ، أمسك رأسه فجأة وصرخ بعنف وهو يدكّ الأرض بقدمه بشكل أفزعها فعادت للسيارة تحتمي بها برعب

رمقه جلال بصدمة فهز رأسه:" يلقبوني بالمجنون لكن شكلهم ما شافوك.. يارجل يوسف بيموت وانت بتترك الدكتورة تموت من الخوف قبل تشوفه"

سمع هتاف هشام المصعوق وهو يمسك راسه:" الله ياخذك ياجلال الله ياخذك اللي بتفجر مرارتي وبتشيّب فيني .. الله ياخذك"

أمسك قلبه باندهاش:" بسم الله علي ، مجنون انت ليه تدعي علي"
نظر له بجنون العالمين، يتقدم ويضرب كتفه:" انت جبت له الموت يمشي على رجلين.. يا متخلف يا مريض ما لقيت غير هالمرأة على وجه هذي البسيطة .. من وين جبتها ؟؟ من وين سحبتها يا غبي "

دفعه عنه بحنق هاتفاً: " قلت لك هي اللي تطوعت وجات بنفسها ، وانت قلت هات أي شخص بيقدر يوقف النزيف اللي رفض يوقف حتى بعدما خرجنا الرصاصة"

نظر له بضياع للحظات طويلة قبل أن يُشير على السيارة:"رجعها ، هذي المرأة ماراح تساعده
ولو فيها موته.. رجعها وهات شخص غيرها"

ضربه على كتفه بثورة، يهدر بعنف:"سرمد.. استوعب اللي يحصل .. الرجل بيموت له ساعات ينزف .. ولو رجعتها وجبت غيرها ماراح أجيك إلا وهو ميت.."

هز رأسه، يمسكه بقهر حتى وصله رنين الجهاز ففتحه يصله صوت جهاد المرتجف:"هاه وصل الدكتور ؟ طمني عليه "

الحقيقة منذ ساعات يقف عاجز أمام هلع جهاد على حالة يوسف.. لم يره بمثل هذا الخوف أبداً
تنهد يحكي له ماحصل حتى إذا ماوصل لهوية الدكتورة نطق بغضب:"جلال جاب له الطامة الكبرى .. من بدّ كل العالمين جايب له زوجته يا قائد "

سكن جلال بصدمة ينظر له حتى صرخ بفزغ: " بنت الوزير؟؟"
أشار له برأسه بغضب فضرب جلال وجهه بيديه بطريقة مضحكة ولو كان بموقفٍ آخر لانفجر هشام بالضحك:" يا بلاءك يا جلال .. شيّعوا خبر موتي لأنه لو قام وعرف سواتي بيقلتني .. ويل حالك ياجلال وش هالحظ اللي معك؟؟"

لم يعقب هشام بل قال لجهاد :" ماراح أخليها تشوفه ولو فيها موته.. أنت بنفسك تعرف وش بتكون ردة فعل..."
سكت بصدمة بسبب صراخ جهاد المجنون:" قسماً برب الجبال لو يصير فيه شيء لأنزع روحك بيديني ياسرمد.. الآن تاخذها وتخليها تداويه
الآن تدخل هالمرأة تساعده.. أكثر من أربع ساعات ينزف ولو بيموت بتكون انت والغبي اللي معك السبب.. تفهم ولا لا "

توتر هشام من ثورته فقال بتردد:" بس زوجـته تعرف بأنه..."
قاطعه بصوت هادر:"للجحيم زوجته..أبغاه يكون بخير يا سرمد أبغاه حي تفهم وهالسخافات ماتهم في هالموقف "

أقفل الخط فمسح هشام على وجهه بضياع بينما جلال كان يمسك رأسه ولم يتركه، يقول بتيه:"وش السواه؟ "
نظر له للحظات قبل أن يقول بحزم:"زي ماقال القائد المهم يكون حي .. وبعدما يفتح عينه بنتقبل غضبه .. أنا بكلمها لأجل تجي وأنت غط وجهه بالقناع الأسود عله يخفي شوي من وجهه"

قال جلال بضياع وهو غير مستوعب:" أنا للآن مانيب فاهم ليه مخفي عليها إنه عايش ؟ ليه تركها سنة تظن بأنه ميت ؟ "

ليرد هشام بعد تنهيدة :" لأجل تكون بخير .."

تقدم يفتح باب السيارة يعتذر بلباقة أخرستها
ألم يكونا يتصارعان ويصرخان بكلمات لم تتبينها من حدة أصواتهم قبل لحظات .. ماباله تحول لكائن متحضر ويعتذر بلباقة ؟
عارضت قائلة برجفة البكاء:"أبغى أرجع.. رجعوني لأرماء أو لأسدام.."

همس بأبشع الشتائم:" اللعنة عليك ياجلال
إن نفذنا من غضب يوسف.. فعاصي راح يحرقنا أحياء لو عرف بأن أخته هنا"

قال بصوت حاول جعله هادىء في ظل الظروف الراهنة:"أعذرينا يادكتورة أكيد خفتِ بسببنا
لكن تعرفين الوضع بعد المعركة والشهداء والجرحى توترت أعصابنا.. والقائد جرحه بليغ وينزف من ساعات ولو ماوقفتِ النزيف راح يموت.. أرجوكِ يادكتورة"

نظرت له بتيه للحظات حتى عقدت عزمها من جديد.. هي بنفسها سمعت الأمجاد التي سطرها ذلك القائد لأجل وطنها
أتتركه للموت ..؟ لا وربي !

نزلت من السيارة بخطى مرتجفة تمشي خلفه بخوف بينما كان كل خطوة يشتم جلال ونفسه وأخرى يدعو بها أن يمر الموضوع على خير.

وصلا للبيت ليدلفا لمكان وجود يوسف ، يقف مصعوقاً ينظر لهما بينما هي منذ وقفت خلفه حتى رمشت بإستنكار عاقدة حاجبيها الرقيقين تقول: " ليه شكله كذا؟"

همس من بين أسنانه،ناظراً لجلال بحسرة:" لأني تركت الموضوع لواحد بليّا عقل"

كان قد غطاه كلياً بالجاكيت الأسود الذي يقيهم برد هذا الشهر ، بينما غطى وجهه بالقناع الأسود الذي لا يُظهر سوى عيناه وأنفه ليتنفس
ويعقد فوقه الوشاح الوطني بل ويمسك وجهه بين كفيه بطريقة طفولية .. غمز لهشام بمعنى( لاتخاف الموضوع علي) فهز الأخير رأسه ( ياحسرتي )
اقتربت لترى قميصه الممزق من جانب كتفه لتشهق بفزع:" الجرح خطير وللأسف تلوث"

قال جلال بنزق وهو يمسك وجه يوسف بين يديه:" نعرف بأنه خطير لذلك أنتِ هنا يادكتورة"

نظرت له بغضب فصرّ هشام على أسنانه واقترب يهمس له:" لو يعرف عاصي بيقطع راسك فقفل فمك"

أقفل فمه فعلاً بينما هي فتحت حقيبة الإسعافات وباشرت عملها وهي تطلب منهما ماتحتاجه سواءً من ماء حار أو جمر مشتعل لتعقم الأدوات
كانت تعمل بحرفية أذهلتهما.. ويبدو بأنها تعودت على مثل هذه الجروح فلم تفزع .. المثير لدهشتهما بأنها لم تستنكر فعلتهما في تغطية وجهه بل ولم تطلب نزع القناع.. يبدو بأنها شاهدت أحد الأفلام التي تنص فكرتها( من ترى وجه القائد تموت ) لذلك لم تُعلق !

بعد ساعة ونصف مُنهكة وقفت تمسح زخات التعب عن جبهتها :" وقف النزيف واخيراً .. الحمدلله .. ولكنه يحتاج للدم"

وقفا بذات اللحظة مستعدين لما تقول،نظرت لهما بربكة من تصرفهما خاصةً بأنهما لم يستنكرا مسألة تبرعهما هنا! مع ذلك أشارت لهم بإيجاب
فالحقيبه مجهزة بكل ما يحتاجونه لمثل هذه الحالات.. لايملكون رفاهية الذهاب للمشفى في ظل هذه الظروف !

تقدم هشام يرفع أكمامه قائلاً:" أنا وياه نفس زمرة الدم" تقدمت تباشر عملها بإتقان حتى إذا ما انتهت بعد ساعات وقفت تنظر لذلك الذي نام على ذراع قائده والآخر يقف بجانبهما عاقداً ساعديه ليقول:" إذا انتهيتِ خليني أوصلك المكان خطير"
رفعت حاجبها بسخرية .. لم يعي أنه خطير سوى هذه اللحظة!!
أشارت له بالنفي لتقول بهدوء:" لازم أكون متواجدة بوقت صحوته لأجل أتأكد من عدم وجود أي مضاعفات"

نظر جلال لمنظر هشام المنهك..فخمسة أيام بلا نوم تكون هذه ضريبتها .. أشار لها للغرفة الفارغة وقال بهدوء:"تقدرين تستريحين هناك حضرة الدكتورة وقفلي الباب إذا تحسين بالخوف"

مابال هذا المجنون.. لم يعي أنها ستخاف بحضرة ثلاثة رجال غرباء إلا بعد مرور كل هذه الساعات! لكن يبدو بأن خوفه على قائده أفقده قدرته على الإستيعاب قبل ساعات
ولم تعلم أن جلال يمسك عظامه بحسرة من سيفقدها لو علِم عاصي أنه من أحضر أخته إلى هنا
ويمسك رقبته بخوف من فقدانها لو استيقظ يوسف ورآها هنا.. تباً لي تباً لجلال

دخلت الغرفة المنشودة وأغلقت الباب لتنفجر واخيراً ببكاءها بعد ساعات من الرعب والخوف
قضت كل تلك الليلة تبكي بعنف علّ جزءاً من رعبها يتلاشى في هذا المكان!
أما هشام فقد استيقظ على رنين جهازه الخاص بالأقمار الصناعية ليسمع صوت عاصي المصعوق:"وصلني إتصال إن المرتزقة يزحفون لحدود شمال أرماء.."

لم يُكمل إذ أن هِشام ضرب كتف جلال النائم بجانبه يقول بعدما تأكد من تنفس يوسف المنتظم ومن خلو المكان من وجود الدكتورة ، لم يخطر بباله في تلك اللحظة سوى أن جلال أعادها وهو نائم:" خذ سلاحك وتعال.. المرتزقة ينوون استرجاع شمال أرماء "

كان كالمغيّب سحب الكلاشنكوف وركض خلف هِشام يشحنه الغضب بأبشع الأفكار.. لقد فقدوا مئة شهيد للسيطرة على شمال أرماء
أستذهب تضحياتهم سُدى؟ لا وربي!

تاركاً خلفه .. رجل طُبعت له شهادة وفاة قبل سنة من الآن..
وامرأة مازالت تنعى فقده حتى هذه اللحظة..
دون علم كل منهما .. أن مافقده لايفصله عنه سوى جدار ..
*
*


" مثل ما قال القاهِر : لن ينجو من بطش القسط أحد ، عندما تُزلزل الأرض من تحت أقدامهم لن يروا استقراراً بعدها .. إن انتفضت القسط مرة
إن تحالف مواطنيها ونبذوا الخلافات فيما بينهم
إن شكلّوا من شعبها جيشاً وطنياً بدلاً من طبّعوا وخانوا .. لن يقف في وجهها لا مُحتلاً ولا خائناً !
إن للقسط ثورة لا هدوء بعدها سوى هدوء السلام !! .
وهذه الثورة منذ سنة وحتى هذه اللحظة ممتدة ! لن تركع هذه الأرض ولو أمطرونا بوابل الرصاص وأخافونا بقنابلهم الغازية .. هنا في ميدان العاصمة المركزي ثار أبناء أسدام إحياءً لذكرى السادس من فبراير .. أول انتفاضة قوية للقسط..."

ابتلعت بقية كلماتها وهي ترى الهجوم الشرس من الجنود الديجوريين وقمعهم الخانق فصرخت للمصور :" لاتخاف ، صوّر كل اللي يرتكبونه في حقنا ، يخافون من أصواتنا وعلُوها
يخافون حتى من كلماتنا.. هؤلاء الجُبناء سلاحهم الرصاص فقط..."

سكتت بصدمة وهي ترى أحد الجنود يُمسك الكاميرا ويرميها أرضاً فتتهشم جميع أطرافها ويُقطع البث الحي وسط ثورة المصور الذي كاد أن يهجم على الجندي لولا أن ثلاثة منهم أطاحوا به وبدؤوا بضربه بوحشية وهم يرددون كلمات لم تفقه منها شيئاً سوى أنها شتائم نابية! دفعتها غريزتها الحمائية والغضب الذي أعماها على التقدم وضربهم بكل ما أوتيت من قوة بالمايكرفون حتى هشمته على رأس أحدهم
فالتفتا الأخيرين لها لُتصعق بمنظر زميلها الذي يجاهد ليتنفس فيشتعل غضبها أكثر فأكثر
تقدما منها ينويان ضربها وتهشيم عظامها لولا أن رجالاً فجأة تدافعوا بلا هدى كأنهم يشتتون نظر الجنود ثم أحدهم يسحبها بكل قوة من ذراعها دون أن يُعير لشتائمها وغضبها وتلويها لتتحرر أي اهتمام
لم يكن بجندي.. كان مدني يرتدي السواد يسحبها لأحد المباني فشحب وجهها وأخذت تحاول التحرر بعنف وقلبها يضرب بجنون ، يصعد بها درجات المبنى المهترئة وهي تصرخ
وتصيح حتى بُح صوتها وكادت أن تسقط مغشياً عليها من الرعب ، لولا أنه حررها واخيراً، يتركها على طرف السطح ويبتعد عنها يقف لينظر للمظاهرة بملامح منغلقة .. رفعت رأسها واخيراً بعدما سيطرت على رغبتها العنيفة بالبكاء لتنظر لذلك الغريب المجنون فتصرخ بعنف :" يا مجننوووون "

لم يلتفت لها ، ويا للعجب توقع خطوتها الثانية
فاستشعر خطواتها الغاضبة حتى إذا ما اقتربت منه وكادت أن تدفعه فترميه من على السطح ابتعد عنها بعجلة وهو يراها تتنفس بشكل كارثي
التفتت له لتلتقي عيناها بعيناه.. فتتباطىء وتيرة تنفسها وتنظر له بتيه هامسة:"أنت..؟"

ينظر للميدان الكبير الذي يحتشد به القسطيون ودخان القنابل الغازية يتصاعد في المكان مع ثورة من الديجوريين بوجه واجم وعينين تنطق ناراً ، يقول دون أن يلتفت لها: " مساعدتي الثالثة لكِ هي إني أرمي على جثتكِ التراب ليواريها"

جزّت على أسنانها بغيظ لتخرج من هالة الضياع وتدخل للغضب:" وانت من طلب منك مساعدتي بالأولى والثانية أصلاً ؟ وبعدين هذي الثالثة وما مت ولا واريت التراب علي.."

يعقد حاجبيه بعدم فهم ، أنقذها مرة عند باب المركز الديجوري عندما استفزت أحد الجنود وكاد أن يقتلها حرفياً خاصة بعدما علِم هويتها كمراسلة للقناة التي تبثّ كل جرائمهم بجرأة لا يمتلكها البعض وهذه المرة الثانية .. إذاً أي ثالثة تقصد!

تبدو وكأنها فهمت ملامحه المستنكرة فارتبكت تضم نفسها وتقول بفضاضة لتخفي توترها:" لو تجرأت واقتربت مني مرة ثانية قسماً بالله لتكون يدك مقصوصة .. تفهم ولا لا ؟"

يبعد عيناه عن الميدان الذي ينتفض لتستقر عليها فتلين نظراته بشكل جعل قلبها يتلوى بصدرها.. يزيح عيناه بتلك اللحظة ليقول بغيظ:" صح! تستحقين الموت لكن قلبي الرهيف دائماً ما يرضى بموت قسطي .. فما بالكِ بتاء التأنيث
عامةً يا مراسلة ليالي .. أنا جاي أسألكِ عن القاهر"

ارتجفت أكثر لتبتعد خطوة غاضبة للخلف:" جوابي كان واضح المرة السابقة ، ليه مصمم إني أعرفه ! "

يزمّ شفتيه للحظات، يتقدم من حافة السطح ليقول:" لأنه اللي دعى لهذي المظاهرة كلها
سبعة آلاف قسطي خرجوا بانتفاضة كبيرة إكراماً لذكرى ستة فبراير .. فقط لأن هذا الرجل طلب منهم، والآن بات مطلوباً وطنياً .. نحتاجه
ولابدّ أكون الشخص اللي يجيبه بنفسه -تغيرت نبرته بشيء غامض - مابرضى يجيبه شخص غيري تفهمين ..؟"

اضطربت أنفاسها وهي تسمعه يستطرد:"أخوك ، أبوك ، زوجك وإن كان رجل عابر في حياتك
أنا أعرف إنك تعرفين هويته لذلك بتلاقيني قدامكِ بكل مرة لحتى أستلمه بيديني"

تفاقم الغضب أكثر وضغطه النفسي عليها خاصةً بعد لقاءه الثاني بها أمام المركز الديجوري مازال ساري المفعول: " من أوهمك أن القاهر بعظـمته راح يكون له علاقة بي! انت مجنون وأنا مليت من تواجد المجانين والخونة والمحتلين حولي لذلك أرجوك اعتقني .. "

لم يبد عليه الإهتمام بثورتها فقد كان نظره مُثبت على الميدان لتهتف بحنق:" ومرة ثانية لو شفت الجندي يحشر مسدسه بحلقي لا تتدخل يكفي آخر مرة كنت بتموت بسببي وابتلش فيك"
ترى واخيراً تفاعله مع هتافها رافعاً حاجبه بصدمة ليقول مصعوقاً: " أنا اللي كنت بموت ؟ اللي أتذكره إنكِ كنتِ تضربين الجندي بميكروفونكِ وهو يوجه الرشاش لرأسكِ وتارك الأمان مفتوح يعني لو ماكنت سحبتك كان متِّ
والآن تكررين نفس الفعل بكل غباء العالمين
ولولا صدفة تواجدي لكنتِ هالمرة ميتة فعلاً"

زمّت شفايفها بحنق ، وأخذت تعود خطوة للخلف وهي تسمعه يقول بهدوء مُثير للريبة: " والقاهِر شخص يعرفكِ وتعرفينه أحق المعرفة
يكون بعلمكِ يا أستاذة ما فوتت مقابلة لكِ أو حتى نشراتك المجنونة اللي تظهرين بها قدام المراكز الديجورية وكأنكِ بحجمك الصغير هذا تتحدينهم .. تماماً مثل ما فوتت أي مقال كتبته أنامل القاهِر من سنة كاملة .. لذلك إما يكون هالشخص قريب منك للحد اللي صرتِ تتكلمين بنفس طريقته بالكلام ! أو..."

ترك بقية الكلمات مُعلقة لترفع حاجبيها بعدم فهم فتتسع عيناها بصدمة، تحثه على الإستطراد:" أو..؟"

ترتفع زاوية شفتيه بابتسامة شقية وهو يقفز قفزة واسعة لتحط قدماه على حافة السطح الطويلة مزامنةً مع شهقتها المفجوعة ليلتفت لها بملامح رائقة لا تناسب صخب المتظاهرين والإشتباكات مع المُحتل .. تلك البسمة التي عادت لتحتل زاوية شفتيه بعبث كانت إجابة كافية ووافية قبل أن يرفع ذراعيه كجناحين ويقفز بلا تردد للأسفل وسط شحوب وجهها وصرختها المصعوقة:"يا مجنوووووون"

ركضت بساقين مرتعشة وقلب يرتجف لتتوقف ع حافة السطح تراه وهو يقفز من حافة آخر ثم يقفز على الأرض ويوسّع خطواته ليدخل من جديد بين جموع المتظاهرين ويختفي بينهم تاركها تغرق في دهشتها .. وخوفها الجائر من خروجه المفاجىء والموقف الذي يتكرر مرة أخرى

هي الضحية .. وهو منقذها ، ملاكها الحارس ، حاميها
أغمضت عينيها برعب، تضغط على قلبها تراقب ثورة أبناء بلدها.. بكلمة منها هي
بضغطة زر ، أقامت ثورة لن تخمد !:" يا الله ..
كيف عرفني .. وكيف بكل مرة يرحب بي الموت ألقاه يقفل الباب بوجهه! المرة الأولى وأنا بالعلم اللي ألتف فيه أبحث عن قاتل حياة منتهى أبو عكاشة ليحميني بروحه .. والثانية قبل خمسة أشهر وتصير هذه الثالثة ! يارب أنا ما أحتاج وجع جديد ،أنا أوجاعي كثيرة
أنا يكفيني وجعي الأكبر ،يكفيني وجع وطني"

مسحت على وجهها تخفي خوفها واضطرابها
هي حتى لا تعرف هويته ، تجهل طريقة تنقله المخيفة آخرها قفزته التي شُلت بسببها أطرافها
حضوره بأحلك المواقف والأهم تمييزه لها من بين سبعة آلاف شخص في الميدان ! ثم تتذكر صرختها العنيفة له في المرة السابقة حينما أنقذها أمام المركز:" لا تتدخل ، انت أصلاً وش عرفك عن وجع أبناء هالبلد ؟ شخص تائه وتافه مثلك وش يعرف عن ثورة على أبواب المراكز ؟"
كانت قد تذكرت أين وجدته في أول مرة - وسط قعر وبؤرة الأذلين - ليرمقها بغضب فتهدر بعنف: " أنت من لأجل تصد ثورية عن حق بلدها يا تافه"
نظرته الساخرة كانت تكفي .. وكانت وداعه لها قبل خمسة أشهر ليختفي ثم يعود هذا اليوم يضعها في شعور هي في غنى عنه

هذا الرجل حكاية لن تفهم معانيها أبداً .. أبعدت عن خاطرها فكرة تهديده الأخير وطلبه وعادت تحتشد مع أبناء شعبها
أستناديهم للمظاهرة وتقف تراقبهم من بعيد كما طلب منها - بطرق ملتوية- أن تفعل؟!
لا والله !

أما الآخر فكان يمسك رقبته بوجع من سيفقدها بعد لحظات وهو يبحث بين الرجال عن بُغيته يرى من حضر معه بعد معركة شمال أرماء ليقول:" شفت سرمد ؟ "

يرد الآخر:" لا! مختفي من بعد المعركة "

يشهق بهلع وهو يُمسك رأسه هامساً:" طارت رقبتك يا جلال منك لله ، تتركها وراك مع يوسف لوحدهم ، وعاصي متواجد بأرماء وهشام من شدة الغضب نسى يسألني وأنا الغبي في كل هالمسألة ، إن ما انقطعت رقبتي على يدين عاصي ويوسف فهشام قتّالي .. منك لله يا جلال منك لله"

قالها وهو يتجه للثكنة السرية في جبل الضباب البعيدة عن تفكير المُحتل واحتمالاتهم مبتسماً بزهو: " عالأقل آخذ لفة بالطيارة قبل يدفنوني حي .. إن نجينا من عذاب عاصي ومزاجية يوسف
فغضب هشام هو خصيمي .. نلعب بأعصاب مضادات العدو لآخر مرة" .
*
رفعت رأسها واخيراً لتضع كفها على محيط قلبها لتهلع بسبب ضربات قلبها المزلزلة ، مسحت عليه برقة وهي تهمس" لابأس ، انت دكتورة
وكان لازم تقدمين على هالجنون لأجل حياة
لابأس ، انتِ خلال سنتين عشتِ أبشع من هالمواقف.. لو بيأذونكِ كان أذوكِ قبل ساعات من الآن..لاتخافين"

تشجعت بعد سيل المواساة لذاتها فوقفت تترنح من شدة التعب ، أغمضت عينيها للحظات ثم حسمت أمرها وتسللت بهدوء لخارج الغرفة حتى إذا ما ألقت نظرة للمكان إزدادت حيرتها
أين هم؟..
سمعت صوت أنين وتأوهات فتقلص قلبها بطريقة أرعبتها وكأنه يشارك صاحب ذلك الصوت مصابه ، ضغطت على قلبها برهبة من مرارة هذا الشعور
وتقدمت بتعثر حتى إذا ما نوت إنتزاع قناعه تراجعت بهلع من فكرة تجهل كننها ، ركنت فضولها جانباً فهي لا تحتاج لرؤية وجهه لتعالجه
رفعت كفه..وذات الشعور خالجها عندما لامست كفه
فرمته بهلع، تمسح على وجهها والدموع تحرق مآقيها:" يارب يارب"

أخذت نفس تُهدئ ذاتها ثم التقطت كفيه من جديد والحرارة النابعة منه تكفي لتعلم أنه يحترق لذلك اقتربت تغرز إبرة خافض الحرارة بأنبوبة المغذي دون أن تتجرأ لفتح القناع

تتسائل .. إنها بالمكان لوحدها ، لا أحد سيعلم أنها رأت وجهه فلماذا لا تزيح القناع ؟
والجواب واضح .. لأنها لا تخاف منهم ! بل من ذلك الشعور الذي يعشعش بداخلها لدرجة يجبرها على البكاء
شعور غريب يُخبرها أنها لمست تلك اليدين قبلاً
رأت هذا الجسد ، وهذي الهيئة ليست بغريبة عليها
ولكنها لا تود التصديق ولا الخوض بهذا الطريق
لأن حدسها يُخبرها أنها لو مشت هذا الدرب فستلقى في نهايته وجعاً.. وجعاً ينهش روحها

ارتجفت دواخلها من شدة البرد فاحتضنت نفسها وهي تنوي الإقتراب وإقفال النافذة الصغيرة لكنها شهقت واتسعت عيناها بدهشة وهي ترى حبّات الثلج تنزل على استحياء
لحظة.. وأخرى
قبل أن تغرق بشهقاتها، تضغط على قلبها بلُطف: " مرت سنة ، هذا أول نزول للثلج بدونك
يا الله .. وش هالشعور اللي يحرق الفؤاد
لو صبّوا النار بقلبي أهون من هالوجع يا يوسف"

شعور يتأرجح بين ( فقدته ولم يعُد والدليل شهادة الوفاة وشاهد القبر الذي رأته بعيناها واختفاءه) وشعور يخبرها ( أن اتبعي قلبك فمازالت النبضات ترتجف لحضور طاريه ، تعلمين أي شخص هو يوسفك لذلك اطمئني ) لذلك هي ممزقة ، تائهه ، وموجوعة حدّ الموت

مدت كفها الصغير لتلقط حبات الثلج فتبتسم ببكاء تتذكر أول وآخر مرة تشاركا فيها تساقط الثلج .. لتسلل الكلمات إلى لسانها بلا وعي وهي تدندن ببحة بكاء:
" يسألني الليل أتغيب حبيبي عن نظري
يسألني فتفيض دموعي في فجري ونسيم السحر"

جاهلة لذلك الذي فتح عيناه بوجع ينهش كل أضلعه والحرارة تفيض من كل أجزاءه
لينقلها للمكان بتيّه ، تستقر على ذلك الجسد الذي يعطيه ظهره
ومن نظرة واحدة عرفها .. هي .. كُل قلبه وموطنه لن يجهلها !
وذلك صوتها .. سلوته ومنفاه .. ليته يُصاب كل مرة برصاصة ترديه موجوعاً إن كان سيهلوس بمرآها .. إن كانت ستتشكل أمامه هكذا وكأنها حقيقة ..!
عاد للنوم مرة أخرى.. وبرغم الوجع كانت هناك بسمة عميقة تغزو ثغره ..
*


نظرات الخواء التي سكنت عينيه لأشهر طويلة
نضحت في هذه اللحظة بأشرس المعاني
كان غاضباً.. رباه كم كان غاضباً لدرجة أن تعنيف هؤلاء الخائنين ، وتراشقهم بالعبارات الوقحة
غضبهم منه بسبب ما افتعله كان لا يساوي
شيء من حرقة روحه .!

يغوص بأعماق قلبه ، لذكرى أخيرة تجمعهما سوياً
قبل ركوبه السيارة للإتجاه للمهمة المنشودة
عندما لم يرها في مكتب المقر ، بعد أربعة أشهر فقط من موت طفلها منفجراً أمام عينيها ، بالطبع لم يملكا رفاهية الإنهيار .. فجنود الدولة لا وقت لديهم لمثل هذه المشاعر
لم تملك سوى ساعات فقط لتبكيهما بجنون وبعدها نفضت ذلك الهوان وارتدت رداء الوطنية
وهي تعود للمقر الرئاسي تكمل مهمة وقعت على أعتاقها بعد زلزلة الوطن بالانتفاضة ، منذ تلك اللحظة وهي متباعدة عنه ، باردة معه ، ونظراتها تحمل معنى واحد واضح وصريح - اللوم - كانت تلومه على ماحدث وهذا ما جعل قلبه طيلة تلك الأشهر يكتوي بالحِرقة
حرقة موت ولد أخيه .. وزوجته
وحرقة انطفاء روحها ، لتموت روحاً وتحيا جسداً

رآها تقف عند الكرسي الخشبي المهترئة أطرافه
بالطبع لم يعلما أنها تكسرت على يدي يوسف في لحظة جنون منه ، تنظر للكرسي بخواء وتعقد ساعديها بشيء من الحزم

وقف خلفها يبتلع ريقه الجاف أصلاً قائلاً بهمس متعب :" ما بتودعيني ..؟"
لم تتكرم عليه بصوتها لثواني طويلة حتى لم تبدي أي ردة فعل وهي تسمع صوت القصف الذي حطّ على ثرى وطنها ، قالت بعد لحظات بصوتها الباهت: " مع السلامة "
" مع السلامة بس ...!!!"
قالها بعتاب ، وحزن عميق ينخر روحه لتلتفت له بوجهها الشاحب الذي لاحياة فيه ونظراتها
التي كانت يوماً ما تنضح حباً وبهجة .. تحمل هذه اللحظة خواء العالمين:" ودك بكلمة غيرها ؟ ليه فيه شيء أهم من سلامتك..؟"

نظر لها بضيق فتنهدت، تمسح على وجهها قائلة: " عمّار ، أنا خرجت من المقر وعندي علم بإنك خارج للمهمة مع أعضاء فريق خمسة"
اتسعت عيناه بوجع:" ومع ذلك ما فكرتِ تودعيني..!"
ابتسمت بسخرية ، ابتسامة باتت تؤرقه وتؤلمه جداً :" مافكرت ، وابتعدت لأجل ما أشوفك مع ذلك انت مُصر على صبّ الوجع في قلبي وقلبك .. ياحبك له "
قال بمرارة:" الوجع ؟" أشارت بإيجاب ليبتسم بتثاقل:" يا حبي لك أنتِ .. أمّا الوجع ما أحبه الله وكيلك"

لمح خواء عينيها يمتلئ بلمعة خاطفة فتلجلج قلبه داخل أضلعه لمرآها تهمس بوجع وهي تبكي متخلية عن سخريتها ولامبالاتها المصطنعة:" أرجوك عمّار .. إرحل قبل ما تنكأ جروحي .. "
يجيب بدهشة:"شوفتي ومرآي صارت توجعك؟"
لترد بصوت متهدج:"أنا لي جرح حتى نسمة هواء هالبلد تنكأه
فما بالك بأنت .. وأنت مُلام ؟؟"
شع الرفض وبدا الغضب جلياً بعيناه يقول:"ما زلتِ مصرة تغنين هالموال ؟"
نظرت له بوجع، تحضن نفسها أكثر:"لو بقوا هنا ، لو ما قررت يرحلون للبلدة لكانوا بخير
لكانت صدى ضحكات عبودي واقع ماهو محض من خيال بس ، لكانت غادة هنا .. معنا "
تغضنت ملامحه بضيق عارِم وأخذ يقول :" ظنّك كان ودي تحصل هالمصيبة ؟ "

تجيبه بتعب:"كان بامكانك تخليهم هنا معنا .. لكانوا بخير ، لكانوا أحياء "
ليرد بغضب:"لكانوا ماتوا خوف ، أو بصاروخ ، أو دهستهم سيارة ، أو احترق فيهم البيت .. هذا قدرهم من لحظة تكونهم نطفة يا مرجان
اتركي عنكِ السخط وارضي بالقدر،
اللي تنتهجينه حرام "
شهقت باعتراض وهتفت تنفي التهمة:"أنا ماني معترضة على قدر الله ، استغفرالله العظيم واللهم لا اعتراض وراضية الحمدلله ، لكني موجوعة
ولو كان هذا قدرهم ، احنا كنا سبب ودفعناهم له دفع، احنا تسببنا بفقدنا لهم وأنا ماراح أقدر أسامح نفسي .. ولا أسامحك"

ليرد بتثاقل:"وهذا اللي تركك تغادرين المقر حتى بدون نظرة لي ؟"

تشتت نظراتها لتجيب:"لا ، ماكان هذا سببي .. أنا أكره الوداع وانت تعرف مواقفي معه ما تشفع لي "

نظر لها بألم ، غضب يجتاح روحه من تفكيرها طيلة تلك الأشهر حتى لا تراه يستحق بسمة تودعه بها ، تنظر له بفراغ وكأنه - لا شيء - بحياتها
وهذا ما أدمى روحه ، هذا ماتركه يستسلم طوال تلك الأشهر بعد أسره
هذا ماترك كل مقاومته تنحسر حتى ماتت وبقي كيان فارغ ومتهالك !

ضربوه ، عذبوه ، حاولوا سحب المعلومات منه
سلخوه بالسوط ، أطفئوا السجائر على جسده
رموه في غرفة مظلمة لأشهر ، منعوا عنه الماء
ثم أجبروه على شرب الكثير من اللترات كل ساعة ثم منعوا عنه الذهاب لدورة المياة حتى بات المكان الذي يعيش فيه مليء بالوباء ، حاولوا كسر كرامته ورجولته وإهانته بأبشع الطرق حتى تركوا الحيوانات تعيش معه لأيام !

لكن ، لم يهتز له قلب كما اهتز البارحة لم يعش والنار في جوفه تعثو فساداً كما هذه الليلة

يرى ذلك الحارس الملعون يفتح باب الإنفرادي هذه المرة ، لم يرمِ الطعام كما كل مرة وكأنه يرميه لكلب
إنما قرر هذه المرة أن يعبث به ويتلاعب بأعصابه فهو ضاجر وقرر تفريغ ضجره بهذا السجين رفع الصينية الصدئة ثم قلب كل محتوياتها على ملابسه المهترئة ناشراً ضحكته النتنة على مسامع عمّار قائلاً :" اوه آسف يارجل زلت يدي ورميته بالخطأ لكن سهالات تقدر تلتقطه من على ملابسك أسهل ، صح؟"

نظر باشمئزاز لملابس عمار المتسخة والطعام - إذا كان يُسمى طعاماً وقال:" مع إني أشك بقابليته للأكل-ضحك - نسيت إنكم ..."

بُترت كلماته بآه عنيفة تفجرت بعدها الدماء من فمه وتدفقت بغزارة إثر قبضة عمّار التي حطت على فكه ، لم يترك له المجال ليتكلم أو ليهرب أو حتى لينادي من حوله لنجدته انقضّ عليه كجارح ينهش فريسته ، ضربه بكل عنف وبلا توقف حتى زهق آخر أنفاسه بين يديه ، وقف بعدما تأكد أنه مات ليبصق عليه
هذا الخائن ، الكافر
كان يستحق موتاً أشنع ، لقد تأقلمت يداه على مثل هذه المواقف وقلبه أصبح صلداً لا يهتز لها
لذلك لم يتأثر فقط اشمئز وهو ينزع عنه ملابسه الرثة، يرميها أرضاً

ليسمع صوت خطوات الحارس الأخير يأتي ليتفقد صديقه :" ماخلصت متعتك ما أعرف وش يعجبك بكسر كرامة السـ"

جحظت عيناه بصدمة عندما رأى جسد صديقه مسجى بدماءه بلا حراك ليلتفت ينوي الصراخ من الرعب لولا أن قميص عمّار استقر على عنقه وأخذ يخنقه به بعدما اختبأ خلف الباب وانقضّ عليه على حين غرة !

كان يتلوى بين يديه ، وحقيقةً لو كان شخص آخر لكان رأف بحاله وحرره
لكنه كان عمّار .. من ذاق المُر والعلقم على أيديهم من شهد على نجاستهم ورِدتهم سواءً عن الدين أو عن قسطه!

لذلك لم يرف له جفن وهو يرى جسد الآخر يستقر على الأرض ليبتسم ساخراً وهو يرمي قميصه: " ياليت لي صمود مثل صمود قماش هالقميص ..!"

وكانت هذه أول جملة طويلة يقولها بعد شهور من الصمت ، كان يحتاج فقط دفعة ألم - تخصها - كي يستعيد رُشده ويفكر في حالها
عند معرفتها بأمر أسره وهي رفضت وداعه ، لم يأت بباله هذا الوجع إلا عندما صارعه !

تلقف أفواج الخائنين بغضبه القاتم ، يكاد يهشم جماجمهم كان مدفوع بقوة الغضب لذلك لم يُسيطروا عليه إلا عندما وجهوا الرشاش على رأسه فوقف في مكانه يلهث من فرط الغضب
يديه تلخطت بدماءهم وعيناه تقدح شرراً وهو ينقلها كصقر جارح عليهم ، يرمقونه مصعوقين
مابال هذا الميت روحياً وجسدياً تحول بين ليلة وضحاها إلى هذا المفترس ؟

كبّلوه بالحبال وربطوه وسط ساحتهم الفسيحة
وتناوبوا على ضربه ولم يخر ، لم تسقط عيناه من أعينهم وهم يضربونه
فكانوا يبثون خوفهم عبر لكماتهم التي كانت كلكمة طفل على جسده الذي تعود على الأشد

خرج أميرهم ، ينظر له بغضب وأخذ يسحب مسدسه بعنف ويوجه عليه :" قتلت أربعة من رجالي يا خائن "

رفع رأسه يبتسم له بسخرية وقال:" تصحيح ؛ قتلت أربعة من حيواناتك ولو ما اجتمعوا بقية القطيع كان قتلتهم كلهم "

نظر له الأمير بعدم تصديق ، بقدر ماسمعه فهذا الأسير بالذات من بين الفريق العسكري كان الوحيد الذي لم ينبس ببنت شفة ولم يأت بردة فعل تجعلهم يوقونون أنه حي عقلياً على الأقل
والآن ظهر لهم بأنه أفعى سامة ! كاد أن يُمطره بالرصاص وينزع قلبه من بين يديه لولا يدين رقيقة استقرت على ذراعه فالتفت بعنف وسرعان ما تحولت نظرته للين خالص يرى صالحة تقِف بسوادها الكلي خلفه ، تبتسم له بلطف تهمس له :" هديتك جاهزة"

نظر لها بقوة وهي لم يبد عليها الخجل ، ليس وكأنه زوجها ويغازلها أمام جنوده .. ماهي إلا فاجرة بلباس الدين وهو لايقل فجوراً عنها ويدعي أنه أميراً للدين ونصيراً له ! ربت على كتفها يقول : " دائماً تجين بالوقت الصح يا صالحة ، هالمرة رقيقة ؟ "

ضحكت بخفة، تهز رأسها نفياً: " فرس جامح وتحتاج ترويض .. وتستحق انت تروضها"

ابتسم لكلماتها التي عززت رجولته بنظره خاصةً بنظرتها تلك فهز رأسه يعيد مسدسه إلى مكانه ليقول: " والإخوان ..؟"
أشارت له بإيجاب، تقول:" جهزت لكل شخص ما يرضيه لا تخاف"
"- العملية القادمة خطيرة ، ونحتاج نسيطر عليهم أكثر ونعطيهم كل متع الدنيا لأجل يفكرون بالآخرة "

قال هذه الجملة وأشار على جنوده قائلاً: " اتركوا هذا المرتد الخائن لما بعد هالساعات ، الآن شارف منتصف الليل ولكم عندي هدايا زي ما تعودتوا .. تعالوا شرفوني"

تهللت أساريرهم لمعنى كلماته وعندما نوى الذهاب قال عمّار بهدوء: " تعرف ليه قتلتهم ؟"

توقفت خطوات الأمير ونظر له بتوجس فقال عمّار بملامح تنضح صدقاً كاذباً :" كانوا يتكلمون عن مرأة ، يوصفون لياليهم معها يقولون ما نلوم الأمير لو خصصها لوحده بس أخذناها غصباً عنها ، الإثنين كانوا يتكلمون عنها ونخوتي رفضت علي يتكلمون بعرض أحد"

اضطربت ملامح الأمير وتقدم له بغضب:" من تقصد"
نظر له بقوة وكأنه ينفي عنه الكذب وقال بهدوء: " كانوا يقولون طعم صالحة بطعم الصبح بحلاوته"
جحظت عينا الأمير ثم صالحة التي نظرت له بانصعاق ، التفت لها على طول وقال:"صحيح اللي يقوله ؟"
نظرت له صالحة برعب جلي ، اللعنة على ذلك الأسير ماذا يقول ؟ وكيف عرف ! ذلك السر يكاد يمزقها واثنان ملعونان انتهكوها .. حسناً قاومت بالبداية وكادت أن تمزقهما ولكن بعدها رضخت
بكل دناءة ! تركت لهما حرية فعل بها ما يشاءان
ثم قامت بعدها بلا كلام وابتعدت وكأنما شيئاً لم يحصل ، لكن كيف عرف وهذا الحدث والذي كان قبل ثلاثة أشهر من الآن ..!

لم تعلم أنه وإن كفت كل جوارحه عن الحياة فأذنيه لم تكف ، كان يستمع لليالي طويلة لأحاديثهم الفاجرة عنها .. عن صالحة إمرأة الأمير كما وصفوها ولم يكن يعرف شكلها
لكن وجودها حوله هذه اللحظة ، نظراته لها وطريقة تفاعل جسده معها أنبأته أن فضحها هو حبل نجاته هذه المرة ..!

نظراتها ، رجفتها ، شحوب ملامحها؛ كانت أدلة إدانة ودناءة لذلك لم يحتج لأكثر من ثانية ليخرج مسدسه مره أخرى ولكن هذه المره أفرغه بجسدها بلا تفكير حتى إرتد جسدها على الأرض تملأ دماءها النجسة أرض القسط الطاهرة
ليلتفت إلى عمّار بعينين تنتفض غضباً تقابله عينين تنظر بفتور ليصرخ:" تعرف لو ما ارتجفت عيونها
وش كان بيكون مصيرك ؟"
لم تهتز به شعرة وبقي ينظر إليه بفتور إلا أنه قال:" ما كنت أعرف من هي ، كنت أسمع إسمها بس
وقتلتهم من الغضب"
"- يستحقون ، يستحقون الأنذال أي أحد يتعدى على شيء يخص الأمير مصيره للموت .. ولا أي رجل راح يمسّ إمرأة كانت لي أو راح أفرغ مابقى من مسدسي برأسه .. مفهووووم؟"

نظروا له ببعض الرعب واكتفوا بهز رؤوسهم فاضطرب وهو يشعر بالعجز ، الحقيقة أن صالحة لم تكن بجسدها له فحسب بل بعقلها وتدابيرها اللعينة التي أسقطت هذه المنطقة بين أيديهم
وخططها كانت دائماً محكمة ، حتى المهمة القادمة والتي تنص على مهاجمة الجيش الشعبي بسياراتهم المدرعة والتي كانت غنائم استحواذهم على أرماء ثم أسرهم بعدما علِموا من مخبريهم عن مكان مرورهم لم تكن سوى خطتها
لذلك أُختل ميزان عقله وتفكيره عندما قتلها بيديه ، غبي غبي غبي
أخذ يرددها برأسه، يمسح على وجهه باضطراب ، التفت ينظر لوجوه أتباعه فرأى استنكارهم لحاله
لبس القوة الوهمية من جديد ورفع رأسه ينظر لهم بثبات ثم أخذ يمشي حتى دهس على جثة صالحة متخطيها قائلاً: " مادام هذا الخائن قتل إثنين كان مصيرهم للموت على يديني لأنهم تعدوا على ماهو لي ، راح أعفو عنه هذه المرة
أخرجوه للزنزانة المفتوحة..!"

قالها ببعض المكر ، فابتسم جنوده ضاحكين على تفكير أميرهم
حسناً التعذيب الروحي والجسدي هناك أشد وطأة ، أن يضعوه بمنتصف الوكر بين أعمدة من حديد يراقب السبايا وهن يذهبن بزينتهن للجنود
ثم يسمع كل مايدور بالغرف .. لهو شيء يصعب على كل رجل !؟
إن لم يمت وجعاً سيموت قهراً !

تركوه هناك ، يراقب بعينين كالصقر إنما باشمئزاز يكاد بسببه أن يتقيأ مافي جوفه بعضهن يذهبن بإرادتهن وبعضهن ماتت رغبتهن بالحياة
والقسم الكبير كن مجبورات ، يسمع رجلين آخرين معه يكادان يموتان من الضيق ، فتتجعد ملامحه قرفاً وغضباً ؟
أهذا مصير فتيات هذا البلد الشريفات ؟ أن يُخطفن من بيوتهن ليقذفن في هذه القذارة ؟
لينتهكن بأبشع الطرق ؟ كان هذا أبشع عقاباته

لا لا لحظة .. كان هذا الموت يسير على قدمين ؟

صرخ قلبه بعنف صرخة كادت أن تكسر أضلاع صدره ، وعينيه الخضراء المصعوقة التي كادت تغادر محجريها خير دليل أن ما يراه ينافي الطبيعة
إنه جنون ، إنه محض خيال ، إنه شيء ينافي التصديق !!.

أمسك الأعمدة الحديدة بكل قوة يكاد أن يقتلعها بوجه نفرت كل أوردته وجبين يتصبب عرقاً وصدر يعلو ويهبط من شدة الصدمة
هذه الهيئة ، هذه الخطوات ، هذه اليدين
إنها لها .. إنها هي .. هو متأكد ويقسم بالله أنه موقن أنها مرجانه هو ! لم يكن يحتاج لرؤية وجهها ولا للتذكر بأن المكتب الذي كانت تعمل به قد انفجر لأنه لم يصدق بموتها أساساً

ولكن كيف أتت ، بل كيف أصبحت تُقاد أمامه إلى .. نضحت كل عروقه وأخذ يضرب الأعمدة بغضب جمّد الدم بعروقهم يزمجر بعنف أرهب كل من يراه
لماذا يغطونها بهذا الرداء الأبيض ، لماذا تسير كالمقيّدة ؟
رآها ترفع كفها المرتشعة فتزيح طرف الرداء وهنا تأكدت ظنونه .. إنها هي
مرجان

نظراتها ؛ أهلكته ، كسّرته ، أردتهُ قتيلاً !
العين الخاوية التي نظرت له في آخر لقاء لهم وكأنه رجل عابر ، كانت في هذه اللحظة تمتلأ به
تفيض نظراتهم
دهشة بذهول!
صدمة بغضب!
فرحة بثورة !
والكثير الكثير الكثير من عدم التصديق ..!

تُجر أمامه كغانية تذهب لرجلها.. وهو وجب عليه المشاهدة .. تمشي بخطواتها المتعثرة يقودها عدم التصديق بكامل زينتها لرجل غيره .. وهي على ذمته !! أي جنون هذا ؟

أيلبس الإنس ثوب الشياطين عن رغبة ؟ أيعربد مارد بدواخلهم برضا تام ؟ كانت هذه حالته تماماً وهو يُزلزل السجن من تحت أقدامهم وتحت نظراتها التي تنضح عدم تصديق وتحترق مآقيها دمعاً مصعوقاً ! لم تتوقف أكملت طريقها مع تلك المرأة ولم تُبدِ أي ردة فعل على معرفتها له
فقط نظراتها ، وهذا ما زاد ناره بأخرى حتى ملّ أحد الرجال وهو يجر نفسه غصباً إلى الخارج فيلقي عليه سيل شتائم قبل أن يطلب رجلاً لحقه سبعة غيره ليكبلوه ويحاولوا ردع ثورته الجنونية
ولولا ذلك المخدر الذي حقنوه بجسده .. لمات قهراً ، لاحترق كمداً ، لتلظى بنيران الحسرة

امراته ، زوجته ، حبيبته
تُقاد بكامل بهاءها برداء أبيض .. لرجل غيره
أي عُرف هذا ؟ وأي دين ينتهجوه هؤلاء الكفار!
لادين لهم
لا عُرف
ولا إنسانية
ولا فِكر
هم هكذا فقط ؛ خُلقوا ليعثوا في الأرض فساد
وهو أقسم في تلك اللحظة التي سقطت دمعتها بها وهي تعيد الرداء على وجهها أن يحرق هذا المكان بيديه الإثنتين .. لن يترك حجراً على آخر في هذا الوكر !



انتهى الفصل~​
قراءة ممتعة.. ​



فاطمة صالح. غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-06-23, 07:05 PM   #83

فاطمة صالح.

كاتبة في قسم الروايات والقصص المنقولة


? العضوٌ??? » 506671
?  التسِجيلٌ » Sep 2022
? مشَارَ?اتْي » 81
?  نُقآطِيْ » فاطمة صالح. is on a distinguished road
افتراضي


الفصل الثلاثون


ماشاء الله، اللهم صلِّ على محمد وآله​
*​
*​
يمسح وجهه بأكمام قميصه الداكن تكاد عظامه تستريح للأبد من شدة التعب، انتهوا من صد الزحف على شمال أرماء ليفاجئوا بأوامر القائد جهـاد بدخولهم للقسط وحماية المواطنين في مظاهرة السادس من فبراير ، دخلوا من الطريق السري على الرغم من وعورته ثم تفرقوا.. إلا أن عاصي استأذن من المهمة لأخرى بينما فاجئهم جهاد بحضوره بنفسه للتأكد من سلامة يوسف.. لذلك ترك له مهمة الذهاب إلى الجبل للتأكد من أنه أصبح بخير​
وهو أتى للمهمة الأخرى وبعد الإنتهاء منها ​
هاهو يقف أمام منزل عاصي كما طلب منه (قبل رجوعك تأكد من سلامة أهلي )هذه ثالث مرة يطلب منه وبكل مرة يُلبي بخاطر طيّب.. فعائلة عاصي تُعتبر عائلته ​
ولعله يكفر عن ذنب حضور سكون لذلك الجبل ووقوفها على شفا حفرة من الموت بسبب جنون جلال! يحمد الله أنه أعادها قبل أن يسقطوا بمصيبة لا وقوف بعدها!​

يتجه لعمارة عاصي يديه ببنطاله الأسود، ساهِم كالعادة وصدره يضج بوجع.. وجع حرب، وحب​
عقد حاجبيه الكثيفين بسبب خروج فتاة من العمارة فوسّع خطواته عندما عرفها قائلاً بهدوء:"السلام عليكم ورحمه الله وبركاته "​

شهقت بهلع، تلتفت بصدمة:"بسم الله علي"​
اشتدت عُقدة حاجبيه فقال بعدم رضا:"شيطان قدامك؟؟"​
ارتبكت بحرج:"لالا، بس ماتوقعت حضورك"​
نظر للطفلة التي ترتدي قبعة على رأسها وتستكين بين ذراعيها تخفي وجهها بالرضاعة​
وقال:"لوين رايحة؟ المظاهرة كانت على أشدّها وآثارها مازالت، الجنود متشددين!"​

رمقته شامة بعدم رضا فابتلعت ريقها للحظات وقالت بغيظ:" هل عاصي هو من وكلك من جديد علينا؟"​
لم تعجبه طريقتها بالكلام معه، في كل مرات حضوره كانت تخرج له هذه المدللة وتمطره باعتراضاتها فقال:"بالضبط عاصي، لذلك ولطفاً منكِ ارجعي البيت لأن الوقت ماهو وقت خروج"​

رمقته بحنق، تفكر قبل أن تقول بقهر:"بس أنا وعدت أفنان اخذها للبقالة"​
ارتبك لوهلة،ليخفي ربكته بتأففٍ يمسك به أعصابه بصعوبة كي لاينفجر بها:"الله يرضى عليك ارجعي يا آنسة، الوقت مايسمح بدلال أفنان"​
قالت باعتراض طفولي:" بس أنا وعدتها ، وترى البقالة بعد خطوتين بس من هنا لذلك اعتراضك مرفوض يا سيّد، لو كان عاصي موجود لكان راح معي وترك عنه هالتعنت"​

صرّ على أسنانه بغيظ وشتم عاصي هو وعائلته غريبة الأطوار خاصةً هذه الطفلة، رفع معصمه ليتأكد من الوقت المسموح له ثم رفع رأسه يشير لها بيديه أن - تفضلي - ابتسمت بإنتصار وأخذت تتخطاه فمشى على جانب الطريق عيناه على الأرض يرفعها للأمام ليتأكد فقط من خلو الطريق، لم تحد عيناه لها أبداً حتى وصلا للبقالة ​
فدخلت بفرحة.. لم تكن بالبقالة الكبيرة المعروفة بتوفر كل الأشياء بها إنما لاتتعدى خمسة أمتار وبها فقط ما استطاع صاحبها توفيره، سحبت شامة الرضاعة من ثغر أفنان وهي ترفعها لتستقر نظراتها الطفولية على ألعاب الأطفال، صرخت بحماس فكتمت شامة ضحكاتها بصعوبة وهي تراها تنحني بيديها وتسحب أحد الألعاب ثم تسحب أخرى وأخرى وسط نظرات هشام المبتسمة لها .. لم يضحك ثغره​
لكن تعبير عيناه الضاحك كان يكفي، كان خير دليل أن تلك الطفلة أثارت كل حواسه، تماماً كاختلاج قلبه في صدره عندما دوى صوت بكاءها عالياً وعجزت شامة عن إسكاتها حتى كادت تهرول للمنزل، شاركتها البكاء بخوف وهي تحاول إسكاتها:" أفنان، علامك ياحبيبتي، وش بكاكِ؟ ياويلييي"​

اضطرب البائع فاقترب لكن يد هشام أوقفته واقترب هو لناحية شامة ليطلب منها بتحفظ أن تمد الطفلة له، توترت في البداية ورفضت كل جوارحها فهي تتذكر توصيات منتهى الشديدة عليها ولكنه لم يترك لها فرصة للتفكير فقد سحب الطفلة من بين ذراعيها وأخذ يقترب من طاولة البائع ليتركها عليها يتفحصها بعينين ترتعش حتى لاحظ الدبوس الصغير الذي غُز في إصبعها فانتزعه بعجل وأخذ يسحب طرف منديله من بنطاله ويلفُه على كفها الصغير محتضناً إياها لصدره يهدهدها حتى هدأ صوت بكاءها وسط نظرات شامة المصعوقة المراقبة للموقف!​

لم تعلم، أن صوت بكاءها كان أشد وطأة على قلبه من أصوات الإنفجارات، لم تُدرك أنه كان يعاملها بلا تفكير وكأنها قطعة من قلبه ولم يعلما أيضاً أن تلك الطفلة استراح فؤادها له فأخذت تهدأ بكل بساطة بين أحضانه تمرغ وجهها بصدره العريض ​
ابتسم لتصرفاتها فأخذ يرفع وجهها له، لترتعش عيناه فعلاً ويهبط قلبه في أمعاءه.. ومحيطها العاتِي يزلزل الأرض من تحته!​
رباه.. تلك العينين أستلاحقه طوال عمره!​
هذه الطفلة تملك عينان وكأنهما مُحيط عميق​
لم يعد يشبه الزُرقة بالسماء.. قد شبّهها مرة وسقطت تلك السماء على رأسه!​

تفاجأ بها تمسح بيديها الصغيرة على ذقنه وتضحك له فاتسعت ابتسامته المرتجفة وأخذ يمسح على رأسها برعشة يستلذ بنطقه لإسمها:"أفنـان"​

قطع روحانية الموقف سحب شامة لها وأخذها بتملك لأحضانها قائلة:"أكيد أمها تنتظرنا"​
تلاقت نظراته مع أفنان فالتقط فيها ذات البؤس الذي سكن روحه لأخذها من بين ذراعيه، ابتلع ريقه بصعوبة وأشار بإيجاب وهو يراها تمشي بتعثر أمامه، انحنى يلتقط الألعاب التي أخذتها وقبل أن يذهب قال للبائع بحزم:"تأكد مرة ثانية من خلو ألعابك من الدبابيس"
أشار بإيجاب فخرج يهرول خلف شامة ليقول:"يا آنسة، يا آنسة"
أغمضت عيناها بتوتر لضربات قلبها العنيفة ثم توقفت خطواتها تنتظره، وقف أمام أفنان ليمد لها الألعاب فالتقطتها ببهجة وضحكتها أينعت بروحه فابتسم أحن بسماته.. تلك البسمة التي دمرت حصون شامة فارتجفت قائلة:"لازم أروح"

كاد أن يسألها عن هوية الطفلة لكنها لم تترك له فرصة وهي تهرول للمنزل خوفاً من قلبها ومن لعنات منتهى التي ستصيبها لو علمت ماحصل لإبنتها..

