آخر 10 مشاركات
415 - لن أعود إليه - ماغي كوكس (الكاتـب : ^RAYAHEEN^ - )           »          رواية واجتاحت ثنايا القلب (1) .. سلسلة ما بين خفقة وإخفاقة (الكاتـب : أسماء رجائي - )           »          زوجة لأسباب خاطئة (170) للكاتبة Chantelle Shaw .. كاملة مع الرابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          تائــهــة في عتمتـك (الكاتـب : نسريـن - )           »          195_بعد عدة براهين_ليليان بيك_عبير الجديدة (الكاتـب : miya orasini - )           »          1 - العاصفة في قلبها - مادلين كير - روايات ناتالي** (الكاتـب : بلا عنوان - )           »          عيون لا تعرف النوم (1) *مميزة & مكتمله * .. سلسلة مغتربون في الحب (الكاتـب : bambolina - )           »          152 - الحلم الممنوع - مارغريت بارغيتر (الكاتـب : حبة رمان - )           »          7-هل يعود الحب -مارغريت كالغهان - روايات ناتالي (الكاتـب : Just Faith - )           »          حنينٌ بقلبي (الكاتـب : عمر الغياب - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى الروايات والقصص المنقولة > منتدى الروايات العربية المنقولة المكتملة

Like Tree47Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 18-12-17, 01:29 PM   #21

Just Faith

مراقبةومشرفةسابقة ونجم روايتي وكاتبة وقاصة وملكة واحة الأسمر بقلوب أحلام وفلفل حار،شاعرة وسوبر ستارالخواطر،حكواتي روايتي وراوي القلوب وكنز السراديب

alkap ~
 
الصورة الرمزية Just Faith

? العضوٌ??? » 289569
?  التسِجيلٌ » Feb 2013
? مشَارَ?اتْي » 145,786
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » Just Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond repute
?? ??? ~
جروبي بالفيس (القلم وما يهوى)https://www.facebook.com/groups/267317834567020/
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي


-2-
"أجيبيه بنعم حتى لو كنتي تموتين فزعًا،
وحتى لو ندمتِ فيما بعد،
لأنك على أية حال ستندمين طوال حياتك إن أنت أجبتيه بلا"
جابرييل جارسيا ماركيز
***
لم تكد نهى تخرج حتى سمعت نور طرقًا على الباب مرة أخرى فقالت في نفسها إنها حتمًا نهى قد نسيت إخبارها بشيء ما، فضحكت قائلة وهي تفتح الباب:
- إيه...؟ لحقتي تشوفي العيال وتعملي الـ....
لكنها أكملت حديثها بشهقة عالية وهي تضع يدها على فمها وتحاول إغلاق الباب ثانية، لكنه كان قد اقتحمه بالفعل وأخذ يتأملها بوقاحة.
- "إيه يا مزة... مش عايزاني أدخل واللا إيه...؟ ده أنا حتى أولى من الغريب..."
أسرعت إلى عباءة الصلاة تحاول ارتدائها بيدين مرتعشتين وهي تتمتم:
- و... وليد ... أ..أستاذ وليد... لو سمحت تطلع برة أ... أنا لوحدي و....
لكنه تقدم أكثر قائلاً بلهجة غريبة:
- وأهو ده عز الطلب يا جميل... والنعمة ده أنتي زي القمر بس مستخبية تحت خيمة... إيه إيه... بتلبسي الخيمة تاني ليه...؟ ماحنا لوحدنا اهوه يا جمييييل...
قالها وهو يجذب عبائتها منها وكاد يلمس كتفها، إلا أنها انحنت على الأرض قائلة:
- أرجوك... أتوسل إليك سيبني في حالي...
كان جسدها يرتعد في عنف وقد تجمدت أطرافها من الصدمة، هنا سمعت عيسى ينادي عليها...
"ماماااا... مش لاقي هدومي في الشنطة أنت حاطاها فين...؟"
فازدردت لعابها وقررت أن تلعب على ذلك المعتدي عله يرحل عنها ولو مؤقتًا حيث إنه لم يستجب لاستجدائها إياه ولم يزيده رجائها إلا وقاحة وإقدامًا. نهضت نور وأجبرت عيناها على النظر إليه قائلة:
- أ... أستاذ وليد... شوف... ابني صاحي ومش هاعرف اتصرف وهوا هنا... استناني ربع ساعة كدة هانيمه وأنده لك...
حك وليد ذقنه وهو يتأملها، ثم قال: - وماله... نستنى الجو يخلالنا يا جميل...
فزفرت نور عندما توجه نحو الباب، إلا أنه استدار قائلاً وهو يرفع يده بشيء ما:
- بس هاخلي ده معايا يا قطة ...
كان ممسكًا بالمسبحة التي يتدلى منها مفتاح المنزل والذي كان مستقرًا بالباب منذ قليل، فسقط قلب نور بين قدميها عندما خرج من المنزل وأغلقه من الخارج عليها. كانت ترتعش كفرخ مبلل وتنهمر دموعها دون توقف، ثم أخذت تلهج بالدعاء علَّ الله يجعل لها مخرجًا.
توضأت وارتدت ملابسها كاملة وحجابها ثم أدت صلاة الظهر وأخذت تتوسل إلى الله أن ينقذها مما هي فيه، حيث إنها كانت تتطلع من شراعة باب المنزل كل حين وآخر لتجد وليد واقفًا أمام باب منزلها يقطع سطح البناية جيئة وذهابًا في عصبية، وأحيانًا كان يفتح الباب فجأة سائلاً إياها إن كانت قد انتهت أم لا، فتجيبه من غرفة النوم أن ليس بعد وهي في قمة حيرتها عما جرأ ذلك الجار عليها هكذا فجأة...!!
لم تعلم أن عدة عوامل قد اجتمعوا للعب برأس وليد... أولهم غياب وعيه من جراء تدخينه المستمر لبعض أنواع المخدرات التي لا تجعله بوعيه الكامل، بالإضافة إلى استماعه إلى جلسة النميمة والبهتان المبين الذي جلست جارتهم إحسان تتلوه على أذني أمه عندما عرفت بعودة نور ومعها طفلٌ صغير .
- "صحيح... إقلب القدرة على فومها تطلع البت لامها... أمها برضك اختفت شوية كدة ورجعت جارة عيل وقال إيه... اتجوزت... وبعدين... اختفت تاني ورجعت معاها البنتين... الله أعلم دول ولاد مين واللا بتعمل إيه في الدرا... تلاقي البت نور برضك غلطت غلطة كدة ورجعت بالعيل اللي معاها ده... استغفر الله العظيم... استغفر الله العظيم... ربنا يبعد عنا المشي البطال..."
لعب كلام إحسان برأس وليد... وشعر بأن في متناول يده امرأة سهلة ولن تكلفه كثيرًا... خاصة وأنها وحدها فلن تقاوم وإلا أثبت عليها التهمة.
أما نور فقد كان صوتها مبحوحًا من جراء هتافها بالمظاهرة أمس فلم يمكنها الصراخ والاستنجاد بأي شخص، فلم تستطع سوى مناجاة ربها حتى... حتى سمعت صوت باب البيت ينفتح وصوت خطوات أقدام متوجهة إلى غرفة أمها التي أغلقتها عليها بينما صوت وليد الممطوط ينادي بتسلية:
- نووووور ... نوووور أنت فييين...؟؟
*******
لم يدر كم من الوقت جلس خلف مقود سيارته أمام تلك المستشفى شاردًا... دائمًا ما يحيره أمرها... كيف أتت بتلك الجرأة وفرت من بلدة لا تعرف بها شيئًا...؟؟ ألهذه الدرجة ترفضه...؟ أم إنها ترفض مبدأ الزواج أصلاً...؟؟! أترفض من منطلق وفائها لذكرى زوجها أم..... أم أن هنالك شخص ما أو ربما أشخاص في حياتها لا تريد زوج يقيد علاقاتها بهم التي لا يدري أهي علاقات على غرف الدردشة الوقحة فقط أم إنها تمتد لما وراء ذلك إلى أرض الواقع...!!
طرق على مقود سيارته بقبضته وهو غاضب من منحى تفكيره الذي دائمًا ما يتجه إليها... هي التي لا تستحق ذرة من تفكيره وربما قد رحمه الله من الزواج بها كي لا يشرب من ذات الكأس مرتين.
هنا سمع رنة جوال غريبة... ثمة هاتف جوال يرن بسيارته لكنه ليس هاتفه...!!!!
تتبع الصوت حتى وجد أنه ينبعث من أسفل المقعد الذي بجواره فألتقط الهاتف وتردد قبل أن يرد عليه لكنه كان قد توقف عن الرنين ثم عاد يرن مرة أخرى، فرد عليه مضطرًا لكنه لم يتمكن حتى من أن ينبس ببنت شفة ...
- "ياسر... ياسر إلحقني الله يكرمك يا ياسر إلحق نور... روح لنور يا ياسر بأقصى سرعة... ياسر.. ياسر..."
تنحنح زين قائلاً: - أيوة يا أم حبيبة... ياسر شكله دخل المستشفى ونسي تليفونه في العربية...
فقالت تقى بصوتٍ باكٍ: - طيب ممكن توصل له التليفون يا باشمهندس...؟
قال زين بحسم: - لأ صعب... زمانه دخل العمليات ومش هايخرج قبل ساعتين... قولي لي يا أم حبيبة فيه إيه وأنا هاتصرف ماتقلقيش...
قالت تقى في تردد: - متـ.. متشكرة أوي يا باشمهندس... بس نور أختي كلمتني وبتعيط وبتقول لي إن فيه إنسان حقير بيتهجم عليها في بيت ماما وهيا مش عارفة تعمل له إيه...
قال زين بسرعة: - إديني العنوان... أيوة عارفه... تمام... الدور الأخير..؟ على السطح... طيب سلام
أغلق زين الهاتف ثم أنطلق بسيارته بسرعة فائقة حتى وصل إلى العنوان الذي وصفته له تقى... بالكاد عرف أن يدخل بسيارته الجيب إلى الحارة الضيقة... أوقفها أمام المنزل الذي أخبرته به تقى... ترجل بسرعة غير عابئ بإغلاقها أو أولئك الفضوليين الذين التفوا حولها. قطع درجات السلم قفزًا وكل من بالعمارة ينظرون في تعجب إلى ذلك القادم الهادر الذي وصل إلى سطح البناية ثم دفع باب منزل نور برجله لينفتح من فوره، و... يدخل ليرى أصعب مشهد قد يراه رجل ذو دين ونخوة ناهيك عن كونه بدوي الأصل حار الدماء... رأى نور قد سقط حجابها وتشعث شعرها الأسود الناعم حول وجهها وتمزقت عبائتها الفضفاضة من على كتفها كاشفة عن كتفها وشيء من صدرها بينما وجهها متورم وشفتها تنزف، أما وليد فقد كان ساقطًا على الأرض ينزف جرح من رأسه إلا أنه كان ينهض مرة أخرى لمعاودة الإنقضاض على نور صارخًا:
- يا بنت المجنونة... كنت هاتموتيني لكن وربنا لانا موريكي وهاعمل اللي بالي فيه غصبن عنك...
لكنه وجد من يجذبه من ياقة قميصه هاتفًا بقوة: - وريني ياض أنت هاتعمل إيه...
رغم كل شيء، إلا أن الأمل ارتسم في عيني نور عند رؤيتها زين مع الخجل التام منه ومن كل الجيران الملتفين حوله يتأملون الموقف في فضول. خلع زين معطفه الجلدي وقذف به إلى نور قائلاً بصرامة:
- خشي جوة ....
تدثرت نور بمعطفه وذهبت إلى الغرفة التي حبس بها ذلك الوغد ابنها الذي أخذ يطرق الباب ويبكي بحرقة، ففتحت الباب ودلفت إليه في وهن. أما زين... فقد جذب وليد إلى الخارج هاتفًا:
- قلت لي كنت بتقول إيه يا بابا...؟
كان زين يفوق وليد طولاً إلا أنه أنحف منه، فدفعه وليد هاتفًا:
- أنت مين أنت يا تييييت ومالك بيا...؟
كال له زين لكمة أسقطته أرضًا وهو يقول: - أنا أبقى ابن عم الست اللي جوه دي وأبقى جوزها كمان... أنت اللي تبقى مين...
جذبه زين من ياقته ليجبره على النهوض ثم كال له لكمة أخرى هاتفًا:
- ماتقولش... أكيد إنسان حقير لا عنده دين ولا أخلاق ولا حتى رجولة.... لأن اللي يتهجم بالطريقة دي على ست لوحدها يبقى....
هنا أخذت أم وليد تصرخ وتولول وهي ترى ابنها تُكال له اللكمات والركلات ويتلقاها جامدًا دون حتى محاولة للدفاع عن النفس، نظر زين إلى أم وليد التي أخذت تهتف بالجيران الذين اتخذوا موقف الجمهور المشاهد: - يا جدعان مش كدة... حوشوا الراجل ده ابني هايروح فيها...
لكن وليد كان قد نهض مستغلاً فرصة التفاتة زين وهجم عليه بمطواة أخرجها من طيات ملابسه، لكن زين شعر بهجومه وصده بذراعة الذي مرت عليه المطواة ممزقة قميصه ومحدثة جرحٍ قطعي بذراعه فانسابت منه الدماء بغزارة، إلا أن زين لم يوقفه ذلك وأمسك بيد وليد الممسكة بالمطواة ليسقطها منه ثم يلكمه مرة أخرى لكمة جعلته يسقط وسط جموع الجيران المتفرجين، هنا تدخل بعض الرجال وقد نالوا كفايتهم من المشاهدة وأمسكوا بوليد وأبعدوه عن زين مرددين بعض كلمات التهدئة.
عاد زين إلى بيت نور ليجدها قد ابدلت ملابسها وتجلس في الردهة بعينٍ متورمة من البكاء وقد توقف نزيف شفتها، لكنها ما إن رأته بذراعه المضرجة في الدماء حتى شعرت بالفزع هاتفة:
- إيـ... إيدك مالها...؟
قال بحزم: - لميتوا حاجتكوا...؟
قالت: - طيب اربط لك إيدك...؟
أجابها بحزم وهو يمسك بذراعه ليقلل من النزيف:
- لأ شكرًا هانزل الصيدلية اللي تحت أربطها... هاتي شنطك..
قالت بعند: - ليه..؟
أجابها بعصبية مخيفة: - مش عايز اسمع حرف... إديني شنطك لازم أرجعك البلد حالاً...
همت أن تقول شيء ما، إلا أن عيسى خرج من الغرفة التي كان بها هاتفًا وهو يبكي:
- عـ... عمو زين...
ثم احتضن رجلي زين وهو يرتجف في خوف، فربت زين على رأسه ونظر إلى نور نظرة نارية جعلتها تلوذ بالصمت وتذهب لتحضر حقيبتها بإذعان، فحملها زين بيده السليمة ثم خرج وتبعه عيسى. أما نور فقد أخذت تتمم على المنزل وتعيده كما كان عندما وصلته وفي حلقها غصة من كل تلك الأحداث المتلاحقة التي تتعرض لها. هبطت إلى حيث سيارة زين الذي كان قد خرج هو وعيسى من الصيدلية بدورهما فأمسكت بابنها وهمت أن تفتح الباب الخلفي إلا أن زين همس لها بحنق من خلف اسنانه:
- أنا قولت للناس إنك مراتي فياريت تتكرمي وتقعدي قدام...
أكملت نور فتح الباب الخلفي ووضعت عيسى ثم أغلقت الباب مرة أخرى وجلست بالمقعد الأمامي بينما اتخذ زين موضعه خلف عجلة القيادة وأنطلق بالسيارة مسرعًا.
كان الحنق يملأه من ابنة عمه الجريئة تلك التي غامرت بالهرب وحدها بل والمكوث بمفردها في حيٍ شعبي كذاك.
- "ممكن أعرف بقى حضرتك قلت أنك جوزي ليه...؟؟"
كان زين يضع منظاره الشمسي على عينيه فلم تلحظ نور نظراته النارية، إنما شعرت بنبرة صوته الحانقة إلى أقصى حد وهو يهتف: - لأن سيادتك جاية بكل جرأة تعيشي في حي شعبي لوحدك تمامًا... واللي حصل لك ده نتيجة حتمية للي عملتيه...
قالت بغضب: - الحي الشعبي ده أنا اتربيت فيه على فكرة...
أجابها: - ماقولتش حاجة على الحي، بس الناس اللي في الأحياء الشعبية معروف عنهم إنهم بيعرفوا بعض وكلامهم مابينتهيش ووجود واحدة بطولها كدة في وسطهم ممكن يعمل علامات إستفهام كتير إن لم يكن مصدر ثري للإشاعات، فكان لازم أعرفهم أن ليكي راجل مش مجرد ابن عمك عشان سمعة العيلة اللي انت شايلة اسمها ما تتبهدلش أكتر من كدة...
صاحت نور بحدة: - أنا واحدة باعرف ربنا كويس وعمري ما عملت حاجة تمس سمعتي أو سمعة عيلتي..
ابتسم ساخرًا وهو يقول: - والله...؟ عامة فلنفرض الكلام اللي بتقوليه ده صحيح إلا أن وجودك لوحدك في حد ذاته شبهة ومطمع واديكي شوفتي النتيجة ...
عضت نور على شفتها قائلة: - والله أنا كنت اقدر اتصدى لأي حد واللي اسمه وليد ده كنت هاموته أو أموت نفسي قبل ما يعرف يعمل اللي كان عايزه... وأنا مش مقتنعة بأنك تشيع إني مراتك بين جيراني لأني مش مراتك أصلاً..
قال زين بصرامة: - ده باعتبار ما سيكون.... بكرة إن شاء الله...
صرخت نور: - إزاي...؟ برضه عايزين تجبروني على الجواز....؟ آااه أنت بقى جاي وما صدقت تعمل عم الشهم عشان تنفذوا اللي انتوا عايزينه...
كان زين منطلقًا بسرعة والطريق شبه فارغ، فأوقف السيارة فجأة مما جعل عيسى يشهق، ثم استدار نحو نور وخلع منظاره الشمسي ناظرًا إليها نظرة قاتلة مليئة بالحنق والغضب وهو يقول:
- أولاً أنا مش هاموت على سيادتك للدرجة اللي انت متخيلاها دي يا هانم... أنا أصلاً مش عايز اتجوز خااالص خاصة منك... بس أما يتعلق الموضوع بشرف العيلة والحفاظ على ابن اخويا بالإضافة لضمان استمرار شغلي في مزرعتي ودخول أبويا الانتخابات... أنا مستعد أعمل أي حاجة وأنا قادر بعون الله أعدل المايل...
قالت نور وقد بدأت تشعر أنها سقطت في شركٍ عظيم: - يعني من الآخر كلها مصالح..!
أجابها وهو يعيد إرتداء منظاره الشمسي: - أيوووة ... مصااالح ... عليكي نور...
زفرت قائلة: - يعني تضحوا بيا عشان مصالحكم ....!!
هز رأسه في غضب قائلاً: - يعني أنت شايفة من الجواز أن إحنا بنضحي بيكي...؟ عامة إذا كنت مش عايزاني قيراط أنا مش عايزك عشرين... بس مضطر عشان مصلحة العيلة ومصلحة أبويا ومصلحتي برضه زي ما قولت لك... وعلى فكرة أنت كمان ليكي مصلحة كبيرة في الجوازة دي...
قالت بغضب: - مصلحة إيه بقى إن شاء الله...؟
أشار بإبهامه إلى عيسى قائلاً: ابنك...!!!
عقدت حاجبيها قائلة: - مش فاهمة...! إيه دخل ابني في الموضوع..؟؟
أجابها: - الجدة مصممة انها تخلي ابنك عندنا لو ماقبلتيش وممكن ماتعرفيش تشوفيه أبدًا...
سقط قلب نور بين قدميها وارتعدت أوصالها... ألهذه الدرجة بلغت القسوة بجدتها...! ألهذه الدرجة قد يحرمونها من أغلى إنسان في حياتها...؟؟؟!!!
- "عامة إطمني ... الجوازة دي مش هاتكون أكتر من حبر على ورق لحد ما كل حاجة تتم..."
قالها زين بهدوء، فقالت نور بأمل: - بجد...؟
لم يجبها زين وأخذ يقطع الطريق عائدًا إلى بلده شاعرًا بجبل ثقيل من المسئولية قد أُلقي على صدره... لم يدر لماذا عندما رآها بين يدي ذلك الشخص الذي تهجَّم عليها شعر أنه ينبغي عليه هو فقط الحفاظ عليها وانطلاقًا من هذا الإحساس قال أنها زوجته أمام جميع جيرانها واتخذ قراره الحاسم بأن يتزوجها رغم أنه لم يزل يشعر نحوها بالاشمئزاز مما يعرفه عنها..!!
********
وكأنه عُرسًا زائفًا... شيء من الأناشيد والمواويل والتهاني المتكلفة. حتى العروسان لم تبد عليهما السعادة. نور بعبائة ذات لون سكري وحجاب أبيض ووجه متورم وشفة مشقوقة بالكاد ترسم ابتسامة عليها كلما حاولت إحدى النساء تهنئتها. وعلى الناحية الأخرى زين... مرتديًا بنطالاً ذو لون كحلي وقميصًا سماويًا ومعطفًا، كان شاردًا طوال الوقت لا ينتبه إلى أناشيد أو مواويل أو أي شيء سوى أفكاره في كيفية السيطرة على تلك المرأة التي عقد عليها منذ قليل...!! لم يشعر بنفسه وهو يتوعَّد لها وكأنه يريد أن يصب عليها جام غيظه مما رآه قبلها ومما فعلته مع شقيقه.
أنتهى الحفل الصوري وهبطت نور لتركب بجوار زين بسيارته حيث قرر فجأة أن يذهبا إلى بيت المزرعة...! لم يرد أن يختلي بها في غرفة واحدة بالبيت الكبير؛ إنه لا يحب حتى أن يقترب منها وقد فاض قلبه بمقتها. أما نور فقد كان قلبها يتمزق عندما رحلت وتركت عيسى مع شقيقتها... لأول مرة تبتعد عنه وتتركه للبيات بمفرده.
توقف زين أمام بيت المزرعة ثم فتح الباب الرئيسي ودخل ليضع حقيبة نور الصغيرة على إحدى الأرائك قائلاً لنور التي تبعته في صمت: - اتفضلي...
قالها ثم خرج وأغلق الباب خلفه. تأملت نور البيت الصغير الجميل المؤثث على الطراز البدوي، فأمام باب البيت بالخارج وقعت عيناها على مقاعد مصنوعة من جريد النخيل يتوسطهم منضدة بسيطة من ألواح الخشب الطبيعي، أما بالداخل كانت تتناثر أرائك بسيطة عليها طنافس بدوية التصميم والألوان حيث كانت خلفيتها الحمراء وتكوين المثلثات البيضاء والسوداء والبرتقالية من صميم التراث البدوي، أما النوافذ الأرابيسك الكبيرة ذات اللون البني الغامق فقد أضافت دفئًا إلى المكان. كان البيت غاية في البساطة والهدوء خاصة بإضائاته الخافتة وعدم وجود أي جهاز تلفاز أو مذياع، إلا أن طبقة خفيفة من الأتربة كانت تغطيه مما يدل على أنه متروك دون تنظيف منذ فترة ليست بعيدة.
أرتعدت نور عندما سمعت صوت جلبة آخر الرواق المواجه لها، فسارت به في حذر حتى وصلت إلى باب صغير فتحت فرجة منه بهدوء لتقع عيناها على مكتب زين لتراه هنالك قد خلع معطفه وكانت أكمام قميصه السماوي مشمرة بينما تتساقط قطرات الماء من وجهه وذراعيه. أغلقت نور الباب بهدوء وعادت لتفقد المنزل، كان به غرفة نوم واحدة فقط ذات فراش خشبي منخفض ومنضدتين جانبيتين صغيرتين ودولابًا من الخشب الفاتح بالإضافة إلى مقعدين مريحين ومنضدة مستقرين خلف نافذة ضخمة تتدلى عليها ستائر بيضاء شفافة وأخرى ثقيلة. أخذت تتجول في المنزل لا يريد النعاس أن يقربها وعقلها مشغول على صغيرها، فقررت لتزجية الوقت أن تقوم بترتيب المنزل وتنظيفه فقد شغفتها بساطته المشيعة للراحة لولا تلك الأتربة.
وبالفعل... شمرت عن ساعديها وبدأت في تنظيف الأتربة ومسح الأسطح بما أوجدته من منظفات، كما قامت بترتيب طنافس الأرائك بصورة جمالية ورتبت المطبخ وغرفة النوم التي عندما فتحت دولابها للبحث عن شراشف نظيفة للسرير عثرت على بعض الملابس الأنثوية في ضلفة غير الضلفة التي كانت فيما يبدو تحتوي على بعض أشياء زين..!!!!
عضت نور شفتيها في غيظ... ودلتها حاستها الأنثوية أنها ملابس زوجته الأولى فتلكم الماركات لا ترتديها أي امرأة... وهي تعرف ذوق كارمن جيدًا...!!!!
أعادت الملابس مكانها وهي تقول لنفسها أنها لا حق لها فيما شعرت به من الغيظ...! لا هي كانت تريد تلك الزيجة ولا هو أيضًا... فمن حقه الاحتفاظ باشياء زوجته الأولى كيفما شاء أو حتى الرجوع إليها... هذا لا يعنيها إطلاقًا؛ كل ما يهمها هو الوجود قرب ابنها وألا يأخذه أحد منها.
مر الوقت بطيئًا حتى أذن الفجر فقامت بالصلاة ثم جلست على أحد مقاعد غرفة النوم تتلو أذكارها ثم شيء من القرآن بعدها فتحت إحدى الروايات التي لا تفارق حقيبتها لتتسلى بها.
بعد أذان الظهر... طرق زين الباب المؤدي إلى بيت المزرعة بمكتبه عدة مرات ثم فتحه ودخل متنحنحًا، سار في الرواق المؤدي إلى صالة البيت مبهورًا بنظافته ورائحته العطرة ووقعت عيناه على باب غرفة النوم الموارب، فطرقه عدة مرات ثم دلف إلى الداخل ليجد نور لازالت بملابس الأمس كاملة تجلس على أحد المقعدين أمام النافذة تستند بقدميها العاريتين من أي حذاء أو خف على المسند السفلي للمنضدة التي أمامها والتي يعلوها كتابًا مفتوحًا مقلوبًا على وجهه بينما نور تعقد ذراعيها على صدرها وتميل برأسها على كتفها الأيسر وقد راحت في سبات عميق. تنحنح زين مناديًا إياها لتنتفض نور مستيقظة من النوم، فقال زين وهو ينظر إلى الأرض: - أنا خبطت قبل ما أدخل على فكرة ولما مالقتش رد...
كانت نور قد استفاقت بسرعة وأنزلت قدميها واضعة إياهما بخفها المنزلي وهي تقول ساخرة:
- إيه افتكرتني هربت..؟ لا ماتقلقش... زي ما أنت هاتوفي بوعدك ليا أنا كمان هاوفي بوعدي...
غير زين الموضوع وهو يتأمل الغرفة قائلاً بدهشة:
- هيا أمي برضه بعتت زينب إمبارح عشان تنضف...؟
قالت نور وهي تنهض: - لا... ما حدش جه... أنا اللي نضفت البيت...
قال زين وهو يهم بالرحيل: - ماكنش ليه لازمة... زينب جاية النهاردة تنضف... هيا كان المفروض تيجي امبارح بس أنا قررت بسرعة موضوع مجينا ده...
عقدت نور يديها على ذراعيها قائلة ببرود أكثر منه: - أنا كنت باتسلى مش أكتر...
كان زين قد أولاها ظهره راحلاً بالفعل، إلا أنه تذكر سبب مجيئه فدار على عقبيه ثانية قائلاً وهو يتأمل ملابسها التي تحولت إلى اللون الرمادي من تراكم الغبار عليها:
- على فكرة... ياسر اتصل وقال أنه هوا والجماعة في الطريق...
هزت نور رأسها في تفهم بينما رحل زين عائدًا إلى مكتبه، أما نور فقد ذهبت إلى دورة المياه لتغتسل وتتوضأ لصلاة الظهر، وعندما انتهت ارتدت عبائة استقبال من اللونين الوردي والسماوي ثم أرتدت حجابها الطويل وخرجت فأدت صلاة الظهر ثم أخرجت شيء من البخور العربي الذي كان في حقيبتها وأشعلته بأحد أركان الصالة فامتزجت رائحته الرائعة مع الرائحة العطرة المنتشرة بالمنزل مما أضفى جوًا من السلام والجمال على المنزل، وما هي إلا دقائق حتى وجدت زين يدخل من الباب الواصل بين المنزل والمكتب متوجهًا إلى باب بيت المزرعة قائلاً بسرعة: - وصلوا...
قالها ثم فتح الباب مرحبًا بأمه وأبيه واخته وياسر الذي كان يقود سيارة خاله الشيخ سليم، ودلفت بعدهم زينب وهي لا تكف عن إطلاق الزغاريد بينما كانت تحمل على رأسها صفحة كبيرة مغطاة يبدو أن بها ما لذ وطاب من الطعام للعروسين المفترضين.
أمر زين زينب بحدة أن تكف عما تفعله وتذهب إلى المطبخ، فدخلت وكان حالها لا يختلف عن حال كل من دلف إلى المنزل... حيث اتسعت أعينهم عن آخرها وكأنهم يرون ذلك المنزل لأول مرة من الرائحة العطرة واللمسات الجمالية التي أضافتها نور على أرجاء المنزل. وجلسوا جميعهم يتبادلون المرح والتهاني والدعوات للعروسين الذين كان كلاً منهما يجلس في جهة لا يحادث الآخر ولا ينظر إليه..! حتى قال الشيخ سليم:
- أبقي اعطيني شهادة ميلاد ولدك يا نور لانقدم له في مدرسة يلحق له الكام شهر الباقيين قبل الامتحانات...
قالت نور بدهشة: - حضرتك هاتقدم له في مدرسة هنا...؟
قال الشيخ سليم وهو ينظر إلى زين:
- لا مش اهنه يا بتي... راح أنقدم له في أحسن مدرسة في 6 أكتوبر قريب من بيتكم...
عقد زين حاجبيه وأشاح بوجهه، فتسائلت نور وقد ازدادت دهشتها:
- بيتنا...؟ بيت مين اللي في 6 أكتوبر؟
أجابها عمها ضاحكًا بتوتر: - إيه نسيتي واللا إيه يا أم عيسى...؟ بيت زين اللي هايبقى بيتك إن شاء الله أنت كمان..
قالت نور متصنعة التذكر: - آاااااه... أفتكرت...
هنا قالت نجاة أم زين بود وسعادة وهي تشير إلى بيت المزرعة:
- وإنشالله راح اتعمريه يا بتي... راح اتعمريه على أحسن ما يكون... ربنا يملاه عليكو سعادة وعيال...
رسمت نور ابتسامة مغتصبة على شفتيها وهي تتمتم: - شكرًا لحضرتك يا طنط...
أما الشيخ سليم فقد عاد يقول: - شوفوا وين بدكوا تسافروا وأحنا راح انخلص موضوع المدرسة وعيسى هايبقى مع ياسر وأم حبيبة لأنهم نازلين مصر وراح يقعدوا هناك شوي...
هتف زين وقد بلغ غيظه منتهاه:
- ماينفعش نسافر دلوقتي يا شيخ سليم... مش هاينفع أسيبك في الانتخابات لوحدك...
فقال الشيخ سليم: - لو على كذا ما تشيل هم.. أنا معاي رجال يشيلوا الزلط...
هنا قالت نور بحياء: - معلش يا عمي... أنا كمان ماقدرش أسيب ابني أكتر من كدة...
نهض الشيخ سليم قائلاً: - على كيفكوا... نقوم احنا بقى...
ودعهم زين على باب البيت بينما همس له ياسر ضاحكًا:
- مش قولت لك يا برنس ... نبوءاتي ماتقعش الأرض أبدًا ....
دفعه زين قائلاً: - مع السلامة يا أبو العريف... مش عايز نبوءات تاني شكرًا ...
و... رحلوا جميعًا ... وفي صباح اليوم التالي كانت السيارة الجيب السوداء تقل زين ونور وعيسى تقطع الطريق إلى منزل زين بمدينة السادس من أكتوبر.
******
ست وعشرون عامًا... ست وعشرون عامًا كاملين بكل أفراحهم وأحزانهم وآلامهم... ست وعشرون عامًا منهم سبعة أعوام زادوا على عمرها عمرًا آخر... عمرًا من القهر والألم والمعاناة والخوف والإهانة، جنبًا إلى جنب مع بعض النجاح والتوفيق من الله، وكانت تلك هي المنحة التي خرجت من رحم المحنة.
ست وعشرون عامًا مررن أمام عينيها بسرعة وهي تقف هنالك... في ردهة منزله الذي شعرت أنه يطبق على أنفاسها بكل التحف والصالونات والمرايا المذهبة بعكس بيت المزرعة الذي شعرت بالسكينة به. وقفت تحوطها حقائبها ويتعلق ابنها بيدها كمن تاها بعد زحام... كمن ضلا دربهما ووقفا وسط الطريق لا يدريان إلى أين هما ذاهبان..!!
لقد قال كلمته الأثيرة "اتفضلوا" باقتضاب ثم دلف إلى إحدى الغرف المغلقة، لكنها لم تتمكن من الدخول أو التجول وقد صدها المنزل بحاجز نفسي مقيت. بعد دقائق خرج زين ليجدها حيث تركها أمام باب المنزل، فقال وكأنما قد تذكر وجودها: - ليه ما دخلتوش...؟
قالت بنبرة تائهة: - نروح فين...؟
لفت انتباهه عينيها اللامعتان اللتان تشعان حزنًا وتيهًا، وألجمته لدقائق تفاصيل وجهها، إلا أنه قال:
- عندك 4 أوض اتفضلي اختاري اللي تعجبك فيهم...
همت بجذب حقائبها إلا أنه قال آمرًا:
- سيبي الشنط دلوقتي وروحي شوفي أوضكوا عشان تستريحوا فيها..
انصاعت له وسارت نحو الممر الذي أشار إليه والذي تتواجد الغرف على ناحيتيه مفتحة الأبواب... رأت إحدى الغرف ذات فراش أبيض وثير مذهب الحواف مبطن الظهر ودولاب خشبي أبيض مذهبًا أيضًا كالفراش.. غرفة تبدو وكأنها سقطت سهوًا من قصور آل بربون...! لمحت حقيبة زين ومعطفه على الفراش فتركتها لتتفقد غرفة أخرى بعينيها... الغرفة التي تقابلها كانت غرفة أطفال من الدرجة الأولى وهي أول غرفة تشع بهجة في هذا المنزل الكئيب... بجدرانها ذات اللون الكناري المزخرف برسوم كرتونية مبهجة وسقفها الذي تم تلوينه ليبدو كسماء زرقاء تتوسطها سحب بيضاء وفراش أطفال ولعب متناثرة هنا وهناك...! عقدت نور حاجبيها وهي تتخيلها هنا، بينما قاطع عيسى أفكارها هاتفًا: - أنا هاخد الأوضة دي...
قالها وهو يقفز على أحد الفراشين والذي كان مصممًا على شكل سيارة بينما كان الفراش الآخر ورديًا وكأنه زهرة كبيرة. أخذ عيسى يقفز في سعادة ويعبث بالألعاب المتناثرة والتي تبدو جديدة جدًا لم تُمَس..!
تركته وتوجهت إلى الغرفة الثالثة لتجدها غرفة بسيطة مكونة من فراشين من الخشب البني الغامق ودولابًا صغيرًا من نفس اللون ومقعدًا هزازًا جذبها كثيرًا وشرفة ليست كبيرة ولا صغيرة تطل على الحديقة المحيطة بالمنزل والتي تمتليء بأشجار الفاكهة والزهور وتبعث على الراحة بمنظر الخضرة والزهور الرائع والرائحة العطرة... جلست على المقعد الهزاز وأغمضت عينيها تحاول تصفية ذهنها وطرد الهواجس التي تجوب عقلها كأسدٍ حبيس... تلك الهواجس التي تسألها يوميًا أين سينتهي مطاف ترحالها...؟ لماذا كُتب عليها قدر الرحيل...؟ لماذا لا يعطيها العمر فرصة الاختيار...؟ لماذا كلما حاولت التحرر تنهار آمالها وتسقط في بئر الرحيل...؟ رحل أبيها ثم تركها محمود ورحلت أمها ثم رحلت هي إلى الصحراء ومنها إلى أقصى الغرب عائدة إلى الصحراء ثم إلى هاك المنزل المتكلف الذي يكاد يطبق على أنفاسها لولا تلك الحديقة الغناء الجميلة التي يصلها عبيرها مدغدغًا إحساسها و....
أيقظها من تأملاتها صوت طرقات على باب الغرفة الذي لم تغلقه من البداية، ففتحت عينيها لتجد زين يقف هنالك ممسكًا بحقائبها يستأذن في إدخالهم، فأذنت له ليدلف ثم يضع الحقائب على الفراش ويخرج في صمت مغلقًا الباب خلفه لتعود هواجسها تثور بداخلها متسائلة عن كنه ذلك الإنسان الذي تزوجها رغم الكراهية الشديدة البادية بعينيه لمجرد "الحفاظ على شرف واسم العيلة والحفاظ على مزرعته"..!
ابتسمت في ألم... هو لا يختلف كثيرًا عن أخيه... فكل منهما تزوجها لينال مصلحته من ورائها... شعرت بغصة في حلقها وكتمت أدمعها التي كادت تتهاوى من عليائها عندما بدت أمام نفسها وكأنها مجرد سلعة أو وسيلة ليبلغ كلٍ منهما مراده وليست امرأة لها مشاعر وكيان... رأت إنعكاس صورتها في المرآة متموجًا من خلف أدمعها المحبوسة، لكنها سرعان ما طعنت هواجسها في مقتل وأخبرتها أنها فقط... أم... تحيا من أجل صغيرها ولن تتوانى عن فعل أي شيء لتحافظ عليه قرب قلبها.
********



Msamo likes this.

Just Faith غير متواجد حالياً  
التوقيع
//upload.rewity.com/uploads/157061451865811.jpg[/IMG]ستجدون كل ما خطه قلمي هنــــــاااااااااااا[/URL][/FONT][/SIZE][/B]
الشكر لصديقتي أسفة التي دائماً تشعرني بأن هناك من يشعر بدون شكوى



سلسلة حد العشق بقلوب أحلام

رواياتي السابقة بقلوب أحلام
أنتَ جحيمي -- لازلت سراباً -- الفجر الخجول
هيـــامـ في برج الحمـــامـ // للكاتبة: Just Faith *مميزة
فراء ناعـــمــ (4)- للكاتبة Just Faith-

عروس الأوبال - ج2 سلسلة فراء ناعم- * just faith *
سلسلة عشاق صنعهم الحب فتمردوا "ضجيج الصمت"

ودي مشاركاتي في سلسلة لا تعشقي اسمرا
https://www.rewity.com/forum/t326617.html
https://www.rewity.com/forum/t322430.html
https://www.rewity.com/forum/t325729.html
ودي رسمية
https://www.rewity.com/forum/t350859.html

خواطري في دعوني أتنفس
ديوان حواء أنا !!