في ذات اللحظة كادت تقف وتسترق النظر من النافذة تقول بتوتر:"شامة تأخرت"
لتوقفها سماهِر بسؤالها المُلح:"تظنين ماراح يعرف عن وجودها للأبد؟"
لتبتر خطواتها وتلتفت لها:"لو عرفنا وينه مختفي لكان عرف! السرمدية بتكون كذبة بالوقت اللي بنلقاه فيه.. لكن هو وينه؟"

تقول سماهر بوجع:"يوجعني قلبي من لحظة قلتي لي عن اللي حصل معكِ، ياليت دروبنا بعد تشردكم من الحصن تلاقت من زمان ولكن حسبي الله على من كان السبب حتى جوالك تركتيه خلفك من الرعب وأحنا نقلنا من بيتنا القديم فتفرقت دروبنا! لو مالقيتك قبل شهر بجنب المدرسة القديمة بالصدفة لكنا للآن ضايعين"

تصمت لبرهة من الضيق لتردف بعد لحظات :"صحيح عاصي أكيد رح يعرف وين مكان إختفاءه ورح يعطينا خبر عنه"
أضمرت سخريتها لحياتها مع عاصي فهو لا يأتي في الشهر سوى مرتين أو ثلاث وإن أتى إشتعلا ناراً من تناقضهما إذاً متى ستسأله عن صديقه المدعو هشام والمختفي منذ عام؟

لتتفاجئ بعينا منتهى اللتان تحولتا للقتامة من شدة حزنها لتقول بسخرية:"لو لقاه كيف بيزف له الخبر، مبروك بعد سنة صار عندك بنت؟ الله بس المستعان ولله في خلقه شؤون
لابأس سماهِر.. نصيبنا كذا"

ارتبكت سماهِر وعلى عكس طبعها اللامبالي وقفت تقول :"تدرين إني ما أقصد أوجعكِ.."
قاطعتها بضيق: تعرفين طواريه توجعني بل تهلكني
لسنة كاملة، مافكر يتطمن علي وهو يعرف بأي حال الوطن، مايعرف حتى أنا عايشة أو ميتة
شخص مثله رمى علي يمين الطلاق برسالة كلها حقد، ظنّكِ وش بيقدم لبنتي إلا الوجع؟"
ابتسمت باضطراب وهزت رأسها بإيجاب
في هذه النقطة لديها كل الحق، ذلك الرجل لم يهتم لها خلال سنة كاملة وكأنما ارتكبت جُرم بحقه.. صحيح لم تُخبرها منتهى بما حصل بينهما لكن هذا لايعني تركه لها بهذه الطريقة!
لو كانت في محلها.. لبحثت عنه في كل شبر في القسط .. وقتلته..

فُض نزاع الأعين بسبب دخول شامة المضطرب فهرولت منتهى لها تتلقف ابنتها المبتهجة بالألعاب بيديها وتضمها بحنو لصدرها لتقول مُعاتبة:" تأخرتوا يا شامة"
تأملت وجه شامة الشاحب فعقدت حاجبيها لكنها لم تترك لها فرصة للتساؤل، تقول بمرح مصطنع:" بنتك حبّت كل الألعاب ولاقدرت تستقر على هذي إلا بالموت"
ابتسمت بحب لطفلتها فأخذت تضمها أكثر لتذوب صخرة كبيرة كانت تجثم على قلبها منذ سنة وحواسها تتلقف تلك الرائحة .. رائحته هو
هِشام .. الذي سماها ذات يوم روحه وسماءه الثامنة

تراقصت كل أجزاءها على أوتار الكمد وكبحت سماءها الشاسعة أمطارها بصعوبة تهز رأسها رفضاً .. هشام عماد
مالذي سيأتي به إلى هنا بعد سنة ؟ تباً لي ولقلبي الخائن الذي لم يرتد عن حبك برغم قُبح أفعالك

غمرت طفلتها بأحضانها أكثر علّ الرائحة تلك تضمحل لكن.. لافكاك.
*
بعد مجيء ليالي وأخذها لمنتهى وأفنان ، خرجت شامة بوجهها المشربّ بحمرة نابعة من حرارة شعورها ، لتقف بمنتصف صالتهم ترى جسد سماهر يحجب ضوء شمس الغُروب
كالعادة؛ تراقب حضور خطوات عاصي، من لحظة خروجه حتى لحظة عودته وهي تقف بضع ساعات تنتظره، تدّعي اللامبالاة بغيابه وتُظهر بحضوره عدم اهتمامها لوجوده
لكن أخواتها يعلمون؛ أن عاصي ليس بزوجٍ وجوده كالعدم! عاصي بات ركيزة بحياة أختهم وبرغم إظهارها عكس ماتشعر إلا أن تصرفاتها تناقض ذلك!
مكوثها في شقتهم في غيابه ، وقوفها على النافذة تتلهف خطواته ، وبرغم أنها لم تبكِ غيابه أبداً إلا أن حضور اسمه بأي جلسة يجعل شعوراً غريباً يطفو على ملامح وجهها

كان وجود سكون بكل مرة يغيب بها عنهم يخفف من وطأة غيابه ، لكن هذه المرة.. بات غيابه كشعور من ينتزع روحها من جسدها!

انتبهت واخيراً لوجود شامة خلفها ونداءها المُلح فتغضن جبينها بإرهاق:" هلا شامة؟"

تنهدت شامة باضطراب وقالت:"واخيراً لفتت انتباهك ! - تنحنت قائلة بارتباك - صديق عاصي جاء من جديد "

تحفزت خلاياها لطاريه مع ذلك لم تُظهر لتقول بهدوء:" المجنون ؟"
كانت إشارة الجنون تخص - جلال - فكل مرة يتواجد في أسدام ويطلب منه عاصي الاطمئنان عليهم يأتي ويربكهم تماماً لدرجة أنه ينفض الشقة وكأنه يبحث عن قنبلة مختبئة تحت إحدى الوسادات

أشارت بالنفي فقالت سماهر بحيرة: " البارد ؟"

والبارد لم يكن سوى - هشام - فهو بعكس جلال تماماً لو كانت هناك قنبلة لانفجرت بهم وهو لايعلم فهو يأتي فقط يتفقد أحوالهم من الخارج ويدور حول المبنى ثم يبتعد !
أشارت بربكة بالإيجاب فعقدت حاجبيها:" وليه ما أعطيتيني خبر؟"

لم تود سرد ماحصل مع أفنان خاصةً مع اضطراب دقات قلبها بشعور لذيذ فصمتت ، أما سماهِر تنهدت تمسح على وجهها وهي تهمس بضيق بعدما رأت شامة تغطي أُذنيها برعب بعدما دوى صوت قصف:" متى بتفهم ياعاصي إن وجود أصدقائك لا يسمن ولا يغني من جوع في حال غيابك انت .. متى ؟"

تكرر حضور هشام خلال اليوم التالي بشكل ملحوظ فكان يأتي كل ثلاث ساعات وبكل مرة تلمحه سماهر لوقوفها على النافذة ، لترتدي حجابها وتخرج ،تقف على الباب قائلة: " يا أخ"

سمع نداءها فتقدم بهدوء يعطيها ظهره قائلاً باحترام :" تفضلي "

بالطبع لم تكن تعرف اسمه .. في الحقيقة لا تعرف إسم أي شخص فيهم سوى يوسف !
ولا حتى الرجل الذي ماتت زوجته وولد أخيه في انفجار .. لم يعطيها عاصي أي إسم لذلك كانت تجهل هويته ، قالت بحرج: " ما يحتاج تتعب نفسك وتجي كل فترة ، احنا بخير الحمدلله - وبسخرية - طمن قلبه "

سكت يشد على قبضته بكل قوة قبل أن يؤمئ بإيجاب:" لو احتجتوا أي شيء فسجليه عندكِ ، أنا راجع بكرة"

سخرت منه ، لم يقل سأعطيك رقم هاتفي بالطبع يخاف أن تطير رقبته لو علم عاصي ، أجابت بـ-تمام- وعادت للمنزل بينما هو لم تطاوعه قدماه وتبتعد عن هذا المبنى

تباً منذ البارحة وقلبه يتلوى داخل أضلعه لم يترك له القدرة على النوم والراحة خاصةً وأنه لايملك سوى هذه اليومين ليرتاح بها من النوم على صخور الجبل ! تلك الصغيرة تؤرق مضجعه
عيناها تسكن أحلامه ومازالت لمسات يديها الصغيرة على جسده ! وكأنه ترك قلبه هنا تماماً في هذه النقطة وذهب
ولم يعد يستطع الابتعاد ، لم يعلم ما الذي جذبه إليها ولكن بداخله شعور يحرقه حرقاً !
ولم يسأل عن هويتها فهو ليس بحقه !
لذلك عاد أدراجه خائب الأمل .. يحارب ذكرى عينيها بيد من حديد علّها تبتعد عن رأسه فيستريح .. ولكن إن استراح عقله أيستريح قلبه؟
*
بوسط صالة المركز الفسيحة ، يجلس بملامح هادئة يمرر بعض الأوراق للملازم الواقف بجانبه بينما الكتيبتان واللتان من المُفترض أنهما ذهبتا لشرق أسدام لمهمة فرضها عليهم المقدم الذي يقفون أمامه .

كان يطرق بحذاءه العسكري الأرض ، وكأنه يعد الثواني وينتظر، ينتظر
حتى أتت سبب انتظاره وخطواتها تكاد تحرق الأرض غضباً لم يرفع رأسه وكأنه لم يلتقط حضورها لتُفاجئه بضربها على الطاولة بعنف كاد أن يمزق يدها، ليرفع رأسه بدهشة من طريقتها ، أرسلت له حنقها بنظراتها بسخاء ليقف باحترام يحييها بالتحية العسكرية ليشاركه بالتحية جميع الجنود المتواجدين ، فاجئتهم بصوتها الغاضب وهي تعود لتضرب كتفها بشيء من الحدة: " أنا ما وصلت لهذي الرتبة بعد كل هالتعب لأجل يجي نقيب يفرض أوامره علي .. تفهم ولا لا ؟"

رمقها بهدوء ليستفز هذا الهدوء كل أعصابها فتعيد ضرب الطاولة بعنف:"انت مجرد جندي يعمل تحت إمرتي ، يعني أوامري تطالك وتطال كل شخص بهالمكان تفهم ؟"

الجنود يراقبون عصبيتها المفرطة وغير قادرين على فهم كلماتها ، ليزيد النار حطباً، يقول بخفوت:" تحدثي بلغتنا حضرة المقدم ، نحن لا نفهمكِ .. دعينا نفهم سبب هذه الثورة"

( اللعين ، الكلب ، الحقير .. كان يباريني بلغتي والآن يدّعي عدم معرفتها ..) نظرتها القاتلة كانت خير دليل على مايعتري روحها من غضب لتقول وهي تقبض قبضتها بعنف:" ما أقوله ياحضرة النقيب ، أنك مجرد جندي وضيع تعمل تحت إمرتي .. إياك ثم إياك وتكرار هذه الفعلة ، إياك أن تقف بوجه أوامري مرة أخرى وإلا قسماً بالله سأجردك من رتبتك في التو واللحظة"

شحبت وجوه الجنود ولم يُعلقوا فقط وقفوا مراقبين ، متذبذين بين أوامر الشخصين لتلتفت لهم بعصبية :" وأنتم ، من طلب منكم العودة بعدما أرسلتكم لشرق أسدام!!"

توتر الجو ، خاصةً بأن سلام مازال تحت وطأة تعنيفها له يحاول كبح إنفعالاته ومداراة غضبه بكل مايملك من طاقة .. ليبتعد عن الطاولة، يقف أمامها بملامح متجهمة قائلاً:" أنا .. وأنا مخول لإبطال أوامركِ ووضع أوامري فوقاً منها .. والدليل أمامكِ - أشار بيده على الجنود - "

احتقن وجهها وكادت أن تكسر أسنانها من شدة الضغط عليها رفعت سبابتها لتهدده:" لا تستفز أعصابي أيها النقيب .. لا تدعني أؤذيك .. أنا المسؤولة، لذلك كُف عن التنقيب عما يؤذيك"

خرج من إطار هدوءه ليقول ببعض الحدة: " ماذا ؟ ألن تكفّي عن رمي أوامركِ دون تفكير مسبقٍ بها؟ .. أنتِ مسؤولة عن أرواح أبناء شعبي أيتها المقدم!! كيف ترسلينهم لتلك المنطقة وأنتِ تعلمين أنه مشتبه بوجود مقاومين فيها بوجود الرافضين لوجودنا "

ابتسمت بسخرية وقالت بلا تحفظ بلغتها:" ليه تظن فيه قسطي راضي بوجودك على أرضه ؟"

شعت عيناه بغضب لتكمل بلغته وبحزم: " ولأني أشك بوجود مقاومين أرسلتهم لها ، ماذا ؟ أتود أن يسيطروا عليها ويستولوا على شرق أسدام لتُرضي غرورك الذكوري ؟ أصعُب عليك أن تأمرك امرأة؟ .. ألم أفعلها مسبقاً؟ ما الذي تغير ياحضرة النقيب ؟"

نظر لها نظرة غامضة ليضع يده خلف ظهره يضغط عليها بعنف قائلاً بصوت عميق: " تغير الكثير ياحضرة المقدم .. الكثير "

حاولت تجاهل رجفتها ، لتلتفت للجنود بوجهها المحتقن بغضبها قائلة بقوة أرهبتهم .. كيف لتلك الضئيلة والرقيقة أن تُصدر صوتا يهزهم هزاً:" الكتيبة رقم خمسة وستة ، يُخصم من رواتبكم النصف لمخالفة أوامري..-حاول سلام مقاطعتها فأشارت له بأن أصمت! لتستطرد - وسيتم إرسالكم لحدود أسدام بدلاً من الكتيبة الثانية والثالثة ليتولوا هم مهمتكم - التفتت له بشهلاء تشع قوة يعرفها تماماً - وأنت أيها النقيب تعلم تماماً عاقبة العصيان ولكني بقرارة نفسي سأتجاهل الموقف وأحسبه سذاجة منك ولكن إن تكرر الأمر سأرفع عصيانك لقائد الأركان ليتولى هو أمر عقابك "

بان البؤس على وجوههم وهم يرمقون سلام خفيةً بنظرة أن - لتذهب للجحيم لقد أرسلتنا للموت بتعنتك - فكتم غيظه بصعوبة بينما هي نظرت لهم باستعلاء وأخذت تتهيأ للإبتعاد ليقفوا معتدلين محيين لها التحية العسكرية برغم فداحة أوامرها .. ابتسمت بسخرية لحالهم وابتعدت بذقن مرفوع برغم ما يجيش بداخلها

أما سلام فقبل أن يبتعد سمع الملازم يتحدث مع جندي آخر: " يبدو أن النقيب سلام والمقدم لن يتفقا أبداً .. وكأنهما أعداء ! أنا خائف من إنفجارهما في ظل هذه الظروف !"

ليؤيده الآخر تحت نظرات سلام ، يلملم أوراقه بكبرياء لم يُخدش ليرفع رأسه قائلاً بصرامة: " سمعتم الأوامر ؟ نفذوا!"
لم يلتفت لحنقهم وهو يتعداهم ليبتعد متجهاً لمكتبه

عادت لمكتبها بعد اجتماعها مع النقيب وبقية الجنود ، التعب يهد جسدها هداً ولكنها لا تملك رفاهية الراحة .. تباً تود لو تختبئ تحت هذا المكتب وتبكي حتى تتورم أجفانها لكنها لن تستطع ، ليس الآن على الأقل فهي في وضع لايخولها للبكاء !
اقتربت من المكتب تضع أوراقها ، ليثير انتباهها وجود كوب من القهوة وقطعة من الكعك - المفضلة لديها - نظرت لها بدهشة فهذه المبادرة لم ترها منذ سنة ونصف أي منذ التزامه ثم رحيله

أغمضت عيناها بقوة تحاول كبح دموعها لكنها لم تستطع .. تباً له تباً له ماذا يفعل هذا الرجل بها !
لقد أهلكها منذ عودته .. ليس بالرجل الذي اعتادت وجوده
مرةً يبدو وكأنه قريب منها، يدللها بكوب قهوة ويداري مطالبها ، ليلتزم بعدها فتفهم أن دينه يلزم عليه عدم التباسط مع من ليست بمحرمٍ له، وهذا ما تعلمته في آخر سنة لها .. ثم يفجر قلبها بطلبه الزواج
ليكتشف خيانتها فينأى بعيداً عنها بصمت دون فضحها ثم تصيبه رصاصة فيعود لبلده دون أن تسمع أي خبر عنه!
يعود بعد عام كشخص آخر ، غاضب وبارد بشكل مثير الفزع ، وأحياناً تفلت من عينيه نظرات تربك كل خلاياها
ليُرهق قلبها بتذكره لتفاصيلهما اللطيفة كقهوة وقطعة كيك بعد يوم طويل ومتعب !

ماذا يريد منها ! لماذا يسكت على خبر خيانتها حتى هذه اللحظة ، لماذا يعارض أغلب أوامرها ويحاول كسر هالة القوة خاصتها ؟ لماذا تشعر أن عيناه مليئة بالغموض ! إن هذا الرجل يُتعبها
إن هذا الرجل يتلاعب براء الحرب في حبها !

هي لم تعد موقنة بأنه مازال يحبها أصلاً ..!
أخذت ترتشف رشفة من القهوة ، لتتفاجئ بإنهيار كلي لسد دمعها فتتهاوى تحت المكتب تغطي فمها بيديها تحاول كتم شهقاتها بصعوبة

تباً .. لقد نجح بهدم قوتها وجعلها تنهار ببساطة
وتباً إنه يقف الآن خلف باب مكتبها يعتصر الملف بين قبضته يكاد يفتت الأوراق وهو يسمع صوت بكاءها الواضح ، آثر الإبتعاد فأخذ يجر خُطاه وهو مصمم على ما يفعله .
*
*


لم تُلقِ بالاً للبرد العنيف الذي اجتاحها ، نست حتى أن اليوم هو ذكرى الإنتفاضة المهيبة
النار التي تعيث فسادًا في روحها لم تترك لها مجالاً للتفكير لا بجسدها الذي يكاد يلتصق ببعضه من شدة البرد ولا لأحداث الوطن !

شدّت العباءة لجسدها تتمتم بالآيات التي حفظتها في اليوم السابق«كانت تتلو آيات الله على أحزانها فتسكُن وعلى قلقها فيهدأ وعلى كسورِها فتُجبر ولذا كانت إذا لمحت مصيبةً من المُصيبات هرولت إلى القرآن ليزمّلها !»

هدأت روحها واخيراً ، لكن عقلها لم يهدأ
إذ تسلل لسمعها صوت خطوات تدكّ الجبال
لم تكن إثنتان ولا خمسة .. عشرات الرجال
دبّ الرعب في قلبها فالتفت بهلع تتجه لحقيبة الإسعافات ، رتبتها بلا وعي دون أن تقترب من الراقد على فراشه وأخذت تُمسكها بكل قوة تدعي الله، تخرج من البيت الجبلي - دون أن تلتفت -
ركضت بلا وعي ، تكاد خطواتها لاتُسمع من شدة عجلتها
إن استأمنت رجلان من المقاومة لايظهر منهما سوى أعينهما فكيف ستأمن عشرات الرجال منهم...!
*
*
في الجهة المقابلة ، كان يدك الأرض من شدة اضطرابه .. تباً !
كان قد تعلم إلجام مشاعره واستطاع بكل مرة ترويضها .. لكنه منذ البارحة وكأنه على صفيح ساخن من شدة الخوف
لأول مرة يخرج من أسدام منذ اندلاع الإنتفاضة
وعندما وطأت قدماه البيت الجبلي ورآه
أيقن أن خروجه عن الأوامر يستحق .. هبط قلبه بين أضلعه واقترب يتحسس وجهه بكفيه يهزه بخفة هادراً بخوف: " طوفان ، طوفان ،علامك يارجل ،الرصاصة بكتفك ليه جالس وكأنك تستقبل الموت .. قم يابغل لا يشوفونك جنودك فتطيح هيبتك اللي حرصت تبنيها سنة كاملة ..! "

وقف حينما لم يلقَ إجابة ومسح على وجهه بخوف أكبر ، أخذ يطل على الحراس الذين لم يدعوه يخرج من أسدام إلا وهم معه .. ضرب إطار النافذة الحجري بكل قوة يحاول أن يُهدئ روحه ولكن لم يستطع!

بعد ساعة سحب الشال من على وجهه مع القناع وأخذ يسكب دبة من الماء على شاله ويكمّده به عل حرارته تخف،ومع مفعول المسكن انخفضت .. بقي فقط استيقاظه
هو يظنه يموت لذلك يكاد أن يذوي مكانه من الرعب.. خاصةً وأنه لم يرى يوسف بهذا الشكل من قبل أبداً ! لطالما تحامل على آلامه، حتى في آخر حادثٍ له.

وضع رأسه بجانب رأسه، يهمس بلوعة:"قم يارجل ، هزيت قلوب ماتعودت على الخوف"

استكان بجانبه لدقائِق ليسمع صوت حشرجة ضحكة مُتعبة رفع رأسه وهو يرى يوسف ينظر له بمرح متجاهلاً أوجاعه ليهمس بعبث:" لو تعرف .. وش الطيف اللي رسمه عقلي لحضورك ! لكسرت رأسي"

نظر له بعينيه المتسعتان بدهشة ليقف ويبتعد عنه خطوات متعثرة ثم يهوي ساجداً على الأرض يلهث بالحمد ، تغضن جبين يوسف من الألم ومن حاله فقال بخفوت والمسكن يعطي مفعوله فلا يشعر بوجع كتفه بشكل كامل:"جهاد .. الإصابة كانت بكتفي ،صحيح حصلت مضاعفات بس الأكيد إني ماكنت أمثّل الموت،ترى كنت نايم بس"

وقف ينظر له بطرف عينيه ثم استعاد واجهته الصلبة ليقول بغضب: " أي حُمق تركك ماتنتبه للحيوان اللي رماك ؟ وأنا بكل ثقة العالمين تركتك تقود الجيش الشعبي نقطة غباء أحسبها ضدي.. اي والله"

ضحك بوجع، يرفع جسده يحاول الإعتدال فاقترب جهاد بلهفة وأخذ يُساعده وسط ضحكات يوسف:"يارجل ترى لي سنة ما غزّتني شوكة.. ولما تحالفوا الشياطين عليّ قمت معهم ضدي ؟ أفا يا قائد ؟"

نظر له بغضب وهمس بخوف:" مايكفي الرصاصة اللي براسك ، تحب تجمع الحديد في جسمك؟ ودك تتحول لرجل آلي"

تعالت ضحكاته فبترها بآه متوجعة تركت جهاد يفز مرعوباً ليكتم يوسف ضحكاته بصعوبة على حال جهاد الغريب ليقول: " تعرف ، الرصاصة اللي برأسي مجرد ديكور" قاطعه جهاد بعنف:" وسبب كافي للجنون " هز رأسه بأسى عابث: " مُهدد فقط بالجنون ، يعني تهددني بس لاتخاف ما بتوفي بتهديدها "

نظر له بضيق فالتقطته عينا يوسف وأخذ يقول مهادناً :" أنا بخير لا تخاف ، عطني ساعة بس وتشوفني زي الحصان .. الرصاصة ما أثرت علي
كنت واعي وقت سحبها هِشام من كتفي
آذاني النزيف وصح فقدت وعيي بس الأكيد إنهم وقفوه بطريقتهم"

قاطعه وقوف جهاد من جديد المضطرب ، وأخذ يبتعد عنه ويدخل الغرفة المجاورة ثم يخرج من البيت الجبلي ويهمهم للرجال بكلمات لم يفهمها يوسف تركته يقف بصعوبة مترنحاً بفعل المسكنات لكنه ضغط على نفسه وأخذ شاله يلفه على وجهه كيفما تعود فلم تظهر سوى عيناه ، خرج بصعوبة فالتفت له جهاد واقترب بغضب:"ليه تخرج؟ ليه وقفت أصلاً؟"

رمقه بشك واضح خاصةً مع استنفار حُراسه فقال بهدوء:" وش صاير ؟"
ببساطة أخفى اضطرابه وقال بهدوء :"أعطيتهم خبر يحرسون الجبل كامل "
وقف بلا استناد وأخذ يقول بصبر:"وش صاير ، لاتنس وإن كنت تعرف تخفي دواخلك عن جيشك وجنودك كلهم .. لكن عني منت قادر !
علمني يا جهاد ترى مالي حيل بالتفكير"

نظر له بهدوء هذه المرة وأخذ يتذكر أنه من أرسل هشام إلى أسدام قائلاً أنه سيأتي ، وجلال أخبره أن ينتبه للدكتورة، لكن أين هي هذه الدكتورة!!
قال نصف الحقيقة بخفوت :"كانت موجودة معك دكتورة وهي اللي أشرفت على إيقاف النزيف ، والمُفترض أحضر وتكون متواجدة، لكن يبدو أنها اختفت أو ملت وقررت الرجوع، تجهل بأنها لو مشت على قدمها بتبقى تمشي عشرات الساعات لأجل توصل لأول قرية بأرماء !"

لم يلتفت إلا لـ لقب - دكتورة - خاصةً مع طيف حاصره طوال فترة نومه،ليقول بهدوء - يعلم جهاد يقيناً أنه هدوءه يسبق عاصفته - :" وليه خايف كل هالخوف ؟ رعشة عيونك واضطراب تصرفاتك؟"

ألقى عليه نظرات شاردة للحظات ولكنه قال بكل بساطة: " لأن الدكتورة كانت - بنت الوزير السابق - "

راقب نظرات يوسف التي لم تهتز وجسده الصامد حتى بكتف ملتهب ، يترقب ردة فعله
وأبداً لم يتوقع أن يصمت كل هذه الثواني !
ليفاجئه بأن دنى منه وسحب مسدسه من حزامه وهو يتخطاه بخطوات صلبة وعينان تقذفان شرراً .. قال جهاد بغضب: " طوفان ، اعقل واترك عنك الإستهتار بحياتك ! خمسة وعشرين حارس يبحثون عنها"

التفت له بجنون العالمين وبنظرات تكاد أن تصهره:" والله وبكسر الهاء .. لو يصيبها خدش بس لأدمر لك كل هالجبال ولتشوف العجب مني - ألقى نظرة بانورامية ثم قال بحدة - اجمع شمل رجالك انت بليّا عقل يوم تركت أغراب يدورون على زوجتي يا جهاد
انت جاهل .. وصدقني لو صابها مكروه راح تذوق عقاب جهلك بطريقة ما بتخطر على بالك"

لم ينصدم .. لقد تحول بشكل مخيف وكأنما لديه قناعان على وجهه وقلبه .. واحد مرِح عابث ولامبالي .. وآخر يخُصها ويخُص القسط على حدٍ سواء ثائر وغاضب ومضحي صرخ جهاد بغضب متجاهلاً أسلوبه :"يمكن تكون رجعت مع هشام"

التفت له بنظرة حارقة وملامح تفيض ناراً من شدة الغيرة:"بتأكد بنفسي من هالنقطة" ثم ابتعد بخطواته والتي رغم ألمها ثائرة ، وكأنه في جبهة حرب ويحارب لأجل وطنه من جديد،إنما هذه المرة .. هي وطنه!

لذلك صرخ جهاد يجمع رجاله يشتم جلال الذي لم يرى سوى هذه المرأة ليأتي بها لعقر دار هذا المجنون، ألا يكفي أنه ارتاح منها لسنة !
لم يُزاحم القسط في عقل يوسف أحد والتفت لوطنه ، تلك الإلتفاتة التي احتاجوها ليقود جيشاً شعبياً بآلاف الرجال ويحرر أغلب المناطق من بطش المحتلين والخائنين !

قد قالها قبلاً ،إن أحبّ يوسف فتلك أحد الكوارث لأنه لن يشارك قلب رجل ثوري عاشقاً لوطنه .. سوى إمرأة وتباً لهكذا عشق يجعله يركض وراءها ودماءه لم تجف بعد

أخذ الكلاشنكوف من يد أحد حراسه وركض خلف يوسف، يبحث عن بلاءه بالحياة.. تباً حازم من زرع هذه المرأة في حياته فلتتحمل أنت!
*
بعد ساعة من البحث..
جسده يئن من الوجع وزخات عرق باردة تنضح من أطرافه ،برغم البرد القارص وحرارة جسده التي تناقضه
كان يدك الأرض باحثاً عنها ، لم يسترح دقيقة واحدة لم يهنأ له بال
رباه .. هل حرم على نفسه رؤياه لسنة كاملة خوفاً من ضعفه لتأتي بأكثر الأوقات ضعفاً فيها ؟
تباً لك جلال،سأقتص من عنقك فلتنتظر أنت وهشام ! والأحمق عاصي كيف يتركها تغادر أسدام وتأتي إلى هنا!
كان يتوعدهم كلهم ويسكب سيل الشتائم على رؤوسهم ، ثم يلهج بالدعاء لله بأن يحميها بدأ بالدخول للمناطق المحظورة ، تلك التي يشكون بوجود مرتزقة متمركزين بها
اضطربت نبضات قلبه فأخذ يدعو:"يارب تكون بخير.. يارب أموت أنا ولا تغزّها شوكة
يارب احمها.. احمها.. احمها "

لم يُعر لضعف جسده بالاً، فقط ليراها ثم يتطمئن أنها بخير وبعدها ليموت إن أراد
توغل بمناطقهم بلا وعي ، ولأول مرة يفقد طـوفان حذره ويهيم على وجهه بلا وِجهة!

مازال يذكر قوله (أنها بوصلته) وهو الآن يتجهها ويرحب بالموت إن كان في سبيلها
فالموت في دين الحب في سبيل المحبوب شهادة !

شحبت ملامحه الباهتة ، وارتجفت كل أضلعه
هي ، هي ، هي ! لن تُخطئها رجفة قلبه
لن تُخطئها رعشة عيناه هي تقف خلفه بسواد عباءتها،أمامها رجل أسمر بملامح غاضبة
يحدثها ،لا لم يكن بحديث كان يحاول ضربها
يمسك ذراعها ليجُرها وهي تقاوم .. وتقاوم

رباه .. هل هو حلم ؟ لماذا لا يستطيع التحرك
والتقدم ليخنق هذا اللعين بيداه حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة، ليقطع يديه التي أمسكت بذراعيها

رفع مسدسه ينوي قتله غير معير لأي من التحذيرات اهتمام أحدها أن صوت رصاصة واحدة في هذه المنطقة بالذات قد تُسبب بخروج كل المرتزقة من جحورهم وهو واحد
مع ذلك لم يهتم .. لتتوقف يداه عن الضغط على الزناد متسع العينان مرتعش الجسد،يراقب الموقف بشيء من عدم التصديق !

رآها بحركة سريعة تدنو من معصمه لتعضها فيصرخ مبتعداً للخلف ثم عادت خطوة هي أيضاً تنحني لأقدامها وتسحب من خلف ساقها شيئاً معدنياً،تقف تلك الوقفة-التي علمها بنفسه-تمسك السلاح بذات الحركة وتُطلق بدون أن يرفّ لها جفن ليسقط جسد المرتزق مسجى على الأرض بلا حراك
وسط نظراته المصعوقة .. وقلبه الذي فقدت نبضاته زمام الأمور ،ركض بلا وعي فالمسدس كانت تضع عليه كاتم الصوت متناسي أنه في يوم ما قد وصلها خبر وفاته .. ليتوقف في مكانه عندما رأى إثنان يخرجان من الخلف ليصوب سلاحه لهما ويرديهما قتلى وسط رعب سكون التي استوعبت الأمر فأخذت تلتفت بهلع لتسقط عيناها على الجسدان اللذان تدحرجا من على الصخور ، ثم التفتت لترى من أصابهم ..

وهنا .. توقفت الأرض عن الدوران
وصمتت كل الكائنات
وتوقف الزمن ..
أتُشرق في الليل شمس؟ أتسطعُ خلابة حلوة؟
أيُغرس في القلب خنجر؟ أيتوه عقلٌ لطالما عُرف بقوته؟

أن تقف في منتصف جبال أرماء يحيط بها المرتزقة من كل جانب ، بعدما جِيء بها من وسط المنطقة لتعالج قائد الجيش الشعبي هي أمورٌ يستطيع عقلها أن يستوعبها

لكن أن تقف على نفس الجبال بعدما قتلت رجلاً وأمامها يقف... يوسف
لهو شيء يدعو للجنون، أليس كذلك؟

بلباس أسود قاتم كحال كل الجيش الشعبي
وشال أبيض وأسود كان قد انزاح عن رأسه ووجهه وسقط على عنقه ،فظهرت لشهلاءها المصعوقة ملامحه والتي رغم إرهاقها .. مهيبة!
ارتعشت كورقة في مهبّ الريح فسقطت أرضاً تضع يديها على رأسها من شدة الوجع الذي عصف بها ليتسع ليلهُ الحالك فيصبح كمجرة مظلمة من شدة الخوف خاصةً وهو يرى تقدم بعض المرتزقة ناحيتهما ..
صرخ لها بغضب وهو يرى الحد الفاصل بين حدوده وحدودهم ،إن تعداه يعني حرب طاحنة
يصرخ بغضب وهي لا تفقه شيء ،رأسها يكاد أن ينفجر من شدة الخوف!

قال بشيء من التوسل:" أرجوكِ يا سكون.. لا توجعيني فيكِ"
يارب .. هل هو واقع أم وجعي جعلني أتخيله ؟
رفعت رأسها لتراه يقف بغضب بملامح متجهمة بعكس صوته الحنون لتتفاجأ به يرتفع فجأة على إحدى الصخور العالية يقف وقفته،وقفة الأبكم التي علمها بها إحدى المرات لُيطلق خمس رصاصات متتالية لم تعلم أنها أصابت خمسة رجال!
قفز مرة أخرى بطريقة سريعة يكتم وجعه بصعوبة ، ليتجه لها وعندما اقترب صرخت بعنف تشير له بالنفي ودمعها يحرق مآقيها: " لالالالا، لا تقرب مني لا تقرب .. بسم الله بسم الله"

احترق قلبه لردة فعلها فحاول استمالتها له خاصةً وأن المكان خطير جداً ، ولايخاف على نفسه إنما يكاد يموت رعباً لأجلها .. قال بوجع: " أرجوكِ تعالي معي .. وبشرح لكِ كل شيء "

هزت رأسها بالنفي ولؤلؤ شهلاءها يسقط على وجنتها ليزيد وجهها الشاحب لمعة فتصرخ بعنف:" لاتقرب مني أقولك ، ابعد عني .. يارب يارب ساعدني يااارب "
يكاد قلبه يهوي من شدة الرعب ، أتراها تراه رجلاً من هؤلاء الخائنين ؟ ألا تصدق حقيقة وجوده هنا
بعد ثلاث مئة وخمسة وخمسون يوماً من الفراق ؟
رأى مرتزق يُخرج رأسه من على الصخور برغم ضبابية رؤيته من شدة وجع رأسه فرفع مسدسه ينوي إطاحته لكنه تفاجئ بخلوه من الذخيرة
ليشحب وجهه برعب ويقترب بلمح البصر غير معير رفضها إهتمام ليقبض على خصرها بكل قوة ويلصق جسدها به بحركة خاطفة ويُديرها للجهة المقابلة فيجعل جسده درعاً لها فلا يصيبها وجع وهي معه..
كانت تضرب ذراعيه بغضب ودموعها لم تتوقف وهي تصرخ: " لا تلمسني ، اتركني ، أرجوك اتركني "

ليهمس بصوت مكتوم من الوجع مستشعراً نزيف كتفه يصل لخاصرته والوجع يتكابد عليه:" أهون عليكِ ؟"
صمتت للحظات ليكمل هامساً: " يهون عليكِ يوسفكِ؟"

تغضنت ملامحه بوجع ساحق وهي تدفعه عنها بكل قوة ليراها تُمسك السلاح بذات الطريقة التي علمها ثم بيدين ترتعش رعباً ورغبةً بالحياة تفجر رأس ذاك الذي كاد أن يقتلهما
ليبتسم بضحكة ويهمس بفخر: " هذه حبيبتي الثورية "
بالطبع لم يكن الوقت المناسب لضحكته خاصةً وهي ترى أربعة يتهافتون عليهما وتُدرك أن جسد يوسف لم يعد يملك أي طاقة وهي تعلم أنه يجاهد كي يقف ، لم ينتبه لتقدمهم بسبب ضبابية الرؤية لديه وتشوش عقله فالتفتت بكل جسدها ناحيتهم وأخذت تُطلق الرصاص عليهم بلا هدى حتى فرغ مخزونها
واحد أُصيب بكتفه وآخر في ساقه والبقية سليمين ليهتف بغضب :" مجنونة أنتِ ؟"
تغمض عيناها للحظات ثم ترفع رأسها للسماء تستشعر دمعها وهي تظن أن وجوده تصوره عقلها من شدة الخوف ، يبتسم ويضحك بل ويصرخ ويحتضنها!

لم تُدرك أنه يفتديها بروحه من جديد إلا عندما سحبها مرة أخرى ودفعها لصخرة عملاقة اختبئا خلفها ، هو يستند بظهره على الصخرة وهي تتنفس بكل قوة وتعطيه ظهرها عندما أمسك ذراعيها يقول بصوت باهت:"لاتخافين ... أنا معكِ ، قد قلت لكِ لا حبتك عيني ماضامك الدهر"

كانت ستثور ، ستفقد عقلها ، سينتهي عهدها مع التعُقل من شدة جنون الموقف وتلك الجملة ترن بآذانها ،لقد أرهقها حظها لسنة طويلة بسببه هو .. كيف يأتي الآن ليقول هذه الجملة من جديد ؟
أتراه أتى فعلاً وليس بحلم ؟ رأسه الذي هبط على كتفها جعلها تبكي وصوت بكاءها ازداد بعنف وهي تسمع صوت إطلاق الرصاص بشكلٍ عنيف.. لابد أنها أصابته لابد أنها بجسد يوسف كل هذه الرصاصات وإلا لماذا سكن
لِم تستشعر هوان جسده ؟ التفتت تتلقفه بين يديها غير معيرة للمكان أي اهتمام لتبكيه بفزع عندما لمست قميصه الغارق بدماءه
التفت برعب لتجد رجلاً بعينان غاضبة يقترب منهما يمسك كلاشنكوف وخلفه عشرات الرجال
احتضنت يوسف برعب .. وبكاءها يزيد لتهتف بخوف:" لا توجعه أرجوك أرجوك "

صرّ على أسنانه بغضب .. الغبي الأحمق
لقد كان يفديها بروحه للمرة التي لا تعد ، ولو لم يرى جهاد يقترب منه بل وابتسم له بثقة لما فقد طاقته على التحمل وانهار!!

أمسك رأسه بتعب شديد ، والتفت يأمر حُراسه: " لا تتركون أحد يدخل حدودنا ، هنا تنتهي المواجهة فهمتم ؟"
أشاروا بحزم فالتفت لتلك التي تحتوي جسد يوسف بكلا ذراعيها تخبئ رأسها في عنقه وترتجف من شدة الخوف

تباً .. أتراه يوجد لقاء أكثر كارثية من هذا اللقاء؟
بين حدود منطقتين
هي وهو في مواجهة الكثير من المرتزقة !
هي برعب وقلب مكلوم وهو بكتف مجروح وقلب ملهوف !
اي علاقة يشهد عليها جهاد هذه اللحظة !!اقترب فصرخت بجنون وهي تبعد يداه عنهما :"لا تقرب لاتقرب ، قسماً بالله لو مسيته بأذى لا أقتلك بدون يرف لي جفن"

هو رجل مسلح ، وهي إمرأة بلا سلاح ومعها رجل جريح فقد وعيه من الوجع
من أين اتتها الشجاعة لتصيح به بلا وعي منها ؟ أتراه لو كان جندي خائن هل سيقتلهما؟ أم رؤية ذلك الحب بعينيها غير المصدقة تذكرة حياة ثابتة؟

أخذ نفس بصعوبة ليقول بهدوء:" أنا القائد ، وطوفان جندي تابع لي "

وهذه كانت الجملة الوحيدة التي تركتها تبتعد عن يوسف بتخبّط شديد ، وكأنما عادت للواقع
إنما عادت كشبح ، تراقبهم بعين ضبابية .. يرفعه قائده ليسنده بكليته على كتفه ولم يتذمر لثقله ثم يشير لها فتتبعه وخلفهما رجلان ضخما الهيئة ..

يلتفت بين فينة وأخرى ، يراقب خطواتها المتعثرة وصوت شهقاتها المكتومة
وكأنما أُنتزِعت من ذاتها وأصبحت كالشبح تهيم بلا وعي منها
لم تخف من أصوات الرصاص المتلاحق ولا من الصراخ العالي وعويل الرعب
كانت تمشي بلا روح ، وكأنما عودة يوسف للحياة بنظرها نزعت روحها!

وصلا للبيت الجبلي ، والصمت يفترش المكان حتى عندما شرعت بمعالجته بيدين ترتعشان ذعراً وعينان لا تصدقان أن الرجل المسجى أمامها .. هو يوسفها
زوجها الذي وصل خبر وفاته بشخصيته الوهمية قبل سنة من الآن

يُتبع..



فاطمة صالح. غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-06-23, 07:09 PM   #84

فاطمة صالح.

كاتبة في قسم الروايات والقصص المنقولة


? العضوٌ??? » 506671
?  التسِجيلٌ » Sep 2022
? مشَارَ?اتْي » 81
?  نُقآطِيْ » فاطمة صالح. is on a distinguished road
افتراضي


لم تستطع المكوث أكثر ... يا الله إنها تموت وأنفاسها تختنق داخل رئتيها لماذا لا ينقذها أحد ؟​

وكأنما سمع نداءها ، فتح عيناه بصعوبة بالغة لينظر إليها نظرة تلخص كل معاناته ، نظرة تستدجيها أن تمنحه فرصة، أن تحبه .. فقط تحبه​

رفع يده بمشقة ليمسح دمعة بللت فكها ، لتنهار كل مقاومتها وتسقط بالقرب منه تبكي بكاء لم تبكِه بحياتها​

يا الله .. يا الله​
إنه حي يرزق ، ليس من وحي الخيال​

أخذت تُقبل كل إنش في وجهه ، تمسح على كفيه ، ترفع رأسه وتحتضنه بين ذراعيها .. تبكيه رعب وعدم تصديق وهو مستسلم​
وعلّ آخر ما ارتسم على وجهه هو بسمة متعبة.. قد تعب ثغره في إنتظارها !​

بينما هي وبعدما استوعبت بأنه قد عاد للنوم من جديد ، ابتعدت بخطوات مخذولة تكفكف دمعها بأكمام عباءتها التي اتسخت بفعل أيامها الحافلة ، لتسمع أنين يوسف المتوجع وهنا يزداد قلبها اختناقاً وبالرغم من أنها دكتورة وتعي أن أنينه بفعل الجرح إلا أنها لم تستطع المقاومة ، لم تملك القدرة الكافية لسماعه​

هي تملك قلب واحد ، أيريدونه محروقاً ليرتاحوا ؟ ألا يكفيهم سنة كاملة تعيشها بين ألسنة نيران الجوى​

لتتأكد أن سبب كمدها حي يرزق؟​

ركضت بلا وعي تود فقط الخروج من هذا المنزل ولم يتبعها جهاد ، فقط راقبها من مكانه بهدوء​

ليراها ترتد للخلف بقوة بسبب الجسد العريض الذي اصطدمت به ليرى ذلك الجسم يمسكها بخوف وحينما استوعب هويتها .. ووقعت شهلاءه القاتمة في عيني جهاد​

علم أنهم فتحوا على أنفسهم أبواب الجحيم​
تباً لعاصي وليوسف ولسكون هذه أيضًا .​
*
*​
هل مر أسبوع منذ آخر مرة تلاقت عيناهما؟​
لقد تناثرت تلك الليلة الضحكات على مسامعها عندما تعرض أحد الأسرى لانهيار عصبي إثر حبسه في السجن الداخلي وبين غُرف المرتزقة​
وسماعه لأصوات الرجال مع نساءهم!​
حوّلوا الحدث لأضحوكة ، إلا أنها الوحيدة التي بكت دماً عندما سمعت ماحصل!​
لم يعلموا أن هذا الرجل .. من أعتى وأشد الرجال​
وإن انهار رجلٌ معروف بقوته فاعلم أن ماحصل ليس بالهيّن عليه​
أهينٌ أن يرى زوجته تُقاد إلى غرفة أمير المرتزقة كـ غانية وهو يراقب بلاحول ولاقوة ؟​
لا والله .. ليس بهيّن !​

مر أسبوع وهي تحترق بنار اللوعة ، فلم تستطع الوصول إليه ولا معرفة كيف حاله​
أبحثت عنه ثمانية أشهر لتلقاه على هذا النحو ؟تباً لذلك !​
التفتت برأسها نحو جسد الأمير المستكين على سريره وشتمته بداخلها بغضب..ذاك اللعين​
لقد جهزت مسدسها بتلك الليلة لتفجر رأسه إن حاول الإقتراب منها،لكن وبعد رؤيتها لعمّار وعلى تلك الحالة أصبحت كشبح .. لا تُصدق أنها عندما بدأت تفقد الأمل ظهر من العدم​
كيف انتهت بهم الطرق إلى هذه النقطة !​
هي كغانية لأمير المرتزقة وهو كأسير لديهم !​
عندما بدأت تستوعب مايحصل أخذت تنحني لتستل مسدسها من خلف فخذها​
كان لديها إثنان ولكنها فرطت بواحد لسكون عندما كانتا في الباص .. لكن صوت الأمير الذي خرج مرتعشاً جمّدها ولكن بنبرة لم تخلُ من الأمر:" إجلسي بمكانك بدون حركة مثل الجثة ،صدقيني لو سمعت لك صوت قتلتك بأرضك وتصيرين جثة حقيقة بدون تمثيل"​
استقامت ورمقته باستنكار ولكنه لم يبالِ وهو يضطجع على فراشه الأرضي يضع يديه تحت ذقنه ويهدهد جسده وكأنه يحاول أن ينام كالطفل،لم تعلم أنه كان ينعى محبوبته التي قتلها بيديه وبدون تفكير منذ دقائق فحسب​
خانته .. وهو إن مات حباً فلا تُجزي الخيانة في عرفه إلا بالقتل .​
مع ذلك لم يكن بالأمر السهل عليه ، حيث بقي على حاله يهدهد نفسه طيلة الليل ،تاركاً إياها تقف بمكانها تمشط كل الغرفة بنظراتها حتى علمت بكل ثغراتها​
علمت بأن هناك قبواً في الأرض حيث طرقت بلطف على الأرض وأصدرت صوت اهتزاز خشب​
فعلمت أنه أحد المخارج ، أيضاً كان الأمير يُخبئ إتفاقياته مع المحتل وبقية المرتزقة في أحد الصناديق الخشبية والتي علق مفتاحها برقبته​
ليلة علمت بها بعض أسرارهم ولكنها كلفتها أعصاب وطاقة زوجها !​
تعلم يقيناً أن التعذيب لن يهد رجلاً كعمّارها​
ولكنه ينهد لأجلها!​

صبح تلك الليلة غادرت بعدما استيقظ وصرفها بقلة تهذيب بعد تهديدها بأن لا تتحدث عن ما حصل ، حاولت رؤية عمّار أو معرفة أين حبسوه بعدما انهار ولكن لم تستطع​
فتحت عينيها بإنهاك حينما ولجت إحدى الفتيات الصغيرات، الحقيقة هي لم هي بل كانوا الجنديات يسحبونها سحباً ، كانت خائرة القوى بل جثة هامدة​
همست إحداهن ببكاء:"يخرجون غضبهم بأجسادنا يتلذذون بانتهاكها ، عذّبها بعد اغتصابها للمرة اللي ماتنعد والسَّبب مازال نفسه​
فشل استحواذهم على مدخل أرماء السري !"​

رفعت رأسها ووقفت بغضب لم تستطع كبحه وهدرت بعنف:" وراح نبقى كذا ؟ مضطهدات كأننا آلات يفرغون غضبهم فينا"​
صمتن بخزي إلا أن إحداهن قالت بفتور: " تكلمي عننا ، أنتِ خارج الحسبّة ، يبدو بأنكِ مع رجل محترم ياخذك سالمة ويردك سالمة!"​

حسناً ، يبدو أنهن لا يعلمن أن الأمير بات يطلبها كل ليلة ويأمرها بالصمت والوقوف طيلة الليل ثم يصرفها بعد تهديدها ! مازال يرثي حبيبته التي قتلها بيديه الإثنتين قالت بقهر: " أرجوكم ، تعبت من جثث البنات اللي تنرمى مثل الحيوانات الموبوءة يكفي ، زحفوا على الممر السري وكانوا بيقتلون رجل من الجيش الشعبي وأهله ولكن صدّوهم بسبب إنذار من جهاز رجال الجيش اللي قتلوهم وهذا اللي نظنه و المفترض بنا نفرح ولكننا ننوح ليه؟ لأن عمليتهم فشلت "​
قالت إحداهن ضاحكة بوجع:"مرة ثانية المفترض ندعي ينتصرون على الجيش الشعبي وينتهي عهد الجيش هذا لأجل نعيش بسلام "​

رمقتها مرجان بعدم رضا فأنزلت رأسها بعدما تلاشت الضحكة وأخذت تبكي بوجع:"تعبت ، الهرب والمغادرة من هالمكان صارت حلم ، والموت هو طريقنا الوحيد ولكنهم يمنعونا عنه"​

عمّ الصمت أرجاء المكان لتعزم مرجان على حرق هذا المكان ولو كلفها الأمر رُوحها ، سكنت لوهلة متذكرة تخطيطهم على موكب للجيش الشعبي​

لايعلمون لماذا يتجهون فالمخبر اكتفى بهذه المعلومة وهم يعملون عليها ، لتُفاجئ بثورة عنيفة وأصوات الرجال تُفجر الآذان من حِدتها​
دنت برأسها تحاول الفهم ولكن الحارسة على الباب دفعتها بعنف وهي تصرخ:"أدخلي يا **"​
رمقتها بشراسة بسبب كلمتها..وأيقنت أن الشيء الذي تعلمته خلال هذا الأسبوع-كبح غضبها-لذلك عادت وهي تحاول تنظيم ضربات قلبها التي اشتعلت، الأصوات تتعالى، الخوف يشتد والرعب يتقافز بين ذرات الهواء ينظرن لبعضهم البعض بصمت خوفاً من تلك التي تقف أمام الباب​
لتدخل أخرى مُعذبة كالبقية إنما تقاوم ، انهارت بجانبهن ليساعدنها على الجلوس فتقول بلهاث:" قتلهم"​
نظروا لها بعدم فهم فتقرفصت مرجان بجانبها:" علميني من قتل من"​
نظرت إليها بنظرات زائغة لتهمس بوهن:" الأسير ، كانوا يضربونه ويعذبون فريقه كالعادة-توقفت تلتقط أنفاسها وتنظر لمرجان التي تكاد أن تنفجر لتكمل- طلبوا من صديقه يضربه لما تردد قتلوه قدام عينه"​
جحظت الأعين وبقوا ساكنات من عمق الصدمة ليخرج صوتها مختنقاً ببكاءها:"من مات؟ الأسير اللـ.."​

قاطعتها بهزة رأس:"الأسير اللي تمرد بعد صمته كان الضحية في البداية ، ثم صار السوط بيدينه طلبوا منه يضرب صديقه ولكنه فاجأهم بأنه طلب انه يقتله ببساطة "​
شهقن الفتيات بينما هي وكأن قلبها يُعتصر​
أسبوع تبكيه دماً والأن أستبكيه أكثر؟​

استطردت ببطء شديد نتيجة وجعها:" أعطوه السلاح وهو بلا تردد أطلق على رأس صاحبه الثاني"​
نظرت لها مرجان بتكذيب ، لن تُصدق،​
عمّار لن يقتل قسطي مسالم ولو مات جوراً​

لتؤكد تلك ظنونها:" المسدس كان فارغ ، كانوا يختبرونه ولما نجح ملئوه بالرصاص ولكنهم تأكدوا من أمانهم .. إثنين بس وقفوا بجنبه ويصوبون على رأسه والأمير واقِف وراه ينتظر ، بلمح البصر قتل صديقه ومن جديد بلا تردد"​

نظرن لبعضهن بعدم تصديق ، بينما هي تفرك يديها تكاد أن تقطع جلدها ذهولاً ، دمعها ينساب بلا هوادة على وجنتيها ، لينصدمن عندما سمعن شهقاتها تعلو وتعلو​

حتى ملأ صوت بكاءها أرجاء المكان رباه .. لقد سلبوه ضميره وقتلوا إنسانتيه​
عمّارها ، متى تحول لهذه الدرجة ؟​

قالت تلك ظناً منها أنها تهدأ من روعها:" الأسير نقلوه لغرفة التمريض بسبب شدة التعذيب فقد وعيه أمّا صديقه مات"​
نظرت لها بضبابية بسبب دمعها فهمست ببكاءها:" تعذيب ؟"​

نظرن إليها كمن قالت كلمة بلغة مختلفة لترد إحداهن بسخرية مريرة:"تظنين الأسرى هنا ينامون على حرير ويأكلون مالذ وطاب ومرتاحين؟ هنا تنقشع جلودهم من شدة الضرب بالسوط والله أعلم كيف يتعذبون إذا احنا يقتلون أرواحنا قبل أجسادنا تتوقعين هم كيف ؟ وإذا انهاروا يعالجونهم ما يبغونهم يموتون بسهولة"​

قتلوا روحه ، تحديداً بتلك الليلة التي رآها تُقاد إلى غرفة الأمير لترفع يدها تضرب صدرها علّ الجبل الذي جثم على روحها ينهد ضربته مرات عديدة وصوت نحييها يشتد وسط رعبهن ومحاولة تهدئتها ومن بين همهمتها غير المفهومة كان إسمه ينساب بصعوبة:"حبيبي ياعمّار، حبيبي كم عانيت"​
توقفت فجأة لترتمي يدها على فخذها تنظر للفتاة ذات الوجه الشاحب تمسح على شعرها برغم وجعها لتهمس لها بإختناق:"كيف عرفتِ كل اللي حصل"​
ضحكت فتأوهت بسبب نقرة وجع في معدتها بسبب ركلة الرجل في بطنها لتهمس:"ضريبته كانت كل هالكدمات ، علّمني اللي حصل ثم فرغ غضبه فيني"​
نظرت إليها بوجع ، ثم لحظات واحدة فقط قبل أن تتحدث فتتركهن فاغري الفاهه ينظرن اليها كالمجنونة ، تقف تمسح دمعها وتنظر لهم بقوة:" يلا"​
لم يتحركن لتهمس بغضب:"مو انتوا مقهورات؟ موجوعات؟ فرغوا طاقتكم فيني - وبنبرة باكية- أرجوكم هذا الحل الوحيد"​

نظرن إليها بحيرة وتردد ولكن تلك الساخِرة وقفت لتضربها بعنف على كتفها ، تأوهت مرجان بوجع مع ذلك استقامت من جديد لتقول: " بقوة أكبر هذي حدود غضبكِ؟"​

استفزتها ، فضربتها بقوة أكبر ثم أكبر حتى وقفت إحداهن وضربتها معها ثم ثلاث وهي تصرخ:"أقوى أقوى " وهن ينفذن مطالبها حتى انهارت مضرجة بدماءها تحمي مسدسها القابع خلف فخذها بيديها​
انهارت واحدة بجانبها تبكي بهلع:"ياغبية استغليتِ غضبنا وبتموتين بسببنا"​
ابتسمت لها بصعوبة لتهمس:"هذي الطريقة الوحيدة لأجل أحيا..أرجوكِ أحتاج أروح لعيادتهم"​
هزت رأسها بذعر وهي تستقيم وتضرب الباب بكل قوة وعندما لم يرد أحد ضربته بقوة أكبر​
وساعدنها عدة فتيات حتى ظهرت تلك الحارسة تنظر لهن بحدة لتتسع حدقات عينيها عندما رأت مرجان فهمست بشتائم عنيفة: " هذي تخص الأمير ، عليكم اللعنة"​

قد علمت قبل التفكير بخطتها ، أن الحارسات لن يُخرجوها إلا إن احتكّ إسمها بإسم الأمير​
فدخولها لغرفته كل ليلة منذ حضورها وبعد وفاة صالحة كان كافياً ليعلو مكانها ولو قليلاً لذلك استغلت هذا الجانب ونجحت!​
*​
بعد عدة ساعات​

فتحت عيناها المنتفخة بسبب ضربهن بصعوبة ، تنظر للمصل الذي يصل للإبرة بيدها يقطر .. قطرة ، قطرة​
راقبته بلا حياة للحظات بسيطة قبل أن تدب الحياة فجأة في جسدها كصاعقة كهربائية وهي تتذكر ، أن عمّار هنا يبعده عنها جدار فحسب !​
كانت قد علمت أن غرفة التمريض كما يسموها غرفتان متصلتان ببعضها البعض يفرق بينهما باب فحسب وهو الفاصل​
رفعت رأسها لترى تلك الحارسة تقف متجهمة على رأسها لتقول بغضب:" عليكِ اللعنة ، تشوه وجهك وراح نُعاقب كلنا بسببكِ لو رآه الأمير"​

نظرت لها مرجان بفتور ثم أغلقت عينيها من جديد تدّعي النوم لترفع تلك معصمها تنظر لساعتها لتقول الممرضة الشابة:"نامت بفعل المسكن"​
لتقول تلك بغل:"الله ياخذهم كلهم ، ما أعرف ليه اختارها الأمير كل هالليالي بعد أختنا صالحة"​
همست الممرضة بهدوء:"أرجو منك الخروج ، تعرفين هذه الجمل ممكن تكلفنا رؤوسنا .. الأمير له حرية التصرف وما لنا حرية التعبير أبداً"​
تأففت بضجر وأشارت على مرجان:"خلي عيونك عليها،وأنا بحاول أتصرف بليلة الأمير"​

هزت رأسها بهدوء وهي تجلس خلف المكتب الصغير بعد ساعة أخرى فتحت مرجان عينيها تتأكد من خلو المكان لترى الممرضة والتي-ترتدي السواد من رأسها حتى أخمص قدميها - تريح رأسها للخلف وتغط بنوم عميق ، أخذت نفس بصعوبة ووقفت مترنحة من شدة الوجع ، تكابدت على نفسها وانحنت تتأكد من وجود مسدسها فالخدر بجسدها منعها من التأكد​

تسللت بخفة الطير فمرت عبر الباب الفاصل.. لكن وجود الأربعة حراس فوق رأسه تركها تنهار ببكاء فاقدة الأمل برؤية لمحة منه للتأكد بأنه على قيد الحياة​
عادت أدراجها خائبة وبعد لحظات من استلقائها على السرير لمحت الممرضة تستقيم من مكانها بصمت وتخرج من الغرفة متجهة للغرفة الأخرى ، سمعت أصواتهم تتعالى ثم خروجها من غرفة التمريض والأربعة رجال خلفها لم تعلم مالذي حصل وماهي نوايا الممرضة من ادعاءها النوم قبل لحظات لكن كل ماتعلمه أنها لو لم تستغل فرصة خروجهم لماتت بحسرتها ، فوقفت متحاملة على نفسها تجرّ ساقيها جراً حتى وصلت لذات الباب إنما لا يوجد أربعة دببة تغطي الرؤية عليها..​

رأته.. وأخيراً..​
لتغطي فمها بيديها تكبح صوت شهقاتها المتقطعة وتقترب بخطى مصعوقة للتأكد بأنه هو​
رباه.. لقد عذبوه حتى الموت وهذه الكدمات التي شوهت جسدها لم تكن بشيء عند جروحه​
جلست بجانبه بجسد مرتعش ، متلهف ، مشتاق حد الموت لرجل يمثل الحياة لها غاب عنها لأشهر طويلة​
انحنت برأسها غير مهتمة بشفتيه المتورمة من شدة الضربات ، وطبعت قبلة رقيقة عليها غافلة عن دمعها المالح الذي سقط على شفتيه وعلى أنحاء وجهه​
غير مهتمة لا بالتوقيت ولا بالمكان تُقبل كل جزء بوجهه وتمسح على رأسه تبكيه كمد ولهفة..ولوعة نحرت قلبها​

لتتوقف فجأة ، وجهها قريب من وجهه حدّ إختلاط أنفاسهما المضطربة عندما تلاقت خضراءه الباهتة ببندقيتها الذائبة في الوجع​
توقف الزمن .. وظنت أن كل هذه الدنيا صمتت​
تستمع لصوت تنفسها اللاهث​
لم تنتبه لفيضان دمعها الذي أغرق وجهه إنما بقت تحدق به للحظات معدودة قبل أن يغلق عيناه من جديد​
لـتشهق باكية بعنف تريح جبهتها على خاصته تهمس ببكاء:" عمّار،أرجوك اصحى افتح عيونك ، عمّار أنا ميتة من سنة وباللحظة هذه بس ردّت لي الحياة .. أرجوك يا حبيبي أرجوك"​
كان يقاوم ، يعلم الله كم قاوم ألا ينهار هذه اللحظة​
كيف ينظر لها؟ بعدما فشل بحمايتها ؟ بعدما انتهكوها؟ ثورته وغضبه وقتله لعشرات الرجال لم تنفع بشيء​

لقد أشعل المكان غضباً لأسبوع ومع ذلك فعلوا فعلتهم بها!​
كل جسده يئن ألماً ولكنه لايساوي شيء عند ألم قلبه وروحه ورجولته! لم يفتح عيناه برغم من الدمعة اليتيمة التي هزمت مقاومته وسقطت من زاوية عيناه .. لتراها وتشهق أكثر، تنحني لتُقبلها بكل لهفة وتمسح على رأسه بحنية:"لاتبكِ ياحبيبي ، لاتبكِ يا روح مرجان.. -وكأنما فهمت سبب تيهه وضعفه فاقتربت هامسة بأذنه- أنا بخير يا عمّار "​

أرجعت رأسها للخلف غير مهتمة بأوجاعها فرؤيته أمامها حي وبرغم آثار التعذيب سلبت منها حق الألم ، راقبت تشجنات فكه وكأنه يقاوم قالت من جديد من بين بكاءها إنما بصوت حازم وثابت:"أنا مرجان ، تعرفني صح ؟ تعرف سنواتي قضيتها وين وأي قوة أمتلكها ؟ أنا أكثر من قادرة على الدفاع عن أملاك زوجي ، أنا أملك القوة الكافية لكسر يد بل ورأس كل شخص يفكر يقرب لشيء يخصك ياعمّار "​
لامست أرنبة أنفه بأنفها، تكمل هامسة ببحة سبّبتها كثرة البكاء:" وأنا أخصك انت ، أنا ملكك ولك .. ظنّك بتهاون بشيء يخصك؟ بتركهم يلمسوني وأنا لك؟ قسماً بربي لكنت نزعت روحه بيديني ولكان ميت قبل يلمس ظفر مني"​

فتح عيناه بصعوبة شديدة بسبب الكدمة المُزرقة حول عينه اليسار ، وألقى نظرات حائرة​
خاوية عليها لتنظر له من ذلك القرب هامسة بتعب:"أنا مرجانك انت وحدك .. ومابكون لغيرك قسماً بنافخ هالروح بجسدي بأن ولاشخص لمسني وبإني ماكنت لغيرك من بعدك "​

همس وظن أن همسته لاتصلها بسبب الكدمات على حلقه وفكه:"بس أنا شـ.."​
وضعت يدها على فمه لتهمس:"أوووش لا تتعب نفسك ، كُن بخير تكفى يا عمّار وأنا لا تخاف علي أنت تارك خلفك جُندية تحمي وطنها.."​

أعاد الهمس برغم الوجع:"بس انتِ وطني"​
انهار سدّ دمعها من جديد لينفض فيضانها على صفحة وجهها هامسة بذات القُرب:" وأنا كفيلة بحماية وطنك يا حبيبي "​
ابتسم من بين وجعه: " أول مرة تقوليها"​
عقدت حاجبها وببحة بكاء:" وش هي؟"​
همس بذات البسمة:"حبيبي"​
ضحكت من بين دمعاتها وهزت رأسها لتقول:"وانت أول مرة تقولها"​
-"وش هي؟"​
-"انتِ وطني"​
بقيا صامتان للحظات خاطفة ليستعيد وعيه من نشوة لُقياها ومعرفة أنها بخير ليهمس بإدراك:" كيف وصلتِ لهنا؟ وكيف بتخرجين؟ لازم تلاقين ثغرة وتهربين من هالمكان مرجان،مابرتاح وأنتِ هنا وحول هالرجال .. قسماً بربي بإني أموت كل ليلة"​

تنهدت ترفع جذعها عنه وتمسح وجهها من سيل دمعها لتقول هامسة بعدما نظرت للباب بحذر :" كنا ندور عليك ، تعرف الجيش الشعبي صاروا يقولون بأن قائده مجنون بسبب حرقه لكل سجون المرتزقة وغضبه العنيف بكل مرة يدخل سجن ومايلاقيك فيه"​
ابتسم بمحبة خالصة:"يوسف"​
هزت رأسها بتأكيد:" الفريق كله يبحث عنك،ولكن للأسف مالك أثر فقررت أترك كل مهماتي وألتفت للبحث عنك معهم ، بهالوقت لاقتني عجوز واستخفت بعقلي وسحبتني لهنا.. في الحقيقة هذا الإستخفاف الوحيد اللي ارتضيته لعقلي الحكيم .. لأن بنهايته لقيتك"​

نظر لها بتيه وحاول الإعتدال لكن صوت الآه طحنت قلب مرجان لتقف مرتجفة من تجعد ملامحه من شدة الألم ، حاول رفع يده ولكن شهقة بكاءها جمّدته وهو يراها تنظر لكفه اليسار التي خلت من أحد أصابعه ليعيدها للخلف من جديد ، ويسمعها تقول برجفة وجع:"أوجعوك جداً..عذبوك اللي بليّا رحمة"​
تنهد بإنهاك لينظر إليها بثبات عكس الظلام الذي بات يحيط روحه ليقول:" مرجان،لازم نخرج من هنا ، لازم ندمر كل شيء قبل خروجنا ، لازم نقتل كل رجل بهالمكان .. تفهمين ولا لا ؟"​

تعلم يقيناً مامعنى هذه النظرة بخضراء زوجها الباهتة لتهز رأسها بعزم رغم دمعها قائلة:"هذا عهد قطعته على نفسي من لما شفت البنات يُغتصبون ويُعذبون ..."​
قاطعتها نظرته القاتلة لتقول بتوتر:" لاتخاف علي"​
ارتفعت بجسدها على السرير لتمسك يده السليمة تضعها على المسدس خلف فخذها هامسة:" لاتخاف"​
ارتاح جزء منه فقط ، ولكن الجزء الأكبر يموت ذعراً عليها لينظر إليها للحظات قبل أن يبدأ بالكلام عن خطته التي نسجها منذ أسبوع ونصف من الآن لتستمع له بكُل جوارحها مؤكدة على كل حروفه .. وبعدما انتهى همس قائلاً:" أرجوك ، تعاليلي قطعة واحدة بنهاية الطريق ، أنا تعبت من الموادع ، تعبت من الفقد فكيف بفقد وطن؟"​

نظرت له لتقترب تُقبله بكل رقة وبلا أدنى تردد أو خجل لتبتعد هامسة: " عاهدت نفسي أحافظ على وطنك يا عمّار ، وأنا ما أخلف بوعدي "​
قالتها لتقف بصعوبة تمسك نفسها من الصراخ من شدة الألم لتنظر للباب قائلة:"لازم أرجع ، الممرضة بترجع بأي وقت"​
نظر لها بنظرة غامضة وهز رأسه بإيجاب إنما فهمت نظرته لتقول بهدوء: " بكون بخير..المهم انت ، لو مت أنا سلبوك وطن ، لكن لو صابك جرح بيسلبوني حياة يا عمّار"​
ابتسم لها تلك الإبتسامة التي -تخصها هي وحدها- وبرغم تورم وجهه والكدمة قرب شفتيه إلا أنها كانت أحنّ بسمة رأتها بحياتها​

لتخرج عائدة لسريرها عازمة على تنفيذ كل أوامره بحذافيرها، خاصةً بأنها أخبرته أن هناك عملية بعد يومين من الآن ليؤكد لها أن الخطة ستعمل من هذه اللحظة ووجب التحرك، لم تنتبه لظل الممرضة الذي غادر الممر بخفة الطير لتستدعي الرجال فيعودون للحراسة، ولم تنتبه بأن إبتسامة عمّار لم تتلاشَ رغم الوجع، عدم التصديق بأنها هنا وبخير رغم التفجير الذي أُلحِق بالمكتب الرئاسي ، و برغم القهر​
ليعترف ببسمته وأمام طوفان مشاعره يُقرّ بانتماءه لها وبأنها الوطن والموطن ، بلاده وصوت كل الشعوب ، ذخره وسلاحه وعتاده،طمأنينته وحربه والسلام، نشيده الوطني وأهازيج الحروب​
تلك المرأة التي تُصبّ القهوة من عينيها​
هي جيشه وجُنده.​
*​
*​
كان سيعود اليوم لأرماء بسبب تجمع كل فريق القوات البرية استعداداً لمواجهة المحتل في منطقة الحصن وتحريرها مع الجيش الشعبي​
ولكن أمر جهاد كان قطعياً، عاصي قد بلغ مبلغه من الغضب لذلك الأجدر به المكوث هنا حتى يتلاشى غضبه​
يعلمون يقيناً أن عاصي عندما يغضب ينسى كل ما حوله، خاصةً بعدما علم عن أختيه أصبح متعصب لهما​

وقف أمام إحدى المحلات بجدارها الزجاجي وأخذ ينظر بتعجب، كيف بقي هذا الجدار صامداً في ظل كل هذا القصف؟​
وقف باهتمام يرى القناة التي تبّث أخبار الديجور ، وماهو مكتوب أسفل بالشريط بلغتهم (طيارة f16 تخترق دفاعات البلد ولم تستطع المضادات من إطاحتها​
وثورة شعبية من الشعب الديجوري لضعف دفاع الدولة ضد طائرة واحدة فقط.. فكيف بمئات غيرها؟)​

كتم ضحكته بصعوبة..حمقى​
لم يعلموا أن القوة ليست بالحديد إنما بمن يُصيره ويُوجهه.. القوة ببركانهم الثائر​
همس بحسرة:"جلال اللي بيقطع عاصي رأسه بسبب غباءه"​
ليعقد حاجبيه بذهول وهو يرى الهمر العسكري​
وخلفه سيارة عسكرية أخرى تتخطى وقوفه إلى شرق أسدام ، اضطربت دقات قلبه ولم يعلم سبباً لذلك لم يفكر وهو يتبعهم إذ أنهم دخلوا القرية الشرقية، وشوارعها ضيقة مما يترك سرعتهم خفيفة لذلك يستطيع تحديد مسارهم وإدراكهم​

اشتدّت عقدة حاجبيه وهو يراهم يقفون أمام منزل مصنوع من الطين، ليتحاوروا مع عجوز ويبدو أن النقاش احتدّ حتى حاولوا أبناءه التدخل ولكن صدُوهم بالأسلحة، أشار على البيت المقابل يصرخ بلغته:"لتخرج تلك اللعينة الآن، وهذان البيتان سيُهدمان"​
سمع صوت بكاء النساء العالي وارتسم القهر على وجوه الرجال حتى عندما أشهر العسكري ورقة -الهدم الذاتي- للمنزل أخذها ليمزقها أحد الأبناء ويصرخ بعنف:"هذا استعباد ، كيف نهدم بيوتنا بأيدينا بس لأجل أهواءكم، أنا خسيس ونذل لو سويتها.. هذا بيتي وهذي داري وأرضي وأنت محتل ملعون"​

سكت مجبر بسبب من هجموا عليه يضربونه بلا رحمة وسط سخط أهل الحي ومحاولة إنقاذه​
اقترب يحاول لجم شعوره العنيف.. تباً لا يستطيع المساعدة​
مجرد دخوله في مشكلة مع الجنود الديجوريين يعني مصيبة لن يحمد عقباها!​
وقف بجانبهم ليسمع رجل يهمس بقهر:"يجبروننا نهدم بيوتنا بأيدينا، أي ظلم أكبر! الله حسيبهم"​
ليرد الآخر بذات القهر:"وبيت المراسلة الإخبارية راح ينهدم.. يبدو بأنهم ينتقمون منها بسبب إنقلابها الدائم ضدهم"​

تغضن جبينه يحاول إدراك هوية تلك المراسلة ولكن لم تترك له فرصة وهو يراها تركض من بين الجموع تُمسك الميكروفون وذلك المصور يركض خلفها يصور كل متر بهذا الشارع، لتصرخ بعنف:"تهجموا على داري، على بيتي.."​



انتهى الفصل~​
قراءة ممتعة.. ​



فاطمة صالح. غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-06-23, 07:21 PM   #85

فاطمة صالح.

كاتبة في قسم الروايات والقصص المنقولة


? العضوٌ??? » 506671
?  التسِجيلٌ » Sep 2022
? مشَارَ?اتْي » 81
?  نُقآطِيْ » فاطمة صالح. is on a distinguished road
افتراضي


الفصل الواحد والثلاثون

*
*
ماشاء الله، اللهم بارك
اللهم صلِّ على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
*
*

يلتفت كل الجنود إليها، فتقف بصلابة متصدية لهم تلهث من شدة التعب لتهتف:"وش تسوون قدام باب بيتي يا محتلين.. يا ملعونين"

اتسعت حدقات عينيه بعدم تصديق والصدمة جمّدته في مكانه فلم يستطع التحرك وهو يرى الجنود يحاولون كسر الكاميرا والمصور يقاوم أما هي فكانت تصيح بهم بعنف:"لاتقربون، ألا لعنة الله عليكم"

رآهم يتدافعون واخيراً تحركت أقدامه يشق الجموع، تسلل الشحوب لملامحه وتفيض الصدمة من أجزاءه وهو يراها.. تلك المرأة -زينة- تخرج من المنزل ومن خلفها خرجت مكسية بالسواد حتى عيناها لا تظهر، لكنه لم يُخطئها البتة
إنها هي.. الخائنة!

ابتلع العلقم ووقف لوِهلة، أيراها تذوق عاقبة خيانتها وبيتها يُهدم فوقها مثلما هدمت عائلة وقلب ووطن؟ أم أن للقدر كلمة أخرى!

وكان له.. إذ أن الطفلة ذات عيني المحيط كانت تتوسد ذراعيها، تلك التي خطفت النوم من عينيه ليومين كاملين!
إنها على ذراعيها تتمسك بها بقوة وكأنها.. وكأنها

تباً تباً تباً.. اللعنة على عقله إن بقي لحظة واحدة دون أن يتحرك
يدفع المشاهدين عن طريقه وهو يرى العساكر يهاجمون كل من يتحرك، طفلة كانت أو امرأة أو عاجزاً لا يهمهم.. يقتربون من زينة التي تبكي بذعر يدفعونها لتأخذ المطرقة يجذبون من كانت روحه بذراعها يُمسكون بتلك الطفلة ليتعالى صوت بكاءها هلعاً

يقترب بكل عنفوانه ليسحب الطفلة من حضن المحتل ويدفعه بكل عنف حتى سقط أرضاً بينما طفلته كانت بين أحضانه يبثّ لها أمان حضوره، لتستكين بنفس اللحظة وتتشبّث بقميصه بينما الجندي وقف غضبان يكاد أن يهجم عليه لولا أنهم التفتوا لقدوم مجموعة من رجال الحي الشرقي يقتربون بالعصي والسكاكين ليتدافع الجنود نحوهم
إلا اثنان كانا يمسكان ليالي بتهمة التشهير وآخر من البيت المقابل لهم!
أمسك يد زينة، يقول بكل قوة:"هيا، اتركوا كل شيء وتعالوا راح يعتقلونكم"
سحبت يدها بعنف فلم تتبين هويته بسبب غلالة الدمع وهي تئن وتشير على ليالي، لتقترب وتدفع الجندي عنها فيصفعها بلا رحمة

تثور حمية هشام فيلتفت واخيراً.. ليرى الشاحبة خلفه تنظر له كمن رأت شبحاً يتجسد أمامها
لم يترك لها فرصة للإستيعاب وهو يترك أفنان في أحضانها قائلاً بقوة:"وقفي هنا وانتظري"

اقترب من الجندي مستغلاً ثورة رجال الحي وانشغال البقية ليلكمه بكل عنف في وجهه فكسر أنفه، ولم يترك له فرصة للدفاع عن نفسه
وأخذ يضربه مرة أخرى على وجهه ثم ركلات عنيفة على جسَده بطرق مدروسة تركت الآخر ينزف من كل جهة بلاحول ولا قوة

اقترب الآخر يصرخ ويسحب سلاحه إلا أن هشام لم يترك له فرصة للإطلاق إذ قفز من على الأرض يلف قدميه بالهواء ثم يمسك بها عنق الجندي فيطيح به أرضاً ليلتفت يمسك وجهه فيلفه بحركة متقنة قد تعلمها في فريقه الخاص ليلفظ الجندي أنفاسه الأخيرة..

أمسك يد ليالي بلا وعي وأخذ يجرها وهي مأخوذة بطريقة قتله للجنديين بلا رحمة فأخذ يقترب من زينة يصرخ بعنف وهو يرى الجنود يسيطرون على الرجال وسينتبهون لهم في غضون ثواني إن لم يتحركوا:"هيا هيا.. مافيه وقت"

ركضت زينة خلفه بينما منتهى بقيت جامدة بمكانها لاقدرة لها على الحراك وكل خلية بجسدها ترتجف، ليعود لها صارخًا بعنف:"ودك تموتين! تحركي يا منتهى"

وكأن نطقه لإسمها جعل كل خلاياها ترتجف أكثر لتُصعق عندما جذب أفنان من أحضانها وأخذ يمشي فتبعته هلعة تكاد تصرخ به لولا أنه أخذ يمسك معصم زينة ويحثها على الغدو قدماً فركضت خلفهم بعدما ألقت نظرة سريعة لعائلة أبو جابر التي تبعت أثرهم وهربوا من المنزل

بعد دقائِق بسيطة استفاق المحتل من لحظة الغباء وأدرك أن حضور رجال الحي لم يكن سوى عملية إلهاء ليلتفت الملازم الأول بغضب ينهرهم:"الحقوا بهم، اتبعوهم الخائنين"

وكان له ما أمر فقد ركضوا ناحية المخرج الثاني للحي، ولم يعلموا أن التهم كانت ثابتة، بيت أبو جابر كان يُهدم ذاتياً ويُعتقل كل من به لوصول خبر أن ابنهم جابر في صفوف الجيش الشعبي
والبيت الآخر تابِع له فقط مؤجر لتلك العائلة
إلا أنه وصل أمر ثانٍ باعتقال المراسلة ليالي
والمصور.. بعدما تخلت المحطة الإذاعية عنهم بعد آخر لقاء لها!
*
ساعات.. يمشون بلا هوادة، لم تُلتقط الأنفاس حتى! وكلما حاولوا التريُث أو الراحة نهرهم،
هو يعلم ماسيحصل لو قُبض عليهم!
وتلك الطفلة كانت بين أحضانه منذ مايقارب الأربع ساعات دون أن تبكي أو يعلو صوت معدتها جوعاً!
أخذ جسد زينة يخر أرضاً من شدة التعب
ورفعت رأسها الباكي تُشير لهم أن (اذهبوا وأنقذوا أنفسكم.. أنا ببقى هنا)

نظر لها بعدم استيعاب، صدمتها طوال الطريق ظن أنها ألجمتها عن الكلام لكن...
توقفت ليالي بملامح متصلبة وأخذت تنحني لها وتقول بحزم رقيق:"يمه، قسماً بالله لو ما تتحملين وتكملين معنا لأسلم نفسي ونرتاح"​
نظرت لها بخوف فوقفت على عجل، وسط تنهيدة ليالي ونظرتها لهشام:"ليش ما نرتاح؟ صرنا بوسط طريق رملي مستحيل يلقونا"
نظر لها بهدوء ليقول بعد بُرهة:"هذا الطريق، طريق سري لعبور أسدام ودخول أرماء..وماهو بهيّن أبداً ولا بآمن عليكم هنا لذلك لازم نتخطاه
لعبنا بكبرياء الجيش الديجوري ولو كنتِ من قبل متهمة فأنتِ الآن مدانة وراح يطول الوجع كل عائلتك وهذا نظامهم، لذلك ما نقدر ننتظر ولو ثانية.. لازم نعبر الطريق
صحيح هو طويل ومتعب، وحنا ننهلك يوم نمره بس تعودنا وانتوا بتمرّونه مرة وحدة لذلك تحملوا"

رمقنه بضياع، فقد حصل كل شيء بسرعة ولم يعوا ما يحصل حتى هذه اللحظة خاصةً تلك التي تقف خلفه بروح باهتة وبعقل غير حاضر
فقط جسدها يركض ويوجهها!
مشى فتبعنه هذه المرة بصمت، بقلب يرتجف ذعراً عليهم، هذا الطريق بالذات مُهلك وهو يعي ذلك ولكنه الوحيد لأمانهم!
ينظر خلسة يمنة ويُسرة عله يجد أحد من الجيش الشعبي أو من فريقه ولكن لا أحد
وهذا بحد ذاته يُثير رعبه.. كيف الطريق كان خالياً وهو لايكاد يخلو خلال الفترة السابقة؟

بعد مدة طويلة، كان قد حمل زينة على ظهره
وأفنان بأحضان ليالي وهي خلفهم..تمشي بصمت وبرغم هوانها إلا أنها لم تنبس ببنت شفة!
ترآى لأعينهم سيارات عادية رجال بثياب سوداء يُغطون وجوههم بالشالات الخاصة بهم
لتهبط السكينة على قلب هشام ظناً منه أنه وصل للأمان..
ولم يعلم أنه وصل.. إلى بؤرة الوجع.
*
عندما تقدم منهم وكاد أن يشير لهم صُعقت عيناه عندما حاوطوه خمسة رجال تتسم نظراتهم بالعبث، قال بثبات:"أنا سرمد"

نظروا له بسخرية ليقول أحدهم:"والمطلوب؟
ما تعرف يا سيد سرمد إننا سيطرنا على هالمدخل؟ ودخولك يطلب رسوم -نظر للمرأتين وقال- امممم وأظن الرسوم جاهزة
طبعاً لو ودك تدخل انت والعجوز والطفلة"

نظر له للحظات بلا استيعاب، تباً ماذا يحصل هنا وما بال رجال الجيش الشعبي جُنوا!

تقدم اثنان منهم ليمسك أحدهما بذراع ليالي وآخر يسحب منتهى له وسط صرخة هشام المصدوم:"ياخسيس انت واياه اتركهم أو قسماً بالله موتك على يديني"

سبع ساعات مشياً على الأقدام ببعض قطرات الماء لم تكن شيء وهو من عانى أكثر في فريق القوات الخاصة! إلا أنهن كن عكسه تماماً
خاصةً منتهى التي احتاجت فقط دفعة قوية من ذلك الرجل حتى انهارت كل طاقتها للمقاومة فسقطت أرضاً وسط بكاء زينة وصرخات ليالي وهي تحتضن أفنان بيد وأخرى يمسكها ذلك الرجل
أفلت هشام زينة برفق وأخذ يركض باتجاه الرجل حتى لكمه بيده بكل قوة فأطاح به ليتلقفها هو بين ذراعيه ويجعل جسده حاجز بينها وبين ركلاتهم لجسدها، بكاء الطفلة صرخات ليالي، وأنين زينة المتعب

تكابَدت كلها عليه، وأبشع ما يوضع به الرجل -موضع يُقهر به- كحاله تماماً وهو يشعر أن أمانته على وشك أن تُنتهك
وقف من جديد بملامح شرسة ليدخل في عراك مخيف مع خمسة رجال انقضوا جميعهم عليه في آنٍ واحد ليستوعب من بين شراسته وغضبهم أن صوت ليالي بدأ يتهدج من فرط الصراخ.. بدأت تبكي
والأهم صوتها يبتعد عنه..

رباه رباه
صرخ بعنف وهو يركل أحدهم في منطقته السفلى ليلتف للآخر بلكمة على فكه وآخر يغرز خنجراً في خاصرته كان قد سحبه من جيب أحدهم
ليبقى له إثنان ينظران له بمزيج من الغضب والذهول ليقترب ثالث من الخلف ويُكبل حركته
بينما البقية تدافعوا يضربونه بكل قسوة وهو يشتمهم، يكاد قلبه يغادر أضلعه وهو يراها بين يدي رجل غريب يعبث بها بلمسات قذرة
صاح يحاول تخليص نفسه، يهتف:"يارب ساعدني أو خذ روحي.. يارب لا تحملني هالوجع"

أن يراها تُنتهك أمامه، جعل كل دماء بأوردته تتجمد.. ليته يموت ولا يرى، ليته يموت ولا يشعر بأنه عاجز
بات ينزف من كل جهة، وزينة تضرب بمن يُمسك ابنتها وتحاول تخليصها.. وتلك مازالت نائمة بأحضان المجهول!

عندما شعر أن الموت بات يزحف إلى روحه لكن ليس بسبب جروحه إنما بسبب صرخات الإنتهاك التي تعلو من ثغر ليالي حتى شعت بالأرجاء أضواء سيارات دفع رباعية، ليست سيارة أو اثنتين بل أكثر من عشرين سيارة، لتهبط قلوب من يعثون فالأرض فساداً ويتفرقون بغية الهرب إلا أن السيارات حاوطتهم ففشلت محاولاتهم بالهرب..!
*
*
بعد ساعات من الآن.
بوسط المخيم الطبي الصغير يستقر جسده المُتعب، فتح عينيه بصعوبة وأخذ يجول بها بالمكان ليفز واقفاً بلاوعي وسط كتمهِ لصرخته بكل قوة، عاد يجلس بعدما هاجمه الدوار
لينقل نظراته للمكان بتخبّط ورعب:"وينها! وينهم هم بخير؟ بنتي.. بنتي وينها؟؟؟"

كان ينطق بها للدكتور بهلع وبلا وعي ليقف الدكتور ماجد يفحصه ليقول بهدوء:"أي بنت تقصد؟ انت جيت لوحدك مع رجل"

جحظت عيناه بهلع فوقف غير معير كلمات الدكتور أي أهمية، يكاد يموت رعباً اختل توازنه من جديد إثر إصطدامه بمن دخل دون انتباه ليمسكه الآخر قائلاً بحسم:"سرمد، انتبه"

فتح عينيه بصعوبة لينظر له بوجع قائلاً بلهفة:"طمني تكفى؟ هم بخير؟ انت آخر شخص لمحت وجهه قبل أفقد وعيي لأجل كذا تطمنت
لكن وينهم هالحين؟ ليه بس أنا هنا؟"
رمقه بغموض للحظات دون أن يتكلم.
*
*
بعدما أخبره جهاد أن تلك الجماعة من المرتزقة قد علموا عن الطريق السري، بل وسمحوا لأنفسهم بوصف كيانهم بالجيش الشعبي ليخدعوا الشعب بتهمة قذرة كـ (جيشكم خائن ومؤذي وقاتل)
صُدم بل صُعق، أجُنوا أبناء شعبه؟
لكن لم يكن بوضع يخوله للإلتفات لهم حالياً، وهاهو يقف أمام الخيمة التي تضم من سمّاهم يوماً عائلته ليمسح على وجهه كاتماً تأوهه بصعوبة شديدة إثر جروحه الدامية
تنحنح ليقول:"يا عمة زينة"
لم يصدر صوت، ليقول بصوت أعلى:"يا منتـ.. عمة زينة أنا هشام"

والصمت كان الجواب ليهبط قلبه ويرمي الحياء جانباً ينوي الدخول للخيمة ليطمئن قلبه ولكن صوت المناغاة ومحاولة بريئة لإبعاد -رواق- الخيمة جعلته ينحني بجسده للأسفل يبعده بحرص فيظهر وجهها السَّمح أمامه.. فيرتجف قلبه بشعور.. بات يعلمه
هذه الفتاة.. طِفلته!
دنى يلتقطها ويغمرها بأحضانه فاسترخت بل وبدأت تتضاحك معه
هل نسى جُل ما حصل بعد هذه الضحكات؟
هل عادت الدماء لوجهه بعد شحوبه؟
هل طابت جروحه؟
هل تناسى كل الأسباب؟
والجواب.. كانت ضحكته التي امتزجت مع ضحكاتها البريئة وهو يناغيها وكأن لاهم له،
غير منتبه لمن تراقبهما، تكاد صفحة وجهها أن تنقشع من شدة ما بكت.. منذ ساعات طويلة تبكي
تحديداً منذ استيقظت ووجدت نفسها في سيارة دفع رباعي مع ليالي وزينة وإبنتها
لتستوعب كل ماحصل.. بل والأدهى
أن هذا اللقاء.. كان أول لقاء بعد سنة كاملة.
*
*
قرب المخيم الطِبي..
كان يجلس بالقرب من إحدى البيوت التي مازال ركامها يطفو فوق بعضه، إلا أن الغبار الذي غطى المكان لم يكن بسبب تدحرج صخور البيت إنما بسبب عجلات سيارته، ترجل جلال من سيارته بملامح منغلقة إنما بعينين تقدح شرراً.. رآهم يجلسون على أعتاب المنزل ليتقدم بخُطى مخادعة ينوي الجلوس إلا أن هشام الذي قفز من مكانه يركض بصدمة هاتفاً:"انت مجنون؟ ليه جيت؟ القائد ما حذّرك؟ قال بعد يومين ترجع!!"

نظر له جلال بنظرة خطيرة قبل أن يدفعه ببعض العنف:"وليه كل هالتحذيرات؟؟"
اقترب من جديد ليهمس بغضب:"لأن عاصي إلى الآن مقهور مني ومنك.."
ضحك بسخرية برغم نيران غضبه ليهمس بذات النبرة:"يعني هو سبب هالجروح اللي بوجهك؟"
تذكر فخ المرتزقة بمدخل أرماء ليتجهم وجهه وبعدها لقاءه مع عاصي.. كان لقاء غضب
ولولا حالة هشام المتعسرة قلبياً وجسدياً لما عفى عنه
إلا أنه عندما حضر عاصي وبكل غضبه يكاد أن يتقاتل معه كانت أفنان بأحضان والدها، ليلتفت له يهمس بنبرة متأثرة:"عاصي"
توقف عاصي برغم ثورته وغضبه العنيف لينظر لأفنان بعدم فهم، ضحك هشام على تعابير وجهه وبرغم وخز الدمع بعينيه إلا أنه لم يذرفها:"كانت تملك قطعة مني قبل خيانتها ياعاصي ،لي منها بنية.. تشوف؟ هذي بنتي..
حنّ قلبي لها.. من أول لحظة"

نظر لها وكأنه ينظر لكائن فضائي فاستمرت ضحكات هشام تحت أنظار منتهى التي مازالت تراقبهم من خلف الرواق، ليقول عاصي ببعض اللين والدهشة برغم غضبه:"أنقذتك بنتك يا هشام..كنت جاي أقطع رقبتك"
هز رأسه ببقايا ضحكة ليبتسم عاصي مقترباً منها يداعب شعرها لتخاف فتحشر نفسها تحت إبط والدها فضحك هِشام والدمع يترقرق بعيناه
لم يكن يحتاج شهادة من منتهى أو كلمات تخبره بها أنها إبنته.. لقد شعر بها بجميع جوارحه وكفى
أعاد عاصي الهمس من جديد يقول بتأثر مزيحاً غضبه:"علّها بلسم هالجروح الملتهبة من سنة يا هشام"
هز رأسه فسقطت دمعة تسللت من بين ذِقنه واختفت بكبرياء، ليبتعد عاصي بتنهيدة تعب:"لكن ماني بناسي سواياك ح والكلب جلال.. صدقوني بنزع جلودكم ولكن بالفرصة المناسبة"

ابتسم بحرج لينحني مقبلاً رأس أفنان متسائلاً عن حال سكون:"هي بخير؟"
أغمض عاصي عينيه يشعر بسعير روحه يلتهب متذكراً انهيارها بين ذراعيه قبل يومين في المنزل الجبلي ليقول بهدوء:"بتكون بخير.. مصيرها تكون"

فتح عينيه متحكماً بتلك النّار الهوجاء ليقول:"وش اسمها؟"
ابتسم هشام ينظر لعينا ابنته..ذلك المحيط القادر على ابتلاعه ليتذكر اتفاقاتهما اللذيذة ذات ليلة بشأن أسماء أطفالهما ليقول بيقين ببحته المميزة بعاطفة جياشه:"أفنان"

لترفع أفنان رأسها بتساؤل عندما سمعت إسمها لتتعالى ضحكات هشام المتأثرة بعاطفة لم يتذوقها بحياته بينما عاصي يبتسم بتأثر..غير منتبهين لمن انفجرت ببكاء مكتوم بعدما سمعت اسم ابنتهما من ثغره..

ليعود عاصي خطوة للخلف قائلاً بهدوء:"وأهلي..؟"
فهم سؤاله ليهز رأسه بخفوت:"بخير.."
أشار له بامتنان برغم الغضب الذي يتزاحم بروحه، فعندما سمع خبر محاولة قتله وفخ المرتزقة ومعرفتهم بالممر السري لأسدام أتى على عجل للمخيم الطبي ولكن جهاد أخبره أنه عند أهله.. لُيفاجئ بمنظره يقف مع طفلة تكاد تكون نسخة منه لولا عينيها الزرقاء
عاد هشام للواقع لينظر لجلال بغضب:"اترك عنك السخرية.. انت شكلك ماتعرف بإنها كانت بتموت على يدين مرتزقة الحدود؟ ولولا القائد وحُراسه الخاصين لكانت مدفونة؟ ولاشكلك ماتعرف معرفتها بأمر يوسف والسبب غباءك لما تركتها وراك"

تنهد جلال فغضبه يتفاقم وهشام لا يترك له فرصة ليهدأ ليدفعه بعنف هذه المرة هادراً:"اتركني بحالي يا هشام..راسي بينفجر وعاصي إذا وده يقتلني ففداه راسي وهذا من دواعي سروري
بس اتركني الله يرضى عليك، اتركني ترى النار تحرق كل جوفي"

نظر له بعدم فهم وبرغم أنه دفعه على جرحه إلا أنه قاوم وجعه ينظر لوجوه بعض رجال الجيش الشعبي المستنكرين لهتاف جلال العالي ومزاجه الغاضب فقد تعودوا على مرحه وضحكاته طوال الوقت فأدرك هشام أنه يوجد خطب ما.. قال بنبرة وقورة:"وش حاصل معك؟"

أخذ شهيق عميق ليزفره بكل قوة بشكل أربك هشام ليقول بتخبط يمسح على وجهه:"لا تسألني، لاتسألني ولا سؤال اتركني ترى قسماً بربي ماسك نفسي بصعوبة ما أقتل أحد -ضحك بسخرية- تعرف كنت بلحظة جنون بسحب مسدسي وأدخل مركز الديجور وأقتل كل شخص ألقاه بطريقي!! كنت بتقاتل مع الجيش الشعبي في الممر مابين أسدام وارماء بسبب هويتي ولولا شخص منهم تعرف علي لكنت ميت أو هم مقتولين؟"

عقد حاجبيه بصدمة ليقول :"مجنووون انت؟ وش صابك؟؟ وش اللي زاد نارك حطب؟ أحد أوجعك؟"

هز رأسه بالنفي ليبتعد خطوة للوراء قائلاً:"اتركني لوحدي هاللحظة ياهشام، تراني ابتعدت عن يوسف قبل دقائق بس لأجل ما أوجعه بالرغم من أنه يوسف لذلك ماودي أأذيك.. اتركوني لوحدي"
نظر له بعدم تصديق فشعلة النار الغاضبة هذه ملامحه كانت ضاحكة باستخفاف دائماً، كانت متصلبة بشكل مخيف، لحظة التفاته للخلف تجمدت كل أجزاءه وتوقف كالصنم بمكانه ينظر لتلك التي وقفت تماماً أمامه، أخذتها المفاجأة فوقفت بصدمة لوهلة ثم عادت خطوة للخلف بوجه تخضب حُمرة من الحياء تتمتم بلا وعي:"آسفة، ما انتبهت كنت بكلم هشام..."

تلعثمت بنهاية الكلمات خاصةً بأن عيناه المتسعة وفكه المتدلي من صدمة وجودها أربكتها، وعندما استعادت رشدها كانت تعابيرها تشبهه لتكتم صدمتها بخطوة أخرى للخلف
تباً.. ماذا يفعل هذا هنا؟ ليس بوقت اضطراب دقات قلبها أبدًا
أنقذها هشام من الموقف، يقترب ليسألها:"لابأس ليالي، ليه جيتِ؟"

تطايرت كل أفكارها وموقفها قبل لحظات مع منتهى مع غضب الأخيرة الجنوني وطلبها الإبتعاد عن مكان تواجده، هزت رأسها بالنفي تضغط على يديها بتوتر غريب عليها قائلة:"ولاشيء، يعني نسيت مرة ثانية بتذكر أنا.."

كلمات غير مرتبة ولامفهومة جعلتها تُحرج أكثر فتبتعد مهرولة للخلف من شدة صدمتها وحرجها بينما هشام أمال شفتيه بعدم فهم، لينظر لعينا جلال التي تراقب آثار خطواتها..قال بهدوء حذر:"جلال؟"

جحظت عينا هشام من الصدمة عندما التفت له جلال بضحكة بلهاء قائلاً:"يا عيون جلال"

ليقترب بلاوعي يضع يده على جبهته قائلاً بخوف حقيقي:"انت بخير؟"
أمسك جلال يد هشام ينوي تقبيلها فسحبها الآخر بذعر هاتفاً بحدة:"انت مجنون؟؟"
ضحك الآخر ضحكات غير مصدقة يعود ليمسح على وجهه متنهداً تنهيدة تركت هشام يرتعد من جديد، هذه لاتشبه سابقتها
تلك وكأن جبال تجثم على روحه، وهذه تنهيدة تحرير
عمر التفاتته كانت أقل من دقيقة متى تحول من شيطان لملاك؟
سأل بقهر من حاله المتغير بشكل مخيف:"وش صاير معك يا رجل؟"
لم يتحدث حتى أنه مازال يضحك وينظر لآثار خطواتها ولم ينتبه ليوسف الذي وقف بملامح متسلية بجانبهما، التفت له هشام وقال بِدهشة:"يارجل هذا المجنون تعبت منه قسماً بالله، المهمة الجاية لو كان معي ما بروح تفهم؟"

ابتسم يوسف بهُدوء فبعد أسبوع قضاه في الجبل رفض البقاء أكثر وعاد إلى هنا، والمريح بأنهم بين شعبهم وحينما لا يُعرفون بإسم المقاومة لا يرتدون الشالات كي لا تظهر هوياتهم ليقول بضحكة:"أنا بروح معه ولايهمك!"
هز رأسه بيأس مبتعداً خطوة هادئة تشبهه للخلف:"حفاظاً على مابقى من عقلي أنا أستأذن"
لم يعلق يوسف بل نظر نظرة مطولة لجلال قال بعدها بمكر:"الـقاهر..؟"
وكأنما الكلمة دقت نواقيس الخطر بقلبه فالتفت بحاجبين معقودين:"كيف عرفت؟"
نظر له يوسف بصمت للحظات قبل أن ينفجر جلال بصدمة:"ييوووووسسسف"
تعالت ضحكات يوسف في المكان ليرفع كتفيه قائلاً:"ضحكتك الغبية، وغضبك اللي تلاشى، ونظراتك لآثارها كلها كانت أدلة إدانة بس غباءك بالنهاية أثبت التهمة"
هز رأسه بذهول فربّت يوسف على كتفه ضاحكاً:"يارجل هوّنها على نفسك، يبدو بأنك نسيت لما صارحتني واحنا بالمواجهة مع المرتزقة بغرب أرماء، كنت تقول لي بعدما رفع جهاد أمر حضور القاهر (ولو كان القاهر إمرأة بيأذيها؟ ولو حضرت بصمت دون مقاومة بيكون لها حق البقاء على الحياة؟) وأنا جاوبتك (صحيح بأنه ببعض الأوقات يخرب مخططاتنا ولكنه وطني ثوري.. وأنا والثوريين ما نأذي أبناء نفس القلب.. وكلنا قلوب القسط)"
نظر له بضياع فمعرفة يوسف بهويتها لم تكن ضمن مخططاته أبداً خاصةً بأنها لم تعترف له بعد، ليقول يوسف مهوناً عليه:"لاتنسى طبيعة عملنا تحتم علينا معرفة كل الأسرار، لذلك كان سهل معرفتها علي وكنت أنتظر منك تعلمني"

صمتا للحظة قبل أن يقول يوسف بمشاكسة:"وتقول قبل دقائق اتركوني بحالي قبل أقتل نفسي والآن تضحك هاه؟"

عض على شفته بقوة حتى كاد يدميها يتذكر رحلة عودته من المقر السري للقوات الجوية ورؤيته لخبر الهدم الذاتي ثم حضورها على الشاشة وهي تركض للتجمهر حول بيتها ثم اشتباكها مع الجنود وهي ترفض القرار ثم شاشة سوداء بعدها كسر الجندي الكاميرا! بحث عنها ولم يرى لها أثر، خاف حد الموت أن تكون أُعتقلت ولكنه سمع من أبناء حيها بأنها هربت مع عائلتها.. فكرة بأنه لن يراها من جديد سلبته الحق من الحياة ونزعت عن قلبه قشرته ليصبح شيطاناً فحسب من شدة الغضب حتى أنه بات لايبالي بأي شيء.. ورؤيتها من جديد
أعادت الحياة، الروح، والضحكة
متى أصبحت قادرة على بعثرة كل روحه؟ أهو بسبب سنة من مراقبتها برغم كل هذه الحرب؟

قال بصوت عميق بعدما أغمض عينيه:"ماهو بيديني"
تبسم يوسف بهدوء وقلبه يذوب.. وهي حقيقة ليس بيديه ليربّت على كتفه قائلاً:"أنا معك..سرك معي بأمان تعرف صح؟"
فتح عينيه بملامح هادئة بعدما تعرت روحه أمام قلب يوسف مع ذلك ويا للعجب لم يخجل:"أعرف.. انت روحنا يا يوسف تعرف صح؟"
اتسعت ابتسامة يوسف وهز رأسه بإيجاب فاستطرد الآخر قائلاً:"كسرتك صح؟ والله ماكان بعلم مني كل اللي كنت أبيه تكون بخير"
فهم أنه يقصد إحضاره لسكون وغضب عاصي وكشفه فاكتفى قائلا بإيجاز:"انت جبرتني"
نظر له جلال بعدم فهم للحظات ولكن فجأة شحب وجهه وعاد خطوة للخلف:"أنا آسف...انـ."

قاطعه بعدم فهم:"علامك يارجل؟"
أشار بعينيه للخلف ثم ركض مهرولاً ليلتفت يوسف ويرى عاصي يتجه للمخيم الطبي بملامح متجهمة فكتم ضحكته بصعوبة، عندما كان يستمع لحواره مع هشام قبل لحظات كان يقول ليأتي عاصي وليقتلني إن أراد، ماباله فر هارباً ما إن رآه؟

أخذ نفساً بصعوبة يغمض عيناه متذكراً الخواء الذي اعتراه منذ أن استيقظ ليجد المكان يخلو منها.. ليخبره جهاد بأن عاصي حضر وأخذها معه
ولم يخبره بالتفاصيل، مثلاً بأن عاصي كاد أن يقتله لولا أن مرأى يوسف الضعيف ترك كل غضبه يتلاشى وكل حنية العالمين تتسلل لقلبه وهو يداريه ويتأكد من سلامته ثم يبتعد وأخته بين أحضانه بكُل صمت..
وهذا الصمت استمر كل تلك الفترة، وهو يعرفه يقيناً
صمت العقاب!

اقترب من عاصي ليسدّ عليه طريقه، فحاول الآخر بتجهم أن يبتعد عنه لولا أنه وقف من جديد أمامه ليقول:"تجاهلتني طول هالأيام أهون عليك؟"

كلما أغمض عاصي عينه تذكر منظرها وهي تنهار على ذراعيه ويزداد غضبه فلم يتكلم، شد يوسف على قميص عاصي الذي يرفض النظر لعيناه:"كلمني، قلت لك ليه تتجاهلني طول هالفترة؟ وش كان بيديني علمني؟ وش كنت تبي مني أسوي غير اللي سويته؟ كان ودك أتركها للموت؟"

لم يتحدث ولم يحاول حتى تخليص نفسه فهتف بوجع غاضب، يعتصر قميصه أكثر:"عاصي، لاتعاقبني بالصمت.. ماكان بيديني شيء
تعرف بأني من الأزل أفديها بروحي وودي أموت ولا يعم قلبها الحزن -صرخ فجأة- لكن وش بيديني؟"

أشاح عاصي بعينيه بلا رد ليقول يوسف بصوت أجش وقد بلغه التعب فعلاً من صمت عاصي وغضبه منه:"صمتك يأذيني يا عاصي"

وعند نبرته تلك رفع عاصي عينيه التي تنضح خيبة أمل ولوم ليقول بوجع:"وانت أذيتها.. جداً جداً يا يوسف"

لم يعلم أيفرح بأن الخصام قد انتهى فعاصي لايقطع الصمت إلا عندما يلين، أو يذوب كمداً لجملته التي قطعت الصمت وقطعت قلبه معه!

تنهد يُطأطئ رأسه فاشتدت الحمية بقلب عاصي يرفع رأس يوسف بيديه قائلاً بغضب:"لا تنحني براسك ولو قدامي"
نظر له بضيق ووجع ليكزّ عاصي على أسنانه بكل غضب حتى كاد أن يهشمها وقلبه يتمزق لنصفين ليقول:"أهلكت نفسك وأهلكتها بليّا داعي"
نظر له نظرة مهلكة ليقول:"كان ودك أعرضها للموت؟ مجرد وقوفي معها أو لمحهم لظلي بجانبها وأنا بهوية يونس صابر اللي مات وتعفن كان يعني الموت لها بعد، تدري إني مازلت أدفع ثمن هذي المهمة؟ أسدام العظيمة محرمة علي بالعلن لأجل ما أموت، كُتب علي أدخلها مثل الحرامية.. وانت تقول بليّا داعي!"

رمقه بصمت للحظات لايعلم ماهية التصرف الصحيح، هو هكذا يقف بالمنتصف منذ معرفته بأمر أختيه لكن ردة فعله الصامتة هذه تُناقض غضبه العنيف وضربه ليوسف بأول مرة رآه بعد معرفته بأمرهم، ضربه وعندما نزف بأول لكمة توقف وهو يشتمه يُمسك رأسه قائلاً بوجع:"أصبتني بمقتل يا ابن الغرابي"

أما هذه اللحظة فكان عاجزاً، فمنذ رؤيتها ليوسف وهي صامتة وذابلة على نحو مُهلك حتى أنها رفضت العودة لأسدام وهو لايود إجبارها
ورفضت الحديث معه بعدما اكتشفت تواطئه مع يوسف بل ورفضت تماماً رؤية يوسف لذلك هو عاجز

قال عاصي بعد صمت طفيف:"أنا راجع لأسدام، أهلي محتاجيني"
ليقول بحمائية عنيفة:"وهي!"
ابتسم بإنهاك وهو يغمض عينيه للحظات قائلاً بسخرية:"لا تلعب معي يا ابن الغرابي"
قال يوسف بهدوء بعيداً عن ضوضاء روحه:"مستعد تتركها بحمايتي"
ليرد بثقة شديدة:"أعرف إنك تفديها بروحك"
-"وأنا مغمض عيوني والله العظيم"
-"لذلك أقولك سكون أختي بحمايتك؛ ولا هو جسدها وبس يا يوسف.. قلب أختي أمانتك لا يشمله الطوفان ويجرفه للوجع"
-"أنا كفيل به.. قلبها بأمانتي ولايهمك"
-"أنا الليلة راجع.. وهي ماهيب بخير أبداً
أنت داءها..."
ليقاطعه بهدوء:"وأنا دواها، لا تخاف".