شكرا نيمو على خاطرتك المبدعة
رد مع اقتباس
قديم 18-12-17, 01:38 PM   #22

Just Faith

مراقبةومشرفةسابقة ونجم روايتي وكاتبة وقاصة وملكة واحة الأسمر بقلوب أحلام وفلفل حار،شاعرة وسوبر ستارالخواطر،حكواتي روايتي وراوي القلوب وكنز السراديب

alkap ~
 
الصورة الرمزية Just Faith

? العضوٌ??? » 289569
?  التسِجيلٌ » Feb 2013
? مشَارَ?اتْي » 145,786
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » Just Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond repute
?? ??? ~
جروبي بالفيس (القلم وما يهوى)https://www.facebook.com/groups/267317834567020/
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

- 3 -
"تتم آمالنا حين لا نؤمَّلُ"
- مصطفى صادق الرافعي
***
انهت صلاة الفجر ثم خرجت من غرفتها بملابس صلاتها لتعد قهوتها الصباحية التي أخذتها حيث شرفة غرفتها لترتشفها في هدوء لتشهد ولادة الصباح من رحم الظلام وما هي إلا بضع دقائق حتى نهضت ثانية متوجهة إلى غرفة ابنها لتعده للمدرسة، لكنها لمحته في طريقها عائدًا من الخارج متوجهًا إلى غرفته كعادته طوال الاسبوع المنصرم... يخرج عند أذان الفجر ويعود بعد الشروق. عضت على شفتيها في غيظ فهي تحاول – مثله تمامًا – أن تتحاشى لقياه بنظرات الازدراء التي يشملها بها والتي تشعل في قلبها بركانًا من الغضب والحنق وعدم الفهم.. لماذا يكرهها إلى هذا الحد..؟؟!! أما زين فلم يستطع أن يمنع عيناه من اغتراف بعض ما يعتمل في صدره من احتقار وتصويبها إليها مباشرة كلما وقعتا عليها. كانت لقائاتهما العابرة قليلة جدًا، فهو أغلب وقته خارج المنزل ونور أغلب وقتها حبيسة غرفتها، فقلما ما كانا يلتقيا خاصة وأن كلٍ منهما يتحاشى الآخر؛ إلا أن ذلك لا ينفي إلتماس زين تغيرًا في منزله الذي صار مرتبًا على الدوام ورغم أنه يتناول طعامه خارج المنزل أغلب الوقت إلا أنه أصبح دائمًا ما يجد وجبة شهية بانتظاره يوميًا.
لم يتبادلا كلمة، رفعت نور رأسها باعتداد وتوجهت حيث غرفة ابنها توقظه في مرح كعادتها بأحد ألعابه المفضلة ليستيقظ ويشيع في المنزل الصامت بهجة من نوعٍ خاص بصوته الطفولي المرح ولعبه ودندته وهو يتناول إفطاره حتى تصل حافلة المدرسة لتقله ليغرق المنزل ثانية في صمته حتى يخرج زين بعد قليل إلى عمله وتبدأ نور في ترتيب البيت وجمع الملابس المتسخة لغسلها ثم إعداد الغداء بما تجده في البراد من أطعمة يحضرها زين دوريًا.
-"أوباااا... انت بدأت تسرح وتشرد مننا يا عريس... إيه يا دكترة سرحت لحد فيييين..؟"
كذا صاح زميله عندما رأى زين متلبسًا بالشرود، فأشاح زين بيده قائلاً بحدة:
- عصام ... انت تسكت خالص الله يكرمك أنا مش ناقصك... هلاقيها منك واللا من ياسر..!! قال عريس قال..!!
- إيه يا زين... مش عايز تقول إن العروسة وحشتك..؟ خلاص يا سيدي... إسرح براحتك وأنا هاعمل نفسي من بنها...
ضرب زين المكتب بقبضته بعصبية ثم قال:
- يا أخي أنت إيه... ما بتعرفش تقعد ساكت خالص..!
وهنا أرتفع رنين هاتف زين النقال فصمت وهو يتأمل المتصل ثم لم يلبث أن رد بلهفة عارمة قائلاً:
- ألو... إيه الأخبار...؟
أبتسم عصام زميله في انتصار قائلاً:
- أهي هيا اللي كلمتك يا عم وشوف بترد ازاي... زي ما قلت كنت سرحان فيها طبعًا..
زم زين شفتيه في غيظ وهو ينظر إلى زميله ثم خرج من الغرفة قائلاً لمحدثه في الهاتف:
- كنت بتقول إيه يا شريف معلش قول تاني مسمعتش... إيه..؟ وصلت لأخبار جديدة عنها...؟؟؟ إحتمال تكون سافرت...؟؟ إحتمال إيه يا شريف... أنا عايز خبر أكيد... وبعدين ماتقوليش سافرت كدة أعرف لي راحت فين ما تحبطنيش... أنا بقالي سنين مش عارف أوصلها... عارف يا سيدي إنها بنت وزير بس ماتنساش إنه وزير سابق وأهي الثورة كشفت أنه كمان وزير فاسد تبع شلة الحرامية... ماشي يا سيادة المقدم الشريف وريني شطارتك بقى وإلا لا انت صاحبي ولا اعرفك... خلاص هاستناك بالليل... عشا..؟ عشا إيه يا شريف أنت همك على بطنك على طول كدة يا عم خلاااص هاعزمك عالعشا بس تجيب لي اخبار عدلة أرجوك... ماشي يا باشا... سلام ..
أغلق زين هاتفه ثم عاد إلى غرفته بكلية الزراعة جامعة القاهرة حيث يُحاضِر ولملم اشيائه وقد برق الأمل بداخله أن رحلة بحثه الطويلة قد تثمر أخيرًا ويعثر عليها ويعرف كيف ينتزع منها ابنه، نفض عن رأسه اليأس وهو يأمل أن يصل صديقه إلى أي أخبار عنها.
- "أيوة يا عم الله يسهلو... جالك استدعاء واللا إيه...؟؟"
قالها عصام في لزوجة وهو يرقب زين الذي يهم بالمغادرة، فرفع زين إليه عينيه وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة ثم قال بهدوء:
- برضه مش هاريحك يا عصام... سلام ...
عقد زميله حاجبيه وهو يقول: - إيه يا دكتور مش هاتكمل محاضراتك...؟؟
أشار زين بيده أن لا ثم أشار مودعًا إياه وهو يقول:
- سلام عليكم يا عصوم وابقى اعتذر لي عن المحاضرتين الباقيين عندي مشوار مهم...
جز عصام على اسنانه في غيظ متمتمًا:
- هوا عشان أبوه هايبقى عضو مجلس شعب هايعملهم علينا بقى واللا إيه... ماشي يا زين...
أما زين فكان قد خرج إلى حيث سيارته الجيب السوداء التي استقلها وهو يسترجع احداث السنوات المنصرمة... كيف حاول باستماتة الوصول إلى كارمن، إلا أن تقلد أبيها منصب وزير الزراعة فرض حرسًا شديدًا على الفيلا ومنع أي شخص من الاقتراب نحوها... حاول جاهدًا الوصول إليها عند خروجها أو دخولها إلا أنه فوجيء أنها أيضًا يحيطها الحرس من كل جانب وكلما اقترب منها كادوا ان يفتكوا به ..!
تذكر محاولاته هو واسرته في الوصول إلى أيٍ منهم لكن دون فائدة... أكثر من خمس سنوات وهو يحاول أن يرى طفله دون جدوى حتى اندلاع الثورة وفرار الكثير من المسئولين بملايين الجنيهات... ويبدو أن الدكتور عمر هجرس واسرته كانوا منهم. ومن وقتها وهو لا يدري إلى أين ذهبت... راجع سجلات المطار لكن ما بدا له أنهم لم يخرجوا من البلد!! فاستعان بصديق عمره المقدم شريف مشهور ليساعده في البحث عنها عله يصل من خلال منصبه وعلاقاته إلى ما عجز زين عن الوصول إليه بمفرده.
وصل زين إلى منزله على غير عادته بعد الظهر حيث كان يوميًا ينهي عمله بالجامعة ثم يقوم ببعض الأعمال المتعلقة بالانتخابات مع أبيه الذي فضل المكوث عند ياسر وتقى بحجة ان ابنه حديث الزواج ولا يريد أن يثقل عليه رغم إلحاح زين الشديد على الشيخ سليم أن يبيت عنده الأيام التي يقضيها بالقاهرة إلا أنه رفض رفضًا باتًا وقد أراح ذلك زين فوجود أبيه معه بالمنزل سيفرض عليه البقاء مع نور وهذا آخر ما يصبو إليه. أما اليوم فقد أنهكه السهر والتفكير في طفله الضائع ثم أستعر بداخله الأمل بعد مكالمة شريف فقرر أخذ قسطًا من الراحة خاصة وأن أباه أخبره أن ثمة سائق قد جاءه من أبناء بلدته بالسيارة المرسيدس خاصة الشيخ سليم.
فتح زين باب المنزل شاردًا في كلام شريف، ناسيًا أن يطرقه كعادته.
" حبيبي طيب أرجوك كلمني.. بلاش تاكل رد عليا يا عيسى إيه اللي مضايقك...؟"
فوجيء بها بجوار مائدة الطعام ترتدي عبائة استقبال متوسطة الطول ليست بوسع ملابس حجابها التي ترتديها عادة... تنحني على ابنها في حنان ويسقط بجوارها شعرها الأسود الطويل الناعم الذي عقصته ببساطة على شكل ذيل حصان بينما نفرت بعض خصلات منه حول وجهها الخمري. لم تلحظ مجيئه حيث كانت منغمسة جدًا في حديثها القلق على ابنها الذي دفعها عنه مبتعدًا وهو يقول:
- مـ ... مافيش حاجة يـ .. يا ماما ...
قالها ثم توجه مسرعًا إلى شرفة الردهة التي خرج منها إلى الحديقة، سارت نور خلفه لكنها توقفت عند باب الشرفة ولم تخرج... استدارت تبحث عن حجابها و....
فوجئت بزين يقف عند باب المنزل متأملاً إياها... شهقت مبهوتة وقد شعرت بسخونة في وجنتيها اللتان تضرجتا بحمرة الخجل ونبض عرق بمنتصف جبهتها يظهر عادة عندما تنفعل، أخذت في إرجاع خصلات شعرها خلف أذنها في انفعال ونظرت إلى الأرض وكأنها قد أصابها شلل مؤقت.
أستفاق زين من المفاجأة وعاد إلى بروده وهو يقول:
- آسف لو كنت فاجئتك... أنا نسيت أخبط كنت سرحان في موضوع كدة بس ..
أزدردت لعابها وقد تمكنت من الحركة أخيرًا، فانسلت بخفة إلى غرفتها ولم تُعَقِّب.
دخلت الغرفة وأغلقت الباب خلفها وهي تلهث كأنها ركضت ألف ميل...! على غير العادة وصل زين المنزل مبكرًا وعلى غير العادة دخل دون أن يطرق الباب... وعلى غير العادة ... لمعت في عينيه نظرة أخرى غير نظرات الاستهجان والازدراء..!!!
تذكرت صغيرها الذي عاد من المدرسة وهو يحاول أن يخفي وجهه المتورم عنها... رافضًا تناول الغداء رغم أنها قد أعدت له وجبته المفضلة، كما إنه يتحدث متلعثمًا وقد عاد إلى اللجلجة مرة أخرى بعد أن كان قد نسيها. أرتدت عبائتها وحجابها مسرعة وخرجت إلى شرفة غرفتها لترى إن كان لايزال في الحديقة أم لا.
- عارف يا عيسى... أنا كنت في مدرستي تلميذ شاطر جدًا
- ............
- بس كان فيه شوية أولاد كدة مش شاطرين زيي متضايقين إن أنا شاطر وهما لأ، وبدل ما يذاكروا ويحاولوا يتفوقوا عليا... كانوا بيحاولوا يئذوني وكل يوم كانوا يتجمعوا وبصراحة... يضربوني ...
تمكن من جذب انتباه الصغير الذي التفت إليه في اهتمام وهو يقول:
- و... وحـ .. حضرتك كـ.. كنت بتعمل لهم إ... إيه...؟
إنهمك زين بفحص إحدى الشجيرات قائلاً:
- كنت كل يوم أرجع متضايق وأعيط بس ماكنتش باقول لأبويا عشان مايحسش إني عيل... ولا لأمي عشان ماتقلقش عليا جامد...
صمت قليلاً وهو يزيل إحدى الأوراق الصفراء فاستحثه عيسى بقوله: - و ... وبعدين ..؟
استدار زين إليه باسمًا وهو يقول:
- حكيت لعمي سليمان الله يرحمه... في الأيام القليلة اللي كنت باشوفه فيها عندنا... فعمي علمني حركات رياضية للدفاع عن نفسي عشان لو أي حد هجم عليا أعرف أصده إزاي... وقال لي اروح قبل أي حاجة اشتكي الأولاد اللي بيضايقوني للأستاذ مافيهاش حاجة وقال لي برضه لازم أقول لأبويا لأنه أكتر واحد تهمه مصلحتي... وفعلا أبويا اشتكى في المدرسة والأولاد دول اتعاقبوا وحتى لو حاولوا يهاجموني في أي وقت تاني أنا بقيت أعرف اوقفهم... وأدافع عن نفسي...
قال عيسى بفضول: - طيب إيه هيا حركات الدفاع عن النفس دي...؟
وضع زين يده على رأسه وعبث بشعره الناعم قائلاً:
- فيه رياضات كتير للدفاع عن النفس زي الكاراتيه والتايكوندو والكونغ فو... تحب تتعلم رياضة منهم؟؟
قفز عيسى بحماس قائلاً: - أيوة يا عمو أيوة يا عمو يا ريت...
ابتسم زين وهو يقول : - طيب بشرط ... تتغدى كويس عشان نروح النادي ...
هتف عيسى وهو يمسك بيد زين في حب: - ماشي بس تتغدى معايا ...
حمله زين محتضنًا إياه وهو يقول: - حاضر يا سيدي...
وعندما رفع عيناه ألتقى بلُجتي العسل اللامع في عينيها المترقرقتين بدموع متجمدة واللتين كانتا تتابعانه في امتنان من شرفتها، دخل زين مع عيسى وقد إزداد اشتياقه لابنه الذي لم يره أبدًا...!!
ولأول مرة يجتمعوا على مائدة طعام... كان الصمت يغلفهم اللهم إلا صوت ادوات الطعام... كانا صامتين صمتًا يضج بالمشاعر المختلفة... فعينا نور تنطقا بالامتنان والسعادة بحكمة زين في معاملة عيسى، أما زين فقد كان يشرد تارة في ابنه وإحساسه بقرب الوصول إليه وأخرى في تلك المرأة التي رغم قلقها على ابنها لم تخرج إلى الشرفة دون حجاب...! في خجلها واحمرار وجنتيها عندما اكتشفت وجوده... في ملامح وجهها التي تنطق بما يعتمل بقلبها من عرفان وامتنان دون جمود أو مواربة.
قطع صمتهم صوت جرس الباب فنهض عيسى بتلقائية يفتح الباب ليدخل رجلاً في العقد الثالث من عمره فارع الطول أسمر البشرة، نهض زين من على مائدة الطعام هاتفًا بدهشة:
- شريف...؟؟
بينما استأذنت نور ولملمت الأطباق الفارغة إلى المطبخ، هتف شريف بمرح وهو يقترب من مائدة الطعام:
- الله أكبر يظهر كدة إن حماتي بتحبني صحيح يا هندسة مع إني أشك في كدة... الله... لازانيا كمان..؟ خليك يا زين والله ما انت قايم وأنا هاقعد معاك كمان... حد يلاقي لازانيا ومايقعدش...
قالها وهو يضحك في مرحه المعهود فابتسم زين قائلاً:
- أنت يا ابني أنت مش قلت لي هاتيجي عالعشا..؟
قال شريف وفمه ممتليء بالطعام: - لأ أصلي زهقت من أكل الشارع قلت أجي اتغدا معاك... ما أنت خلاص مابقيتش عزابي...
قال زين بدهشة: - أكل الشارع ليه يا ابني؟ أنت مش متجوز...؟
أجابه صديقه ساخراً: - هيء... للأسف متنيل ومتجوز بس مراتي من ساعة ما ولدت من شهرين وهيا قاعدة عند أهلها وأنا مقضيها بقى مطاعم... بس إيه ده... اللازانيا دي خطيرة... قنبلة ... يا بختك يا عم...
جذب زين الصينية التي استلمها شريف وأخذ يأكل منها مباشرة قائلاً:
- بطل طفاسة يا شريف وقول لي وصلت لإيه...؟ بالله عليك بقى ما تتعبنيش أكتر من كدة ...
سعل شريف ثم قام بصب بعض المياه في كوب ما وازدرده ثم قال:
- شوفت يا أخي كنت هازور... منك لله عينك في اللقمة...
نظر إليه زين بغضب قائلاً: - لخص...
زفر شريف وهو يتراجع في كرسيه:
- للأسف يا زين مافيش غير اللي قولتهولك... الوزير عمر هجرس وبنته كارمن ومراته الدكتورة سوزان سافروا برة مصر... ده اللي قدرت أوصل له بالعافية لكن فين بقى ماعرفش... هما شكلهم مسحوا كل حاجة...
هتف زين: إزاي...؟ إزاي كل السجلات تتمسح كدة يا شريف..؟
قال شريف بأسف: - أنت ناسي واللا إيه أن إحنا عندنا فساد مؤسسي رهيب وممكن تمحي أي حاجة من الوجود بكام ألف جنيه..؟
دفن زين وجهه بين يديه وقد تحطمت كل آماله قائلاً:
- يعني خلاص... مش هاعرف ألاقي ابني..؟ خلاص ابني ضاع...؟؟؟ اكتر من خمس سنين بحاول أوصل له ويضيع كل حاجة كدة...؟ منها لله .. منها لله ...
هنا جاء صوت عيسى وهو يجذب ذراع عمه قائلاً:
- عمو... أنا خلصت أكلي مش هانروح النادي زي ما وعدتني...؟
أستدار زين نحو عيسى واحتضنه بقوة قائلاً:
- حاضر يا عيسى ياللا بينا...
تسائل شريف: - على فين..؟
قال زين بخفوت وهو يخفي بحر الأحزان الذي سقطت به عيناه بمنظاره الشمسي:
- تعالى نروح النادي أحسن حاسس إني هاتخنق فعلا وبعدين أنا وعدت عيسى أوديه...
خرج ثلاثتهم من المنزل بينما كانت نور متسمرة مكانها من عجب ما سمعت...!! سقط الطبق الذي كانت تحمله بين يديها وتناثرت شظاياه كما تناثرت شظايا الذكرى بعقلها... ذكرى أرسلها الله لترد الضالة لصاحبها.
***
- مش فاهم حاجة ... أرجوكي قولي تاني كدة بالراحة ...
- بـ... باقولك أنه مش ابنك ... د... دي بنتك ...
بمجرد رجوعهما مساءًا بادرته نور بتلك الكلمات التي أستغلقت عليه أو رفض عقله التحلي بالأمل ثانية كي لا يخيب مرة أخرى، فسألها بحدة أكثر:
- يعني إيه ..؟
أخذت نفس عميق قائلة:
- أنا عارفة فين كارمن وأهلها و ... وبنتها ...
إذن... هي فتاة... لقد أنجبت كارمن فتاة... شعر وكأن الأرض تدور من حوله... شعر بقلبه يخفق بعنف... إنها فتاة... إذن يجب أن يسرع في الوصول إليها وانتزاع ابنته منها... دون شعور قبض على ذراع نور وهو يقول:
- عرفتي كارمن منين ؟ وهيا فين ..؟ وبنتي اسمها إيه...؟
تأوهت نور قائلة : - آاااه... هاحكي لك كل حاجة بس سيب إيدي من فضلك...
أطلق زين سراحها قائلاً: - آسف بس أرجوكي ماتسيبينيش على أعصابي كدة وقولي لي كل اللي تعرفيه...
أخذت نور تحكي له وهي ترجع بذكرياتها إلى ذلك اليوم منذ خمس سنوات... ذلك اليوم الشتوي البارد حين رأتها وضمتها و... أنقذتها.
***
شهر يناير من ذلك العام... العاصفة الجليدية التي شلت كل الطرقات... كوخ سنتياجو الذي يتواجد أعلى تلة مرتفعة في مالون حيث يذهب مسيو دي بونت الثري الفرنسي كل عام ليقيم حفلاً لا مثيل له.
ذهبت ذلك اليوم على مضض إلى كوخ سنتياجو برفقة زكريا ومهند وعيسى الذي كان رضيعًا وقتها حيث أصر العميل الفرنسي الأكبر الذي يستورد من آل رحيل أغلب منتجاتهم الزراعية العضوية أن يلتقيهما لإتمام الصفقة التي تعرقلت طويلاً قبيل سفره إلى فرنسا.
لازالت تذكر شكل ذلك الكوخ من الداخل حيث شعرت أنه قد جرى تنظيم كل شيء به في سبيل خلق جو دافىء بدءًا من العوارض الهابطة من السقف وحتى الجدران الملبسة التي كانت تدفيء القاعة. وثمة مدفأة قديمة الطراز تبعث الدفئ في البيت بأكمله. لكن ما توقعته نور وجدته وقُبض قلبها له... فكل النساء شبه عرايا بأثواب السهرة الرسمية وتقريبًا كل من هو موجود يتناول الخمر من ذلك الساقي الذي يمر عليهم بكؤوس الخمر وملحقاته من فاكهة حمراء وخبز مدهون بالتوابل.
ضاق صدرها وأخذت تتنقل بعينيها بين الموجودين علها تجد مسيو دي بونت لتنتهي من تلك المهمة الثقيلة. لم تكن قد ألتقته قبلاً لكن تلك الصورة المرسومة المعلقة على أحد الجدران لرجل ملتح شبه أصلع يرتدي عوينات قد أعطتها فكرة عن شكله فأخذت تفتش عنه بعينيها ذلك عندما صاح زكريا مبهوتًا:
((كارمن!!!!))
تسائل مهند مازحًا: - إيه... لاقيت واحدة من اللي خرجت معاهم مرة ونفضت لها بعد كدة وخايف واللا إيه؟
دفعه زكريا قائلاً: - أسكت يا ابني... دي مرات أخويا... قصدي طليقته..
تأمل مهند وكذلك نور تلك التي كانت تقف قريبًا منهم بثوب أحمر قاني طويل بدون أكام يكشف كتفيها وجزء كبير من ظهرها الذي ينسدل عليه شعرها الذهبي المصفف بطريقة كلاسيكية.
أطلق مهند صفيرًا طويلاً وهو يقول:
- يخرب بيت حظكم أنت واخوك يا باشا... بتجيبوا المزز دول منين.. دي نسخة من نيكول كيدمان... وبعدين أخوك ده أهبل واللا عبيط عشان يطلقها... بس شكلها كدة هيا اللي ألشته يا عم...
وكزه زكريا في صدره ليصمت بينما توجهوا جميعًا نحو كارمن التي كانت تتناقش مع امرأة لاتينية تبكي هاتفة:
- روووز... لا يمكنك أن تتركي لي الصغيرة الآن وترحلين.. أجننتِ..؟
- سيدتي... عذرًا... لكن لقد أخبروني أن ابني الصغير في المستشفى يحتضر أريد أن أراه... أريد أن أطمئن عليه... أريد إنقاذه..
هتفت كارمن مهددة: - رووز.. إذا رحلتي الآن، فلا تعودي ثانية... وليس لك عندي شيئًا..
كانت تعتقد أنها بتهديدها ذاك ستثني المربية عن قرارها إلا أن مربية ابنتها روزالين أشتعلت بعينيها جمرتي غضب وألقت إلى كارمن بطفلة رضيعة لم تتعد الثلاثة أشهر ثم.... رحلت..!
زفرت كارمن في ضيق حينها كانت أمها قد جاءتها ممسكة بكأس في يدها متسائلة:
- شو فيه كوكي..؟
أعطت كارمن الرضيعة لأمها وهي تقول بحنق:
- المجنونة روز جت من شوية ورميت لي مايا وجريت... مش عارفة ماما هاعمل إيه بيها دي في الحفلة..!! أوووف... إيدي مستنيني وعازمني من زمان على البارتي دي هايعمل فيها بيزنس كويس وقال لي لو وشي حلو عليه... هانتجوز ونسافر على طول...
ابتسمت أمها في هدوء ثم قالت: - طيب ماما لا تعتلي هم عطيني ياها...
نظرت إليها كارمن في شك وهي تقول:
- الدكتورة الفنانة سوزي بذات نفسها هتبقى بيبي سيتر لحفيدتها... ده من إمتى ده...؟ واللا مستنية ينولك من الحب جانب بعد ما اتجوز إيدي...؟
ابتسمت أمها ساخرة وهي تقول: - عم تمزحي أنت مو هيك..! شو بيبي سيتر حبيبتي..! أنا راح اعطيها لواحدة من العاملات هون تهتم فيها لايخلص الحفل وناخدها وإحنا ماشيين... وبعدين أي حب اللي عم تحكي عنه... بس أول بس أضمني هالزلمة قبل ما يطير منك شوفي كيف البنات الحلوات متحلقين حوله..
قالت كارمن بثقة وهي تناولها ابنتها:
- ماتخافيش يا قمر... إيدي ده خلاص... بقى زي الخاتم في صباعي.. مايقدرش يعيش من غيري... عن إذنك ...
أستدارت كارمن لترحل عن أمها لتجد زكريا في وجهها قائلاً: - كارمن ...؟؟؟
ضيقت كارمن عينيها الجميلتين وهي تقول: - نعم ...؟ حضرتك تعرفني ...؟
ابتسم زكريا قائلاً: - أكيد مش هاتعرفيني لأني مانزلتش مصر بقالي زمن ولا حضرت فرحك أنت وزين ...
عضت كارمن على شفتها السفلى وهي تقول:
- أنت بقى تبع زين...؟ آاااه عايز يقول لي إنه عرف مكاني..؟ من فضلك بقى بلغه...
قاطعها زكريا قائلاً: - شششش... أنا لا تبعه ولا يحزنون... أنا مجرد أخوه وشوفتك مرة معاه في الجامعة وبعدين سافرت على أمريكا ومن يومها وأنا هنا... وبصراحة كنت مستخسرك فيه... أصل أخويا ده فقري ما يعرفش يقدر الجمال ...
ابتسمت كارمن بغرور وهي تقول: - ثانكس ... عن إذنك بقى ...
قالتها ثم تركته ورحلت تتبعها نظرات مهند الذي أخذ يتمتم: - أخوك ده والله أهبل ...
- "مسيو دي بونت أهوه .."
قالتها نور عندما رأت رجلاً يشبه ذلك الذي في الصورة يخرج من أحد الغرف يرحب بالناس... كان يشبه إلى حد كبير الطبيب والكاتب أوليفر ساكس بلحيته البيضاء وشاربه وشعره الخفيف وعويناته الطبية. توجهت إليه مباشرة يتبعها كل من زكريا ومهند. بادرته قائلة: - مسيو دي بونت..؟
أستدار الثري الفرنسي إليها قائلاً: - أكيد أنت مدام نور رحي ..
أومأت قائلة: - نعم سيدي ...
مد يده مصافحًا إلا أنها وضعت كفها الأيمن على كتفها الأيسر وانحنت أنحناءة بسيطة تحييه قائلة:
- مرحبا سيدي ...
نظر زكريا إليها وقد استشاط غضبًا وصافح هو يد الرجل الممدودة قائلاً:
- عفوًا سيدي ... إنها ...
ضحك دي بونت قائلاً: - مسلمة أدري... لا توجد مشكلة... تفضلوا ...
قادهم إلى المكتب ليتمم معهم الصفقة ويتفق على صفقة جديدة. رغم أن نور كانت كائنًا غريبًا بزيها وحجابها وصغيرها إلا أن ذلك لم يمنع الفرنسي من الإقرار بمهارتها في التفاوض وفرنسيتها الجيدة التي كانت ترد بها عليه عندما يستخدمها وسط حديثه مما أشعره بالمزيد من الراحة في التعامل معها.
وعندما انتهوا من العمل قالت نور في حزم:
- شكرًا سيدي... هل يمكنك أن تطلب لنا السيارة الآن لنرحل..؟
هتف زكريا باعتراض: - إييييه..؟
بينما ابتسم دي بونت في أسف قائلاً: - للأسف... لقد علقنا...
قالت نور في غير فهم: - ماذا...؟ كيف...؟
قال دي بونت: - الكوخ يقع على تلة مرتفعة كما تعلمين ولقد غطت الثلوج كل الطرق المؤدية إلى هنا ولا يمكن لأحد أن يدخل أو يخرج من هنا حتى تأتي الجرافات لفتح الطرقات...
زفرت نور في ضيق قائلة: - ماذا...!!!
بينما بدا السرور على وجهي زكريا ومهند، فقال مسيو دي بونت بتفهم:
- باستطاعتي توفير غرفة مريحة يمكنك المكوث بها حتى فتح الطرقات ...
ارتاحت نور قليلاً وقالت له: - أشكرك كثيرًا مسيو دي بونت...
أومأ قائلاً: - على الرحب سيدتي... وسأرسل لك العشاء بالغرفة أيضًا..
وبالفعل قادتها إحدى العاملات إلى غرفة ما بالطابق العلوي بينما أنطلق كل من زكريا ومهند لينغمسا في أجواء الحفل. بعد قليل سمعت طرقًا على الباب لتدخل عاملة أخرى بصفحة عليها بعض الطعام وضعته على منضدة ما بالغرفة وعندما همت أن تخرج لمحت عيسى فوقفت في تردد، قالت نور:
- أثمة شيء..؟
فقالت العاملة بأدب: - سـ .. سيدتي .. لديكِ طفلاً...؟
قالت نور باسمة: - نعم ابني...
كانت العاملة في قمة التردد، فقالت نور: - ماذا هناك...؟
فقالت العاملة: - ثمة رضيعة تركتها لنا أمها وهي تبكي كثيرا جدًا ولا تصمت فقلت إذا كان لديك حليبًا لطفلك فائضًا يمكننا إعطائه للصغيرة ...
تذكرت نور كارمن وما سمعته من حديثها هي وأمها، فقالت:
- لكن صغيري يرضع طبيعيا وليس معي سوى بعض الأطعمة المهروسة التي لا تصلح لمن هو أصغر منه... لكن أين أمها لترضعها..؟ أين زجاجة الحليب الخاصة بها...؟
قالت الخادمة: - لم أتمكن من إيجاد أمها فمن أعطتها لنا هي جدتها وكلما أخبرها بشيء تطلب مني أن أتصرف وأنا لا أدري ماذا أفعل..!وأوفر لك
قالت لها نور: - أحضري تلك الصغيرة لأرى ما يمكن فعله ...
خرجت العاملة وعادت بعد قليل وبين يديها طفلة صغيرة لم يتعد عمرها ثلاثة أشهر... تبكي دون توقف حتى بُح صوتها... ذكرت نور اسم الله الرحمن الرحيم عليها وحملتها بين يديها لتجد الفتاة وكأنها جمرة من النار...!! كانت حرارتها مرتفعة جدًا... فصاحت بالعاملة:
- أحضري لي بعض المياه الفاترة بسرعة ...
فتحت نور حقيبتها وأخرجت خافض الحرارة الخاص بأبنها والذي تضعه بحقيبة الطفل دائمًا تحسبًا لأي ظرف وأعطت الصغيرة منه... لاحظت أن الفتاة بدأت تبكي بدون دموع مما يعني أن الحرارة قد أدت بها إلى الجفاف سيزداد بخطورة إن لم تتناول الصغيرة شيئًا. عادت العاملة بسرعة بالمياه ومعها زميلة لها أخرجت نور منشفة صغيرة خاصة بابنها وأمرت العاملة:
- قومي بعمل كمادات للصغيرة حتى أحضر أمها... ثم وجهت حديثها إلى الأخرى:
- وأنت .. انتبهي لابني حتى أعود ...
أنصاعت العاملتان لأوامر نور التي خرجت كالمجنونة تبحث عن كارمن حتى وجدتها تجلس مع شخص ما يطوق كتفيها بذراعه، توجهت إليها رأسًا هاتفة: - من فضلك تعالي معايا ...
نظرت إليها كارمن باحتقار قائلة: - وأنت مين بقى عشان أجي معاكي...؟
قالت لها نور بنفاذ صبر: - بنتك بتموت يا مدام ولازم تلحقيها ...
تغيرت ملامح كارمن في قلق ثم اعتذرت من الرجل الذي كانت معه ونهضت مع نور إلى تلك الغرفة التي تركت بها الصغيرة.
- "البنت حرارتها مرتفعة جدًا وهاتدخل في دور جفاف لو مارضعتيهاش.."
كذا قالت نور، فقالت كارمن بانهيار: - مايا.... لـ... لكن أنا مابرضعهاش... هيا بترضع صناعي..
قالت نور بحدة: - طيب هاتي لها رضعة حرام عليكي البنت شكلها بقالها كتير مارضعتش...
قالت كارمن: - شنطتها اللي فيها الرضعات مـ... مع روزالين... نسيت أخدها منها..
أمسكت كارمن بحقيبتها الصغيرة وقلبت محتوياتها حتى أخرجت هاتفًا جوالاً أخذت تحاول الاتصال بالمربية حتى تمكنت من الحصول على إرسال وكلمت المربية ترجوها أن تعود بحقيبة الصغيرة إلا أن المربية أخبرتها أنها بالكاد خرجت وسط الثلوج ولن تستطيع العودة. لملمت كارمن أغراضها في حقيبتها على عجل وقالت لنور أنها ستنزل لتحاول التصرف، إلا أنها عادت بعد قليل تجر أذيال الخيبة... فكل مداخل ومخارج المنزل مسدودة بالجليد.
" حاولي ترضعيها أنت طيب البنت جعانة جدًا أنا شربتها مية لكنها فعلا جعانة والله أعلم هانتحجز هنا لأمتى...!"
قالتها نور، فنظرت لها كارمن بيأس وحاولت إرضاع الصغيرة لكن دون جدوى فقد جف حليبها بعد امتناعها عن إرضاع الصغيرة طوال تلكم الأشهر.
زفرت نور قائلة: - أمري لله... هاتيها...
قالتها وهي تتناول الصغيرة من أمها... وتضعها على ثديها وتلقمها إياه... فتأخذ الصغيرة الحليب وتشهق من السعادة وبدأت تفتح عينيها الفيروزيتين وكأنها تنظر إلى نور نظرة إمتنان فضمتها نور بحنان وقد علمت سر بقائها في هذا المكان بذلك الوقت رغم كرهها لذلك...! لقد شاء الله أن يكتب لتلك الصغيرة حياة أخرى وأن تكون سببًا في إنقاذها. وبينما هي ترضع الصغيرة وجدت بجوارها شيء سقط من محتويات حقيبة كارمن لم تنتبه تلك الأخيرة له... كانت بطاقة هويتها بها صورتها بزي مضيفات الطيران واسمها و... عنوانها، أعادت نور البطاقة إلى كارمن التي شكرتها بحرارة.
******
"تروحي وترجعي بالسلامة يا نور... وماتقلقيش على عيسى... هايلعب مع حبيبة وهاخلي بالي منه.."
قالتها تقى في المطار لشقيقتها التي عانقتها قائلة:
- مش عارفة ليه سمعت كلامك وسيبته معاكي ..!
غمزت تقى بمرح هامسة: - يا بنتي روحوا قضوا لكم يومين عسل كدة بعيد عن العيال قبل ما يلاقي بنته ..
عبست نور قائلة: - تقى... انت عارفة أنا ليه اشترطت عليه أنه ياخدني معاه لو عايز يعرف مكان بنته.. وعارفة كويس طبيعة علاقتنا... فبلاش بقى الله يكرمك التلميحات دي...
قالت تقى: - حاضر حاضر مش هاقول تلميحات... بس هاقول لك بس إنكم والله لايقين على بعض جدددا.. فكروا مرة تانية...
وضعت نور منظارها الشمسي على عينيها قائلة: - أنسي... ياللا سلام عليكم ...
ثم أنحنت تعانق صغيرها مرة أخرى وقلبها يتمزق لبعدها عنه وتخبره أنها لن تغيب عنه وأن يعتبر خالته كأمه، ثم رحلت لتلحق بزين عائدة مرة أخرى إلى التفاحة الكبيرة ... مدينة نيويورك.
أما زين... فقد كان لايزال متعجبًا وغير مصدقًا... كيف يعرف أخاه مكان ابنته ويتركه سنوات طوال تائهًا يبحث عنها...!!! لم يقتنع كثيرًا بإجابة نور التي اخبرته أن كارمن لم تكن قد استقرت بعد في أمريكا بل كانت تقضي إجازات أعياد الميلاد هناك فقط مع أسرتها لكن ممتلكاتهم الضخمة في الولايات المتحدة وأعمالهم هناك تشير إلى أن هذه هي اقرب بلد يمكنهم الفرار إليها بعد الثورة ... إجابتها لم توضح له موقف أخيه... لماذا لم يخبره أنه وجد ابنته وأنقذتها زوجته...!!!
لم يدر أن زكريا لم يعلم حتى وفاته بما قامت به نور مع مايا... حيث إن تتابع الأحداث بعد ذلك ربما أنساها وربما هي تعمدت ذلك كي لا يظنها تمن عليه بإنقاذها ابنة أخيه.
كانت إجازات أعياد الميلاد والكريسماس قد انقضت في ذلك التوقيت من شهر يناير 2012 ولم يكن مطار جون إف كينيدي بنيويورك مكدسًا كما يكون عادة في الأعياد، لذلك فقد أنهيا إجراءات خروجهما بسرعة ثم استقلا سيارة أجرة توجهت بهما إلى واشنطن هايتس.
فتحت نور باب المنزل الذي قضت به سنوات عجاف مرت وكأنها عمرًا بيد مرتجفة... دلفت وأضاءت الأنوار والتدفئة، ودون أي كلمة يممت وجهها شطر الغرفة ذات الفراشين لتضع أمتعتها مما أثار تعجب زين أن تركت له الغرفة الرئيسية التي من المفترض أن تكون غرفتها!!!
أما نور... فأسرعت إلى الفراش الذي كانت تحتله طوال فترة إقامتها بهذا المنزل وجلست عليه ضامة ركبتيها إلى صدرها في محاولة منها السيطرة على ارتجافة بدنها التي لم تكن من صقيع شهر يناير أو درجة الحرارة التي هبطت عن الصفر بعدة درجات، بل كان صقيع الذكريات المقبضة أشد وطئًا عليها لا تملك له أي نوع من التدفئة التي تذيبه.
******
"اللي اسمه ساليم ولد رحيل هذا إيش راح أنسوي فيه يا كابيرنا...؟؟"
تسائل ذلك البدوي الضخم وهو ينحني على رجل آخر رد عليه بعد أن نفث دخان الأرجيلة التي كانت في فمه:
- متخافش يا إسماعيل... روحه في يدنا ولو بس فكر يفتح خشمه أو يتكلم عن أراضينا وتجارتنا... تلفون زغير من أمريكا أيخليه ياخذ ذيله في اسنانه ويفر من المجلس كلاته...
تسائل إسماعيل: - ولو الداكتور الوزير هذا ما وفَّى معانا يا شيخ مناع ...!
ضحك الشيخ مناع في صخب: - ماتخافش... الداكتور عمر يبيع أبوه عشان القرش... واللي بياخده من حدانا ملايين ماهي هينة... لا يمكن يضحي بيها... متخافش يا ولد حنا مأمنيين نفسينا زيين...
قال إسماعيل: - ده نجح يا كبيرنا في الانتخابات وأنت خابر زين نيته... والداكتور عمر مهما كان نسيبه والبت اللي راح يهدده بيها بت بته زي ما هي بت ولد ساليم...
أخذ الشيخ مناع نفس آخر من أرجيلته ثم نفثه في جذل وهو يقول:
- قلت لك متخافش... هوا إحنا خبل نعتمد على الحل هيذا بس... أني مستنظر من سنيين أنتقم من ساليم وعيلته... وأهه جاتنا الفرصة لعندينا وخرج ساليم من النجع وراح البرلمان...
قالها ثم امتلأت عيناه بحقد ممزوج بشر وغضب مخيف وهو يردف:
- ويا ويله لو كشف المستور واتحدت عنه... هايبقى كتب بيده أجله وأجل عياله...
******


Just Faith غير متواجد حالياً  
التوقيع
//upload.rewity.com/uploads/157061451865811.jpg[/IMG]ستجدون كل ما خطه قلمي هنــــــاااااااااااا[/URL][/FONT][/SIZE][/B]
الشكر لصديقتي أسفة التي دائماً تشعرني بأن هناك من يشعر بدون شكوى



سلسلة حد العشق بقلوب أحلام

رواياتي السابقة بقلوب أحلام
أنتَ جحيمي -- لازلت سراباً -- الفجر الخجول
هيـــامـ في برج الحمـــامـ // للكاتبة: Just Faith *مميزة
فراء ناعـــمــ (4)- للكاتبة Just Faith-

عروس الأوبال - ج2 سلسلة فراء ناعم- * just faith *
سلسلة عشاق صنعهم الحب فتمردوا "ضجيج الصمت"

ودي مشاركاتي في سلسلة لا تعشقي اسمرا
https://www.rewity.com/forum/t326617.html
https://www.rewity.com/forum/t322430.html
https://www.rewity.com/forum/t325729.html
ودي رسمية
https://www.rewity.com/forum/t350859.html

خواطري في دعوني أتنفس
ديوان حواء أنا !!