نظر له نظرة ذات مغزى فهمها يوسف فأومأ بصمت، ليقول بعد لحظات ملطفاً الجو:"الحمدلله تزوجتها قبل تعرف إنك أخوها ولا كان نشفت دمي لين تعطيني إياها"

ابتسم مستقبلاً مشاكسته ليقول بعد صمت وعتاب أرهقه قبل أن يُرهق يوسف:"لكنت مت دونها، لكنت طلبت القمر مهر لها"

بادله البسمة بضحكة خافتة ليهز رأسه:"ربي أكرمني وأنقذني منك"
لم يحتمل عاصي البُعد عنه أكثر ليقترب ممسكاً بعنقه بين ذراعه يعتصره وينحني به للأسفل:"مازلت تحت رحمتي"
تأوه يوسف بمبالغة فابتعد عاصي منتفضاً يقول بلهفة:"انت بخير مسّك وجع؟ أنا آسف"
يبتسم يوسف يخفي ضحكته ليعود خطوة للخلف فينظر له عاصي بضيق متذكراً عندما لبث يوم كامل يبحث عن أخته بعد ضياعها ليصعقه أحد الرجال من الجيش بخبر إصابة القائد، يذهب للبيت الجبلي فيُفاجئ باستقبال سكون له وانهيارها بين ذراعيه.. نظراته المصعوقة والغاضبة ناحية جهاد تكسرت عندما لمح جسد يوسف منهار، تذكر كيف ركض له وهي بين أحضانه ليريحها بجانبه يمسح على وجهه ويتحسس الدم في قميصه صارخاً بخوف عندما رأى يوسف بهذه الحالة قبل سنين:"علامه؟ الإصابة قاتلة؟ ليه فقد وعيه!"
برغم عدم صدمة جهاد من تغير عاصي من الغضب للخوف المطلق لأجل يوسف إلا أن الدهشة زارته ليخبره ماحصل
تلك المرة، منذ إصابته برصاصة في رأسه ولم تخرج حتى هذه اللحظة وهذه المرة.

قال عاصي بعد أن أخذ خطوة باتجاه المخيم الطبي:"لو كان غيرك ما لنت له.. بس لأجلك أليّن الصعب وانت تعرف"
ابتسم يوسف:"أعرف إنك روحي"
هذه المرة لم يرد عاصي وهو يلتفت مبتسماً، فأعضاء الفريق كانوا يقولون هذه الجملة دائماً ليوسف
بينما يوسف اختصّها له فقط.. وهو يثق به
يثق حد أن يترك أخته سكون الرقِيقة بين قلبه وروحه .
*
*
في الجهة المقابلة، كان قد فرّ هارباً من أمام عاصي بعدما استعاد رغبته بالحياة، ليتتبع آثارها ويبحث عنها يتأكد أن ما رأته عيناه ليس بخزعبلات!

وهاهي هنا، تحرك حجراً بقدمها بعشوائية وتنظر بتفكير شديد للأرض، ليختنق بأنفاسه من شدة رهبة الشعور وعندما رفعت عيناها ونظرت له بدأ يسعل بكل قوة حتى أنه انحنى على ركبته يحاول التقاط أنفاسه وسط توترها، ورجفة جسدها الغريبة عليها، دخلت الخيمة لتسحب عبوة الماء من أمام منتهى الغاضبة وتخرج بذات السرعة فتناوله الماء، رفع رأسه وتردد للحظات ولكنه أخذه وهو يرتشفه دفعة واحدة:"أدين لكِ بحياتي"

ظنته يسخر منها فاستعادت واجهتها الصلبة لتقول بسخرية:"كلها قطرات ماء"

حسناً، هي لاتعلم أن باختفائها أضاعت عقله وكاد أن يسلم رقبته لعاصي ولولا حضورها من جديد لما هرب ونفذ بجلده ليبتسم قائلاً:"المهم إنها أنقذت حياتي، لذلك أنا ببقى قريب من هنا لين أسدد ديني لكِ أنا شخص أرفض أبقى مديون لأحد"

نظرت له نظرات تنضح إستنكار ليميل برأسه قائلاً:"نقول حضرة القاهر؟"
لتتجعد ملامحها غضب فجأة قائلة بهمس:"قلت لك ما أعرفه"
تنهد يعود خطوة للخلف ليتلو على سمعها كلمات تركتها تتجمد:"إن الوطن يعيش بداخل كل شخص فينا، لذلك من خان وطنه فقد خان نفسه وارتكب جريمته الأولى بحق ذاته، وقد غرب نفسه عن روحه قبل أن يغرّبها عن وطنه.."

لمح رجفة يديها فأكمل مقطعاً آخر:"هنيئاً لمن باع دُنياه لأجل وطنه.. فلا حرية بوطن مكبل بالأصفاد ولا حياة في وطن لُوثت أرضه بأقدام الأنذال.. هنيئاً لمن حارب لأجل السلام لوطنه"

لم تتحدث ليبتسم قائلاً:"ليه سكتِ؟ هذه كلمات القاهر ومثل ماقلتِ بأحد نشراتكِ بأنكِ من محبينه وبأنكِ فقط تنقلين مقالاته"

التزمت الصمت ليزيد عيار الكلام قليلاً:"طبعاً أنتِ قلتِ ولكن التصديق ماهو واجب، أنا أقول إن معرفتك ما تقتصر على محبّتك له وبس
هو قال بداخل كل شخص وطنه.. وانتِ بداخلك القاهر اللي بداخله الوطن"

ابتلعت ريقها بصعوبة ليبتسم بطريقة مسرحية مشيراً بكفه:"انتِ قلتِ وأنا أقول وكل شخص له حرية التصديق صحيح يا آنسة ليالـ.. أو عفواً سيد القاهر؟"

كاد أن يضحك وهو يفجر الكلمة بوجهها بسبب تعابيرها القاتلة ليكبح ضحكته بصعوبة قائلاً:"لابأس، بعطيك حرية الإستيعاب بأن سرك الصغير انكشف"

قاطعته ببعض الرجفة غير مصدقة بأنه يعرفها، يعرف سرها الذي احتفظت به لسنوات طويلة لنفسها فقط:"كيف عرفت؟؟"
تبسم لسؤالها ليرفع كتفيه قائلاً ببراءة:"قلب المؤمن..دليله"

كانت مشوشة، منذ رأته بأرماء وضوضاء قاتلة بروحها لقد نسجت خيوط الكذبة بأنها هربت مع كل عائلتها وكلهن نساء لايوجد بينهن رجلاً، إذاً لا معرفة لها بمن يُسمى القاهر.. عذر واقعي!
لكن أن يصعقها بتعرية سرها بكل بساطة أمامه جعلت كل أعصابها تنتفض ثائرة:"ماهيب حقيقة.. اللي تقوله خزعبلات نسجتها من قلة حيلتك، ابحث بعيد عني يا..."

قاطعها بذات البراءة المضحكة:"جلال، اسمي جلال"

كزّت على أسنانها بغيظ وقلبها يكاد أن يحترق حتى أنها بدأت تشتم دخان احتراقه لتقول:"أنا ليالي، فقط ليالي لذلك كُف عني شرك.. تحملتك مرتين بنزقك وثقل دمك والثالثة راح.."

سكتت عندما قال بلا مبالاة لكلماتها الأولى:"مرتين؟ والثالثة يا آنسة ليالي، عفواً أقصد الأولى، لاتنسين بأني مدين لكِ بحياتي ومع حياتي آلاف ويمكن ملايين"
نظرت له بحذر ليبتسم متهكماً:"الحقيبة السوداء اللي هربتِ بها بليلة مالها قمر من وكر الأعداء وكنت منقذك، نسيتيها؟"
عادت خطوة مترنحة للخلف وكل هذه الحقائق التي كشفها عنها تنحرها، تباً من هذا الرجل
لتصرخ بحنق مقهورة:"مادام حِس الحقيقة عندك ليه تحوره علي فقط؟ اترك عنك اللعب مع النساء واخرج للجبهات، اترك عنك اللهو بأعصابي والعب بعيد عني، لأن كل كلامك ما يهمني مقدار ذرة، وهالشخص اللي تبحث عنه ماهو بهالعنوان.. يكفي الضياع اللي نعيشه بعدما هربنا ما ينقصني ضياع منك!"

ابتسم ليرفع يده يحك ذقنه ليهمس:"يمكن أكون الوجهة.."
أجلى صوته قائلاً:"تظنيني ألعب طوال وقتي؟"
قالت بحِنق واضح:"بالضبط، مادمت من منطقة لثانية تركض وراء حس القاهر وتنسبه لي يعني بأنك رجل ما تملك لهالوطن منفعة، ليه تبحث عن رجل بكلمة منه تنهض له آلاف الرجال؟"

لم تتلاشَ ابتسامته بالرغم من حقدها:"أركض وراء حسّه لأجله صدقيني، لو عرفه شخص غيري بيكون نهاية الضياع، ضياع أكبر! مع ذلك بتغاضى عن كُل هالحكي.."

ابتلعت ريقها تخفي رجفتها فهي لم تتخطَ تماماً معرفته بهويتها ورغم إنكارها، نظراته كانت مصرة على كلامه! استلّ منديلاً ورقياً من جيب بنطاله الأسود وتحت نظراتها أخذ يشكله بصمت شديد، ثم عادت خطوة للخلف بربكة عندما أصدر صوتاً غريباً كصافرة وهو يرفع المنديل ليكشف عن طائرة ورقية طيّرها في الهواء لتحط بالقرب من أقدامها، عاود التبسم قائلاً:"يمكن أكون شخص تنهض له ملايين الرجال ماهو بس آلاف.. لاتبخسين حقي يا القاهر"

قال آخر كلمة بتشديد ليلتفت ماضياً في طريقه إلا أنه توقف ليقول:"سرّك بأمان، لا تظنيني دنيء لدرجة أسلمك للوجع بيديني.. أنقذتك ثلاث وما بتضرني الرابعة لذلك هونيها على قلبك"

قالها ومضى ولم يلحظ انحناءها لتلتقط الورقة تنظر لها بحدقات ترتعش فهي لم تفهم إسقاطاته
نفثت نفس ساخن تمسح على صدرها، علّ قلبها يستكين
لماذا لاتشعر بالذعر؟ كان كابوسها الوحيد أن تُكشف هويتها مع ذلك كل ماتشعر به الآن هو شعور غريب ولذيذ بنفس الوقت!! ما الذي يحصل معك ليالي؟
أغمضت عينيها تتذكر تلك الليلة بوكر الأعداء عندما أنقذها علّها تسترجع تفاصيلها وتتذكر وجهه لكنها لم تستطع، فشدت على قبضة يدها وهي تهز رأسها بعنف:"لا تتأثرين، كل هالسخافات ما تليق بثورية مثلك.. أنتِ صوت الوطن يا ليالي، أنتِ يصطف لأجلك الثوريين كلهم لذلك ركزي بأهدافك وهالشعور بالذات اللي تعيشينه ماهو من ضمنها فانفيه عن قلبك"
*
*

كان قد انتهى من دورية صعبة، خاصةً بأنه أول مرة يخرج للشارع بعد انتفاضة السادس من فبراير، لم يُدرك أن الشعب القسطي ثار لهذه الدرجة من العنف!
لقد شُج رأسه بسبب أحد الحجارة التي رماه بها طفل صغير والحقيقة كاد الطفل أن يموت بسبب جُنده لولا أنه أمرهم بتركه، والآن يدخل المركز الديجوري برأس ينزف ودم يترقرق على وجهه وقميص رفع أكمامه بيّنما معطفه الرصاصي ذو الرتبة تركه خلفه في السيارة، بات كأنه كائن همجي غاضب ينقل نظراته بين جُنده من كان بالأمس يسخرون معه ومنه والآن لا يتجرؤون على نظرة! دخل يجوب المركز بحثاً عنها كعادة باتت تلازمه منذ سنتين.. وبعد دقائق وجدها
وودّ قلبه لو لم يجدها، شدّ على قبضة يده بكل عنف حتى كاد أن يكسر أصابعه وغضبه قبل لحظات لايساوي غضبه الآن.
يراها تقف بأحد الممرات الشبه مهجورة ولكنها تؤدي لممر مكتبه فقط أمامها يقف رجل ضخم يغطيها ولولا أنها مالت بجسدها لما رآها، يمسح على رأسها يدنو ليقبلها يحتضنها وهي تتمرغ كقطة بأحضانه.. تباً لها وله.. تباً لك ولقلبك يا سلام أنت من أعطيتها السُلطة عليك فلتنل ما تستحق!

ابتعد كثور غاضب وكل من حوله يراه كلون أحمر فبات ينفث نيران غضبه على كل من يراه حتى أن صوت ارتطام الأبواب يرنّ بكل عنف في المكان!
ارتجفت بأحضان عاصي بسبب قوة ضرب الباب
فمسح على ظهرها بحنية هامساً:"لاتخافين"
ابتسمت للشعور الدافئ الذي بثّه لها حضوره
خاصةً بأنه حُظر من الحدود لها وذلك دغدغ كل مشاعرها بحنية عميقة!

بعدما طمئنها على حال سكون ولم يتطرق ليوسف وماحصل معه نظراً لكثرة الضغوط عليها قالت بضيق:"وعمّار، ومرجان؟ طبعاً ما صدقتوا موضوع احتراقها..انت تدري التفجير لو كان من طرفنا كان أعطيتكم خبر ولكنه من طرف المرتزقة لذلـ..."

وضع يده على فمها ليُسكتها قائلاً:"أولاً انتِ مو من طرفهم أبداً، ثانياً قطعاً ما صدقنا موضوع احتراقها خاصةً بأن هويات الجثث ما اتضحت للآن ولكن كان احتمال والآن صار غير وارد؛ خاصةً بأن يوسف رفض رفضاً كُلياً إعلان خبر وفاتها لذلك البحث عنها مازال جاري و جهاز التتبع الخاص فيها مغلق من أسبوعين!"
-"وعمّار؟؟"
-"مازلنا نبحث عنه إلى الآن صدقيني، ظنك لأننا نضحك يعني نسيناه؟ لاوالله غيابه جمرة تتقلب بالقلب، يوسف ما بيهدأ له قلب لين يلقاه
ولا تخافين.. احنا ما نمشي مكتوفي الأيدي"

هزت رأسها بهـدوء ليتبسم ثم تتلاشى بسمته لتتحول ضحكة عندما دفعته برفق:"يالله روح بس لزوجتك، تلاقيها الآن تجهز المشنقة لك، زرتها قبل يومين وكانت ترفع الحبل والآن الله أعلم وين وصلت"

تأملها بضحكة للحظات ولكنه قال بهدوء:"هي تعرف.. مهمتي قبل كل شيء هي تعرف إن العلاقة واستمرارها بيدها، وهي تعرف ظروفي"

رمقته تخفي تعليقها بصعوبة (ماعاد هالعلاقة قائمة على الود والمصلحة وبس يا عاصي، دخل القلب بالمسألة ودخوله مشكلة) لكنها احتفظت بتعليقها لنفسها لتربع يديها له فهذه العاطفة لم تتعود عليها لتقول:"اترك نفسك للتيار ياعاصي، السباحة بعكسه صعبة"

قال بملامح منغلقة، يبتعد خطوة للخلف:"كل حياتنا نسبح عكسه يا عواصف، صار روتين"

راقبت ظهره وهو يتعداها لتغمض عيناها بكل قوة تحتفظ بتأثير حضوره، فهي لاتراه لأسابيع طويلة لأمانه وأمانها! لاتصدق علاقتها معه ومع سكون وكيف وصلت للعمق وكأنهم عاشوا سنينهم كلها مع بعضهم البعض

من بين تنهيدتها المرتاحة تفاجئت بمن يرمي ملف الأوراق على وجهها لتقف مصعوقة هاتفه بغضب:"تباً لك أيها اللعـ.."

لتصمت بملامح مشتعلة غضباً تميز ملامحه إنما كانت بشكل لم تره يوماً، رباه لقد كان كقنبلة يكاد أن ينفجر، قال بعنف:"ماهذه الخطط الفاشلة، أهكذا ستحمين جُندنا؟"

رفعت حاجبها بعدم تصديق، أهذا النقيب تعدى عليها بل ويناقشها بأوامرها؟ قالت بصوت بارد من شدة غضبه:"أتعلم ماعقاب أفعالك أيها النقيب؟ أتود أن أسلبك رتبتك التي أهلتك لخوض هذا النقاش معي فتنوح كالنساء؟"

رمقها بنظرة غامضة ليقول بذات النبرة القاسية:"هراء، أنا وأنتِ نعلم أنكِ لن تفعلي بل لن تستطيعي حتى لو وددتِ ذلك.. والسبب لا يخفى عليكِ"

ارتعشت حدقات عينيها فحاولت التماسك ولكن إدراكها للسائل الذي غطى طرف وجهه تركها تقترب بلاوعي قائلة بلغتها:"دم؟ وش حصل معك؟ -نظرت لحالته المشعثة- وش كل هذا؟ وش صاير؟"

أربكه لوهلة اهتمامها بحاله ولكن لم يؤثر به كثيراً فصورتها بأحضان الرجل لم تفارقه:"لاشأن لكِ بي، أجيبي على أسئلتي فحسب"

ولأول مرة يتطرق لموضوع خيانتها بل ويُصر على سماع الجواب وبرغم الرعب بقلبها على حاله إلا أنها قالت بثبات:"أستطيع ذلك، لاتشك بقدراتي أيها النقيب، ولاتنسَ إن كنت تُمسك علي ثغرة فأنا أمسك عليك عشرة"

قالت آخر جملتها مشيرة لقتله للقائد الأعلى وهروبه دون أن يُعاقب، فاسودّ وجهه من الغضب أكثر فأكثر ويقول بخشونة:"خائنة، خائنة ليس للديـجور فحسب، بل لي، وخيانتك له لم تؤلمني بقدر ما آلمني جحودك لي.. تباً لكِ لقد بذلت جهدي لأجلكِ لكنكِ لا تستحقين مقدار ذرة"
شحبت وفرت الدماء من وجهها بعينين مصعوقة وقلب ينتفض ذعراً من لذاعة الموقف، ما الذي يحصل هنا؟ مابه غاضب ماباله ثائر حتى أنه اعترف بعد صمت بل وُيدينها بخيانة لم ترتكبها، نفضت عنها رداء الصدمة لتدفعه عنها بغضب:"ما الذي يحصل معك بحق الله، أفقدت عقلك؟ ابتعد عني ولا تقترب خطوة أخرى وإلا قسماً لأفرغن ذخيرة مسدسي برأسك"

استوعب أنه اقترب منها لحد الخطر فابتعد خطوات مجروحة للخلف مؤنباً نفسه على تجاوزه ولكن الكيل قد فاض عنده فلم يعد يملك عقلاً:"أفرغيه وأريحيني، تباً لكِ من إمرأة لا تفقه بالحياة شيء، لقد سخّرت حياتي لكِ أيتها الخائنة برغم كل ما رأيته وعلمته -هس بعنف- لقد قتلت نفساً لأجلك أصبحت مجرماً بحق نفسي ودولتي وجيشي لأجلك وبماذا جازيتني؟ أنتِ حتى لم تعيري شعوري أي أهمية وكأني مجرد ذبابة تطن فوق رأسكِ فتزيحيها منزعجة"

غطت أذنيها بيديها تمنع نفسها بصعوبة من الإنفجار به لتقول غاضبة من انفجاره هو وكلماته غير المفهومة بل وإدانته لها هل صمت دهراً لينطق كفراً:"ما الذي حصل معك يارجل؟ ماذا دهاك بحق الله؟ أنسيت نفسك؟ أتتعالى علي بأفضالك؟ أوعدتك بشيء؟ أهديتك أملاً وكذبت؟ ألنتُ لك لتتهمني بالجحود؟ استيقظ فأنا هذه مذ عرفتني ومادمت صمت عني طوال هذه الفترة لتأتي بنفسك وتُهينني وتستلذ بإوجاعي فهذا ليس من حقك أتفهم؟ أُفضل الموت شنقاً على تصرفاتك هذه"

صمت لبُرهة ليقول بعدها بنبرة بدت أهدأ:"لماذا لم تُبلغي علي لقتلي القائد الأعلى؟"
حمدت الله بأن الممر هذا خالي من كاميرات المراقبة وإلا لفُضحا على الملأ لتقول بدهشة:"أأبلغ عنك وأنت أنقذتني؟"
ضحك بمرارة:"ماذا؟ هل مستوى مروءتك عالٍ لهذه الدرجة؟ ليتكِ أبلغتِ عني ولم تؤملينني!"
نظرت له بضياع لا تفهم مايحصل، إنه يحاصرها بشعوره وهذا التناقض معه يؤذيها لتهتف بقهر:"ماذا تريد مني يا سلام؟ لقد تعبت منك ومن تصرفاتك مذ عدت، بتُ لا أنام بسبب مخاوفي، نسيانك لما حصل طيلة عام وعودتك المنتقمة
وهذه التصرفات الغريبة.. ضقت ذرعاً بك لتذهب للجحيم أنت وأفكارك وتصرفاتك لم أعد أهتم"

تخطته تمشي بغضب فكل سلطتها تتبخر أمامه وكل زمام الأمور تفلت إن كان هو من يقف أمامها! ليمشي بخطوات غاضبة يقف أمامها من جديد هادراً بضيق:"لم أتعدَ الحدود لتكون هذه نهاية النقاش، لم آتِ إلى هنا لأعلن ضعفي أمامك"

هه أكان هذا إعلان ضعف أم إعلان حرب!
لتتسع عيناها بدهشة مصعوقة وهي تسمعه يقول بذات الغضب وكأنما فوران رأسه بعد رؤيتها مع ذلك الرجل سلب منه تعقله:"أنتِ وإن كُنتِ نقطة ضعفي فتذكري أنكِ مجرد نقطة بالنهاية"

مازال..
مازال يحبها.. بعد كل ماكان.

شعت عيناها بالضياع ليمسح على وجهه مُدركاً أن جميع محاولاته بالابتعاد باءت بالفشل، وبأنه مهما حاول إنكار حقيقة حبها تزداد تعمقاً بروحه
لكن سيتشبّث بآخر مراحل التعقُل ولن يُخبرها
أن عودته إلى القسط من جديد، وبأن نزاعه مع روحه ومع من حوله ليصبح ذو رتبة عالية
وبأن تحديه لنفسه وتغلبه على مسألة قتله للقائد الأعلى مزيحاً ذلك لكفة أنه دفاع عن نفس وعقابه الذي ناله، وبأن عودته إلى قعر الجحيم
كله.. لأجلها
هي وحدها من بات يتقاتل مع الدنيا كلها بسببها!
حتى أنه بات يتقاتل ضد وطنه لأجل الحق ولأجلها.. فاكتفى بنظرة عميقة بثتها كل شعوره
بإيجاز مخيف (تباً لقلبٍ مازال يحبك)

انفجرت واخيراً لتضرب الأرض بقدمها هادرة:"ماذا يحصل معك، من حوّلك لبركان ثائر لتأتي وتفور عليّ؟ ما الذي دهاك؟ متى نزلت من برجك العاجي لتحاسبني وتعاود الخوض في دفاتر كنا قد أغلقناها؟"

نظر ليديها المرتعشة وهي تتكلم لترى هي تفاحة آدم ترتفع في عنقه وتنخفض بشكل دلّ على غضبه ليقول بنبرة خطيرة، لم تعلم من أي عمق أتت لم يكن صراخ ولكن نبرته هزّت كل أطرافها:"ليكن عهداً مني لكِ أيتها المقدم قسماً بربي إن لم تكوني لي فلن تكوني سوى لتراب بلدك"

جحظت عيناها فبقت تنظر له وكأنه مجنون ليرفع سبابته قائلاً بتهديد:"تباً لي إن تركت كل مافعلته يضيع سدى، تباً لي إن سمحتُ لكِ تعثين في قلبي فساداً ثم تنفذين بفعلتكِ، إن ظننتِ أن صمتي لعام يعني نسياني للأمر فقد ارتكبتِ جريمة بحق نفسكِ، أنا غبت لأعود وأنتصر بكِ لذلك لا مجال لخسارة حربي هذه أتفهمين؟"

عاجزة عن الإتيان بأي حركة كانت كالبلهاء تنظر له، تذكر وتحفظ كلمات رسالته، إعترافه
لكنها لم تتذكر أبداً غضب كغضبه هذا الذي تركه يفتح المجال للجنون

أشاح عيناه بغضب من نفسه ومن تهوره وأخذ يرفع كفه يمسح السائل الأحمر عن وجهه بنزق ليبتعد خطوة للخلف شاتماً نفسه وقلبه وهي وذلك الرجل الذي ألهب حواسه وتركه يتصرف بجنون معرياً قلبه من جديد لها، لقد استفزت صورتها مع الرجل كل حواسه وهدم المعبد على رأسيهما خاصةً بأنه يعلم أنها لم تُخطب ولم تتزوج حتى.. لذلك سحقاً له إن سمح لها بالتراجع بعدما كانا
تركها خلفه خائرة القوى ككل مرة يبتعد عنها بعينان تكبحان الدمع بصلابة وقلب يرتجف لوعة لتنهار على إحدى الجدران تحاول التماسك بعد هذه المواجهة المخيفة لتُدرك بطبيعتها بأن بعد هذا الحوار، لن يبقى أي شيء كسابقه أبداً


-
أحبكِ جداً
وأعرف أن الطريق إلى المستحيل طويل
وأعرف أنك ستُ النساء وليس لدي بديل
وأعرف أن زمان الحنين انتهى
فماذا أقول!
أحبك جداً..
وأعرف أني أعيش بمنفى
وأنتِ بمنفى
وبيني وبينك؛ ريحٌ وغيمٌ وبرقٌ ورعدٌ وثلجُ ونار
وأعرف أن الوصول لعينيك وهم
وأعرف أن الوصول لشفتيك انتحار
ويسعدني أن أمزق نفسي لأجلكِ أيتها الغالية
ولو خيروني لكررت حبك للمرة الثانية
أيا من حميتكِ بالصبر من قطرات المطر
أحبكِ جداً..
وأعرف أني أسافر في بحر عينيكِ دون يقين
وأترك عقلي ورائي
وأركض خلف جنوني
أيا إمرأة
تُمسك العمر بيديها
سألتك بالله لاتتركيني
فماذا أكون أنا إذ لم تكوني
أحبك جداً وجداً وجداً
وأرفض من نار حبك أن أستقيلا
وهل يستطيع المتيم بالعشق أن يستقيلا
وماهمني إن خرجت من الحب حياً
وماهمني إن خرجت من الحب قتيلا..
-نزار قباني


*
*
ترجل من سيارته يمسك بضع أكياس تبضعها من سوق البلد قبل أن يأتي، خطواته هادئة وبرغم ضربات قلبه المتلهفة إلا أنه كان رزيناً لم يعتد أن تُسيره أحاسيسه أبداً لذلك لم يكن بموضع خوف عند جهاد.
دخل للعمارة متجهاً لشقته ولكن البرودة لفحته والخواء ملأ أركانها وكأنها مهجورة
كم غاب؟ أسبوع ونصف
ماباله يشعر بها كدهر؟ ناداها بصوته الخشن فلم يتلقَ رداً ليضع الأكياس بداخل الصالة ثم يخرج متجهاً لشقة أخواتها، طرق الباب وابتعد عنه ليُفاجئ بخطوات تدك الأرض دكاً وكأنهن
يتسابقن لفتح الباب، رفع كتفه وتنهد بأسى على شخصياتهن الطفولية، لتندفع شامة بعدما وضعت الحجاب على رأسها نظرت تبحث عن مرادها وعندما رأته أخفت إحباطها بصعوبة:"تفضل ياصهر"
رفع حاجبه من نبرتها المحبطة وقال بهدوء:"كيف حالكم يا شامة؟ طمنيني عنكم؟"

فكرت أن تؤنبه أو تشي بحال أختها منذ غيابه ولكنها تعلم أنه ليس بصالحها فستقتلها سماهر إن أفصحت فقالت باقتضاب:"احنا بخير"

اشتدت عقدة حاجبيه بعدم رضا من أسلوبها فدفعتها شادن للخلف وزجرتها بنظرة حانقة لتقول بأدب:"احنا بخير الحمدلله تسلم على السؤال"

انتظر دون ردّ فارتبكت لتسمعه يقول بانزعاج من انتظاره:"سماهر وينها؟ ناديها لا هنتِ"
نظرت شدن وشامة لبعض بارتباك فهن كن ينتظرنها وموعد عودتها قد انقضى، لتقول شادن بتوتر:"هي.. هي"

انقبض قلبه ولا يعلم لما فقال بخشونة:"هي ايش يا بنت الحلال انطقي، وينها؟ أنا طلبت منها ما تخرج من العمارة وهي تعرف أحوال البلد إذا كان هذا الحي بعيد عن القصف فما يعني إن أسدام كلها محمية"

شدّت على مقبض الباب بيدها لتقول بصوت يكاد يكون همساً:"بحينا القديم.."
جحظت عيناه بصدمة ليهتف بلا وعي:"حيكم القديم!!! وش تسوي هناك؟ باعت عقلها؟"
زاد خوفها أكثر خاصةً بعد ردة فعله المخيفة لتقول برجفة:"المدير كلمها عن موضوع عودتها للتدريس و..."

ليردّ:"حسبي الله وكفى، الواحد يضيع عقله في سبيل مجانين، أي دراسة أي تدريس في ظل هالظروف باعت حياتها هالغبية اللي مابها ذرة عقل"

كان يصرخ بكلماته بغضب وهو ينزل درجات السلم يكاد يتفتت من غيظه يتصل عليها وهي لاترد بينما أخواتها خرجن يراقبن ثورته بقلب منقبض لتقول شامة بقهر:"يغيب عشرة أيام ويجي بعدها يحاسبها بكل بساطة وش هالوقاحة؟"

عقدت شدن ذراعيها لساعدها متنهدة:"علاقتهم المتذبذبة صعبة، مرة ديك ودجاجة هو يصيح وهي تنقره ومرة أسد ولبؤة هو يوجعها وهي تجرحه"

نظرت لها شامة بعدم فهم:"ليه تشبهينهم بالحيوانات؟"
قالت ببساطة:"لأنه قال إنهم بليّا عقل،يعني؟"
ضحكت مبددة بعض من توترهن وهي تضرب كفها بكف شدن:"يعني بأنهم حيوانات"

نظرت لهن شادن باستياء لتقول:"كونوا جديات شوي، سماهر لها ست ساعات غايبة وهي قالت دوامها أربع فقط!!"
نظرن لبعضهن بتوتر لتزيد شادن العيار قائلة بربكة:"حتى إنها ماترد على جوالها.."

سكتن يرمقن بعضهن بشعور مخيف جداً، ليعم الصمت الخانق بالمكان وخوفهم أبقاهنّ بجانب الباب ينتظرن برعب دون أن يفكرن بالدخول..
*
*
ترجل من سيارته ووقف يمسك وسط جسده وغضبه يتفاقم حتى أنه يكاد يحترق بسببه
المدرسة نصفها مهدوم ولم يبق سوى النصف الآخر بجدران متشققة بفعل الرصاص والقصف الذي حلّ بالمنطقة بعد الإنتفاضة
اقترب يدخل ليُفاجأ بجنود المحتل يملؤون الأركان ويحاوطون المدخل يمنعون الأطفال من الخروج، بينما هي.. سماهر
تقف أمامهم بوجه محتقن بجانبها أربعة رجال واحد منهم يتحدث مع الجندي وامرأتان تقفان بصمت
اقترب يكبح غضبه ليتجمد في مكانه مصعوقاً وهو يراها تصيح بهم بغضب وتشمر عن ساعديها بحركة تركته يطوي المسافة بينهما بخطوتين ليمسك بها في لحظة واحدة يعيدها للخلف مصعوقاً، جفلت وأخذت تصرخ وتدفعه ليقول بحدة:"أنا عاصي اهدئي"

تلاشى ذعرها ولكنها دفعته عنها لترى الأساتذة ينظرون لهم بعدم استيعاب والجنود مازالوا يطالبونهم بالخروج لتصرخ بغضب:"اللعنة عليكم.."
وضع يده على فمها، يمسك نفسه بصعوبة عنها ليهمس بعنف:"اسكتي وقصري صوتك يا سماهر، مجنونة أنتِ كنتِ بتضربين الرجال؟"
دفعته بحنق ووجهها تشتد حُمرته، تصرخ وكأن مارد تلبسها:"بضربه وأكسر عظامه ماداموا الرجال خايفين ويداهنونهم أنا كفيلة بهم، قسماً بربي إن ماخرجوا أطفال القسط بهذي اللحظة لأنهش لحمك انت وهو"

أشار عليها الجندي بتبرم غير فاهم كلماتها يحذر المدير أن يمسكها ويبتعدوا والآخر يحاول إستمالته بلطف ويتحدث بلغته لتُمسك سماهر رأسها تهزه بعنف بينما عاصي يقف أمامها متحفزاً يحاول فهم أبعاد الموضوع، جحظت عينيه عندما دفعته وتجاوزته وهي تدفع الجندي بعنف لتتقدم الجنديات حتى أنهنّ تجمعن يحاولن ضربها فسحبها من بينهن بصدمة وهو يكلمهن بلغتهن فتراجعن في حين دفعها بكل قوة على إحدى الجدران بعيداً عنهم هادراً بذهول:"وش صاير معك اهدي واستعيني بالله، أي جنون هذا اللي تسوينه، اهدي ولا تضطريني لأفعال سيئة معك لا تحديني على وجعك"
دفعته بغضب ووجهها يتفحم من شدة القهر تهتف بعنف:"ابعد عني، كلكم سواسية كلكم جبناء وأنا باخذ حقهم بنفسي، وإن كنت بتوجعني وش فرقك عن هالكلاب المحتلين"
حاولت الذهاب فأمسك معصمها يعتصره بغضب:"لا تعطيني ظهرك من جديد وأنا أكلمك يا سماهر واهدي قبل تتحدين جنوني معك"

كتمت تأوهاً متوجعاً بصعوبة وحاولت سحب معصمها فلم تستطع قالت بغضب عزّزه غيابه ومايحصل:"اتركني، أنت جاي تسلبني حريتي مثلهم؟ وش تفرق عنهم فهمني؟"

نظر لها بعدم فهم وهو يكاد أن ينفجر:"فهميني وش صاير لأجل أقدر أتصرف"
استطاعت سحب يدها واخيراً لتهتف بقهر:"حدّاد مثلك كيف بيقدر يتصرف.."
شعت عيناه بنظرة مخيفة تركتها تبتلع بقية كلماتها من الخوف قبل أن تستعيد نفسها قائلة بحنق:"هالكلاب هاجمونا فجأة وحبسوا الأطفال في المدرسة والسبب بأننا استأنفنا الدراسة دون إذن منهم.. يطلبون إذن لأجل هالمكان، يحبسون أطفالنا ويمنعونهم حقهم بالتعليم أي ظلم هذا؟ أي طغيان جائر يطبقونه علينا ويظنوننا بنسكت؟ قسماً بربي لأنهشهم بأسناني ولايمس أطفالي سوء تفهم ولا لا"

نظر لها بشهلاءه المتسعة ليهتف بعدم تصديق:"جيتوا بالأطفال هنا دون إذن رسمي؟؟"
نظرت له بصدمة لتهز رأسها بضحكة ساخرة:"نحتاج إذن منهم على أرضنا؟ هزُلت! أطفالنا لهم حق بالتعليم..."

سكتت عندما ضرب الأرض بغضب يمسك رأسه بعدم تصديق:"أي غباء ردّك هالمكان يا جاهلة؟
مادام الأمر يمسّ أطفالك ليتكِ تركتيهم ببيوتهم بين أهلهم ولا تجرينهم للتهلكة، هم يحتاجون سبب تافه بس لأجل يكسرون كل قسطي وانتم أعطيتوهم السبب على طبق من ذهب، بيكسرونهم بأطفالهم.. تخيلي لو هدّوا بقية المكان على الأطفال الحين؟ كيف رضوا أهاليهم بهالمهزلة؟ وين كان عقل المدير قبل يستأنف العمل بهالخرابة"

نظرت له بتشويش وعقلها ينضح دهشة لتقول بعدم استيعاب:"هذا حقهم، التعليم حقهم إذا كانوا يظنون بأنهم قادرين يسلبونه منهم فخسئوا
-هذا الوطن مليان أطفال ولكن الطفولة معدومة-
هذا الوطن مليان مدارس مهدومة لكن التعليم مهدور، ظنكم بنرضى؟ بنسكت؟ ولو كان المكان مهدوم فوق رؤسنا بنضل نحارب لأجل العلم
ولو حاولوا جعلنا أمة جاهلة بيخسرون بكل مرة
تشوف هذا الجدار بنظل نحفر فيه
‏«إمّا فتحنا ثغرةً للنور أو متنا على ظهر الجدار»"

ينظر لها بشيء من الذُهول لا يصدق ماتسمعه أذناه، متى صارت ثورية؟ بآخر مرة تهجم على مدرستهم جندي كانت تسخر من المعلمين الذين يجادلون والآن تشتم وتتهم كل من يصمت بالجُبن، متى دبّت كل هذه الحمية لبلدها؟ متى تعلمت حُبه! لتنحر كل أسئلته عندما ابتعدت خطوة للخلف مشيرة برأسها بيأس:"شخص مثلك
ماراح يعرف هالشعور، شخص مثلك يغيب لأجل اللاشيء وبوقت حضوره يسجن نفسه بورشته ماراح يفهم ولو صببت بسمعه آلاف الكلمات الثورية.. هذي الأرض لنا وهذا المكان لو هدموه فوق رؤوسنا بنبني من ركامه حياة، وأطفالي مستحيل أسمح لهم يأذونهم ولو كلفني الأمر روحي..تفهم ياعاصي؟"

قالت تلك الكلمات لتبتعد مستغلة صدمته بخدشها لكبرياءه ورجولته، بل هي لم تترك له فرصة لتأنيبها لخروجها دون علمه وتعريض نفسها للخطر لتأتي وتُكمل الموضوع وهي تستنقصه!

كادت أن تعود للساحة التي تكتظ بالجنود ولكن يده التي أمسكت بمعصمها تجرها بكل قوة لم تعطها مجالاً حاولت الرفض ولكن نظراته أخرستها.. رباه وكأنما ناراً اندلعت فيهما، رماها حرفياً بداخل السيارة ليقول قبل أن يغلق الباب بحدة:"ابقي هنا لين أرجع لك"
أقفل الباب بكل قوة في وجهها وكاد أن يبتعد ولكنه عاد لفتحه ينظر لها بنظرات علمت بها أنها تخطت الحدود:"تخطي أوامري وانزلي قسماً بالله لاتشوفين الوجع كيف بيكون"

لم تتحدث فنظراته زعزعت ثقتها ليقفل الباب بقوة أكبر ويعود للمكان الذي -سُمي- مدرسة ينظر للأطفال الباكين خلف بوابة من الحديد والأساتذة مرتبكين ومازالوا يحاولون مداهنة الجندي الذي يبدو غير مهتم بتوسلاتهم وهو يكتب التقرير، ليشتمهم بكل عنف مخرجاً هاتفه الخاص بعمله.. وبرسالة واحدة في غضون دقائق كان الجمع قد فُض!

وسط نظرات المدير الذاهلة وهو يرى انسحابهم بصمت للخارج بعد تلقيهم لاتصال علم أنه من جهة عليا، ليرى رجلاً يتقدم ويفتح البوابة الحديدية سامحاً للأطفال بالخروج والذين لم يتعدوا المئة طفل وطفلة
ليخرجوا متدافعين للخارج البعض منهم خرج بكل بساطة من فتحات الجدار والآخرين خرجوا من البوابة المهدومة ليرى عاصي آخر طفل يخرج بقوة ودون أثر للدموع كالبقية استوقفه ودنا منه متسائلاً:"ماخفت؟"
نظر له الطفل نظرة مطولة ليبتسم بعدها ابتسامة ثقة قاسية هزّت عاصي:"هذا اللي يسعون له، إخافتنا.. ولكن خسئوا وماراح يوصلون لها"

رمقه بصمت، لتتسع إبتسامة حمزة القاسية.. الطفل الذي رعاه يوسف حتى هذه اللحظة ولو من بعيد:"لا تخاف، احنا جيل تعلمنا بالمدارس المهدومة، شوفة جيش محتل واقف وتهديد بالسلاح ماعادت تخوفنا.. كبرنا على هالمخاوف"

ابتسم مربتاً على رأسه مُدركاً أن هذا الطفل لن يمر مرور الكرام على أرض قسط الجوى!
نظر للمدير نظرة مطولة واكتفى بها وهو يخرج من هذا المكان قبل أن يهده على رأسه ذلك الأحمق، لقد دفع بحياة عشرات الأطفال للهلاك أي غباء هذا؟

عندما رأته يندفع خارجاً من المدرسة بعدما رأت الجنود وهم ينصرفون متجهين لسياراتهم التي صُفت خلف المبنى بعد دقائق بسيطة من دخوله، ومن بعدهم الأطفال يتجهون لمنازلهم.. حتى قبضت على يدها بكل قوة تداري نبضات قلبها المتقافزة بذعر
كان وجهه ذا تعابير منغلقة، لكن عيناه
وآه من عيناه
كانت تحتوي نار الدنيا كلها بداخلها! وعلمت بعد نظرة واحدة فحسب.. أن اللقاء هذا وبعد عشرة أيام غياب وبعد هذا الموقف بالذات
سيكُون عقابه وخيماً!

توقفت سيارته أمام العمارة، التزم الصمت طيلة الطريق صوت أنفاسه الحادة كان الدليل الكافي بأن غضبه بلغ الذروة! وهي لم تتكلم لا خوفاً منه
إنما دهشة مما حصل قبل لحظات!
لساعات طويلة يحاولون بمرو إخراج الأطفال بعد حضور الجنود فجأة خوفاً من معرفة الأهالي وذعرهم ولم يفلحوا، ليأتِ هو وخلال دقائق من حضوره ينفض كتيبة كاملة وكأنها لم تكن
ماذا يحصل، من هو حقاً؟ أهو مجرد حداد تافه؟ أم أن هناك أبعاد أخرى!

خرجت من السيارة عند توقفها بخطوات ثابتة لتتجه للطابق الثاني حيث شقتهم فتتجمد مكانها وهي تسمع صوت بكاء أخواتها الحاد فجأة واندفاعهن العنيف لها واحتضانهن المضني لها

حتى أنهن لم ينتبهن لدخول عاصي ونظرته الخائبة لها ثم دخوله لشقته تاركاً لهن حرية التعبير عن خوفهم بعد غيابها تدافعن يقبلنها يصبن على أذانها خوفهن وغضبهن:"ليه تقفلين جوالك؟ ليه تأخرتِ دون ما تعطينا علم؟ وين كنتِ؟ صابك ضر؟ كنا نظنك مُتِّ! كنا كنا..."

لينفجرن بالبكاء من جديد تاركين الدمع يغزو محاجرها وتأنيب الضمير يجلدها بلا رحمة، في غُمرة خوفها على الأطفال نست أخواتها!

مرت ساعة وغضبه لم يتلاشَ إنما بات ينضح من جميع خلجات جسده، يذرع الشقة ذهاباً وإياباً حتى رآها تفتح باب الشقة وتدخل
وجهها شاحب وعينيها شديدة الحمرة بسبب كبحها للدمع، لم يرأف بحالها فأخذ ينفث غضبه عليها:"تعرفين ماهية الشعور اللي سيطر عليهم والأفكار القاتلة؟ كلما سمعوا صوت صاروخ قالوا أكيد كانت ضحية من ضحاياه، شعورهم لما انفجرت محطة الغاز وهم يسمعون صوت انفجارها ويظنونك قريبة منها لأجل كذا ما رديتِ ومارجعتِ
لو رحنا لهم ومالقينا إلا أشلاءها، لو ضاع جسدها بين ركام الإنفجار، او جندي تعدى عليها او ماتت وهي بعيدة عننا.. فكرتِ فيهم يا اللي الحمية لأطفال بلدها حيَت بعد سنين من الموت"

الفجوة بينهما تتسع أكثر فأكثر وقلبها بات مُثقل بشكل عنيف وكأنه تحول لإسفنجة تمتص كل الوجع وتزرعه بين ضلوعها، قالت بخفوت:"مافكرت.."

ضحك بمرارة، يعيد شعره للخلف وكل تلك الأفكار كانت تتربص به هو، لقد عاش ساعة أُقتبست من العذاب:"طبعاً، مادمتِ تمثلين دور الشهامة والمروءة وتفردين عضلاتك، متى بتلاقين وقت للتفكير بغيرك؟ أصلاً بعمرك فكرتِ بغير نفسك ياسماهر؟ صارحيني.."

قالت بذات الخفوت وهي تعتصر كفها:"أنا مابعمري فكرت بنفسي، لأخواتي الأولوية بحياتي.. حتى قبلك"

رفع يده بسخرية كدلالة على استخفافه:"احنا هنا وحدنا ونعرف بعضنا حق المعرفة يا سماهر، خليكِ واقعية وصادقة مع نفسك أنتِ حتى لما تجاهلتِ دينك وقررتِ تسرقين ماكان لأجلهم، كان لأجل نفسك أنتِ
خفتِ على نفسك بنظراتهم، خفتِ تسمعين منهم شيء يوجعك ويقلل من مقدارك بعيونهم
كان ودك تملكين سلطة عليهم بفلوسك ولو كانت حرام، كان..."

شع الغضب أكثر عندما أسكتته بصرخة عنيفة منها:"اسكت.."
اقترب كالإعصار منها حتى وقف أمامها يهمس بعنف:"ليه؟ أوجعتك حقيقة نفسك؟ كنتِ تخبين كل هالأفكار عن عقلك لأجل ما تنصدمين بذاتك ولما صرت لكِ مرآة انصدمتِ؟ خذي الحقيقة على طبق من ذهب
أنتِ أنانية وما تفكرين إلا بنفسك"

وكأنما صوتها بُح لوهلة فلم تعد قادرة إلا على الهمس:"اسكت، أنت ماتعرف عني شيء اسكت بس اسكت"

سكت فعلاً لوهلة فقط، قبل أن يغمض عينيه ليقول بذات الغضب:"أنا منعتك من الخروج صح ولا لا؟ أمري كان واضح بأن الخروج من العمارة دون علمي ممنوع! أنتِ ماخرجتِ وبس
أنتِ عرضتِ نفسك للتهلكة ناسية ثلاث خوات وراك، ناسية زوج وكأنه جدار بحياتك لأجل تعارضينه وتخرجين جاهلة بأنك ملعونة بكل خطوة، ناهيكِ بأنكِ عرضتِ مئة طفل للموت بسبب كبرياءك أنتِ واللعين المدير.."

-"كنت بحميهم بروحي"
-"كنتِ تحمينهم بيدينكِ.. يدينكِ اللي لمست رجل غيري، تعرفين سماهر؟؟ قسماً بخالقك لو ما خذتني الدهشة لكنت كسّرت يدينكِ بنفسي بتلك اللحظة قبل يفكر الجندي يرد عليكِ.."
نظرت له بضياع، أغاب عنها دون سؤال ليأتِ فيكسر كل عزومها ويبثّ سمه بداخلها منتزعاً منها الحياة؟ ألا يكفيه شعورها بغيابه ليأتِ ويقتلها أكثر بحضوره:"كنت أدافع عنهم، أنا أقنعت أهاليهم بضرورة استمرارهم بالتعليم، هذا حقهم ولو هدّوا السماء فوق رؤوسنا ما تخلينا عن حقوقهم.. مايكفي حقهم بالطفولة انتزعوه منهم؟"
قال بشيء من التعقل برغم غضبه:"لكنكم حاولتوا تسلبونهم حقهم بالحياة، المكان غير مهيأ وأي رياح قوية كان ممكن تهد المبنى فوقكم"
جادلته:"تأكدنا بأنه ثابت"
بكل مرة تنطق بنون الجماعة يتورم قلبه من شدة الغضب وهو يعلم من تعود هذه النون له:"من علّمك حب الوطن؟"
اتسعت عيناها بعدم فهم من سؤاله الغريب
لتقول بتلقائية:"شربنا حبه مع اللبن بصغرنا"
تبسم ساخرًا يهز رأسه (يبدو بأن سنة مع سكون غيّرت فيكِ الكثير يا سماهر) :"من اتصل فيك عشان ترجعين لهم؟"
قالت ببساطة وهي تبتعد خطوة للخلف:"المدير، هو طلب مني ومن بقية الأساتذة بس الأغلب رفض لذلك.."
قال ببعض الحدة:"لذلك..."
أكملت غير منتبهة لاصطكاك فكيه من شدة الغضب:"لذلك ساعدته بنفسي، أقنعنا الأهالي وفتحنا المدرسة.. حتى إننا..."


يُتبع..



فاطمة صالح. غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-06-23, 07:24 PM   #86

فاطمة صالح.

كاتبة في قسم الروايات والقصص المنقولة


? العضوٌ??? » 506671
?  التسِجيلٌ » Sep 2022
? مشَارَ?اتْي » 81
?  نُقآطِيْ » فاطمة صالح. is on a distinguished road
افتراضي



جحظت عيناها بهلع عندما دفعها للخلف بكل عنف حتى اصطدمت بالباب فتأوهت بلاوعي مصعوقة بغضبه:"أنتِ مستغنية عن روحك؟​
تجاهلتِ أوامري بسبب هاللعين؟ وقضيتِ كل هالوقت معه؟ كرهتِ الحياة لهالدرجة؟"

هدوءها طار مع ذبذبات الهواء لتقول بغيظ:"تجاهلت أوامرك لأجل الأطفال ايوه
-"أنتِ.. أنتِ..."
قبل أن يكمل جملته دفعته عنها بكل غضب فاختل توازنه لأنه لم يتوقع ذلك:"أنا ماني جرس ببيتك تعلقه وقت خروجك لأجل ينتظرك بصمت طول غيابك وترجع تلاقيه بمكانه وما يرن إلا بوقت ضغطك عليه.. أنا إنسانة لي كياني ولي حقوقي يا عاصي لا تظن إنك بزواجك مني انتزعت هويتي واستقلاليتي لأنك خسئـ.."

لم تكد تُكمل حتى رأت يداه ترتفع عالياً بغية صفعها فتوسعت عيناها غضباً ولكنه أوقف يده في الهواء يشد على قبضته حتى كاد يكسر أصابعه:"عيدي هالحكي من جديد و.."
-"وبتطلقني؟ سهل الفراق عليك صح؟
مجرد مسؤولية حملتها شرقيتك وحميّتك الرجولية على ظهرك وصارت ترهقك فصرت تدور الطريق الأسرع لرميها، صح؟"

تغضنت ملامحه بصدمة من كلماتها ونظر لها بارتباك بسبب المفاجأة ظنت أنها أصابته بمقتل لتضحك تخفي لوعتها ودمعها:"لا تخاف أنا أعرف منزلتي عندك وما أحتاج بكل مرة تذكرني بإني واجب ثقيل عليك ووجب تحافظ عليه بس من الموت، تغيب فترسل أصحابك يتأكدون إن الأمانة بخير، ترجع تسأل وتحقق وتُدين وتعاقب.. وأنا لي حق السؤال؟ طبعاً لا لذلك أترك عنك الحكم علي وعلى أولوياتي
ولا تتسائل حتى عن -متى حبيت الوطن- لأنك لو كنت معي فعلاً خلال سنة لعرفت متى"

قالتها بصوت يقطر مرارة رغم محاولتها بالثبات لتكمل متجهة لغرفتها:"انت مجرد آلة بشرية لا حياة فيها، ماتعرف حتى كيف تشعر وتصيّرك أحاسيسك انت خالي من المشاعر يا عاصي وأنا تعبت من العيش مع آلة، أحتاج أحيا ماهو بس أعيش.. انت حتى تلمسني كل مرة بدافع الواجب ولامرة قربتني حب!! حتى بأول مرة وكأنها مهمة وتعبت من تأجيلها فقط"

دخلت الغرفة لتغلقها خلفها وصوت المفتاح دليل كافي أنه وبعد تقاذف الجراح بينهما لا مكان له الليلة معها لتدخل للحمام تغرق نفسها تحت الماء بملابسها، فالنار التي بداخلها ستحرقها إن لم تحاول إطفائها ومادامت الدموع رفاهية لا تمتلكها لم تملك سوى هذه الطريقة

بقي بمكانه للحظات يقلب كلماتها بداخل رأسه
ليعود للخلف خطوات متقهقرة يجلس على الأريكة مخرجاً هاتفه الخاص بالمهمات ليتصل على أول من خطر بباله، أتاه صوته عميقاً:"يا مرحبا"
قال بلا مقدمات وكأنما يحاول نزع الشوكة التي غزّتها بقلبه:"يوسف، أنا رجل بليّا مشاعر؟
تظن إني مجرد آلة بشرية تأكل وتشرب وتتعامل بالأوامر بس؟"

خيّم الصمت للحظات بعد سؤاله تحت ظل دهشة يوسف ليقول بحمائية:"طبعاً لا، أنت أحنّ رجل عرفته بكل حياتي"
ليأتيه صوت بعيد مكتوم هاتفاً:"و أعطه من حنيّتك شوي يارجل بموت وهو ما رفت له شعرة!"
سكن ألمه للحظات ليعقد حاجبيه:"وش صاير معك؟"
نظر يوسف لهشام بنزق وقال:"لا تخاف ولا شيء ذبانة وأحاول طردها"
شهق هشام بصدمة يُشير على قميصه الأزرق الذي تحول لأحمر داكن:"أنا ولو كنت ذبانة بنظرك فتراني ذبانة تنزف"
نظر له يوسف بطرف عينه ليصرفه:"توكل على الله المخيم الطبي مقفل"
قال عاصي بخوف :"وش صاير! ليه هشام ينزف؟"
قال هشام بحسرة:"لي ساعة أحاول أدخل يقطبون لي الجرح من جديد لأن انفكت الخيوط وبدأ ينزف ولكن الحارس اللي تركته وراك يرفض دخولي، تخيل إنه ردّ كل الرجال اللي حاولوا يدخلون والسبب...؟ أختك هي المناوبة الليلة ومايبيها تعالجنا"

لم يُعلق يوسف بل بقي محتفظاً بملامحه الهادئة لتتعالى صوت ضحكات عاصي بصدمة، فهو إن بلغت حمائيته لهذه الدرجة لم يكن ليبعد المرضى عنها قال هشام بقهر:"لاتضحك، الألم لا يُحتمل!"

رأى طفل صغير كان قد وصاه يوسف للدخول وإحضار حقيبة الإسعافات ليقول بذات النزق:"اجلس هناك، دقايق وأجيك أقطبه بنفسي وصدقني هالمرة ما بترك له فرصة ينفك"

صُعق هشام وهز رأسه بالنفي فأشار يوسف على البقعة المنشودة:"إما تجلس وتنتظرني، أو توكل نام بأوجاعك لما يجي الدكتور بالصباح ويستلم مناوبته وتدخل.. أما الآن لا تحلم"
نظر له بحسرة ليجلس ينتظر يوسف ينهي مكالمته ليقطب جرحه فهو لديه إجازة للإسعافات الأولية والطوارئ وعملهم يحتم عليهم ذلك أما عاصي مازال يضحك بعدم تصديق:"مجنوون يا يوسف مجنون"
ابتسم يوسف واخيراً دون أن يعلق ليقول بعد صمت:"وش حصل معك؟"
بالرغم بأن عاصي كتاب مفتوح ليوسف دائماً لكنه لم يود عرض حياته الخاصة مع سماهر بتفاصيلها اكتفى ببعض النقاط ليقول يوسف بعد برهة صمت:"أنت رجل ما تسيّرك مشاعرك وهذا مفروغ منه، احنا رجال عقل يا عاصي هذا اللي تعلمناه بصغرنا، مشاعرنا مالها أولوية بحياتنا
دائماً نفكر بالصح والخطأ والمهم والثانوي
ودائماً ماكانت المشاعر عندنا مهمة لذلك اللي حولنا يظنونا بليّا شعور"

سكت يستمع ليوسف الذي استطرد بصوته العميق:"ولكننا إن كنا رجال حرب تصيرنا عقولنا دايماً، فإحنا نعرف متى نصير رجال حبّ نعطي قلوبنا بليّا تفكير، احنا قساة في الحب ولكن في الهوى ما بتلقى لنا مثيل.. ازرع هذا في مخك"

كاد أن يتكلم ويُعلق ولكن يوسف لم يعطه فرصة ليكمل بذات نصيحة عواصف:"اترك السباحة عكس التيار، اسبح ولو مرة معه! لاتحمل نفسك حمل مالك قوة عليه..أنت رجل مهتويها
ماهي مسؤولية بس، ماهي حمل، هي صارت وراء الضلوع العوج لذلك قدّرها وأنا أخوك
لا تبلى نفسك ببلاء الحب والحرب، على الأقل ريّح بالك من جهة"

ليتنهد مريحاً رأسه للخلف علّ عضلات جسده التي لم ترتح لليلة واحدة طيلة الأيام السابقة تستريح:"تظنها تفهم؟ هي غبية وجاهلة.."
ضحك يوسف بخفوت:"وأنا متأكد بأنك ماتعبت نفسك لأجل تفهمها، ما ألوم جهاد لما كان يقول عاصي الوحيد اللي ما ينخاف عليه بالحب
ما يطير بالهواء مثلكم! يارجل اتعب شوي لأجلها"

لم يُعلق فهو يود غرس كلمات يوسف في عقله علّها تثبت ليكمل يوسف ما أرهق قلب عاصي وكأنه يفهمه:"أنت خايف تكون نهاية هالزواج مثل ما سبّقه، ولأول مرة تخاف صح؟"
"..." -
ابتسم يوسف لصمته فعلم أن ما ظنّه صحيح، لقد وقع عاصي -على قلبه-
ليقول بهدوء:"تصرف على سجيّتك
واترك برزخ وعاصي الياقوتي أمام باب بيتك قبل تدخل لا تنسى، أنت معها عاصي بس"

بعد صمت طفيف قال عاصي بهدوء قاصداً سكون:"شفتها؟"
-"ما قويت"
اتسعت حدقاته بعدم تصديق من إجابته الموجزة، رباه إنه يوسف الغرابي القائد الكبير للجيش الشعبي واليد اليمنى للقائد جهاد وأفضل عميل بالإستخبارات بكل قوته وهيمنته وعظمته.. لم يقوى على رؤيتها!
أهذا ما يسمونه -حب- أن يكون أعتى الرجال وأقواهم -ضعيف- أمام محبوبته؟

علّق عاصي:"كل مرة أتذكر طريقة زواجكم وكونها أُجبرت، أحس بخدش بروحي"
ابتسم يوسف ولم يخبره بأن سكون منذ البداية قد كشفت هويته وأنه لو أخبرهم قبلاً لكانت هدف جهاد لذلك قال مغيراً للموضوع:"بدلاً من تذكرك لي أنا، تذكر طريقة زواجك أنت"

ابتسم بسخرية، لقد أخذها كتحدي بينه وبين نفسه، وهاهو يتجرع ويلاته بكل سُرور
بعد لحظات أغلق يوسف ليتوجه ليُعالج هشام الذي يندب حظه:"بئس الزوج أنت"
ضحك يوسف وانحنى يعقم جرحه بينما عاصي بقي على حاله ساعات طويلة، يقلب وضع زواجه بين طيّات عقله
لقد رآها ذابلة برغم محاولاتها للظهور بصورة قوية، أتُراه حمّلها فوق طاقتها؟
لدرجة أن ترى نفسها في كل مرة -حِمل ومسؤولية وواجب- له فقط؟
*

مرت ثلاثة أيام صعبة، والعقاب كان تجاهلها تماماً حتى كادت أن تنفجر وهي تتقبل صمته بصعوبة، ولأول مرة تود البكاء بكل جوارحها
إن لذوعة كلماته أهون بكثير من صمته القاتل!

كانت قد أخذت حبوب منومة لتتركها لعالم الأحلام بلا فوضى واقعها
استيقظت بعد الفجر وعند انتهاءها من الصلاة شرعت بقراءة أذكارها، تعلم يقيناً أنه لولا الله ثم فضل قراءتها لما كانت قطعة واحدة حتى هذه اللحظة، لطالما حفظتها الأذكار!

سمعت صوت ضوضاء قادمة من الشقة فظنّت أنه خرج كعادته خلال تلك الثلاثة الأيام وأن من يعبث بمطبخها هنّ أخواتها بعدما سمعت صوت فتح باب الشقة، هبّت واقفة فآخر مرة سمحت لهن بالدخول عُثن بالشقه فسادًا، تناولت مئزرها الأحمر وأردته على عجل ثم فتحت باب الغرفة وخرجت مهرولة لمطبخها، لتقف متجمدة في مكانها
تراه يقف بمنتصف المطبخ قد بعثر كل الأطراف ليلتفت لها بملامح منزعجة، وعندما رآها انبسطت ملامحه ورمقها بهدوء
نظرت له بصمت فسابقاً كان يتجاهل حتى النظر لعينيها، رفع فنجانين فارغة ودلة من القهوة قد صنعها بنفسه:"قهوة؟"

تلجلجت بمكانها بعدم ارتياح لحالته، ليتخطاها متجهاً لبلكونة الصالة المُطلة على الجزء المتهالك من البيت مبتسماً بحسرة:"قهوة مُرة، تشاركيني؟"
رمقته بنظرة حذرة ليشير على لباسها قائلاً:"البسي شيء فوقه وتعالي، بنتظرك"
جلس فعلاً ليصب لنفسه فنجان من القهوة العربية ويشربه متلذذاً ليرفع رأسه بعد لحظات وهو يراها تقف أمامه بحرج

كلماتها قبل أيام ترنّ كصدى بالأرجاء وتجعلها تتوتر بحق، لقد جرحا بعضهما بقوة وصعب أن تجلس الآن أمامه بكل بساطة يبدو بأنه فهم حرجها فأشار بيده للكرسي قائلاً بهدوء حـازم:"اجلسي سماهر"

تلكأت للحظات ولكنها في النهاية جلست ليمُد لها فنجان القهوة فرفضته:"ما أحبّها"
نظر لها متسع العينين:"قهوة عربية؟؟"
أمالت شفتيها من صدمته المبالغ بها لتهز رأسها تأكيداً:"أنا عربية وما أحب القهوة العربية، مُرة"

ابتسم بخفوت:"أفهم من كلامك إنكِ ترفضين مشاركتي قهوتي المُرة..!"
لم ترد فوقف هازاً رأسه ليتركها بحيرتها مبتعداً:"أجل وجب علي أهيأ الخيارات"

هي تعلم، لم يكن يُحب القهوة العربية مثلها ولكن منذ حضور سكون لحياتهم ومشاركتها تفاصيلها بات يُحبها بل يستلذها.. ولكنها هي لم تستطع
راقبته يبعثر أطراف مطبخها يبحث عن شيء لم تفقهه لتراه يُخرج كيس القهوة السريعة ثم يبدأ بصنعها بهدوء تام
تحت ضربات قلبها الصاخبة وهي تراه يلقي في فنجانها ثلاث مكعبات سكر، لقد كان يعلم ما تحب بجميع تفاصيله مع ذلك صنع لها ما يحُب هو وطلب بكل لطف مشاركته، أيختبرها؟

جلس أمامها من جديد بذات الملامح التي لاتنم عن أي مشاعر ليقدم لها فنجان القهوة قائلاً:"مثل ما تحبين"

نظرت له يسكب لنفسه فنجان جديد ويرتشفه بصمت معيراً كل انتباهه لبقاع أرضه المهدمة وكأنه يرثيها.. أو يعتذر
أيعتذر المرء بنظراته؟

عندما لم تأخذ فنجانها استنكر ذلك فالتفت ينوي سؤالها ففاجئته وهي تمد يدها للفنجان الثاني الفارغ وتسكب لنفسها فيه لتتجرع مرارة القهوة العربية
بملامح هادئة، ونظرة كانت كفيلة بجعله يبتسم ثم يعيد ظهره للخلف ضاحكاً ضحكة ذات مغزى:"القهوة مُرة يا سماهر"

لتجيب بخشونة بسبب مرارتها:"أعرف"
-"يعني شربتيها وانتِ على بينة؟"
نظرت له بنظرات قوية ليرفع طرف شفتيه باسماً:"وتعرفين وش يعني تصرفك؟"
اكتفت بإيجاز:"أعرف"

لم يُعلق بقي صامتاً للحظات لتقول بذات الهُدوء:"وأنت تعرف وش يعني مبادرتك؟"

نقر على الطاولة الخشبية بأصابعه ليقول بجدية:"تصرفاتك العشوائية انسيها، أنا رجل تثور أعصابه لا تجاهلتِ طلباته"

شخرت بأنفها ساخرة:"طلبات؟ كانت أوامر يا عاصي، وأنا إمرأة صعب علي أتقبلها"

يبدو أنهما لن يصلا لنقطة مشتركة، هي عاصية وهو عاصي بالفطرة! لا يُدرك بأنها نشأت مستقلة بذاتها برغم وجود والدها كانت هي من تأمُر لذلك لم تعتد على تلبية الأوامر ببساطة!
-"خروجك من البيت بظل الظروف الراهنة، وتعريض نفسك للخطر ومحاولتك للتعدي على رجل ناهيك بأنه جندي ديجوري وصراخك أمام الرجال.. تصرف صحيح؟ تدرين لو ماكنت ماسك زمام عقلي؟ لكنت قتلتك بأرضك"

احتقنت ملامحها من نبرته المتعنتة لتقول:"وكأن قتلي سهل!"
-"لا ماهو بسهل.. علي على الأقل
لذلك تحكمت بنفسي واللي ماتعرفينه أنا رجل صعب يتحكم بغضبه يا سماهر"

قالها بهدوء لترد بحنق:"أفهم من كلامك بأني بدأت أضغط على حدود صبرك؟"
فيجيبها بخفوت:"افهمي من كلامي بأنكِ شخص استثنائي بالنسبة لي"

توترت من كلماته فوضح ذلك بوجنتيها التي اشتدت حمرتها لتتركه دون رد بينما تشيح بنظراتها لأرض الجوى دون أن تنظر له، نظر لها باستنكار لردة فعلها ولكن بعد لحظات صدحت صوت ضحكاته المجلجلة بالمكان فاشتدت الحمرة أكثر وغرقت بملابسها حينما علم أن كلماته أثرت بها فخجلت ولم تسطع الرد:"والله وعرفت مفتاحك يا سماهر" همس بها لنفسه ليقول بعدما خفتت ضحكاته:"يعني؟ نتفق أن لاخروج من جديد دون علمي وعلاقتك مع المدير تقطعينها"
-"ولكن"
-"اتركي الجدال ولو مرة، أفهمك
أنتِ تحاولين تثورين لأطفالنا ولكن ماهو بهالطريقة المؤذية لهم قبل تكون لغيرهم"
نظرت له بعدم رضا، ليصب لنفسه فنجان قهوة ويشربه على مهل ليقول بعدها ببطء:"أنا أخاف عليكِ يا سماهر وهذا أبسط حقوقي"
-"وأنا أكبرها أعرف وين تغيـ..."
قاطعها بنظرة زاجرة ليقول بغضب مفاجىء:"إلا غيابي، نقطة حمراء ممنوع عليك تعديها ياسماهر وهذا اتفاقنا من البداية! مادام مايضرك وكل حقوقك كاملة"

عضت على شفتيها بكل قهر، بالطبع هو لا يعلم بأنها تتلوى ذعراً كل دقيقة وتقف بالساعات تنتظره بجانب النافذة، صمتت تعلن غضبها ولأول مرة تغضب صمتاً!
فتنهد يضغط على جبينه بتعب
فاختفاء سكون وبحثه المذعور عنها من ثم حالة يوسف وإصابته يختمها باختفاءها وخوفه عليها وآخرها نقاش حاد معها
كل هذا سلبه طاقته!
تململت بغير راحة في مقعدها وهي ترى وجهه يتغضن ألماً لتقف مبتعدة للصالة قائلة:"تعال"

نظر لها بحاجب مرتفع ليراها تقف خلف الأريكة تنتظره بصبر ليقف بعد لحظات يجلس على الأريكة لتمد يدها بلا تردد تمررها على كتفيه علّها تخفف تشنج عضلاته وتُريحه، استمرت لدقائق طويلة وتصلب ظهره وعضلاته أجبرها على الرأفة به، تباً إن رؤيته يتألم قد جعلت قلبها يتلوى بين أضلعها
لم تعلم بخطورة مبادرتها إلا عندما شهقت وهي ترى نفسها تطير فجأة عندما سحبها بكل قوة بحركة تركتها تطير عن الأريكة فتسقط بجانبه ، رأت نظراته فانكمشت على نفسها خجلاً ليقول بنبرة عميقة:"مادمتِ قريبة للدرجة ذي عيدي اللي قلتيه البارحة.."
ابتلعت ريقها بصعوبة وهي تراه يقربها منه حتى التصقت بصدره لتقول بصوت بالكاد خرج منها:"أقول وش..؟"
نظر لها وهي منكمشة على صدره:"اني بليّا مشاعر"
انتفضت بشكل واضح بين ذراعيه ليبتسم وهو يقرب رأسها من يسار صدره حتى استمعت بكل بساطة إلى دقات قلبه العنيفة ليقول بهدوء عابث:"هذا بسببك"
أغمضت عينيها تشعر بدوار لذيذ بسبب قربه الذي أنهكها لتصل إليه بعد غياب لتقول بعدم فهم:"وش هو؟"
-"سرعة نبضاته اللي بتقتلني بأحد الأيام"
-"بسم الله عليك"

قالتها برعب وهي ترفع رأسها له لتنظر له فيبتسم لذعرها قائلاً:"تخافين عليّ؟"
نظرت له بتردد للحظات ثم حزمت أمرها
مابالك سماهر؟ متى بتِ تترددين وتخفين شعورك خلف مئة ستار!:"طبعاً أخاف عليك، أكثر من نفسي"
اتسعت بسمته ليزيح الحجاب عن رأسها ويخلل يديه بين شعراتها مصدوم من سلاسة اعترافها
جاهل بأنها بكل مرة تخبره بما في صدرها بلا تردد إنما هو لم يترك لها فرصة لتعبر عن دواخلها
ليستغل الفرصة هذه المرة قائلاً بنبرة عاطفية متلهفة:"وبعد؟"
-"وأشتاق لك.."
-"وبعد؟"
-"وأكره غيابك"
-"وبعد؟"
تنظر له بقوتها المهيبة، لتجيبه بثقة من لا تخجل بالبوح بضماد أحاط بجراح البارحة متأثره بنبرته الحنونة، ولمساته الرقيقة:"وأحبك"

تنفجر مفرقعات العيد بروحه حباً لقوتها حتى باعترافها ليتسائل:"جداً؟"
لتجيب بتأكيد واضح:"وجداً جداً بعد"

كانت تجيبه بكل بساطة وبعينان تنضحان صدقاً وقوة وكأنها لاتهتم بتعرية قلبها أمامه ولم يهتز بكبريائها حرفاً واحداً وهي تعترف بشعورها بكل هيمنة، انتهت طاقته على التحمل فاقترب يُقبلها بكل شوقه ولهفته لها لتذوب عشقاً بين ذراعيه
متناسيين تماماً حواراً كان قد أحدث شرخاً بينهما
بل الليالي التي وعدت بها نفسها أن تعاقبه على بُعده
ولكنها لم تحتمل، لم تقاوم نظرات عينيه الهائمة بها والتي أشعرتها وكأنها الأنثى الوحيدة على وجه البسيطة، لم تحتمل وهي المدلهه بحبه والخائفة طيلة الوقت من شعوره ناحيتها
ليجيبها بطريقته.. بأنها ألذ فصل بحياته
وأنها -إن كانت- حِمل فهو مستعد لحملها بين ذراعيه بكل سُرور وطيلة حياته..فقط لتبقى

ابتعد عنها يسرق الهواء لرئتيه مستمتعاً بذوبانها بين ذراعيه بشكل يناقض تماماً حالتها الشرسة معه البارحة ليقول مشاكساً:"إذاً علميني.. دبّت فيكِ الحياة؟"

لم تعتد على هذه الحوارات اللذيذة والمشاكسات الرقيقة معه فقالت بعبث محبب:"ماهو كثير.."
ضحك فرقصت نبضاتها لتكتم شهقتها عندما عاد لعناقها من جديد ولكن بشدة أكبر، بحنية أكثر، وبحب أكثر فأكثر
ولم يحتج للسؤال بعدها عن مرور الحياة في أوردتها بكل قوة!

هي كبارود مشتعل، كل مايخطر على قلبها يقوله لسانها ولكن بأوقات تغلف لسانها بكلمات لاذعة خوفاً على كبرياءها، وهو كنار هوجاء غضبه يسبق تفكيره فينفث نيرانه قبل أن يحاول إخمادها
اقترابهما غضباً قد يحرقهما، ولكن اقترابهما حباً قد يحيي قلوباً قد تعبت من الذبول!
*
بقي يومان في المنزل دون أن يخرج أبداً
معطياً لها كل وقته لكنه اضطر للخروج حتى يشتري بعض الأغراض للمطبخ بعد نفاذها، قابلته شامة على الدرج فلاحظ سرحانها:"أنتِ بخير؟"
توترت فهي لم تنتبه له لتهز رأسها:"بخير بخير، وانت راجع تغيب؟ يبدو بأن أقدام أختنا بتطلب استقالة"

نظر لها بعدم فهم لتهز رأسها بأسى:"المسكينة تبقى واقفة عند الشباك طول اليوم تنتظرك، وتخيل كم ساعة تبقى واقفة يومياً!"
اختَلج قلبه لما قالت فازداد حباً لها فوق الحب
ليهز رأسه بنفي:"لا ماني برايح"
ابتسمت وهي تبتعد ليتخطاها فأوقفته بتردد:"صهر..؟"
التفت غاضاً البصر عنها:"سمي"
تلكأت بمكانها بتوتر لتقول بعدما حزمت أمرها:"بخصوص صاحبك"
عقد حاجبيه بعدم فهم لتكمل كاذبة قبل أن يأخذ عنها فكرة خاطئة:"لا تفهمني خطأ أنا بس أسأل لأن وقت كان يمر علينا طاحت ساعته قدام باب العمارة وانت تعرف محد يدخلها غيرنا أو انتوا فـ.."
قاطعها بهدوء:"لابأس اتركيها معك، هو حالياً ماهو بأسدام.."
خاب أملها فهزت رأسها بصمت، تباً لماذا تشعر بخيبة أمل قاتلة لبُعده، ماذا يحصل معك شامة مذ حضوره آخر مرة وهو لا يغادر تفكيركِ..!
*
*
يومان مرّا ولم تره، الخائن!
لم تنضب لها عين مذ رأته يقف أمامها، لم يرتح لها جفن لم تسترح لها نبضة.. وهو؟
أخذت نفس عميق ترفع رأسها للسماء تمسح على صدرها بحنو:"لابأس، لابأس سكون كل شيء بيكون بخير"
أغمضت عينيها تتذكر كلماتها الحادّة لعاصي (انت متواطئ معه صح؟ أنت أرسلتني للموت يا عاصي، رغم معرفتك بمكان وجوده رغم إتصالك معه ولا مرة طمنت قلبي.. يا الله كنت أموت قدامك وانت غاضّ الطرف عن وجعي، أي أُخوة هذي ياعاصي؟)
لم يرد عليها فقط عيناه حكت عن قلة حيلته ووجعه لتبكي بوهن أمامه (كنت أعرف أنه مامات، جزء مني كان واثق بأنه حي ولكن هالجزء كان يحترق قهر يا عاصي، ليه تركني؟ ليه رماني وراه دون شفقة بحالي؟ ليه تركني للوجع وهو اللي قال بأنه ما بيضيمني الدهر وأنا بقلبه.. وأنا ماعرفت الوجع إلا من تزوجته
سنة كاملة..يا الله سنة كاملة أموت بسبب بعده
بسبب تفكيري بأنه مازال بخير والجثة اللي أوهموني بها ماكانت له، كنت متأكدة ولكنك ما تعبت نفسك لأجلي)
لم تكمل فهذه المرة غصاتها تراكمت فمنعتها من الكلام ليقترب يحبسها عنوة بأحضانه يربّت على رأسها بكمد (اعذري قلة حيلة أخوك يا قلبه)
ضربت صدره تحاول الإبتعاد تهمس بصوت باكٍ (ولا عذر يجمل خطأك ولا أسف بيحمي هالوجع
سلبتوا من عمري سنة كانت كمد لأجل كذبة لعينة، بعمري ما بسامحك ياعاصي، حتى هو
الله ياخذني إن سامحته)

لم تهتم لكلمات عاصي المدافعة عن يوسف فيكفيها أنه صاحبه، لم تتسائل عن سبب خروجه من أسدام وكيف عرف مكانها.. لم تملك أساساً مكاناً بعقلها لتفكر، كان لقاءها معه يحتل كل جزء بعقلها، هو حي.. قريب منها حدّ لو خرجت من المخيم وبحثت عنه للاقته
لقد سمعت من الدكتور المناوب البارحة بأن أحد الرجال كان يمنع المرضى من جنس الرجال من الدخول ليلاً ويزجرهم ليعودوا صباحاً وهي من استنكرت ماحصل لتفهم بعد مدة بأنه هو..
مادام يمنع الناس عنها.. لما لا يأتِ؟

خرجت من إطار أفكارها بصرخة عنيفة وهي تندس تحت الطاولة بسبب إحدى ضربات القصف التي حطّت قريبة منهم، ليرتعد المكان عن بكرة أبيه وهي تسمع بكاء الأطفال وتضرعات النساء لله:"يارب يارب احفظنا، يارب اعمِ بصرهم عننا، يارب أرجوك"

كانت أول مرة تسمع قصف منذ حضورها لأرماء وتوسلات النساء والصخب حولها زاد رعبها لتغطي أذنيها بيديها ترى الأطفال يندسون تحت الأسرة المجهزة يحتضنون أمهاتهم برعب، بينما الرجال يقفون بصعوبة وليس بأيديهم سوى الدعاء
ضربة أخرى هزّت المكان لتغمض عيناها تبكِ برُعب وصوت العويل يشتد من حولها، لتقف بهلع عندما صرخ أحد الرجال:"غادروا المخيم غادروه بسرعة"

ليتهاتف كل من به خارجاً برعب وهي من ضمنهم تركض بلا وعي بلا توقف مطلقة ساقيها للريح مع كل من يحيط بالمكان، تسمع فقط صوت اللهاث التوسلات والبكاء الحاد.. يارب يارب

ليتوقفن بعد خمس دقائق من الركض من فجيعة صوت الصاروخ الذي حطّ تماماً على المخيم الطبي فتناثرت أشلاءه بأنحاء المكان مخلفاً شظايا قاتلة و إعصاراً عنيف دفعها بعنف حتى ارتطم رأسها بالجدار الطيني فانهار جسدها على الأرض لتستشعر جسد صغير يتكور بجانبها وبلا وعي تشبّث بها لتسمع صوت بكاءه المرعوب منادياً لأمه:"يمه..يمه"
فمسحت على رأسه بحنو وهي تهمس آخر كلماتها قبل أن يتلاشى صوتها:"لا تخاف، بنكون بخير.."



انتهى الفصل~​
قراءة ممتعة.. ​




فاطمة صالح. غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-06-23, 08:42 PM   #87

فاطمة صالح.

كاتبة في قسم الروايات والقصص المنقولة


? العضوٌ??? » 506671
?  التسِجيلٌ » Sep 2022
? مشَارَ?اتْي » 81
?  نُقآطِيْ » فاطمة صالح. is on a distinguished road
افتراضي


الفصل اثنان وثلاثون

*
*
كان قد ذهب لمهمة مستعجلة صبيحة هذا اليوم لمنطقة صبابة بغرض ملاقاة المنضمين للجيش الشعبي واستعدادهم التام للمهمة القادمة
ليُصعق بخبر القصف على أرماء وترتعد أطرافه من حدسٍ أهلك قلبه حتى أنه أكمل الإجتماع بذهن غائب
فانتبه هِشام لوضعه واستلم زمام الأمور مكملاً النقاط المهمة لمهمتهم بعد يومين ولم يكد ينفض الجمع حتى ركض بأقصى طاقته ليركب السيارة دون أن يستمع لنداءات هشام وجلال فلم يكن منهما إلا أنهما أسرعا وقفزا في حوض السيارة متمسكين بها بكل قوة بسبب سرعته المخيفة!
*
وصل لأرماء، ليقف بعينين شاخصتين يرى آثار الدمار التي حلت بالمخيم، أشلاء جثث من لم يستطيعوا الهرب، الأدوات الطبية التي تفحمت وبقايا رماد لا يسمن ولا يغني من اطمئنان!
لدقائق طويلة لم يستطع التحرك بينما هشام وجلال بقيا مشدوهين لما حصل، رباه كيف علموا عن مكان تموضع المخيم تحديداً! أي خيانة أبشع من هذه!
ينتبه ليد هشام التي أخرجته من ظلامه ليقول:"يمكن تكون هربت، قسورة نبه كل القريبين قبل الإنفجار.. القائد أعطاه الإحداثيات"

هز رأسه يطرد الضعف الذي حل بكل أجزاءه، ليرفع عيناه بقوة تعلموها منه قائلاً بجمود:"أبي رأس الخاين يا هشام"
نظر له هشام للحظة قبل أن يضرب صدره:"اعتبره صار عندك"

ليبتعد هشام عن يوسف فيدرك بعد وهلة حالة هشام الشاحبَة وهو يرى الخيمة التي قد نصبها لعائلة زينة محترقة، نظر له ليرى الموت بعينيه فأسرع يقول:"لاتخاف، طلبت من جلال ينقلهم لمكان آمن البارحة"

نظر له بأمل ثم لجلال الذي أشار بإيجاب وهو يتذكر غضب ليالي ورفضها ثم استجابتها على مضض بسبب إصرار منتهى على الابتعاد، أغمض عينيه يستدعي الراحة ليأتي قسورة بملامح شاحبة:"الإنفجار هدم كل البيوت القريبة والجثث مازالت مطمورة بين الركام"

ليرى عينا يوسف تحتدّ بشكل مرعب ليقول:"الفريق الطبي؟؟؟"
نظر له قسورة ببعض التوجس فتحفز جسده كان واضح ليقول:"أعطيتهم خبر بالهرب واتجهوا للغرب".
كاد أن يتحرك لكن قسورة قال ببعض التوتر:"لكن توقع أي شيء يا طوفان، الشظايا وصلت لأماكن ما توقعناها"

لم يلتفت فقط مضى قدماً بخطوات ثابتة يُحسد عليها بينما هشام يجر أقدامه جراً والرعب مازال يخيم على روحه، وجلال صامت يراقب حالة يوسف الهادئة ببعض الانبهار لتتحول للصدمة عندما نزع عن نفسه رداء الهدوء وهو يرى الجثث المتساقطة والتي أصابتها بعض الشظايا ومنهم من سقط عليه ركام البيوت، فأخذ يبحث مصعوق بين الجثث ومآقيه تشتعل بدمع أبى أن ينحدر من فرط رعبه يهمس ببحة مفجوعة:"وينك، وينك لا توجعيني فيكِ بهالطريقة
لا تموتين كذا أرجوكِ يا وطني.. أرجوك يارب يارب"

كان قد خطر بباله بغمرة وجعه حالة عمّار وهو يبحث عن طفله وزوجته بين الركام فأخذ قلبه ينتحب ذعراً، رباه إلا هذا الوجع
إلا هذا الفقد
لأمت أنا وتبقى هي، لتُنثر أشلاء جثتي
على جميع البلاد ولكن لا يصيبها مكروه
رباه أنا الثوري، أنا المحارب وأنا من يبيع روحه لأجل الوطن، فلتكن الشهادة في سبيلك من نصيبي ولتكن هي بخير.. أرجوك!

كان قلبه يتوسل بكل رعب العالمين، غير مهتم بحالة صاحبيه المفجوعة بسبب هلوساته وعينيه التي تقلب الجثث والأشلاء بفجعة من أن يرى زوجته واحدة منهم
ولم يرها، لم تكن من بينهم، ينظر لطفل بحضن أمه تحتضنه بقوة تحت الجدار، لعجوز مازالت عيناه مفتوحة يرمق ابنته التي اخترقت الشظية رأسها بعينان تنضحان دمعاً وقهراً، لجثث هامدة وأخرى مازالت تئن وجعاً، لتتهاوى ساقيه بلا طاقة ويخر ساقطاً على الأرض
لقد انهار العظيم..
انتهت طاقته على المقاومة
أهذه نقطة الصفر حقاً؟ أن يحتل الموت وطنه؟
ولكن لحظة...!

صوت أنين يعرفه تماماً، بل همهمات بدت وكأنها آتيه من زمان بعيد، فتح عينيه ليرى هشام وجلال يتفقدان الجثث ويحاولان المساعدة، نقل نظراته للمكان ليرى تلك الأم ترفع رأسها المغطى بوشاحها بصعوبة تلتفت له تحاول النهوض وصرخة آه صدرت منها تشق قلبه لنصفين ليقف بكل قوة، يتجه لها بعينان تنضحان أملاً ليخر بجانبها يبعد الحجاب عن وجهها.. فيسقط جسده للخلف من هول الصدمة ويغطي وجهه بيدين مرتعشة علها تعود روحه بعد انسحابها

كانت هي..
مازالت هنا..
مازال وطنه بـ ـخـ ـيـ....

-"من أنت...؟"
تنظر له بعينين زائغة ووجه قد خُدشت أطرافه لترتعد أوصاله لنظرتها ليقول بنبرة يخفي خلفها فجائع الوجع:"أنا يوسف، يوسفك"

نظرت له بتشوش تمسك مؤخرة رأسها بوجع وجميع أطرافها تئن لتقول بصوت مرتجف:"أنا وين؟ أنت من؟ وش صار معي؟ ليه أنا هنا؟"

نظر لها بعدم فهم لأسئلتها التي رمتها على سمعه تِباعاً ليقترب منها بخوف أخفاه بصعوبة:"سكون إهدي، أنا يوسف وأنتِ بخـ.."

صرخت تبعده فتأوهت متوجعة من جرح بخاصرتها:"ابعد عني، انت من؟ ساعدوني
يا الله ساعدني"
قالت آخر كلماتها برعب حقيقي وهي تحاول الوقوف والابتعاد عنه، ليقف بساقين مرتجفتين
ينظر لها وهي تعافر لتقف.. اقترب هشام بسبب صرخاتها ليقول:"هي حيّة، الحمدلله الحمدلله"
ربّت على كتفه بمسانده لينظر له يوسف بتشوش مزيحاً شاله عن وجهه:"يا الله"
لمح الرعب ولأول مرة يتسلل على تقاسيم وجه يوسف بهذه الكثافة وغضه للنظر عن سكون لم يدعه يفهم مايحصل:"وش صاير معك؟"

نظر لها وهي تقف واخيراً وتمشي بتخبط تضم ذراعيها لها ليهز رأسه يحاول نفي الحقيقة:"لالالا ، لا يارب"
هزّ الرعب أطراف قلب هشام ليقترب منه مذعوراً:"يارجل وش صاير معك، صابها ضر؟"

نظر له نظرة رجل هُدت دنياه فوق رأسه ليهمس بعدم تصديق:"ما عرفتني، ما ميّزتني"
هالته حالة يوسف المهتزة وهو الثابت طيلة حياته ليقول يحتوي انفعاله:"يمكن ردة فعل بعد اللي حصل لا تخاف تهدأ وتفهم..."

هز رأسه بنفي مذهول ينظر لها وهي تبتعد تحاول الهرب من شيء لا يعلمه:"لا، ماهي ردة فعل عادية.. هي.. هي"

سكت غير قادر على الإكمال ليغمض هشام عينيه مدركاً أي عذاب سيُفتح على قلب يوسف بعد هذه اللحظة إن صح ما استنتجه
ولم يعلم أن يوسف يرعبه إستنتاجه
لقد رأى خوفاً -منه- في عيناها، وهي التي لم تخف منه حتى وهو يمسك السلاح بجانبها!
*
*
تائهٌ وموجوع.. وقد كان مُوقناً منذ ثمانٍ ماضيات
بأنها دليله، وجهته، وبوصلته
لكنها بتصرفاتها تنفيه عنها، عن وطنه وداره!

عندما اقترب غير مبالٍ باعتراضاتها يتحسس الدماء التي تطفو على فستانها الأخضر حتى صرخت بعنف وهي تدفعه:"ياحقير، ابتعد عني.. لاتقرب مني"

ابتعد بغضب ولكنه قد استراح بعض الشيء، ذلك الدم لايخُصها ولكن لمن..!
تذكر بأنها كانت تحتضن طفلاً فاتجه له، ودنى منه ليحركه فيغمض عيناه بكل قوة وهو يرفع رأسه للسماء ويشدّ على قبضة يده حتى كاد أن يهشمها، لقد نزف حتى الموت
اخترقت الشظيّة كتفه وصدره وتلك الدماء كلها كانت تخُصه، رفع رأسه ليراها تبعثر نفسها بطريقة مُهلكة
شيء بداخلها أجبرها أن تطوف على كل الجثث
قد تكون نسته ولكن لم تنسى بأنها ضماد
تبكي بوجع حتى عندما رفعت إحداهن رأسها وهي تشدها لها هامسة بآخر صوت لها:"ولدي، أرجوك.. توّه ماشاف الحياة ساعديه"

رمقتها بعجز وهما لا يعلما بأن ذلك الطفل قد مات بين أحضان سكون قبل لحظات، لتتبعه أمه
فتجلس سكون بجانبها، تنخرط بنشيج يقطع نياط القلب ، لقد مات عشرة أشخاص خمسة منهم أطفال والبقية جميعهم جرحى
ما ذنبهم؟ ألأنهم فقط قسطيين؟ ألأنهم أبناء هذا الوطن؟

لم يحتمل.. ذاب قلبه كمداً
يركع على ركبتيه أمامها، يمسك وجهها الباكي بين يديه لتبعده عنها بشراسة رغم بكاءها:"ابتعد عني.. الويل لك، من أنت! من أنت! "

كانت تنطقها بغضب وتيه، ولم يحتمل
نطق بوجع على حالها:"أنا يوسف، أرجوكِ اتركيني آخذ منك ِحملكِ"
هتفت وهي تبعده عنها بغضب:"ابتعد عني
ابتعد"
أغمض عينيه بوجع فضيع وهو يسمع السيارات التي أتت للمساعدة مع ذلك لم يتزعزع من أمامها، همس بصوت أجش:"سكون.."

توقفت عن البكاء لوهلة ونظرت له بصمت ليرتفع ثغره بوجع:"أنا يوسف.. يوسفكِ"
لم تنبس ببنت شفة فاستطرد بأمل وألم:"بائع الورد، من فداكِ بروحه وبيفديكِ بباقي عمره، جوزيف صاحب الوردة البيضاء وماكانت فُل
لأن الفُل رمز القسط وإنما أنتِ وطن لوحدكِ!
أنا الأبكم.. حارس أبوكِ الشخصي الوزير عمران
من كُتبت شهادة وفاته قبل سنة من الآن
من كان زوجكِ، من ظنيتِ موته ولكنه حي يرزق، يحارب لأجل الوطن، أنا يوسف
يوسفك أنتِ.. يخصكِ وحدك يا كل روحه"

كان ينطقها بتمهل، لم ينتبه لنظرات هشام وجلال التي تنضح دهشة وشعور غريب وهما يريانه راكعاً لأول مرة، لم ينتبه بأنه وسط مجزرة
ولكن وجودها منهارة أمامه وتُنكره أحرق فؤاده!
نظرت له بضياع تمسك رأسها بين يديها
تضغط عليه بكل قوة، تغمض عيناها
وتهزّه بعنف باكِ:"يا الله تعبت، تعبت كل اللي أتذكره جثث ومجازر وأطفال ماتوا بلا وجه حق
كل اللي أتذكره الموت.. أنا أنا..."

تهاوت مقاومتها وكادت أن تسقط لولا أنه تلقفها بين ذراعيه ليأخذها بصلابة ويرتفع بجسدها عن وجع هذه الأرض، لم يتحدث مع أحد فقط سار بها وهي منهارة بين ذراعيه متوجهاً بها للمركز الطبي بغرب أرماء بعدما قصفوا مخيمهم بالشرق

تحت نظرات جلال المبتسم بـتهكم:"من يصدق بأن الطـوفان ممكن يغرق؟"
نظر له هِشام ثم أعاد نظره ليوسف الذي لم يهتم لأحد وهو يأخذها معه ليقول:"الـطوفان ما يغرق، يُغرِق يا جلال"
*
بعد ساعات قضاها حولها إنما لم تنقطع اتصالاته مع رجاله وجهاد المصعوق بأمر الإنفجار الذي لم تُنبهه عواصف به مع تغطية إعلامية من قبل الديجور وسكوت دولي لعين! علموا بأن أحد الرجال مُخبر للمحتل والمرتزقة
ولكن لم يستطيعوا معرفته لذلك في العمليات القادمة سيقصوا كل الرجال الغرباء ويبقوا من هم أهل للثقة فحسب!

رآها تفتح عينيها بصعوبة، لم يعرف حقيقة انهيارها المفجع لقد عاشت مثل هذه المواقف عشرات المرات
أستتأثر بعد كل هذا؟ جاهل بأن لها أرقّ الأفئدة
وإن اعتاد هو رؤية الجثث فهي برغم كل شيء لم تتعود، إنها أرواح بريئة.. كيف يطلبون منها الصمود!
اقترب ليجلس بجانبها كحال اليومين السَّابقة
ليقول بهدوء:"سكون"
انتفضت عندما داهم صوته قلبها لتغمض عيناها بكل قوة وهي تطلب من الله القوة
نظرت له بخواء، بملامح باهتة فانقبض قلبه
مرر كفه على وجهها هامساً بوجع:"ذبل وطني"

لم تتكلم فأخذ نفس عميق، يربت على رأسها:"عهداً مني لكِ.. لأدفع عمري في سبيل وطن آمن لأجل القسط ثم لأجلكِ أنتِ لأجل ما ينوجع لكِ قلب"

لم يتلاشَ الخواء بعينيها فتنهد مدركاً أنه كما توقع، كلما كان بحياتها.. مسّها الوجع! أيلوموه لبُعده! وقف ماسحاً وجهه والرسائل تزداد بجهازه لانطلاق الطاقم الطبي لصبابة مع بقية السيارات والأسلحة العسكرية، ليدنو منها مقبلاً رأسها رغم دفعها الواهن له
ليبتسم بتعب:"آه، لو كان هذا شعوركِ وانتِ ماعشتِ ربع اللي عشته، فكيف لو عشتِ حياتي يا سكون؟"

لم ينتظر إجابتها إنما غيّر نبرته لحزم وحنو:"أعرف بأنك موجوعة وبأنك نسيتِ يوسف.. ولكن يوسف يرجوكِ تبقين هنا للحظة رجوعه، الوطن ينادي يا سكون وأنا وجب علي ألبي.. بترككِ هنا والمكان آمن ما بيمسّك به سوء بأمر الله لذلك انتظريني.."

يبدو بأنها لم تكن تستمع له من الأساس ليتنهد يحاول إزاحة جبل من على روحه ويعود خطوة للخلف ليخرج مغلقاً الغرفة من خلفه وتلك الملامح الحنونة تحولت لأخرى، غاضبة عنيّفة.. ومرعبة حتى لتلك المرأة والرجل اللذان وقفا بتوتر أمامه، ليقول آمراً:"لا تغزّها شوكة"
هزت رأسها بطاعة والآخر قال بهدوء مرتبك:"أمرك يا طوفان"

خرج بجسده إنما قلبه عندها، وتتنهد المرأة قائلة وهما يراقبان خروجه دون التفات:"هذا رجل حرب.. أشفق عليها تلك المرأة من قسوته"
ابتسم سميح متذكراً عندما هرع لإنقاذ من بقي سليماً، رآه بجبروته وهيمنته يحملها بين ذراعيه وكأنه يحمل وطنه كامل ليقول بخفوت:"هذا رجل حرب.. وحب.. الراء لعبته يعرف متى يحذفها ومتى يزرعها!"

لتتنهد ملتفتة للخلف تتجه للغرفة وعندما فتحت بابها عقدت حاجبيها بعدم فهم:"ولكن سميح، وين المرأة!"

قطّب بعدم استيعاب واقترب:"طوفان خرج من هذي الغرفة.."
شحبت بصدمة:"هربت؟ ولكن كيف؟ احنا أمام الباب ولاتكاد مرت دقيقة!!"
اضطربت أنفاسه خاصةً مع تهديد طوفان، وهو بنفسه يعلم أي قسوة يتحلى بها طوفان إن أراد! فأخذ يصرخ عليها لتبحث عنها.. والمخيف بأنهم يبحثون عن مرأة لا يعرفون حتى ما ترتدي!
غافلة بأنها عرضت روحين للموت.. إن عاد ولم يرها سيذوقان ويلاته!
*
*

كانوا قد تجهزوا للخروج إلى المهمتين
واحدة منهما كانت نقل الدبابات العسكرية التي استولوا عليها من المحتل والمرتزقة وبقية الأسلحة إلى منطقة صبابة إضافة لمن بقي آمن من الطاقم الطبي، وأخرى كانت مهمة سرية أوكلها يوسف إلى جلال وهشام..
ولأول مرة، منذ قرابة عام يتجه هشام لمكان مقصود قبل ذهابه لمهمته! لقد كاد أن يتقاتل مع جلال حرفياً ليدله على منزل عائلة زينة والأخير أخذ الأمر لعبة فحرق أعصابه
ولولا حالة يوسف السوداوية بشكل مخيف وكل المعطيات كانت تنبئ بقتل وشيك، لما قلق جلال على روحه وقرر إخباره
وها هما يتجهان لغرب أرماء لأحد البيوت التي مازالت حجارتها سليمة، ليقف قائلاً بنزق:"تعرف بأنك ضيف غير مرغوب به وتفرض نفسك ياخي تحلّى بالكرامة"

نظر له هشام نظرة خطيرة، ليبتسم جلال باستفزاز:"صدقني لولا قول الآنسة ليالي بأنك فعلاً والد الطفلة ماكنت..."

شهق يكتم ضحكاته بصعوبة عندما انقضّ هشام على عنقه ولأول مرة يتخلى عن وقاره يخنقه بغيظ:"ودّك تموت الحين قبل المهمة؟"

هز رأسه بضحكة يكتمها، ليصرخ برعب مبالغ فيه :"ياناس ساعدوني، ساعدوني بيقتلني"
جحظت عينا هشام وهتف بصدمة وهو يدفعه عنه:"اسكت يا كلب، اسكت لا تفضحنا..."
لكن الآوان قد فات وكل العائلة خرجت بمن فيها
هي، بيديها طفلتهما
وحسناً.. لقد مر أسبوعان كاملين منذ لقاءهما الأول ولم يتبادلا كلمة واحدة، حتى النظرات
لقد كانت واحدة فقط.. وكلها كُره وخيبة!

خرجت ليالي التي ترتب حجابها ببعض الرعب ولكن عندما رأته يقف بطريقة مائلة بسبب كتمه لضحكاته والآخر يقف كالوتد المشدود من شدة الغضب والإحراج، نظرت بعدم تصديق محاولة تجاهل آخر لقاء لها مع جلال:"أنتم مجانين!!"

غضا البصر عنها ليقول هشام بحرج :"نعتذر، هذا المجنـ.."
تنحنح جلال بمبالغة يزجره بنظراته ليكتم هشام غيظه بصعوبة قائلاً بإيجاز:"ودي بشوفة أفنان.."
سكنت ليالي بمكانها للحظات قبل أن تفشي بضيقها:"انت تعرف، حالة أمها و..."

يختصر باقتضاب:"هي بنتي.. يكفي مامضى"
وكأنه يضغط على ضميرها، فهو مذ عرف وهو لايكف على سلخ ضميرهم وإنسانيتهم
تلجلجت بمكانها للحظات تود لو تخبره أنها لو رأته أو علمت مكانه لأخبرته بلا تردد،ولكن أين كان هو ! ليقول جلال بهدوء مبهم:"هشام بيسافر اليوم، يحتاج يشوفها قبل يروح"

نبرة صوته كانت غريبة، وكأنما يود أن يوادعها
لا تعلم هي.. كل ثوري، كل مجاهد في سبيل الله ثم الوطن يوادع قبل أن يذهب..لأنه قد لا يعود

شتتت نظراتها بضيق لتعود خطوة للوراء تأخذ نفس عميق ثم تعود للمنزل الصغير، نظرت لأمها التي كانت قد وقفت بجانب الباب تستمع لحديثهم، لتومئ زينة برأسها فيستريح جزء منها وهي تلج للداخل تأخذ أفنان من المهد الصغير مستغلة إنشغال منتهى عنها بعدما عادت للمنزل لتُخرجها لوالدها

وقفت بالقرب منه بتوتر لتقول:"لحظات فقط قبل تنتبه لغيابها هي ماتعرف..."
سحبها ببعض الغيظ:"هي بنتي مثل ماهي بنتها
يكفي بأني مافتحت صفحات العقاب معها يكفي بأني لحد هذي اللحظة ساكت عن نذالتكم
يكفي بأن سنة كاملة سرقتوها من عمر بنتي"

كادت أن ترد لكن استيقاظ أفنان أسكتها وهي تراها تتعلق بعنق هشام بكل أُلفة، أرهقها قلبها
كيف أنّ صغيرة لاتبلغ سوى بضع أشهر أن تفقه الحب
وتتعرف على والدها بأول لحظة؟

عادت خطوات موجوعة للخلف تدخل المنزل، بينما جلال يراقب ببسمة هادئة هشام مع إبنته جلس أمام المنزل وهي بحضنه تتلاعب بذقنه وهو مستمتع ليقول لجلال بضحكة:"تتذكر يوم تقول أخاف تجي بنتك تشبهك؟"

نظر له جلال بنزق وقال:"والحمدلله ربي استجاب دعواتي وما طلعت تشبهك، وعيونها خير دليل"

نظر له هشام مصعوق وهو غير مستوعب كيف فهم الموضوع ليقف:"اسحب كلماتك.."

ضحك جلال وهو ينظر لعيني أفنان بمشاكسة:"أفنان يا قلب عمك علميني، عيونك زرقاء على من؟ على عيُون أبوك؟ بلاها مركبة برأسه وهي بنية يمكن غبار المهمات لوثها"

-"ياكلب.."
قالها هشام بغضب فتعالت ضحكات جلال وهو يوسع خطواته فاراً من هشام الذي تبع خطواته وبأحضانه أفنان المستمتعة بركض والدها وضحكات صاخبة ترن بأذانها مصدرها جلال الذي يفر هلعاً من جدية هشام ليصرخ:"يارجل استهدي بالله، هذا واقع يا تشبهك يا تشبه أمها..."

-"اسكت يا كلب، ناوي على موتك.."

ضحك أكثر ولكن التفت عندما توقف هشام بخوف بسبب صمت أفنان فجأة وعيناها الزائغة
ليضربها على ظهرها بخوف:"جلال، جلال الحقني.."

ركض لهم بذعر ليراها شاحبة وعندها فجأة تمسكت بقميص والدها وتقيأت عليه جميع ما أكلته لتشهق ببكاء وهي ترفع رأسها، تحت نظرات والدها المصعوقة وجلال الذي سحبها منه وهو يربت على ظهرها بحنو قائلاً:"لا بأس، هي بس تأثرت من الركض بتكون بخير لا تخاف"

نظر له بتشوش ليشفق عليه جلال فيربت على كتفه هو الآخر:"ادخل اطلب منهم ماء، غسّل به قميصك وهات نسقيها لأجل تهدأ قبل نرجعها لهم ويخافون"
مسح على وجهه ليعود يقبل رأس إبنته التي هدأت شهقاتها وهي تغمض عينيها بإرهاق، تقدم بخطوات مرتجفة فالموقف البسيط هزّ كل أعماقه، وقف أمام الباب ينوي طرقه لكن صوت الصرخات الحادة نحرت وريده وهي تصله بوضوح:"يكفي يكفي، ليه أحس بتأنيب الضمير اللي تتهموني فيه بكل مرة؟ هو ما يستحقها
ما يستحق يشوفها ولا يضحك معها.. يا الله هو ما يستحق تبتسم له أو تتعلق فيه..خاين لها
لأبوتها، أي تأنيب ضمير تنتظرينه مني؟؟ هاه يا ليالي"

سكتت الأخرى بضيق لتقول:"ماكان يدري..."