شكرا نيمو على خاطرتك المبدعة
رد مع اقتباس
قديم 18-12-17, 01:39 PM   #23

Just Faith

مراقبةومشرفةسابقة ونجم روايتي وكاتبة وقاصة وملكة واحة الأسمر بقلوب أحلام وفلفل حار،شاعرة وسوبر ستارالخواطر،حكواتي روايتي وراوي القلوب وكنز السراديب

alkap ~
 
الصورة الرمزية Just Faith

? العضوٌ??? » 289569
?  التسِجيلٌ » Feb 2013
? مشَارَ?اتْي » 145,786
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » Just Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond repute
?? ??? ~
جروبي بالفيس (القلم وما يهوى)https://www.facebook.com/groups/267317834567020/
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

- 4 -
"بسم الله الرحمن الرحيم... أقسم بالله العظيم... أن أحافظ مخلصًا... على سلامة الوطن والنظام الجمهوري... وأن أرعى مصالح الشعب وأن أحترم الدستور والقانون"
لقد كان صوت أبيه... تقلب في الفراش الذي يحتله لا يدري أذلك حُلُمًا من تلك الأحلام المختلطة التي أخذت تتناوب عليه منذ أن تمكن من النوم أم هو حقيقة...!
نهض جالسًا على الفراش... ألقى نظرة على جواله ليجدها تمام الخامسة فجرًا... صاح "الفجر..!"
خرج من الغرفة بعينين ناعستين وشعره الأسود الفاحم مبعثر حول رأسه ليجده حقًا... إنه أباه...!!!
تلك الشاشة الضخمة بالردهة الصغيرة للمنزل كانت تبث أولى جلسات مجلس الشعب وقد أنتهى الشيخ سليم لتوه من أداء اليمين كعضو من أعضاء برلمان الثورة.
على الأريكة المقابلة للتلفاز كانت نور متكومة على نفسها بخمار أبيض وتنورة بيضاء وكوب يتصاعد منه البخار في يدها شاردة تمامًا وكأن شياطين ذكرياتها المؤلمة كلها قد تلبستها، فعندما نهضت كعادتها قبيل الفجر لأداء وترها... وجدت قدميها تجراها بأداءٍ مازوخي بحت من إمعان تعذيب الذات لتشهد توقيع صك تضحيات قدمتها واحدة تلو أخرى رغمًا عنها.
"هـ... هوا الفجر أذن...؟"
تسائل بصوته القوي الناعس، فأجفلت نور التي لم تلحظ استيقاظه واعتدلت في جلستها مباشرة إلا أن بعض قطرات مشروبها الساخن تساقطن على خمارها ناصع البياض.
"آسف .." قالها خافضًا عينيه إلى الأرض، فأجابته بهدوء يناقض تمامًا ما يعتمل بداخلها:
- لأ مش مشكلة... أنا اللي كنت سرحانة... الفجر لسة شوية عليه بيأذن على 6 إلا خمسة هنا والشروق على الساعة 7 وربع...
أشار إلى التلفاز قائلاً بسخرية: - هوا مجلس الشعب المصري وصل أمريكا كمان...؟
ردت عليه وهي تتابع التلفاز: - ده من على الإنترنت...
تسائل باهتمام: - فيه شبكة إنترنت هنا...؟
أجابته مشيرة إلى مكتب أنيق بزاوية الردهة:
- أيوة... شبكة الإنترنت هنا لسة شغالة... والكمبيوتر أهوه متوصل بالإنترنت لو محتاجه.. أنا بس كنت وصلت شاشة التلفزيون مكان شاشة الكمبيوتر عشان أشوف الجلسة الافتتاحية للمجلس...
قالتها ثم لم تتمكن من كتمان تعقيبها المرير الساخر... لم تتمكن من إلتزام الصمت كعادتها وسط جدران هذا المنزل التي تكاد تُطبق على روحها، فابتسمت بمرارة مردفة بسخرية:
- ... وأشوف عمي سليم اللي وصل للمكان ده عشان يجيب حقوق الشعب بقهر بنت أخوه ونهب حقوقها....
عقد زين حاجبيه في غضب وهو يقول بتوجس:
- قصدك إيه...؟ حقوق إيه دي اللي أخدها منك...؟
وكان إنفجارها لا مفر منه إذ وضعت كوبها جانبًا ثم نهضت هاتفة بحنق:
- حقوق إيه...؟!!! مش عارف حقوق إيه اللي سرقتوها مني...؟ من أول حقي في أني أكمل تعليمي وحقي في إني أختار أتجوز واللا لأ... وحقي لو قررت أتجوز في إني أختار الإنسان اللي أكمل معاه حياتي... وحقي إني أرفض أو أقبل أو حتى أفكر في أي شخص يتقدم لي..!!
كانت محقة في كل حرف تفوهت به... هو يدري يقينًا ذلك في أعماقه، لكن قد علمته التجارب أنهن مخادعات يتلبسن بالحق لإخفاء الباطل؛ يتعلقن بأستار حقوقٍ مكفولة لهن للتملص من كل واجب.. هكذا دَأْبُ النساء اللاتي ورثن طبيعة الحيات في نعومة التسلل إلى حقوقهن المزعومة ليغافلنك بطعنة سامة من حيث لا تدري.
- "للدرجة دي مش طايقة تكوني زوجة وعايزة تمشي على حل شعرك....!"
وكان لابد من تمييع الحقائق والإثبات أنه لها بالمرصاد وأنه سينتزع سمها كي لا يُلدغ مرة أخرى؛ أما هي فكان قد فاض بها الكيل من نظراته المتهمة ثم كلماته الجارحة فعاودتها روحها القتالية التي يبدو أنها كانت عالقة بجدران ذلك المنزل التي كما شهدت على عذابها مع شقيقه الراحل فقد شهدت أيضًا على مجابهتها له بقوة وعزيمة لا تلين، لذا قررت أن تصيبه في مقتل.
- من فضلك يا باشمهندس... أنا ماسمحلكش إطلاقًا أنك تتهمني في شرفي وديني وأخلاقي... وشعري اللي بتتكلم عنه ده ماحدش شاف منه شعراية إلا القليل من محارمي... وعمر ما حد لا يحل لي لمس إيدي لسلام أو غيره... ياريت حضرتك لو كنت فعلا ناوي تحترم الإتفاق اللي ما بيننا ماتحكمش عليا من غير دليل... مش معنى إنك شوفت أو إتعاملت في حياتك مع نموذج سيء من النساء تبقى كل النساء بالسوء ده... (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة)...
قالتها ثم أسرعت إلى غرفتها بعد أن كشفت الضماد عن جرح رجولته الغائر ونزلت كلماتها كمطهر حارق عليه... آلمه وذكَّره بامرأة مد لها يد العون فعضتها وطعنته في ظهره، زاد ألمه من غضبه وحنقه على نور فأسرع خلفها تتقافز شياطين حقده الأسود أمامه عازمًا على تأديبها وإفهامها أن تمثيلها لن ينطلي عليه... فقد عرف كل شيء عنـ...
لكنه عندما فتح باب غرفتها وجدها ساجدة... تبكي... فتراجع في صمت متحيرًا... لا يمكن أن يكون كل ذلك تمثيلاً...!!
***
"لأ... خد جسر فيرزانو الجاي ده عشان نطلع على بروكلين..."
وكأن شيئًا لم يكن... خرجت في كامل ملابسها ممسكة بمفتاح سيارة شقيقه الراحل تسأله إذا كان يود قيادتها للذهاب إلى منزل كارمن. رغم كبرياء نظراتها، إلا أنه لم يخف عليه انتفاخ عينيها وإحمرارهما من أثر البكاء. تعجب من وداعتها وأنوثة فطرية تشع من حركاتها الخجلة وهي تناوله مفتاح السيارة دون التوجه بعنجهية لقيادتها كما اعتادت أثناء إقامتها هنا، ثم إرشادها له بصوتها الهامس مخبرة إياه أي طريق يسلك...!!!
"هانروح بروكلين...؟" تسائل زين.
تأملت نور مبنى فاينانشيال ديستريكت البعيد القائم بشموخ أعلى نهر هيدسون وقالت شاردة:
- أيوة... خد طريق 95 وأطلع من منهاتن على بروكلين عشان ناخد العبارة اللي هاتوصلنا نيو إنجلاند... بيتهم على البحر هناك في مدينة جرينويتش اللي في ولاية كونيتيكت...
كان يقود بسرعة وتوتر وكأن سنوات ضياع ابنته كلها تضغط معه على دواسة البنزين... لقد أضناه البحث على مدار ست سنوات وهاهو لا يفصله عنها سوى بضع دقائق لا يطيقهم صبرًا.
"على مهلك شوية أنت متجاوز لحدود السرعة المسموحة..." نبهته نور.
أبطأ قليلاً وقلبه يتقافز بين أضلعه... بينما أخذت نور تعتصر أفكارها لتتأكد من صحة تذكرها للعنوان الذي كان مدونًا على بطاقة الهوية الخاصة بكارمن.
"أيوة هوا ده أكيد..."
صاحت نور وهي تشير إلى منزل قائم في زاوية منعزلة يطل على المحيط مباشرة... كان بيتًا كبيرًا إلى حدٍ ما... مكونا من ثلاثة طوابق... أوقف زين السيارة وترجل منها مسرعًا وعبر الشريط الرملي الفاصل بين الطريق والبيت، وأخذ لعدة مرات يحمي عينيه من ذرات الرمال المتصاعدة بفعل الريح.
فرك يديه محاولاً تدفئتهما... سيأخذ ابنته... سينتزعها من كارمن مهما كان الثمن... لن يتركها لها أبدًا.
تأمل المنزل الذي يبدو فخمًا للغاية وعرف أن سيادة الوزير السابق لم يضيع وقته سدى في الوزارة فراتبه كأستاذ في الجامعة وحتى أعماله وشركاته لم تكن كبيرة بما يكفي لشراء بيت كهذا...!
وصل إلى الباب الأمامي للمنزل وأخذ يضغط على الجرس ويطرق الباب في قوة حتى فتح له أحد الخدم على ما يبدو وتأمله متسائلاً:
- كيف يمكنني أن أخدمك يا سيدي...؟؟
أجابه زين: - أريد مقابلة السيد عمر أو مسز كارمن أو أي شخص عندك...
أجابه الخادم: - لا يوجد أحد منهم هاهنا سيدي...
تسائل زين: - متى سيعودون...؟ يمكنني انتظارهم...
اجابه الرجل بهدوء: - أعتقد أنه ليس بإمكانك ذلك سيدي... فقد سافر الجميع الى الجد والجدة ولن يعودوا قبل شهر...
تسائل زين في حدة: - وأين منزل الجد والجدة ذاك...؟؟؟
قال الرجل بأدب وهو يغلق الباب: - ليس مصرحًا لي أن أخبر أحدًا بذلك... عن إذنك سيدي...
قالها ثم أحكم إغلاق الباب، فزفر زين في حدة وقد هوت كل تطلعاته من عليائها... لكنه كان يعرف أن الأمر ليس سهلاً على الإطلاق...!
وقف على شاطيء المحيط أمام المنزل وصوت الأمواج الهادرة الممتزج بصوت النوارس يشوش على تفكيره... حتى رأى فتاة تتدثر بمعطف ثقيل وتمسك بيدها سلة تدلف من الباب الحديدي الخارجي للمنزل... تبدو عاملة أو خادمة... أسرع زين إليها... استوقفها قائلاً:
- إحم .. من فضلك...
توقفت الفتاة ونظرت إليه بعينين خضراوين وقد أحاطت بوجهها قلنسوة معطفها ذات الفراء، فأخرج زين حفنة من الدولارات وقال هامسًا:
- مسز كارمن كانت قد واعدتني أن الحق بها في منزل الجد والجدة وأعطتني العنوان لكنني بغبائي فقدته... هل يمكنك أن تعطينيه مرة أخرى...
نظرت إليه الفتاة ببلاهة، فأكمل:
- أ... أ... لا أريد أن أبدو مهملاً أمامها وأسألها عنه ثانية... تعرفين ذلك...
كانت الفتاة تعرف علاقات كارممن المتعددة وكثيرًا ما جنت أمولاً من ورائها، فألتمعت عيناها وأختطفت الدولارات وهي تهمس:
- كل ما أعرفه سيدي أنها مزرعة في تكساس... لكن... أين تحديدًا... لم يخبرنا أحد قط ...!
قالتها ثم أسرعت إلى المنزل وهي تنظر حولها لتتأكد من أن أحدًا لم يرها، أما زين فقد مادت به الأرض... أسيذهب في كل تكساس يبحث عنها...؟ وكأنه يعود للبحث عن إبرة في كوم قش...!!!
***
(( كيف ما بتعرف يا داكتور عمر... هيذي أمي الجدة حنة أم ساليم... وهيذي زوجتي أم زين..
قالها الشيخ سليم، فقال الدكتور عمر: - يا أهلاً وسهلاً نورتونا... دي بقى يا سيدي – مشيرًا إلى زوجته- المدام.. الدكتورة سوزان الإفرنجي... طبيبة...))
***
((..قالت سوزان: - واو ... زهوة هيدا اسم تبعنا نحنا الفلسطينين.. هههه.. هيدي أكيد علامة... لك شوفي أنا ما جبت إلا بنتين الله يخلي لي ياهن يا رب... كلارا الكبيرة بأمريكا عم تشتغل في مجال الإنشورانس.. التأمين يعني ...
قاطعتها أم زين مستنكرة:- لحالها..؟
ضحكت سوزان قائلة:- ههههه.. لا.. هيا مع أمي وبيي... عندنا هنيك بيت كبير فيه أمي وبيي ونحنا كل ما نروح عا أمريكا بننزل عندهن حتى كارمن كل شوي عم بتسافر لهم تضل شي كام يوم وترد ..))
***
"لا سيدي... مسيو زاك رحيل توفى... يدير العمل الآن مسيو زين رحيل شقيقه.."
دخل السيارة وأدارها بسرعة دون أن يلقي بالاً لما سمعه من حديث نور التي قالت لمحدثها بالهاتف:
- حسنًا... لا عليك... سأخبره.. أورڨوار..
نظر إليها بجانب عينه ثم زاد من ضغطه على دواسة البنزين، سألته نور بهدوء محاولة مداراة لهفتها:
- لاقيت مايا..؟
ضرب المقود بقبضته ثم قال في حنق: - لأ.. سافروا كلهم...
تسائلت نور مدهوشة: - سافروا...؟؟ سافروا فين...؟ وراجعين أمتى...؟
أجابها في غضب: - اللي فهمته أن عندهم مزرعة في تكساس راحوا عليها...
عقدت حاجبيها قائلة: - تكساس..؟ فين في تكساس...؟
صاح بحدة: - قولي أنتِ يا أم العريف مش أنتِ اللي جبتينا هنا...!!!
رفعت نور أحد حاجبيها وقالت بثقة: - وده طلع بيتهم فعلا... مش كدة واللا ضحكت عليك...؟
أشاح زين بيده وقال وهو يخرج جواله: - ماعنديش وقت للكلام الفارغ ده... خليني أحجز أول تذكرة على تكساس...
قالت نور: - لازم تهدا عشان تعرف تخطط هاتعمل إيه... أنت عارف تكساس دي أد إيه... هاتروح تمسك ميكروفون وتلف فيها وتقول عيل تايه يا ولاد الحلال...!!!
زفر زين ثانية وهو يتمتم: - اللهم طولك يا روح ...! مش ناقصة خفة هيا...
قالت نور: - الأول قبل ما أنسى... مسيو دي بونت أكبر مستورد لمنتجات مزرعتك جات لي مكالمة من مكتبه وقالوا لي إنه كان عايز يقابل زكريا وبعدين أما عرف أنه توفى وأنك موجود هنا... كلمني بنفسه وأصر أنه يقابلك قبل ما يسافر بكرة...
هتف زين: - أحنا في إيه واللا في إيه...!!!!
قالت نور بهدوء: - أولاً الراجل ده أكبر العملاء اللي بيستوردوا محاصيل مزرعتك اللي عشان تحافظ عليها إتجوزت إنسانة مش طايقها ولا بتثق فيها... ثانيًا... ممكن مرواحك ليه يساعدك في إنك تعرف مكان بنتك.. ماتنساش أن أنا شوفتها عنده ومش بعيد يكون عنده فكرة عن عنوانهم في تكساس...
هدأ زين من سرعة سيارته وشرد في حديث نور المرتب وسرعة بديهتها رغم أن شيء ما بداخله أستُفَز عندما ذكرت أمر زواجهما... وكأنها تخبره بوضوح أنها تعرف أنه لا يطيقها ولا يثق بها.. الأمر الذي بات يشك فيه هو شخصيًا.
- طيب هوا فين مسيو دي بونت ده...؟ هانروح له في الكوخ اللي...
- لأ... هوا موجود في شركته في مبنى فاينانشيال ديستريكت النهاردة لحد الساعة 7 مساءًا ومستنيك في أي وقت قبل الساعة 7 لأنه مسافر بعد كدة...
أجابته بهدوئها الذي لم تفقده بعد ثم وضعت منظارها الشمسي على عينيها وهي تراقب شوارع نيو إنجلاند المحتفظة بجمالها حتى مع برودة الجو في طريق العودة إلى مانهاتن.
***
بالكاد... أنهى اتفاقات العمل وعروض الأسعار والكميات وكل ما يتعلق بتوريد منتجات واحته بنصف عقل في المكتب الفسيح لمسيو دي بونت ذو الإطلالة البانورامية على خليج هيدسون، قام بعدها العجوز دي بونت برفع منظاره الطبي على جبهته ونظر نظرة ثاقبة إلى زين قائلاً:
- تبدو مشغولاً يا صغيري...
تنحنح زين قائلاً: - عفوًا سيدي لم أقصد أن...
نهض دي بونت من على مقعده وهو يقول: - أدري أنك لا تقيم هنا... حتى شقيقك الراحل الذي كان يقيم هنا لم يكن يأخذ العمل بجدية ولولا مدام نور ما كان خرج من السجن ولا عاد التعامل بيننا...
عقد زين حاجبيه في تعجب، بينما أشعل دي بونت غليونه وهو يجلس على مقعد جلدي مريح مردفًا:
- لكنني أنصحك بأن تتمسك بمدام نور ولا تثق كثيرًا بمن يدعى مهند ذاك...
نهض زين ليجلس قريبًا من مسيو دي بونت وهو يتسائل في تعجب: - مهند التوني..؟
أومأ دي بونت قائلاً: - شعرتُ أنه شخص متلاعب وغير أمين بالمرة على العكس من مدام رحيل... فقد كانت تعمل بإخلاص حقيقي...
لم يكن زين قد ألتقى بمهند فعليًا، كان يعرفه عن طريق رسائل البريد الإليكتروني المتبادلة بينه وبين شقيقه أو بينه وبين مهند مباشرة إلا أن المستثمر الفرنسي كان يتحدث بثقة وكأنه بالفعل قد رأى منه ما يُسيء.
قال له زين: - أنا أقدر لك كثيرًا نصيحتك سيد دي بونت وسوف أأخذها بعين الاعتبار...
قالها ثم صمت قليلاً في ترددن فابتسم دي بونت بأريحية وهو يقول:
- هاه يا فتى... هات ما عندك.. يبدو حقًا أن ثمة أمر هنالك تود قوله..
تنهد زين ثم قال: - بالفعل سيدي... ثمة أمر يشغل بالي كثيرًا... كنت أود أن أسألك عن صديق مصري مقيم هاهنا أرغب جدًا بلقائه لكن للأسف وجدته قد ترك منزله في نيويورك وسافر إلى تكساس ولا يمكنني الإتصال به، فسأكون شاكرًا إذا كنت تعرفه أن تدلني عليه فهو قريب لم أره منذ زمن... هو اسمه عمر هجرس ...
عقد دي بونت حاجبيه في تفكير، وعندما هم أن يتحدث قاطعه صوت طرقات على الباب ثم دخول السكرترة تعلن: - مستر بيل أندرسن وصل مسيو ويريد مقابلتك...
هتف دي بونت: - هاهو ذا أحد منافسيكم في توريد المنتجات الزراعية والحيوانية إلى متاجري كما إنه يقيم في تكساس قد يكون ذا منفعة لك، فأنا لا أذكر اسم صديقك ذاك على الإطلاق...
قالها ثم استدار إلى السكرتيرة مكملاً: - دعيه يدخل آبي...
وما هي إلا لحظات حتى دلف رجل ستيني طويل القامة ذو شعر أبيض كالثلج وبشرة ملوحة متوردة وعينان زرقاوان صافيتان... كان يرتدي بنطالاً من الجينز الأزرق الداكن عليها كنزة صوفية رمادية يبدو من أسفلها ياقة قميص بلون السماء كل هذا يعلوه معطف جلدي طويل وشملة صوفية حول عنقه.
"نيويورك... نيويورك... نيويورك... أكثر مدينة أمقتها في هذا الوقت من العام... وأنت تعلم ذلك جيدًا أيها العجوز جان ومع ذلك أصررت على أن نلتقي هاهنا..."
صاح بيل في صخب مرح وهو يخلع عنه معطفه، فنهض دي بونت قائلاً بوقار:
- مرحبًا بيلي... تبدو منهكًا...
ضحك بيل في حسرة قائلاً: - قل تبدو محطمًا... نحن في كارثة لم نشهد مثلها منذ زمن يا صديقي... ولولا كرمك وعرضك شراء كل رؤوس الماشية التي عندي بالسعر المعتاد لكنت بعتها بثمن بخس قبل أن تنفق..!
بعد أن تصافحا أشار دي بوينت إلى زين قائلاً:
- دعني أقدم لك مسيو زين رحيل صاحب مزرعة رحيل التي أستورد منها منتجاتنا العضوية ذات المواصفات الخاصة جدًا...
تنحنح زين وهو يصافح بيل قائلاً:
- لست صاحب المزرعة، في الواقع هي مزارع مملوكة لعائلتي وأنا مجرد مهندس زراعي أعمل بها...
صافحه بيل قائلاً: - أهلا مستر رحيل... يسرني جدًا لقائك... لكم وددت أن يعمل جوناثان ابني في مجال الزراعة عله يجد حلاً سحريًا للحال الذي علقنا فيه حاليًا لكنه فضل دراسة الطب...
قال دي بونت: - مسيو زين حاصل على دكتوراه في مجال المحاصيل والري يا بيل..
هتف بيل: - حقًا...؟ هل يمكن أن يكون هو من يجد لنا حلاً سحريًا للجفاف الذي تمر به تكساس هذه الأيام...؟؟
ابتسم زين بهدوء قائلاً: - ليست هناك حلولاً سحرية سيدي... ثمة شيء يُدعى دراسة حالة ثم وضع كل الحلول الممكنة وأختيار أقربها...
قال بيل: - نحن حقًا منافسين في مجال التوريد لنفس العميل، لكنني أطلب أن أستضيفك بمزرعتي في تكساس لعدة أيام كي ترى ما يمكن القيام به حيال هذا الأمر الذي يكاد يقضي على كل إنتاج المزرعة ويكبدنا خسائر هائلة... وسأدفع لك ما تطلبه...
قال زين بسرعة: - يسعدني ذلك سيدي ... ولن أطلب منك سوى أمر واحد فقط ...
قالها ثم نظر بامتنان إلى دي بوينت وهو يردف:
- تساعدني أن أجد صديق عزيز عنده مزرعة في تكساس لا أعرف أين هي تحديدًا.!!!
***
"هوا لازم أسافر معاك تكساس يعني..؟؟"
تسائلت نور وهي ترى زين مسرعًا إلى غرفته يلملم بضعة أغراض، استدار نحوها قائلاً:
- على فكرة أنا مش واخدك عشان سواد عيونك... أولاً أنت الوحيدة اللي ممكن تتعرفي على بنتي ثانيًا مسيو دي بونت عرف انك هنا وإنك مراتي فأصر مستر آندرسن إنك تيجي معايا مزرعته في تكساس...
صمتت نور لحظات مفكرة ثم قالت ببساطتها المعهودة:
- خلاص مافيش مشكلة... عشر دقايق وأكون جاهزة...
وما هي إلا دقائق حتى أستقلا سيارة بيل آندرسن الذي كان ينتظرهما والتي أنطلقت بهم إلى مطار لاجورديا، وبعد أربع ساعات تقريبا هبطت الطائرة بمطار دالاس في مدينة دالاس بتكساس.
"لن يستغرق الطريق أكثر من ساعتين حتى نصل إلى بالو بينتو"
قالها السيد بيل آندرسن الذي كان يمثل الشخصية الأمريكية التقليدية بكل مرحها وحرارتها وحماسها بينما يستقلون سيارته التي لم تكن بعيدة عن المطار، فتسائل زين الجالس بجواره:
- بالو بينتو؟؟
أجابه الامريكي: - نعم... بالو بينتو مقاطعة من مقاطعات تكساس مشهورة بالزراعة... لا تبعد عن دالاس بالسيارة سوى ساعتين تقريبًا...
رغم أنها الساعات الأخيرة من العتمة قبيل الفجر... إلا أن الجو كان أكثر حرارة وقيظًا من نيويورك، مما حدا بنور وزين أن يحذوا حذو السيد بيل في خلع معطفيهما الثقيلان الذين كانا يقياهما الصقيع النيويوركي.
- هل تعلم أنه يعاني 70 بالمائة من تكساس من جفاف استثنائي منذ العام الماضي..؟
بدأ السيد بيل حديثه أثناء قيادته مردفًا دون أن ينتظر إجابة:
- لقد إنخفض إنتاج القطن وتكبدنا خسارات فادحة، مستر رحيل، هذا العام... حيث بدأ المشترون، الذين كانوا سيذهبون إلى تكساس العام الحالي، كالمعتاد، لشراء القطن للأسواق الآسيوية، في البحث عن دول أخرى منتجة للقطن مثل البرازيل وأستراليا. ومع إقامة المشترين لعلاقات جديدة، فمن الممكن أن لا يعودوا إلى تكساس مرة أخرى عندما تعاود الأمطار السقوط...
صمت السيد بيل وهو يدور بسيارته ثم أكمل حديثه:
- أيضًا... من المحاصيل الأخرى التي تنتجها تكساس، والتي تأثرت بموجة الجفاف الفول السوداني والذرة والقمح... وسوف يمتد تأثير الجفاف إلى محاصيل الأرز في حال ما إذا أستمر الجفاف هذا العام بدوره. ويلم يسلم قطاع الماشية أيضًا، فبعد أن كنت أقوم بشراء التبن من مزارع تقع على بعد آلاف الأميال، أجبرني أرتفاع تكاليف الشحن إلى بيع أجزاء كبيرة من الماشية بسبب جفاف العشب وندرة المياه... ونظرًا لذبح الكثير من رؤوس الماشية، فمن المحتمل أن ينخفض المعروض في المستقبل.
أستمر السيد بيل أندرسن يسهب في وصف الجفاف وأثره على مزارعي تكساس وولايات أخرى كأوكلاهوما ولويزيانا ونيومكسيكو وكنساس.
- سترى بنفسك يا بني الحالة التي وصلنا لها من الجفاف... حتى البحيرة التي تطل مزرعتي عليها.. بحيرة بالو بينتو الشهيرة... صارت تقريبًا شبه جافة... تطفو الأسماك النافقة على سطحها الضحل...
صمت بيل أندرسن قليلاً وهو يتابع الطريق ثم أردف بعد تنهيدة يائسة:
- إن عدم اليقين يا صغيري هو ما يزيد الأمر صعوبة... إذا عرفنا ما الذي سيحدث بالضبط، كان من الممكن أن نتكيف مع الأوضاع..
تنحنح زين وقد شعر أن عليه استذكار كل ما درسه في مصر وإنجلترا عن الجفاف، فقال:
- لا تقلق مستر أندرسن... ثمة حلول كثيرة يمكنكم من خلالها التكيف مع هذا الجفاف الإستثنائي.. منها تغيير بسيط في نوعية المحاصيل مثلاً... أو إستخدام البرمجة الذكية للري أو إستخدام إدارة للرى بتطبيق طرق متقدمة تساعد في توفير المياه مثل نظام الري الناقص أو إستخدام تقنيات الري الكفء... سنرى أيهم أوقع عند معاينة مزرعتك..
وبينما أنخرط كلاً من زين والسيد بيل في نقاش حول نوع المزرعة والحلول الممكنة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بها، تاهت نور في حلم بإيجادها... تلك التي أرسلها القدر لإنقاذها ذات ليلة جليدية وقد كانت على شفا الموت...! تلك الجميلة الخمرية ذات العينين الفيروزيتين وقد طبعها الحسن بطابع جميل أسفل ذقنها. تذكرت كيف ضمتها إليها... شهقاتها الخافتة بعد أن وصل إلى جوفها الملتهب... سائل الحياة ... يداها الدقيقتان تتحركان في سعادة... إنها ابنتها حقًا... ابنتها التي لم تحملها بأحشائها ولم تعش معها سوى سويعات معدودة... فتاة شديدة الجمال لأم شديدة الإهمال.
- "هانحن ذي... مرحبًا بكم في مزرعة ماجدولين... مزرعة آل أندرسن..."
قاطع السيد بيل استرسال افكارها... بينما تدلف السيارة من بوابة حديدية ضخمة إلى ممر مضاء من الجابين إضائة لم تفلح بتبديد كل العتمة، فلم يظهر من المزرعة سوى أشباح أشجار ومنزل ضخم مبني على الطراز الفيكتوري مكون من ثلاث أجزاء لكل منهم سقف قرميدي منحدر. توقفت السيارة أمام الباب الرئيسي للمنزل ليترجلوا متوجهين إليه بينما السيد بيل يردف مستمراً في حديثه:
- تفضلا بالداخل... يمكنكما الاستراحة الآن ومشاهدة المزرعة في ضوء النهار بصورة أفضل...
تبعاه إلى ردهة فسيحة غارقة في الصمت وقد تناثرت بها قطع أثاث كلاسيكية، قال السيد بيل شارحًا:
- تقيم معي زوجتي مادلين وأبنتاي لورين وإيميلي، لكن يبدو أنهن قد خلدن إلى النوم... أما جوناثان ابني فهو مستقر في هيوستن ويأتي كل بضعة أيام...
هنا سمعوا جلبة عند الباب الذي دخلوا منه الذي لم يلبث أن أنفتح ودخلت منه فتاة عشرينية جميلة ترتدي معطفا طويلاً مفتوحًا تظهر أسفله تنورة جلدية قصيرة جدًا على قميص حريري ضيق مفتوح الصدر يكاد يكون شفافًا، كانت الفتاة تتغنى بأغنية ما سريعة وبنظرة إلى عينيها الزرقاوين وشعرها الأشقر المائل للبرتقالي وملامحها الجذابة يبدو جليًا أنها إحدى بنتي السيد بيل. أحنى زين رأسه غاضًا طرفه فورًا بينما حادثها السيد بيل:
- لورين...! أين كنتِ...؟
أبتسمت الفتاة ابتسامة واسعة وهي تجيب: - لقد كنت في حفل اقامته كلارا لشقيقتها قبيل زواجها...
عبس السيد بيل قائلاً: - ألازلتِ مصرة على إغضاب شقيقتك منك...؟
أشارت لورين بيدها بغير اهتمام ثم قالت مغيرة الموضوع:
- لكنك عدت سريعًا... ومعك ضيوف أيضًا..
قالتها وهي تتفحص كل من نور بحجابها الواسع وزين المطرق، فقال اليد بيل:
- هذا مستر زين رحيل مهندس زراعي وصديق مسيو دي بوينت وتلك مسز نور رحيل زوجته...
صافحت الفتاة نور ثم مدت يدها مصافحة زين الذي كان قد حمل حقيبته وحقيبة نور أيضًا ورفع رأسه قليلاً وهو يرد تحيتها: - مرحبًا آنستي...
رفعت الفتاة حاجبًا وشملت زين بنظرة غامضة، فقال السيد بيل:
- لوري... من فضلك أريهما الغرفة الشرقية الخاصة بالضيوف..
أومأت الفتاة في هدوء ثم قادت كلٍ من زين ونور أعلى الدرج حتى وصلا إلى غرفة بالأعلى ذات فراش خشبي وثير ودولاب مع مقعدين ومنضدة وشرفة صغيرة ونافذة ودورة مياه ملحقة. أدخلتهما لورين ثم أستأذنتهما ورحلت مغلقة الباب خلفها.
كانت إمارات التعجب مرتسمة على وجه نور، بينما قام زين بإزاحة أغطية الفراش العديدة ليأخذ منها لحافًا ووسادة قائلاً: - أتفضلي أنت عالسرير...
قالها وهو يفرش اللحاف أرضًا، إلا أنه توقف وقد لحظ علامات التعجب والشرود على ملامح نور، فسألها دون إهتمام: - فيه حاجة..؟
مطت شفتيها وهي تقول: - أنت ليه ماسلمتش على البنت...؟
ذُهل من سؤالها، إلا أنه رد ساخرًا: - ما أنت ماسلمتيش على مستر بيل...!
قالت: - أيوة... عشان أنا معتقدة أنه لا يجوز شرعًا مصافحة الرجال...
ضحك زين بسخرية قائلاً وهو يفتح حقيبته:
- الأمر زي ما نزل على الستات نزل على الرجالة على فكرة... بالعكس الأمر أصلاً للرجال في الحديث الصحيح عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له"...
تابعته نور بعين شاردة وهو يخرج ملابسه ويدلف إلى دورة المياه الملحقة بالغرفة وألف تساؤل يجوب عقلها عن هذا الرجل ذو التركيبة العجيبة... وكيف هي المرأة التي كانت زوجته يومًا ما...!!
خرج زين وقد بدل ملابسه بينما وجهه وذراعيه إلى المرفقين يقطرون ماءًا... تناول بُساط الصلاة الخاص به ثم توجه إلى الشرفة... حدد القبلة بواسطة البوصلة والخرائط بهاتفه الذكي، ثم نصب قدميه يصلي... يتوسل إلى الله أن يعثر على صغيرته... فقد تعب حقًا.
***
طاولة طعام دائرية... يستقر حولها السيد أندرسن... لورين وشقيقتها إيميلي التي كانت عكسها في كل شيء... فإيميلي نصف شقراء ذات عينين خضراوين بشرتها البيضاء تحمل الكثير من النمش الذي يشي بأصولها الإيرلندية... شعرها ثائر معقوص كيفما أتفق... ملابسها محتشمة مكونة من تنورة طويلة وقميص من الجينز ذو أكمام طويلة... حاجبيها معقودين على الدوام... كلماتها قليلة قاطعة.
أما التي زلزلت قلب نور بشدة فور رؤيتها كانت مادلين... زوجة السيد بيل... ببشرتها البيضاء الشاحبة وعينيها البنيتين المتعبتين اللتين يذكرانها بعيني أمها.
أنتهوا من تناول طعام الإفطار ولم يغب عن نور طيبة قلب السيدة مادلين والنظرات الممتعضة من قبل إيميلي التي يقابلها نظرات غامضة من لورين تشمل زين بها. توجهوا جميعًا إلى مجلس جلدي بني اللون حول مدفأة تقع أسفل شاشة تلفاز ضخمة في تكوين صخري أبيض اللون تحيط به مكتبة من الجانبين، وكانت ثمة نافذة ضخمة بطول الحائط المحيط بركن المجلس ومنضدة الطعام وقف زين أمامها يتأمل المزرعة التي قضى الجفاف على الكثير من خضارها لتبدو الأشجار خالية من الأوراق وجافة وتتحول الحشائش الخضراء في أكثر من مكان إلى اللون الأصفر.
- "أرأيت ...!! يمكننا أن نخرج الآن لتشاهد كل شيء على الطبيعة"
قالها السيد بيل، بينما جلست مادلين على مقعد هزاز بجوار المدفأة وهي تقول باسمة:
- أما نحن فسنتناول الشاي هنا في الظل...
بادلتها نور الأبتسام وهي تجلس على مقعد قريب بينما هبت لورين تلحق بكلٍ من زين وأبيها هاتفة:
- سأرافقكما أبي..
عضت نور على شفتها في غيظ وهي تتأمل الباب الذي خرجوا منه في شرود أخرجتها منه كلمات إيميلي الساخرة:
- إذن.. هو من يفرض عليك أن تتغطي هكذا...!
قالتها وهي تشير إليها باستهزاء قاصدة زين، صوبت أمها نظرة عتاب حادة إليها ثم ابتسمت لنور قائلة:
- عذرًا... لكن إيملي معارضة لكل شيء... معارضة لبعض الأديان ولبؤس البلدان الفقيرة، معارضة لتلويث البيئة، معارضة لعمل الأطفال... لم تتخلف عن اي إحتجاج من إحتجاجات واشنطن ضد صندوق النقد الدولي والبنك الدولي...
نظرة إلى ملابسها المحافظة والصليب المستقر بطوق عنقها أدركت نور أن إيملي التي تبدو في أواخر العشرين ليست معارضة للدين على إطلاقه، وهذا نموذج تعرفه جيدًا وقابلته كثيرًا... فأرتسمت ابتسامة ودودة على شفتي نور قائلة:
- لا عليك سيدتي.. من حقها أن تعبر عما يدور بخلدها... وهي على صواب على فكرة...
أتسعت عينا مادلين في غير تصديق، وبينما بدأت بوادر ابتسامة منتصرة ترتسم على شفتي إيملي... عاجلتها نور باستطرادها:
- الحجاب رمز سلطة الرجل على المرأة بالفعل... لكن ليس في الإسلام...
صمتت قليلاً ثوانٍ معدودات بطريقة مدروسة ثم أكملت وهي تنهض نحو المكتبة لتتناول كتاب ما:
- الحجاب رمز سلطة الرجل على المرأة هاهنا...
قالتها وهي ترفع الكتاب المقدس أمامهم، فضحكت إيميلي قائلة: - حقًا...؟؟
فتحت نور الكتاب وأخذت تتلو منه: ((رسالة القديس بول الأولى إلى أهل كورنثس: الإصحاح 11:
6 إذ المرأة، إن كانت لا تتغطى، فليقص شعرها. وإن كان قبيحا بالمرأة أن تقص أو تحلق، فلتتغط
7 فإن الرجل لا ينبغي أن يغطي رأسه لكونه صورة الله ومجده. وأما المرأة فهي مجد الرجل
8 لأن الرجل ليس من المرأة، بل المرأة من الرجل
9 ولأن الرجل لم يخلق من أجل المرأة، بل المرأة من أجل الرجل
10 لهذا ينبغي للمرأة أن يكون لها سلطان على رأسها))
كانتا تتابعانها بذهول وقد ألجمتهما ... أغلقت نور الكتاب المقدس ورددت آخر آية مرة أخرى:
- (Therefore the woman ought to have a symbol of authority on her head)
أعادت نور الكتاب إلى رف المكتبة وعادت لتجلس أمامهما وهي تكمل رد تلك الشبهة:
- في الإسلام يا عزيزتي... الأمر من الله إلى المرأة مباشرة... ولها أن تنفذ فتثاب أو لا تنفذ أمر الله فتترك في مشيئته.. قال الله تعالى في القرآن ((وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن))..
عادت نور للصمت وهي تتأمل علامة التفكر البادية على وجهي مادلين وابنتها إيميلي ثم أردفت:
- لماذا تستغربين ردائي وأغلب صور السيدة العذراء عندكم تبدو فيها وهي تتغطى كليًا... وراهبات الكنيسة أيضًا يتغطين... عزيزتي إيميلي... أنا أُجبر المجتمع على أن يعاملني على أنني إنسان متكامل ليس فقط مجرد أنثى مغرية لا ينظر إلا إلى مناطق معينة في جسدها... حجابي يحميني ويفرض على الآخر احترامي..
دراستها للكتاب المقدس... كل أفكار الملحدين.. اليهود.. العلمانيين الذين قد يلقون بها على الإسلام كانت درعًا واقيًا يصد هجماتهم بل ويردها مدحوضة، وبينما شردت كل من إيميلي وأمها في كلام تلك الزائرة العجيبة ... تذكرت نور لورين ونظراتها العجيبة إلى زين ولحاقها به.. وعاودها غيظًا لا تدري سببه..!
***
الجفاف... الجفاف يفرض سيطرته بوضوح على أراضي تكساس الخضراء محيلاً أغلبها للصفرة الكئيبة .. البحيرة التي جفت ولفظت أحيائها نافقة على الأرض تبدو لوحة واضحة للموت ..!
" لقد كانت درجات الحرارة خلال الصيف الماضي في أعلى معدلاتها، فقد وصلت درجة الحرارة في أوستن على سبيل المثال إلى 100 درجة فهرنهايت، مما أدى إلى جفاف التربة وزاد من الجفاف الذي تراه .."
قالها السيد بيل في أسى لزين الذي شهد قدر الخسارات التي من الممكن أن يتكبدها مزارع مثله بإنقطاع غيث السماء... مصدر الحياة الأعظم بتلك البلاد.
- "لقد أضطررت لبيع أغلب الماشية عندي قبل أن تنفق بدورها بسبب جفاف العشب وندرة المياه... فالتبن الذي أقوم بشرائه من مزارع تبعد آلاف الأميال باهظ السعر جدًا.." أكمل السيد بيل وهو يسير مع زين عبر مدرجات صخرية طبيعية غاية في الروعة تنتشر عليها نباتات الصبار متجهين إلى حظائر الماشية التي بدا عليها الهزال حقًا ومنها توجه إلى إسطبلات الخيل وقد أزدادت نبرة الأسى في صوته وهو يقول:
- لم أكن أتخيل يومًا أنني قد أبيع جيادي التي أعشقها جدًا... لكن... ما باليد حيلة..
جوادٌ عربي أصيل هو... أسود اللون قوي ذكره بجواده الأدهم... إقتناء هذا الجواد في حد ذاته... سعادة!
" رائع ... أليس كذلك...!!"
سمع تلك الجملة من خلفه، فانتبه من شروده مع الجواد لتقع عيناه عليها... تقترب منه... تضع يدها على غرة الجواد بجوار يده وهي تقول بهمس:
- إنه سينباد جوادي أنا... فأنا أعشق كل ما هو عربي... شرقي...
ناريةٌ حقًا... قامتها فارعة... بشرتها كمرمر متلئلئ... رأسها المكلل بشعر متوهج كالشمس... الجينز الضيق الذي بالكاد يتماسك أسفل وسطها كاشفًا جزء كبير من بطنها... قميصها الوردي الذي لم تغلق سوى زرين وسطه كاشفًا عن جيدها وصدرها ...
زفر في ضيق... أين ذهب السيد بيل...؟ أستدار نحو باب الإسطبل فسبقته إليه برعونة جعلت التصادم لا مفر منه... سقطا على كومة التبن الباهظة... أحاطت عنقه بذراعيها لتجبره على السقوط في مجل جيدها الناعم الناصع وهي تهمس:
- الرجال العرب لا مثيل لهم ... عذريتهم ... عشقهم للأسرة ... كل ذلك يأسرني...
وأخذت تمرر يدها على صدره في شبق لتحل أزرار قميصه مردفة:
- خذني إليك لنبدأ ليلة من ألف ليلة ... دعني أكون زوجتك ... محظيتك ... صـ..
دفعها بكل ما أستجمع من قوة ونهض لاهثًا وهو يقول:
- عذرًا مس لورين... لست من ذلك النوع من الرجال...
قالها ثم أسرع إلى الخارج... جلس على أحد المدرجات الصخرية الطبيعية يلملم شتاته.. يعدل هندامه.. يمرر يده بشعره الأسود ويزفر في عنف وهو يتأمل نباتات الصبار المنتشرة على جانبي الصخور متعجبًا من إحدى تلك النباتات التي خرج من وسط أشواكها زهرة صفراء ناعمة رقيقة... وسط الجفاف وأشواك الصبار تنبت على استحياء... كأمله في إيجاد ابنته الذي ينبت وسط أشواك يأسه... أمله في إنتشال ابنته من امرأة لا تختلف كثيرًا عن تلك التي كانت تراوده عن نفسه منذ قليل... خدعته بتقوى زائفة ثم طعنته ورحلت بفلذة كبده... ضرب الصخر بقبضته وهو يقسم أن يأخذ ابنته منها ولو وصل الأمر إلى... اختطافها..!!!
*******

Msamo likes this.

Just Faith غير متواجد حالياً  
التوقيع
//upload.rewity.com/uploads/157061451865811.jpg[/IMG]ستجدون كل ما خطه قلمي هنــــــاااااااااااا[/URL][/FONT][/SIZE][/B]
الشكر لصديقتي أسفة التي دائماً تشعرني بأن هناك من يشعر بدون شكوى



سلسلة حد العشق بقلوب أحلام

رواياتي السابقة بقلوب أحلام
أنتَ جحيمي -- لازلت سراباً -- الفجر الخجول
هيـــامـ في برج الحمـــامـ // للكاتبة: Just Faith *مميزة
فراء ناعـــمــ (4)- للكاتبة Just Faith-

عروس الأوبال - ج2 سلسلة فراء ناعم- * just faith *
سلسلة عشاق صنعهم الحب فتمردوا "ضجيج الصمت"

ودي مشاركاتي في سلسلة لا تعشقي اسمرا
https://www.rewity.com/forum/t326617.html
https://www.rewity.com/forum/t322430.html
https://www.rewity.com/forum/t325729.html
ودي رسمية
https://www.rewity.com/forum/t350859.html

خواطري في دعوني أتنفس
ديوان حواء أنا !!

شكرا نيمو على خاطرتك المبدعة
رد مع اقتباس
قديم 18-12-17, 01:40 PM   #24

Just Faith

مراقبةومشرفةسابقة ونجم روايتي وكاتبة وقاصة وملكة واحة الأسمر بقلوب أحلام وفلفل حار،شاعرة وسوبر ستارالخواطر،حكواتي روايتي وراوي القلوب وكنز السراديب

alkap ~
 
الصورة الرمزية Just Faith

? العضوٌ??? » 289569
?  التسِجيلٌ » Feb 2013
? مشَارَ?اتْي » 145,786
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » Just Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond repute
?? ??? ~
جروبي بالفيس (القلم وما يهوى)https://www.facebook.com/groups/267317834567020/
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

-5-

” وأما "قبل" ... فقد رأيت عندك الفجر وأخذت منه نهاراً أحمله في روحي لا يظلم أبداً . “
مصطفى صادق الرافعي، أوراق الورد

***

تكبيرة... اثنتان ... سبعة تكبيرات تليها الفاتحة وسورة الأعلى وإتمام ركعة ...

تكبيرة ... اثنتان ... خمس تكبيرات تليها الفاتحة وسورة الغاشية ثم إتمام ركعة أخرى.

تسليم ... قلب المعطف إلى الناحية الأخرى وابتهال بالدعاء طلبًا للغيث تؤمن عليه مأمومته الوحيدة ... وأربعة أزواج من الأعين تتابعهما بدهشة عارمة من مكان قريب.

كانت الرياح قد بدأت تشتد ذلك المساء... تتطاير عبائتها وهي تسير بجواره عائدين إلى المنزل بعد أن أنهيا صلاتهما في العراء أمام باب منزل مضيفهم لتعلن السيدة مادلين أن طعام العشاء قد تم إعداده مع دعوتهما إلى طاولة الطعام.

"ما كنه ما فعلتماه توًا...؟"

تسائلت إيميلي ببرودها المعتاد، فأنطلقت نور تحدثها عن صلاة تُدعى صلاة الإستسقاء. أما زين... فقد نظر إليها عبر المائدة مستدعيًا حديثهما صباح اليوم عندما حدثها عن مدى الجفاف والجدب الذي وصلت الأرض إليه ومحاولاته التي يبذلها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولأنها – كالعادة - متفردة.. غير متوقعة.. كان ردها بدوره عجيبًا... وهو أداء صلاةً للإستسقاء ..!!