قاطعتها بشراسة برغم رجفة صوتها تنبأ عن وشوكها على البكاء:"لو جاء كان عرف، ليالي لا تدافعين وكأنكِ تجهلين.. هو كان وين لما رمى علي يمين الطلاق وبعدها بلحظات بس انقلبت الدنيا على رؤوسنا..رأف بحالي لما استهدفوا منطقتنا بالقنابل لما كنت أستمد العون من نطفة ببطني؟ وين كان لما خرجنا بنص الليل من بيتنا ولخمس ليالي مشينا بلا هدى بخوف ورعب، بخطوة نبكي وخطوة نلملم دمعاتنا؟ نتدفى بأوراق الشجر والكراتين من وجع البرد؟ نتخبى وسط الجرف لأجل ما يلمحنا محتل؟
نبحث بوسط الشوارع عن بيت يأوينا؟
وين كان لما ولدت بأحقر الأماكن، بحظيرة أغنام مهجورة وبين الروث ولدت ببنته اللي جاء بعد كل هالوقت يطالب بها على روث الحيوانات، كانت روحي بتفارق جسدي لأجلها وهو كان وييين؟ كان يتهمني بذنب ماهو ذنبي، كان يعاقبني بجريمة ماكانت بيديني..والآن بعد كل هذا جاي يطالب فيها؟ يطالب بحبها وضحكاتها؟
أي عدالة هذي؟ والمفترض تأنيب الضمير يزور من؟ هو لو جاء، لو تعب خطواته و زار، لو أرهق لسانه وسأل لكان عرف.. لكان موجود
مو لأجلي لأني لو صيّر الجبال الراسيات لأجلي ماعفيت.. إنما لأجلها هي.. لأفنان"

كانت ليالي تُمسك دمعها بصعوبة لحالة منتهى الهستيرية وبكاءها الحاد بينما زينة تراقب بدمعات حارقة تنزل على وجنتيها.. لترفع منتهى يديها بإرهاق باكِ:"هاتي بنتي يا ليالي، تعبت من العتب، تعبت أفهمكم وجعي، تعبت أنكأه بكل مرة لأجل تستوعبون، وإن أي عوض ما بيترك هالآثار تزول"

هزت رأسها بإيجاب وهي تقترب فتُقبل رأسها:"ارتاحي، راح أجيبها لكِ.. هو بيسافر وكأنه يودّع لأجل كذا رضيت"

-وكأنه يوّدع- تماماً نفس حالته بكل مرة معها
بكل مرة قبل أن يغيب كان يودعها وكأنه لن يعود
ارتعد قلبها ولكنها لم تُظهر فقط اكتفت بإيماءة شاردة، لتخرج ليالي تجر أقدامها جراً، ولكنها تجمّدت أقدامها أمام باب المنزل.. تُمسك قبضته بقوة مبالغة بعينين متسعة وصدر يعلو ويهبط بشكلٍ مفاجئ.. تراهُ يقف مولياً ظهره العاري لها، قد نزع قميصه ويمسكه بيده بشرود وبرغم البرد العنيف لم يكن يرتجف
لا لم يكن هذا ماترك الدمع يترقرق فجأة بعينيها
إنما ذكرى لها مع منتهى وهما تتشاكسان حول
وحمة بكتف أفنان الأيسر، ليالي تضحك قائلة:"من حبها لي ورثتها مني"
لتقول منتهى باستنكار:"تُورث الصفات عن طريق الحب آمناً، أما وحمات لا! هذه وحمة أبوها"
لم تُعلق ليالي ولم تُصدق فتلك وحمة نادرة ولم تعلم لما لم يأخذ الموضوع حيزاً ببالها، لقد كان كل شيء واضح.. لقد أخبرتهم والدتهما بصغرهما عندما كانت تقف تنظر ببكاء بالمرآه بشكل معكوس لوحمتها التي شملت كتفها اليسار كله
بأن هذه الوحمة وراثة من أبيهما عن جدهما
هي لم تحبها أبدًا أما أخوها.. كان يقول بفخر بأنها تذكار غالي سيتقبله بعِزة، يطبطب عليها، يقترب ليطرق كتفه بكتفها ضاحكاً:"احنا مميزين، شوفي حتى لو اقتربنا من بعض بيتشكل من الوحمة شكل قلب.. تصدقين؟"
وفعلاً وقفا ليتشكل قلب مشوش إنما متضح بعينيهما

والآن القلب واضح.. ولكن الرؤية مشوشة بفعل الدمع، القلب ينتفض ذعراً وهي تتمسك باللاشيء لتصُمد
وحمَة حمراء كبيرة تشمل كتفه الأيسر بشكلٍ واضح.. تماماً كما تذكرها
التفت ليراها واقفة بدموع فائضة ووجه شاحب
ظنها آثار حوارها مع منتهى ليرفع قميصه يغطي جسده قائلاً بهدوء:"أحتاج ماء أغسل قميصي
وكوب ماء لأجل أفنان"

لم تفقه ماقال ولم ترد فكرر بحزم لتستوعب فتهز رأسها بضياع وهي تحضر له ماطلب
ولجت للمطبخ الفارغ إلا من دافور غاز وبعض الكراتين وقارورة من الماء، لتقف للحظة قبل أن تكتم شهقاتها بكفيها وتنخرط ببكاء مفجوع:"يارب هذي غزّة شوكة اللي تتحرك بقلبي
أو هي أعظم، يا الله.. يا الله هون هالوجع
يارب إن كان هالشعور حقيقة، إن كان ظني صحيح فالطف بحالنا.. يارب ما قوت السنين بغيابه تهدّنا
ماودي تهدّني لحظة بعد خيبة أمل.. نفس الوحمة، نفس المكان، نفس الوراثة، وبحة الصوت تلك ومع هالشعور.. يالله"

لولا تلك الغصة التي غاصت بقلبها لما أعارت الموضوع كل هذا الإلتفات لتُقرر بقوة التأكد
فتمسح دمع عينها ثم تخرج بكأس ماء فقط
ليستغرب فتمد يدها قائلة بصوت مبحوح:"أعطني شالك وقميصك وأنا أغسلهم بلحظات"

تنحنح بحرج بالغ ليقول:"لابأس، أفنان تقيأت عليهم وأنا مضطر أسافر بهاللبس فـ"
أصرّت بشكل غريب:"لو سمحت، مابيننا حرج أعطني القميص وأفنان"
ليرحم حالها واخيراً فيسحب القميص وشاله الذي لُطخ بعضه ويمده لها وهو يُشير لجلال فتقدم يُحضر أفنان التي نامت، كان دائماً يغض النظر عنها.. ففي قاموسهم لا عين تعلو لنساء ليسوا لهم! وإنما لا يعلم لمَ بهذه اللحظة تحديداً تجرأت عيناه لتسرق نظرة لها فيلتهب فؤاده على نحو مخيف..لماذا تبكي؟؟؟

كاد أن يسأل لولا أنها اقتربت لتأخذ أفنان منه ببساطة وتبتعد مغلقة الباب خلفها، ليلتفت إلى هشام عاقداً حاجبيه باستياء:"وش اللي حصل؟"

غادرت تنهيدة مُرة من بين حنايا قلبه ليهمس:"كل وجع حصل.. كل وجع يا جلال"

وكل الوجع كان بقلبها وهي تضع أفنان بحضن والدتها الباكية، ثم تهرع لتمسك بالشال تبّحث عن مرادها عن شعرة علّها تُركد موج بحرها الثائر بلهفة.. لا تعرف كيف ستتصرف من سيساعدها لتتأكد من ظنٍ اشتعل في لحظة؟ فكرت وهي تلتقط الشعرة من الشال.. لتستقر كل أفكارها على شخص واحد.. جلال!.
*
*

تنظر للقدور الضخمة التي تحوي طعام كل خائن قابع بهذا الوكر، لقد استنفذ وصولها لهذا المكان عمرها من الأمن بأكمله، تقطع البصل لقطع صغيرة تحت نظر بقية من يتكفلون بالطبخ
ولا تعلم حقاً كيف اقتنع الأمير بكلامها
فقد قالت له ببساطة أنها تود الطبخ مع البقية
فأومأ بلا رد، المسكين يبدو بأنه ممتن لها لأنها تسكت عن ضعفه بعد موت حبيبته!
هاهي اللحظة الحاسمة، أمسكت المنديل الذي معها لتقترب بخفة الطير تسكب كل محتوياته بالقدر وتُمسك عصا التحريك لتتجمد مصعوقة بسبب صرخة عنيفة من إحداهن:"ليه واقفة هنا؟، وش حطيتِ بالقدر؟؟"

رسمت ابتسامة بلاستيكية على ثغرها لتلتفت رافعة صحن به ملح قائلة بخنوع:"كان ناقص ملح فزدته!"
سحبتها بغلاظة لتدفعها للخلف تصيح بها:"لا تقتربين من القدور مرة ثانية تفهمين!"
هزت رأسها بإيجاب وهي تبتعد خانعة، لتبتسم بعد لحظات وهي تفلت تنهيدتها..لم يتبقَ سوى القليل!

سمعت بعد لحظات أن أغلب المرتزقة ذهبوا في مهمة خطيرة، إذاً لم يتبقَ سوى القليل منهم..
بدأت الثقة تتسلل أكثر فأكثر لروحها لتعود لمخدع الفتيات تهمس بحذر أن -لا أكل لكن الليلة- ليوافقن دون نقاش! لقد كان حضورها لهذا المكان له مكانة خاصة، قوية بشكل جعلهن يثقن بكل تصرفاتها!

لكن ما يؤرق مضجعها هو تواجد الممرضة غير الضروري والذي بات خانق حولهن!
‎وكأنها تفهم كل تصرف يظهر من مرجان! والمخيف بأن ملامحها دائماً هادئة! إلا من بسمة مخيفة تظهر بغته

‎لم تلتقِ بعمّار منذ ذلك اليوم وهذا وحده كفيل بزرع الخوف في قلبها، ولكن مايجعلها صامدة هو رغبتها بتحريره! بإنقاذ من بقى من الفتيات علّهن يسترحن بعد كل هذا التعب

‎خرجت بعد لحظات تمسك غطاء وجهها الأبيض وهي تضغط على حلقة من المفاتيح كانت قد سرقتها البارحة بعد نوم الأمير
‎ولا تعلم أين أبوابها، رأت النساء يأخذن الصواني المحملة بالأكل يقدمنها للرجال، رأت الرجال يأكلون بكل لذّة
‎وشدّ انتباهها الأمير الذي يتضاحك بكل بساطة مع رجاله!
‎تباً له، أي قلب يحمل! يقتل ويُرهب ويزعزع أمن وطن، يئن ليلاً من فراق غانية قتلها بيديه
‎والآن يضحك وكأن لا هم له!

‎غمغمت بشراسة:"قسماً لأحرقكم انتظروا"

اشتدت رباطة جأشها وهي تتجه إلى غرفة من سموهن -سبايا- ولكن صوت الأمير الذي رج الجدران جعلها تستدير بتوجس:"تعالي يا إمرأة"

وقفت بمكانها فوقف يبتسم بسماجة جعلتها تتسائل كيف رضوا برجل لزق كهذا أن يكون أميراً عليهم؟ لينظر لبقية رجاله:"استعدوا للمهمة اللي أوكَلتها لكم، الليلة.."
مهمة؟ أيضاً؟ ماذا! ما الذي يحصل!!
ارتبك قلبها خاصةً وهي ترى نظراته الحقيرة لها وبرغم العباءة التي تغطي جسدها إلا أن نظراته عرّتها!
اقترب مِنها ليبتسم ابتسامة مبهمة قائلاً:"أجلنا اللقاء كثير، ويبدو بأنك متحرقة لي لدرجة تقتربين من مجالس الرجال!"
هزت رأسها بذعر لتهمس:"جيت لأجل، لأجل..."
قبض على معصمها بكل قوة ليهمس بعنف:"جيت لأجل * ،تعالي لي يبدو بإني أهملتك"

كانت تنظر له مصعوقة، ما الذي يحصل بحق الله
ولماذا هذا اللعين مازال مستيقظاً؟ لماذا لم ينهار حتى هذه اللحظة؟ كان يجُرها جراً
ولم تستطع مجاراته خاصةً وعقلها يكاد أن يجن
إن الأدوية التي سرقتها من غرفة التمريض لو خُلطت مع بعضها لأصبحت سامة
إذاً.. ما بـالهـ...!!
شُلت أفكارها وجحظت عيناها بصدمة وهي ترى الممرضة تميل بجذعها على باب أحد الغرف
تنظر لها بعينين مصغرة نتيجة بسمتها لتفهم واخيراً
أن ذلك الظل الذي ظنت أنها توهمت رؤيته قد كانت هي
إذاً.. اللعبة طيلة الوقت كانت مكشوفة وبات مصيرها ومصير عمّار واحد.. الموت!
وعندما أغلق الأمير الباب أيقنت أن روحيهما ستموت قبل أجسادهم.
*
*
كانت تستشعر كفيه كالنار توسم كتفها وهو يضغط عليها بعنف قائلاً:"أنتِ اللي قلتِ للممرضة بأني ما لمستكِ رثاءً لصالحة؟"

نظرت له بتيه وكل تفكيرها منصبّ حول عمّار وانتظاره لها وخطتهما التي فشلت فلم تجب
ليرفع كفه ويصفعها بكل قوة فترتد خطوة للخلف بعدما عاد لها وعيها تنظر له بصدمة غاضبة حد النخاع! كيف يجرؤ!

رفع سبابته مهدداً:"الآن راح أعلمك منزلتك"
-"اعرف منزلتك أنت يا حيوان يتبع غرائزه فقط! أي جنون هذا اللي ترتكبه.. مجازر وقتل أرواح بريئة ونحر وريد دولة وبالنهاية اغتصاب مرأة مستضعفة!!"

هلعت من منظر عيناه فقد كادت أن تخرج من محجريهما وهو ينظر لها مصعوق لما تفوهت به
ليهمس بفحيح:"أيتها اللعينة، هذي الدولة قامت على الباطل ونحن أحق برئاستها
وإعلاء شأنها بديننا السمح، وأن من قُتل لم يكونوا سوى خائنين لديننا ولمعتقداتنا
وإن رجال القسط الملعونين المدافعين عما يحصل من اضطهاد للدين وللبلد لن يكون مصيرهم سوى الحرق تماماً مثل ما بيحصل لكِ بعدما أنتهي منكِ"
عضت على شفتيها بكل قوة تستحضر صبراً ولكنها لم تستطع خاصةً وهو ينوي الهجوم عليها
فلم تتحمل وهي تضربه بكل قوة على وجهه
ولم تترك له فرصة للإستيعاب وهي تمسك بعصاته التي كان يتفاخر بها لتضربه على رأسه
عادت خطوة للوراء تتنفس بصعوبة، لن تقتله
ليس الآن على الأقل، فلو مات لقتلوها بعده
إذاً! وعمّار من له!

يمسك رأسه بغضب أشرس وكلمات الممرضة يتردد صداها بعقله، سيعاقبهما كلاهما ولكن أولاً لينقض على هذه ويقتلها بيديه، وفعلاً اقترب بكل غضبه ليمسك عنقها الملتف بالحجاب ويعتصره بين كفيه خانقاً لها:"تركتكِ كل هالفترة لأجل ذكراها صحيح، ولكني كنت أكثر من قادر على تفتيتك لحجارة صغيرة.."

لم يقترب منها بل دار فجأة حول الغرفة يفتش بها بجنون جعلها تنحني تحاول سحب مسدسها من مخبئه لكن صرخته العنيفة شلت حركتها:"الأوراق، تخطيطات أرماء، المفاتيح.. يالعيييينة"

كزّت على أسنانها بكل قوة، مابال هذا الرجل كأنه كان في سُبات واستيقظت كل حواسه فجأة وفي الوقت الخطأ!
هجم عليها يهم بضربها لولا أنها باغتته بضربة وسط معدته ثم أخرى بين ساقيه ليرتد للخلف مصعوق:"يا لعينة، أنتِ من، أنتِ من؟"

خوفها على عمّار جعل قوتها تضمحل فلم تقابله سوى ببعضها، فأخذت تمسح على وجهها عائدة للخلف:"أنا اللي بحرق هالمكان.. وبعزّها ولا بعزاها!"

ليقاوم كل وجعه ويقف كجدار ضخم أمامها بلحيته السوداء المتدلية ووجهه ذو الملامح الفظة والتي زادها الغضب عنف، يقترب منها لتكتم صرخة مصعوقة عندما مر الخنجر من على كتفها فجرحه بلا رحمة، ليهجم عليها فجأة يكبل حركة يديها بيديه الإثنتين وعندما حاولت ركله ألصقها بالجدار بكل قوة هامساً بفحيح:"ظنّكم لأني تغافلت وغضيت الطرف بأني شخص عادي؟ أنا أخذت نصف رجال أرماء لهذا الدين
أنا وعّيتهم كلهم لأجل يقاتلون الخونة من الجيش الشعبي.. ظنك بغفل عن غانية مثلك؟
تركتك بهواي، وبنزع روحك بهواي هاللحظة"

تلوت بعنف بين ذراعيه، تشعر بالنار تحرق كل مكان يلمسه، لامجال لكبح الدمع أكثر فأخذ ينهمر بعنف على صفحة وجهها تحاول الإنحناء لسحب مسدسها وهذه المرة ستُطلق النار ولو ستموت بعدها فلا يهمها
ولكن ضغطه على جسدها لم يساعدها
ضربته برأسها على فكه فشتم بعنف وهو يصفعها بكل قوة على وجهها فسكنت لوهلة تلتقط أنفاسها، أخذت تبكي بعدها وهي تحاول دفعه ولكنها لم تستطع وعندما كادت أن تنهار وتغيب عن وعيها تذكرته.. هي من عاهدته على حماية وطنه أتتركه للغربة!

عادت تحاربه بكل عنف، حتى استطاعت تحرير يدها فأخذت تخدش وجهه بأظافرها بكل قوة فارتد للخلف بغضب أشرس انحنت بعدها بسرعة عنيفة لتسحب مسدسها ولكنها لم تملك الفرصة لإطلاق النار منه.. فصوت العيار الناري الذي فجّر طبلة إذنه جعلها تعود للخلف مصعوقة من مضاعفات مايحصل!
تنظر لجسده الضخم الذي أحدث ارتطامه بالأرض صوت عنيف ثم للطيف الذي وقف خلفه ينظر لها بعينين صغيرة نتيجة نفس تلك البسمة!

عادت خطوة للخلف تتنفس بصوت عالي وكل عضلاتها تئن بسبب ضغطه عليها ليأتيها صوتها بحزم:"هيا، مانملك وقت للإنهيارات والصدمات"

هزت رأسها بنفي شديد وعينيها تشع بالرفض:"والله ما أتحرك خطوة واحدة إلا لما أعرف هويتك.. أنتِ خاينة ولكن وش مصلحتك تقتلين أميرك"

نظرت لها الممرضة بنظرة غريبة قبل أن ترفع نقابها الذي يغطي وجهها ببساطة وتبتسم ابتسامة ساخرة:"خاينة صحيح، ولكن لهم ماهو لكِ.. يا زمهرير! أما عن الأمير فأنا وعدت جميلة اللي ماتت على يدينه الشهر الماضي بأن موته على يديني!"

جحظت عيناها بصدمة وهي تتذكرها:"قرطبة!"

رفعت سلاحها بحزم قائلة:"الأدوية اللي اخذتيها كانت تحتاج وقت طويل لأجل يبدأ مفعولها لذلك اعذريني كان لازم ألهي الأمير ومالقيت غيرك والآن استعجلي يا زمهرير الوقت يتلاشى وبأي لحظة بقية المرتزقة بينتبهون خاصةً اللي في الخارج لأنهم ما أكلوا الغداء حتى هذي اللحظة"

هزت رأسها تحاول إخراج نفسها من الذهول ثم خرجت خلفها قائلة بتوتر:"صوت الرصاص أكيد نبههم"
-"لأجل كذا أقولك استعجلي، أنا بساعد البنات وانتِ انزلي للعميل شواظ وبقية الفريق"

ركضت بلا رد باتجاه السجون الأرضية تحمل بيديها سلسلة مفاتيح كثيرة لتبدأ تفتح بلا هدى وحينما فتح تنفست الصعداء لتصعق بوجود عشرات الأبواب، بدأت ترتجف من هول القهر
لتبدأ بفتح الأبواب بلا وجهة وبكل مرة ترى باب غيره لتصرخ بكل قوة وتضرب الأرض من قهرها
وصوتها يصيح بالمكان:"عمّار، عمّار"

ولكن أصوات الرجال التي ثارت بالمكان غطت على صوت عمّار لتحبس دمعها بصعوبة والوقت يضيع من بين يديها، تفتح الأبواب ليخرجوا الأسرى يدفعونها ويركضون بلا وجهة من شدة الفرح غير معيرين للوضع اهتمام أما هي مازالت تبحث عن الباب الذي يؤدي إليه لتفتح آخر باب في الممر وتحاول المقاومة كي لاتنفجر في بكاء عنيف وهي ترى المكان خالياً منه
تلتفت تنظر بتيه وروحها تبدأ بالانسحاب لتنتبه لصوت خلفها لاهث ومستعجل:"زمهرير"
نظرت لقرطبة التي كزَت على أسنانها بغيظ:"هو مسجون بالإنفرادية دخلتِ للمكان الخطأ، الباب الثاني وماهو بهذا، استعجلي مابقدر أسيطر على كل هالناس لأجل ما تخرج وتلفت الانتباه وانتم باقي ماوصلتوا"

هزت رأسها بعجلة تركض له وقلبها يلهج بالدعاء وعيناها تسكب الدمع مدراراً، لتفتح الباب المؤدي للسجون الإنفرادية فتذوب كل مخاوفها وهي تسمع نداءاته:"مرجان، مرجان أنا هنا"

منذ صرخت وهو يناديها ولم يمل ويهدأ، بل كل لحظة يضرب الباب بسخط ويعلو بالنداء، تتجه للباب ترفع المفاتيح تحاول فتح الباب ولكن يدها ترتجف فسقطت، تنحني تلتقطها ثم تعاود إدخالها من جديد ولكن يديها المرتجفة تشل حركتها، تبكي واخيراً بصوت مسموع وهي تعاود المحاولة وسط نظرات عمّار ومراقبته لما تفعله، ليفاجئها بصوته الغاضب:"إما تكوني قدّها وتتركين الرجفة لعامة الشعب مو لشخص مثلك، أو روحي معهم واتركيني هنا"

رفعت رأسها تنظر له باستجداء:"خايفة عليك، خايفة نفشل و..."
قاطعها بحزم:"الله معنا، لو متنا في سبيل الحرية فهذا المنى ولكن مانموت لأجل أبواب ما انفتحت تفهمين مرجان؟؟"
هزت رأسها برجفة، تعاود تجريب المفاتيح حتى حنّ الحديد و لان لها وفُتح الباب، يخرج بسرعة يمسك يدها ويهرول بلا إنتظار وسط كتمها لبكاءها بصعوبة وهي ترى حالته المُوجِعة، تركض خلفه والمسدس مازال بيدها
ولكن قبل خروجهما يتفاجآن بوجه بشع قبيح، يبتسم لهما بغضب:"إذاً أنتم السبب"

ينظر له بصدمة وهو يميّز هويته، هو نفسه ذلك الرجل الذي اختطفه ليحاول الإنقضاض عليه ولكنه سبَقه مغلقاً الباب الحديدي عليهما ثم مشيراً بابتسامة قاسية على إحدى النوافذ:"ذوقوا ما جنته يدينكم، وصدقوني راجع لكم.. راجع لأجل أستل قلوبكم بيديني ووالله لأتلذذ بخروجه"

نظر لعمّار الذي تورمت أوداجه من الغضب وضرب الباب بعنف يحاول فتحه ولكنه أبى
لتفلت يده وتركض عائدة للخلف تمسك بسلسلة المفاتيح وترفعها له بأمل:"عمّار!!"
يسحبها من يدها ولم ينتبه بغمرة غضبه أنه جرح كفها بقوة ولكنها لم تصدر صوت قبل أن يُدخل المفتاح بالقفل تجمدت حركته، ينظر لمرجان بصدمة وهما يسمعان صوت إطلاق الرصاص العنيف ليتجها بلا وعي بأقدام رخوية حتى وقفا بجانب النافذة، لتضع يداها على أُذنيها مصعوقة، تصرخ ببكاء عنيف:"لالالا، يا الله قتلوهم، لالااا"

كان ينظر بلا تصديق، الفتيات اللواتي خرجن من الوكر يكبحن الرغبة بالضحك من شدة الفرح بالحرية والحياة وخصوصاً بعدما تأكدن بأن الرجال قد فارقوا الحياة بالداخل مع الحارسات وجميع من أكل من ذلك القدر، ليتدافعن عبر البوابة الرئيسية.. وهنا قامت المجزرة
لقد رشوهم بالرصاص رشاً! خمسة عشر رجلاً وقفوا خلف صخور أمام البوابة يقتلون كل من سولت له نفسه بالهرب بلا رحمة
ينظران لجثث الفتيات التي تسقط على بعضها البعض، ثم جثث الرجال التي تساقطت بجانبها وعندما حاولوا الهرب التفتوا حولهم وأمطروهم رصاصاً!

شد على قبضة يده بعنف يشتم هامساً ليعاود فتح الباب ثم يمسك بالمسدس الذي كان بيدها قبل أن يسحبها ويدفعها للساحة الخارجية:"ابقي هنا، ياويلك تخرجين يا مرجان"

هزت رأسها بنفي شديد، تقاوم الإنهيار:"لالا مابتركك لوحدك، مابقى لي غيرك"
نظر لها بخوف مُزج بغضب وهو يضغط على كتفها:"ابقي هنا، يمكن إنك ماتعرفين هالمعلومة
ولكن ما بعمري قدرت أحارب وأنتِ معي.. بكل مهمة كنتِ معي، كنت ضعيف فيها.. لذلك خليكِ هنا، ما بتطمن وأنتِ معي، بكون خايف عليكِ"

هزت رأسها بنفي شديد لتتوسله ببكاء أن تبقى معه مُذكرة إياه بأنها زمهرير.. إحدى عميلات الإستخبارات ومن قادت معارك عنيفة
ولكنه لم يكن يراها سوى.. مرجان وطنه!

دفعها برفق بعدما أهداها نظرة حازمة
لينطلق مغلقاً عليها الباب الخارجي بحيث لا أحد يراها إلا من سيلتف من البوابة الخارجية وإن استطاع الحصول على كل انتباههم ستستطيع المغادرة دون رؤيتها

تفاجأ بالممرضة تحمل سلاحاً وتُطلق على الخونة تحاول الصمود رغم دمعها الذي أحرق مآقيها وصراخها الحاد:"اللعنة عليكم، يا قتلة"

بدأ بالإطلاق معها لتنظر له ببكاء قائلة:"قتلوا الكل، قتلوا كل البنات.. يا الله
وعدتهم بالحرية، ولكنهم ماتوا.. ماتوا كلهم"

كان يدنُو برأسه يحدد الموقع بعيناه ثم يعود، ليخرجه مرة أخرى فيطلق رصاصة واحدة أصابت رأس أحد المرتزقة، يعود ليقول:"القائد أرسلك"

تتوقف عن رش الرصاص بلا وجهة فتنتهج نهجه لتفجر صدر إحدى الرجال برصاصتها قائلة:"قبل ثلاثة أشهر، القائد وطوفان أرسلوني بعدما علمنا من مخبر باحتياج أحد الأوكار لدكتورة رافضين رفض شديد يكون رجل لسبب نجهله، ولكن أخذ مني معرفة وجودك شهرين كاملة لأني ماقدرت أوصل للسجن، ولكن بعد حضور زمهرير وبداية ثورتك عرفت.. إرسال الإشارة تطلب مني شهر كامل وما وصلتهم إلا قبل يومين.."

ليهمس بغضب عارم وهو يعود ليُفجر رأس خائن آخر:"تأخروا.. تأخروا وضاعوا الضحايا"

تنهدت بوجع لتجلس بمكانها ترفع المسدس:"الذخيرة انتهت.. مابقى غيرك.. أنت أملنا الوحيد"

يُتبع..



فاطمة صالح. غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-06-23, 08:47 PM   #88

فاطمة صالح.

كاتبة في قسم الروايات والقصص المنقولة


? العضوٌ??? » 506671
?  التسِجيلٌ » Sep 2022
? مشَارَ?اتْي » 81
?  نُقآطِيْ » فاطمة صالح. is on a distinguished road
افتراضي



يسمع كلماتها ثم ينظر للخلف، حيث يرتجف وطنه ليغمض عيناه مستوعباً أن لا مقاوم سواه هنا وعشرة رجال بأعتى الأسلحة يتربّصون به

إذاً.. مادام سيموت لامحالة ليمُت مقاوماً!
*
بين ارتجاف قلبها بعنف ودمعها الذي أحرق وجنتيها، بين صمودها بالبقاء هنا واستجابة أوامره خاصةً بأن لا مسدس بات معها وإن قاومت بقوتها الجسدية فالمنظر الذي رأته أرهق روحها فستنهار بأول ضربة
بين كل تخبطاتها استمعت لأصوات الرصاص التي علت من جديد وصرخات عنيفة وخطوات أقدام دكّت الأرض و "الله أكبر" يعلو صداها بالمكان
لتغمض عيناها مغطية وجهها بيديها تبكِ بكُل قوتها، لقد قتلوه، فشلت الخطة بأكثر الطرق إِوجاعاً.. الآن فقدت السَّبب الذي تمسكت بالحياة لأجله!

بكل انطفاء توقفت بمكانها لم تستطع حتى على الهرب، لما تهرب؟ لتمت وهنا ينقضي الأمر
استمعت لأصوات الخطوات التي تقترب منها
وأصوات عالية جعلت كل دمعها يجفّ، والمقدرة على الهرب اضمحلت حتى إن رغبت الآن فلن تقدر!

ليفتح الباب بعد برهة قصيرة من انتظارها
فتبعد يداها عن وجهها، ترتدي عيناها نظرة قوية، لتمت وهي صامـ...
حينها وهنت نظرتها، ولم تحملها قدماها
لتنهار جالسة تنخرط بنشيج يمزق نياط القلب
يغمض عينيه بكل قوة مقترباً منها ليحتضنها واخيراً مقبلاً رأسها:"الحمدلله، لا تخافين
جلال وهشام حضروا بآخر لحظة.. لاتخافين صرنا بأمان وبنكون بخير"

تتعلق بقميصه تبكي عدم تصديق، انتهى كابوسها؟؟ أشرقت شمس حريتهم واخيراً!
وهو.. هو بخير بل حي وهذا المهم!
يمسح على رأسها بضياع مغمضاً عيناه وتاركاً لجلال وهشام وبقية الجنود مهمة البحث بالوكر وقتل بقية المرتزقة، بينما هو ركض لها على عجل
كان قد علم أنها ستنهار هكذا.. خاصةً بعد آخر منظر مفجع رأوه قبل لحظات!.
*
وقفت على بوابة الوكر، تماماً كتلك اللحظة عندما استيقظت من مخدر العجوز وكبّلنها إمرأتين يجرنها جراً للداخل إنما هذه المرة تقف بكل عِزتها! بجانبها عمّار

تنظر بين فينة وأخرى لملامح عمّار المظلمة والتي لم تتأثر بضحكات جلال الذي يغمره بالأحضان فيبعده عنه قسراً من الغضب:"لا تقرب مني تفهم"

يبتسم هشام لمشاكساتهما غير منتبهين بأن عمّار كان جاداً تماماً في مسألة عدم لمسه، ولكنهما لم يعيرا رفضه اهتمام وجلال يضربه على كتفه بعدم تصديق:"تسعة أشهر ياللي ماتخاف الله"

لم يعلق فقد غمرُوه قسراً مذ دقائق بالأحضان والكلمات المتلهفة له، فقط أشار للوكر:"هذا المكان يُحرق ولا يبقى به أي معالم للحياة"

أشار هشام على أنفه قائلاً:"أبشر، الآن نحرقه، يكفيك ماعِشته فيه!"

ابتسم بسخرية، لن يعلم أحد ما عاشه هنا ولن يخبر أحد أبداً، تلك النظرة السوداوية التي احتلت عيناه ميّزها جلال هو وحده من يعلم أي روح سوداء يحملها عمّار، وإن لم يتخلص منها كما حاول وجاهد هو
سيتعذب كثيراً! نظرا لتلك التي تركض لهم لتقول بصدمة:"القائد، طوفان، الطاقم الطبي"

لم يفقهوا شيئاً مما تقول لتهز رأسها مصدومة:"قبل أقتل واحد منهم سحبت منه معلومات بصعوبة، المهمة كانت إغتيال قائد الجيش الشعبي والعتاد العسكري مع الطاقم الطبي المتجه لصبابة"

جحظت عينا هشام وبلا أدنى تردد أدار الكلاشنكوف لظهره وركض للسيارة مشيراً للرجال باتباعه ليقول جلال بنبرة ذات مغزى لـعمار:"إجلاء هذا المكان صار مهمتك لوحدك، استمتع وحاول تحرق كل ذكرياتك اللي عشتها فيه!"

لم يتكلم، نظراته كانت مصوبة لجثث الفتيات ومن بقي من فريقه ليحرر تنهيدة عنيفة
كانِت نظراته مصوبّة نحو تلك المرتعشة بجانبه، ليرفع رأسه ينظر لجلال بهدوء:"ماودي بعد أسر تسعة أشهر أعيش الحرية بليّا طوفان!"

ابتسم جلال ليقول بثقة:"ماهو بطوفان اللي يموت على يدين خونة! لاتخاف بترجع وبيستقبلك هو بنفسه!"

ليهز رأسه ويلتفا لصرخات هشام ليركض جلال قائلاً:"تركنا لك كل الرجال واحنا بنستدعي الكتيبة الشمالية من الجيش العسكري"

لم يرد عليه ولم ينتظر جلال أساساً وهو يركض ليركب في -الشاص- الذي قد قاده هشام بسرعة فائقة متجهاً لصبابة

بينما عمّار نظر للمكان نظرة حاقدة قبل أن يشير للرجال:"جثثهم الطاهرة حمَلوها على السيارات، بنرّدهم لأهلهم"

استجابوا لأمره فأخذوا يجرون جثث الفتيات والأسرى ومن بقي حي منهم نقلوه على إحدى السيارات لغرب أرماء..وقف واخيراً بعد ساعة يرفع الولاعة يأخذ نفس عميق ثم يرميها على طرف البنزين المسكوب على الأرض فيبدأ يشتعل المكان رويداً أمام عينيه المستمتعة بالمنظر، ليلتفت لمن قالت بتيه:"أحتاج أروح من هالمكان"

نظر لها بنظرات لم تفهمها ومن ثم نظر نظرة أخيرة للمكان وهو يشتعل ليقول بهدوء:"انتظريني بالسيارة.. عاهدت نفسي ما أتحرك إلا لما يحترق كل جزء فيه"

رفعت رأسها المطأطأ واخيراً لتتأمل طريقة وقوفه، نحل جسده الواضح بشكل مخيف، عظام وجهه البارزة من شدة الهزل، والمهم نظراته
لقد ارتدت خضراءه المشعة نظرة عنيفة، قاسية بشكل أرهبها وكأنها غابه مظلمة لا يدخلها الضوء من كثر أوراقها الخضراء. فعادت أدراجها للخلف تجلس في السيارة لتتفاجئ بوجود قرطبة بداخلها، لتبتسم لها:"قوي قلبكِ زمهرير"
أراحت مقعدها للخلف تغمض عينيها وتحتضن نفسها المُهلكة:"ولو كنت طاغية، ورأيت الشباب و الفتيات يندثرون برصاصة ظالمة لمُت من وجعي.. فكيف وأنا مجرد إنسانة بقلب وضمير؟"

تنهدت قرطبة دون أن تعلق فالموقف أصعب من التعليق ووجع رؤيتهم لتلك المجزرة لن يتلاشَ أبداً!
*
*
ينظر يوسف للسيارة العادية التي تتقدم سيارته
يطرق على الكلاشينكوف بطرقات متتالية
رأسه سينفجر من التفكير بها، وبالهدوء المحيط بالطريق! خلفه دبابتين عسكرية وخمسة سيارات تحمل بعض رجال الجيش الذي سيتجه إلى صبابة لحراسة العِتاد العسكري المحمل ببقية السيارات، وسيارة أخرى تحمل بقايا الطاقم الطبِي، المسؤول الدكتور ماجد واثنين من الأطباء الناجين وممرضتين، أُستشهد منهم دكتور وزوجته الممرضة!

جميع من في الموكب المتجه لصبابة.. في أمانته! فهو القائد هنا! ولكن لم يكن للخوف نصيب في قلبه فقد كان طيلة حياته متأهباً لأيةِ مصيبة!

تماماً كصوت الإنفجار العنيف الذي دوى في المكان ورؤيته للسيارة التي تسبقهم وهي تحترق نتيجة أحد القنابل التي تفجرت بها، ليضطر سائق سيارته أن يتوقف يلتفت بصدمة للمرتزقة الذين كسوا الجبال التي تطُل على الطريق قائلاً:"كمييين إرهابي، محاولة إغتيال يا طوفان"

لينزل طوفان بذات اللحظة ساحباً الكلاشنكوف ومحتمياً بسيارته ولكنه يُصعق من جديد برمية لقنبلة ثانية أصابت السيارة التي تسبق سيارة الطاقم الطبّي مما جعل سائقها يختل توازنه فتُصدم بالسيارة المنفجرة بذات اللحظة.

حصل كل شيء بثواني قليلة وبخطة محكمة تركت غضب يوسف يتصاعد حدّ الجنون، فأخذ ينحني ويلتقط مسدسه الشخصي ويضع الكلاشنكوف على ظهره مشيراً لرجاله:"غزوة مباركة يا رجاااال"

ليخرجوا من سياراتهم يحتمون بها وتبدأ معركة حامية لم يتجهزوا لها ولكنهم قاوموا بكل بسالة
برغم عدد المرتزقة الهائل، وشهداء الجيش الشعبي الذين أطاحوهم كانوا مازالوا يقاومون

اقترب أحدهم قائلاً ليوسف بخوف:"طوفان، الطاقم الطبي"
نظر لسيارتهم التي بدأت تشتعل وحتى هذه اللحظة لم يخرج منها أحد، فكزَّ على أسنانه بغيظ وقال:"احمني"

نظر له بتوتر ليشير على الجهتين بصدمة:"هذي مخاطرة ماهيب سهلة، تعرف بأنك بتكون مكشوف للطرفين!"

سحب الكلاشينكوف ليمسكه بيده ملقياً نظرة سريعة على شهداء جيشه الذين يتساقطون تباعاً ليكرر بصوت مخيف:"احمني"

نفذ ماقال فأخذ يرش الرصاص بلا هدى في اللحظة التي انطلق بها يوسف ناحية سيارة الطاقم الطبي
ليتفقد الجرحى الذين سقطوا بجانبها، اثنان شهداء وآخر مازال يقاوم ساعده ليبتعد عن مرمى أعينهم ثم استقام من جديد متجهاً لسيارة الطاقم الطبي، ليُصعق برؤية السائق قد طار في السيارة المحترقة أمامهم وقد تفحم، اتجه بقلب منقبض ليفتح باب السيارة بصعوبة فتضطرم النيران بعينيه وهو يرى جميع من في السيارة.. أصبحوا شهداء!
جثث هامدة تنزف دماً من كل مكان، قد تساقطت رؤوسهم على أكتاف بعضهم، أغمض عينيه بحسرة وقلب ينتفض من شدة الوجع ليُصدم بسماع صوت سُعال مكتوم وشهقات مرتجفة
ليصعد بجسده للسيارة برغم احتراق نصفها يحاول معرفة الجريح من بينهم.. وعندما سحب رأس إحدى الممرضات، تفجرت الصدمة بجميع أنحاء جسده وهو يراها تضم حقيبتها لها
وتغمض عيناها بكل قوة، تتمتم بشيء لم يفهمه من شدة ذهوله، لينحني قائلاً بعدم تصديق:"سكون.."

فتحت عيناها باتساعها الكامل، لتنظر لمناديها
وعندما رأته ولدهشته العنيفة نظرت له بدمع أحرق مآقيها قائلة بعدم تصديق:"ماتوا، ماتوا كلهم وأنا.. أنا"

مشَطها بنظرة سريعة ليتأكد بأن الدم العالق بعباءتها البنية لاينتمي لها ولكن لم تكن هناك فرصة للإطمئنان أكثر فصرخات جنوده أرهبته:"السيارة بتنفجر، يااا قائد، يا طوفان"

لينحني بذات اللحظة يلتقطها بذراعيه ويخرج من السيارة صارخاً:"احموني"

لتبدأ مرحلة إطلاق الرصاص من جديد لتشتيت انتباه المرتزقة مما سمح له بالركض خلف أحد الدبابات العسكرية مريحاً ظهرها خلف أحد عجلاتها ليدسّها بكليتها في أحضانه لحظة إنفجار السيارة العنيف الذي جعل وتيرة بكاءها تزداد بصدمة تتشبث بلا وعي بعنقه:"ظنيت بأني مت، يا الله لطفك يارب"

نضحت بروحه رغبة وحشية بقتل كل من سولت له نفسه بهذا الأذى ولكنه ناقض كل هذا الخراب وهو يمسح على ظهرها بحنو متناسياً كل ماحوله:"لابأس.. لابأس أنتِ بخير يا كل روحي"

لتغمر نفسها بأحضانه بلا وعي منها تلك الرائحة مألوفة وفي خضم رعبها كانت الألفة تكفيها، ليضمها بيده الحرة وقلبه ينقبض من شدة الوجع هامساً:"تأذيتِ؟"
تهز رأسها بالنفي وهي تشد على شاله من الخلف بهلع من أصوات الرصاص وبكاءها الهستيري يزداد:"أنا خايفة، كل هالموت يقتلني، أنا بموت من الخوف"

ابتعد ليمسك وجنتيها التي اشتدت حمرتها من شدة البكاء ليقول بمواساة حازمة:"تماسكي، لامجال للضعف بهذي اللحظة، أعرف كل شيء صعب ومرعب ولكنكِ أقوى.. أنتِ حبيبة رجل ثوري يا إمرأة"
نظرت له بتيه، هي استعادت ذاكرتها بل لم تفقدها أساساً إنما كانت ردة فعل طبيعية نتيجة الضربة لرأسها ولكنها عندما استفاقت قبل يومين استعادت ذكرى كل شيء، همست بحشرجة مؤلمة:"يوسف.."

نظر لها بعاطفة تناقض مايحصل ليقول:"يا كل روحه.. سكون أحتاج قوتكِ، أحتاجكِ وطن ما يخيّب الظن!"
ابتلعت رمقها بصعوبة ليشير على سيارة الجنود التي توقفت خلف الدبابة:"تأكدي من كونهم بخير وأحياء، أنا بشتت انتباههم عنكِ، لاتتركي دماء شهداءنا تذهب سُدى! انتِ قدّها صح؟"

رمشت بضياع للحظات ثم مسحت دمعها بكفها لتأخذ نفس عميق تحت نظراته المشجعة، لترفع رأسها له تؤمئ بصلابة ظاهرية ليبتسم مشيراً لها أن انطلقي
لتذهب بينما هو زحف على قدميه لينظر لمقاومة جنوده القوية برغم قلتهم مقارنة بأعداد المرتزقة الهائلة ليبدأ بالتصويب وإصابة من يراهم، لتتسع عيناه وهو يراهم يخرجون أكثر فأكثر وكأنهم سيل لا ينقطع، لم يصيبه الخوف إنما الغضب العنيف الذي سيطر عليه لدقائق طويلة والإشتباك مازال في أوجّه
أعداد المرتزقة لا تنتهي ولا يعلم من خطط لهذا الفخ، ومن يريدون تحديداً.. هو أم العتاد العسكري؟

سحب آخر مخزن لسلاحه ليبدأ من جديد إصابة الأهداف وحينما انتهى المخزون شتم بعنف ساحباً مسدسه من خلف ظهره، متكأ على ركبته يتنفس بصعوبة.. لقد بدأ كتفه يتخدر من شدة الوجع خاصةً وأن الجُرح قد فُتح والنزيف قد أغرق قميصه كاملاً من شدته، فتح عينيه يقاوم الوجع بقوة ليزحف ينظر لجنوده، ليركض له أحدهم قائلاً بنفس متقطع:"الذخيرة انتهت، بدأنا ننهار خاصةً بأنهم صفّوا نصف الرجال"

لم يسمح للإحباط بأن يتسلل له لينتزع الجهاز يرسل الإشارات من جديد قائلاً:"قاوموا، حنّا بالله أقوى تفهم؟ مابيقدرون علينا"

رمقه بثبات ليقول:"بتجه للسيارات الباقية من بقي جريح أو استشهد بناخذ سلاحه"
هز رأسه بموافقة ليلتفت مقاوماً وجعه يتجه للسيارة التي ترجلت منها بملامح شاحبة ليسحبها للأسفل قائلاً بغضب:"اخفضي رأسكِ يا إمرأة"

ترقرقت الدموع بمآقيها وهي ترى شحوب ملامحه العنيف ويدها التي تلطخت بدمه فقالت برعب:"انفتح جرحك لازم أ..."

هز رأسه بنفي:"ماهو وقته، أعطيني أي مسكن ألم بينفع"
جادلت بضعف:"بس انت.."
ليقاطعها بصرامة:"أعطيني مسكن يا سكون"

طأطأت رأسها تبحث بحقيبتها عن مسكن لتمد له الشريط فيبتلع منه أربعًا وسط محاولاتها بالإعتراض ليقول:"كم جريح؟"
نظرت للسيارة واستعادت رشدها:"خمسة، ثلاثة شهداء"

لم تكد تكمل حتى رأوا الجرحى يخرجون بصعوبة من السيارة يسحبون سلاحهم بين أيديهم ليصرخ يوسف بغضب:"ارجعوا للسيارة، مجانين أنتم!"

ولأول مرة لا يستمعون لأوامره، ليقفوا خلف السيارة قائلين من بين نهات وجعهم:"فداها أوجاعنا قسط الجوى، والله مانبقى بسبب هالجروح"

أشارت له سكون برفض شديد لأن جراحهم خطيره فرمقهم بضيق ولكن لم يكن بهناك حل آخر، المرتزقة يقتربون أكثر حتى يكادون أن يحاصروهم في بقعة لا تتعدى عشرة أمتار
ليقاوموا بصعوبة ويندفعوا بالتصويب على الخائنين.. وكل الجرحى انتهجوا نهجهم
برغم آلامهم المفجعة وصوت أنينهم الواضح إلا أنهم لم ينهاروا.. برغم من لم يستطع المقاومة وسقط مغشياً عليه إلا أنهم لم ينهاروا!

التفت لها قائلاً بحزم:"اختبئي تحت هذي السيارة ولا تخرجي أو تفكري تصدري أي صوت ولو اشتعلت الدنيا نار، تفهمين؟"

هزت رأسها بنفي مرتعب لتهمس ببكاء:"وأنت.."

لم يترك لها فرصة للرفض وهو يسحبها ليدفعها برفق تحت السيارة التي ثُقبت إطاراتها ويبتعد يجلس على ركبته بكتف متزناً برغم النزيف الذي مازال، يوجه ويصوب بآن واحد لتنتهي ذخيرة مسدسه فيرميه أرضاً بغضب كاتماً تأوهاً عنيفاً بسبب وجع كتفه الذي أصبح لا يحتمل، نظر لمن سقط من الجرحى ولم يصمد فأغمض عينيه بوجع لينطق واخيراً الشهادتين..بعد مقاومة تُحسب له وبعد انتهاء ذخيرة كل أتباعه..

ليفتح عينيه من جديد على اتساعهما وهو يسمع صوت السيارات الذي اقتحم الطريق الصحراوي بشكل مهيب جعل المرتزقة يُستنفروا، ليبتسم معتدلاً بجلوسه وهو يرى جلال يقف في حوض إحدى السيارات يستلم الرشاش ويصوب على أماكن اختباء الإرهابيين، ومن الجهة الأخرى كان هشام يمسك الرشاش الآخر لتتسع ابتسامته وهو يرى غضبهم الثائر للوطن.. ثم له.
*
ليلاً..
وفي إحدى عيادات صبابة..كان يتأملها وهي تعيد خياطة جرحه بصمت شديد
لا يتضح على ملامحها أي شعور منذ لحظة إنقاذهم وإحباط هجوم الارهابيين وحضورهم إلى صبابة، هي حتى لم تُفهمه كيف كانت معهم
وهو من تركها آمنة خلفه!
لم يتكلم طيلة الوقت محترماً صمتها بينما هي تقطب جرحه بدقة شديدة حتى إذا ما انتهت ابتعدت ترتب الأدوات الطبية بذات الصمت

ليقطع يوسف الصمت قائلاً بصوته العميق:"عاصي اتصل يسأل بعدما عرف عن اللي حصل
بس لحسن الحظ ماكان يدري بإنكِ تسللتِ من دون علمي وكنتِ وسط الإشتباك وإلا لجن جنونه ولحرمني منكِ.."
لم تتكلم، ليستطرد بهدوء:"لا تخافين، الارهابيين ماقدروا يصمدون واستسلموا في النهاية، والجرحى تمت معالجتهم والشهداء رحمهم الله وكله فدى قسط الجوى أرواحنا وأصحابنا وجراحنا"

مازالت ترتب الأدوات ليتنهد قائلاً:"أنتِ بخير؟"
لترمي الأدوات بقوة مصدرة صوت مزعج وتلتفت له بعينين متورمتان من شدة كبح الدمع ووجع ثائر تهتف بوجع:"أي سؤال لعين هذا؟ كيف بكون بخير كيف؟"
اتسعت حدقتيه من صراخها العنيف بعد صمت طويل ليقف فيغمض عيناه بقوة نتيجة اختلال اتزانه بسبب وقوفه السريع ليسمعها تنفجر باكية واخيراً:"كل شيء صعب، كل شيء مؤلم ومفجع.. ولكن افتقدتك بعد كل ماكان، هذا كان أبشع شيء، يا الله أنا لمحت استسلامك شفت بعيوني ثغرك وهو ينطق الشهادة.. كنت بتموت كنت بتتركني من جديد"

انقبض قلبه لكلماتها التي لم يتوقعها لينظر لها تلك النظرات الآلية التي اعتادتها من الأبكم بلا تعمد لتبكي أكثر:"أنت كاذب يا يوسف، كاذب وحقير"

عض على شفتيه يمنع غضبه خاصةً وهو يُدرك بأنها منهارة بعدما حصل ليقترب منها فتدفعه بلا وعي وكتمها لبكاءها مذ رأته على جبال أرماء كلف كل هذه الدموع التي لا تنضب:"لا تقرب يا كاذب.. لاتقرب مني أبداً، أنت وجعي
أنت كل مرة تقول إنك تخصّني وحدي..بأنك يوسفي أنا، ولكنك كاذب لعين أنت بعمرك ماكنت لي.. أنت يوسف القسط، أنت تخص الوطن وحده، أنت رضيت لنفسك بالموت شهيد لأجله ونسيتني خلفك أموت من الرعب.. أنت.."

لم تستطع الإكمال ولم تستطع ساقاها الصمود أكثر لتنهار باكية تغطي وجهها بكفيها، تتذكر اللحظة عندما استعادت وعيها على السرير الطبي قبل يومين لتراه ينام بجانبها.. تلك اللحظة تذكرته ولكنها قررت معاقبته بأن تنفيه من ذكرياتها ولو ظاهرياً فقط فأما داخلها فلن تستطيع!
وعندما سمعت أن الطاقم الطبي سيغادر قررت أن تذهب معهم فهي متصلة بهم هنا ونكالاً لأفعاله.. بحق الله لقد رحل لعام كامل وكان سيبقى للأبد راحلاً بينما هو حي يرزق!
ولكن لم تضع في الحسبان احتمال أن هناك كمين منصوب لهم..
فضاعت كل محاولاتها بعقابه وهاهي..تبكيه
تبكي منه.. وتبكي عليه في أحضانه.. وهاهو برغم وجعه وشعوره العارِم بالاختناق بسبب الشهداء الذين فارقوهم إلا أنه يقاوم لأجلها يقبل رأسها قبلات متتالية هامساً لها من بين كل قبلة بعمق، بحنو، بقوة تليق به فقط:"أنا آسف.
ياكل روحي.. ولكن قلت لكِ أنتِ حبيبة رجل ثوري يا سكون.. أنتِ حبيبة رجل قسطي ما بتخمد له نار وأرضه محتلة
ما بتسكن له روح وداره معتقلة.. تفهميني صح؟
تفهمين أي وجع يقبع بين ثنايا قلب رجل ثوري لوطن محتل؟"

رفعت رأسها ببكاء من استسلم:"وأنا؟ أنا مو وطنك؟"
اتسعت ابتسامته العميقة فأعطته هالة حنونة برغم من شاله الذي يحيط برأسه وقسمات وجهه الصلبة ليهز رأسه إيجاباً:"أنتِ وطن يوسف.. داره ومستقره وأمانه.. أنتِ الشيء الوحيد و الوحيد اللي تركني أحسّ بالحياة بعد سنين من العيش بليّا مشاعر.. أنتِ وطني"
-"وهان عليك الغربة عنه لسنة كاملة بليّا رأفة بوطنك؟"
أغمض عينيه لعتاب طال موعده ليضع جبينه على جبينها بعدما تأكد بأن مشهد فقدها لذاكرتها كان مفتعل لتُعاقبه وحينها علم أنه جرحها بعنف
ليقول:"إن كان تحتم عليّ الغربة لأجل يكون وطني آمِن فتهون الغربة لأجله.."
"-وهو.. يهون؟"
نظر لها بهذا القرب ليهتز قلبه بعنف بين أضلعه مقاوماً بصعوبة كي لا يبثها شعوره المختنق بالبعد فيخيفها ليهز رأسه هامساً بنبرة جعلتها تبكي من شدة حنيتها:"مايهون.. والله وبكسر الهاء مايهون؛ ولو ظنيتِ لوهلة بس بأني لدقيقة وحدة عشت بغيابي عنكِ فأنتِ ارتكبتِ أبشع الظنون بحقي..ولكِن لأجل القسط.. ثم لأجلكِ"
-"ولكن.. هالحياة وبعد كل هاللي حصل أنا خايـفة"

نظر لها من ذلك القرب ليهمس:"أنتِ أقوى من كل هالخوف"
نظرت له تستعيد مقاومتها فعلاً لسنتين من العذاب لرؤيتها لآلآف الجثث لحشرها بينهم ولخروجها حيّة بصعوبة من بين كل المجازر
رأى تخبطها فحاول تشتيت انتباهها قائلاً بنبرته تلك التي تتطلب قلب قاسي كي لا يتأثر بها:"أي امرأةٍ غيرك أنتِ عاشت قسوة أيامك، وصارت رغم القسوةِ أنعم؟"

لتغرق عيناها بالدَّمع من جديد فيبتسم بإنهاك:"وجع نزول دمعك يضاهي وجع احتلال وطن.. يرضيك يطالني الوجع من جهتين يا ظالمة؟"

نظرت له بحيرة ودمعها مازال يترقرق، أتعفو بعدما كان؟ أترضى بعدما فعل بها لسنة كاملة؟ أتصفح عن رجل يحتل كل أراضيها؟

ليبتعد و يرى ملامحها بوضوح فيتنهد قائلاً بضيق:"لأجل كذا ابتعدت لأجل ما تعيشين كل هالضيم والوجع لأجل ماتكونين معرضة لكل هالظلام، الحياة معي ليل دامس على امرأة مُشعةٌ مثلكِ"
لم تتكلم فقط كبحت دمعها، وأغمضت عينيها تخاطر قلبها الذي يقف في صفه أساساً
لتسأل عقلها فيرفض العفو، ولكن منذ متى يستمع العاشق لعقله؟
لتفتح شهلاءها فتنشر ضوءها على ليله الحالك ينظر لها بلهفة بعدما علْم أنها ستُدلي بكلمات مهمة، وفعلاً رمقته بصمت للحظات قبل أن تقول بخفوت متحشرج:"أنا معك كنت أحس إني مضيئة وبشدة لدرجة ابتلعت الشمس بداخلي..وبدونك كنت أبهت وأنطفي لدرجة أظن إن الليل صار وشاح لي.. اترك حرية البقاء أو الهروب من هالحياة والخوف فيها بيديني، لا تسلبني خياراتي يا يوسف
ماهو من حقك تفهم؟"

قرنت آخر جملة بضربة رقيقة على كتفه فتأوه ضاحكاً فاضطربت بوجع:"آسفة آسفة، أوجعتك؟ نسيت من حنقي..."
ابتسم من بين مآسيه ليقول مقاطعاً لها:"أقدر أحضنك؟.."
نظرت له بتوتر واشتعل وجهها خجلاً وقلبها كمداً من فواجع سلبتها حتى حق عتابه وغضب كان سيكلفه عمره ليرضيها بعده!
نظرت له بضياع والشتات بات رداءها ليقترب وهو يحتضنها كلها لصدره يجمع كل شتاتها غير معير لوجع كتفه أي أعتبار ليتأوه في عنقها قائلاً بوجع:"واخيراً.. كوّاني البعد عنكِ يا وطني.."

لم تتكلم فقط كبحت دمعها بصعوبة وهي تتشبّث به، منظره وهو ينطق الشهادة مستسلماً للموت وهو من عُرف بقوته
طوفـان العـظيم لقبه مثلما وصلها وهي في أرض أسدام، يتحدثون عن قائد الجيش الشعبي الذي لا يُقهر والذي حرر ثلاث مناطق أهمها أرماء، ذلك الذي سمعت رجاله يتفاخرون بأن لهم قائداً مثله منظره وهو محبط ومستسلم وهي تنظر له من تحت السيارة جعلها تُدرك أن لامكان لغضبها منه على الرغم من أنه يستحقه..ولكن إن فقدته وهي لم تروي ظماها برؤياه، إن مات وهو يعاني من حسرات شوقه لها
بماذا ينفعها غضبها بعد كل شيء؟! ليبعدها عن حضنه بحنو شديد يبتسم ماسحاً على وجنتيها المحمرة من فرط عاطفتها ويدنو منها ليقبّلها بشوق امتزج برقة تخصها فقط لم تستطع جبال أرماء وعتاده العسكري على نزعها منه!

برغم من الطرقات على الباب وصوت جلال المجلجل قائلاً:"عمّار وصل يا طوفان"

إلا أنه لم يبتعد عنها برغم إجفالها وخجلها، لم يرتوي منها ولن يرتوي أبداً هذا مابات متيقناً منه!



انتهى الفصل~​
قراءة ممتعة.. ​





فاطمة صالح. غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-06-23, 08:55 PM   #89

فاطمة صالح.

كاتبة في قسم الروايات والقصص المنقولة


? العضوٌ??? » 506671
?  التسِجيلٌ » Sep 2022
? مشَارَ?اتْي » 81
?  نُقآطِيْ » فاطمة صالح. is on a distinguished road
افتراضي


الفصل الثالث والثلاثون


ماشاء الله، اللهم بارك.
اللهم صلِّ على محمد.
*
*

هل أصبَح الوطن منفى بغيابه؟
هي من دفعت روحها وهويتها لأجل هذا الوطن
ومن تلاعبت بالنار وتراقصت مع الموت لأجله
كيف بات غُـربة ومنفى حينما غاب هو عن أرضه!
هو عدوه، شعبه وحكومته قتلا شعبها واحتلا وطنها
ولكن غيابه شتت الوطن بنظرها! فكيف هذا؟
قد غاب منذ أن وعدها باللاعودة، ولا تعلم لغيابه سبباً.