" – أنتِ مش واخدة بالك أحنا فين واللا إيه...؟

- يا باشمهندس... صلاة الإستسقاء سنَّة ثابتة عن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما تتصحر الأرض، ويحلَّ الجفاف، وتقل الميه، أو يتأخر المطر عن وقت نزوله. وعلى فكرة... بعض العلماء أجازوا خروج غير المسلمسن مع المسلمين في الإستسقاء ليؤمنوا على الدعاء، وماينفعش نمنعهم لو طلبوا الخروج مع المسلمين لأنهم بيطلبوا أرزاقهم من ربهم سبحانه، ومش بعيد أبدًا أنه يجيبهم؛ لأن ربنا ضمن أرزاقهم زي ما ضمن أرزاق المؤمنين.

- ......!

- مستغرب ليه...؟! أهل الكتاب أو غيرهم بيدعوا ربنا فعلاً.. لأ ... دول بيخلصوا ليه الدعاء وقت الشدة وربنا سبحانه بيجيبهم.."

قاطع تفكيره في كلام نور طرقات مرحة على باب المنزل ثم إنفتاحه على مصراعيه ليطل عليهم شابًا يماثله في العمر تقريبًا يتأبط امرأة نحيفة ذات شعر أسود متوسط الطول تعقصه على هيئة ذيل حصان وتضع عوينات طبية على عينيها الرماديتين. نهضت مادلين بسعادة وهي تهتف:

- جوني ... جوني ...

بينما صفق السيد بيل بيديه هاتفًا:

- أخيرًا عاد من ذهب مع الريح ولم نره منذ ما يزيد عن شهر...!

كان جوناثان شديد الشبه بأمه... بعينيه البنيتين وشعره البني القصير بينما ورث عن أبيه القامة الفارعة والمنكبين العريضين والجسد الرياضي المنحوت... احتضنته أمه وصافحت صاحبته في حرارة وهي تقول:

- هذا ابني الدكتور جوناثان وتلك صديقته دكتور ستيسي هانسن..

ثم أشارت إلى كلٍ من زين ونور قائلة:

- مستر ومسز رحيل يا جوني اللذين حدثتك عنهما بالهاتف...

رحب جوناثان بهما وهو يخلع معطفه وكذا فعلت صديقتهثم أنضما إلى مائدة العشاء وهو يقول بمرح:

- يبدو أن العشاء قد بدأ من دوني...

أخذت مادلين في وضع الأطباق وهي تقول معاتبة:

- أنت من تأخرت عزيزي ...

داعبها جوناثان بسبابته في أنفها وهو يقول:

- لازلتِ صارمة في المواعيد مادي ...

ضحكت أمه في سعادة وقد صار وجهها يشع فرحًا، فقال السيد بيل:

- هاهي ذي وكأنها تتعافى من كل ما يتعبها رغم أنها ...

صمت تحت تهديد نظرات مادلين التي كانت تأخذ مقعدها وتشير بعينيها لزوجها أن لان فهم جوناثان فنظر إلى أمه وهو يقول معاتبًا:

- لازلت تهملين في جلساتك أمي..؟!!!

زفرت مادلين في ضيق ثم رسمت على وجهها ابتسامة مصطنعة وهي تقول مغيرة الموضوع:

- هيا جوني... تناول طعامك الذي طلبت مني أن أعده خصيصًا...

***

حركة سريعة.. همهمة... ثمة شيء ما ليس على ما يرام... فتح عيناه مستيقظًا... لا يدري أما يشعر به حقيقة أم حلم ...!!

رفع جسده من على الأرض مستندًا على مرفقيه... ثمة أضواء تسطع... و... إنها هي... تقف بحجابها بجوار النافذة تتبتسم ابتسامة حالمة وهي تسند ذقنها على قبضتها.

- "هوا فيه إيه...؟؟؟"

قالها وهو ينهض ماسحًا وجهه، استدارت إليه... هزت كتفيها وقالت بصوت متهدج من التأثر أو السعادة:

- مُطرنا بفضل الله ورحمته...

عيناها مترقرقتان... ابتسامتها صادقة... يقينها بالله الذي جاوز يقينه ربما... إخلاصها في كل شيء تقوم به... سعادتها لسعادة الآخرين... كل ذلك أخذه للحظات بعيدًا عن ضوء البرق وصوت الرعد والمطر المنهمر معانقًا الأرض الجدبى بعد طول عطش؛ رغمًا عنه تاه للحظات في عينيها على الضوء الشاحب لهاك المصباح وضوء البرق الذي يومض فجأة حتى رأى ذلك العرق النافر بجبهتها وتورد خديها وإشاحتها بوجهها في إرتباك لتعاود النظر من النافذة، فمرر يده بعنف في شعره علَّه يفيق من تلك الترهات ثم توجه إلى النافذة بدوره ليجاورها متأملاً المطر المهمر بغزارة.

تحت المطر يرقص السيد بيل مبتهجًا مع لورين تارة ومادلين أخرى وستيسي ثالثة ويصفق بصخب، بينما وقف كلاً من جوناثان وإيملي تحت مظلة على مقربة يتابعان الموقف في سعادة.

- "على فكرة... الفجر أذن من شوية.. ألحق الصلاة قبل الشروق.."

كانت تلك همساتها الهادئة التي عانقت سمعه بينما لازالت نظراتها تعانق زجاج النافذة الذي أمامها؛ استدار إليها ثانية يملؤه التعجب من هذه المرأة المختلفة...! أما نور... فرغم الأمطار والبرودة بالخارج... شعرت بسخونة شديدة تكتنف وجنتيها عندما صوب إليها تلك النظرة ثانية... تلك النظرة العجيبة غير المعهودة منه... شعرت بارتباك عندما جاء ليقف بقربها لينظر من النافذة... وعندما قررت قهر إرتباكها وإبعاده بأي حجة.. أخبرته عن صلاة الفجر... لتجده يعاود تصويب تلك النظرة إليها ثانية، فآثرت أن تهرب هي من مرمى عينيه، لتنسحب بهدوء نحو أحد المقعدين المجاورين للفراش بينما توجه هو يتوضأ للصلاة.

لم يستطع أي منهما معاودة النوم... كلٍ منهما في مكانه... ويعم الغرفة صمتٌ صاخب... فخلف تلك القشرة الصامتة التي تحيط بكلٍ منهما تضج ألف فكرة حيرى كليث حبيس متعطش لشيءٍ لا يدري ما هو. بدويان معتدان عنيدان تقف عزة كلٍ منهما بنفسه وإعتداده برأيه أمام إشباع تلك الأفكار الحيرى بإجابات منطقية. مرت عدة ساعات عليهما حتى سمعا طرقًا خفيفًا على الباب يدعوهما لتناول الإفطار... خرجا من باب الغرفة تباعًا لـ ... ليصافح ناظريهما مشهد أنعقد له حاجبا زين في غضب بينما تضرج وجه نور وهي تشيح به بعيدًا. أنهى جوناثان وستيسي عناقهما الحار أمام غرفتيهما التي تجاور غرفة زين ونور وأخذت ستيسي تعدل شعرها المبعثر وتضع منظارها على عينيها، بينما توجه جوناثان إلى السلم وهو يقول غامزًا لزين:

- جو يبعث على الرومانسية... أليس كذلك...؟

هبط زين معه بحنق دون أن يعقب، بينما أنضمت ستيسي إلى نور وهي تقول ضاحكة بخجل:

- مجنون هو جون... لكنني سعيدة وسأذهب معه في جنونه إلى أي مدى... فقد وعدني أن يتقدم لخطبتي رسميًا أمام اسرته في هذه الإجازة ... أخيرًا بعد عامين من الحب...

شعور عام بالغثيان غمر نور... ألهذه الدرجة المرأة عندهم مبتذلة لا ثمن لها... تعيش مع رجل... تعاشره أملاً في أن يحن عليها يومًا ويتزوجها وإذا أراد أن يرحل عنها في أي وقت... فإنه يرحل بكل بساطة وليس لها عنده حق واحد...!!!

وفي ردهة المنزل... كان السيد بيل بمرحه المعتاد والذي زاد هذا الصباح ابتهاجًا بالأمطار وانتهاء عصر الجفاف يدعوهم إلى إفطار فاخر مع بضعة كؤوس من النبيذ ...

- "نبيذ سكريمنج إيجل 1997... للإحتفال ..."

قالها السيد بيل في نشوة، فتوقف زين قليلاً بينما قالت نور بسرعة في لهجة قاطعة:

- عذرًا سيد بيل... نحن لا نشكر ربنا هكذا... نحن لا نشرب الخمر أبدًا... يمكننا المكوث بغرفتنا كي لا نضايقكم بإحتفالكم..

إلا أن مادلين أسرعت بتطويق كتفي نور قائلة للسيد بيل:

- بيل... أنت تعرف جيدًا أنه لا نبيذ نهارًا... هيا... أذهب بنبيذك هذا بعيدًا...

قالتها ثم استدارت إلى نور وزين مردفة:

- تفضلا للإفطار عزيزاي وعذرًا على الإزعاج...

تأبط السيد بيل ذراع جوناثان وقال ضاحكًا:

- حسنًا سوف آخذ هذا البطل ونحتسي بعض الأقداح بعيدًا...

قالها ثم توجه إلى مجلس قريب من طاولة الطعام بينما استقرت ستيسي بجوار لورين وإيميلي حول منضدة الطعام وكانت مادلين تتحرك بين غرفة الطعام والمطبخ تضع بعض الأطباق والأباريق الساخنة. وجهت لورين نظرة لعوب إلى زين تلقاها بضيق فقال مضطرًا:

- وأنا سأتناول قهوتي مع مستر بيل وجوناثان ...

ضحك السيد بيل في صخب هاتفًا:

- آاااها ... ستنضم إلى حزب الرجال.. هع ...

تأملت نور لورين التي نهضت بكسل.. كانت ترتدي كنزة سوداء مغزولة بغرز مفتوحة من ماركة أميريكان إيجل طراز أوبن نيت سويتر على بنطال من الجينز من نفس الماركة طراز توم جيرل ممزق بعدة مواضع. حملت القهوة وذهبت إلى زين ثم انحنت نحوه ليتساقط شعرها نصف الأشقر الطويل بجوار كتفها وهي تهمس:

- سهامك نحو السماء أمس لم تُخطيء هدفها ...

لم تشعر نور بنظراتها التي تعقبت تلك الفاتنة المنحنية نحو زين هامسة بشفتيها المكتنزتين... لم تشعر بانضمام قبضتيها ولا إنعقاد حاجبيها، لكنه هو رآها على تلك الحالة ... وارتسم شبح ابتسامة على شفتيه رأتها نور فزاد غيظها ظنًا أنه يبتسم لهمسات الفاتنة جواره ..!!!

أفاقت على صوت مدوِّي لتحطم شيء ما في المطبخ... ولأنها كانت الأقرب إلى بابه في وقفتها، أسرعت نور إلى المطبخ لتجد السيدة مادلين تقف مستندة إلى طاولة المطبخ تحاول رسم ابتسامة على شفتيها وهي تضع يدها على رأسها. أمسكت نور بها في اللحظة التي توافد بها ابنائها وزوجها وستيسي إلى المطبخ، فحاولت إضفاء مصداقية على ابتسامتها وهي تقول:

- هااي... لم يحدث شيء... طبق كان على حافة المنضدة وسقط... هيا... كلٌ يعود إلى مكانه...

تطلع بيل إليها في عتاب... لازالت تمتلك ذات الشخصية القوية رغم مرضها...!! فقالت نور مطمئنة:

- مسز مادلين بخير وأنا معها لا تقلقوا...

عاد الجميع بينما استدارت نور إليها قائلة:

- لقد رحلوا ... لكنك لستِ بخير أبدًا... أثمة خطبٍ ما..؟

ربتت مادلين على كف نور الذي يسندها خلال سيرهما إلى طاولة الطعام بالخارج ثم قالت بعد تنهيدة حارة:

- خطب واحد...؟ ثمة خطوب يا صغيرتي... لكنني لن أستسلم لأيٍ منها...!

جلستا حول منضدة الطعام... كانت كلٌ من ستيسي ولورين منشغلتان بهاتفيهما بينما تمسك إيملي بكتاب ضخم تقرأ فيه ولازال السيد بيل يتحدث دون انقطاع عن المطر الغزير الذي استمر لساعات طويلة قبل أن تعاود الشمس إشراقها بقوة مرة أخرى، يستمع إليه زين بإنصات وجوناثان بشرود ..!

"هل لي أن اسأل ما هي تلك الخطوب سيدتي...؟" تسائلت نور، فأجابتها مادلين:

- أولاً... أنا مادي فقط.. ثانيًا... بكل بساطة... إنه السرطان... ذلك الخبيث يحاول التهام خلاياي لكنني سأقاوم ...

عقدت نور حاجبيها في تأثر وزمت شفتيها متذكرة أمها، فقالت مادلين بمرح:

- لا يا صغيرتي... لم يقتلني السرطان بعد لتتأثري هكذا...

قالت نور بنبرة مبحوحة شبه باكية:

- لقد قتل أمي... لذلك... كنت قد قررت أن ألتحق بكلية الطب لأبحث وأبحث عن شيء من شأنه القضاء على ذلك المرض الخبيث... لأساعد مرضاه بكل طاقتي... لكن ..

قاطعتها مادلين بحماس:

- حقًا..؟ جوناثان نفس الشيء... دخل كلية الطب في الأصل أملاً في مساعدتي... أو مساعدة مرضى السرطان عمومًا... وهاهو يصبح من أكفأ الأطباء في مجاله...

قالتها ثم رفعت صوتها قليلاً هاتفة:

- جوني... تعال... إن نور تعمل في نفس مجالك...

نهض جوناثان مسرعًا ليلجلس في مواجهة نور قائلاً:

- أحقًا...؟ أنتِ طبيبة في مجال أبحاث السرطان مسز نور...؟

أطرقت نور برأسها وقالت بجدية تامة:

- لقد كنت طالبة في كلية الطب بمصر قبل تركي لها والمجيء إلى أمريكا.. لكنني قدمت بحثًا طبيًا في مسابقة أجراها مركز إم دي أندرسون للسرطان في جميع أنحاء الولايات المتحدة اشتركت به عبر مكتبة واشنطن هايتس التي كنت أتردد عليها بمنهاتن و... الحمد لله نال بحثي المركز الأول ...

ضحكت مادلين بشدة هاتفة:

- مركز إم دي أندرسون التابع لمركز تكساس الطبي..؟

نظرت إليها نور في غير فهم وهي تقول:

- نعم ... هو ... ماذا في ذلك..؟

ابتسم جون ابتسامة جميلة زادت من وسامته وهو ينحني نحوها عبر المائدة قائلاً:

- أنا تحديدًا ... أعمل هناك ... في مركز إم دي أندرسون بهيوستن ...

قالها ثم عقد حاجبيه وعض على شفته السفلى مردفًا:

- مهلاً ... أنتِ إن أر صاحبة بحث بدائل العلاج الكيماوي والإشعاعي بتجويع الخلايا السرطانية...؟؟؟

أومأت نور برأسها متمتمة: - نعم ... أنا ... نور رحيل ... إن أر..

تراجع جوناثان وهو يضحك بحماس قائلاً:

- ستيسي ... انظري من صاحبة البحث... لا يمكن أن يحدث هذا... انظري صاحبة البحث الذي نعمل عليه منذ زمن...

رفعت ستيسي رأسها عن هاتفها وهي تنظر إلى نور ببرود قائلة:

- آها ... جيد جدًا ...

ثم عادت إلى هاتفها ثانية بينما جوناثان يقول بحماس:

- يجب أن نجلس لنتناقش في هذا البحث... لقد حاولت مرارًا الوصول إلى صاحب أو صاحبة البحث لكنني لم أتمكن من الوصول إلى أية معلومات سوى رقم هاتف مغلق على الدوام...!

كان زين يقف منذ لحظات خلف مقعد نور صامتًا، لكنه تدخل في تلك اللحظة قائلاً بخشونة:

- عذرًا دكتور جوناثان... لكننا هنا الآن في مهمة محددة وليس لدينا وقت لمناقشة أي بحث... ربما في وقتٍ آخر...

قالها ثم وجه حديثه لنور قائلاً بصرامة بالعربية:

- ممكن تتفضلي معايا يا مدام...؟

نهضت نور وهي تستأذنهم ثم لحقت بزين مسرعة، فقال جوناثان مندهشًا:

- ماذا به...؟

كانت لورين تتابع الموقف في صمت واضعة سبابتها بين أسنانها فردت على شقيقها بهيام وهي لازالت تنظر إلى حيث أختفى كلٍ من زين ونور:

- هكذا هم رجال العرب...!!

******

"أعتقد أننا جايين في مهمة محددة ... مش جايين نستعرض...!"

قالها زين في حنق فقالت نور بتهكم:

- آاااه صح ... مش جايين نستعرض خالص ولا نشرب القهوة على همسات ناعمة ولااا أي حاجة ...!

قال زين بحدة:

- من فضلك أنا مابحبش الأسلوب ده... أنا جاي هنا عشان أدور على بنتي وبسسس... مش عشان تثبتي مجدك العلمي يا مدام... ويا ريت تحترمي أنك واحدة متجوزة... ولو حتى قدام الناس...

عقدت ذراعيها على صدرها قائلة بهدوء:

- والله أنا بأحترم نفسي وديني قبل كل شيء وأنا مش شايفة إني عملت حاجة تقلل من الإحترام ده أبدًا... الراجل سألني بكل احترام وأنا رديت عليه بجدية تامة ...

زفر زين في حنق زفرة كادت تحرقها مع الشرار المتطاير من عينيه السوداوين ثم خرج من الغرفة هادرًا مغلقًا الباب خلفه بعنف.

رغمًا عنها... تسللت ابتسامة جذلة على شفتيها لم تدر كنهها أو سببها... أو هي تكابر على الاعتراف به، قامت بحل حجابها أمام المرآة... تخللت شعرها الداكن الناعم الطويل بأطراف أصابعها في دلال لم تعهده في نفسها... عدلت من غرتها التي استطالت لتعانق وجهها، ثم جلست على الفراش شاردة ... وما هي إلا لحظات حتى غلب عليها التعب وقلة النوم فراحت في سبات عميق... هاديء.

أما زين.. فقد خرج من باب المنزل الخلفي... سار عبر لسانٍ خشبي طويل ممتد حتى بحيرة بالو بينتو التي تغير حالها بين عشية وضحاها وعادت لتمتلئ من جديد عقب أمطار الأمس الغزيرة... جلس على طرف اللسان .. خلع نعليه لتعانق قدميه مياه البحيرة الوليدة شاردًا في ردة فعله المبالغ فيها حانقًا من نفسه.

"ناعمة وجميلة وهادئة... أليس كذلك..؟"

عقد حاجبيه بضيق عندما تناهى إليه صوتها من خلفه مباشرة فنظر إليها في غير فهم لتقول:

- مياه البحيرة ..

قالتها ثم أغمضت عينيها وعضت على شفتها السفلى في إغواء وهي تقول:

- إممم ... لكم أفتقد السباحة بها..

أمسك زين بحذائه وهمَّ بالنهوض لتنهض لورين - المنحنية خلفه - بدورها واقفة و... تتجرد من ملابسها... تمامًا.. تمرر يدها على عنقه... تسير على الإفريز الضيق ملتصقة به وهي تهمس:

- ألن تسبح معي...؟

و... تقفز إلى البحيرة ... قطرات المياه تصفعه... وكأنه للحظة كاد أن يهم بها... يرتدي حذائه بسرعة بأيدٍ مرتعشة... ويفر بعيدًا عنها؛ يدخل إلى المنزل... يصعد درجات السلم قفزًا.. يدلف إلى الغرفة ويغلقها خلفه لاهثًا مستغفرًا.

حاول أن يتجنب النظر إلى الفراش الذي تستلقي عليه نور وتبدو في سبات عميق ويتوجه مباشرة إلى لحافه على الأرض، لكنه وجد نفسه يدور حول الفراش... يجلس بجوارها ليطالع وجهها النائم... "إنها زوجتك.." شيء ما يهمس بداخله ليقتل به ذاك الشعور بالذنب الذي يكتنفه وهو يتأملها... أهدابها السوداء الطويلة المتعانقة.. شفتاها الدقيقتان... وجنتاها الممتلئتان... ليست طاغية الفتنة والجمال كلورين لكن بها شيء من جمال هش يجذبه.. وكأنها غزال نائم... لا يدري لماذا تذكر زهرة الصبار الصفراء الرقيقة التي رآها...!

تلك المرأة الممتلئة بالتناقضات تثير جنونه... لا يمكن أن تكون تصرفاتها البسيطة الممتلئة إيمانًا وحياءًا مجرد تمثيل...! حاول إقناع نفسه أنها ربما تابت عن خيانات النساء...!! مد نحوها يده رغمًا عنه وكأنه مسلوب الإرادة.. وكأن ثمة هالة جذب قوية تجذبه إليها دونما إرادة فعلية منه..! مد يده يزيح خصلاتها الفاحمة من على وجهها، ثم يمرر أصابعه في دفيء على وجنتها حتى ذقنها و... تتحرك شفتاها... تفتر عن ابتسامة حالمة... تجمد في مكانه... أمستيقظة هي...؟ لا... إنها تحلم على ما يبدو... تُرى... من الذي يزور أحلامها فينتزع تلك الابتسامة الفاتنة منها..؟

هنا تجسد أمامه طيفٌ ما شكَّل حاجزًا ضخمًا بينهما لا يمكنه تخطيه أبدًا...

نعم ... إنه هو ...

طيف شقيقه الراحل ..

تراءى له وجه زكريا بكل حنكته في التعامل مع النساء...

حتمًا عشقته حتى الثمالة...

حتمًا يزور أحلامها كلما غفت...

احترق بلهيب ظنونه... فجذب يده عنها في غضب، و.. عاود الخروج مسرعًا من الغرفة دون أن يلحظ إنكماش ابتسامتها...!

ففي عالم الحلم هنالك رأت نفسها وولدها يسقطان من علٍ ورأت من يأتي وسط الغيوم يمد لها يده فابتسمت له... وعندما ظهر وجهه تعجبت... إنه هو... زين العابدين رحيل العربي... زوجها اللدود...!!!!

استيقظت فجأة مأخوذة بما رأت... لا تدري ألازالت تحلم أم إنها قد أستيقظت حقًا، فرائحة عطره المميز تبدو قريبة منها جدًا... ليس عطره الذي ينتشر في الغرفة كلما وضع بضع زخاتٍ منه... بل رائحة عطره الممتزجة برائحة جسده... ذلك الخليط المميز الذي تشتمه في ملابسه التي اعتادت غسلها منذ أن انتقلت للعيش بمنزله ...!!!

أفاقت في غير فهم تتشمم الوسادة المجاورة لها والتي تَعُبُّ برائحته ...!

"أحلمٌ هو أم حقيقة ... أم إنني قد جننت..؟!!!"

نهضت على عجل... أرتدت حجابها... خرجت إلى الشرفة... لتراه... بعيدًا جدًا... يركض بسرعة بالأرض الشاسعة حول المنزل... تمتمت لنفسها أنها حتمًا قد جُنَّت أو أن حواسها تمارس عليها الألاعيب... فليس من المعقول أنه كان بجوارها بينما هو على هاك البعد..!

********

لاهثًا... مستنفذًا لطاقته كلها... دلف إلى المنزل باحثًا عن بعض المياه ليشربها... توجه إلى المطبخ فتناهى إلى مسامعه حوار أشعله...

- جوني حبيبي... أعرف أن نور رائعة لكنك لم تكف عن الحديث عنها منذ أن أنهينا إفطارنا... لاحظ أن ستيسي قد تتضايق...

- يا أمي... أنا فقط منبهر بتلك المرأة... لقد قدمت بحثًا غاية في الأهمية منذ أربعة سنوات أي كانت أصغر من هذا بأربعة سنوات.. تخيلي.. فتاة عربية في مقتبل العشرينيات... تقدم بحثًا كهذا..! معجزة ... لقد كنت أتابعها وهي تتحدث إليكِ... إنها امرأة تجمع بين جمال ابتسامة كيت بيكنسيل وملامح وعيني كاثرين زيتا جونز وعقل ماري كوري... لا بل عقل يريد هدم نظرية ماري كوري التي نالت عنها نوبل من أساسها... عقل يريد استبدال العلاج الإشعاعي والكيماوي اللذين كما يقتلا الخلايا السرطانية يقتلا خلايا الجسم ويدمرانها... يا أمي تلك الفتاة حصلت على3200 نقطة في اختبار MCAT[1] .. هذه أعلى درجة ولم يتجاوزها أحد قط حتى يومنا هذا ... !!!

لم يتحمل المزيد ... قفز درجات السلم ثانية ... دلف إلى الغرفة ليصيح بنور الواقفة أمام النافذة:

- ياللا بينا...

تسائلت نور بغير فهم: - على فين...؟ إحنا ...

قاطعها وهو يلملم أشيائه بحقيبته:

- مش هانقعد هنا أكتر من كدة وأنا أعرف ألاقي بنتي بطريقتي...

قالت: - بس ...

قاطعها ثانية بحدة أكبر:

- بس إيه...؟ عايزة تقعدي للدنجوان بتاعك عشان يتغزل فيكي وفي ذكائك الخارق وأبقى أنا طرطور وسطكوا...؟

تسللت ذات الابتسامة الجذلة على شفتيها وهي تشهد ذاك البركان المتفجر أمامها، إلا أنها قالت بجدية تامة:

- من فضلك أستنى شوية... فيه خبر مهم جدًا لسة عارفاه حالاً...

نظر إليا في غير فهم وعيناه السوداوان تبدوان مخيفتان حقًا بذلك الشرار الذي يقدح منهما، فأردفت نور وهي تفرك كفيها بتوتر: - أنا عرفت مكان كارمن ... هنا ... في تكساس ....

***

” كم هي محدودة تلك التي نُسميها إرادتنا، وكم هو هائل وغير محدود قدرنا “

علي عزت بيجوفيتش

***

" ... سيدي الرئيس... هاذي المنطقة أكبر منفذ لدخول الحشيش المغربي والأسلحة المتوسطة كيف الجرينوف وحتى صواريخ السام 9... وعندي بالتفصيل والدليل اسماء القبايل المتورطة .."

عبر التلفاز... كان يشاهده بصوته المجلجل في أرجاء المجلس... نفث دخان أرجيلته ملتفتًا إلى من بجواره قائلاً:

- مو قلت لك...؟

اتسعت ابتسامة مضيفه وهو يقول بصوته الجهوري:

- يا شيخ سعد... مايبقاش قلبك خفيييف... قلت لك لا تخاف... أنا بس تاركه يلعب شوي... لكن وقت الجد بنأدبه...

قال الشيخ سعد في إنفعال:

- وهوا فيه جد أخطر من هيذا يا شيخ مناع ...

أجابه الشيخ مناع مضيقًا عينيه:

- معك حق ...

ثم رفع صوته مناديًا:

- إسمااااعيييل ... ولد يا اسمااااعيل ...

هرول إليه صبيه هاتفًا: - تحت امرك يا شيخ مناع ...

قال مناع بجذل: - عطيني التلفون...

ناوله إسماعيل الهاتف ليطلب رقمًا عبر المحيط ... ينتظر الرد و... بمجرد أن سمع صوتًا على الطرف الآخر قال بصرامة:

- باقول لك إيه يا داكتوور... نفذ اللي اتفقنا عليه... مالي صالح... باقول لك نففففذ... لا ماتخافش يا داكتور... سلام ...

قالها ثم أغلق الهاتف بينما الشيخ سعد لايزال ينظر إليه في شك وهو يقول:

- متأكد أنت من خطتك هذي..؟

ضحك مناع بسماجة قبل أن يقول:

- كيف ماني متأكد من وجودك يا شيخ سعد ...!! يا شخ سعد حنِّا حدانا شي يخصه ممكن مو بس يسكر له خشمه... لع... أيخليه يهج من المجلس كمان... بس الداكتور يسوي اللي عليه صوح...

ثم سحب نفسًا آخر من أرجيلته في تلذذ وهو يتخيله ذليلاً... سيأتي إليه قريبًا جدًا يجلس عند قدميه يتوسله راجيًا... حينها قد يدوس عنقه تحت نعاله... سيهين تلك العنق المختالة التي طالما حملت فوقها رأسًا مرفوعًا أبيًا... يعيش دور البطولة ويعشق دور حامي الحمى وهاهو يقع في الشرك المنصوب له بإحكام.

***

"لازم أقابلها..."

قالها في انفعال، فقالت له:

- وليه عايز إيميلي ..؟؟ خد العنوان من مستر بيل وروح لهم على طول .. بتقول لك مزرعتهم قريبة من هنا...

مرر أصابع يديه الاثنتين في شعره قائلاً:

- أنت مش بتقولي أنك سمعتي إيميلي كانت بتكلم مسز مادلين قدامك عن علاقة لورين اللي مضايقاها بكارمن وكلارا هجرس...؟

أومأت نور قائلة:

- أيوة... أنا نزلت من الأوضة لاقيتهم قاعدين يتكلموا في الموضوع ده وكملوا عادي بعد ما شافوني... فقلتلهم بهزار كدة أن اسم هجرس ده مصري... أكدت لي إيميلي أنهم مصريين مسلمين جيرانهم وكانوا أصدقائهم... عمر هجرس وبناته كارمن وكلارا... المزرعة أصلاً ملك عيلة إفرنجي أهل زوجة عمر هجرس... بس بصراحة ... كان باين في عنين إيميلي ضيق وحاجة زي الكره كدة وهيا بتتكلم عنهم... عشان كدة باقول لك اسأل مستر بيل وخلاص...

رفع زين أحد حاجبيه قائلاً:

- وعشان كدة بالذات عايز أسمع منها الحكاية ...

تسائلت نور بدهشة: - حكاية إيه...؟

أجابها بثقة: - حكاية الـ(كانوا) أصدقائهم دي... حكاية العداوة والكره اللي بتقولي عليه... الحكاية دي ممكن توفر عليا مهاترات كتييرة ...

قالها ثم جذب نور من يدها تلقائيًا وهو يقول:

- تعالي بسرعة نروح لها مفيش وقت نضيعه ...

كان متعجلاً.. يتصرف بتلقائية... لكنه توقف لحظات... وتوقفت هي... نظر إلى كفيهما المتعانقين وشعرت هي بذات السخونة تكتنف وجنتيها... لكنها لم تجذب كفها... ولم يطلق هو صراح أصابعها المستكينة في راحته... فقط تأمل وجهها المضرج بحمرة الخجل... وهاك العرق النافر بجبهتها.. وعينيها المطرقة حياءًا... ثم ... أدار وجهه مكملاً طريقه وثمة شعور عجيب لم يخبره قبلاً يغزو كيانه... بعنف.

كانت إيميلي تجلس على المقعد الهزاز بجوار المدفأة تضع ساقًا فوق الأخرى وتقرأ في مجلد ما... بتنورتها الطويلة وحذائها مرتفع العنق وكنزتها الصوفية البسيطة التي تكللها وشاحًا نيليًا ناعمًا يحيط عنقها برقة ويسقط على كتفيها.

استأذن زين في أن يتحدث معها قليلاً، فأغلقت كتابها ووافقت بهدوء على طلبه.

" كنت أريد أن أعرف منك المزيد عن عائلة هجرس ... وخاصة كارمن عمر هجرس .."

تمعر وجه إيميلي وأكفهر وعقدت حاجبيها في ضيق ثم قالت بحقد:

- ألن تنتهي سيرة تلك الحمقاء اليوم..!!

عرف زين أنه ضرب على الوتر الصحيح... هي كارمن إذن من تكرهها – أو تغار منها – إيميلي.

أطرق زين قليلاً... وقرر أنه لا يملك إلا أن يكشف أوراقه أولاً كي يحملها على البوح بما لديها.

- "حسنًا... سأحكي لك حكايتي مع تلك (الحمقاء)... لم أحكها لأحدٍ قبلك ولن أحكها لأحدٍ بعدك آنستي.. لكنني أتوسم أنك الوحيدة القادرة على مساعدتي... لذا اسمعيني رجاءًا..."

قالها بهدوء... ثم شرع يحكي لها كل شيء... ورغم أنه كان شاردًا في الفراغ وكأن شريط خيباته يتكرر أمام ناظريه... إلا أنه كان هنالك زوجين من الآذان يصغيان إليه... أحدهما تستمع إليه بعملية وشيء من السعادة لإكتشاف حقيقة غريمتها.. والأخرى تستقبل وجعه وقد مس بداخلها وترًا حساسًا شعرت معه بتوحد وجعيهما.

***

"بس يا ريت متنساش أن دي أولاً وأخيرًا بنت بنتي..."

همس بها في توتر عبر الهاتف... ثم عاد يقول بعد لحظات:

"خلاص خلاص ... كام يوم كدة وأنفذ ... سلام"

قالها ثم أغلق الخط واستدار برأسه الأشيب ومنظاره الطبي يخطو بضعة خطوات في الحديقة التي كان يقف بها متوجهًا إلى زوجته وهو يقول:

- سو ... فين روكي..؟

أجابته دون انتباه وهي منهمكة في لوحتها:

- بتلاقيها لساتها نايمة ... راجعة الفجر من سهرة أمس ...

تسائل في توتر: - طيب وميوي..؟

رفعت رأسها نحوه قائلة بسخرية:

- شو حبيبي ... ما عم بافهمم عليك ..! من متى هاي الاهتمام المفاجيء ببنتك وبنتها...؟

نظر إليها في غيظ ثم توجه إلى المنزل شطر غرفة ابنته التي فتحها ليجدها غارقة في الظلام وابنته غارقة بالنوم. فتح الستائر لتخترق شمس الظهيرة الغرفة وتسقط على وجه ابنته التي بدأت تتململ وتخفي رأسها بيديها وهي تقول بضيق:

- what the hell is this …!

أخذ يوقظها بمرح قائلاً:

- روكي ياللا .. wake up sleepy head ..

نهضت في ضيق وهي تضع يدها على رأسها... كان شعرها الأشقر مبعثرًا... عيناها السماويتان ناعستان... لكن رغم ذلك... لازالت تبدو فاتنة...!

قال أباها وهو يزيح الغطاء:

- في عروسة تنام كل ده.. قومي يا روكي فرحك قرب... وإيدي عمال يكلمك من الصبح...

وضعت يديها الاثنتين على وجهها وقالت بضيق:

- پاپي... بليز سيبني أنام... كان عندي رحلة طويلة ومانمتش يومين ورا بعض.. وأديني اخدت أجازة قبل الفرح عشان أعرف اعمل كل حاجة ممكن بقى تسيبني أنام شوية...

قال أباها بلهجة خاصة:

- طيب لو إيدي أتصل تاني نقول له إيه...؟

أزاحت يديها من على وجهها الجميل الذي رفعته نحو أبيها بحدة قائلة:

- پاپي please don’t care about Eddy ... إياد بالذات ماتقلقش عليه... إياد لو عاز يشوفني بيجبني لو كنت فين... كتير ألاقيه ناطط لي في رحلاتي... كتير في الفنادق اللي بننزل فيها ألاقيه حاجز بقدرة قادر وأشوفه... يعني ماعندوش أزمة أنه يشوفني أو يوصل لي... أنا اللي محتاجة أناااام دلوقتي... ممكن..؟؟

داعب ذقنها في حنو وهو يقول:

- ماهو بيحبك يا كارمن ودايب فيكِ وانت مدوخاه سنين وراكي... سافرتوا مع بعض ولفيتوا الدنيا وقدم لك فروض الولاء والطاعة... ولسة سيادتك يادوب متكرمة عليه ووافقتي تحددي ميعاد الزفاف... ليه حق يعمل عليكي كماشة عشان ماتفلتيش منه تاني...

سقط رأسها على صدرها وجاهدت لترفعه وتفتح عينيها ثم تثائبت قائلة:

- طيب يا پاپي ... إيه المشكلة now..؟ عشان هاموت وانااام ....

تعجبت من سؤاله الذي وجهه لها:

- فين مايا يا روكي ...؟

رفعت رأسها ونظرت إليه بحنق بعينين ناعستين وقالت:

- يعني أنت مصحيني من النوم عشان تسألني عن مايا يا پاپي...؟ تلاقيها في أي حتة هنا واللا هنا واللا مع مارثا أو جراني أخدتها مانت عارف بتحب تقضي أغلب الوقت معاها ...

عقد الدكتور عمر هجرس حاجبيه في شدة وهو يقول:

- يعني مش عارفة بنتك فين ..؟ وبعدين يا ريت ماتسيبيهاش مع جراني كتير ... أنت عارفة جدتك ... بتزودها في الشرب وممكن البنت تضيع منها ...

ابتسمت في ملل وهي تقول:

- حاضر ... أما أصحى هاعمل لك كل اللي أنت عايزه ... ممكن أنام بقى..؟

نهض في غيظ لتجذب كارمن الغطاء عليها وتعاود النوم ثانية واضعة وسادة على رأسها، أما هو ... فانطلق يبحث عن تلك الصغيرة التي بات كل شيء يعتمد على وجودها معه... فوجودها معه صك ضمان بعدم ضياع ذلك البئر الذي لا ينضب... بئر الثروة والأموال التي تأتيه دون أن يتحرك قيد أنملة... لكن ... آن أوان الحركة... آن أوان تلجيم من يحاول ردم البئر... والصغيرة هي بطاقته الرابحة وجواز مروره إلى ما يبغي.

***

عشقٍ زائف... حياة متخبطة... تنازلات... خيانة فـ...فرار... وأخيرًا سطر بصوته العميق إجابات للألف سؤال بعقلها... قبضتاه مضمومتان... عيناه مشتعلتان متعطشتان للانتقام... فجرح رجولته غائر وجرح أبوته نازف.

"لست آخر ضحاياها مستر زين ..."

قالتها إيميلي بعد فترة صمت عقبت حكاية زين عن حياته مع كارمن، فرفع كلٍ من زين ونور أعينهم نحوها في تساؤل ... فبدأت بدورها تكشف أوراق جرحها.

"كان شريكًا في مصنع مستحضرات تجميل من ماركة مشهورة تقوم بإجراء اختبارت السمية على الحيوانات وكنت أنا تابعة وقتها لمنظمة بيتا لحقوق الحيوان التي تندد بما يفعلوه وأن الحيوانات لها حق جوهري في ألا يتم استخدماها لإجراء التجارب ... وشاء القدر أن ألتقيه لأقنعه بوجهة نظري التي أبدى تفهمًا لها ... أعجبت بتفتح ذهنه ومحاولته إقناع شركاؤه برأينا ... وبدأت علاقتنا تتوطد ... خرجنا سويًا ... مرحنا كثيرًا... حتى أعترف لي بحبه ... كانت عقليته فذة ووسامته معقولة ... صرنا قريبين جدًا ... انتقلت للعيش معه في واشنطن وبدأنا نخطط للزواج ... حتى.... حتى جئنا ذات يوم إلى المزرعة ليلتقي اسرتي ..."

صمتت إيميلي قليلاً مطرقة، ثم رفعت رأسها لتردف:

- لا أنكر أنه رجل أعمال من الدرجة الأولى ... يريد ان يدخل أي صفقة ويخرج منها رابحًا تمامًا دون التغاضي عن أي شيء ... بعد عام من علاقتنا جاء معي إلى المزرعة ... كانت أوقات أعياد ... ويزورنا الكثير من جيراننا ... ووقتها تعرف عليها ... كانت عندنا مع اسرتها ... تعرف إيدي عليها وأخذا يتبادلا الحديث حول العالم العربي ... فهو أمريكي من أصل مغربي .. والمفترض أنه مسلم ...وهي ... مصرية ... والمفترض أيضًا أنها مسلمة ..."

أغمض زين عينيه بقوة متمتمًا: - كارمن...؟

أومأت إيميلي برأسها مردفة بإنكسار:

- نعم ... عرفتها عليه ... إياد الكانوني ... صديقي وقريبًا زوجي ... أخبرتها أنه رجل أعمال ... لم أر نظرتها إليه ... كل ما لاحظته بعد تلك الزيارة جفاء إيدي معي ... تباعده عني ... وبعد عدة أشهر ... قالها لي صريحة ... إنه يفضل الزواج من امرأة مسلمة ويحبذ لو كانت عربية ليرضي أهله ... أما أنا ... فلا أصلح زوجة له ... كنت أشك أن ثمة امرأة أخرى بحياته .. لكنني تأكدت وقتها أنه يتحدث عن أخرى بعينها ... فسألته مباشرة "من هي؟" حاول المراوغة ... لكنني عرفت في النهاية أنه واقع في غرام جارتي الحسناء مسز كارمن ... صفقته الرابحة على كل الأصعدة ... مصرية أمريكية مسلمة ... خليط يشبه خليطه ... والأهم أنها فاتنة ... أعترف أنني لا أملك جمالها ... لكن يبدو أن الخيانة تجري في عروقها مجرى الدم ... هي لم تخنك فقط سيدي ... هي خانت صديقتها أيضًا واستولت على أكثر شخص شعرتُ معه بالقرب والحب ... وطعنتني في ظهري بكل برود ... وهاهما بعد مرور سنوات على علاقتهما يخططان للزواج ... لكن عدل السماء لم يتركها ... حيث إن ابنتها ..."

صمتت إيميلي مستدركة ... فحثها زين بانفعال: - ماذا بها ابنتها...؟

قالت ببطيء: - فقدت النطق منذ عام تقريبًا ...

بُهت زين وهو يسأل: - كيف ذلك ...؟ أتتأتئ في الحديث أم ...

قاطعته: - بل لا تتحدث ... إطلاقًا ... سمعت أنهم عرضوها على أكثر من طبيب ... هي تسمع جيدًا .. لكنها لا تتكلم ولا علة بها ...

تأججت النيران بداخله ... يجب أن يعثر على ابنته وينتشلها ... فقال لإيميلي:

- وإذا حانت لك فرصة للانتقام من كارمن ورد الصفعة لها ...؟؟

التمعت عيناها بجذل قائلة: - اقتنصها دون تردد ...

فقال زين بسرعة: - هل تعرفين ابنة كارمن أو هي تعرفكم...؟

أومأت إيميلي قائلة: - نعم ... حتى بعد انقطاع صلاتنا ... فمربيتها مارثا المكسيكية على علاقة بأليخاندرو الذي يعمل عندنا في الأرض ... كثيرًا ما تأتي لمقابلته ومعها الصغيرة التي تلهو في صمت يبعثنا على حبها رغم شيطانية أمها ...

قال زين مقررًا: - أريد أن أرى الصغيرة ... أيمكنك ذلك ...؟

رفعت إيميلي جوالها قائلة: - بكل بساطة ... مكالمة صغيرة لأيخاندرو ويتم لك ما تريد ...

فرك يداه بانفعال ... لم يعتقد أن القدر يسوقه إليها بذلك الشكل ... لقد صار قاب قوسين أو أدنى من صغيرته التي قضى أعوامًا يبحث عنها ... لابد أن يأخذها ويرحل ... بأقصى سرعة.

***

الشمس ساطعة تبعث الدفء في أوصالهم ... ثمة غزال صغير يجري ... أشجار السنديان الباسقة وأشجار الجوز تتراص على الجانبين كشهودٍ على هاك الحدث المرتقب ... أليخاندرو ... شاب طويل القامة عريض المنكبين ... بشرته ملوحة وشعره نحاسي ... يرتدي بنطالاً بنيًا ترتفع منه حمالات تستقر على قميص كاكي قد فتح معظم أزراره لتكشف عن صدرٍ قوي ... عدل أليخاندرو من شعره الذي تلاعبت به نسمات الهواء ثم نظر إلى ساعة يده وعاود النظر إلى كلٍ من إيميلي وزين ونور قائلاً:

- من المفترض أن تصل خلال دقائق...

تزايد التوتر بداخل زين وشعر بضربات قلبه تتلاحق ... أيحلم أم هو حقًا على وشك أن يرى صغيرته التي أعياه البحث عنها ست سنوات كاملات ... ست سنوات عجاف يحلم طوالهن بطيف فلذة كبده ... ورغم أنه لم يبد عليه أي شيء مما يعتمل بصدره حيث كان منظاره الشمسي الضخم يخفي عينيه بكل انفعالاتها ... إلا أنها كانت تصلها كشرارات استاتيكية تنبعث منه، فرفعت منظارها الشمسي وألتمع عسل عينيها أسفل أشعة الشمس الدافئة وعوضًا عن النظر إلى الأفق حيث ينظر الجميع ... ألتفتت إليه ... بنظرات حانية شعر بها قبل أن يراها ... فاستدار نحوها ليجد لُجَّتي العسل المصفى المحاطتين بأهداب سوداء طويلة تشمله وحده بنظراتٍ حانية هدأت من روعه قليلاً وتعجب كيف لأي شخصٍ في الوجود أن يحمل نظراتٍ معبرة هكذا ... نظرات مُطْمَئنة .. مُطَمْئِنة ... غرق قليلاً في تلك النظرات حتى ...

- "هاهما ذي ..."

هتف أليخاندرو ... فاستدار بقلبه ... نعم ... استدار بقلبه قبل رأسه .... استدار بجسده كله نحو المكان الذي تقترب نحوهم منه ... كانت تتهادى في سيرها ... أميرته الصغيرة ... و... أزدادت خفقات قلبه وانفعاله وحنقه من تلك التي منعته من رؤية ابنته وهي تكبر ... لم يرها وهي بدون اسنان ولم يرها وهي تحبو ... لم يرها وهي تتعلم المشي ولم يعلمها الحروف ويخبرها كل شيء عن العالم ... وربما تكون قد ابدلت اولى اسنانها و... لم يكن هنالك أيضًا ... قطعة منه هي ... نعم ... أدرك ذلك وهي تقترب منهم ... بشرتها الخمرية ... قامتها الطويلة المائلة للنحافة ... شعرها الأسود الناعم ... شفتاها الدقيقتان ... وأنفها المستقيم ... حتى شكل حاجبيه الكثيفين ورسمة عينيه الواسعتين ... إلا أنها لم ترث عنه لونهما ... فقد كانت عيناها فيروزيتن ... مزيج عجيب بين الأخضر والأزرق والعسلي ... كانت ترتدي بنطالا من الجينز الأزرق عليه حذاءً ذو عنق طويل رمادي اللون وبلوزة بيضاء يعلوها معطف صوفي رمادي أيضًا وشملة زرقاء وقد عقصت شعرها في جديلتين بينما تغطي جبهتها غرة ناعمة تنسدل بنعومة لما بعد حاجبيها. كبح شوقه في أن يحملها ويخبئها بين ذراعيه ويجري بها بعيدًا واكتفى بمتابعتها من بعيد حيث رآها تأملت مارثا مربيتها المكسيكية الأصل التي التقت صديقها، فذهبت الصغيرة بملل – وكأنها معتادة على ذلك – لتجلس على أحد المدرجات الصخرية وأخرجت من حقيبة كانت تحملها على ظهرها جهازًا لوحيًا أخذت تعبث به في صمت. اعتصر قلبه قبضة حزن مرير ... فابنته على بعد خطوات منه ويخشى الاقتراب...!!! لكن نور كانت قد جلست قربها وأخرجت كتابًا ما وفتحته لتنفرد مجسمات حيوانات ورقية وتُبدي نور الانهماك في القراءة حتى اقتربت منها الصغيرة وقد شغفها ذاك الكتاب العجيب الذي كلما قلبت نور في صفحاته ظهرت مجسمات مختلفة كانت مطوية بين الورق ..! نظرت لها نور باسمة وهي بالكاد تحبس أدمعها ... نعم ... فتلك هي الصغيرة التي ضمتها إليها من خمسة أعوام وألقمتها ثديها ... ابتسمت لها مايا ببراءة أذابت زين الذي كان واقفًا يتابع الموقف من بعيد ... أجلستها نور بجوارها وأخذت تحكي لها قصة عن الديناصور الذي فقد أباه ثم وجده في نهاية القصة ... وعندما شردت الصغيرة الصامتة سألتها نور عما بها ... فأخرجت الفتاة دفترًا وقلمًا ثم كتبت بحروف مهتزة وهجاء لم يخل من الاخطاء : “I no fathar” ... لكن نور تلقت رسالتها في ألم ... فسألتها أين أباها فهزت الفتاة كتفيها تخبرها أنها لا تعلم ... فسألتها نور مرة أخرى إن كانت ستفرح إذا ظهر أباها...؟ فأومأت الصغيرة بحماس ... فهمست لها نور أنها يمكنها إخبارها كيف تجد أباها ... نظرت إليها الفتاة في شك ... إلا أن نور طلبت أن يصيرا أصدقاء أولاً كي تخبرها ... فأشارت الصغيرة بإبهامها باسمة علامة الموافقة على تلك الصداقة لتهمس لها نور ثانية أنها يمكنها أن ترفع يداها إلى السماء هذا المساء عندما تكون بمفردها وتطلب من الله حتى بدون كلام أن يرسل إليها أباها ... نظرت إليها مايا غير مصدقة لكنها أومأت إليها مؤكدة وهي تقول: "لقد فعلت ذلك كثيرًا وكان الله يرسل لي ما أريد"

شردت الفتاة قليلاً ثم اتسعت ابتسامتها وكتبت مرة أخرى “I try” ... ستحاول ... ابتسمت نور ... لقد تمت الخطوة الأولى بنجاح.

هنا جاءت مارثا لتصطحب الصغيرة عائدة ... وبمجرد اختفائها في الأفق، أستدارت إلى زين الذي كان قد رفع منظاره الشمسي على جبهته ووضع كفيه على أنفه وفمه وقد التمعت عيناه ببريق عجيب..! لم تحاول محادثته إلا أن إيملي دعته إلى المنزل لكنه رفض وقال أنه سيتجول بالمزرعة ولن يعود الآن ... قالها ثم أنطلق بعيدًا بخطوات واسعة وبمجرد أن أولاهم ظهره ... ترك العنان لدموعه التي انسابت بغزارة من قلبه المنكسر على ابنته متوعدًا أمها بكل ما يعتمل بداخله من غضب.

******

[1] MCAT (Medical College Admition Test): فحص القبول في الكليات الطبية وهو فحص قبول معياري يخضع له الطلبة الراغبون في الانضمام إلى كليات الطب في أمريكا الشمالية.

Msamo likes this.

Just Faith غير متواجد حالياً  
التوقيع
//upload.rewity.com/uploads/157061451865811.jpg[/IMG]ستجدون كل ما خطه قلمي هنــــــاااااااااااا[/URL][/FONT][/SIZE][/B]
الشكر لصديقتي أسفة التي دائماً تشعرني بأن هناك من يشعر بدون شكوى



سلسلة حد العشق بقلوب أحلام

رواياتي السابقة بقلوب أحلام
أنتَ جحيمي -- لازلت سراباً -- الفجر الخجول
هيـــامـ في برج الحمـــامـ // للكاتبة: Just Faith *مميزة
فراء ناعـــمــ (4)- للكاتبة Just Faith-

عروس الأوبال - ج2 سلسلة فراء ناعم- * just faith *
سلسلة عشاق صنعهم الحب فتمردوا "ضجيج الصمت"

ودي مشاركاتي في سلسلة لا تعشقي اسمرا
https://www.rewity.com/forum/t326617.html
https://www.rewity.com/forum/t322430.html
https://www.rewity.com/forum/t325729.html
ودي رسمية
https://www.rewity.com/forum/t350859.html

خواطري في دعوني أتنفس
ديوان حواء أنا !!

شكرا نيمو على خاطرتك المبدعة
رد مع اقتباس
قديم 18-12-17, 01:42 PM   #25

Just Faith

مراقبةومشرفةسابقة ونجم روايتي وكاتبة وقاصة وملكة واحة الأسمر بقلوب أحلام وفلفل حار،شاعرة وسوبر ستارالخواطر،حكواتي روايتي وراوي القلوب وكنز السراديب

alkap ~
 
الصورة الرمزية Just Faith

? العضوٌ??? » 289569
?  التسِجيلٌ » Feb 2013
? مشَارَ?اتْي » 145,786
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » Just Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond repute
?? ??? ~
جروبي بالفيس (القلم وما يهوى)https://www.facebook.com/groups/267317834567020/
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

-6-
"لا تصدق أن الإنسان ينمو. لا. إنه يولد فجأة:
كلمة ما، في لحظة، تشق صدره على نبضٍ جديد،
مشهد واحد يطوح به من سقف الطفولة إلى وعر الطريق."
غسان كنفاني
***
تلبدت السماء بالغيوم، وفي لحظة... توارت الشمس خلف الغمام...
وكأن الطبيعة تتحد مع روحه وترسم حالته النفسية في أفق مظلم..!
شق لسان من البرق صفحة السماء تلاه صوت الرعد وبدأت الأمطار في الهطول... زفر في ضيق وأضطر إلى العودة إلى منزل السيد بيل.
دلف إلى المنزل الذي بدى هادئًا ثم صعد السلم فوجد جوناثان نازلاً، قال له ذلك الأخير:
- أين انتما، زين..؟ لماذا لم تنضما إلينا في الغداء..؟
عطر جوناثان النفاذ يصيبه بالغثيان، فقال له بسرعة:
- لقد كنت أتمشى بالخارج لكن الجو لم يسمح لي بالاستمرار... عن إذنك ...
قالها ثم صعد إلى الغرفة.. طرق الباب وانتظر قليلاً، ثم فتحه ودخل...
لم يجد نور فابتسم بسخرية متمتمًا: - طبعًا مش موجودة ...
خلع عنه قميصه المبتل بسرعة لئلا يصاب بنزلة برد ثم توجه إلى حقيبته لـ... ينتفض على شهقة فزعة..!
كانت هي... خرجت لتوها من الحمام الملحق بالغرفة ترتدي معطف استحمام قصير سكري اللون ذو أطراف ذهبية بينما ينسدل شعرها المبلل منسابًا حول وجهها حتى آخر ظهرها.
تجمدت نور في خجل شديد وهي تشعر بوجهها يكاد يحترق من السخونة... توردت وجنتيها ونفر هاك العرق في جبينها ووضعت يدها على فمها ثم خفضت عينيها متمتمة بصوت مبحوح:
- أ... أ... أنا كنت فاكراك مش هاترجع دلوقتي...
قالتها وهي تتحرك ببطيء تحاول جر أي من ملابسها عائدة إلى الحمام الصغير، فقال زين بتهكم:
- إيه .. ماكنتيش عايزاني أرجع عشان يخلالكوا الجو...؟ مانا شفته وهوا نازل من هنا...
أتسعت عيناها في ذعر لا تفهم عمن يتحدث لكنها فهمت ما يرمي إليه بحديثه ...!
حاربت أدمعها وهي تقول بعنف: - أنا ماسمحلكش تتكلم عني كدة على فكرة... بجد كدة كتير... حرام عليك... أنت لو تعرف ربنا كنت فهمت أنك كدة بترمي إنسانة محصنة جزافًا من غير دليل... ومش أنا اللي هاحاسبك... ليا رب اسمه العدل...
قالتها ثم استدارت نحو الحمام مرة أخرى، إلا أنه أمسكها من ذراعها فاستدارت في تحفز مستعدة لإكمال حربها، إلا أنها لاحظت نظرة منكسرة بعينيه، ثم صُدمت بجملته التي قالها لها بخفوت:
-" أ... أنا آسف ..."
عض زين على شفته في ندم، وهو يسأل نفسه... حقًا... لماذا يصفعها بكلماته ونظراته كلما امتلأ حنقًا من امرأة أخرى...!! فليست هي من خانته... ليست هي من منعته من ابنته بل على العكس... هي التي قادته إليها..! ثم إنه لو كان اتهامه لها صحيحًا.. وبالفعل كان جون هنا... لعبأت رائحة عطره القاتلة النفاذة أرجاء الحجرة ..
- "أنا... أنا المفروض أشكرك..."
أكمل زين كلامه وقد شل نور الذهول من ذلك الشخص الذي ينتقل من أقصى اليسار لأقصى اليمين في لحظات وما زاد من ذهولها تلك الدموع التي تجمعت بمقلتيه اللتين ضيقهما وهو يردف مشددا من ضغط قبضتيه على ذراعيها:
-أنتِ اللي وصلتيني لبنتي... بنتي اللي مش عارف ألمسها ولا أقرب لها إلا بتمثيليات فارغة...
أغمض عينيه في ألم لتنساب دمعتين متمردتين على وجنتيه.
لا شعوريًا... وجدت نور يديها ترتفع وتحيط بوجهه ويجفف إبهاميها أدمعه... أطلقت قبضتاه سراح ذراعيها اللذين أنَّا من الوجع لتنتقل إلى كفيها المحيطين بوجهه فيمسكهما بشدة، ويفتح عينيه لتصدمها نظرة راعدة جعلت أوصالها ترتجف... نظرة ثاقبة... حادة... كنمرٍ جريح يقاوم سقوطه... عقدت حاجبيها وارتسمت بعينيها نظرة خوف.
شعر ببرودة كفيها وأخذته ملامحها الوجلة مع عبق الفاكهة المنتشر من شعرها المبلل... وارتجافة شفتيها الخوخيتين... أنزل يديها من على وجهه بهدوء دون أن يتركهما فكادت أن تتنفس الصعداء وتحاول الهرب من تلك النظرات القاتلة، إلا أنها فوجئت بالعاصفة...!
لقد جذبها من يديها إليه في عنف... ترك كفيها ليمسك هو بوجنتيها اللتين كانتا ملتهبتين على عكس أطرافها... ازداد اقترابه وازدادت خفقات قلبها وكادت العبرات تنساب من عينيها... ضمها بقوة بين ذراعيه... ودفن رأسه في حديقة الفاكهة المنتشرة بين كتفها ووجهها... لفحتها حرارة أنفاسه المارة صعودًا على عنقها و... كاد قلبها يتوقف عندما... بدأ ينهل من ثمرتي الخوخ الطازجتين...!!
طرقٌ كثيرٌ على الباب... ثم ... أنفتح دون تلقي إذنًا... ربما كانت نجدة لها... تنتشلها من براثن مشاعره المختلطة التي تطبق عليها دون هوادة...
"أوووه ... يبدو أنني جئت في توقيت خاطئ ..."
قالتها لورين في حقد بعد أن فتحت الباب الذي لم يحكم زين غلقه. أرخى ذراعيه وقد عاد لرشده، فانسحبت نور بخجل تجر رجليها إلى الحمام مختبئة خلف بابه. أما هو... فأسرع بارتداء قميصه ونظر إلى لورين نظرة قاتلة جعلتها تتلجلج مفسرة دخولها المفاجئ:
- لـ... لقد قلقنا عليكما فنحن لم نركما منذ الصباح ولم تتناولا الغداء معنا فبعثتني أمي لأسألكما إذا كنتما تريدان أن نرسل الطعام بالغرفة ...!
أرتدى زين معطفه ثم خرج من الغرفة دون أن يعلق على كلامها بحرفٍ واحد. نظرت لورين بحسد إلى باب الحمام حيث اختفت نور قبل أن ترحل بدورها صافقة الباب خلفها.
أما نور، فجلست لعدة دقائق على طرف المغطس... لا تدرك تحديدًا ما الذي حدث... حتى نهضت.. تأملت وجهها في المرآة ... تأملت شفتيها المتورمتين... تحسستهما بأصابع مرتعشة... تهاوت أدمعها على خديها متناقضين مع تلك البسمة المرتسمة على شفتيها... خفق قلبها في عنف... إنها أول كلمة تُخط في سجل أنوثتها... شرارة من البرق أنطلقت من عينيه لتصعق أوصالها الغضة فتضمها ذراعيه راعدتان وينهمر مطر شفتيه على صحراء أنوثتها القاحلة التي أصابها الجفاف منذ زمن فأنبتت براعم خضراء خجلة تحمل كل ورقة بها ... اسمه.
***
كان قد خرج ولم يعد حتى الفجر... لم تستطع النوم... أخذت تذرع الغرفة جيئة وذهابًا...
لم تقرب أي طعام منذ طعام الإفطار الذي تناولته باليوم السابق، وبعد ما أنهكها النعاس والجوع ... قررت أن تذهب للتوضأ كي تصلي الفجر... وبينما هي تصلي... فُتح الباب... ودلف زين... ألقى عليها نظرة خاطفة ثم توجه إلى النافذة ووقف خلف الزجاج يتابع زخات المطر.
"السلام عليكم ورحمة الله ... السلام عليكم ورحمة الله"
سلمت بهمس منهية صلاتها... وأطرقت في خجل لا تدري ماذا تقول له... حتى تحدث هو... وكان كمن (صمت دهرًا ونطق كُفرًا)... هي جملة من كلمتين... أشعلتا من قبل شرارة قربهما... ثم كانت الآن كدلو مياه مثلجة سكبها على مشاعرها المتأججة...
"أنا ... آسف.."
قالها بهدوء قاتل... رفعت رأسها في حدة لتطالعه.. ثابتًا بنفس وقفته موليًا ظهره لها يرفع إحدى يديه لتستند على الحافة العليا للنافذة والأخرى تستقر بجيب بنطاله... رأته هادئًا لا مباليًا بالإعصار الذي شب بداخلها وهو يردف:
- آسف إني خرقت أتفاقي معاكي... معلش... كنت متلخبط ومتوتر و... ماعرفش حصل كدة إزاي ...!
نهضت من على بُساط صلاتها الذي طوتها بعنف ورفعت رأسها في شمم وهي تقول له بصوت مبحوح وهدوء عاصف:
- عذرك مقبول... بس ياريت مايتكررش تاني ...
قالتها ثم هرعت إلى الفراش متسلحة بملابس الصلاة تختبى تحت الأغطية... أطفأت الضوء الوحيد للمصباح الجانبي للفراش كي تغرق الغرفة في الظلمة ولا يتمكن من رؤية دمعتين أنحدرتا في صمت على وجنتيها وهي تهمس لنفسها "غبية".
لم ترَ بدورها عينيه المغمضتين بقوة ولا قبضته التي يعتصرها داخل جيبه...
لم تشعر بذلك اللهيب المضرم أسفل جلده منذ أن وضع يديه على وجنتيها الملتهبتين...
لم تعلم عذابه بمذاق الخوخ الذي لازال عالقًا بشفتيه...!
لكن تلك الأشباح الدائرة في عقله لم تتركه لحظة... شبح شقيقه وابتسامتها العذبة اثناء نومها.. وشياطين الخيانة التي تعبث برأسه طوال اليوم دفعته لكي يؤثر السلامة التي ظن أنها تكمن في البعد عن كل نساء الأرض؛ رغم الأشتعال الفريد الذي خبره منذ ساعات مع تلك المرأة... ذلك الاشتعال الذي لم يخبره قبلاً حتى مع زوجته السابقة... إلا أنه قرر أن يسكب عليه برد لامبالاته ويردم عليه خوفه وخيباته، فلم يعد راغبًا في شيء من تلك الحياة سوى ابنته ومزرعته ... فقط.
***
"إيه رأيك بقى في القصة دي ...؟"
قالتها في اليوم التالي وهي تعطي مايا قصة أخرى أكثر جمالاً وتشويقًا.. فتتسع عيناها الفيروزيتان بشغف فبدت كدمية جميلة مع تطاير شعرها الأسود المعقوص هذه المرة على هيئة ذيل حصان في الهواء.
أخذت مايا تتصفح القصة في نهم متحسسة المجسمات التي تظهر لها مع كل صفحة... لكنها بعد قليل توقفت وهي تنظر إلى نور مترددة، فسألتها نور مدعية اللا مبالاة:
- عملتي اللي أتفقنا عليه أمبارح..؟
أومأت الفتاة بحماس وهي تفرك يديها، في تلك اللحظة أشارت نور بيدها إشارة خفية لتتقدم مارثا كما اتفقت معها قائلة:
- هاي مايا... ثمة رجل جاء يسأل عنك ويدعي أنه أباك... أتريدين لقائه..؟
أتسعت عينا الفتاة وهي تنظر إلى نور واضعة يداها الصغيرتان على فمها مبتسمة بانفعال.. ثم أومأت بسرعة إلى مارثا التي تنحت جانبًا فيتقدم زين بكل شوق الدنيا... وضعت مايا يديها على عينيها تقيهما من الشمس وهي تتأمل ذلك الرجل القادم نحوها... ذلك الأب الذي ظهر فجأة بعد ما أقنعتها أمها أنه تخلى عنهما وهجرهما... لكنها ترى فيه منقذها من براثن المربيات اللاتي يتغيرن في السنة عدة مرات... من براثن أمها اللاهية عنها مع رجل كلما رآها نظر إليها بأحتقار أو دفعها بعيدًا عنه... من جحيم امرأة طاعنة في السن مدمنة للخمر ذات صوت حاد ومزعج من الفترض أنها جدة أمها... من حفلات وسهرات لطالما عج بها منزلهم وكانت تراقبها من طرفٍ خفي بعد أن تخدع مربياتها بأنها قد أخلدت إلى النوم.
ليكن ذلك الرجل أباها أو لا يكون فستدعو الله أن يقبل انتشالها من وجوه كبرت بينهم لكنها لا تعرف عنهم شيئًا..! لم تجلس أمها يومًا تقص عليها القصص كتلك المرأة التي تغطي شعرها... لم تر ابتسامة صافية على شفتي أمها كما تبتسم لها تلك الغريبة وكأن أمها تحتفظ برصيدها المتبقي من الابتسامات للرجال المارين في حياتها فقط بعد أن ينفذ جُل هاك الرصيد على ركاب الطائرات التي تتنقل بها من بلد إلى أخرى..!
أنتبهت الصغيرة على ذلك الرجل الذي أنحنى نحوها ورفع منظاره الشمسي يتأملها بلهفة... بشوق... لا يخيفها... إن ملامحه مألوفة رغم أنها لم تره قبلاً أبداً. لم تدرك الصغيرة أن ملامحه هي ما تراها يوميًا بصورة مصغرة في مرآتها... نعم.... وكأنها نسخة مصغرة منه... حتى حاجبيها يتخذان نفس مسار حاجبيه عندما ينعقدان في تفكير... كما تفعل حاليًا وهي تنظر إليه وهو يتحدث إليها.
حاول السيطرة على نبضات قلبه التي صارت تطرق صدره بقوة وهو يقترب من فلذة كبده التي كان قبل أن يراها شاكًا في نسبها إليه، إلا أنه منذ أن رأى ملامحه فيها وقد بات متأكدًا من شيء واحد فقط ... هي ابنته التي لابد أن يأخذها حالاً معه بأي ثمن.
"هل ستأخذني معك...؟"
قاطعت شرحه المستفيض عن الظروف التي حالت بينهما وعن بحثه عنها طوال تلك السنوات المنصرمة بسؤال مقتضب كتبته في في دفترها وعرضته عليه.
أعتصرت قبضة من الألم قلبه... أي ظروف أفقدتك النطق يا صغيرتي..؟ أي بشاعة وضعتك بها تلك الأم غير المسئولة أردتك إلى هذه الحالة..؟؟
بكل حب أجابها:
- لو وافقتي تيجي معايا... هاخدك على أجمل بيت في الدنيا... هافسحك وأخرجك وأعمل لك كل اللي نفسك فيه... هانبقى...
مرة ثانية تعرض عليه دفترها وقد خطت فيه كلمتين: "I Agree"
يبدو أنها لم ترث شكله فقط... أيضًا ورثت عنه طبيعته الحاسمة التي تحب البت في الأمور كلها.
أغمض عينيه في ألم .... أكان من السهل لهذه الدرجة أن يأتي رجل يدعي أنه أباها وترحل معه دون تعقيد هكذا أم إنها شعرت أنه أبيها حقًا بهاك الذكاء المتقد من عينيها...؟؟
لقد أخبرته أنها موافقة على الرحيل معه... تفضل الرحيل مع رجل تراه لأول مرة على البقاء مع أمها... وهذا يدل على الكثير... الكثييير جدًا...!!!
حملها زين بين ذراعيه أخيرًا وأعاد منظاره الشمسي ليغطي عينيه قائلاً بالعربية:
- أنا خلاص... مش هاسيبك أبدا يا حبيبتي... ومش هاترجعي للمخلوقة اللي ماتستهلش شرف الأمومة دي تاني...!
اقتربت نور قائلة بهدوء: - إزاي يعني هاتاخدها كدة..؟ مش تكلم مامتها الأول ...؟
أجابها بحدة: - بس ماتقوليش مامتها... لأن دي مش أم ولا عمرها هاتعرف معنى الأمومة..! وأنا عارف أنهم عمرهم ما هايوافقوا يدوهالي بالساهل كدة ...
قالت نور وهي تعدل من حجابها الذي أخذ في التطاير مع نسات الهواء:
- يا باشمهندس... أنت ناسي ان بنتك أمريكية...؟ مولودة هنا ومعاها الجنسية وعمر ما حد هايسيبك تعدي بيها من المطار من غير حاجة اسمها notarized permission وده خطاب موثق كدة من ولي الأمر التاني للطفل -غير اللي الطفل مسافر معاه- يؤكد موافقته على سفر الطفل ده..
لم يعقب زين بينما التمعت عينا أليخاندرو الذي تبادل النظر مع مارثا عندما سمع كلمة notarized permission بالإنجليزية وخمن فحوى الحوار، فاقترب من زين هامسًا:
- سيدي ... يمكنني مساعدتك على أن تأخذ ابنتك لكن كل بثمنه ...
عقد زين حاجبيه وأنزل مايا إلى الأرض فأمسكتها نور مطمئنة إياها بينما تسائل زين:
- كيف يمكنك مساعدتي..؟؟
- سأُسر لك أمرًا سيدي... في الواقع... أنا ومارثا مهاجرين غير شرعيين جئنا من المكسيك بهويات وتأشيرات مزورة ونعرف محامي هنا يغير لنا الهوية كلما أردنا الانتقال من مكان إلى آخر أو كلما شعرنا أقتراب افتضاح أمرنا، وكنا نخطط أن نذهب إليه لتغيير هويتنا لأنه يبدو أن ثمة من وشى بنا هاهنا فسنغير هويتينا ثم سنسافر إلى ولاية أخرى للعمل، لكن ذلك المحامي جشع يريد مبلغًا وقدره من المال لا نملكه.. لكن... إذا أردت... يمكننا التوسط لك عنده كي يخرج لك إذنًا موثقًا (notarized permission) وكأن مس هجرس هي التي كتبته فمارثا يمكنها أن تأتي بكل الأوراق الثبوتية للصغيرة وأيضًا نموذج لتوقيع مس هجرس الذي يمكن أن ينفذه المحامي بدقة... أليس كذلك مارثا..؟
أومأت مارثا في ثقة بينما ألتمعت عينا زين بانتصار وعزم على المضي قدمًا... ودفع أي مبلغ لاسترداد ابنته من هاك المستنقع البشع.
***
لم تكن مهمة صعبة التي أوكلها لها، فجميع أغراضه شبه مرتبة بحقيبته اللهم إلا عطر ومنامة، إلا أنها استغرقت وقتًا وهي تلملم أغراضها وتضع عطره ومنامته بالحقيبة بتوتر.. إنه يرتكب خطئًا ولن تصمت على ذلك... يجب أن تتخلى عن صمتها قليلاً وتتحلى بشيء من الشجاعة... لقد كانت تنكر على زكريا بقوة وصلابة فمالها عن تذكرة شقيقه معرضة..!!!
حملت حقيبتها على كتفها وجرت حقيبته ذات العجلات وخرجت من الغرفة لـ ... لترى إيميلي.
أبتسامة تعلو ثغرها ترتدي بلوزة ذات أكام طويلة وتنورة واسعة طويلة وقد رفعت وشاحها النيلي لتغطي به نصف شعرها وتتركه لينسدل على كتفيها كيفما أتفق.
عقدت نور حاجبيها قائلة بتردد: - مـ... مرحبًا إيميلي ... ما هذه الإطلالة الجديدة...؟
أتسعت ابتسامة إيميلي قائلة بزهو: - أجرب الحجاب ...!
سقطت الحقائب من يدي نور هاتفة: - هل أعلنتِ إسلامك...؟
ضحكت إيملي قائلة: - ليس بعد... لازلت أقرأ في الأمر لكن فكرة الحجاب أعجبتني في الواقع...
شدت نور على يدها قائلة بحرارة: - أعدك أنك لن تندمي أبدًا... خذي وقتك وإذا رغبت في أي مرجع أو استفسار معك بريدي الإليكتروني وحسابي على فيس بوك يمكنك مراسلتي في أي وقت...
أومأت لها إيميلي وافقة فانحنت نور لتعاود حمل الحقائب، إلا أنها اعتدلت ثانية وهي تقول بتردد:
- ثمة أمر آخر إيملي... لا تأخذي الإسلام بأفعال بعض المسلمين غير المسئولة... فالرجال ليسوا حجة على الدين، لكن الدين حجة على الرجال...
كانت إيملي مثقفة من الطراز الأول وفهمت ما ترمي إليه نور فأومأت قائلة:
- هذا شيء بديهي في أي دين أو مذهب ...
ودعتها نور وطلبت منها أن تودع أهلها بالنيابة عنها هي وزين وتشكرهم حيث توجب عليها الرحيل بسرعة. وما هي إلا دقائق حتى وصلت نور إلى سيارة أليخاندرو وكانت نيسان بيك أب بيضاء عتيقة يرجع طرازها لمنتصف التسعينات أو قبل ذلك. كانت السيارة تتمتع بمقصورة صغيرة ذات أريكة واحدة للسائق ومن يجاوره مع صندوق تحميل خلفي مكشوف به بعض الحقائب تناول أليخاندرو منها الحقيبتين ليضيفهما إلى المتاع القليل بصندوق السيارة الخلفي. كانت مايا تجلس على المقعد المجاور للسائق تلتهم بعض المثلجات بينما يقف زين بجوار الباب يراجع بعض الأوراق مع مارثا، فاقتربت نور منهما زافرة بغضب وهي تقول بالعربية:
- على فكرة أنت لازم تعيد التفكير في اللي بتعمله ده ..!!
رفع رأسه إليها وبدا أكثر جمودًا بمنظاره الشمسي الذي يخفي نصف وجهه وهو يقول:
- قصدك إيه...؟
فانطلقت تخرج ما في جعبتها بأنفعال:
- أنت كدة بتخطف البنت و... وبتزور في أوراق رسمية... يعني بتساعد مجرم بيعمل أوراق زور وشهادات زور أنت عارف يا باشمهندس الوعيد لشهادة الزور..؟ دي من أكبر الكبائر بعد الشرك وعقوق الوالدين... ثم إني وصلت لمرحلة متقدمة جدًا في دعوة إيميلي لدرجة إنها بتفكر في الإسلام وممكن تعلن إسلامها قريب... هايبقى شكلنا إيه كمسلمين قدامها وأحنا أخدنا عامل عندهم وساعدناه على الهرب والتزوير و....
"شششششش... أستني شوية" قاطعها زين بصرامة وهو يرفع منظاره الشمسي لتجد أن مظهره الجامد خلف منظاره الشمسي كان أفضل بمراحل من رميها بتلك النظرات الغاضبة... الحادة... القاتلة وهو يردف بنفس صرامته الهادئة:
- أولاً دي بنتي وأنا مش بخطفها... أنا بنقذها وهيا فعلا نفسها تهرب من المستنقع اللي عايشة فيه ده... ثانيًا... أنا عارف كويس أوي أن التزوير داخل في شهادة الزور وقول الزور... بس التزوير اللي يُقصد بيه الوصول لحق مشروع مش هاوصل له إلا بالطريقة دي جائز جدًا إني أستخدم منه بالقدر اللي يوصلني لحقي بس... لأني هنا هابقى مضطر وربنا بيقول (فمن اضطر غير باغٍ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم)... وبعدين أنت ماتعرفيش أبو كارمن يبقى مين ولا هربان من إيه في مصر وأهون عليه قتلي أو سجني على أنه يسلم لي بنتي... ثالثًا بقى يا سيادة الداعية الكبيرة... فيه قاعدة شرعية بتقول (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) يعني إني أنقذ بنتي من الفساد اللي هيا فيه ده مقدم على أي اعتبار آخر... دعوة أو إحتمال إسلام... وعلى فكرة الأمريكان لما يحبوا يسلموا بيقروا في الدين كويس من غير ما يتأثروا بحد عشان كدة بيبقوا أحسن من مسلمين كتير أتولدوا لقوا نفسهم مسلمين من غير ما يقروا أو يفهموا..
كانت كلماته مرتبة وصحيحة إلى حد أذهلها وألجمها، فعمدت إلى تغيير الموضوع قائلة بذات التوتر:
- وبعدين إيه العربية دي...؟ هانركب فين إن شاء الله..؟
وكأن مارثا فهمتها فقالت وهي تقفز إلى المقصورة الخلفية مع الحقائب:
- سأركب أنا هنا ...
فهز زين كتفيه بسخرية قائلاً: - مافيش غير الكرسي ده ...
قالها ثم قفز بجوار أليخاندرو وحمل مايا على رجليه، ترددت نور قليلاً ثم لم تجد بدًا من الصعود لتجلس على تلك المساحة الصغيرة المتبقية في المقعد محاولة الابتعاد عنه قدر الإمكان إلا أنه كان لا مفر من شيء من التلامس، فرفع ذراعه ليضعها خلفها، لتنتفض في ذعر، فهمس لها:
- عشان تعرفي تقعدي كويس ...
كان محقًا.. فقد أفسح مجالاً ما ولم تلامسها ذراعه التي علقها على مسند الرأس الخاص بالمقعد بينما ذراعه الأخرى تحيط بخصر مايا التي بدأ النعاس يداعب جفنيها، و... أنطلق أليخاندرو إلى مدينة دالاس.
هاهو يقطع الطريق ثانية وقد أطمئن قلبه واستكانت لواعجه فقطعة روحه الهائمة تلقي برأسها على صدره جوار قلبه.
لم يشعر بمرور الساعات فبعد أن أطمأنت روحه وأستكان فؤاده لم يشعر بأهدابه وهي تتعانق ويسري الخدر اللذيذ في أطرافه ويروح في سباتٍ لم يوقظه منه سوى صوت أيخاندرو يعلمه بوصولهم...
فتح عينيه لـ.. لترتسم على وجهه ابتسامة لم يتمكن من حجبها... فذراعه اليمنى سقطت من عليائها واستقرت حول كتفيها بعد أن سقطت هي بدورها في سبات جعل رأسها تستقر على كتفه الأيمن رغمًا عنها.
أخذ يتأملها بحجابها الرمادي وملامح وجهها المستكين على كتفه و... نهضت مايا في حماس وهزت نور التي فتحت عينيها لتجد نفسها غارقة في نسيم عطره المختلط برائحة أنفاسه... أحلمٌ آخر يحمل عبقه أم... لكنها أعتدلت في حدة عندما وجدت نفسها نائمة على كتفه أسفل ذراعه الذي يحيط بكتفيها..!
أنعقد حاجبيها في حدة وتضرج وجهها بحمرة الخجل وهي تبتعد ناظرة إليه بغضب... فرفع كفيه بمحاذاة كتفيه وهو يقول بمرح لأول مره تلمسه في نبرته:
- بريء يا بيييه... أنا نمت زيك بالظبط... وليس على النائم حرج صح...؟
قالت بسخرية غاضبة: - ليس على النائم حرج..!!!
ألهذه الدرجة وجود ابنته غير في شخصيته ليتحول الشخص العبوس المشتعل إلى هاك المرح...؟؟!! كذا سألت نفسها لكنها لم تدر أن سقوط رأسها على كتفه وتأمله لملامحها النائمة لثاني مرة اقتلع من داخله مرحًا نادرًا. نادهم أليخاندرو ثانية بعد أن هبط من السيارة مساعدا مارثا على النزول، فترجلا وحمل زين صغيرته عازمًا أن يدفع لهاك الأليخاندرو كل ما يطلبه في سبيل عودة ابنته معه.
***
شاردة عن الكلمات الماثلة أمامها تعضعض القلم الذي كانت تكتب به منذ قليل... تدور هواجسها كرُحى يطحن تركيزها في أي شيء. ولاحظ هو شرودها... تشرد كثيرًا هذه الأيام على غير عادتها وكأن ثمة ما يكدرها. أقترب منها ببطئ... أنحنى نحوها ... أحاط كتفيها بذراعيه فانتفضت وجلة.
- خضتني والله العظيم...
- مالك يا توتِّي فروتي سرحانة في إيه..؟
ضحكت على اللقب الذي يطلقه عليها، ثم عادت لورقها قائلة:
- مافيش يا ياسر بفكر في الرسالة ...
نحى الورق جانبًا إلى آخر منضدة الطعام التي كانت تجلس إليها لتنسيق رسالتها، ثم قال:
- تؤ .. تؤ ... تؤ .. مافيش رسالة النهاردة خالص يا توتي ... أنا إجازة الليلة دي على فكرة ...
أسندت ذقنها على قبضتها وهي ترسم السماجة في قولها: - وإيه يعني ...؟!
أمسك كفيها قائلاً: - والعيال نايمين ...
لم تستطع منع ابتسامتها وهي تقول: - برضه إيه يعني ...؟
جذبها من على الكرسي لتنهض هامسًا: - والنهاردة الخميس ...
ضحكت بدلال قائلة: - فيه إيه يا ياسر ..؟
أزاح شعرها من على عنقها واقترب من أذنها هامسًاوهو يحيط خصرها بيده الأخرى:
- فيه أن العيلة وعيلة العيلة هايجوا بعد يومين يعسكروا هنا فـ..
لكنه لم يكمل حديثه حيث دفعته هاتفة وهي تضع يدها على فمها:
- أوووف يا ياسر ... إيه البرفيوم ده ..!
عقد حاجبيه بدهشة قائلاً: - دانهيل فريش اللي أنت بتحبيه وجبتيهولي هدية ...
أشاحت بكفها قائلة: - لأ ... لأ .. لأ ... ده حاجة قوية جدًا مش ...
لكنها لم تكمل حيث أزداد شعورها بالغثيان وهرعت إلى الحمام تفرغ ما بمعدتها، بينما عقد ياسر حاجبيه وأخذ يتشمم ملابسه متمتمًا: - والله لسة مستحمي ...!!!!
***
غناء... حديث من طرف واحد... تقليد لأصوات شخصيات برامج الأطفال المشهورة... ما هذا..!!
لقد نام طويلاً منذ وصولهم إلى مانهاتن وعندما استيقظ ليدخل دورة المياه سمع كل هذا...!
جلس على أريكة مريحة بالقرب من باب الحمام وهو يفكر... كيف تأتي بكل تلك الطاقة..! كيف استيقظت وأخذت صغيرته تحممها كما هو واضح وتغني لها وتحكي قصصًا دون تفاعل من الصغيرة أو حتى كلمة واحدة..! شعر بغصة في حلقه لما آل إليه حال ابنته... تلك القطعة الأجمل منه... لكنه سيذهب بها إلى الصحراء... سيسمعها القرآن والشعر ويتحدث إليها ويدعو الله أن يفك عقدة لسانها من عنده.
و... خرجت الصغيرة ومعها تلك الكبيرة الصغيرة التي تحملها وعلى وجهيهما ابتسامة واسعة.. صافية... لم تلبث أن أختفت من على شفتي نور عندما رأته جالسًا في مواجهتها مباشرة.. يتأملهما بجرأة نادرة..! شعرت بالإحراج من عبائتها القطنية المبتلة عقب اللعب مع مايا بالمياه وشعرها الثائر الذي أبتل بدوره وألتصق برأسها، فأسرعت إلى غرفتها دون أي كلمة... أبدلت ثيابها وثياب مايا وأعطت الصغيرة آخر مغلف جرينولا موجود بالمنزل لتتناوله ثم خرجت لتجد زين لازال جالسًا في مقعده وقد شرد ناظرًا من النافذة الضخمة المطلة على نهر هدسون.
-"أنا نازلة أجيب شوية حاجات لمايا وللبيت.."
قالتها بهدوء وهي تتحاشى النظر إليه، فنهض واقفًا وهو يقول:
- طيب استني دقيقة ...
قالها ثم أختفى بالغرفة التي يبيت بها وخرج مادًا يده إليها ببعض الدولارات وهو يقول:
- أتفضلي .. أشتري كل اللي أنت عايزاه ...
عقدت نور حاجبيها قائلة:
- أنا معايا فلوس على فكرة... أنا كنت باشتغل هنا وليا دخلي اللي قدرت أوفر منه مبلغ كويس و ...
إلا أنه قاطعها بحزم:
- مايهمنيش الكلام الفارغ ده... خلي فلوسك لنفسك... مش ممكن تصرفي على بنتي من معاكي وبعدين...
قاطعته بدورها: - ماتنساش أنها بنتي أنا كمان... وعادي إني أجيب لها من معايا ...
خفق قلبه بعنف لعاطفة الأمومة لديها التي تسبغها على مايا دون مواربة لمجرد أنها أرضعتها يومًا ما، إلا أنه لم يفقد حزمه وهو يكمل كلامه وكأنها لم تقل شيئًا:
- .. وبعدين أنت مسئولة مني... يعني فرض عليا أجيب لك كل اللي أنت عايزاه في حدود إمكاناتي... حتى لو جوازنا حبر على ورق... أنت لسة مسئولة مني كبنت عمي... أحنا عرب ومسلمين يا مدام مابنمشيش بالنظام الأمريكاني... خدي الفلوس من فضلك ..
كان دورها الآن كي يخفق قلبها من كلمة "مسئولة مني" وكأنها لم تجد في حياتها من يقلها لها سوى أم مريضة واهنة ضعيفة رحلت سريعا.. لم تجد أب ولا أخ ولا حتى زوج قبل هذا يشعرها أنه سند وأنها رعيته وأنه مسئول عنها ...!! لكنها أمعنت في عنادها وهي تعقد ذراعيها على صدرها قائلة بسخرية:
- أنت ناسي إني كمان ليا ورث بتاع أبويا وممكن أبقى أغنى منك ...
حدجها بنظرة نارية وهو يقول:
- قلت لك مايهمنيش الكلام ده وخلي فلوسك لنفسك... حتى لو معاكي مال قارون طول ما أنت اسمك مرتبط باسمي يبقى أنا مسئول عنك وزي ما قولت برضه... في حدود إمكانياتي.. هافضل مادد إيدي كدة كتير..!!!
تناولت الدولارات منه في صمت ثم أنحنت نحو مايا قائلة بحماس:
- Let’s go shopping..
أبتسمت الصغيرة بسعادة مشيرة بإبهامها إلى أعلى ثم أمسكت بيد نور وخرجتا من المنزل.
أما زين... فقد دلف إلى الحمام ليقف أسفل الماء الدافئ في سكونٍ تغشاه وكأن كل البراكين الثائرة بداخله قد خمدت بلقائه بأميرته الصغيرة، متجاهلاً ذاك البركان الخامد ظاهريًا بأقصى اليسار والذي تحوم فوقه علامات استفهام حول تلك التي أشعلته بلمسة في يومٍ ماطر ثم قرر هو بكل ما فيه من قوة أن يخمده تمامًا ببرد لا مبالاة يتلبسها ولو قسرًا وكأن حلة اللامبالاة درعٍ واقٍ سيقيه من طعنة غادرة أخرى ..!!
قاطع تأملاته صوت جرس الباب وطرقات محمومة عليه... انتفض في ذعر وكل ما قفز في ذهنه أن صغيرته قد أصابا مكروهًا... أسرع بلف منشفة ضخمة حول وسطه وخرج من الحمام وجسده يقطر ماءًا وفتح الباب بلهفة متسائلاً عما هنالك ...
- "صباح الخير يا فندم ... أخبارك إيه ...؟ أنا أول ما عرفت أن حضرتك هنا قلت آجي على طول عشان ألحق أقابلك قبل ما تختفوا بسرعة تاني ..."
***
نعم ... لقد ود وقتها أن يكيل له لكمة قوية في وجهه الوسيم ذو الابتسامة السمجة ذاك ...!!
أي أخلاق أو عرف أو تقاليد تبعثه على طرق الباب بتلك الطريقة المحمومة ...!!
من هذا الشخص أصلاً...؟
- "يظهر إني جيت في وقت مش مناسب ... بس أنا موضوعي مهم جدًا مستنيه بقالي سنين وممكن استنى حضرتك لحد ما تخلص الشاور وتلبس ونتكلم ..."
قالها ثم دخل إلى المنزل دون دعوة متنحنحًا بصوت مرتفع، إلا أن زين أمسكه من ذراعه وهو يقول بعصبية: - أستنى هنا... هيا وكالة من غير بواب ...؟؟ مين حضرتك ..؟
نظر الزائر إلى يد زين الممسكة بذراعه ثم جذب ذراعه بهدوء قائلاً وهو يعدل من ياقتي قميصه بفخر:
- مهند ... مهند التوني ...
ضيق زين عينيه وهو يقول في نفسه (جيت لي برجليك)، إلا أنه أشار دون اهتمام قائلاً:
- طيب أقعد هنا استناني ..
اتسعت ابتسامة مهند وجلس بسعادة على أحد المقاعد وهو يقول في نفسه:
- أكيد حكت له عني ... أكيد ..
بعد خمسة عشر دقيقة ظهر زين مرتديًا ملابسه وممسكًا بقدح من القهوة يرتشف منه بهدوء دون أن يكلف نفسه عناء دعوة ذلك الزائر الوقح على قدحٍ مماثل، إلا أن مهند بدأ حديثه مباشرة ...
- من ساعة ما صاحبة مدام نور الألمانية قالت لي إن حضرتك بتيجي كل فترة هنا وأنا بحاول أقابلك بس ماتوفقتش إلا النهاردة يظهر أنه يوم سعدي ...
أشار له زين باستهتار قائلاً: - وأنت عايز تقابلني ليه بقى إن شاء الله...؟
قال مهند بسعادة:
- خير... خير إن شاء الله وبعدها مش هاطلب منك قهوتي اللي ماخدتهاش لحد دلوقتي... لأ... هاطلب منك شربات ...
عقد زين حاجبيه وهو يقول: - أفندم ...!!!
أتسعت ابتسامة مهند حتى كادت أن تبتلع ملامحه وعاد يعدل من ياقتي قميصه وهو يقول:
- يا فندم ... يسعدني جدًا ويشرفني إني أطلب إيد أخت حضرتك ...
تراجع زين مذهولا وكاد يسأله من أين يعرف أخته، إلا أن مهند أردف:
- .. مدام نور ...
ضحك زين ثم قال ساخرًا:
- والله...؟ ليه بقى عايز تتجوز أخت حضرتي.. مدام نور...؟
قال مهند بحماس:
- دي إنسانة مافيش زيها اتنين ... والله بتفكرني بأمي الله يرحمها ... إنسانة تصون وتعشش حتى لو جوزها إبليس نفسه ...!
رفع زين أحد حاجبيه قائلاً:
- تصون ..؟ وتعشش...؟ إيه الكلام الكبير ده ... !!
قال مهند بسرعة: - آااه... أصيلة... أصيلة مأصلة... عمري ما هنسى وقفتها جنب المرحوم أما دخل السجن رغم كل البهدلة اللي كان مبهدلهالها واللا أما تعب شالته في عينيها... رغم كرهها ليه.. باقولك حتى لو جوزها إبليس تشيله جوا عنيها...
عقد زين حاجبيه وهو لا يفهم شيئًا من ذاك التره ثم قال:
- أنت بتقول إيه يا ابني أنت ...!!
تنهد مهند قبل أن يقول: - والله فعلا كأنها كانت متجوزة إبليس ...!!
أعتدل زين من جلسته اللامبالية وهو يهتف بغضب: - قصدك إيه ...؟؟
تنهيدة حارة أطلقها ثانية قبل أن يقول مصطنعًا أسًا زائف:
- أكيد من أصلها الطيب ماحكتلكوش على اللي كان بيعمله زكريا الله يرحمه معاها ... بس أنا كنت عارف لأنه ماكانش بيخبي عليا حاجة... زكريا اللي كان جوزها ده من ساعة ما وصل أمريكا وهو منطلق... عايش حياته بالطول وبالعرض... صرف فلوس الشغل وبعض عرابين الصفقات على شربه وخليلاته .. وكان قدام حيطة سد خلاص لو أخوه أو أبوه شموا ريحة الموضوع ده هاينزلوه مصر وماكانش هايحصَّل كلاف في أرضهم على قولته ...
حك زين ذقنه النامية بكل من سبابته وإبهامه ورفع أحد حاجبيه متأملاً ذلك الشخص الذي طالما حكى عنه زكريا عن أنه صديقه الصدوق... تُرى أي لعبة قد أتى ليؤديها اليوم..!
- ... بس زاك كان مأمن نفسه كويس وزارع جواسيسه في البيت الكبير ... قال لي أن بنت قريبته كدة بنت عمته تقريبًا كان معشمها بالجواز وبتنقل له كل صغيرة وكبيرة بتحصل في بيتهم في النجع... المهم عشان ماطولش عليك عرف بظهور بنات عم ليه مات من زمن - اللي هما أخوات حضرتك- ... والبنات أكيد هايطالبوا بورثهم... فسبق بسرعة يطلب يتجوز واحدة منهم... وفعلاً... وصلت بنت عمه... كانت صغيرة عمرها 19 سنة بس إيه... بميت راجل... ماتنازلتلوش عن قشاية من ورثها... كان بيضربها ويعذبها ويشرب ويخونها في نفس البيت ده عشان تتنازل عن ورثها وينقذ نفسه من الفضيحة قدام أهله.. عاشر ستات أشكال وألوان قدامها وهي ثابتة على موقفها تطلب الطلاق شوية وتنصحه شوية لحد ما حصل اللي كان زاك خايف منه ... قدم عميل من العملاء شكوى فيه لأنه أخل بموعد التسليم ... وأتقبض عليه وأتسجن... كان ممكن يقعد في السجن فترة طويلة لحد ما يعفن ومدام نور تتطلق وتعيش حياتها اللي سلبها منها بجنونه ومجونه .. بس هيا ماخانتهوش زي ما خانها... ووقفت جنبه... كلمت العملا وعملت معاهم اتفاقيات جديدة وخليتهم يتنازلوا عن البلاغ وطلعته من السجن... ويا ريته بعد ما طلع فكر يقدرها واللا يشكرها... لأ.. ده صاحب واحدة جارته... عارضة أزياء بحر أمريكية وكان دايمًا عندها... صاحبته الأمريكية حبته وكانت بتصرف عليه ومدام نور شالت الشغل كله والصفقات وكانت بتديره مع شغلها في المدرسة اللي بتروحها... فكان فيه هدنة بينهم في الأيام دي لحد ما ....
صمت مهند قليلاً قبل يقهقه زين عاليًا وهو يقول:
- إيه يا ابن التوني ...؟ مش عارف تكمل قصتك الظريفة دي...؟
تغيرت ملامح مهند الضاحكة إلى شبه عبوس قبل أن يقول:
- فيه إيه يا فندم ..؟ أنا مقدر خوفك على أختك بس والله ده اللي حصل... أنا بس اترددت شوية مش عارف أقول لك واللا لأ.. بس هاكمل لك وأمري لله... كان فيه هدنة سنتين أو تلاتة تقريبًا... وزاك مرافق صاحبته دي في العروض والنوادي الليلية بقى شبه مدير أعمالها... كان مفتون بيها جدًا لدرجة أنه ماكانش ملاحظ أنه بدأ يتعب ويرهق بسرعة... وفي يوم من الأيام راح المستشفى و... وأكتشف أنه عنده الإيدز ...
سقط فنجان القهوة من يد زين متهشمًا... رغم أنه كان مقتنعًا من داخله من كذب هاك الشخص.. إلا أن الكلمة صدمته... كيف يتجرأ ... بل كيف يتمادى في كذبه إلى هذا الحد..!!!
- "وأنت بقى شايف العصافير اللي على رقبتي واللا الختم اللي على قفايا ...؟؟"
تسائل زين وهو يرمقه بنظرة نارية جعلت مهند يرتبك وهو ينقل بصره بين الفنجان المهشم ووجه زين الذي يغلي بجحيم من الغضب.
- "حـ ... حضرتك ليه بتكلمني كدة...؟؟ أنا حكيت كل اللي أعرفه و..."
نهض زين كليثٍ متحفز ليصل إلى مقعد مهند بخطوة واحدة ويستند بيديه على ذراعي مقعد ذلك الأخير منحنيًا نحوه وهو يقول بفحيح قاتل:
- بس ألشت منك أو من اللي مألف لك القصة المرة دي... عايز تفهمني أنك عايز تتجوز واحدة أنت عارف ومتأكد أن جوزها كان عنده الإيدز..!! ليه.. مستغني عن حياتك واللا يا نعيش عيشة فل يا نموت إحنا الكل...!!!
فهم مهند ما يرمي إليه زين فزال توتره وتراجع في مقعده غير عابئ بذاك المنحني نحوه وقال بهدوء:
- أيوة جوزها كان عنده الإيدز بس هيا لأ ...!
تراجع زين قائلاً بسخرية: - ده التطور الطبيعي للمرض القاتل واللا ...
قاطعه مهند بثقة: - آه كان جوزها بس ماكانش بيعرف يجي جنبها... ولا عمرها كانت مراته بالصورة المفهومة... وعشان كدة أنا متمسك بيها... ذاكرة جسدها بيضاء... أنا واثق إني هاكون أول راجل في حياتها...
لم يتمالك زين نفسه من موجة ضحك قوية أنحنى على أثرها ودمعت عيناه ثم أعتدل وقال وهو مستمرًا في الضحك:
- مش ممكن على قصتك اللي ماتدخلش الدماغ دي يا ابني أنت... يا بني آدم أمال أبنها ده جايباه منين...؟ من السوبر ماركت واللا ممكن تكون ...
قالها وقد انقطعت قهقهاته وجحظت عيناه وهو يحدج مهند بنظرة شك، فهتف مهند وهو ينتفض واقفًا:
- لأ بقى.. كله إلا ده... أنا ماشوفتش أطهر ولا أنقى ولا أخلص من نور لجوزها حتى لو كان شيطان... باقولك أنا حاولت أقنعها تسيبه مرمي في السجن زي الكلب وتتطلق وأتجوزها أعيشها ملكة متوجة بس مارضيتش.. مارضيتش تخون حتى الخاين...
قالها ثم سار حيث زين ليقف خلفه ممباشرة وينحني على أذنه مردفًا بهمس:
- زكريا كان بيحكي لي تفاصيل علاقته بكل ست قابلها... أدق أدق التفاصيل... حتى مراته... كان على استعداد يحكي لي عنها كل حاجة لولا أن ربها أنقذها منه... لأنها أول ما وصلت... شرب لحد ما غاب عن وعيه.. وانتهكها غصب عنها والفودكا مع الحشيش خلوه يتوه ويفقد وعيه ويصحى مش فاكر أي تفاصيل... ومن يومها وهيا حملت وهوا مش قادر يلمسها كزوج... كان بيضربها وحاول يجهضها بس نجت منها بأعجوبة... كان دايمًا يقول لي أنه أما يشوفها بتصلي بلبس الصلاة الأبيض يفتكر أمه ويحس بكهربا بتصعقه كل ما يفكر يقرب منها.. دي حاجة... الحاجة التانية أنا شوفت ملفها في المستشفى اللي كانت دايمًا بتروحه وتحلل لأن ممكن المرض يتنقل لها عن أي طريق تاني بس كانت دايمًا تحاليلها عن المرض ده بتطلع نيجاتيف... مفيش إيدز ...
قالها ثم ابتعد عنه قليلا هاتفًا:
- زكريا بس اللي ربنا عاقبه على عربدته وجاله الإيدز واتطور بسرعة و....
"كدااااااااااااااااب ..."
لم تكن صرخة زين... بل صرخة أنثوية مبحوحة جاءت من خلفهما من عند باب المنزل، فاستدارا معًا لتقع أعينهم على نور التي تقف وسط أكياس سقطت من يديها ومايا تنظر نحوها بدهشة حيث تقدمت بدمعات متحجرة في عينيها لتقف أمام مهند هاتفة:
- أنت إيه اللي جابك هنا ...؟
- هربتي مني بعد عدتك ليه ..؟ مش قولتي لي بعد ما العدة تخلص يحلها حلال...؟
- قلت لك عمري ما هاتجوزك حتى لو انطبقت السما على الأرض... أنت إنسان خاين وكداب ..
- كداب ليه..؟ عشان باقول الحقيقة..؟ مش مات بالإيدز اللي جاله من عارضة الأزياء دي..؟ ليه عايزة تدفني راسك في الرمل ..؟ ليه ...
إلا أنه قاطعه تصفيق هادئ من زين الذي كان يتابعهما وهو يبتسم باستخفاف، فنظرا إليه بعدم فهم ليقول:
- لأ برافو... برافو يا مدام... برافو يا أستاذ... مشهد هايل.. تمثيل متقن.. حتى دموع التماسيح اللي على وشك دي يا مدام حلوة أوي...
قالها ثم جذب ذراع نور بقوة وهو يقول بصرامة قاتلة:
- صدق اللي قال "رمتني بدائها وانسلت"... زكريا يا هانم حاكي لي عنك وعن خيانتك ليه... باعتالي بهلوان يفهمني إن أخويا هوا اللي خاين لأ وكمااان موتيه بالإيدز...!! لأ والله رواية حلوة تنفع تبقى فيلم سينيمائي هايل... الملاك والشيطان... مش كدة يا دنجوان عصرك وأوانك...؟
قالها وهو يطلق سراح نور التي هرعت إلى مايا التي بدى على وجهها إمارات الخوف، فأخرجت لها الآي باد الخاص بها ووضعت لها سماعات الأذن حاملة إياها إلى غرفتها وهي تقوم بتشغيل أحد أفلام الكارتون المفضلة لها. بينما كان مهند يهتف: - هوا فيه إيه بالظبط ..؟ أنا مش فاهم ...!!
وحقق زين ما كان يصبو له منذ أن رأى وجه مهند بابتسامته السمجة... سدد له لكمة قوية على حين غفلة جعلته يرتد إلى الوراء ويسقط على الأريكة... وهو يصيح:
- فيه أنك إنسان واطي وكداب بتتبلى على راجل ميت لأ ومش أي حد... صاحبك اللي نضفك وخلى لك قيمة وشغلك معاه بعد ما كنت صايع بتغسل صحون وبتلمع أحذية... بتتهمه بالفاحشة وأنه كمان مات بالإيدز ...
نهض مهند وعينيه تقدح شررًا... لقد أيقظ فيه ذلك الشخص الفتى المشرد بأزقة بروكلين وسيريه من هو ذلك (الصايع).. هجم مهند على زين بجسده الضخم الذي يفوق زين طولاً وعرضًا ثم ثنى ذراعه خلف ظهره وأخرج مدية من جيبه وهو يقول لزين بفحيح غاضب:
- أنا مستحملك من الصبح... بس دلوقتي تشوف بقى الوطينة والصياعة على أصولها يا ابن الذوات... بس لمعلومك... أخوك اللي أنت زعلان عشانه كان أوطى مني وآه... مات بالإيدز... ولو عايز تتأكد روح مستشفى لينوكس هيل اللي مات فيها واسأل... أقولك.. أنت كدة كدة هاتروح المستشفى بعد ما أعلم عليك يا ابن البشوات...
قالها وكاد يمرر مديته على وجه زين لولا قدوم نور التي أمسكت بيده وقالت بصرامة:
- أظن كفاية كدة وتطلع برة يا مهند وماشوفش وشك هنا تاني...
تراخت يد مهند الممسكة بذراع زين فانسل ذلك الأخير من قبضته وركل مهند بقوة ليسقط أرضًا لتصيح نور:
- كفااية ... كفاية حرام عليكوا ...
قال زين بغل: - خايفة على حبيب القلب وشريكك في التمثيلية أوي كدة ..!!
أما مهند فقد نهض هاتفًا: - نور .. سيبك من العيلة دي وتعالي نتجوز ...
ضحك زين بشدة بينما قالت نور: - مش هاينفع يا مهند ...
صاح زين من بين ضحكاته الهيستيرية:
- مهند ونور... لأ لايقين على بعض أوي.. هاتعملوا مسلسل تركي ممتاز.. بس هايبقى اسمه العشق الممنوع يا سي مهند باشا... عارف ليه..؟ لأن الست سمر... قـ... قصدي الست نور أتجوزت ...
نظر مهند إلى نور بذهول بينما أكمل زين وهو يستل منه مديته مشيرًا بها إلى نفسه:
- وجوزها مش شوال بطاطس ولا طيب وحنين عشان يسيبكم تعيشوا في الدور ...
نهض مهند بغيظ وقد أدرك ضياع كل شيء من بين يديه فهتف بزين:
- بس جوزها وعيلته كلها هايعيشوا بعار أن ابنهم مات بالإيدز... مات زاني... مش بتقولوا عليه كدة برضو؟ .. ومش مرة واحدة لأ ده كان...
الصفعة هذه المرة كانت من يد نور التي سقطت على وجهه لتخرسه وهي تهتف:
- أنت إنسان حقير وكداب.. أطلع برة ... برررة ...
أخذ يدلك وجهه في غيظ وهو يقول:
- أنا كداب ...!!! ماشي يا مدام... على فكرة ... صفحة الفيس بتاعة المرحوم لسة موجودة وفيها صوره مع أغلب الستات اللي عرفهم... هاوريكي الكداب ده هايعمل إيه أما يجيب كل الوثائق من المستشفى اللي مات فيها واللي بتثبت أنه مات بالإيدز وأنزلها على صفحته وأفضحكم على الملأ... ماشي يا نور... أنا كنت عايز أخليكي ملكة بس يظهر أنك بتحبي الرجالة اللي بتهينك... المرحوم وأخوه مايفرقوش عن بعض كتير زي ما هو واضح من معاملته معاكي...!!
قالها ثم توجه نحو الباب خارجًا بينما وضعت نور يدها على جبهتها مغمضة عينيها كمن تذكر شيئًا هامًا وهي تتمتم:
- الفيييس .... يا ربي ... ده اللي نسيته ...
قالتها ثم توجهت إلى غرفتها تغلقها عليها دون أن تتبادل كلمة أخرى مع زين بعد أن اهترئ بينهما الحوار، أما هو فأخذ يعبث شاردًا بالمدية التي كانت لاتزال بيده قبل أن يقرر أن يتصرف سريعًا قاذفًا بالمدية إلى الجدار المقابل لتنغرس في لوحة جدارية تحمل جملة برنارد شو الشهيرة "let bygones be bygones" مكتوبة بحروف حمراء قانية.
*****