تضع يديها على أطراف رأسها وتضغط عليه بكل قوة، يكاد ينفجر من القهر، منذ استلمت الرسالة وكل حواسها تكاد أن تتفتت من الغضب ولولا أن دواراً أصابها وهي تركض لغرفة المراقبة لسحقت كل من طوعت له نفسه إرسال صواريخ وكتابة إحداثيات دون علمها
رُباه لقد قرأت عدد الشهداء جرّاء قصف المخيم الطبي بشرق أرماء وكبحت دمعها بصعوبة
في كل مرة يحدث قصف كانت ترسل الإحداثيات فيتم إخلاء المكان من المواطنين إلا أن هذه المرة لم يكن لديها علم حتى!

وقفت واخيراً بملامحها التي تنضح غضباً كاسراً
ذلك الذي جعل كل جندها يبتعدون عن طريقها ويتجنبون التواصل البصري معها خوفاً من بطشها المعروف، لتدلف بقوة بربرية لغرفة المراقبة تصرخ بغضب:"أيها الأوغاد، من تجرأ ليحدد الإحداثيات ويرسل الطائرات دون علمي، أفقدتم عقولكم؟"

وقفت كشعلة نار ثائرة تراهم قد وقفوا جميعهم يؤدون التحية العسكرية ثم يشيحون بالنظر عنها باضطراب إلا رجل.. كان يجلس وينظر لها بنظرات استفزتها لتقول بلا إحترام:"فلتقف يا هذا أم تود أن أن أجعلك تتجرّع مرارة عدم احترامك؟"

لترى الدهشة في وجوه جُندها لتستنكر ذلك وتحاول معرفة هوية الذي خاطبته فملامحه ساخرة وكأنها رأتها قبلًا.. لكن أيـ...
-"المقدم عواصف الودادي.. يبدو بأن السنين التي غبتُ فيها عن الديـجور جعلتكِ تنسين من هم فوقكِ!"

قاطع تفكيرها بسخرية مُستفزة لتعقد حاجبيها باستهجان لأسلوبه ولكن حينما وقف، وبرزت رتبته جحظت عيناها وكتمت غضبها بأعجوبة وهي ترفع يديها وتؤدي التحية العسكرية على مضض:"أهلًا وسهلاً سيادة القائد الأعلى، أعذر جهلي لم يصلني خبرٌ عن وصول سيادتك"

تبسم إبتسامة قهرتها ليقترب قائلاً:"إذاً؟ هل تودين أن أجعلك تتجرعين مرارة عدم احترامك؟"
نظرت له بهدوء لتقول:"جميع أوامرك مطاعة سيادة القائد الأعلى فلتفعل ما تشاء"
عقد حاجبيه لطاعتها الفورية فضحك يهز رأسه:"جيد جيد، إذاً.. كنتِ غاضبة لأجل إحداثيات القصف الأخير.. لماذا؟ ومن أخبركِ؟ فهو لم يحصل إلا منذ لحظات"

نظرت له بثقة لتجيب:"لقد.."
ليقاطعها بسخرية:"لقد أخبرك شعبك صحيح؟ إذاً ماذا؟ أستثورين لأن من مات كانوا أطباء؟ أم خائفة من ردة فعل الدول المجاورة على ماحصل؟"

لم تجبه فإن تكلمت لعاقبها بشدة لذلك استمر بالكلام:"لاتخافي يا مقدم، جيرانكم لن يثوروا أبداً لما يحصل هنا في وطنكِ.. لو أرادو لفعلوا منذ سنوات صحيح؟
وإن تطوعوا وثاروا فالإعلام يغطي، نقول فقط أن الإحداثيات كانت خاطئة وظننا بأنه تجمع إرهابي وانتهت المشكلة.. إذاً لما غضبكِ الثائر هذا
أهو لوطنك؟؟"

كانت تود إخراج نفسها الحارق الذي عثى فساداً بروحها ولكنها كتمته قائلة بصلابة:"لن يثور أحد لأجلهم، ولِمَ أثور لأجل من مات! غضبي كان بسبب تجاهلي وإرسال الصواريخ دون علمي ولكن مادامت أوامرك فلها السمع والطاعة وبالمناسبة أهلاً وسهلاً بك سيادة القائد الأعلى..."

أعجبه ردها ولكن لم يظهر ذلك فقط استطرد قائلاً بنبرة ذا مغزى:"توماس آزر"
لتتسع عيناها بصدمة قبل أن تشيحها بذات اللحظة تقبض كفها حتى ابيضّت مفاصلها
إنه أخوه.. القائد الأعلى اللعين السابق
إذاً ما سمعته منذ أشهر صحيح وليس مجرد إشاعات! سيأتي ليحقق في مقتل أخيه قبل أن يبيد هذا الوطن عن بكرة أبيه ليُنشئ وطناً يليق بالديجور!

ابتسمت بتكلف وهي تعود بالنظر لعيناه، تعلم يقيناً أنه من سوء الأدب أن تنظر لعين من هم في رتبة أعلى منها لكنها لم تكن تهتم:"أهلاً بك سيادة القائد توماس!"

أومئ بلا رد ليشير لبقية الجنود أن أكملوا ماتفعلوا ثم التفت ينظر للملازم الأول الذي يقف بجانبه فيسأله:"أين النقيب سلام؟
لما تأخر؟"

أشار الملازم الأول قائلاً:"لقد أخذ إجازة لما تبقى من اليوم بسبب تعبه جرّاء الطريق"

نظر له بعدم رضا ليهمهم بكلمات غير مفهومة ثم يعود للجلوس وسط نظراتها لهم، لقد ذهب ليُحضر هذا اللعين القاتل ليُبيد من بقي من شعبها ولم يُخبرها! إذاً أين حبه اللعين الذي يتبجح به! مادام يعلم بأنها خائنة للديجور وفي عروقها يجري مجرى الدم حبها للقسط لماذا يؤلمها في وطنها؟ لماذا يفجعها في شعبها؟ أهذا حبه لها!!!
*
*
بعد ساعة خرجت من المركز الديجوري متخفية
كالعادة بسبب القسطيين ومحاولاتهم التي لاتعد لإيذاءها، استقلت سيارتها وتوجهت
لذلك المكان.. الذي باتت تعُده مسكنها!
هنا عرفت ذاتها أول مرة، هنا استقرت روحها بعد سنين من الغربة
هنا باتت لها هوية.. تفخر بها وتعتز
هنا أعلنت إسلامها.. منذ قرابة العشرة أشهر!
ليس لأنها اكتشفت بعد سنين أنها أخت لأخوين مسلمين وليس لأنهما ضغطا عليها ولا لأنها -أحبّت- رجل اعتنق الإسلام وزيّنه في قلبها
بل لأنها -ودّت- هي ذلك! لقد رأت حلاوة الإيمان في وجهه ذات مرة وهو يتحدث عن الإسلام،
لقد رأت حلاوة الرضا بالقدر في حياة أختها بعد كل ماعانته، ولقد رأت حلاوة الصبر في حياة أخيها وهو مقتنع بالقدر
إذاً.. لما لا تسير في هذا الدرب؟ أول مرة نطقت الشهادة كانا معها، بكت هي وسكون كثيراً
وكبح عاصي دمعه بصعوبة! وعندما صلت لأول مرة كانت سكون معها
مازالت تذكر السجود الذي أطالته باكية حتى أَنّت عظامها، ومع ذلك كانت موقنة أنها تتخلص من كل أعباءها!
لقد آمنت ورضت واقتنعت بأن الله -إن أحب مسلماً ابتلاه- وهي ابتلت بوطنها وعليها الصبر والإحتساب فقط!
لقد غيّرت طريقة لباسها بالرغم من أنها متحفظة من قبل، ولكن الشال بات لا يبارح عنقها
واكتفت بوشاح طويل يصل إلى ركبتيها بدلاً من القميص الرسمي! علّقوا كثيراً ولكنها لم تهتم
المهم بأنها مقتنعة بنفسها

:"يارب.. يارب"
باتت هذه المناجاة تريح دواخلها من الوجع، تماماً كهذه اللحظة
وهي وحيدة، لاتعلم حال أختها بعد تعرض المخيم للقصف ولا تُصدق عاصي الذي أخبره يوسف بأنها بخير.
وحيدة لأيام طوال وهو لم يسأل عنها لم يأتِ ليراها بالرغم من عودته لقسط الجوى
إذاً.. أتُخرجه من نطاق تفكيرها؟ بعد كل هذه الأشهر؟ بالرغم من غيابه؟

أخذت نفساً عميقاً تنوي إخراجه لتختنق به فتبدأ بالسعال بقوة وهي تنحني تحاول التقاط نفسها ليهرع الخارج من المسجد لها بخوف يقول بلهجة أهل القسط عندما رأى ملابسها:"أنتِ بخير يا آنسة؟ وش صاير معك؟"

ليزداد سعالها سوءًا فتراه يبتعد عنها عائداً للمسجد وتحاول هي استعادة نفسها الضائع من صدمة وجوده هنا! لترفع رأسها واخيراً لتراه يخرج مهرولاً من المسجد بيده كأس ماء بلاستيكي ولكنه توقف عند العتبة عندما ميّزها..
عباءتها السوداء الفضفاضة وذلك الحجاب الذي يغطي جميع تفاصيلها كان شيئاً جديداً عليه حقيقةً!

لحظة، هل ابتسم حقاً؟ اقترب يغض البصر عنها ليناولها الماء بصمت ولكن اتسعت عيناه بذهول عندما دفعت كأس الماء فسقط على الأرض، انزعج فعلاً من فضاضتها ليراها تبتعد بذلك الغضب وتدلف لمسجد النساء دون أن تعيره أي إهتمام
كتم غيظه بصعوبة، وابتعد ليجلس بوركيه على مقدمة سيارتها كموقفها عندما انتظرته خارج المسجد

بعد مُضي ساعة ونصف خرجت بقلب كان قد ارتاح بعدما أثقله وجع الحـب ولم ترحمه راء الحرب!
لتجده يستند على مقدمة سيارتها، يحدق في اللاشيء ويبدو عليه أنه ينتظرها، لم تهتم فقط اتجهت لمكان السائق تنوي المغادرة ليوقفها بسؤاله المتلهف:"أأسلمتِ؟"
حسناً أهو أعمى؟ أم ماذا؟ ليكمل سؤاله بذات اللهفة:"أعني من أجلي أو بسببـ.."
قاطعته بفظاظة:"على رسلك ياهذا، من أنت لأغير من ديني لأجلك؟ لقد غيرته لأجلي أنا وليس بسببك حتى.."
حسناً قالت نصف الحقيقة وهذا يكفي، اتسعت بسمته بشكل واضح لتعود خطوة للخلف بعينين متسعة عندما رأته يهوي أرضاً فجأة ويسجد بشكل جعلها تتخبّط.. مابه!
لم تعلم أنه سجد سجود شكر لاستجابة دعاءه
رباه.. لقد أسلمت وهو من كان يُمهد لها الطريق ليجدها قد وصلت للنهاية قبله!

استقام من جديد ليقول بابتسامة:"إذاً.. متى أسلمتِ؟"
لم تتكلم وابتعدت ليوقفها قائلاً بضيق:"أما يكفيكِ بُعداً يا إمرأة؟ ألم أوضّح لكِ شعوري بما فيه الكفاية؟ أتودين أن أعلنها علانية؟ بأني واقع بحبكِ حتى النخاع.. لا وطن ولا بلاد لا جيش ولا دين ولا عادات ولا مبادئ استطاعت إيقاف هذا القلب الخائن عن حبكِ فلما تودين الوقوف أنتِ ضده!"

أغمضت عيناها تطلب عوناً لتلتفت قائلة بهدوء وبلغتها:"ليش رجعت يا سلام؟"
ليقول باختصار:"لأجلكِ.. ثم لأجل وطنكِ ولأجلي"
عقدت حاجبيها.. لأجلها فهو قد صرَّح بحبها
لكن وطنها؟ لتراه يكمل دون النظر لها:"ماكنت لأترك وطنكِ في غياهب الظلم ولو كان المحتل شعبي! -يأخذ نفس ليكمل بلغتها- أنا جيت في المرة الأولى لأجل غاية تهمني وحققتها، وهالغاية تركتني أُدرك بأن هالإستعمار ماكان من حقنا مثل ما زرعوا بعقولنا بأن الشعب القسطي اللي سموه همجي ومايستحق أرضه مجرد مواطنين أبرياء تُسفك دماءهم بلا وجه حق.. أنا نقيب في الجيش الديجوري هذا صحيح
لكن.. ماهو كل من لبس هالعلم يعني راضي بكل هالطغيان ولا كلامي خطأ يا مقدم؟"
لقد كان يقصدها بنهاية الجملة لتقول بتخبّط:"ليه تكتمت على خيانتي حتى هذي اللحظة؟"
-"لأني ما اعتبرتها خيانة لوطني.."
-"بس انت.. انت قلت تلك اللي..."
-"انتِ خنتِ شعوري أنا يا -عواصف- أنا أعطيتك قلبي وانتِ ما وثقتِ"
-"مارجعت تنتقم لأجل خيانتي لوطنك؟"
-"رجعت أوقف الظلم، هذا اللي تعلمته من ديني"
-"ولكن.. انت تعرض نفسك لأبشع.."
قاطعها بإبتسامة:"للموت قصدك؟ كل شعب القسط معرض له وينام ويصحى حامل روحه على راحة يدينه..مادام هم تحمّلوا وهم مظلومين
احنا يالجبابرة تظنين ما بنقدر؟ أعطي روحي لأجل ينتهي هالظلم.. مستحيل أبقى ساكت بعد كل هاللي عرفته.. لأجلك، لأجل القسط ولأجل ضميري وأعرف إني ماني الديجوري الوحيد اللي يفكر بهذي الطريقة.."
لتقاطعه بسخرية:"ولكن ماهو بالكل يملك نفس شجاعتك"
قال بهدوء بعكس غيظه من ما يحصل:"أنتِ بنفسك تعرفين مصير المعارضين للإحتلال أو من تسول له نفسه يلوم الحكومة أو يشكك بها، أنتِ بنفسك كنت من ضمن اللي يعاقبون الخائنين مثلما لقبوهم.. إذاً وش منتظرة منهم؟ يجادلون لأجل حياة غيرهم ويخسرون حياتهم؟؟"

أخذت نفس بصعوبة وهي تشيح بوجهها عنه
لاتود النظر له.. لا تحب الضعف وتأمله ضعف!

ليقول بـهدوء:"أنا معك.. مستعد أبيع ظلم وطني في سبيل الحق"

لتقول بمرارة تكبح دمعها بصعوبة بالغة بعد ما قاله:"لا تنتظر مني هالتضحية يا سلام.. لأن لطالما كان وطني قبل الكل والمهم.. قبل روحي حتى!"

أومأ بتفهم حنون ليبتسم بلطف:"لا بأس، أنا ما أطالبك بشيء يا مقدم عواصف..أتركيني أحبك وهذا يكفيني.. أتركيني أحميكِ"

لم تعلق.. لاتصدقه؟ ربما
لم يضحِ أحد بمثل هذه التضحيات الكبيرة لأجلها من قبل ولكنها في آنٍ واحد لا تكذبه! هي تلتمس الصدق بين نبرات صوته الحنون.. هي حتى ترغب بالبكاء بسبب كلماته، لتهمس بصوت أجش:"بس هذا كثير.. كثير على شخص مثلي
انت تنفي نفسك من وطنك لأجلي وانت تعرف ما أقدر أعطيك نفسه! انت تعرف بأننا بمفترق طرق دائماً.. خطين متوازيين ومستحيل نلتقي بالنهاية -لتختنق بكلماتها- أنا يستحيل أرضى ينتمون أطفالي للديجور مهما بلغ حبي لك تفهمني صح؟"

كان يفهمها، وحقيقةً لم يكن يبالي
قد يموت اليوم أو بعد يومين ولن يلتقيان
إذاً.. سيحارب لأجلهما مادام به نفساً في جسده
وفي النهاية.. لتكن هي بخير وهو ليتلاشى لايهمه!

-"أفهمك وأنا أكثر من يفهمك، مايحتاج تشرحين -ليستصعب عليه الشرح بلغتها فيقول بلغته- ولكن إن وصلنا لنهاية هذا الطريق سوياً لن أسمح لكِ بالإبتعاد، سأربطك بي للأبد
لن أسمح بمثل هذا الكلام.. فقط لأصل وسأجعل الهندسة كلها تقف في صفي لأجعل الخطين يلتقيان في النهاية.. وعندئذ تباً لي إن تركتكِ تبتعدين لمتر واحد فقط"

لم تستطع التعليق.. إن تحدثت ستبكي
هي حتى لم تُخبره بأنها تحبه فأنى له كل هذه الثقة؟
أومأت بشرود ليبتسم قائلاً بثقة:"إذاً إيماءة رأسكِ هذه سأعتبرها موافقة"
كادت أن تعلق بوجه شاحب من مايحصل معهما ومن أسلوبه الذي -عاد حنون معها- لكنه قال بإدراك لما يحصل واخيراً بلغتها:"بالمناسبة وش اللي يحصل معك؟ وصلني بأنك خرجت من المركز ثائرة"
لتتشح ملامحها بالغضب من جديد وتنفض عن قلبها رثاء حبها له:"أنت ذهبت لأجل القائد الأعلى"
حرك حجر في الأرض بأقدامه ليقول بخفوت:"كان أمر ونفذت، وتعرفين بأن القائد كان بيحضر بس..."
قاطعته بغيظ:"تستغبي انت؟ تدرك تماماً بأن هذا الرجل جاء لأجل قاتل أخوه ولأجل يبيد البلد ومع ذلك فضّلت تحضر مع السرية اللي حضرت
وكان بإمكانك تبقى بالديجور وتبعد أصابع الإتهام عنك!"

ابتسم.. لأول مرة كانت غاضبة لأجله!
لم يعلق ليسمعها تزفر بعنف لتذرع المكان ذهاباً وإياباً:"كل الشكوك مُحيت، والأدلة.."
صمتت تعض شفتيها، لن تخبره بأن قائد الفريق جهاد هو من أزال كل الأدلة بالطبع! ليُدرك فحوى كلماتها وينقذها من ذلك الموقف
فهو حقاً لايهتم، لقد قتل كافراً وقاتلاً ومُغتصباً للأراضي الذي حاول الإعتداء على إمرأة وقتلها
وبرغم سوط تأنيب الضمير الذي جلده بلا رحمة إلا أن صلواته كانت تطبطب على قلبه حتى أنه صام شهرين كما أخبره أحد الأصدقاء هنا عندما سأله ليريح ضميره فحسب!
قائلاً بخفوت مرن:"لابأس، لا أحتاج أن أسمع تبريرات.. يكفيني معكِ الظاهر فأنا أفهم خافيكِ، لاتخافي علي..."

قاطعته بحنق وهي تشعر بالضعف وهذا لاتحبه إطلاقاً:"أنا ماني خايفة عليك.."
ليبتسم هازاً رأسه كمن يداهن طفلة:"عامةً
سأكون بخير، المهم أنتِ، المهم أن يُزال الظلم
فأصوات صراخ أطفال شعبكِ ونحيب نساءهم يؤرق مضجعي ويؤلمني حقاً.."

تنهدت تخفي دواخلها بصعوبة، لم يخطر ببالها أن نقاشاً سيدار بينهما وبهذه الحنية.. هي حتى بتخيلاتها لم تضع بينهما حواراً بكل هذه الرقة!

ابتعد وكأنه استعاد وعيه وتسرب الخدر من أطرافه ليحك ذقنه:"دائماً أنسى أن حديثي الطويل معكِ خطأ.. ولكن العتب على العقل قبل القلب
إذاً أيتها المقدم، ألن آخذ جواباً شافياً لكل اعترافاتي كي أبتعد مسافة مناسبة عنك؟"

لم تفهم فحوى طلبه فرفعت رأسها واخيراً لتنظر إليه، فرأته يبتسم ويشتت نظره بصعوبة عنها:"جواب ماذا؟"
اتسعت بسمته أكثر.. إنها تجاريه باللغة
إن تحدث بلغتها جارته وإن ناقشها بلغته جارته أيضاً!
إنها تفشي حبها بكل نظراتها ولغة جسدها ومع ذلك لم تشبعه رؤية كل ذلك.. يود السماع ولكنها لم تُعطه مناه!

لتبتعد خطوة للخلف بتخبط تشير بالرفض
لم يتكلم فقط بقي يحدق في خطاها وهي تبتعد بصمت شديد..


إني خيرتك فاختاري
‎ما بين الموت على صدري
‎أو فوق دفاتر أشعاري
‎اختاري الحب.. أو اللاحب
‎فجبنٌ ألا تختاري
‎لا توجد منطقةٌ وسطى
ِ‎ما بين الجنةِ والنار
‎إرمي أوراقك كاملةً
‎وسأرضى عن أي قرار
‎قولي، انفعلي، انفجري
‎لا تقفي مثل المسمار
‎لا يمكن أن أبقى أبداً
‎كالقشة تحت الأمطار
‎اختاري قدراً بين اثنين
‎وما أعنفها أقداري
‎مرهقةٌ أنت.. وخائفةٌ
‎وطويلٌ جداً.. مشواري
‎غوصي في البحر.. أو ابتعدي
‎لا بحرٌ من غير دوار
‎الحب مواجهةٌ كبرى
‎إبحارٌ ضد التيار
‎صلبٌ.. وعذابٌ.. ودموعٌ
‎ورحيلٌ بين الأقمار
‎يقتلني جبنك يا امرأةً
‎تتسلى من خلف ستار
‎إني لا أؤمن في حبٍ
‎لا يحمل نزق الثوار
‎لا يكسر كل الأسوار
‎لا يضرب مثل الإعصار
‎آهٍ.. لو حبك يبلعني
‎يقلعني.. مثل الإعصار.
‎إني خيرتك.. فاختاري
‎ما بين الموت على صدري
‎أو فوق دفاتر أشعاري
‎لا توجد منطقةٌ وسطى
‎ما بين الجنة والنارِ
‎نزار قباني-


لقد ابتعدت جداً عنه إلى أن أتت سيارة من ذاك الطريق شبه المهجور وتوقفت أمامها لتوسع خطواتها فتركب في المقعد الأمامي وسط نظرات سلام الحائرة
مع من ركبت، ولما لم تستقل سيارتها التي أتت بها!
ولكن.. لم يُعلق ولم ينتظر المعرفة، فقط بقي ينظر للغبار الذي خلفته السيارة بُبعدها عنه! لم يعلم بأنها كانت تنتظر عاصي أخاها الذي طلبت منه إيقالتها من هنا .
*
*

كانت المدارس والجامعات قد توقفت عن التعليم خوفاً مما يحصل في البلاد، لذلك كان الأمر مملاً حقاً
يقفن خلف النافذة يتأملن الغادي والرائح بلا وجهة، فقط يلقين النكات عليهم يسخرن منهم ويتضاحكن فيما بينهن
تماماً كهذه اللحظة.. رفعت شامة رأسها بضحكة صاخبة:"جاء يا أختنا جااء"

شادن التي شاركتها العبث بضحكتها الرقيقة:"اللهم صل على النبي، أختي تحولت لشخص ثاني"
لتعلق شدن بحماس مضحك:"يعني انتم تشوفون وجهها اللي احمرّ من الخجل ولا لا؟"
انفجرن ضاحكات لتحول أختهن المخيف من شخص يدّعي اللامبالاة لآخر يخجل من إظهارها
لتتلاشى ضحكاتهن عندما قالت شدن بعدم رضا:"جاء ولكن ماهو لوحده.. الخاينة معه"

التفتن كلهن في آنٍ واحد لينظرن إلى عواصف التي تمشي معه بخطوات هادئة، بغيظ عبّرت عنه شامة باستياء:"أكرهها هذي الإنسانة، بجيحة ووقحة ما قدرت أتقبلها، كيف رضى بها عاصي؟"
سخرت شدن:"وكيف مايرضى؟ ابتلى بها ابتلاء
بعد ثلاثين سنة يكتشف إن له أخت لا وبعد مقدم في جيش المحتل.. بيتقبل الموضوع ولو عزّت عليه كرامته"

تنهدت شادن وهي ترى احتقان وجه سماهر.. هي حقاً لا تحبها وكان هذا واضحاً بنزاعاتهما في كل مرة تلتقيان بها لتربت على كتفها قائلة:"شكراً على الغداء، ارجعي أكيد عاصي بينتظر استقبالك لهم، لا تتركي تعليقات خواتك تخليك تنفرين منها أكثر.. هذا عملها وهي مُلزمة فيه"

ابتسمت بسخرية لتضع الحجاب على رأسها كيفما اتفق:"صحيح، عملها تقتل أبناء شعبها وترضى لهم بالوجع والمطلوب مني أستقبلها برضا في بيتي وآكل معها على نفس طاولتي؟"

ارتبكت شادن لتمسكها بتوتر:"لا تتهورين.."

ولكن أنّى لها أن تسمعها وهي تخرج من شقتهم وتدخل شقتها على عجل، إن قلبها يغلي كمرجل
بعدما تشربّت الثورة روحها باتت تكره كل شيء يؤذي وطنها حتى لو كان مقدم الجيش الديجوري هي أخت زوجها الذي تعشقه.. لايهمها!
*
*
التفت لها وهو يراها تصعد درجات السلم بشرود
ليتوقف فجأة ممسكاً بكتفها:"عواصف"
جفلت لوهلة ولكنها نظرت له بعدما استعادت وعيها:"علامك؟"
تنهد بضيق:"علامك انتِ؟ من أخذتك من قدام المسجد وانتِ سارحة وبجنبي جسد بليّا عقل وروح، أعرف أن خوفك على سكون أربكك ويمكن تحملين نفسك ذنب القصف اللي حصل لكن ريحي لي بالك وأنا أخوك.. اللي حصل ماكان ذنبك وهي بخير.. كلمتها بنفسي! ويوسف أكد لي"

هي أيضاً كلمتها، ولا.. لا تلوم نفسها بمسألة القصف فهو شيء كان خارج إرادتها ولم تعلم به حتى
هي مشتتة بسبب ماحصل مع سلام.. تباً
لقد غزى كل أماكنها الحساسة.. عقلها وقلبها
فباتت لا تفكر سوى به! لقد نجح وبعد عام من الغياب أن يستولي على جوارحها وبجدارة هذه المرة!

لم تتحدث فعقد حاجبيه مفسراً صمتها بضيق:"يمكن إنك ترفضين الدخول معي لبيتي؟"
ارتبكت ولكنها سرعان ما حاولت النفي:"لا طبعاً"
ولكن ملامحها لم تقل هذا! ليختلط ضيقه بغضبه:"ياويلك تفكرين بإنك ثقيلة علي، عواصف أنا مستعد أقطع لك كفي دون تردد ولا أشوف ضيقك أو ترددك من الدخول لبيتي هذا بيت أخوكِ.. يعني بيتك أنتِ.. وأعرف سماهر تضغط عليكِ كثير بسبب عملك بس هي يخفاها اللي بالقلوب.. تخفاها حتى أفعالي وأنا بكلي تجهلني فما بالك بأنتِ؟"

تنهدت وهزت رأسها على مضض، هي حقاً تكره تصرفات سماهر معها وتبغض نظرات أخواتها بحق
فهن لم يتركن فرصة إلا وعبّرن عن كرههن لها
والحقيقة أنها لا تلومهن.. إنها بنظرهن تستحق!
وقد اعتادت ما يحصل معها!

دخلا لتستقبلهما رائحة الطعام المحترق ليتجعد وجه عاصي باستياء ويهم بالذهاب للمطبخ:"سماهر احترق الأك.."

سكت عندما رآها تقف بجانب الفرن، تنظر للأكل وهو يحترق بنظرات باردة ليرتفع حاجبه بعدم فهم:"مجنونة أنتِ؟ الأكل يحترق طفي النار"

ابتسمت بهدوء لتزيد النار أكثر فتتجعد ملامح وجهه غيظاً من تصرفها ويقترب ليطفئ النار بنفسه ولكن.. بعد فوات الأوان فقد احترق الأكل كله!

شعر بالحنق فزجرها بغيظ:"غبية انتِ؟ كيف تتركينه يحترق وأنتِ قدامه؟ والغداء؟ عواصف معي.."

ليعقد حاجبيه ويتوقف عند ذكر اسم عواصف مدركاً سبب تصرفها، لتؤكد إدراكه قائلة ببرود:"لا تظن إني بسمح بكل مرة لها بالأكل معي على نفس الطاولة لأنها دخلت بيتي! بعمري ما برضى بالأكل مع خاينة ولو كانت أختك"

همس بفحيح غاضب:"لا تتعدين حدودك"
لتقول بعنفوان مستاء:"أنت اللي لا تتعداها!
لاتظن لأنها أختك برضى بوجودها ببيتي هنا
هي خاينة لوطنها وقاتلة لشعبي، أي حمية عندك لوطنك لأجل تجلس بجنبها وعلى صدرها علم المحتل؟ ما تملك كرامة يارجل؟؟"

لتشهق عندما قبض على ذراعها حتى كاد أن يهشمها يهزها بغضب بعدما تمادت بالكلمات:"كم مرة قلت لك لا تتعدين حدودكِ معي كم؟ ليه ما تلتزمين بالصمت بالمواقف اللي تتطلب منك؟ ليه تحبين تضغطين على وريدي دائماً؟"

برغم وجعها قالت بقهر:"لأنك تستحق، كيف ترضى بدخولها؟ بعد ثلاثين سنة تجيك خاينة عاشت في بلد المحتل ومقدم بجيشهم وترضى بكل بساطة تظلها بظلك؟؟ أنا ماني غبية ولا تظن إني برضى بدخولها لبيتي.."
ليقطع حديثها بصرامة:"هذا ماهو بيتك يا سماهر وبس، هذا بيتي بعد أنا وبيتها هي.. لها نصيب فيه مثلك.. ولا يحق لك ولو بمقدار ذرة الكلام عنها.. لاتتدخلين بعملها
لا تتدخلين بأي شيء يخصها.. خاينة كانت أو لا هذا شيء مايخصك، اتركِي عنك الغوص بكل لجة.. عواصف أختي ووجب عليك تحترمينها وهذا ماهو خيار.. والآن سوي لنا غداء من جديد"

كانت ترمقه بصدمة حتى دفعها بغيظ فارتطمت بالثلاجة -التي لا تشتغل نتيجة انقطاع الكهرباء طوال اليوم وعدم تشغيلها إلا ساعات معدودة-
:"لا"

قالتها بحنق ووجهها يتورد غضباً، فيكاد أن يزجرها لولا تدخل عواصف غير المبالي بكلمات سماهر:"عاصي يكفي..."

غرق بإحراجه.. رباه لقد استمعت لجنون زوجته
فماذا ستقول؟ أن أخوها لا يستطيع كبح جنون امرأته؟ ولكن سماهر لا يبدو عليها الحرج بتاتاً فقد وقفت بتحفز بجانب عاصي، لتبتسم عواصف برغم كل شي قائلة بهدوء:"لابأس، أنا ماني جوعانة"

لو كانت عواصف قبل سنة.. لكانت جلست على طاولة المطبخ واستمتعت وهي ترى سماهر تطبخ مجبرة لأجلها، ولكن عواصف هذه لم تعد تهتم أبداً.. خاصةً في هذه اللحظة؟ قطعاً لا تهتم
لتقول سماهر بسخرية:"وكأني بطبخ مثلاً"

اتسعت عينا عواصف عندما زمجر عاصي بغضب:"قسماً بالله العظيم إنك لتطبخين لها أو ما بتبقين هنا لحظة وحدة"

لتتسع أكثر من ردة فعل سماهر التي شابهت غضبه:"وأنا ماني باقية لحظة وحدة أصلاً"

قرنت قولها بفعلها وهي تسحب حجابها من على المشجب وتتخطى وقوف عواصف المصعوق وتخرج مغلقة الباب خلفها بكل عنف، وسط نظرات عاصي الحارقة، شتمها بغضب:"غبية"

كبحت عواصف ضحكتها بصعوبة تهز رأسها بعدم تصديق للموقف الذي دار أمامها، لتنظر الى عاصي الذي قرر الخروج من خلفها بعينيه المشتعلتان غضباً، لم تعرف حقاً ماذا سيحصل لو اجتمعا، كانت ستوقفه ولكن صوت التلفاز الذي يصدح بالشقة تكفل بذلك

من بين غُمرة غضبه التي تحرق ما حوله، مجرد حضور اسم طوفان جعل كل شيء يخمد، التفت بجبين متغضن ينظر لعواصف بعدم فهم:"سمعتِ اسم طوفان؟"

هزت رأسها بتأكيد ليتخطيا المطبخ ويدخلا الصالة على عجل، ليتوقفا بأعين متسعة وهما يريان صورة يوسف بلباس المقاومة
وهو بجلس على أحد المدرعات العسكرية كمن كان يتبادل الأحاديث مع شخص آخر، ليمسك عاصي رأسه بعدم استيعاب:"من الحقير اللي صوّره؟"

لم تجب عليه فقط استمعت لما يقوله المذيع الخاص بقناة الإحتلال:"صدر قرار بالقبض على المسمى -القائد طوفان- بتهمة الإرهاب وإنشاء أحزاب سياسية مخالفة للنظام ومحاولة الإخلال بأمن أسدام وما حولها من المناطق، هذا وقد أعرب القائد الأعلى للجيش في أسدام عن وضع مكافأة مالية كبيرة لمن يخبر عن مكانه أو يدلي بأي معلومات تفيد بالقبض عليه"

نظرت له بتشوش لتقول:"أعتقد بأنه نفس الشخص اللي أفشى خبر الإنطلاق لصبابة ونفسه اللي أعطاهم إحداثيات المخيم الطبي"

مسح عاصي على وجهه ليقول بإرهاق:" تعبنا نحارب المحتل والمواطن، متى على الله يصير هالشعب أمين على وطنه؟ لأجل كم ورقة نقدية باع أرضه وشعبه؟"

ابتسمت بأسى على هذا الحال، لتلاحظ قلق عاصي العنيف على يوسف والذي جعله حقاً ينسى غضبه، لطالما كانت تأسرها علاقتهما بالرغم من أنهما لم يعرفا أن بينهما رابط بالدم إلا قبل أشهر!

صدح صوت رسالة لجهازه، فسحبه على عجل
لتتشتت ملامح القلق وتحل محلها أخرى ضاحكة بهدوء، اقتربت لتقرأ الرسالة فوجدتها من -يـوسف- (انفتحت لصاحبك أبواب الشهرة، بارك له)
( اللهم لا تجعلنا من المشهورين في الأرض مجهولين في السماء)

ضحكت بخفوت مُدركة أن يوسف علِم أن عاصي لابد أنه سيقلق، لذلك حاول إضفاء بعض المرح على جو القلق، وأحسن صنيعاً فضحكة عاصي كفيلة بإنجازه!

ليُرسل له تحت أنظار عواصف (بتكون بخير؟)
فتصله الرسالة السريعة وكأنما كان ينتظره (الله معي، من هم لأجل يقدرون علي؟ لا تخاف أنا بكون بخير، تشهيرهم بالقائد مجرد خطوة لزعزعة أمن الجيش الشعبي ولكنها خطوة فاشلة، رأس مالهم لقبي الجهادي وصورة ماتبيّن هويتي ولكن اللي يجهلونه إنهم أعطونا غريمنا، مدّوا لنا برقبة الخاين، وهشام رايح له هاللحظة، أيضاً جهاد كان قلِق في البداية ولكن بعدما درس الموضوع أيقن أن مابيدهم شيء، الخطط مازالت كما هي ومن بعد أرماء وتبور وصبابة، الحصن!)

تنهد يمسح على وجهه، يكفيهم عشرة أشهر من الإحتراق خوفاً على عمّار وعندما أتى سينتقل الخوف على يوسف! لن يحتملوا!

ليباغته صوت عواصف الضاحك:"الحمدلله بأنها أجهزة تحول دون مراقبتهم لها ولا كان مخططاتكم بكل مكان، هالرجل كيف صار قائد وهو يفضح كل شيء لك؟"

ضحك من تعليقها وقال بعد برهة بجدية:" يوسف يعرف متى يتكلم، ومتى يخبي ظنك بأنه يحكي كل شيء؟ هالرجل مكعب ألغاز كلما قلت فهمته يظهر لي شكل جديد له! لو ما اكتشفت وركبت الصورة بنفسي عن علاقة حازم الغرابي بأبو... بالوزير السابق عمران لكان ما تكلم! يقول فكرة إننا عيال عم بعد كل هالسنين ما تروق له، الكلب!"
ابتسمت من طريقة نطقه لآخر كلمة ببؤس لتتنهد:"الله يلوم اللي يلومه، كل اللي حصل مفجع وبرغم مرور سنة ماقدرنا نستقر! احنا مختلين من اللحظة اللي عرفنا فيها، ماقدرنا نزور عمران على الرغم من معرفتنا بكل شيء"

ارتفع طرف ثغره بسخرية ليهمس بمرارة:"طبعاً ما بزوره! بعدما كنت أسخر منه بأنه خاين وأنعته بأبشع الألفاظ أكتشف بأني ولد هالخاين، أي ثوري يقبل هالعلاقة؟"

لكنه لم يبح، فقد رأى الإرهاق يطفو على ملامحها الشاحبة ليمسك طرف حجابها بغية إزاحته لكنها انتفضت عائدة للخلف ليزداد شحوبها، ارتبك من ردة فعلها المبالغ بها ليقول:"كنت بساعدك بس"
ابتسمت بربكة لتعود خطوة أخرى للخلف:"لابأس"

أشار برأسه بهدوء:"روحي لغرفتكم ريّحي نفسك وبدلي هالعباة بشيء مريح، الليلة بتنامين عندي"

كادت أن ترفض، ولكن نظراته الصارمة وكلمته القاطعة أجبرتها على التنهد والإيماء بقبول
اتجهت للغرفة التي خصصها لها هي وسكون برغم رفض الأخيرة البقاء في شقته، كان قد وضع بها ملابس اشتراها بنفسه وأخرى وضعنها هم:"سببت مشكلة بينك وبينها؟"

فهم مقصدها ليشير بلا مبالاة بعدما نضح الحنق في ملامحه من جديد:"اتركيها عنك، متى ما ردّ لها عقلها بتفهم إن تعديها الحدود بيوردها للهلاك"

كتمت تنهيدة وأخذت تمشي لغرفتها بلا رد، حسناً يبدو بأنهما سيحلان مسائلهما دون تدخلها
فقط لتقلق بشأن معدتها الخاوية، من سيملأها؟
تباً لعصبيتكِ وعنادكِ سماهر، ماذا سيحدث لو تركتِ الطعام وذهبتِ دون حرقه؟
*
*
قبل دقائق
كانت قد دخلت شقة أخواتها ببعض العنف مما جعلهن يقفن متأهبات لوصلة غضب، بدأت ولم تنتهِ إلا بعد بضع دقائق لتختمها بـ:"مجنون لو فكر إني برضى أطبخ لذيك الخاينة، يقول ايش! إذا ما طبخت لها ما ببقى معه ثانية واحدة، هههَ ومن اللي يبي يبقى مع واحد معتوه مثله؟ يشبع بأخته ويطبخ لها لو يبي يكون حنون معها.. غبي صدق"

لتدخل لغرفة الضيوف بشقة أخواتها وقبل أن تضرب الباب بقوة وسط نظراتهن الحائرة قالت شادن بعجلة:"وماراح تطبخين لهم؟"
لتنفث نفس كما النار:"طبعاً لا، أنا مجنونة لو فكرت أسمع كلامه وأطبخ لها، ولو بيزعل وبيبقى على أيمانه يدق رأسه بأحد جدران شقته ويشبع بها"
ثم أغلقت الباب بكل قوة في وجوههن
هزت شامة رأسها بأسى:"مجنونة"
لتوافقها شدن بضحكة:"بدأت أرحم صهرنا"

لتجلس شادن متنهدة:"فقط اتركوها تريح بالها وتفكر صح، هي بس معصبة ووقت تهدأ تستوعب اللي صاير"

جلست شدن بملل على الأريكة العنابية التي اختارها عاصي لهن قائلة:"أنا ما أعرف كيف بيتفقون طوال حياتهم؟ بيظهر الشيب قبل أوانه"
لتبتسم شامة ابتسامة غريبة على ثغرها:"يمكن الحب، هو اللي بيخليهم يتخطون تناقض شخصياتهم!"

التفتت لها شدن بحاجب مرتفع:"وانتِ وش عرفك عن الحب وأفعاله؟"
ابتسمت بربكة ترفع كتفيها عشوائياً:"روايات وكذا، وين بنلقى حب بوسط الحرب واحنا محبوسين بالشقة طوال اليوم؟ ظنك بحب كرسي المطبخ أو الثلاجة، أو يمكن أتعانق أنا والفرن"
قلبت شدن عينيها بملل:"وهذي كل أحبابها بالمطبخ، خلاص عرفنا أي كرشة تملكين"

ضحكت شامة تمسح على بطنها الضامر بمشاكسة لتبتسم شادن لتصرفاتهما وعيناها على باب غرفة الضيوف الذي انفتح وخرجت منه سماهر وقد هدأت نسبياً ليقفن جميعهن ينظرن إليها بتوتر

لم تُعرهن أي نظرة فقط اتجهت للمطبخ! ليسمعن بعدها أصوات الصحون والملاعق وكأنها تتحارب مع بعضها البعض
ضحكت شادن برقتها المعهودة لتقول:"ماتقوى على زعله"
لتبتسم شامة ضاحكة:"ضاعت هيبة العصبية
عزتي للباب عانى بلا أي فائدة"
لتكمل شدن بتنهيدة ساخرة:"حتى لو طاح بالنهاية هو بيصلحه! المشكلة ضاعت الهيبة بعد كل هالخصام تطبخ له"

أرخت شادن رأسها على الأريكة ومازالت تضحك
ليسمعن صوت ارتطام كبير في المطبخ أتبعها صوت صرخة سماهر:"اسكتي أنتِ وياها"
لتتحول ضحكاتهن الصاخبة لأخرى مكتومة والخلفية الصوتية حرب بين الملاعق وسماهر
*
*
خرج من الغرفة وقد بدل ملابسه لأخرى مريحة ينظر لغرفة أخواته المغلقة ليتنهد، حالة عواصف لاتعجبه بتاتاً إنها تتأذى بسبب مهمتها وهذا يؤذيه فعلاً، ولايعلم كيف يحميها، فإن حماها آذى القسط
وإن حمى القسط آذاها هي؟ ماهذه المعضلة يا إلهي!

قرر الذهاب للمطبخ وتفقد مايحوي بما أن زوجته قد غادرت غاضبة، وهو حقاً لم يعد غاضباً منها
يتفهم شعورها حقيقةً، فقد كان يتصرف مثلها عندما كان يجهل حقيقة هوية عواصف!

عندما أخرج فتح أحد الأدراج رأى كيس من الفواكه المشكلة كان قد اشتراه مساء الأمس ليخرجه فتستقبله بسمة عواصف :"يبدو بأن الغداء عليك؟"

ضحك بخفوت ليؤمى بنفي:"لا -وبثقة- الغداء راح يجي جاهز"
لم تكن واثقة مثله، فخروج سماهر بذلك العنفوان كله جعل ثقتها تضمحل:"راح تطلبه من برا؟"
ازدادت ضحكته:"طبعاً لا، وهل تتوقعين فيه مطاعم للآن توصل في ظل هذي الظروف؟ صعبة"
عقدت حاجبيها بتساؤل:"يعني..."
لتبتلع بقية كلماتها عندما صدح صوت ضربات حادة على الباب، ليغرق بضحكاته
وكأنه سعيد.. سعيد فعلاً والحقيقة لا تعلم سبب سعادته لسماعه بابه يكاد أن يُكسر؟؟

مشت خلفه بفضول لترى الطارق، ولكن عندما فتح الباب لم تر أحداً ولكنها انتبهت لنظرات عاصي التي وجهها للأسفل لترى القدر المغطى وملاحظة واضحة فوقه:"لا تحلف من جديد، لأجل ما أكلفك تدفع كل فلوسك كفارة"

كان يعلم أنها تسترق النظر له عبر فتحة الباب
ليبقى بملامح باردة لا تنم عن شيء، انحنى يلتقط القدر قائلاً بعبث محبب:"عواصف يا أختي، تعالي جاء الغداء اللي يحبه قلبك"

ضربت باب شقة أخواتها بغيظ تشتم لامبالاته
لقد خافت حقاً من البعد عنه، وهو لم يهتم حقاً بزعلها منه! كل مايهمه معدة تلك الخائنة
سحقاً له!

ليغلق الباب من خلفه مبتسمًا وهو يرى عواصف عاقدة ساعديها لصدرها تنظر له بريبة، ليقول بهدوء:"هي إمرأة حنون، ولكنها هالفترة وطنية بشكل غريب.. تغاضي"

ضحكت من طريقة دفاعه الطفولية عنها فأومأت قائلة:"لابأس لو كانت عاملتني بغير هالطريقة لما سامحتها، بالنهاية أعرف السبب فلا تخاف
انت لا توجعها لأجلي، أنت تعرف بإنها تنازلت برغم كل شيء صحيح؟"

لم يرد عليها فقط وضع القدر على الطاولة لتتكفل هي بوضع الصحون والملاعق ووضع قارورة الماء بجانب الكوب و التفت لهاتفه العادي يكتب وكأنما يكتب شيء يهمه كثيراً
فقط وببساطة لم يستطع تجاهل تنازلها رغم معرفته بشخصيتها ليكتب (شكراً)
وكأنها كانت تنتظره لترد بعد لحظات برسالة مقتضبة (على وش بالضبط؟)
(شكراً لأنك ما خيبتِ ظني فيك)
(بس؟)
ابتسم بخفوت، تلك المخادعة إنها تتلهف حقاً لكلمات الحب منه وهو لاينطق بها بتاتاً
ليس لأنه لا يحبها فهذا مفروغ منه، إنما لا يستطيع! لايعلم السبب ولكنه فقط لا يستطيع
(بس)
(إنسان جاف فعلاً، روح تسمم مع أختك بحرق أعصابي)
ضحك من ردها ليكتب (تمام، بالمناسبة قد قلت لك.. أحب الأكل اللي تطبخينه بيدينك)
تعالت ضحكاته عندما كتبت بسخرية (ليه ظنك أطبخه بخصلات شعري؟ طبعاً أطبخه بيديني)
ليهمس ساخراً:"وبعدها تقول بإني جاف! هذا وأنا مدحت طبخها"
كاد أن يغلق هاتفه ليتجه لعواصف لكنها أرسلت: (لا تصرخ علي مرة ثانية قدام أحد)
(وأنتِ لا تتصرفين بجنون، حالات جنونك تخصني وحدي لذلك لا تظهرينها قدام أحد)
(قصدك بأني مجنونة؟)
(بالضبط، ولكن مجنونتي أنا)
ليكتب رسالة أخرى بعد تردد (آسف يا وتين القلب)
بعد لحظات طويلة من صمتها على رسالته كتبت
(أُحِبُكَ)

ظل محدقاً بآخر رسالة أرسلتها للحظات طويلة
بملامح هادئة إنما بقلب يتراقص من فرط الإنفعال
كيف لكلمة بسيطة، من أربع حروف أن تفعل الأفاعيل بشخص مثله؟
هو من عُرف بقسوته في الحرب، بفرط عنفوانه
بعصيانه العنيف وتمرده ومهـابته
يرقّ قلبه لكلمة بسيطة مثل هذه؟ ألأنها هي من كتبتها؟ وجد نفسه لاشعورياً يكتب (وأنا بعد)
ليغلق هاتفه بلا إنتظار لردها وبسمة خافتة تتراقص على ثغره، بالطبع انتبه لنظرات عواصف المختلسة له وهي تكتم ضحكتها ولكنه لم يُحرج ويا للغرابة!
بعد لحظات اهتز هاتفه ليفتحه فيجد رسالة منها معاتبة (أنت أكبر عاق عاطفياً)
ليرد باستغراب (أفا! ليه)
(كلما قلت أحبك، كان ردك وأنا بعد)

اكتفى ببسمة هادئة دون رد، بالطبع السيدة لا تعلم كم يكلفه كتابة هذا الرد وتراه عاقاً عاطفياً!

لينتبه لصوت الملعقة الحاد وبسمة ماكرة تداعب ثغر من تجلس أمامه:"نحن هنا! لو كنت أعرف إن هالغضب بيورد كل هالضحكات كان ما أكلت قلبي من لوم نفسي"

رفع كتفيه بعشوائية ليبدأ بالأكل بنهم:"لابأس حنا كذا لابد تتعودين علينا، ننفجر سوا ونوجع بعض لكن نعرف مالنا ضماد غير بعضنا"

ارتفع حاجبها بإنبهار لما يقوله هامسة بضحكة:"تعالي بس يا سكون وشوفي أخوكِ كيف تحول لشاعر مخضرم بسبب زوجته النارية!"
*
*
كان قد توقف أمام مختبر التحاليل، ينظر للورقة التي بين يديه بنظرات تنضح حيرة
يتذكر تماماً حالة ليالي وهي تمد له شعرتان لا يعلم لمن تعود، فقط يد مرتجفة وعينان مليئة بالدمع وصوت يرتعش وهي تهمس:"أرجوك ساعدني"
وهنا لم يفتح مجال لتساؤلاته في العبور، لقد كانت تبكي وهذا ألغى كل شيء وبقي فقط مسألة إبعاد الوجع عن روحها
لذلك لم يسأل فقط لبّى.. وهاهو يقف أمام المختبر في مستشفى صبابة بيده ورقة تحليل لـ dna لا يعلم من صاحبهما ولكن لا يهم.. حقاً لا يهم مادامت ستكون بخير وستريحها هذه الورقة
لتكن بخير فحسب، فالدنيا بعينيه مختنقة
منذ لحظة بكاءها حتى هذه اللحظة!

التفت لوقوف هشام المستنكر أمامه:"وش تسوي هنا؟ لي ساعة أدور عليك! كل اللي قلته استدعِ يوسف لأجل عمّار!"

أخفى الورقة في جيبه الخلفي ليتعلق بعنق هشام ويجذبه للأسفل بمزاح خشن:"اشتقت لي يا مغرور صح؟"
اختنق من ذراعيه الملتفة فدفعه بغلاظة ليقول:"مجنون انت، وأنا مبتلي والله"

ضحك ليمشي معه يشاكسه وهشام يكبح ضحكته بصعوبة ويمُثل الرزانة معه.. لكن حقاً أين ستتواجد الرزانة وصاحبه هذا المختل؟

توقفا مبتسمين.. يتأملان يوسف وهو يوسع خطواته وكأنما يود طيّ الأرض من تحت قدميه ثم برغم الهلع الذي ارتسم على وجه عمّار من فكرة عناق يوسف إلا أن الأخير لم يبال وهو يحتضنه بكل قوة، ليتشنج عمّار ويقف كالتمثال دون أن يبادله.. أخذ يوسف يمسح على رأسه من الخلف بحنية أخ ويهمس بمحبة:"الحمدلله على السلامة يارجل.. وحشتنا!"

خفّ تشنجه قليلاً وأخذ يبعد يوسف بلطف ليبتسم له:"سمعت بأنك دمرت كل سجون الإرهابيين في أرماء بسببي"
ضحك يوسف وهز رأسه بصدق:"ومستعد أهدّها بكل القسط لأجلك، تظن بأنك عادي؟"
نظر له بنظراته الخاوية وبرغم أنه مبتسماً لكن البسمة لم تصل لعينيه ليقول يوسف بهدوء:"ولكن يبدو بأننا تأخرنا"

أشاح عمّار بعينيه يبتلع طعماً مراً بحلقه ليلتفت فجأة يبحث عنها بعينيه فمنذ حضوره لم يرها
ولكنها لم تكن موجودة، ارتبك وبرغم أن الثلاثي اجتمعوا لكنهم لم يفهموا سبب مايحصل معه
ليهم هشام بالسؤال:"وش صاير لك؟"
قال عمّار بتوتر:"مرجان مختفية، وينها..؟"
قاطعه جلال بعدم فهم:"جات مع.."
ليلتفتوا لنبرة يوسف المستنكرة:"كانت معك!"
نظروا له.. حقاً كان الموضوع مربكاً فلقد كانت مختفية منذ الانفجار، ولقد بحثوا عنها في كل أرجاء أسدام ولكن لا جدوى!
هز رأسه ليخبرهم بما أخبرته، فيتنهد يوسف بينما جلال يضحك:"عاصي الغبي، كانت قدامه طوال الوقت وما انتبه"
ليعيد عمّار الإنتباه لمسألة اختفاءها، ليقول هشام بهدوء:"دخلت مع قرطبة قبل دخولك"

لم ينتبه حقاً، فعلاً لم ينتبه وهذا أوجعه وبشدة خاصةً بحالتها المرهقة تلك، ليعود فينظر لجلال الذي يبتسم له بخبث ليسأله عمار:"علامك تناظر كذا؟"
فيقلب عينيه لينظر لبسمة هشام المشابهه، وأخرى ضاحكة تعلو ثغر يوسف فيرفع كفيه علامة الإستسلام عندها انقض الإثنين عليه وهم يطيحان به أرضاً ويضربانه بضحكات عالية وسط صدمته، تباً لقد نسى أفعالهم الصبيانية
ولكن صوت آهاته التي عجز عن كتمها جعلتهما يتوقفان بربكة فيبتعدا عنه وسط نظرة يوسف الحائرة لجلوس عمّار المتألم، دنى منه ليرفع قميصه لتجحظ عيناه بجنون ويبتعد خطوة للخلف غير مصدق.. وعندما رفع عمار كفه يمسح زخات العرق التي تجمعت بجبهته إثر الألم شهق جـلال بصدمة ووقف يمسك رأسه بيديه:"يا لطيف يارب"

تنهد عمّار بإرهاق لينظر لهشام الذي يرمقه بنظرات متألمة تكبح الدمع من فرط الوجع بصعوبة، بينما اشتدت ملامح يوسف بشكل عنيف وكأنه ينوي قتلاً لأحد، ليقف بصعوبة فيساعدونه على عجل:"لابأس، ماكانوا بيتركوني بملاهي ألعاب وأنا وطني صحيح؟"
لم يعلقوا ليبتسم بصعوبة:"كله فدى القسط، لا تخافون بكون بخير"
لا.. لن يكون بخير أبداً بعد كل ماكان!
ليبتعد عن أيديهم التي تمسكه قائلاً:"عاصي وين؟"
لم يستطع يوسف أن يتحدث، فالنار الشعواء بداخله مخيفة ليتكفل هشام بالرد:"عاد لأسدام، لأجل أهله ولأجل المهمة الجاية"

أومأ بلا رد لينظر لتأثرهم الشديد بحاله،
ابتسم بود ليقول بهدوء مرهق:"بكون بخير
لا تناظروني بهالشفقة يا أغبياء"

تنهد هشام بينما جلال أشار له بابتسامة عابثة
قد تغير مزاجهم العكر، لينحنيا فيلتقطاه فجأة على كتفيهما وسط دهشته، وبسمة بدأت تُرسم على ثغر يوسف وهو يراقبهم.. لتتسع بسمة عمّار عندما بدؤوا يتمايلون به وهم يصرخون كالمعتاد، حقاً بات الصراخ عندهم احتفال!
لم يهتموا للتجمهر الذي حدث نتيجة فرحتهم الواضحة، ليرفع يوسف يده بضحكة يلحن السلام الجمهوري على أنغام رقصتهم الشعبية
يرفع قدميه ويدك بها الأرض والآخران يفعلان مثله وسط ضحكات عمّار الهادئة:"لو رميتوني وسط جنونكم ياويلكم"
ليصرخ جلال من بين حماسه رافعاً له أكثر:"بالعين والله بالعين"
فيضحك هشام ويبتسم يوسف.. يحبهم
يحب طريقة مواساتهم، يحب تحويلهم للأسى إلى ضحكاتٍ من فرح!
وعندما رأى سكون قد أتت بسبب أصواتهم الصاخبة و تقف بين المتجمهرين بوجه متورد من أفعاله بها قبل دقائق حتى ازدادت بسمته
وبرغم الصخب لم يسكتهم أحد، لقد كانت شالاتهم تحيط وجوههم، لقد كانوا يعلمون أنهم من الجيش الشعبي
وهنا الجيش الشعبي.. له مكانته العظيمة
أليسوا هم من يدفعوا أعمارهم فداءً لتراب هذا الوطن؟

خرجت واخيراً بعدما قطبت جرح ذراعها بسبب خنجر الأمير لتراه يرفع يديه ذات الأربع أصابع
يصرخ مع أصدقاءه بضحكات، فتتجمع العبرات بحلقها.. رباه ليكن بخير.. فقط ليكن بخير


(لك يا قسط الجوى كل انتمائي والوريد​
ولحماكِ سأنتفض ولو كُبلت بالحديد)​



*
*
عاد لأرماء، لم يستطع الإبتعاد أكثر
أسبوع كان كافياً لأن يتفشى الشوق في أجزاء روحه
ألأنه اشتاق لإبنته؟ أم ماذا.. بات حقاً لا يعلم
مذ ظهرت ومشاعره كلها قد تغيرت
وكأنما سنة البعد لم تكن، وكأنها لم تخُن
استعرّ حبها من جديد بروحه وكالنار في الأرض الهشيم أحرقت كل غضبه
هل هو تأثير رؤية عمّار ومرجان سوياً بعدما كانا؟
أو بسمات يوسف المسروقة من وجع زمانه سببها كانت تواجده بالقرب من سكون؟
أهي رؤية المحبين ما عثت به فساداً أم هي
لم تخرج مطلقاً من أضلع صدره! إنما فقط غضبه منها استلّ ستاراً على مكان تواجدها!