Msamo likes this.

Just Faith غير متواجد حالياً  
التوقيع
//upload.rewity.com/uploads/157061451865811.jpg[/IMG]ستجدون كل ما خطه قلمي هنــــــاااااااااااا[/URL][/FONT][/SIZE][/B]
الشكر لصديقتي أسفة التي دائماً تشعرني بأن هناك من يشعر بدون شكوى



سلسلة حد العشق بقلوب أحلام

رواياتي السابقة بقلوب أحلام
أنتَ جحيمي -- لازلت سراباً -- الفجر الخجول
هيـــامـ في برج الحمـــامـ // للكاتبة: Just Faith *مميزة
فراء ناعـــمــ (4)- للكاتبة Just Faith-

عروس الأوبال - ج2 سلسلة فراء ناعم- * just faith *
سلسلة عشاق صنعهم الحب فتمردوا "ضجيج الصمت"

ودي مشاركاتي في سلسلة لا تعشقي اسمرا
https://www.rewity.com/forum/t326617.html
https://www.rewity.com/forum/t322430.html
https://www.rewity.com/forum/t325729.html
ودي رسمية
https://www.rewity.com/forum/t350859.html

خواطري في دعوني أتنفس
ديوان حواء أنا !!

شكرا نيمو على خاطرتك المبدعة
رد مع اقتباس
قديم 18-12-17, 01:44 PM   #26

Just Faith

مراقبةومشرفةسابقة ونجم روايتي وكاتبة وقاصة وملكة واحة الأسمر بقلوب أحلام وفلفل حار،شاعرة وسوبر ستارالخواطر،حكواتي روايتي وراوي القلوب وكنز السراديب

alkap ~
 
الصورة الرمزية Just Faith

? العضوٌ??? » 289569
?  التسِجيلٌ » Feb 2013
? مشَارَ?اتْي » 145,786
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » Just Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond repute
?? ??? ~
جروبي بالفيس (القلم وما يهوى)https://www.facebook.com/groups/267317834567020/
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

-7-

” وكن إنسَانًا لا أكثر، فإنك تحاول أن تصير إلهًا فتصير شيطانًا؛
واجعل من فقرك ومصائبك وأحزانك سمادًا لهذه الزهرة الناضرة، زهرة الروح الحية،
فإنها تغتذي بكل ذلك وتحيله الى نضرة وجمال وعطر يتأرجح،
وأضيء نفسك فإن حولك ضياءًا يغمرك من لدُن تفتح عينيك إلى أن تنام“

مصطفى صادق الرافعي

***

أكثر من عشر درجات تحت الصفر، سماءٌ رمادية باكتئاب، وجليد ناصع البياض يتراكم فوق الأسطح .. يغطي أفاريز النوافذ وأغصان الأشجار المنتصبة وسط بياض الجليد عارية من أوراقها، ولاتزال ندف الجليد الهشة تتساقط رذاذً ناعمًا لا يكاد يُرى... بياض، بياض، بياض. بياض صقيعي، كثيف وهش.

لقد اعتادت أن ترنو إلى أكثر أفكارها برودة وانقباضًا من وراء تلك النافذة، تجلس على إفريزها الداخلي الضخم... تضم رجليها المثنيتين إلى صدرها وبخار أنفاسها يرسم ذكرى مبهمة على الزجاج، بينما تتوه عيناها في ازدحام أغصان الأشجار الداكنة التي عراها الشتاء، ووسط ازدحام مشاعرها وأفكارها يلتمع تساؤل أحمق (لماذا...؟) فتهز رأسها بعنف محاولة تجفيف أدمعها التي أخذت في التساقط بصمت.

هي لا تتسائل عن أسباب الحتميات القدرية؛

ولا هي تستجوب قدرها المسطور..!

و... تخترق زلاجة ما الجليد... عليها تجلس أميرة متوجة وقد تدثرت بملابسها جيدًا غير عابئة بالبشر المهرولين حولها مخترقين الجليد بصعوبة بينما هي تجلس براحة على زلاجتها وثمة من يجرها لها.. تقلب عينيها في ما حولها ثم تشير إلى شيء تريده في دلال ليهرع أبويها اللذين كانا يجرا الزلاجة منذ قليل يداعبانها في عشق، ويحملها أباها لتتطاير جديلتها من أسفل قبعتها الصوفية فتتعلق في عنقه بأمان. "لماذ لم تحظ بحياة أسرية هانئة بين أبويها كتلك الصغيرة المدللة..؟؟!" وعاد السؤال يطفو بخبثٍ من جديد كنصل حاد موجه إلى أصل كيانها، فشهقت بعنف وهي تحكم ضم رجليها ودفن وجهها بين ذراعيها.

لا تدري أكانت غفوة قصيرة أم أنها عمدت إلى تغييب عقلها الواعي عن العمل لدقائق علَّ شيطان الشك يفارقها، لكنها عندما رفعت رأسها لترمق الشارع الشاحب شبه الخالي في ذلك الوقت من الليل أبصرت شبحين على الضفة الأخرى مدثرين يمسكان بجواريف... مع التدقيق تبينت أنهما فتى وفتاة أُنيط لهما العمل في ذلك الليل يجرفان الجليد على جانبي الطريق... قبلة خاطفة ويشرعان في جرف الجليد.. قبلة، ويزيحان الجليد إلى الأجناب، قبلة ويواصلان شق الطريق. مشهد مر عليها ما يشابهه عشرات بل مئات المرات طيلة تواجدها بتلك المدينة وكانت تغض عنه الطرف في استهجان، لا تدري لماذا اليوم ظلت تتابعهما مفغورة الفاه ويعاود السؤال تسليط نصله على جذورها "لماذا لم تعش قصة حب مع زوج يحبها وتحبه..؟ لماذا لم تنل فرصة اختيار بيتًا للزوجية ولو كان عُشًا وتأثيثه بذوقها كسائر الفتيات..؟؟"

أختفى شبحي الفتى والفتاة وأنسحقت هي بين رُكام أفكارها المشتتة وكاد شيطانها يضحك منتصرًا ويشرب من عقيدتها نخب انتصاره حتى أنتفضت على صوت مكابح قوية لسيارة فقد قائدها السيطرة عليها على الطريق الجليدي الزلق، فأخذت تترنح يمنة ويسرة في جنون حتى أنقلبت رأسًا على عقب وأخذت في الأنقلاب حتى استقرت بعيدًا وسط كومة من الجليد لا تتبينها إلا بخيط كثيف من الدخان الرمادي.

هنا أطل إيمانها بحكمة رابطًا على قلبها لتستل اسئلته سموم الشك من وجدانها الصافي.

"لماذا وُلدتِ مبصرة مع إمكانية أن تولدي ضريرة..؟

لماذا لم تنقلب بك سيارة كتلك فتصيبك بعاهة مستديمة..؟

لماذا نجوت من براثن المرض القاتل الذي كان قاب قوسين أو أدنى منك..؟

لماذا حظيتِ بطفل سليم ذكي عاشقٌ لكِ بينما كثيرات أخريات يبتلين بأطفال معاقين أو يفقدن أطفالهن يوميًا..؟ "

أنتفضت نور على هذا الهاجس فنهضت لتجفف أدمعها وهي تهمس بكل ما يعتمل بداخلها من مشاعر "الحمد لله" لتطعن شيطانها في مقتل، ثم قفزت من على إفريز النافذة الذي أحتلته منذ رحيل مهند ولم تتزحزح من عليه لوقتٍ طويل.

خرجت بصمت إلى الردهة الهادئة لتجد مايا مستلقية على الأريكة دون غطاء فدثرتها جيدًا ثم أغلقت التلفاز الذي كان يعرض فيلمًا للرسوم المتحركة بينما يستقر كوبًا من المياه وبعض الكتب على المنضدة أمام الأريكة في حين حوت المنضدة الجانبية طبقًا يحتوي على بقايا كورن فليكس بالحليب يبدو أن هذا ما تمكن زين من إعداده لها عندما شعرت الصغيرة بالجوع.

عقدت نور حاجبيها في مقت حين طاف بذهنها اسمه وشعرت بشيء من الراحة عندما تأكد لها خلو المنزل منه فالغرفة التي يحتلها بابها مفتوح وتبدو فارغة.. تمامًا. وقفت عند باب تلك الغرفة التي كانت وكرًا للوجع... ملاذًا للمرض، و.. صرحًا للموت... وتوالت الذكرى على عقلها كأمطار من سجيل منضود.

***

كان قلَّما يجمعهما مكانًا واحدًا...!

فالأخرى تتعمد تحاشيها بأسمالٍ من خجل بالي فشل في ترقيع واقع مخزي..

فهي في النهاية... عشيقة زوجها...!!!

لم تدر أنه – لولا الكَبيرة التي سقطا فيها – لتقدمت نور إليها بالشكر...!!

فتلك الفاتنة الشقراء ذات الجسد الأنثوي مكتمل الاستدارة ذهبت بلُب زكريا فأنسته كل شيء عن مطالبة زوجته بميراثها.. أغرقته بكل ما يشتهي من حفلات وسهرات ومشروبات، حتى إنه صار يقيم بمنزلها المجاور لمنزل زوجته و.... ابنه. أبنه الجميل ذو الأعوام الأربع الذي لا يطيق مشاغبته الهادئة فيستغلها لضربه وتقريعه عندما يصادف وجودهم معًا بالمنزل؛ فذلك الصغير ببرائته يذكِّره بمحاولاته المشوهة للتخلص منه... نقاؤه يذكره بالمستنقع القذر الذي يغرق به دون رجعة... فصار متنفسه هو الإمعان في ضرب ابنه ومعاملته بقسوة مما أدى إلى اهتزاز ثقته بنفسه ولعثمته في الحديث، فصار يكرهه أكثر.

صوت رسالة نصية... شهقة... ثم سقوط وانخراط في البكاء...!!

تبادلت نور النظر مع إيفا التي كانت تجاورها بالمصعد وثالثتهما عارضة الأزياء التي سقطت على أرض المصعد تبكي بهيستيريا وتنشج في ألم. وبإيمائة من عيني صديقتها توجهت إيفا إلى كارولينا تسألها بتردد:

- هاي... هل يمكنني مساعدتك...؟

رفعت كارولينا آدمز عينيها الحمراوين تنقلهما بين نور وإيفا وهي تنوح بجنون:

- مساعدتي...؟!! لا يمكن لأحد مساعدتي... لا يمكن أن يأخذه أحد من جسدي.. سيقتلني... سيشوهني... لن أعود كارولينا آدمز ملكة عارضات تكساس...

كانت تلطم وجهها بعنف ثم نهضت نحو نور تصرخ بها:

- أنتِ... أنتِ التي مارستي سحرًا أسود كي يصيبني ذلك المرض اللعين...

تراجعت نور إلى الخلف وقد فاجئتها بهجومها بينما توتر عيسى خائفًا، أما إيفا فقد جذبت كارولينا من ذراعها قائلة بحزم:

- يبدو أنكِ أسرفتِ في الشراب يا فتاة وتهذين بترهات غير معقولة...

أومأت كارولينا في جنون وهي تقول: - نعم... نعم... هذا ما سأفعله... سأشرب كثيرًا ... سأشرب كثيرًا جدًا حتى أنسى رسالة طبيبي المعالج الخرقاء تلك... سأنساها كأن لم تكن... ثمة خطأ ما حتمًا... فليس ممكنًا أبدًأ أن تُصاب الفاتنة كارولينا آدمز بالإيدز... هذا خطأ... خطأ أكيد...

فُتحت أبواب المصعد لتخرج كارولينا وهي لا تزال تهذي بكلمات مبهمة تتبعها نور الممسكة بابنها في قوة وإيفا التي ألجمتها الصدمة لتقضي أغلب وقتها مع صديقتها يخيم عليهما صمت مثقل بخوفٍ وكل منهما تدور في فلك ذات الأفكار... حتى رحلت إيفا... ولأول مرة تعمد نور إلى انتظار عودة زكريا التي تتوقعها عقب الإغلاق المزمع لأبواب خليلته الغائبة في مصيبتها في وجهه.

وصدقت نبؤتها وعاد الزوج وهي لم تزل في مجلسها تفكر كيف ستنقل إليه تلك المعلومة القاتلة... تقلب في رأسها مئات الطرق لتنتقي أخفها وقعًا.

- "يااااه الكونتيسة... البرنسيسة بذات نفسها قاعدة في الهول وما هربتش أما دخل عليها جوزها الوحش المخيف ... المتشرد الشرير.."

قالها بسخرية وإمارات الضيق بادية عليه حيث أغلقت كارولينا باب منزلها من الداخل ولم يتمكن من الدخول فأضطر العودة إلى منزله ليرى نور تشع بملابس صلاتها البيضاء التي يرى فيها كل ذلاته بوضوح قاتل.

- "زكريا... من فضلك عايزة أكلمك في موضوع خطير..."

لأول مرة تناديه باسمه بتلك الرقة وعيناها... عيناها مترقرقتان بنظرة أخرى أكثر إشفاقًا من نظراتها القوية المتمردة الصادة عنه. عقد حاجبيه وأشاح بوجهه عنها وهو يجلس في إرهاق على الأريكة يخلع نعليه ثم يريح رأسه على المسند الخلفي مغمضًا عينيه مدلكًا جبهته في إرهاق وهو يقول ساخرًا:

- إيه..؟ وحشك المحاضرات والتنظير...؟ أنت مش لسة مدياني محاضرة أول أمبارح إني ما ألمسش ابنك وإلا هايكون آخر يوم في عمري...!!

أغمضت نور عينيها وعضت على شفتها السفلى في ألم ثم تنحنحت لتجلي صوتها قائلة بصوت أشبه للهمس:

- زكريا أنت... أنت.. مش ملاحظ أنك بقيت دايمًا تعبان ومرهق..؟ مافكرتش تروح ... تروح تكشف..؟؟

أعتدل زكريا الذي كان بدأ في حل أزار قميصه، إلا أنه توقف ونهض بحدة هاتفًا:

- إيه اللعبة اللي بتلعبيها دلوقتي...؟ إيه... بتمثلي دور الزوجة المهتمة...؟ زهقتي من دور الواعظة والمتمردة وجاي على بالك تلعبي دور الزوجة...؟ ماتضحكيش على نفسك يا هانم أنا عارف أنك مش طايقاني والشعور متبادل على فكرة...

زفرت نور وهي تدرك أن الطريق طويل وحتمًا مرهق، لكنه يجب أن يعرف... يجب.

- زكريا أنت... لازم... تروح تكشف و... تعمل تحاليل..

وجهها الهادئ المشفق... خمارها الأبيض ... كلماتها الهامسة... تذكره بها... عندما تدَّعي اهتمامًا...!

كل تركيزها كان مع شقيقه الأكبر الهادئ المطيع الذي تعشقه الجدة... ثم عشق الفتاتان الصغيرتان اللتان لحقتاه؛ أما هو... فدائمًا ما نال بقايا اهتمام... بقايا حب... بقايا سؤال... وكأنه غير موجود...! من الذي اهتم به يومًا منذ طفولته سوى زينب التي تخدم ببيت الجدة منذ صغره..؟ ثم تأتي تلك الفتاة الحمقاء التي رأت أسوأ ما فيه... التي أطلق معها العنان لأقبح شياطينه كي يعيثوا بكيانها فسادًا لتدعي اهتمامها به وبإرهاقٍ قد أصابه..؟ ألا تدري أنها تستفز باهتمامها المصطنع ذاك ماردًا بشعًا مشوهًا ستطلقه من عقال حرمانه وظمئه لشيء من الاهتمام والحنو... ذاك الحرمان الذي دفنه منذ طفولته القاسية..؟!!

دفعها بخشونة من طريقه وهو يقول بلهجة مخيفة:

- مالكيش دعوى... أنا بس اللي باهتم بنفسي... ماحدش له دعوى بيا..

قالها زاجرًا رغم يقينه من أنها على صواب... فذاك الإنهاك العام والتعرق الليلي والنقص الحاد في وزنه الذي أصابه على مدار الأشهر الأخيرة لم يخفى عليه، إلا أنه عزاه إلى كثرة سفره وتنقله في عروض الأزياء مع كارولينا الحمقاء التي لا يدري أين ذهبت وتركته فريسة قلق واهتمام زوجته العجيبين اللذين –بالنسبة له- أكثر فتكًا من تنظيرها وصياحها واتهامها له... هو غير معتاد على أي اهتمام بشري خالص... فالكل يهتم به لغرض ما.

- زكريا إيه البقع الحمرا اللي على بطنك دي...؟

من خلال قميصه المفتوح لمحت هزاله الحاد وبعض من البقع البيضاوية الحمراء على بطنه، هم أن يرد عليها لولا أنه أصيب بنوبة سعال حادة مصحوب بصوت غريب من صدره أنبئها دون نقاش بألتهاب الصدر.

لمساتها على جسده أشعلته...!

هي امرأة – يعترف - غير كل النساء...

هي الطهارة والنقاء والبراءة والصفاء...

هي كل الصور العكسية لما هو عليه...

أبعدي عني يدك يا بيضاء الرداء...

فأنا متشح بالرذيلة ولازالت تتلبسني خطايا المساء..!

- قلت لك مالكيش دعوى بيا وخليكي في ابنك..

دفع يدها بوهن وهو يعاود إغلاق قميصه وإرتداء حذائه... فلن يستطيع تحمل كل هذا الاهتمام والقلق على شخصه التافه. ولأول مرة يلمح عيناها... عيناها الواسعتين كبحرٍ من عسل شطئانه أهداب كحيلة... هاك البحر مترقرق للمرة الأولى بدموعٍ مشفقة ينبئه أن ثمة خلل ما... خطب ما.. أمر جلل قلب كيانها وحوَّلها من القطة المتمردة ذات المخالب المشرعة، إلى تلك القطيطة المذعورة التي لا تخفض عينيها عنه؛ فدار بخلده هاجس قاتل... لن يتحمل تعايشع، فهتف بذعر:

- أمي جرالها حاجة...؟ أبويا كويس...؟ أنطقي فيه إيه..؟

مسحت نور وجهها بيديها ثم رفعته إليه ثانية وهي تقول بثبات:

- كلهم كويسين يا زكريا.. أنت اللي...

-... قلت لك كفاية... كفاية... أنا كفيل إني اهتم بنفسي... هاتكوني أحن من أمي عليا...!!

لا مجال للمناورة... ستلقي إليه الحقيقة العارية رغم تشوهها إلا أنها قد تفيقه من أوهامه..

- كارولينا إحتمال يكون عندها الإيدز يا زكريا...

تراجع في ذهول محاولاً إستيعاب الصدمة التي ألقتها بوجهه كقذيفة قاتلة...!

حاول استحضار سخريته منها... حاول سبها... تعنيفها.. إتهامها بالكذب... لكن... ألم تضعه الآن وجهًا لوجه أمام أقسى مخاوفه.. أمام أبشع هواجسه... أمام شكه الذي قتله في مهده قبل أن يحيل حياته جحيمًا لكن يبدو أن الجحيم آتٍ لا محالة.

- إيه الكلام الأهبل اللي بتقوليه ده... أنت ... عـ... عرفتي منين...؟

نبرته التي حاول إلباسها أكبر قدر من قسوته وسخريته خرجت هزيلة منكسرة، فأطرقت نور في إشفاق متمتمة:

- النهاردة شوفتها منهارة وبتقول إن طبيبها المعالج قال لها أن عندها الإيدز..

أزدرد زكريا ريقه في صعوبة كأنه يبتلع كرة من شوك مسنن مزقت جوفه.

- دي أكيد كـ... كدبة عشان تنتقمي مني...

ضيقت نور عينيها ثم أمسكته من كتفيه وجعلته يقف أمام مرآة قريبة وهي تقول بصرامة:

- الكدبة هيا اللي أنت عايز تكدبها على نفسك يا زكريا... بص لنفسك... شوف إزاي بقيت بقايا إنسان... إلحق نفسك قبل ما...

قطعت عبارتها في ندم، فرفع عينيه اللتين جحظتا وسط وجهه الهزيل نحوها ثم قال بهدوء:

- قبل ما أموت صح...؟

لفحته أنفاسها الحارة وهي تزفر قبل أن تقول:

- كلنا هانموت...

- بس أنا هاموت أسرع .. أنا مستني العقاب...

- وليه ماتقولش إنها فرصة..؟

- فرصة إيه...؟؟

- فرصة أنك تبدأ من جديد..

- ودي تبقى بداية النهاية..؟

- الموت عمره ما كان نهاية... الموت بداية...

- بداية الدود ياكل جسمك..!

- بداية لروحك في ملكوت السما..

- ولو كنت عارف إن مكانها سابع أرض..؟

- يبقى نغيره... مش باقولك فرصة..!!

أستدار نحوها بضعفه ووهنه.. بحملٍ ثقيلٍ من خطايا تمادى بها لأنه يئس من التخلص منها... وهاهي تلك الصغيرة تخبره وهو على شفا الموت أنه من الممكن أن يضع عنه وزره الذي ثَقُل على ظهره ويرحل مرفرفًا نقيًا إلى ملكوت السماء...!!

لم تشعر بدموعها المنهمرة كنبعي نهر اغتسلت بهما نظراته الوجلة المنكسرة وهي ترفع كفيها إلى وجهه هامسة:

- هاتروح تكشف وتحارب المرض لو فعلا ربنا قدره عليك وتحارب كل أشباح الخطايا وتتوب منها... أنا متأكدة أن فيك إنسان أحسن من اللي كل الناس شايفاه...