بات لا يعلم حقاً.. وجود إبنة له لم يعلم بتواجدها إلا بعد سنة يغضبه منها؟ أم من نفسه! هو حقاً لم يسأل عنها، إذاً لا يحق له بالغضب بتاتاً، إذاً هل سماعه للوجع الذي عانته لسنة دونه هو ما أرهق روحه؟ أم نبرة صوتها وهي تشكيه لليالي؟ أم معرفته بأنها عانت بمقدار ما عانى أو أكثر؟ لايعلم
هو فقط يشعر بحشرجة في صدره وكأنما قلبه يبكي، تماماً كبكاؤها قبل أيام

إن له قلباً يتلوى وجعاً، بين خيانة قتلت روحه
وبين قلب مازال يقاتل لأجلها وبات حقاً مُتعباً من كل شيء.

أراح رأسه على عجلة القيادة مغمضاً عيناه بإرهاق، تعب من السباحة عكس التيار
سنة يكذب على نفسه بنسيانها لتأتي فتهدم كل ما بناه ليتخطاه لم تأتِ هي فحسب، لقد أتت ومعها طفلة بعينان كالمحيط وهو الظمآن، أنّى له أن يصبر ولا يروي ظمأه!

ارتجف قلبه وهو يرى الباب يُفتح لتشتد رجفته عندما خرجت وبحضنها أفنان، راقبها بعينين ترتعشان وهي تتخطى سيارته وضحكات أفنان تعلو ثغرها يبدو بأنها تُضحِكها، يبتسم بلا وعي لضحكاتها ولم يشعر إلا وهو يغلق محرك سيارته ويخرج يمشي خلفهما بصمت مُميت
يراقب خطواتها فحسب، تُرى أين ستذهب
هذه المخبولة! ستذهب في ظل الظروف الراهنة والقصف الجائر

يراها تتوقف تفتح حقيبتها بصعوبة بسبب حركة أفنان الكثيفة، يشفق عليها يودّ لو يحملها شوقاً ورحمة لأمها ولكنه يعلم موقفها لذلك بقي يراقبها فحسب.

أخرجت قطعة من النقود ليعقد حاجبيه، ماذا ستشتري؟ يبتسم ضاحكاً وهو يرى رجل كبير في السن يقف في مكان لم ينتبه له يُمسك بيده بالونات معبأة بغاز الهيليوم، يضحك بمرارة على الموقف
بالونات بها كل الحياة في مكان لا يملك من الحياة شيء! يراها تقترب ترفع أفنان لتختار واحدة لاشعورياً ينطق بفرحة:"أزرق يا أفنان إختاري أزرق يا بابا"
يضحك بسعادة وهو يراها تقفز وتحتضن الزرقاء بكل قوة فتعطي البائع الورقة النقدية وتأخذ خيط البالون لتلتفت للحظات بشكل أربكه
نوى أن يتقدم يرى مابها ولكنها سبقته وهي تضع أفنان أرضاً وترفع الخيط وهي تربطه بكفها الأيمن فهي لم تستطع وهي بأحضانها
تتسع بسمته الحنونة، متأملاً إياها تحملها من جديد وتتحرك في اتجاه آخر، اضطرّ أن يخرج من مكانه ليرى وجهتها الجديدة خاصةً وأن أفنان بدأت بالبكاء ويبدو بأنها هذه المرة تؤنبها

حسناً، غيرت الوجهة وعادت من جديد للجهة الأخرى ويبدو بأن ذلك نال استحسان الصغيرة التي بدأت بالضحك من جديد، رفع رأسه ينظر من خلف بعض الركام -سابقاً كان منزلاً لأحد القسطيين- ليراها تتوقف أمام عجلة بائع متجول يبيع حلوى، لتأخذ منه قطعات صغيرة في علبة وتمدها لأفنان التي أخذتها وصوت ضحكاتها يتعالى

تلك الشَّيطانة الصغيرة، ابتسم بمحبة لها، ولكن انحسرت البسمة عندما أخذت تتوغل أكثر في الشارع المؤدي للسوق الشعبي، ضم شفتيه لبعضهما ببعض الضيق فالمجانين فقط من يتجهون لمكان تجمع كبير كالسوق الشعبي -الذي قُصف لمرتين خلال سنة-

يمشي خلفها بصمته المعهود، يراقبها وهي تشتري قطع خضراوات وتمد بالنقود للرجل
تمسك الكيس بصعوبة بسبب حركة الصغيرة الكثيرة، نقابها كان يخفي حتى عيناها لذلك لا يعلم شعورها
تتسع عيناه بصدمة وهو يرى الحشد الشبابي الذي يتظاهر مرُوراً بالسوق الشعبي، وتلك الحمقاء مازالت تتقاتل مع كيس الخضراوات
همس بغيظ:"اتركيه وامشي يا غبية راح يدهسونك لأجل خيار وكوسة"

ولكنها لم تكن تسمعه فبكاء أفنان الغريب أربَكها ولم تستطع إدخال الكيس بيدها وتودّ إغلاق حقيبتها كي لاتسقط نقودها ولكن صوت أفنان لم يسعفها لتقول بضيق:"خلاص ياماما، وش صاير معك ليه كل هالبكي"
لتبكي الصغيرة أكثر وهي تتخبّط بين ذراعيها، فتسقط الحقيبة يليها الكيس الذي تناثر كل مابه، تكبح دمعها بصعوبة والقهر يتوغل بداخلها
تكاد أن تضرب الصغيرة من حنقها لكنها لم تستطع، فتهم للإنحاء ومحاولة إلتقاط حقيبتها وجمع الخضروات، ولكن اليَد العنيفة التي سحبت الطفلة منها ثم سحبت الحقيبة يليها ذراعها لم تترك لها الفرصة للتفكير وهي تصرخ بهلع ودمعها يغزو محاجرها، ولكن صوت بكاءها ضاع مع صرخات المتظاهرين.


يُتبع..


فاطمة صالح. غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-06-23, 09:01 PM   #90

فاطمة صالح.

كاتبة في قسم الروايات والقصص المنقولة


? العضوٌ??? » 506671
?  التسِجيلٌ » Sep 2022
? مشَارَ?اتْي » 81
?  نُقآطِيْ » فاطمة صالح. is on a distinguished road
افتراضي



بسبب النقاب الذي غطى عيناها كلياً لم تستطع إدراك هويته فقط كانت تصرخ باسم صغيرتها
وهي تضرب الذراع تلك بعنف، ولولا إنحسار صوت بكاء الصغيرة لما تجرأت لسحب طرف النقاب لترى وجه مختطفها، بدأ صوت صراخها يخفت تدريجياً حتى تلاشى.. وهي تراه يقف أمامها حتى بالونة أفنان لم تقف حائلاً بينهما

نفضت ذراعها عنه تتنفس بصعوبة، قلبها مازال يرتجف وروحها تعاني..يكز على أسنانه بغيظ قائلاً:"غبية أنتِ؟ كانوا بيدهسونكِ"

تحاول جمع شتاتها، ترفع رأسها وتسحب ابنتها من أحضانه ببعض الفضاضة ولا تعير اهتماماً لطفلتها التي تودّ البقاء بأحضان والدها، تسحب حقيبتها من يده وتمشي غير معيرة لوقوفه اهتمام.
تضيع بين الحشد المتظاهر فيضرب الأرض بأقدامه بغضب وهو يسير خلفها، تكاد أن تذهب لشارع غير شارع منزلهن يسحب حقيبتها لتنتبه له، فتلتفت كبركان ثائر ولو رأى نظرة عيناها لأدرك أن الإبتعاد أفضل:"هذا الشارع لمركز المدينة، شارع بيتكم على يمينك"

تكبح رداً لاذعاً وتأخذ نفساً حاداً لتلتفت لشارع منزلهن مُدركة بأنه يتبعها، تتحمل فعلاً تحاول أن تصمت
ولكن بكاء أفنان وهي تتخبط بين ذراعيها تحاول الوصول لوالدها، صوت خطواته التي تتبعها
لم يترك لها مجالاً للتحمل أكثر، تتوقف مكانها تلتفت بجنون العالمين لتبصق كلماتها عليه:"ليش تتبعنا؟ مو أنا خاينة وأنت ما تستحق إلا اللعنة لأنك وثقت فيني؟؟"

ارتد للخلف مشدوهاً بصوتها الذي يقطر وجعاً
رباه لقد مر عاماً موحشاً، مازالت تتذكر كلماته
أكملت بغضب ثائر:"مو دعيت علي أحترق بنار خيانتي لك وأموت مقهورة.. هذاني احترقت وموتي ماكان باقي له إلا القليل، والحين جاي تشهد على استجابة دعائك؟ أبشرك اُستُجيب ولكن لطف الله أكبَر منك.. بعدما كنت بظن إني بموت حييت من جديد ومن نار دعوتك خرجت لي جنة لذلك ابعد خطواتك عن جنتي.. تفهم؟"

ينظر لها بعينين متسعتان، ووجه شاحب
وقع كلماتها عليه مُـدمر.. هذا حقاً ماحصل
وهي مازالت خائنة في نظره إذاً؟ ما الذي أبكى قلبه من كلماتها؟ أنها تعذبت بسببه؟
عاد خطوة للخلف بقلب يرتعد باكياً ليحاول الكلام، ماذا سيقول؟ لايعلم فقط يودّ لو يبرر بأي كلمة قد تخفف من المرارة في صوتها! برغم كل شيء
وجعها يضنيـه.. يكـويه

عندما نوى الحديث أسكتته برجفة صوتها التي تُنبئ عن بكاءها:"مايحق لك تبرر بعد كل هالوقت؛ لو كنت تنوى التبرير لا تفكر حتى، انت ما تستحق حتى فرصة للتبرير؛ لأنك سلبت مني فرصة الكلام
اتهمتني وحكمت علي دون ما تستمع لي
لذلك أبداً ما بسمع تبريراتك لأنها كلها باطلة عندي، أنا بمحكمتك ماكنت متهمة يحق لها التبرير، أثبتّ التهمة علي بليّا دليل يا هشام، إن كنت بعُرفك خاينة فأنت بعُرفي ظالم"

اختنق من صوت بكاءها ليهمس بوجع:"ماكنت أعرف بأنكِ حامل.."
ليتفاجأ بشهقتها الباكية كطفلة صغيرة قائلة بوجع ثائر:"لو انتظرت كان علمتك بوقتها عرفت.. من غبائي كنت جاهلة، باليوم اللي قتلتني فيه كنت أجهز لك مفاجأة، كيف بتعرف أساساً وانت يوم معي وشهر غايب عني، كيف بتعرف وانت ماتركت لي فرصة أصارحك بأعظم خبر؟ أنت سلبت من أفنان حقها بأبوها وأنا ما بسامحك على هالشيء أبداً يا هشام أبداً، ولا تتهمني بالباطل انت لو حضرت لو بحثت عننا خلال سنة لو عرفت أنا عن أخبارك أو قدرت أوصل لك لكنت أعطيتك خبر أنا حتى زوجة عاصي ماعرفت بوجودها إلا قبل أسابيع بسيطة لأجل أخليها تبحث عنك أو توصلني خبر عليك على الأقل! لكن أنت!!
هل فكرت تبحث عننا حتى!!"

ابتلع غصّة مسننة، كان يتلوى بعذاب خيانتها لسنة كاملة من فرط الجوى يتقلب على نار
يدعو، يشتم، يعاتب.. ماباله الآن أصبح كطفل مذنب؟ أليست هي من خانت لماذا بات يشعر أنه المخطئ؟ أفق بالله عليك ياهشام لقد ماتت زوجة عمّار وابن أخيه بسببها.. لكن لما قلبه يرفض إدانتها وهي تقف أمامه هذه اللحظة؟

-"أنتِ أخفيتِ علي بأن أكبر طاغية خالك.."

هل ضحكت؟ ضحكتها تلك التي اختلطت ببكاءها أحرقت روحه لتقول بسخرية:"الطاغية أهلك البلد، قتل أعتى الرجال ولعب بالحكومة بأصابع يدينه وهو ماعنده ايدين.. ظنّك وش بيسوي لإمرأة ضعيفة مثلي!"

تغضن جبينه بعدم استيعاب لفحوى سؤالها لتكمل بذات المرارة السَّاخرة:"اللي عذب جبابرة وتركهم ينفذون أوامره ظنك ما بيقدر على وحدة مثلي مالها سند؟"

يا الله، هذه الحرارة التي تتدفق من قلبه ماهي؟
هذا الوهن الذي سيَطر على أجزاءه ماسببه؟ أهي غفلته؟ أم أنه لم يُدرك شيئاً بعد خيانتها؟
ليقول بتيه وكأنه يحاول إطفاء هذه النار:"أنتِ بنت أخته.."
قاطعته بتهكم:"وطاغية مثله بيحنّ لرابطة الدَّم؟ أرجوك ياهشام"
ليقول بضيق:"كنت معك لأشهر طويلة كان بإمكانك تعترفين"
تجيبه بقهر:"اللي يده بالماء مو مثل اللي يده بالنار! ونار خوفي كوتني، حياتكم كانت بتنتهي لو فتحت فمي ظنّك كان بإمكاني التضحية فيك؟ حتى بشغلك اللي أجهله لحتى هذي اللحظة كان زارع مخبرين فيه
ظنَك لو أعطيتك طرف خيط بس ماراح يلاحظ
ولا نسيت صاحبك اللي قتلته بيدينك؟"
قالت آخر كلمة بمرارة، لتمسك أفنان بصلابة تمنعها من مدّ ذراعيها لهشام المُتخبط في لجة من الوجع
قال كالغريق:"حق حمدان القتل، وأنا ماقدرت أفرط فيكِ، حتى بعد موت غاد.."

التفتت تكاد أن تحترق:"لو قتلتني لكان أهون علي
من اللي سويته، أنت قتلت روحي يا هشام وهذا كان أبشع عقاب ممكن تعاقب فيه أحد، أخطأت فعلاً
ولكن ماكان خطأ يستحق كل هالوجع، أنا حتى ماكان لي ذنب بموتهم.. لو كان فعلاً ماكانت غادة الضحية لكانت مرجان بذاتها! لكانت القنبلة فجّرتها هي
ولكن هم ما صدقوني والدليل اللي سمّاها رشيدة كيف استدرجت غادة لعندها، تعرف وش قال خالي وهو يعصر عنقي بين يدينه!
(لفّك ودورانك ما بينفعك لأن ما انتِ الوحيدة اللي بين يديني، عندي رشيدة وصلت لعمق حياة زوجته الحقيقية!)"

نظر لها تائه وكل هذه الوقائع تُكبّله تبتعد خطوة واحدة ليتبعها لاشعورياً فتلتفت بشراسة هاتفة بصوتٍ عالي بلا وعي:"لا تتبعني"

ليُعقد حاجبيه باستياء لأن صرختها أبكت أفنان من جديد، ولكن سرعان ماتحول استياءه لضيق غائر وهو يسمع صوت بكاءها هي الأخرى يتصاعد إنما عيناها تتجه لمكان آخر، ينظر للبقعة التي تنظر لها ليفاجئ برؤية زينة تقف على عتبة الباب ويبدو بأنها قلِقة على تأخر منتهى التي قالت من بين شهقاتها:"لو بسامحك على وجعي أنا.. أبداً ما بسامحك على وجع أمي
انت السبب باللي صار لها"

تتسع حدقاته بفزع من اتهامها ينوي السؤال لكنها تسبقه بالإجابة:"هربنا بنصف الليل
خرجنا من المأوى ثلاث نساء لوحدهم ووحدة حامل بشهرها الثَّامن بلا أي مساندة أو قرش واحد بس، خرجنا بملابسنا بس من شدة الرعب
تعرف وش كلف أمي هربها من أرضها وبيتها وتركها للحصن وراءها؟"
صمتت بسبب الغصة التي ذبحتها لتكمل برعشة البكاء:"كلفها قدرتها على الكلام، سكتت من تلك الليلة حتى هذي اللحظة.. سألنا وقالوا بأنها صدمة عاطفية والعامل نفسي، أنت تركتنا وراك وحنّا اعتبرناك سند، الجدار اللي بيحمينا من رصاص العدو وانت وش سويت؟ انت هديت الجدار فوق رأسنا لذلك مالك أي حق بالسؤال أو بالإقتراب حتى مننا"

تلوى قلبه بين أضلعه وشعور بالمرارة يحتله يكاد أن يقتُله، تلك المرأة الحنون والتي كلما رآها تضطرب نبضات قلبه وترتبك كل أطرافه تلك التي لم يرَ منها سوى الخير، يتسبب بسلبها قدرتها على الكلام؟ رباه أي وجع هذا؟

ينتبه لابتعاد منتهى عنه ثم لطيران البالون الذي حُل خيطه من يد أفنان ليطير عالياً مخلفاً وراءه صوت بكاء حاد ومُرهق ليقول بلا مقدمات وكأنما الكلمات غادرت من قلبه الجريح للسانه دون المرور لعقله:"لأجل أفنان ..؟"

تجمدت بمكانها لوهلة وهي تسمع نبرته المبحوحة تلك، سحقاً له هذا الرجل هل يطلب الصفح عنه لأجل صغيرتها التي لم يعلم بوجودها سوى البارحة؟
وهو شحب بمكانه بعدما نطق جملته، أهذا ما آل إليه الوضع؟ أن يطلب هو العفو منها وهي من خانته وتسببت بأوجاعه؟ بالرغم من كل شيء نبرة بكاءها تلك أنسته كل ماكان وفقط تذكر شيئاً واحداً أنه قطعاً لا يحب بكاءها، ومافعل أبا عكاشة لها سيعرفه ليعلم لما خانته ولكن الآن لتسمح له بالإقـ....

لتداهمه بأمرها القاطع لكل أمانيه:"لأجل أفنان أنا ما بعفو وش حاجتها لأب مثلك؟ -تنظر لزينة قائلة بوجع مُر- لو رجع لأمي صوتها اللي انسلب بسبب ظُلمك لنا يمكن أفكر..."

علقت الجملة وذهبت دون إكمال وكأنها بتلك الجملة تُخبره أنها قطعاً لن تسامحه، لأن ذلك الصوت الذي ذهب لأجل وجع غُربة كيف سيعود من جديد؟

راقبهن حتى أغلقن الباب من خلفهن لتكتوي روحه بنيران عدم الفهم وملايين علامات الإستفهام تغزو عقله.. أهو من ظَلم أم من ظُلِم؟ بات حقاً لا يعلم.

عاد أدراجه يضع كفيه في جيبه يتنهد يحاول زحزحة جبل عن روحه ولكنه يأبى، ينظر مرة أخرى للمنزل لتقفز نبضة من قلبه وهو يرى الستار يسُحب وكأنما كانت تراقبه بعد كل ماقالته لتفلت ابتسامة مُرة لثغره.


" أتُحبّني.. بعد الذي كانا؟
‏إني أحبّكِ رغم ما كانا
‏ماضيكِ لا أنوي إثارتَهُ
‏حسبي بأنّكِ ها هُنا الآنا
‏تَتَبسّمينَ.. وتُمْسكين يدي
‏فيعود شكّي فيكِ إيمانا
‏عن أمسِ.. لا تتكلمي أبداً
‏وتألّقي شَعْراً.. وأجفانا
‏أخطاؤكِ الصُغرى.. أمرّ بها
‏وأحوّلُ الأشواكَ ريحانا
‏لولا المحبّةُ في جوانحه
‏ما أصبحَ الإنسانُ إنسانا
‏عامٌ مضى.. وبقيتِ غاليةً
‏لا هُنْتِ أنتِ ولا الهوى هانا
‏إني أحبّكِ.. كيف يمكنني؟
‏أن أشعل التاريخَ نيرانا
‏وبه معابدُنا، جرائدُنا
‏أقداحُ قهوتِنا، زوايانا
‏طفليْنِ كُنّا.. في تصرّفنا
‏وغرورِنا، وضلالِ دعوانا
‏كَلماتُنا الرعْناءُ.. مضحكةٌ
‏ما كان أغباها.. وأغبانا
‏فَلَكَمْ ذهبتِ وأنتِ غاضبةٌ
‏ولكمْ قسوتُ عليكِ أحيانا"
‏ولربّما انقطعتْ رسائلُنا
‏ولربّما انقطعتْ هدايانا
‏مهما غَلَوْنا في عداوتنا
‏فالحبُّ أكبرُ من خطايانا
‏عيناكِ نَيْسَانانِ.. كيف أنا
‏أغتالُ في عينيكِ نَيْسَانا؟
‏قدرُ علينا أن نكون معًا
‏يا حلوتي رغم الذي كانا
‏إنّ الحديقةَ لا خيارَ لها
‏إنْ أطلعتْ ورقاً وأغصانا
‏هذا الهوى ضوءٌ بداخلنا
‏ورفيقُنا ورفيقُ نجوانا
‏طفلٌ نداريهِ ونعبُدُهُ
‏مهما بكى معنا وأبكانا
‏أحزانُنا منهُ ونسألهُ
‏لو زادنا دمعًا وأحزانا
‏هاتي يديكِ فأنتِ زنبقتي
‏وحبيبتي. رغم الذي كانا"

*
*

يُدرك أنه غاب عنها أكثر مما يجب، خاصةً أن بين عينيه منظرها
وهي ترتجف ببكاء عنيف.. تماماً في اللحظة التي مدت له ورقة هامسة بتساؤل:"من متى تعرف هشام؟"

حلت الدَّهشة في زوايا روحه، خاصةً بأنه منذ أعطت هشام قميصه وهي ترتجف وتحاول كتم شهقاتها ولكن لم تفلح! حتى عندما ذهب هشام بسكون تام لم تنتبه له، كانت تقف بجانب الباب تنظر لجلال ويدها التي تمد الورقة مازالت ترتجف

لقد اشتعل في قلبه شعور بغيض جداً ليقول برغم معرفته ببكاءها:"ليه تسألين؟"

عضت على شفتها السفلية تكبح نوبة بكاء جديدة
ليستنكر صمتها، فهو لم يكن ينظر إليها أدرك صوت الورقة المهتزة بفعل الرياح فتنهد ليأخذها ويرد على سؤالها:"أعرفه من عشرين سنة ويمكن أكثر"
لتسأل من جديد قبل أن يفتح الورقة:"وكيف تعرفتوا؟"

حسناً، هذه المرأة تود قتله من شدة الغيظ! مابها تسأل عن هذا الرجل بكل هذا الفضول بحق الله!!
صمت يجعد الورقة بين يديه بحنق:"ناسي التفاصيل، اللي أذكره تعرفنا بالشارع، صادف بأننا كنا مخطوفين من نفس العصابة، وهربنا بنفس الوقت وبكذا تعرفنا على بعض"

ازدادت وتيرة تنفسها بشكل يدعو للذعر فرفع رأسه خوفاً عليها:"وش صاير معك؟؟"

أشارت برعشة للورقة لتهمس ببكاء:"تذكر أرجوك، الطفل اللي هربت معه من العصابة هو نفس اللي بالورقة؟"

تغضنت ملامحه باستنكار إنما فعل ماتطلب منه فصوت بكاءها يؤذيه ليفتح الورقة على عجل، يتأمل صاحبها طفل قدّر عمره أنه في التاسعة تقريباً، تأمله للحظات بسيطة قبل أن يرفع وجهه وعدم الفهم ينضح من كل ملامحه:"لكن هالصورة كيف وصلت لكم؟ هذا يشبه هشام.. لالا ما يشبهه...

هذا هشام بذاته ولو كنت بتناسى بعض تفاصيله بسبب كل هالسنين بس مستحيل أنسى بسمته، كان طرف ثغره يميل أكثر من الطرف الثاني تماماً مثل هالبسمة اللي بالصورة، مستحيل أنساها لأني كنت أضحك كلما ضحك بسببها"

جحظت عيناه بصدمة لتتهاوى خطواته ذعراً للخلف وهو يراها تجلس على الأرض تغطي وجهها بكفيها وتبكي بصمت، لايرى سوى رجفة جسدها بشكل واضح

جلس بلا وعي يود أن يسألها، يكاد أن يذوب من خوفه عليها، ليرى غصن شجرة ملقى على الأرض سحبه بلا تردد وأخذ يوكزها في كتفها لكي تنتبه له:"آنسة ليالي، وش صابك؟ ليه تبكين؟"

تباً لم يعرف كيف يتصرف، إنه مشدوه من طريقة بكاءها الحادة وهو يعرفها قوية، بل قاهرة!
وكزها بالغصن مرة أخرى ليقول بصوت متهدج من ضيقه:"علامكِ يا قاهرة؟"

لتتجمد لوهلة، ثم ترفع رأسها لترمقه ينظر للاشيء بعينين قاتمة من الضيق
أخذت نفس بصعوبة لتحاول جمع شتاتها، منذ رأت تلك الوحمة المميزة وهي لا تستطيع كبح بكاءها، تشتم لامبالاتها وهي تتذكر كلمات والدتها منذ دخل لحياتهم (هذا الرجل أحسه يشبهني وكأنه قطعة من روحي، وقت أشوفه أحس بأن القطع الناقصة بروحي اكتملت وكأني معه أكتمل، هذا الرجل يشبه أخوكِ ياليالي تصدقين؟ هذا الرجل يخليني أفكر بأنه لو بقى أخوكِ معنا لكان بنفس هيئته وشكله) تجاهلت، فكيف لعقل بشري أن يصدق معجزة عظيمة كهذه؟
هي لا تستطيع التصديق برغم كل المؤشرات لذلك وقفت فوقف على عجل معها، لتهزها صرخة هشام المتمللة:"جلال وينك؟"

تذكر بأن لديهم مهمة خطيرة إنما خاف أن يذهب فتعود للبكاء وحقاً لا يعلم متى كان بكاءها يجرحه لهذه الدرجة لذلك قال:"لاعاد تبكين، خايف أروح وتبكين بهالكثرة من جديد
وش اللي حاصل معك ياقاهرة، أي وجع احتلك لأجل تتدمر قوتك؟ ليه هالأسئلة كلها عن هشام؟ ليه صورة طفولته معكِ؟ له علاقة ببكاءك؟"

زفرت وكأنما تحاول أن تزيح جبلاً عن روحها، لتسحب من جيبها كيس كانت قد جهزته ومدتها له لتقول بحشرجة:"أقدر أثق فيك؟"

نظر للكيس بعدم فهم ولكنه قال بثقة:"أودعيني كل ثقتكِ، والله ربي لأموت دون أخذلك"

ارتبكت لوهلة من جوابه مع ذلك لم تُظهر فقالت:"دام كذا لا تسألني أي سؤال لأني حالياً أنا خالية وفاض من الإيجابات، أنا مثلك أحتاج إجابة
لذلك خذ هالكيس وأعطه لدكتور مختبرات لأجل يحلل dna"

اتسعت حدقات عينيه بصدمة وكاد أن يهم بالسؤال لولا أن مآقيها احترقت بالدمع من جديد لتقول بوهن جديد عليها:"أرجوك لا تسأل، أنا ضايعة وأحتاج الوجهة.. خايفة من الأمل
وخايفة من الخيبة، ما أعرف لو كانت ظنوني صحيحة وبعد كل هالسنين من الفقد لقيته.. لذلك أرجوك لا يعرف أحد، حتى نفسك لاتعرف ولا تتركها لحرية التفكير، تفهمني صح؟"

أخذ نفس يحاول استيعاب ماتطلبه منه
لكن صرخة هشام الغاضبة هذه المرة لم تترك له خيار لذلك سحب الكيس وحشره بجيبه قائلاً بهدوء:"ثقي إني بسوي اللي بقدر عليه.. لأجلكِ"

أومأت ببسمة باكية وامتنان ينضح من كل تقاسيم وجهها، ليقول قبل أن يبتعد:"ولكن خلي عندك خبر، بأني باخذ اعترافك قبل أسلمك النتيجة.. يا قاهرة"
لم ترد فقط نظرت لظهره وهو يبتعد عنها متجهاً للسيارة التي أطلقت نفير عالي بسبب هشام الغاضب من تأخرهم
لتأخذ نفساً عميقاً، تمسح على صدرها ببكاء:"يا الله لطفك، يارب لا ترهق قليل الحظ بكثر التمني، يارب ليكون آخر المطاف فرح.. يارب تعبنا
أكثر من عشرين سنة من الأمل لاتردّنا خائبين بعدها، أنت أكبر من أن تخيب عبادك الصابرين"

وهاهو بعد عشرة أيام يعود، وبيديه ورقة تمنى أنه لم يقطع لها عهداً ليمزقها ويرى النتيجة، تأخر وهو يعلم أنها تنتظره
خاصةً بعد معرفته أن هشام زارهم مرتان منذ عودته قبل ستة أيام
مع ذلك.. أعذاره الكثيرة معه ولكنه لايستطيع البوح بها!

توقف أمام المنزل ولكنه لم يخرج فقط أسند رأسه على عجلة القيادة يراقب المكان بعينين تنضحان وجعاً، لعشرة أيام موجوع لأجلها.. ومجرد كون ما توصلت له حقيقي فهذا.. يا الله هذا لايصدق حقاً!

أخرج نفساً بارداً مرتجفاً برغم كونه يلبس ملابس دافئة، ليراها تعود للمنزل وبيديها كيس صغير لم يتبين مابه
لم يتزحزح قيد أنملة من مكانه، ليفاجئ بها تلتفت له ثم ترمي الكيس فتبعثرت حبات الطماطم ولم تكترث لها بالرغم أنها كانت تتقاتل لأجلها مع إحدى السيدات قبل لحظات، لتهرول له وبلا تردد فتحت باب السائق لتنظر له وهو منحني برأسه لتقول بأمل:"تأخرت"

هز رأسه بتأييد:"كنت مضطر"
-"عرفت بأنك كنت بصبابة، وهناك أكيد عندهم القدرة على استخراج التحليل بعكس أرماء اللي بيطول التقرير، بشرني؟"

قالت آخر كلمة برجفة، وصوتها بدأ يتهدج وكأنها على وشك البكاء
ليرفع رأسه زافراً نفسه بصعوبة، أشار لها أن تبتعد فعادت خطوة للخلف بحرج في حين نزل قائلاً:"تعرفين أنه لابشرى بليّا إعتراف؟"

تجعدت ملامحها باستياء، فهذا السر سيكلفها حياتها.. خاصةً وهي تعلم بأن هذا الرجل يبحث عنها منذ سنة
بالرغم من أنه موقناً أنها هي إلا أنه كان يحتاج اعترافها، أخذت نفساً مرتجفاً لتهمس:"وش بيصير فيني لا اعترفت؟"

ابتسم ليهز رأسه بنفي مُرهق:"ما أعرف"
-"ومن بيستفيد من معرفة هويته الحقيقية؟ هل بيأذونه؟ هل المحتل هو من يطالب فيه أو الإرهابيين؟ هل أنت بس اللي تحتاج معرفة هويته أم أشخاص غيرك"

برغم انتفاض كل أجزاءها إلا أنها تحدثت بثبات، لتتلاشَ بسمته قائلاً بهدوء:"مابيضرك شيء، تظنيني مرتزق أو إرهابي بليّا نخوة لأجل أسلم ثوري وطني للعدو؟"
ابتلعت رمقها بصعوبة وهزت رأسها نفياً:"مادام ثوري، ليه تحتاجونه؟"

تنهد ليعود خطوة للخلف:"مادمتِ ما بتعترفين فاسمحي لي"
-"أنا.. أنا القاهر.."

قالتها بلا تردد وبنبرة مرتجفة خوفاً من ذهابه فعلاً، ليرسم بسمة ثقة على ثغره
رافعاً رأسه بثبات لها.. أخذت نفس تستعيد به طاقتها لتقول بعِزة:"أنا القاهر، ولولا بحثك عني ماكنت أظهرت نفسي لأني موقنة إن البلد مايحتاج أشخاص تُعرف هوياتهم فقط، البلد يحتاج رجال يقفون له وقفة حق"

-"تقولين بأن البلد مافيه رجال، لأجل كذا كان يحتاجك؟"

لم تفهم مايقصد خاصةً وأن نبرته غريبة لتهمس بضيق:"ما أقصد شيء، مايهمني لو متّ هذي اللحظة، ولكِن أرجوك أرجوك أعطني الورقة
إرحم حالي يا رجل!!"

رقّ قلبه حدّ الوجع على نبرتها الضعيفة
ولكن لم يماطل استفزازاً لها إنما خوفاً من خيبتها!
ليمد لها الورقة وقبل أن تخطفها من يده قال ببعض الضيق:"مهما كانت نتيجة تساؤلاتك
لا تضعفين.. تمام ياقاهرة؟"

أومأت عدة مرات وهي تخطف الظرف واخيراً
لتمزق الظرف بعصبية وتسحب الورقة بيدها المرتعشة لتقرأ كل ماكتب بعينين لامعة
ثم تشوشت الرؤية بسبب كثافة الدمع الذي أبى أن ينضب، لتتوالى شهقاتها بضعف تغمض عيناها وتمسح دمعها بقوة ثم تعود للقراءة
ومرة أخرى تتشوش الرؤية بسبب الدَّمع لتمد له الورقة قائلة ببكاء:"قرأته خمس مرات ولكن أخاف بأن دموعي خانتني وتركتني أقرأ اللي ودّي به، إقرأه لي أرجوك"

سحبها منها بشفقة، من كان يظن أن القاهر
بكل جبروته بل ليالي بكل قوتها ستتحول لكل هذا الضعف! سرعان ما اتسعت عيناه بعدم تصديق، هز رأسه وعاود القراءة بعينين مفتوحة بكل قوة
مابال هذا الفريق فقير حياة؟ أولاً يوسف ثم عاصي واخيراً هشام؟ مابال هذه الحياة تؤلمهم بكل ما استطاعت؟ أخذ يقرأ بعد تعالي شهقاتها برجفة عدم التصديق ليقول آخر جملة برهبة:"تطابق بنسبة تسعة وتسعون فاصل تسعة وتسعون"

وكأنما سحب المفتاح لتنفجر باكية بكل عنف، خانتها قوة ساقيها للتهاوى على الأرض باكية بعدم تصديق:"يا الله.. يا الله، حقيقة ماهو خيال، معجزة ماهو كذب.. هو.. هو أخوي
يا الله كنت أعرف، حتى هي حتى زينة كانت حاسة بأن هالرجل ماكان عابر ماكان زوج منتهى وبس"

تتحدث بلا وعي، شهقاتها خالطت كلماتها فلم يفهم بعض كلماتها ليمسك رأسه بكفيه وعقله ينضح بآلاف الأسئلة وملايين من المشاعر

لم يكن يحتاج أن يسألها عن هوية صاحب الشعرة الثانية ، لأنه أدرك بكل بساطة وجمع كل الخيوط ليصل لحقيقة واحدة لتتكاثر الظنون و تتجه ل مسار واحد .

والآن أصبحت كل ظنونه حقيقة! كل مافكّر به بعد لقاءهما وطلبها الغريب بات حقيقياً
رفع رأسه للسماء علّ دمعه لا ينحدر، يالله
ماهذه البلاد؟ أهي السبب فعلاً؟
أن تأخذ طفلاً من أحضان والديه لتردّه بعد سنوات رجلاً؟ أنزل رأسه بسبب صوت خطوات قادمة، لينتبه بأنه هو المعني.. هشام!
مابال هذا الفريق فقير حياة؟ أولاً يوسف ثم عاصي واخيراً هشام؟ مابال هذه الحياة تؤلمهم بكل ما استطاعت؟

لم يكن يمشي كان يركض فعلاً، منظر ليالي وهي تبكي أحرقه.. هل ابنته بخير؟ هل منتهى بخير؟ وزينة؟ يا الله لتكن بخير يا الله

تنفس هشام بصعوبة وهو يتخطى جلال وينحني بلا وعي بالقرب من ليالي قائلاً بهلع:"وش صاير؟ ليه تبكين؟ انتِ بخير؟ أفـ..."

ابتلع بقية كلماته بصدمة عندما رفعت وجهها المتورم من شدة البكاء، لتنظر له بنظرات غريبة ثم تضحك من بين بكاءها هامسة بوجع:"ياحبييي، كانوا حاسين كان بالقلب غصّة بكل مرة.. ولكن من بيصدق هالمعجزة؟"

لم يفهم ما تتفوه به وحقيقةً شكّ بأنه بها شيء
ليقول بحنو قلق:"آنسة ليالي، أنتِ بخير؟"

هزت رأسها كالبلهاء تضحك بالرغم من دمعها الذي لم يتوقف:"بخير، بشكل ماكنت به طوال حياتي، أول مرة أكون بخير لهالدرجة تصدق؟"

ابتلع ريقه بتوجس، كانت دائماً متحفظة معه وغير مسترسلة بالحديث أبداً لذلك حالتها الهستيرية هذه بدت تفقده عقله، رفع رأسه لينظر لجلال الذي يقف بالقرب منهم وينظر لهم بعينين لامعة.. رباه ماذا يحصل؟ هل جلال يبكي؟؟
كاد أن يسأل فالموقف لا يحتمل الصمت ولكنه تجمّد مصعوقاً وهو يشعر بتلك الفتاة تمسك بكفه تتحسسه بطريقة غريبة، فنفضها بقوة لاشعورياً قائلاً بضيق:"وش قاعد يصير؟؟"

لم تهتم لتصرفه فقط كانت تبكي وتنظر له بعدم تصديق، ليجلس على الأرض ينظر لها بشيء من الوجع، هناك غصة بقلبه لا يعلم سببها وهو يراها تبكي بكل هذا العنفوان ليقف بغضب ينظر لجلال:"بتعلمني وش صاير لها؟ يارجل رجولي ماعاد شالتني لأجل أركض للبيت وأتطمن عليهم قلبي يوجعني عليها، وش صاير معها وليه تتصرف كذا؟ فهمني ياجلال الله يرضى عليك قلبي يرتجف..."

لتتجمد حدقات عينيه على دمعة حارة انزلقت على خد جلال فيعود خطوة للخلف غير مصدق
لم يرمش حتى وهو ينظر له بعدم تصديق، بينما جلال رفع كفه ومسح دمعته بخفة، مبتسماً بشجن لينظر لليالي التي تِتأمل هشام بكل قوة والتي وقفت بعدما اتزنت مشاعرها بعض الشيء، ضرب هشام كتف جلال بعدم استيعاب هادراً بغضب:"وش صاير فهمني، لا تفقدوني عقلي وش صاير معكم من موجعكم؟"

كان صوته عالياً وحاداً مما جعل زينة تهرول خوفاً للخارج، تراقب الموقف بعدم فهم وهشام يمسك بتلابيب جلال والآخر يحاول الكلام ولكن الغصّة استحكمت بحلقه، بينما ليالي تغطي ثغرها بيديها وتبكي بصمت إنما صدرها يعلو ويهبط من شدة البكاء

خاف فعلاً، خاصةً مع ابتعاد ليالي عنهما وهرولتها الجامحة لأمها بشكل أربكه لينظر لجلال قائلاً بتوسل:"أرجوك ياجلال، طيّرت عقلي يارجل، وكأنني مع مجانين يبكون ويضحكون بنفس الوقت، وش صاير؟ ليه هالموقف كله؟ وأنت وش تسوي هنا أساسًا"

كان صامتاً طيلة الوقت لأن الغصة منعته من الحديث ولكنه قاوم فحال هشام الضائع أرهقه ليقول بصوت متحشرج:"تتذكر لما كنا نتخاصم بصغرنا -ضحك- تحديداً لما التقينا بالشارع أنت هربت من البوابة الخلفية وأنا بسبب نحلي خرجت من النافذة الصغيرة كنت أقول أنا بهرب لأهلي وأنت تسكت من الضَّياع ما تعرف الوجهة"

نظر له بعدم فهم ليرمش عدة لحظات:"وش تهلوس فيه أنت؟ وش هالطاري؟"
ابتسم يكبح دمعه بصعوبة:"واللي يبشرك بأنك لقيت الوجهة واخيراً! وأن هالضَّياع بعد كل هالسنين انتهى؟"

تنهد بإرهاق ليهبطا كتفيه للأسفل بتعب:"تعبتني يا جلال فوق تعبي يامجنون، وش قاعد تقول أنت؟ ليه قاعد تفتح دفاتر قفلتها!! أنا نسيت ولا كنت مخيَّر بل مسيَّر أنت تعرف بأني فقدت الذاكرة بعدما خطفوني وهربت من الظلم صحيح ولكني ما عرفت لمن أهرب؟ تعودت إني بليّا أهل للحظة هذه لكن وش هاللي فتح هالجراح؟"
-"ولا مرة تساءلت وينهم؟ وهل بحثوا عنك.."

ضربه على كتفه بقهر:"لا تفتح هالمواويل قلت لك، أنت تعرف بأني تأذيت واااجد بسبب هالشيء والأسئلة للآن تحرق فؤادي وخوفي عليهم بالرغم إني نسيتهم للآن يكويني لذلك لا تحرقني زود، قفل الموضوع ماله أي داعي..!"

وقف مشدوه ينظر للدمعة الثانية التي انحدرت من عين جلال ليرتجف قلبه يمسك كتفيه:"يارجل صل على النبي وش صاير معك، أوجعتني يا جلال وش سر هالدموع! ما بكّتك أرماء ولا جبالها وش بكّاك هاللحظة؟"
أشار له بعينيه للخلف ليتردد هشام في النظر قائلاً بحنو:"علمني"

همس بتأثر مشيراً للخلف بعيناه من جديد:"ماعاد للضياع مكان بروحك ياهشام، وصلت هالمرة للوجهة الصحيحة.. أنت ماعدت وحيد والنار اللي تكويك طفت وللأبد"
توتر من كلماته الكبيرة مع ذلك التفت لينظر لليالي التي تقف بنهاية الممر تمسك بصعوبة زينة كي لا تسقط ويبدو بأن ساقيها لم تقويان على حملها والواضح أن كلتاهما تبكيان بعنف،
ليشعر بالضَّياع فعلاً، وكأنما رموه في صحراء قاحلة وأمامه بركة ماء ولكنه لا يستطيع الوصول إليها ولا يعلم السَّبب! التفت الى جلال ليمدَّ له جلال ورقة ولكن قبل أن يفتحها كانت قد وقفت زينة وبجانبها ليالي بالقُرب ،ينظر لهم بتشتت خاصةً زينة التي تشير لليالي ببعض الإشارات التي لم يفهمها، لتضحك ليالي من بين بكاءها وتنظر له قائلة:"تقول اخلع قميصك"

اتسعت عيناه بعدم فهم وظن لوهلة أن الكون كله قد جُن، رباه مابال هؤلاء النسوة؟
دنى منه جلال ليهمس في أذنيه:"نفذ اللي طلبوه منك، لو متردد ناظر للورقة"

حسناً لم يكن مهتماً بكلمات جلال، فالتواصل البصري بينه وبين زينة جعله كالمغيّب، وبرغم جنون ما يفعله إلا أنه نفذ بلا تردد لينزع قميصه وينظر لهم فتشير له ليالي ببحة من شدة تعبه:"إلتفت"

رفع حاجبه بعدم رضا ولكنه نفذ بصمت، ليسمع صوت شهقة عنيفة فيستدير بخوف وهو ينظر لليالي التي تهاوت ثباتها مع أمها والتي انفرطت ببكاء عنيف بشكل أربكه تزعزع ثباته فلم يعد منتبهاً لما حوله ولولا جلال الذي أشار له بحزم على الورقة لنسيَها، رفعها بكف مرتجفة وذهول يطغى على كل تصرفاته
ليقرأ كل حرف فيها بحدقتين مرتعشة يرفع رأسه غير مستوعب لزينة التي نطقت بتأتأة مُوجعة:"آه.. عليك..يا ولدي"

وهنا.. أحرقت الدموع مآقيه، لايستوعب
لا يُصدق.. كل ماحوله أدلة على صحة مايُقال
ولكن هناك مايمنعه عن التصديق، أهي سنوات عمره الثلاثة والثلاثون؟ أهي إثنان وعشرون عاماً دونهم؟

عندما نطقت زينة بعد عام كامل من الصمت، صرخت ليالي من فرط الذهول وهي تنتحب على ظهر والدتها تهمس بصدمة:"تكلمتِ يمه، تكلمتِ ياروحي"

ولكن زينة لم تكن بذات العالم، كانت تنظر لتقاسيم وجهه بكل لهفة، تضحك وتبكي في آنٍ واحد.. لم تستطع حتى رفع يديها لاحتضانه
كانت خائرة القوى حرفياً.. اثنان وعشرون سنة صامدة، وعند النقطة الفاصلة انهارت!

خرجت منتهى تهرول بسبب صوت البكاء العالي، وصرخات ليالي أفزعتها.. لتقف حائرة تنظر للموقف باستغراب
اقتربت ليستشعر هشام وقوفها بجانبهم ينظر لها يطلب منها العون في تصديق هذه المعجزة
يرجوها أن تخبره أن كل مايحصل صحيح وأنه ليس محظ خيال، أن نتيجة هذا التحليل حقيقة، وأن المرأة التي قصّت عليه قصة اختطاف ولدها بدمع ووجع هي نفسها.. أمه!

لم تعلم ما يحصل لكن الدمع الذي انحدر من عينيّ هشام أجبر كل حواسها أن تستنفر بصدمة
لتبكِ معه بلا وعي، بلا معرفة لما يحصل
فقط حُزنه جعل كل آلام العالمين تستقر بروحها
حاولت أن تقترب ولكنها سكنت بمكانها عندما رفع هشام يديه ليُشير على زينة برعشة:"أنتِ أمي...؟"

علا صوت شهقة منتهى، ارتفعت آهات زينة وهي تبكيه بوجع، تهز رأسها قائلة بتلعثم:"أمك..أمك ايه.. كنت حاسّة..هالحرقة بقلبي كلما شفتك..ماكانت من فراغ..أنت..أنت"

لتضمحل قدرتها على المقاومة فتنهار ساقطة لولا ذراعي هشام التي التقطتها، نظر لوجهها على مقربة.. وكأنما كانوا مغيّبين فحسب
نفس العينان
نفس تقاسيم الوجه
وذات البحة!
وكل هذه المشاعر
والوحمة أكبر دليل، أكانوا يحتاجون تحليلاً بعد كل هذه البراهين!!

رفعت يديها المجعدة بآلام فقده، لتزيل ألمها بملامسة تقاسيم وجهه.. ببسمة تقطر وجعاً
تمررها بتلكؤ على جميع تفاصيله، وهو ساكن مستسلم برغم وقفته الغير مريحة
رؤيته ضبابية بسبب دمعه مع ذلك لم يبتعد إنشاً واحداً لتهمس بذات البحة إنما ببطء بما أبكاهم من جديد:"تعرف.. لما جيت لأجل تتزوج منتهى؟ -هز رأسه كالمغيّب لتكمل بذات البطء- لما بكيت عندك وقلت لك روح لو ماكنت تبيها، تصدقني لو قلت بأني دخلت أفتح الصور
صور زوجي.. يعني فضل، من شدّة الشبه بينك وبينه خفت والله وبكيتك من جديد
بكيت ولدي لأنه لو كان عايش لكان يشبه أبوه لهالدرجة، نفس عيوني ونفس التقاسيم ولكن وكأنك أبوك كنت حاسة من أول لقاء
بكيتك من أول لقاء، تصدقني يا.. ولدي؟"

قالت آخر كلمة لتغرق ببكاءها المُتعب أمامه كطفلة صغيرة فيتهاوى قلبه بشعور لم يعهده
ليرفع يديه بتردد ويقرب رأسها من صدره، وعندما توسدته ولفت ذراعيها على كتفه
أيقن.. أن هذا مكانه الصحيح في الحياة
هذه الأُلفة، هذه السَّكينة.. جعلت كل آلامه تنبَثق من العدم فجأة ليريح رأسه داخل تجويف عنقها يسحب رائحة الأمومة من بين ثناياها
يزرعها زرعاً في روحه، ينسى العالم أجمع
وينفجر بالبكاء بلا حول له ولا قوة.. يبكي كما لم يبكِ طيلة حياته.. ولا مئة تحليل إثبات نسب سيؤكد له شعوره بانتمائه لهذه المرأة
كرائحتها، كعناقها، كاستشعاره قطرات دمعها على كتفه.
ينظر جلال للموقف بعينين يحرق الدمع مآقيها، أي إنسان ذا قلب سيقف جامد أمام موقف كهذا؟
رباه من يصدق؟؟ من؟؟؟
التفت ليرى ليالي تبكي بصمتها وتخفي فمها بداخل كفها وهي تنظر لهم، تمنى لو أن لا حدود بينهم لو كان قريباً منها للحد الذي يخوله لاحتضانها ولكن...

أما منتهى فقد انهارت بجانبهم بعدم تصديق
تبكيهم صدمة وذعر، يا الله كيف..كيف؟
من بين كل القسطيين يكون هو ولدها؟
أهي رحمة الله؟ أهو عدله ولطفه؟ أدارت عجلة الزمن ليردّ لها عملها واخيراً؟ حفظت منتهى فحفظ لها الله ولدها؟ لم ينفض عناقهما لم يطاوعه قلبه أن يبتعد وهي متشبثة به وكأنه طوق نجاتها! ابتعدت بعد وقت طويل بوجه أحمر قاني من شدة البكاء وشفاه ترتجف لتهز رأسها قائلة ببسمة:"لو تعرف كم اشتقت لك ياولدي، بذلت عمري لأجلك"

لتتجعد ملامحه بوجع، وهنا تهم لتُقبل كل شبر بوجهه تحت وطأة شعوره بالألم على حالهم
اثنان وعشرون عاماً.. يا الله

ابتعدت عنه بصعوبة ليسندها على ذراعه غير راضٍ بابتعادها عنه لتضحك من بين بكاءها لتعلقه بها، فتنظر لليالي التي تكاد أن تنهار من شدة بكاءها فتهز رأسها لها بتأييد:"أخوك يا ليالي"

وكأنها كانت تحتاج لجملة إضافية لتبكي وهي من قالت قبل دقائق بتردد (يمه لقيت أخوي!) أومأت عدة مرات بلا شعور وشهقاتها تتعالى مؤكدة:"أخوي يمه.. أخوي"

يرفع ذراعه الأخرى يدعوها له.. تتردد لوهلة ولكن نظرة أمها المشجعة جعلتها تحزم أمرها وتتقدم منه، يرفع يده يمسح على رأسها يهمس ببحته التي خالطها رعشة بكاء:"كبرتِ يا.. حبة الفول!"

هذا اللقب يخصُها.. تذكره!! لتتشجع وهي تحتضنه وتجهش ببكاء عنيف على صدره متمسكة بقميصه وسط احتضانه لوالدته وأخته من كلا الطرفين

وسط إشاحة جلال بوجهه يعافر مع دمعه كي لا يخونه أكثر وهو يتذكر.. عندما أخذهم القائد جهاد هو وهشام ويوسف وعاصي من مخيم العدو بعد الإنفجار
عندها أول وجبة نظيفة أكلوها كانت فول.. وسط أكلهم بصمت سمعوا شهقة مكتومة ليلتفتوا الى هشام الذي رفع رأسه يحارب دمعه بصعوبة وينظر لجلال صاحبه هامساً:"تعرف؟ تذكرت موقف غريب، طفلة كنت أرميها بحبات الفول النية وأضحك عليها بأنها تشبهها.. تظنها أختي؟"
ابتسم له بتلك اللحظة.. كما ابتسما يوسف وعاصي عندما فهما مقصده.. لتكون هذه أول بسمة بعد سنين من الوجع..

وبعد كل مامرَّ به هشام من مُر، كانت هذه أرقّ الليالي
كيف لا وزينة لياليه عادت؟




انتهى الفصل~​
قراءة ممتعة.. ​




فاطمة صالح. غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:56 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.