تلك الصغيرة الكبيرة.. تلك التي عنَّفها وصفعها... تلك التي مارس عليها كل ألوان العذاب النفسي والبدني.. تلك الأم بالفطرة... هي الوحيدة التي لم ترَ فيه الشيطان ورأت ذلك الطفل المنزوي القابع بداخله الذي كان حركيًا مُهمَلاً على الدوام معنفًا كل الأحيان... الكل ينعته منذ الصغر بأنه حقًا شيطان... كيف بالله رأت فيه الإنسان..؟

سقط على ركبتيه ولأول مرة منذ زمن.. وجد نفسه يبكي... بكاءًا مخلوطًا بسعالٍ حاد... ولأول مرة يحظى بحضن امرأة دافىء... داعم... حاني... امرأة لا حق له الآن في اشتهائها كأنثى بعد أن استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، لكنه ينعم بمشاعرها كأم فقد حنانها منذ أمدٍ بعيد... هو لن يخشى على ابنه يُتمًا ومعه أم كتلك..!

لم تتركه لحظة في أروقة المشفى الشاحبة... أمسكت بيده في قوة وهو يسير كالمُساق إلى حتفه إلى عيادة أخصائي المناعة لفحصه. تلك البقع الحمراء المنتشرة على بطنه وصدره لم تكن مؤلمة حين لمسها الطبيب الذي عرف شكلها فورًا لكنه لم يصرح بذلك، إلا أن الطبيب كان شبه متأكد.. فبداية بالهزال والتعرق الليلي والألتهابات الصدرية المتكررة والإنتانات الفطرية بالفم والحلق وثآليل الأعضاء التناسلية نهاية إلى تلك البقع البيضاوية الحمراء التي تشير بوضوح إلى (كابوسي ساركوما) وهو مرض سرطاني يصيب مرضى الإيدز لم يدع لديه مجالاً للشك إلا أنه أرسل زكريا إلى المختبر لإجراء الفحص ثم أخبر نور هامسًا أن النتيجة شبه إيجابية. وعندما أدركت نور ذلك... عرضت على زكريا بعد ان انتهى من الفحص أن يتركا المشفى ويعودا إلى المنزل للعشاء. تعجب من اقتراحها.. فهي التي أصرت على أن يأتيا إلى المشفى... الآن لا تريد الانتظار حتى يستلما نتيجة التحاليل..!

- "عايزة أطبخ لك..."

قالتها وهي تكمم بكائها بابتسامة مشرقة وقد عزمت على إنقاذه حتى آخر لحظة في حياته. فأطلق آهة وجع خرجت من أعماق روحه وهو يضرب الحائط بقبضته، فأمسكت يده قائلة بمرح:

- والله باعرف أطبخ ماتخافش...

نظر إليها بعينين دامعتين قائلاً: - إزاي كنت غبي السنين اللي فاتت دي كلها...؟ إزاي أذيتك وأذيت نفسي للدرجة دي...؟ إزاي ماشوفتش الأنسانة الجميلة اللي جواكي...

جذبته من يده كي لا تبكي متوجهة إلى الخارج وهي تقول:

- سيبك من الأفلام الهندي دي وخليني أعمل لك فيتوتشيني بالجمبري...

كان هزيلاً... ضعيفًا... هزاله يزيد يومًا بعد يوم... وضعفه العام أدى إلى قلة حركته فصار ملازمًا لفراشه بغرفته التي صارت كالمشفى من كثرة الأدوية والعلاجات.. فكيف يستقيم بناء الجسد دون مناعة... لقد قضى المرض على جهازه المناعي تمامًا فصار مستباحًا للجراثيم تنهشه من كل جانب، فلا يعرف من أين يشكوة ولا مما يشكو..! ألتهابات بلعومية وأخرى صدرية حادة تكاد تخنقهن وأخرى معوية تسبب إسهالات شديدة لا تتجاوب مع الأدوية، لكنها كانت بجواره ثابتة... تثبته... لأول مرة منذ زمن يصلي... لأول مرة يرفع يداه إلى الله ويدعو ويستغفر وشريط خطاياه يمر أمامه كل يوم كلعنة سوداء تكاد تصيبه بالقنوط لولا وجودها الذي ينير أيامه المشبعة بالوهن والمرض... وينسيه أهتراء جزء من جلده وإصابة الجزء الآخر بالبثور والبقع السرطانية. لكنه لم يستسلم وقرر استخدام عقله لأول مرة في حياته استخدامًا صحيحًا... فكان يحفظ القرآن والأحاديث معها ويصلي نائمًا أو جالسًا متحسرًا على أيام قوته التي لم يصلي فيها ركعة مشتاقًا لو تعانق رأسه الأرض في سجدة طويلة تُطهره من لعنته السوداء لكن ليس بإمكانه سوى الإيماء... وحبيبته التي تشع نورًا وأملاً تحدثه عن الجنة... كل يوم حكاية جديدة عن الجنة ونعيمها... كل يوم سورة جديدة من القرآن يتلونها سويًا... كل يوم تحيطه بروحها الحانية فتخفف عنه تدهور حالته المستمر يومًا عن الآخر.

ومر عامًا كاملاً وهو يحارب المرض بالدواء والدعاء ويشتاق إلى جنته وقد علمته نوره أن يحسن الظن بالله ويدعوه أن يتقبل توبته... حتى جاء الطبيب لفحصه يومًا ما ثم انتحى بنور جانبًأ وهو يقول:

- لا يجب أن يستمر الوضع هكذا مسز رحيل..

- لماذا سيدي...؟ أنا أنفذ كل التعليمات بالحرف الواحد...

زفر الطبيب قائلاً: - لا بد من عزله سيدتي... فآخر الفحوص التي أُجريت له توضح أن عدد كريات الدم البيضاء 3900 وهو هكذا عرضة لأن يقتله أي فيرس صغير كما إن الإلتهابات الفطرية التي تكاثرت على لسانه وجسده لابد التعامل معها بحذر ... ولن يكفي تعقيمك الذاتي عند التعامل معه ذاك.. يجب أن يتم تعقيم جيد جدًا لأي شخص يدخل له... لقد تدهورت حالته سريعًا...

لم تنكر نور كلام الطبيب... فذلك الهزيل القابع في الفراش ذو الجلد المتهتك الأقرب للمسوخ لا يمت بصلة إلى زكريا أبدًا....! فأومأت له نور باستسلام... وعلم زكريا أنه سيتم عزله فسعل سعلة ثم قال باستجداء:

- هاتسيبيني في المستشفى...؟

كان يبدو كطفلٍ مذعور يتشبث بثياب أمه فطمأنته قائلة: - مش هاسيبك لحظة... هاجي معاك وأحاول أخليهم يعقموني زي الممرضات اللي هايدخلوا لك ... ماتقلقش يا حبيبي...

نظر إليها بوهن وهو يقول: - أقلتِ حبيبي أم أن أذناي تخونانني...؟

أبتسمت في حنو: - بلى قلتها... لأن هذا البطل الذي يقاوم المرض ولا يفتر لسانه عن الذكر والدعاء هو حقًا حبيبي...

- يعني سامحتيني يا نور...؟

شملته نظراتها الحانية وهي تجيب:

- من زمااان...

أغمض عينيه وهو يسلم نفسه لرجال المشفى الذين ينقلونه إلى محفة قائلاً:

- كدة أقدر أروح محطتي النهائية وأنا مطمن...

وقبيل مرور عامٌ آخر... ومد وجزر مع العلاجات والأدوية التي أتى بعضها بثماره في استقرارٍ طفيف بحالته، أصر زكريا على مغادرة المشفى... بعد عذاب العزل والوحدة فكانت نور تلاقي صعوبة في الدخول إليه كلما أرادت، لكنه مل من ذلك المشفى... مل من وحدته وعزلتهن فطالما تم علاج الإلتهابات والأمراض الجلدية فسيخرج من هاك الحبس... يريد أن يرى ابنه ولو لمرة أخيرة ويصلح بعض من أخطائه في حق الإنسانة الوحيدة التي وقفت بجواره. فسمح له الطبيب بالمغادرة على أن تعتني به نور عناية فائقة.

مستندًا إلى يدها التي دعمته على مدار عامين أو أكثر كان لقائه بضوء الشمس الذي لم يره بصورة مباشرة هكذا منذ فترة ... دخل إلى بيته معانقًا كل ركن بنظراته... ود لو يعانق صغيره إلا أنه أكتفى بالتربيت على رأسه ذو الشعر الناعم وإعطائه اللعبة التي أصر على شرائها له فابتهج الصغير بها جدًا وطبع قبلة على وجنة أبيه ثم أنطلق يجرب تلك السيارة الضخمة التي كان يود اقتنائها منذ زمن.

- "فين الفيتوتشيني اللي بالجمبري..؟"

تسائل في وجع لتمسح نور دموعها وهي تنهض قائلة: - حالاً هايكون جاهز...

إلا أنه أمسك بيدها قائلاً: - أقعدي يا نور عايز أطلب منك طلب...

جلست وهي تقول بسرعة: - عنيا...

ابتسم ابتسامته التعبة وهو يقول: - عنيكي الحلوين دول كتير أوي عليا...

همت أن تقول شيئًا مان إلا أنه قاطعها مازحًا:

- هما كتير عليا وأنا في العالم ده، لكن في ملكوت السما أنا طمعان بصراحة في الحور العين...

ابتسمت ضاحكة... إنه يحفظ كل ما تقرؤه له، فقال وقد انتزع ابتسامتها:

- أنا عايز وعد منك..

- وعد....؟؟

- أوعديني يا نور أن ماحدش من أهلي خالص يعرف بمرضي بعد ما ... أموت...

ترقرقت عينيها بالدموع ثانية وهي تقول دون تردد: - أوعدك يا زكريا إني أحفظ سرك بعمري... أنا عمري ما أكشف سر إنسان ربنا ستره...

فزفر في ارتياح ثم ابتسم مغيرًا الموضوع وهو يتأمل عيسى الصغر:

- الواد باع العالم كله بالعربية الجديدة.. عمال يلعب ولا كأن حد هنا...

ضحكت نور قائلة: - أصله نفسه فيها من زمان.. أنا ماعرفش بصراحة أنت عرفت إزاي أنه عايزها..

ومن حيث لا تدري كان جرحه.. فقد أعاد مع ابنه – لا شعوريًا – اخطاء أهله معه وأهمله عمدًا.. وصار من الطبيعي أنه لا يدري عنه شيئًا حتى إنها لتتعجب من معلومة بسيطة كتلك يعرفها عن فلذة كبده. حاول النهوض قائلاً:

- ساعديني يا نور عشان أتوضى... نفسي أصلي في أوضتي... بعيد عن المستشفى... نفسي أسجد ولو مرة واحدة لربنا يا نور...

عاونته كي يتوضأ وأجلسته على مقعد بغرفته قائلة:

- خد بالرخصة وصلي وأنت قاعد يا زكريا الدكتور قال..

قاطعها: - أنا باحاول أنسى الدكتور ده ماتفكرنيش بيه من فضلك وروحي هاتي الفيتوتشيني بسرعة على ما أصلي...

رحلت نور ووجدانها يموج بمختلف المشاعر... إنها تشهد عذابه ووجعه على مدار عامين كاملين... تشهد إنهيار جسده الذي طالما تباهى به وبقوته... تشهد الندم يأكل روحه على ما فاته من عبادة وعلاقات سوية حلال.. تشهد كل ذلك وتشفق عليه... نعم هي لم تتشفَ به لحظة، خاصة بعد توبته ومحاولاته الدئوبة للتكفير عن ذنبه؛ على العكس... هي تدعو الله له أن يعفو عنه ويهبه الراحة الأبدية بغفرانٍ للخطايا وإبدال السيئات حسنات.

أمسكت صفحة ووضعت عليها طبق الفيتوتشيني الساخن لقد أخبرها الطبيب أنه يجب أن يتناول طعامه وشرابه ساخنًا لضمان خلوه من الجراثيم، ثم توجهت إلى غرفته لتفتحها لتجده... ساجدًا... توجهت إلى المنضدة لتضع الطعام عليها وتنتظر إنتهائه من الصلاة، لكنها شعرت بقبضة باردة تعتصر قلبها عندما طال الوقت وهو على وضعه لا يتحركن فأسرعت إليه تهزه هاتفة:

- زكريا... أنت كويس...؟

لكنه سقط... سقط على جانبه دون رد ووجهه مزرقًا مختنقًا... فصاحت نور بهيستيريا:

- ليه...؟ ليه أصريت أنك تسجد ليه...؟

لقد منعه ألتهاب الرئة الحاد من التنفس بمجرد أن هوى ساجدًا... لقد كان يختنق وهي غافلة عنه تعد مكرونة سخيفة... تراجعت وهي تشهق باكية واضعة يددها على فمها... لقد رحل... لقد رحل حقًا...! رحل ساجدًا كما تمنى... "يا رب أدعوك أن يكون قد صدقك في نيته لتصدقه ... يا رب أجعله كمن صدق الله فصدقه الله... يااا رب..." شيعته بدعواتها حارة وكان ذلك آخر عهدها بتلك الغرفة.

***

هي الإنكسار في أقسى صوره...

هي الخُذلان بأقصى درجاته...

هي القوة الغافية...

هي المتهمة البريئة...

هي الأنثى الوحيدة التي تمكنت من إضرام الحرائق بوجدانه...!!!

هي تلك التي تتشرنق على ذاتها وكأنها تطفو على باب غرفته..

انحنى نحوها ليتبعثر ما بيده من أوراق حول قدميها، لمحت اسم المشفى فرفعت نحوه عينًا قاسية...

حسنًا...

وهي التي تجيد إرتداء حُلَّة القسوة عند اللزوم..

- "نور... أنا...."

أشارت بيدها مقاطعة... ثم أعتدلت في جلستها هامسة بفحيح غاضب:

- أخوك مات هنا... في الأوضة دي... وهوا ساجد.. يا ريت مافيش مخلوق يعرف عن مرضه لأنه مأمني إني أدفنه وأدفن سره معاه...

قالتها ثم نهضت بحركة حاولت جعلها سريعة إلا أن ظهرها لازال ينوء بحملها الثقيل الذي يقيدها ويبطئ حركاتها، فتحاملت على نفسها متجاهلة يده الممتدة إليها ثم اختفت بغرفتها قبل أن يقدم لها إعتذاره المتردد الواهي الذي عزم على نحره في معبدها... للمرة الثالثة... رغم يقينه أن قربانه البالي المُستهلك لن يُضمد شيئًا من جُرح خنجره المسموم بالشك القاتل الذي طعنها به أكثر من مرة كانت أخراهن في منتهى الدناءة عندما تعرى شكه المسموم بها أمام طرف ثالث كان شاهدًا على جرمه الذي رماها به والذي كان حتمًا أقسى بمراحل من أي أذى بدني طالها إذا سلَّم بصحة جميع أجزاء رواية ذلك المدعو مهند.

زفرة حارة أطلقها محاولاً تخفيف تلك الحمم التي يغلي بها كيانه وهو يذكر حديث الطبيب عن شقيقه ومرضه بل عن زوجته المتفانية االتي لم تتركه في مرضه حتى بعد تشوه جسده ووجه لم تتوان لحظة في الحضور إليه والقراءة له والحديث معه حتى في تلك اللحظات التي كان غائبًا عن الوعي بها..! مرر زين أصابع كفيه بشعره في عنف.. هذا ليس نهج الخائنات... لا تقوم بذلك سوى امرأة عاشقة أو.. قديسة، وقد انتهى زمن القديسات.. دفاعها عنه وحفظها أمانته.. وقوفها بجواره... لا يشير ذلك إلا إلى عاشقة متيمة، لكن ذلك يتعارض مع الجزء الآخر من رواية ذلك المدعو مهند... تلك الرواية التي تأكد من شطرها الأخير... أتراه صدق أيضًا في شطرها الأول...؟ حديث الطبيب ودفاعها عنه قد يشيرا إلى كذبه لكن صفحة شقيقه على مواقع التواصل الإجتماعي وصوره الماجنة مع نساء شبه عاريات وصور البارات والمُسكرات التي طالعها في ألم منذ عدة ساعات بالإضافة إلى إصابة شقيقه بالمرض وعدم إصابتها هي كما أخبره الطبيب متعجبًا وهو يطلعه على فحوصات نور الدورية التي تؤكد عدم إصابتها بالمرض اللعين، كل ذلك يؤكد صدق رواية مهند وشتات عقله بمتاهة امرأة غامضة لا يجيد تحسس طريقه إليها... أهي العاشقة.. أم الخائنة... أم القديسة..؟

تلك الصامتة الصامدة القوية رغم هشاشتها.. تلك الأم والأنثى... تلك التي جاءت فأشاعت الدفء ببيته و.. قلبه...! هز رأسه محاولاً رفض الفكرة التي تجلت أمامه في وضوح... وقلبه يخبره بمراوغة "أنت يا عزيزي تحاول إلحاق الضرر بها كلما رأيتها كي لا تنساق خلف تلك النبضات التي تسحبك عيناها إليها.."

عيناها... عيناها الواسعتان الناعستان بتلك النظرة العجية التي تلتمع بهما فتعيث بحواسه فوضى يخشاها؛ عيناها اللتين أسبل عليهما ثوب القسوة بكل حماقاته لأنه بكل تبجح استباح لنفسه دور القاضي والجلَّاد... أصدر حكمه عليها دون دفاع ولا مرافعة ولا استئناف.. بل انساق معصوب العينين خلف نبأِ فاسقٍ دون تبين.. رغم أن كل القرائن والأدلة تصرخ ببرائتها، لكن عُصابة الخيانة التي غشت عينيه سنوات طوال لم تمكنه من رؤيتها كما ينبغي أن يراها... لم تمكنه من رؤيتها كإنسان.. كروحٍ رقراقة مضيئة... كشمسٍ ساطعة حاولت إضائة قلبه المعتم لتحيله بدرًا منيرًا... كنجم دري سار على هداه حتى وجد فلذة كبده.

حانت منه إلتفاتة إلى مايا النائمة على الأريكة محتضنة الدمية التي ابتاعتها لها نور ومتدثرة بغطاء حتمًا نور أيضًا هي من قامت بتغطيتها به. جلس على المقعد المجاور لصغيرته وأراح رأسه إلى الخلف مغمضًأ عينيه محاولاً فك اشتباك أفكاره التي تدور في فلك متاهتها... بل لملم أفكاره الصالحة نابذًا كل الشكوك والأفكار السوداء ورحل إلى طريق مضيء لا يتفرع ولا يلتوي... طريق يوجد بآخره وجهها الذي أمسكه بين كفيه ذلك اليوم... طريق يؤدي إليها كيفما كانت... وحيثما كانت، ليصلح الفساد الذي عاثه بداخلها... ليعوضها عن كل أذى وظلم وقع عليها ليستجيب لتلك الخفقات الخجلة بيساره التي تتحرك لأول مرة بمباركة عقله وأهله...!

أرتسمت ابتسامة مرتاحة على وجهه الذي غشاه النعاس أخيرًا بعد يوم عصيب.

أما نور فكانت على النقيض تقطع غرفتها جيئة وذهابًا في توتر وهي تضع هاتفها على أذنها قليلاً ثم تنزله في غضب وتعيد الكرة مرة وأخرى حتى هتفت:

- أنت فين يا أخي...؟ ما تطمني عملت إيه..؟ عرفت تلغي الحساب واللا لسة...؟ إيه...؟ إتلغى...؟ أتحذف خالص...؟ غريبة... أنت متأكد..؟ طيب كويس... سلام دلوقتي...

قالتها ثم أغلقت الهاتف وأعادت طلب رقم آخر قالت بعد لحظات:

- مرحبًا إيفا... أعتذر على إزعاجك في ذلك الوقت المتأخر.. حسنًا عزيزتي... كنت أريد أن اسألك إذا كان مكاني بالمدرسة لازال موجودًا أم لا... حقًا..؟ رائع... نعم أريد العودة إلى العمل وأريدك أن تبحثي لي عن منزل بإيجار بسيط... نعم عزيزتي... سأرجع مصر غدًا أحضر عيسى ثم نعود إلى أمريكا بشكل دائم... زوجي..؟ سأطلب منه الطلاق بمجرد عودتي إلى مصر... لم أعد أحتمل حقًا... وسواء طلقني أم لا فأنا عائدة إلى أمريكا أنا وأبني في أقرب فرصة... حسنًا عزيزتي.. أشكرك كثيرًا... سلام عليكم...

******

Msamo likes this.

Just Faith غير متواجد حالياً  
التوقيع
//upload.rewity.com/uploads/157061451865811.jpg[/IMG]ستجدون كل ما خطه قلمي هنــــــاااااااااااا[/URL][/FONT][/SIZE][/B]
الشكر لصديقتي أسفة التي دائماً تشعرني بأن هناك من يشعر بدون شكوى



سلسلة حد العشق بقلوب أحلام

رواياتي السابقة بقلوب أحلام
أنتَ جحيمي -- لازلت سراباً -- الفجر الخجول
هيـــامـ في برج الحمـــامـ // للكاتبة: Just Faith *مميزة
فراء ناعـــمــ (4)- للكاتبة Just Faith-

عروس الأوبال - ج2 سلسلة فراء ناعم- * just faith *
سلسلة عشاق صنعهم الحب فتمردوا "ضجيج الصمت"

ودي مشاركاتي في سلسلة لا تعشقي اسمرا
https://www.rewity.com/forum/t326617.html
https://www.rewity.com/forum/t322430.html
https://www.rewity.com/forum/t325729.html
ودي رسمية
https://www.rewity.com/forum/t350859.html

خواطري في دعوني أتنفس
ديوان حواء أنا !!

شكرا نيمو على خاطرتك المبدعة
رد مع اقتباس
قديم 18-12-17, 01:46 PM   #27

Just Faith

مراقبةومشرفةسابقة ونجم روايتي وكاتبة وقاصة وملكة واحة الأسمر بقلوب أحلام وفلفل حار،شاعرة وسوبر ستارالخواطر،حكواتي روايتي وراوي القلوب وكنز السراديب

alkap ~
 
الصورة الرمزية Just Faith

? العضوٌ??? » 289569
?  التسِجيلٌ » Feb 2013
? مشَارَ?اتْي » 145,786
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » Just Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond repute
?? ??? ~
جروبي بالفيس (القلم وما يهوى)https://www.facebook.com/groups/267317834567020/
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

- 8 –

"فإن الموت يعشق فجأة، مثلي،

وإن الموت، مثلي، لا يحب الانتظار!"

محمود درويش – في الانتظار

***

في فُلكها الذي ترفضه... يمضي الوقت.. يهذي بكدرٍ دائم، تحيك خطة للهرب مع دقات الساعة التي تنسج حولها العفن كلما استمرت بمكانٍ لا يليق بسموها.

في كل مرة يأخذها بها.. كلما أمتدت يده الضخمة المعبقة ببقايا يومه تزيح ثوبها الحريري.. تعيث فسادًا بشعرها الليلي... رائحة عرقه وأنفاسه الكريهة و...

"كفاية..." تهتف بها في وهن تحت ثقل جسده لكنها كانت شبه موقنة أنه لن يتركها حتى ينهي ما بدأ وينهي ارتواءه، فانفصلت عنه بخيالها إلى أحضان من أشبعها عشقًا وسكب بأذنيها أروع عبارات الغزل ونصبَّها ملكة على عرش عالمه اللامع بعيدًا عن ذلك المستنقع الآسن الذي ولدت به على سبيل الخطأ كما تعتقد.

- "إيش بيكي... إيش بيكي..؟"

هتف في غضب لاهث وهو يستدير ململمًا ثيابه متدثرًا بغطائه ميممًا وجه شطر النوم، لكن خطتها المختمرة في عقلها دفعتها كي تهتف وهي تعيد ارتداء قميصها الحريري:

- ما تدري إيش بيا...؟ أنا أقول لك إيش بيا... اللي بيا إني قرفت.."

استدار نحوها بعينين حمراوين تقدحان شررًا وهو يقول:

- قرفتي...؟ قرفتي من إيش يا ست الحسن وأنت لا طبيخ ولا غسيل ولا حتى...

قاطعته شاهقة وهي تصيح:

- كمااان...؟ كمااان تبغاني أطبخ وأغسل وأنضف...؟ مش بكفاية بختي المايل...!

دفع عنه غطائه ونهض يمسح على شاربه الكث هاتفًا:

- باينها ليلة مش فايتة.. استهدي بالله يا بت عمتي وإلا هايحصول اللي ما يرضيكي...

ضحكت ساخرة ثم قالت:

- لا والله...!! هايحصل إيه تاني مايرضينيش غير القرف اللي أنا فيه ده...؟ يا حظي.. يعني واحدة في جمالي يكون بختها اللي زيك... والتانية اللي ما تسوى خمسة ساغ في سوق النسوان تكوِّش على أنضف رجالة العيلة.. الراجل وأخوه... الاتنين طويتهم تحت يدها ودايرة ما بين مصر وأمريكا بكيفها و...

قاطعتها صفعة مدوية جعلت أذنها اليمنى تطن، ثم صفعة أخرى بظهر يده ذاتها أدمت شفتها، فصرخت بصوت مرتفع باكٍ: - بتضربني كمان يا ابن فاطنة ...

جذبها من شعرها الطويل خلفه وهو يخرج من الغرفة هاتفًا:

- لا تجيبي سيرة أمي على لسانك يا فاجرة... راح اوريكي بختك المايل هايعمل فيكي إيه... راح اوريكي مين أنضف رجالة العيلة بحق وحقيق... أنضف رجالة العيلة هوا اللي مايقبل الوساخة يا بت... يا بت عمتي..

كانت قد رفعت صوتها بالبكاء بصورة مبالغ فيها لتهرع إليها أمها وخاليها يحاولون تخليصها من بين يديه.

- "بتي... بتي... إيش هيذا يا طلال.. إيش بتسوي..؟؟!" صاحت أمها في جزع بينما أمسك خالها سليم بذراع طلال قائلاً بصرامة:

- مايصوحش اكده يا ولدي...

هتف طلال بغيظ: - أنا اللي مايصوحش يا عمي...؟ تعال شوف بت أخوك بتقول إيش لزوجها أبو ولدها اللي في بطنها...

شتتت حسناء انتباه طلال بصراخها وهي تمسك بطنها:

- ابنك اللي تبغى تسقطه.. أضروبني يا ولد خالي وموت ابنك...

خفت قبضة طلال على شعرها قليلاً، بينما قالت أمه بطيبة:

- اتفاهم مع مرتك يا ولدي بالهداوة مايصوحش تضرب مرة...

حرر الشيخ سليم شعر حسناء من بين أصابع طلال ثم وضع عليها عبائته واحتضنها قائلاً:

- خلاص يا حسنا يا بتي لا تبكي... زوجك ما راح يعيدها و...

صاح طلال مقاطعًا: - يا عمي أنت ما تدري اللي بتسويه فيني.. وكلامها...

هنا هتفت به سنية بحدة: - مرتك حامل يا طلال وتعبانة... كيف تضربها يعني مهما سوت...؟

أرتفع نحيب حسناء ورفعت رأسها واضعة يدها على وجنتها مظهرة شفتيها الداميتين إلى أمها التي أردفت بحسم قبل أن يتحدث طلال:

- روح راضي مرتك وحب على راسها يا طلال...

كان أباه يمسك ذراع وتربت أمه على الأخرى، فتملص منهما هاتفًا:

- بتك يا عمتي يبغالها رباية... وأنا باربيها... لأن المرة اللي ما تحترم زوجها وتتحدت عن رجالة غيره تبقى مرة لا عرفت معنى الرباية ولا....

"أخرس يا ولد.." صاحت بها سنية وهي ترفع يدها لتصفع طلال الذي أمسك بمعصم عمته في صرامة قائلاً:

- هوا اللي يقول الحق في البيت هيذا لازمن يخرس يا عمتي...؟ تحبي تسمعي إيش قالت بتك المحترمة..؟

أرتفعت نهنهات حسناء التي تركت عمها وارتمت بين ذراعي أمها وهي تقول بين بكائها:

- عشان أنا يتيمة بيتبلى علي يا أمي.. بيهيني ويضربني فاكر إني مالي سند...

احتضنتها أمها في قوة وهي تلقي نظرات نارية إلى طلال ثم قالت بقوة:

- ما تخافي يا بتي... ولد خالك وزوجك... بكرة يعرف قيمتك أما تغيبي عنيه يومين...

هتف طلال: - وأنا قلت مرتي ما تخرج من باب الدار...

قال الشيخ سليم: - خلها تاجي معنا مصر عند أخوها باكر يا ولدي شوي بس يهدي الجو وترجع تتصافوا على كيفكم..

تلاعبت على شفتي حسناء المدسوسة بحضن أمها ابتسامة لم يرها أحد وهي تسمع إذعان طلال... لقد نجحت خطتها... وستسافر معهم إلى القاهرة بعد أن كان زوجها رافضًا سفرها تمامًا.

استندت على ذراع أمها لتقضي معها الليل متقنة دور المنكسرة الحزينة التي قضى عليها زوجها الهمجي وخلف ستار حزنها الظاهري يُقام صوان الفرح وتدق طبول النشوة... فقد اقتربت كثيرًا من هدفها.

وعندما انفض الجمع وعاد كل منهم إلى غرفته تسائلت خادمة صغيرة السن جاءت حديثًا لتعاون زينب:

"هما الجماعة رايحين على مصر باكر كلاتهم...؟"

أجابتها زينب: - أيوة يا عبلة...

تسائلت الخادمة مرة أخرى وهي تمصمص شفتيها في تعجب:

- حتى الجدة حنة..؟؟

قالت زينب بملل: - قلت لك أيوة يا عبلة كلاتهم ما عدا سي طلال رايحين يستقبلو سي الأستاذ زين وبته اللي عتر عليها في بلد بعيد إكده مادري إيش اسمها بعد خمس سنين.. ألف حمد وشكر لك يا رب... نامي بقى يا عبلة تصبحي على خير...

أجابتها الخادمة بابتسامة واسعة: - وأنت من أهل الخير..

***

هي الفتنة مجسدة في كل حالاتها... حتى عند.. بكائها..!

بأنفها الدقيق المحمر ودموعها اللؤلؤية المنهمرة في حزن صادق يتلبسها للمرة الأولى منذ معرفته بها؛ لا ينكر أنها هيستيرية سريعة الانفعال إلا أن بكائها ولوعتها هذه المرة مملوئين مرارة وهلع.

من خلف سحابة دخان سيجاره الفاخر كان يراقبها... ببنطالها الجينز القصير الذي يصل لمنتصف فخذيها المرمريين وقميصها الأحمر الممسك بتفاصيل جسدها الممشوق.. تنحني على نفسها و... تبكي.. تنشج في ألم، بينما كان أباها يروح ويجيء في قلق محققًا مع جميع الخدم.

- "إحنا لازم نبلغ البوليس يا پاپي.."

صرخت بها دميته الفاتنة وهي تنهض فجأة عقب سماعها لكلام الخدم، فأمسكها أبيها من ذراعها قائلاً:

- أصبري يا كارمن.. لازم نفهم الأول مارثا عملت كدة ليه...

صرخت كارمن وقد عاودها طبعها الهيستيري واختفى حزنها الراقي:

- نفهم إيه وبتاع إيه...؟ بنتي هاتضيع مني... لأ هاتضيع إيه... دي ضاعت خلاص.. بنتي ضاعت وأنا عمالة أجهز نفسي عشان أتجوز... زمان الي اسمها مارثا دي خدتها لتجار أعضاء أو...

وعندما ألقى إليه حماه نظرة استغاثة وضع سيجاره على منفضة السجائر ثم نهض بقامته الفارعة متجهًا إلى كارمن.. أحاط كتفيها بذراعه قائلاً بهدوء بصوته الأجش:

- شويش حبيبتي.. ماكاين والو..

انتفضت اسفل ذراعه وهي تهتف:

- يعني إيه ماحصلش حاجة يا إياد..؟ بنتي مختفية من امبارح وتقولي ماحصلش حاجة... لازم نبلغ البوليس حالاً...

دلك كتفها بيده وانحنى نحوها هامسًا: - واخه.. واخه.. نداري اللى تبغيه إن شاء الله..

زفر أباها هاتفًا: - مش أنا لسة من كام يوم موصيكي عليها يا كارمن وقلتلك أبقي أسألي عليها وماتسيبيهاش مع المربية طول الوقت...؟!

ازداد بكاء كارمن وعويلها وهي تقول:

- معاك حق.. أنا غلطانة.. غلطانة... يا ترى أنت فين يا مايا...

قال إياد بالإنجليزية وهو يخرج جواله:

- لا تقلقي عزيزتي.. أولئك المهاجرين غير الشرعيين يلجئون دائمًا لمن يستخرج لهم أوراق ثبوتية وأنا لي معارفي يمكنهم الوصول إلى أغلب المتكفلين بتلك المسائل حولنا، حتمًا مارثا لجأت إلى أحدهم... فلتهدئي أنت وتتناولي مشرروب ساخن إلى أن أجري أنا وأبيك إتصالاتنا.. تفضل معي سيد عمر...

قالها ثم اقتاد عمر هجرس الذي كان شحوب وجهه يحاكي شحوب الأموات إلى غرفة مكتبه وأغلق الباب متسائلاً بصراحة:

- لماذا لا تريد إبلاغ الشرطة عمر؟

تهاوى عمر هجرس على أقرب مقعد بمكتبه وهو يقول:

- أنت مش عارف الموضوع معقد أد إيه يا إياد... البنت دي كانت بطاقة محافظتنا على شغلنا إياه في مصر... الناس اللي أنت بتورد لهم السلاح والحشيش من المغرب كانوا عايزين يستخدموها كوسيلة ضغط على سليم العربي جد مايا لأبوها اللي بيحاول يقضي على تجارتهم وزرعهم للأفيون والحشيش بفضحه للموضوع في مجلس الثورة...

كان إياد قد أشعل سيجارًا آخر وعقد حاجبيه في شدة مضيقًا عينيه الذهبيتين اللتين ارتسمت بهما نظرة خطرة وهو يستمع إلى عمر الذي يردف:

- كدة كل الشغل هايوقف وهايشوفوا مورد غيركم... وممكن يتسببوا في أذيتي هنا كمان دول إيدهم واصلة... عشان كدة مش عايز أخد أي خطوة إلا أما أبلغهم الأول و...

هنا انفتح الباب على مصراعيه ودخلت كارمن ثائرة هادرة تصيح بأبيها:

- للدرجة دي يا بابا...؟؟؟ للدرجة دي لا أنا ولا بنتي لينا تمن عندك...؟ وصل بيك الأمر أنك تحط بنتي طرف في شغلك القذر ده...؟

ازداد شحوب وجه عمر بعد أن سمعت كارمن حديثهما وانفضح تمامًا أمامها، وتنحنح محاولاً إجلاء صوته الذي جاء مهزوزًا وهو يقول:

- يا بنتـ... يا بنتي كل ده كان عشانكم وكنـ... كنت متأكد أن الموضوع مش هايتعدى مجرد تهديد بس للي اسمه سليم ده..

نظرة احتقار من صغيرته شملته بها جعلت قلبه يرتجف في صحوة لحظية عندما رن هاتفه، فانتفض وفتح هاتفه مسرعًا، لكنه لم يتمكن من أن ينبس ببنت شفة حيث قال الطرف الآخر جملة واحدة ثم أغلق الخط تاركًا عمر يحاول فهم تلك الجملة التي جاءت بصوت جهوري مزعج حاسم.. "البت الصغيرة مع أبوها وأنت أنسى مصالحك وفلوسك كلاتها اللي حدانا.."

- "ماذا حدث عمر..؟" تسائل إياد وقد تهدل كتفي حماه وجحظت عيناه وصار أشبه بجثه حية عندما أجابه:

- بيقول.. بيقول أن البنت أبوها اللي خدها... وقالي أنسى مصالحي وفلوسي اللي معاه...!!!

هتف إياد: - هاد كارثة...

بينما بهتت كارمن وهي تتلقى خبر وجود مايا مع أبيها، ثم قست نظراتها وأخرجت هاتفها وهي تقول غير عابئة بأبيها أو خطيبها: - أنا لازم أبلغ الشرطة...!

***

كان نهارًا غائمًا.. يلفه صمتٌ مخمليٌ داكنٌ وتجاهلٌ كاملٌ لشخصه.

خرج ثلاثتهم يومها بقلوبٍ مثخنة بذكريات الأمس الموجعة...

رجلٌ واجه صفعات الحياة تباعًا ختمها قلبه بصفعة يمينًا وعقله بأخرى يسارًا...

طفلة فقدت صوتها في زخم حياة صارخة وطأت طفولتها بكل قسوة..

امرأة اختبئت في رداء الصمت الفضفاض بعد أن انقشعت غشاوة روحها، وقررت ترميم قلبها بأغصان الوجع الحي..!

المطار أكثر إزدحامًا من أي وقتٍ مضى... فإجزات عيد الميلاد على الأبواب. بتوترٍ سرى تردده عبر قلبيهما كأثير نغمة محفوظة وقفا أمام الموظفة السمراء الضخمة التي تنهي إجراءات الخروج وتفحص جوازات السفر، أخذت تنقل عينيها بينهم وهي تمضغ علكة ما بطريقة مستفزة.

أحكمت نور ذراعيها حول مايا وكأن نظرات تلك السيدة سهامًا قاتلة ستصيبها في مقتل؛ إلا أن السيدة سمحت لهم بالمرور أخيرًا بعد لحظات من التوتر والقلق الذين تمكن كليهما من إخفائهما ببراعة خلف تعابير وجهيهما المبهمة.

أكمل ثلاثتهم طريقهم متخطين عتبات الأسئلة الشائكة، ليعود زين مرة أخرى إلى الإعصار اللولبي الذي يعصف بكيانه منذ الصباح مع تجاهل نور التام لكل محاولات الاقتراب أو الحديث المتباسط، لم تجذب انتباهه زينة الطرقات ولا الأضواء المتزايدة التي تزين الأبواب وهو يحاول البحث عن مفتاح... أي مفتاح يمكِّنه من فتح باب وجومها والدخول إلى مواطن الدفء بكيانها... ذلك الدفء الذي أشعله يومًا ما تاركًا في أعماقه شعلة لا تخبو بل تطالب بالمزيد.

شامخة هي بكبريائها البسيط في ساحة الانتظار تجلس واضعة ساقًا على الأخرى كملكة متوجة متشحة بالسواد الذي زاد من غموضها وجاذبيتها..! معطفها الأسود.. حجابها الأسود.. منظارها الشمسي الأسود الذي ترفعه على رأسها بينما بين يديها تقبع رواية تتابعها في نهم وكأنها تعيش أحداثها منفصلة عن العالم.

كيف السبيل إلى سيدة الصمت والغموض..؟ كيف ينتشلها من دائرة الوقت وحيز المكان ويهرب بها ربما إلى رواية خرافية كتلك التي تعانق أناملها الدقيقة حيث يمكنه بثها أعذاره الموبوءة بجروح رجولته الغائرة.. حيث يمكنه ترجمة تلك النبضة الخارجة عن النص التي تخفق بيساره بعنف منذ أن غرق بعسل عينيها.. وحيث يمكنه تحطيم أصنام خوفهما وإجتثاث جذور الماضي الكئيب من قلبيهما كي يعيدا معًا صياغة كل المصطلحات والمفاهيم..!

تلك النظرة.. نظرة تشع من فوقِ فنجانِ قهوةٍ ينتصب قرب شفتيه دون عناقٍ فعلي وقد فتر مللاً سائله الأسود؛ بينما عينيه قد أسرجتا خيول نظراتهما لغزو كيانها الذي عمدت إلى سربلته ببرود لامبالاتها ووضع أقفالاً صدئة على أبواب روحها المهتوكة التي عزمت على ترميمها.. تأثيثها من جديد، على إنهاء طريق الآلام المزروع بالشوك والعطن الذي سقطت به بجرة قلم جائرة من أقربين هم أبعد البشر عنها عندما أصروا على وصم روحها بطابعِ القهر والذل... وهاهي تُغرق جسدها في رداء الصمت الأسود لتواري سوءة ذلها. لكن أنَّى لها أن تنسى نظراتٍ كتلك التي تصهل الآن حول حصونها السوداء.. كيف تمحوها من سجل أنوثتها الممهور بهن في تملُّكٍ ملعون؛ بل كيف تكف أطراف عينيها عن خذلانها والتسلل خفية إلى تلك النظرات المختلفة التي يشملها بها وكأنهما في فقاعة منعزلة عن زحام ساحة المطار..!!

وعندما نجحت أخيرًا في لملمة لُحُظها الخائنة والتركيز على أسطر روايتها، وجدت يدًا صغيرة تجذبها بنعومة.. وجملة أخرى كتبتها في دفترٍ كان بديلاً عن صوتها المسلوب.

- "على فين..؟"

تسائل مطلقًا سراح فنجان قهوته البارد متأملاً إياها وقد نهضت مع صغيرته؛ فأجابته ببرود متشبثة بحاجز لامبالاتها: "مايا عايزة تروح الحمام.."

ثم ابتعدت دونما كلمة أخرى، فأخذ يفرك كفيه وقد أعيته حصونها التي ارتفعت بين ليلة وضحاها حاجبة عنه شمس غفرانها. مد يده إلى روايتها التي ود أن يمزقها ألف قطعة كي لا تستأثر بذهنها عنه.. تأمل عنوانها "Pride and Prejudice"... ابتسم ساخرًا ... "كبرياء وتحامل" عنوان معبر حقًا..! فتح الصفحة التي وضعت عندها مؤشر القراءة.. مر على الكلمات دون اكتراث حتى... التمعت عيناه في شغف.

عادت صغيرته تجري إليه فألتقطها بين ذراعيه وحملها بحب وهو يعرض عليهما معًا:

- إيه رأيكوا نروح نتسوق في الديوتي فري لحد ما البوردينج يبدأ..؟

أومأت مايا مصفقة بيديها الصغيرتين، بينما توجهت نور إلى مقعدها قائلة ببرود:

- روحوا أنتوا... أنا هاستنى هنا...

ابتسم بزاوية فمه اليسرى وهو يراها تتناول الرواية مرة أخرى، ثم رحل مع صغيرته.

ظنت أن رحيله قد انتشلها من هجوم نظراته الضاري على حصونها الواهية، إلا أنها أدركت أنه فقط قد غيَّر مجال هجومه من حاسة النظر إلى حاسة الشم... فكيف تفوح روايتها بعطره إلى هذه الدرجة التي تُسكرها..؟ زفرت في غيظ من تجرئه على المساس بحرمة كتابها دون إذن، ثم فتحت الرواية لتكمل القراءة حيث توقفت لـ... لينعقد حاجباها في شدة وهي ترى روايتها وقد تدنست بقلم التعليم الأصفر اللامع الذي أحاط بمقطعٍ ما دون غيره... وكان السؤال عن هوية الجاني محض غباء وقد ترك بصمة عطره عن عمد كي تهتدي إليه. أخذت تقرأ المقطع المذكور على لسان السيد دارسي بطل الرواية مرة بعد أخرى محاولة إخماد ذلك الشعور المرفرف بداخلها.

“In vain have I struggled. It will not do. My feelings will not be repressed. You must allow me to tell you how ardently I admire and love you[1].”

****

ولأنها امرأة.. كان يجب عليها محاربة الآلام التي تعصف بجسدها في عنف... كان يتعين عليها الوقوف على قدميها كمحاربٍ باسل يستمر في معركته وهو مثخنٍ بالجراح. ومعركتها كانت مع منزلٍ... مقلوبٍ رأسًا على عقب...!!! ويجب عليها تنظيف ومسح وترتيب وتلميع كل ركن به خلال ساعات قبيل قدوم عمتها العزيزة... التي قد تُصاب بسكتة قلبية إذا رأت منزل زواجها الأثير مغطى بالأتربة وبقايا طعام الطفلين منثورة بجُل الأنحاء بينما كان المطبخ ممتلئًا بالصحون التي تحتاج للجلي أما معركتها مع الموقد فقصة أخرى؛ هذا غير إعداد وليمة معتبرة لأهلها القادمين من سفر إلى منزلها.

ولأنها امرأة مصرية أصيلة.. عمدت إلى وشاحٍ ربطت به رأسها الذي ينبض في ألم لا يمكنها إخماده بأي مسكن أو تناول أي مشروب منبه من أجل ذلك الصغير الذي ينمو بأحشائها والذي يصيبها بكل أنواع الغثيان ومقت للطعام حتى صارت هزيلة كمكنستها التي تسلحت بها للتو كي تبدأ معركتها.

- "بتعملي إيه...؟؟!!"

شهقت في ذعر وصوته يخترق ذهنها المشوش المركز على بقايا الأوراق الممزقة التي نثرها عيسى وحبيبي مساء الأمس في لعبهما، فاستدارت إليه وهي تضع يدها على صدرها قائلة:

- ياسر.. أنت مصر تموتني بسكتة قلبية..

ضحك وهو يحيطها بذراعيه قائلاً:

- بعد الشر عليكي يا قلبي... والله أنا خبطت وقلت السلام عليكم بس شكلك أنت اللي في عالم تاني..

زفرت في ضيق قائلة بسخرية:

- آااه... في عالم ديزني... هاكون فين يعني.. اليومين اللي ريحتهم من غير ما انضف البيت هايطلعوا عليا... المهم.. أنت إيه اللي رجعك بدري كدة..؟ نسيت حاجة..؟ شوف أنت عايز إيه وأنزل بسرعة يا ياسر الله يكرمك خليني ألحق أخلص قبل ما حبيبة تصحى...

تناول المكنسة منها تحت نظراتها المشتعلة التي تحولت للذهول وهي تسمعه يقول:

- أنا أخدت النهاردة إجازة يا توتّي...

رمشت بعينيها في غير فهم وهي تقول:

- مش... مش فاهمة.. أخدت إجازة ليه...؟ هاتروح تجيبهم من البلد..؟

ضحك ثم ضمها بذراعه يطبع قبلة على جبينها وهو يقول:

- لا طبعًا هما جايين مع خالي الشيخ سليم وبدر معاهم، ممكن تروحي تريحي بقى...

- بتهزر يا ياسر.. عايز تفضحني أدامهم كلهم خليني أخلص تنضيف الله يكرمك..

أنحنى ياسر يشمر بنطاله وهو يقول:

- باقولك روحي نامي ولو احتجتك هاجي اسألك وشوفي بقى هانضف لك الشقة دي إزاي... خلال ساعتين بعون الله هاتلاقيها بتلمع... بتبرق.. يا بنتي أنا كنت باتسلى في تنضيف البيت ده قبل الجواز كل أما أجي هنا...

قالت تقى بشك: - ياسر.. أنت بتتكلم جد...؟؟؟

- باتكلم جد الجد كمان ولو فضلتي واقفة هنا خمس ثواني كمان هاسحب عرضي...

- لأ.. لأ خلاص.. هاروح...

قالتها غير مصدقة أنها ستُلقي بجسدها المنهك على الفراش مرة أخرى، إلا أنها أطلت ثانية من باب الغرفة قائلة: - طيب والغدا يا ياسر...؟؟؟

ابتسم لها في عذوبة وهو يقول: - ماتقلقيش... كلمت شيف عنده مطبخ بيعمل أكل بيتي هايجهز لنا أحلى غدا ويبعته.. صحيح مش هايبقى في جمال أكلك بس كله يهون عشان خاطر دعبس وأم دعبس...

عقدت حاجبيها في دلال غاضب وهي تقول بامتعاض:

- ماكنت ماشي كويس لازم يعني تختمها بدعبس...!!!

ارتفعت ضحكاته وهو يطوي بساط الردهة ثم قال:

- هيا ركبت في دماغي دعبس... إذا كان عاجبك..

ارتسمت على وجهها ابتسامة شملته في راحةٍ ورضا وهي تتوجه إلى فراشها تريح جسدها المنهك قليلاً وهي تحمد ربها ألف مرة على زوجٍ كتبه القدر في صحيفة من نور... لأنه رجلٌ ضرب بكل تابوهات مجتمعهم العقيمة عرض الحائط وكان دائمًا لها سندًا.. لم يستغل عقد نكاح يستعبدها، بل تأسى بخير الرجال وكان دائمًا... قريبًا... حبيبًا.

- "توتي... توتة... توتاية..."

من أعماق نومها كان يداعبها ففتحت عينيها اللتين ابتسمتا له ليقول بحنان وهو يعبث بشعرها:

- الجماعة على وصول... قومي شوفي كدة البيت وقولي لي شغل الستات بقى واللا شغل الرجالة..

طبعت قبلة صغيرة في باطن كفه وهي تقول:

- ربنا يخليك ليا يا حبيبي...

اقترب منها وهو يقول بصوت أجش:

- لأ مش هاينفع خالص الحنية دي دلوقتي... واللا أقولك.. طز في أي حد.. خلينا في الحنية... هااه كنت بتقولي إيه...

نهضت وهي تدفعه برفق قائلة:

- أولاً أنت عارف يا ياسو إن وحمي صعب وأما تقرب كدة هاتزود حالة الغثيان اللي عندي.. ثانيًا هدومك كلها مبلولة قوم خد شاور وغيرهم بسرعة قبل ما تبرد... ثالثًا..

لكنها لم تكمل حديثها حيث قاطعها جرس الباب، فشهقت قائلة:

- عمتي....!

قهقه ياسر وهو ينهض قائلاً:

- اقعدي قولي أولاً وثانيًا لحد ما تلاقيها فوق راسك...

نهضت بسرعة تحاول تبديل ملابسها بينما بدل ياسر قميصه المبتل بآخر جاف وخرج يستقبل أمه وجدته وزينب وخاليه وزوجتيهما وزهرة وبدر و... حسناء.

وكان اجتماع الأسرة على الغداء دافئًا لا يخلو من نظرات أمه المتفحصة التي تشمل بها تقى بين الحين والآخر، بينما كان عيسى كملك متوج بين زهرة وخاله سليم وزوجته نجاة حتى الجدة كانت تتشبث به أحيانًا.

- "هوا... هوا زينب ماهتروحش بيت زين ولد خالي تنضفه قبل ما يعود يا أمي..؟"

كان ذلك سؤال حسناء الذي ألقته ونظرها معلق بطبقها تعبث بملعقتها في محتوياته دون أن تتناول الكثير منه، فقالت نجاة متعجبة:

- اه والله معك حق يا بتي... ده المفروض..

هنا قالت تقى:

- آه يا حسنا.. ياسر هايوديني بعد الغدا مع زينب عشان نرتبه إن شاء الله...

رفعت حسناء عينيها إليها وهي تقول بسرعة:

- لاه... وشك أصفر وشكلك تعبانة... خلي عنك أنت يا مرت أخوي.. أ.. أنا ممكن أروح مع زينب...

تأملها كل الجالسين حول المنضدة بذهول بينما رفع ياسر أحد حاجبيه قائلاً:

- ده إيه نوبة الكرم دي يا سنسن..؟

نظرت إليه حسناء نظرة منكسرة أجادت رسمها ثم استحضرت بعض عبرات وهي تقول بألم أتقنت صبغ كلماته به:

- بقى كدة يا أخوي..؟ ده جزاتي إني عايزة أريح مراتك بنت عمي اللي شكلها يصعب عالكافر...؟ عامة أنا آسفة... آسفة يا أخوي...

قالتها ثم نهضت باكية، فحدجته أمه بنظرة قاسية وهي تقول:

- ليش يا ولدي تكسر نفس أختك؟ يعني بدل ما تشكرها أنها تبغى راحة مرتك..؟

- والله يا أمي أنا كنت باهزر معاها يعني ماعرفش أنها هتاخد الموضوع بحساسية كدة..!

ألقت أمه نظرة موحية على شقيقها عتمان أبو طلال وهي تقول:

- معلهش... أصلها اللي فيها مكفيها...

تغضن وجه عتمان وقد فهم ما ترمي إليه، بينما عادت سنية تنظر إلى ابنها ثانية وهي تقول:

- يللا.. يللا قوم راضيها وحب على راسها وخدها هيا وزينب وأنزلوا قبل ما يرجع ولد خالك مع بته..

نظر ياسر إلى تقى في حيرة، فربتت على كفه مبتسمة لينهض قائلاً:

- حاضر.. هاروح أوصلهم بيت زين عشان ألحق أروح أجيبه من المطار.

هنا تحدثت الجدة لأول مرة بحسم:

- تجيبه اهنه الاول يا ياسر... نبغى نشوف بته ونملي عينا منيها...

قبل ياسر رأس جدته وهو يقول:

- أكيد طبعا يا چدة.. سلام عليكم...

رد الجميع سلامه بينما ذهب هو إلى شقيقته يراضيها يحاول تبرير وجهة نظره ثم يطلب منها أن تأتي معه فورًا، وما هي إلا دقائق معدودات حتى استقرت حسناء بجوار ياسر بالسيارة المتوجهة إلى منزل زين.

- "مش عايزين حاجة..؟"

سألهما ياسر عقب نزولهما عند المنزل، فأجابت حسناء بسرعة:

- لا لا يا أخوي.. روح شوف حالك أنت...

دخلت حسناء وزينب إلى المنزل الفخم الذي شملته بنظراتٍ حاقدة وهي تتجول بكل ركن به لاعنة حظها السيء الذي يحصرها في البيت الذي لم تبرحه منذ الطفولة بنجع الواحات البعيد بينما تلك الفتاة التي لا تمتلك ربع جمالها ترفل في هذا المنزل الفخم.

- "زينب... خدي الفلوس دي وروحي اشتري صابون وكلور وسلك و..."

- لكن يا ست حسنا... البيت مافيهش إلا غبار و...

قاطعتها حسناء بحدة:

- أنت هاتفهمي أكتر مني واللا إيه...؟ روحي قوام اشتري اللي قلت لك عليه..

قالت زينب في ذعر:

- يا ست.. يا ست الحتة مقطوعة وأنا مانا عرفاها زين..!

دست حسناء الأوراق المالية في يدها وهي تقول:

- ماهو أنا عاطياكي فلوس بزيادة عشان كدة... أركبي تاكسي أو أتصرفي... ياللا أوام...

أخذت زينب الأموال منها وهي تتمتم بكلمات غير مفهومة حتى رحلت، وعندما تأكدت حسناء من رحيلها.. خلعت عبائتها السوداء ليبدو من أسفلها بنطالاً من الجينز الضيق المطرز بخرزات لامعة في أكثر من مكان، تعلوه بلوزة فضية بدون أكمام لامعة بدورها تحيط صدرها بإحكام ثم تنزل باتساع من أسفله... تأملت بطنها المتكورة الصغيرة لحظات في غير رضا ثم نثرت شعرها الأسود الناعم الطويل وأخذت تطلي شفتيها بلون أحمر قاني وتحدد عينيها بكحلٍ كثيف و... أرتفع رنين هاتفها، فتناولته مبتسمة وهي تلقي بنفسها على فراش زين الأبيض المذهب الوثير.

- ألوووو...

أجابت بلهجة ناعسة ممطوطة هامسة واستمعت لحظات إلى الطرف الآخر ثم ابتسمت وهي تقول بغنج:

- خلاص يا حبيبي... أنا هنا... وأخيرًا ممكن نتقابل... العنوان...؟ هاديهولك بس ماتتأخر... أنا وقتي ضيق...

أملته العنوان ممنية نفسها بلحظات عشق خرافية مع ذلك الفارس الذي أغرقها بكلمات العشق والغرام عبر الإنترت.. عبر مكالماتهما الصوتية والمرئية.. حتى أخبرها أنه لا يطيق انتظارًا وإن لم يرها ويشبع منها فسوف تجده ببيتها في النجع يختطفها لتكون معه إلى الأبد...!! خفق قلبها في عنف وهي تذكر خطتها التي حاكتها كي تلاقي حبيبها المجنون وتنتقم من تلك التي سرقت منها زكريا حبيبها الأول.. ستقيم في منزلها وتعيث به فسادًا... وتترك غربان الشك تنعق في عقل زوجها الجديد الذي استحوذت عليه بعد أن قتلت شقيقه، فربما قتلها وخلص العالم منها... ابتسمت في جذل وهي تتخيل نور مقتولة وانتشت للفكرة التي ستضرب بها عصفورين بحجر واحد.

*****

نظراتها المرسلة من خلف جفنين أرتخيا بمرور السنوات المتعاقبة كانت ترصد حركاتهما وسكناتهما منذ وطئا باب المنزل بينما استأثرت هي بصغيرته التي شاركتها محراب صمتها. هو حقًا نسخةٌ أخرى من رحيلها الذي رحل مبكرًا... ورث عنه طبيعته المندفعة الحارة... كشلالٍ منهمرٍ في سخاء... كجوادٍ جامحٍ لا يروض طبعه سوى خيَّالٍ ماهر؛ وكانت هي سده وخياله... احتوت جموحه بتعقلها وروضت تسرعه بكبريائها... كذلك تفعل تلك الصغيرة ابنة الغالي الراحل... فقد عاد حفيدها بوجهٍ آخر غير الذي رحل به... تلك الصغيرة التي ورثت عنها التعقل والحكمة والكبرياء يبدو أنها تمكنت من قلب حفيدها وعقله وعيناه اللتان لم تبرحا أثرها منذ أن اختفت بإحدى الغرف مع شقيقتها وشقيقته.

- "مالك يا عم.. شكلك مش عاجبني.." همس ياسر لصديقه وابن خاله العائد لتوه، فأجابه زين هامسًا:

- أنا اللي مالي...؟ أنت اللي مالك يا ابني شوية اه يا ضهري وشوية اه يا رجلي...

ابتسم ياسر بمرارة ساخرة وهو يقول:

- ده الوَحَم بعيد عنك...!

ارتفعت ضحكات زين مقهقهة ولم يستطع كتمانها وهو يسأله بخفوت:

- مبروووك وأنت بقى في الشهر الكام...؟

وكزه ياسر قائللاً بغيظ:

- مش ناقصاك والله.. أنت عارف البهدلة اللي باشوفها في وحم تقى.. سيبك مني.. أنت اللي سرحان وهيمان كدة... شكلك وقعت..

قالها غامزًا، وقبل أن يجيبه زين سمع صوت أبيه الشيخ سليم يهتف باسمه قائلاً:

- زين يا ولدي... أهل دايرة الجيزة عاملين قاعدة صلح بين عيلتين من أكابرهم بعد العشا وأبغاك تكون معاي... هاتقدر يا ولدي واللا تعبان من السفر...؟

اعتدل زين مجيبًا أبيه على الفور: - لأ يا والدي هاجي مع حضرتك طبعًا...

ربت أباه على كتفه قائلاً:

- الله يبارك لي فيك يا وليدي... جهز حالك العشا قربت.. ننزل نصلي في المسجد ونطلع على طول...

أومأ زين شاردًا، ثم استدار إلى ياسر بغتة وهو يهمس له:

- هيا نور فين..؟

ضحك ياسر مجيبًا بهمس:

- إيه... لحقت تشتاق يا سي روميو..؟ مش باقول لك وقعت..؟!

همس زين بغيظ من خلف أسنانه:

- أخلص يا ياسر عايز أقولها حاجة قبل ما أنزل مع أبويا..

- الحريم كلهم في أوضة حبيبة جوة..

قال له زين بخفوت:

- طيب تقدر تخليهم يطلعوا من غير ما تحس عشان عايزها فعلاً في كلمتين وهيا مش مدياني فرصة..؟

قالها ثم شرد مردفًا: - ويمكن دي تكون آخر فرصة...!!

في تلك الأثناء كانت نور ممسكة بعيسى الذي غفا بين ذراعيها منخرطة في الضحك هي وزهرة بينما كانت تقى عابسة في غضب وهي تقول: - ماشي... أضحكوا أضحكوا...

فقالت نور من بين ضحكاتها:

- يا بنتي نفسي أعرف أنت زعلانة أنك حامل ومخبية ليه..؟ تكونيش لا قدر الله متجوزة ..؟!!!

ازدادت ضحكات زهرة بينما عقدت تقى ذراعيها على صدرها وهي تقول بضيق:

- يا بنتي حبيبة عندها سنة ونص لسة وأنا كنت مأجلة الموضوع ده لحد ما أخلص رسالتي اللي مش هاتخلص في سنتها دي...

همت نور أن تتحدث إلا أن طرقًا خفيفًا على باب الغرفة قاطعها وصوت ياسر ينادي تقى التي هرعت إلى الباب بسرعة ثم عادت قائلة:

- زهرة... تعالي كدة عايزة أوريكي حاجة في المطبخ...

نهضت نور قائلة: - عايزة مساعدة يا توتة..؟

أمسكت تقى بيد زهرة وهي تقول:

- لا يا حبيبتي زهورة عملت كل حاجة عايزة اسألها بس شالت الحاجة فين عشان عايزين شاي..

قالتها ثم خرجتا لتعود نور تضجع على الفراش تمرر أصابعها في شعر صغيرها باشتياق.

- "يا بخته...!"

وصلها صوته كشعاع برقٍ صعق قلبها وجعلها تنتصب من إتكائها في توتر وهي تمسك حجابها الأسود الذي سقط على كتفيها تحاول إرتدائه مرة أخرى. أما هو فقد دخل وأوصد الباب خلفه وشملها بنظراتٍ دافئة أخذت تتأمل إرتباكها اللذيذ.. شعرها المعقوص إلى أعلى مع خصلاتٍ نافرة شهية... عبائتها الحريرية التي تعانق الجزء العلوي من جسدها في فتنة والتي كانت مختبئة أسفل معطفها الأسود.

نظرت إليه بتحفز بعد أن أحكمت حجابها حول وجهها وأسبلته لينسدل حتى مرفقيها، ثم تسائلت بشموخ:

- فيه حاجة يا باشمهندس..؟؟

- "نور..." لأول مرة ينطق اسمها بذلك الدفىء الذي دغدغ أوصالها، إلا أنها لم تبد استجابة وهي تشيح بوجهها ليجلس قبالتها على الفراش الصغير وينحني نحوها بشكل خطر محاصرًا أنفاسها وهو يقول:

- عارف إني.. إني غلطت... وجيت عليكي كتير... وعارف أنك اتحملتي كتير... بس أنا رجولتي كانت لسة بتعاني من جرح مااتطهرش كويس فانفجر للأسف فيكي...

نظرت إليه بتنمر وهي تهتف:

- تقوم تجرح كرامتي أكتر من مرة وترميني باتهامات باطلة..

- واعتذرت لك ومستعد اعتذر لك مليون مرة... مستعد أعمل اللي يداوي لك جرح كرامتك زي ما داويتي لي جرح رجولتي...

عقدت حاجبيها في غير فهم، ليهمس لها:

- نظراتك الممتنة لكل صغيرة وكبيرة باقدمها لك... احترامك لوجودي... و.. انصهارك بين إيديا بروح أنثى بتعرف كويس إزاي تُحيي رجولة مطعونة... كل ده عالجني وخلاني أعيش من جديد... صدقيني أنتي مش بس رجعتي لي بنتي... أنت رجعتي لي نفسي كمان...

كان قلبها يخفق بعنف... يكاد يجن من حديثه الهامس من أنفاسه التي تحيط بها.. من اقترابه القاتل وهو يضع سبابته أسفل ذقنها رافعًا وجهها إليه مردفًا:

- مستعد أعمل أي حاجة بس عشان أعتذر لك وأشكرك.. بس الأول أقبلي مني الهدية دي...

قالها ثم أخرج علبة مخملية تحمل اسم علامة مشهورة في عالم المجوهرات.

- سلسلة زهرة الأوركيد المعروفة من تيفاني أند كو... أول ما شوفتها افتكرتك... مش هاتليق على حد غيرك.. أنت بالنسبة لي زهرة أوركيد رقيقة خجولة... من أول ما شوفتك..

استدعت برودها بكل طاقتها وقد هزت كلماته أقفال قلبها الصدئة وأحدثت شرخًا بجدار روحها الذي تختبيء خلفه، إلا أنها أجابته بجمود:

- مش هاينفع أقبل هدايا منك لأني عشان أقبل إعتذارك لازم أطلب منك طلب واحد...

همس بحماس: - أطلبي أي طلب يا نور... أي حاجة...

رفعت رأسها في تصميم وهي تقول: - تطلقني...!!!

أرتد في ذهول بينما صوت أبيه يرتفع مناديًا مذكرًا إياه بموعدهما، فنهض بيأس قائلاً:

- هاعمل لك كل اللي أنتِ عايزاه بس يا ريت تفكري في طلبك ده مرة تانية... وباطلب منك بس تسامحيني من جواكي... أنا هاروح مع أبويا مشوار وهارجع على بيتنا نكمل كلام.. هاسيب عربيتي مع ياسر يوصلك أنت وعيسى بيها لأني ممكن اتأخر... وأرجوكي خلي هديتي معاكي حتى لو مصرة على طلبك...

وقبل أن يخرج.. أنحنى على رأسها طابعًا قبلة خفيفة ثم قال:

- استودعك الله..

قالها ثم خرج إلى أبيه والحزن يحفر ملامحه بينما طلبت نور من تقى أن تبلغ ياسر أنها تريد العودة فورًا إلى منزلها في الحال... فبداخلها طوفانٍ هائل من دموع لن تتعرى منها أمام الجميع.. تريد أن تودع بيته وكل أشيائه قبل رحيلها الأخير.

– "طب فهميني مالك فيه إيه..؟"

كذا حاولت تقى فهم سبب أدمعها المحبوسة في سجن عينيها إلا أن نور كانت تحتضن عيسى بسيارة زين الجيب السوداء المنطلقة بها حيث الوداع الأخير وبجوارها تقى تحاول فهم أي شيء منها حتى...

"لا حول ولا قوة إلا بالله ... إيه ده...؟ إيه ده...؟؟؟؟"

كان ذلك صراخ ياسر الذي توقف فجأة بالسيارة التي تعبأت بدخان كثيف جعلهم يسعلون بشدة.. تركت نور عيسى وترجلت على أثر ياسر الذي هبط مهرولاً... لترى احتراق حتى آخر فرصة وداع... فبيت زين الذي قضت به أول ايامها معه... تندلع منه ألسنة اللهب بجنون قاتل.... صرخت في ألم وأنفجر طوفان دموعها أخيرًا... هبطت إليها تقى تحاول جرها بعيدًا عن البيت الذي كاد أن يصير رمادًا، بينما أخرج ياسر هاتفه يطلب المطافيء ثم هاتف زين الذي كان يقود سيارة أبيه بطريق شبه خال.

- "تلفونك بيرن يا ولدي.."

قالها الشيخ سليم فألتفت إليه زين للحظة يتناول هاتفه...

- حاااسب حااااسب يا زين....

صرخ أباه ليعود زين بعينيه إلى الطريق... من أين ظهرت تلك المقطورة فجأة...؟؟؟؟!! أخذ يدير المقود محاولاً تفادي الاصطدام الذي كان لا مفر منه... و... انقلبت السيارة عدة مرات... كلعبة أطفال ألقاها طفل حانق من علوٍ شاهق...!!!!

***

نهاية الجزء الثالث

أة


[1] سُدى ذهبت كل محاولاتي للمقاومة.
إنها لا تجدي نفعـًا، لا يُمكنني كتمان مشاعري.
لابد أن تسمحي لي أن أخبركِ عن شدة إعجابي وحبي لكِ






Just Faith غير متواجد حالياً  
التوقيع
//upload.rewity.com/uploads/157061451865811.jpg[/IMG]ستجدون كل ما خطه قلمي هنــــــاااااااااااا[/URL][/FONT][/SIZE][/B]
الشكر لصديقتي أسفة التي دائماً تشعرني بأن هناك من يشعر بدون شكوى



سلسلة حد العشق بقلوب أحلام

رواياتي السابقة بقلوب أحلام
أنتَ جحيمي -- لازلت سراباً -- الفجر الخجول
هيـــامـ في برج الحمـــامـ // للكاتبة: Just Faith *مميزة
فراء ناعـــمــ (4)- للكاتبة Just Faith-

عروس الأوبال - ج2 سلسلة فراء ناعم- * just faith *
سلسلة عشاق صنعهم الحب فتمردوا "ضجيج الصمت"

ودي مشاركاتي في سلسلة لا تعشقي اسمرا
https://www.rewity.com/forum/t326617.html
https://www.rewity.com/forum/t322430.html
https://www.rewity.com/forum/t325729.html
ودي رسمية
https://www.rewity.com/forum/t350859.html

خواطري في دعوني أتنفس
ديوان حواء أنا !!

شكرا نيمو على خاطرتك المبدعة
رد مع اقتباس
قديم 18-12-17, 01:47 PM   #28

Just Faith

مراقبةومشرفةسابقة ونجم روايتي وكاتبة وقاصة وملكة واحة الأسمر بقلوب أحلام وفلفل حار،شاعرة وسوبر ستارالخواطر،حكواتي روايتي وراوي القلوب وكنز السراديب

alkap ~
 
الصورة الرمزية Just Faith

? العضوٌ??? » 289569
?  التسِجيلٌ » Feb 2013
? مشَارَ?اتْي » 145,786
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » Just Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond repute
?? ??? ~
جروبي بالفيس (القلم وما يهوى)https://www.facebook.com/groups/267317834567020/
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

الجزء الرابع

الرحيــــــل إلى الغد

أيها الشبح الملثم بلثام الغيب، هل لك أن ترفع عن وجهك هذا اللثام قليلاً لنرى صفحةً واحدةً من صفحات وجهك المقنع، أو لا، فاقترب منا قليلاً علَّنا نستشفُّ صورتك من وراء هذا اللثام المُسْبَل دوننا، فقد طارت قلوبنا شوقًا إليك، وذابت أكبادنا وجدًا عليك.

أيها الغد، إن لنا آملاً كبارًا وصغارًا ، وأمانيَ حسانًا وغير حسان، فحدثنا عن آملنا أين مكانها منك، وخبرنا عن أمانينا ماذا صنعت بها، أأذللتها واحتقرتها، أم كنت لها من المكرمين؟.

الغد – مصطفى لطفي المنفلوطي

زهرة الياسمين الهندي

-1-

"هل كان علينا أن نسقط من عُلُوٍ شاهقٍ،
ونرى دمنا على أيدينا... لنُدْرك أننا لسنا
ملائكة.. كما كنا نظن"
محمود درويش – أثر الفراشة

***

حادث مؤلم يتعرض له أحد أعضاء برلمان الثورة

(المصري اليوم – 12 فبراير 2012)

مساء أمس، بينما كان في طريقه للقاء بعض ناخبي دائرته، تعرض النائب سليم رحيل العربي نائب دائرة الجيزة إلى حادث مؤلم على الطريق الدائري عقب اصطدام سيارته التي كان يقودها نجله الأكبر الأستاذ بكلية الزراعة الدكتور زين رحيل العربي بشاحنة ضخمة، مما أدى إلى إنقلاب السيارة.

تم إخراج النائب سليم العربي وابنه من السيارة بأعجوبة وتم نقلهما إلى مستشفى دار الفؤاد في حالة حرجة.

***

بعد كلمته الجريئة في آخر جلسة له بالبرلمان،

هل هناك علاقة بين تهديداته والحادث الذي تعرض له النائب سليم العربي؟

(وكالة أنباء الشرق الأوسط، القاهرة في الثالث عشر من فبراير 2012)

عقب التحقيق في الحادث الذي تعرض له النائب سليم رحيل العربي وابنه والذي تزامن مع نشوب حريق بمنزل العائلة في مدينة السادس من أكتوبر، حيث ثبت أن كلا الحادثين قد تما مع سبق الإصرار والترصد.. يمكننا الآن التساؤل هل لذلك علاقة بالتصريحات النارية التي أدلى بها النائب بالجلسة السابقة بمجلس الشعب ووعد بإثبات حديثه بالدليل القاطع بالجلسة القادمة؟؟!

أثمة علاقة تربط بين تصريحاته عن تجار المخدرات والسلاح المنتشرين بدءًا من الحدود الليبية مرورًا بالواحات حتى منطقة الساحل بالأسكندرية؟ أم هي كما أشاع البعض حادثين يتعلقا بالشرف والثأر بعد العثور على جثة ابنة شقيقة النائب سليم بالمنزل المحترق مع جثة رجل لم يتم التعرف على هويته...؟

***

فضيحة أحد نواب برلمان الثورة... قام بقتل ابنة شقيقته حرقًا ثم انتحر..!!

(اليوم السابع – 14 فبراير 2012)

عقب تمكن المطافئ من إخماد الحريق الذي نشب بمنزل عائلة النائب سليم العربي بمدينة السادس من أكتوبر وتمكن فريق الإنقاذ من إخراج جثة امرأة ماتت مختنقة قبل أن تنال النيران من بعض أجزاء من جسدها، وبعد تعرف أسرتها عليها، إذ تكون ابنة أخت النائب سليم العربي، كما أخرج فريق الإنقاذ جثة أخرى لرجل مجهول الهوية لم تتعرف عليه عائلة رحيل قضى نحبه بدوره مختنقًا قبل أن تنال النيران من بعض أجزاء من جسده. الجدير بالذكر أن الجثث التي تم انتشالها كانت شبه عارية ويبدو أن الحريق تم بفعل فاعل داخل حدود العائلة التي تتمركز في الواحات البحرية بصحراء مصر الغربية والتي يُعرف أهلها بالدماء الحارة وتكثر عندهم قضايا القتل من أجل الشرف والثأر وما إلى ذلك. والسؤال الذي يطرح نفسه هاهنا... هل قام النائب سليم العربي ونجله بإضرام النيران ببيتهم ليتخلصوا من ابنة العائلة الآثمة هي وعشيقها ثم طاردتهما لعنة ما اقترفته أيديهما لينالا عقاب السماء العادل بعد فعلتهما بدقائق معدودة..؟

***

ضج المكان بضحكاته الخشنة المتشفية... لطالما انتظر ذلك اليوم منذ أمدٍ طويل... لطالما راودته أحلام بالتخلص من ذلك النصل الموجه إلى عنقه مهددًا أمنه رغم كل المؤازرة التي يتلقاها من أعلى السُلطات؛ إلا أن ما أطلَّع عليه ابن العربي وما جمعه من معلومات كان يقض مضجعه ليل نهار ولولا أنه لم يتلق أوامر بسحقه إلا الآن لكان فعلها منذ أمدٍ بعيد.

- "على إيش بتضحك يا شيخ مناع لسة تحقيقات النيابة ما خلصتش..!"

لكنه شريكه في أعماله المشبوهة بقلقه وخوفه الدائم دائمًا ما يخرب علي لذة انتصاراته..!

- راح تخلص.. راح يتسكر التحقيق بفضيحة.. والناس ما تصدق تلاقي فضيحة تتكلم فيها وتكتب عنها..

قالها بجذل وقد ألتمعت عيناه ببريق مخيف مردفًا:

- حنَّا كنا نبغى نخلص الحكاية بنضافة... لكن الشيخ ساليم وولده صمموا على نهاية غير...

صمت قليلاً يأخذ نفسًا من أرجيلته ثم نفثه وهو يردف بلهجة شرسة:

- صمموا يكتبوا نهايتهم بيدهم... وساليم وعياله هياجوا تحت رجلي واحد واحد ... وراح ناخد حقنا منيهم صوح...

وعاد المكان يضج بضحكاته الشرسة التي أرتج لها قلب شريكه وهو يشهد خروج شيطان الانتقام من قمقمه بعد أن حرره الكبار الذي أخطأ سليم خطأً فادحًا بالعبث معهم ظانًا أن وضع بلد بأكملها سينقلب بين عشية وضحاها..!!!

***

العشرون من فبراير..

ليلةٌ غائمة بدأت بسحبٍ رمادية حُبلى مسها طائف من البرق فانفجرت..

تحولت إلى اللون الأسود ونزفت سيلٌ طاهر مغرقًا الأزقة والطرقات...

مع صراخ رعدي هادر ترتج له أراضي قلبها القاحلة مع ما ارتفع بوجدانها من سماوات..!

هل تحولت حياتها إلى شتاءٍ طويلٍ قارس البرودة...؟

أم هو حقًا قدر الرحيل الذي يطاردها في كل الطرقات والممرات حتى يصل بها إلى ساحات المشافي والمصحات..؟؟

روحها المبتلة كفرخ مذعور ترتجف بداخلها رغم قشرة الصلابة التي تبديها لمن حولها...

تبتهل وهي تتابع المطر الذي لم يكف عن الهطول...

تُشهر سيف الدعاء أمام قدر الرحيل...

يا الله... لا أطيقُ المزيد من الوداع...

يا الله لا تهدم اللبنات المتبقية من معبدي المتهدم فوق رأسي..!!

ويطل سؤالٌ قبيح مشوه وسط سيل أمطارها الداخلي يبتسم لها بأسنان نخرة يكشف شيء من ظلام روحها ويهمس "ألم تنغرس شظايا ذاك المعبد بعمق روحك أكثر من ألف مرة...؟ ألم تنتوي رحيلاً..؟ بل فرارًا بما تبقى لكِ من ماء وجه..؟ فلتقفي يا فتاة في صمت وتشهدي القدر وهو ينتقم لكِ ممن حسبتهم سندًا فدفعوك إلى حافة الهاوية... إنحني إحترامًا لعدالة السماء وصفقي لتدابير القدر..!"

لكن نظرة واحدة إليه وهو مسجى أمامها بلحيته النامية وقد اختفى جُل جسده أسفل الكثير من الضمادات... محت من ذاكرتها كل إساءة منه وبنت عوضًا عنها شعورًا متزايدًا بالهلع من فقدانه..!!! كيف تتشفى به وقد نمت براعم أنوثتها المسجلة باسم شفتيه لتتحول إلى حديقة وارفة... فردوسٍ صغيرٍ بأعلى مكان بوجدانها... لا يناله برد اللامبالاة ولا قيظ الحقد قط..!

واختفى السؤال القبيح في عتمته الإجبارية عندما ندَّت من قلبها شفقةٌ على ذلك الآخر الساقط في عالمٍ مظلمٍ لا قرار له...!

نعم... تشفق عليه وتدعو له فهو – رغم كل شيء – أحد أعمدة معبدها الذي تختبيء خلفه رغم تهدم جدرانه وعُري عمدانه اللهم إلا من بقايا ورق التوت...!

هي ليست نبية أو زاهدة ناسكة... وليست أيضًا مظلمة الروح إلى درجة التمتع بمراقبة الموت وهو يحوم بردائه الأسود حولها أو حتى التمتع بآلام آخرين قد تكون نالت منهم يومًا ما وخزات موجعة في طريقهم بدهاليز الحياة...!!

- "مدام نور... من فضلك.. من فضلك ماتسببليش مشاكل..."

انتفضت على همسات طبيب الرعاية المركزة الشاب، فاستدارت إليه بعينين منتفختين من البكاء والسهر، ليهمس بصوتٍ قد ازدادت حدته:

- مدام نور الزيارة انتهت من أربع ساعات ولو جه تفتيش ولاقوكي هنا أنا اللي هاتسئل فيها...

زفرت في ضيق ثم سألته مشيرة إلى زين:

- طيب أمتى يا دكتور يخرج من الرعاية...؟ ده بقى له أكتر من أسبوع بيقوم يهذي بكلام مش مفهوم ويرجع ينام تاني... أنتوا مش أكدتوا على نجاح العملية...؟؟

تلفت الطبيب حوله في قلق ثم همس لها سريعًا علَّه يتخلص من وجودها غير المرغوب به:

- يا مدام زوجك مر بأكتر من عملية كبيرة ومش سهلة ولازم نتابعه بدقة... وزي ما الدكتور راغب قالك.. رجله الشمال أنكسرت تمامًا وثبتنا الكسر بشريحة وسبع مسامير ورجله اليمين حصل فيها كسر برضه وثبتناه بمسمارين.. ده غير الأربع كسور اللي في الحوض وإنخلاع مفصل الحوض الشمال... غير الشظية اللي دخلت صدره وكانت قريبة أوي من الرئة... وطبعًا حضرتك عارفة آلام العضم بيبقى شكلها إيه، فأحنا لحد دلوقتي بندي له مسكنات قوية زي الترامادول والمورفين فتلاقيه نايم أغلب اليوم، بس هانقلل المسكنات تدريجيًا من بكرة إن شاء الله زي ما دكتور راغب قال، وكلها كام يوم وننزله أوضة عادية في المستشفى وتقدري تتواجدي معاه براحتك.. بس أرجوكي تتفضلي دلوقتي عشان ماتسببليش مشاكل...

تنهدت في وجع وهي تتأمله محاطًا بالأسلاك والأنابيب المغذية من كل مكان... مسبلاً جفنيه... توجهت إليه.. أنحنت نحوه ممررة يدها على وجهه الذي بللته أدمعها ثم قالت بصوت مبحوح وكأنه قد يسمعها "هاجي لك بكرة إن شاء الله.." قالتها ثم نزعت نفسها من جوار فراشه لتخرج إلى ساحة العناية المركزة الصامتة إلا من هدير الأجهزة وشيء من الأنين الخافت، بينما كاد الطبيب الشاب يُجن وهو يراها تتوغل إلى الداخل بدلاً من الخروج وتتوجه إلى قسم آخر بالرعاية.. تُزيح ستارته وتدلف حيث عمها الراقد في سكون تام مغمض العينين لا تحيط به سوى بعض الضمادات حول رأسه بالإضافة إلى أسلاك رسم القلب وأنابيب التغذية، وقبل أن يعترض الطبيب كانت تطبع قبلة على جبين عمها المُضمد وتهمس له كدأبها كل يوم "مسامحاك يا عمي.. والله مسامحاك... أرجع بقى.." والمزيد من الدموع... والمزيد من تذمر الطبيب مطالبته لها بالرحيل لتغادر المشفى وتسير أسفل سماء فبراير المطيرة تُلقي نفسها في أول سيارة أجرة وقلبها يصرخ اشتياقًا لصغيريها اللذين لم ترهما منذ الصباح.

***

لكن... ماذا جنت كي تتعرى لها الحياة بأسوأ صورها هكذا..؟

ماذا جنت كي لا ترى سوى الوجه الدميم لهاك الشبح الأسود القابع أمامها ليل نهار..؟؟

لقد كانت تحمي عائلتها من لصوص الليل.. من الطفيليات المنتنة التي قد تغتذي عليها دون وجه حق..!

لكن مهلاً... ألم تصبح هي كائن طفيلي لا فائدة مرجوة من وجوده...!!

ويجيبها شبحها القبيح.. جليس وحدتها ومحاور صمتها...

يخبرها... أنتِ التي زرعتِ بذرة البهتان لتطرح ثمارًا عفنة تناولها في نهم أقرب الناس إليك...!

"والدنيا دوارة..." جملة يتردد صداها في كيانها دون توقف...

"أنتِ من كتبتِ نهايتها... أنتِ من بدأتِ القصة وتلك هي النهاية.. "

أخذت تنتفض وتتمتم بكلمة واحدة وهي تحاول النيل من ذلك الشبح القميء الذي لا يفارقها..!

- "ما قتلتها... ما قتلتها..."

تصرخ وتهذي فتخرج الحروف بغير تناسق من نصف فمها الأيمن الذي يمكنه الحركة، ذلك عندما جائت تحتضنها في حنو محاولة تهدئتها، لكن ببرائتها ورقتها تتجسد آثامها فتزيد هياجًا..!

"ياسر.. يا ياسر تعالى بسرعة..."

صاحت تقى بعد أن فشلت في السيطرة على هياج عمتها ليأتي ياسر مهرولاً يحمل بيده محقنًا يحقن به أمه ثم يجلس على ركبتيه أرضًا بين يديها تترقرق عيناه بالدموع.. يدلك كفي أمه وهو يقول:

- كفاية يا أمي... أرجوكي كفاية ماتعذبيش نفسك وتعذبيني أكتر من كدة...

لكنها تجذب كفها الأيمن الذي لازالت بإمكانها تحريكه وتسند رأسها عليه وهي تهذي بخفوت "ما قتلتها... ما قتلتها... آاااااه يا بتي... آااااااااه..."

وترتفع دقات الباب فتجر تقى رجليها إليه لتفتح لشقيقتها تسألها عن أحوال من بالمشفى لتتلقى الجواب ذاته بينما يعود صوت عمتهما يرتفع قليلاً بهذيانها لتتسائل نور:

- هيا لسة على الحال ده من أمبارح...؟

فتجيبها تقى: - هيا على الحال ده من ساعة ما خرجت من المستشفى أول إمبارح... تقعد تتكلم وتزق بإيدها السليمة حاجات وهمية... لحد ما ياسر يديها المهدئ... شوية وتنام...

طبعت نور قبلة على جبين شقيقتها التي أعياها الحمل والحزن ورعاية عمتها وتخفيف حزن زوجها على رحيل أخته، ثم قالت:

- ربنا معاكي يا حبيبتي..

أومأت تقى في صمت أعقبته بسؤال:

- أحضر لك العشا دلوقتي...؟

- لا يا حبيبتي أنا أكلت في كافيتيريا المستشفى... أنا هنااام عشان هقابل المهندس اللي بيصلح البيت بكرة وأشوف وصلوا لحد فين في الشغل قبل ما أروح المستشفى... تصبحي على خير..

وكادت أن تذهب إلى الغرفة التي تحتلها مع صغيريها، إلا أنها عادت متسائلة:

- أمال فين طنط نجاة وزهرة..؟

قالت تقى في إشفاق:

- طنط نجاة مابتبطلش عياط من الصبح لبليل وحابسة نفسها في أوضتها... زهرة بقى من الفجر مع الولاد هيا اللي شايلة مسئوليتهم مع محاولة تصبير أمها وزمانهم ناموا...

لقد ضمهم ذلك البيت الدافئ الذي صار يسعهم جميعًا رغم صغره مقارنة ببيت الواحات الضخم، إلا أنهم لم يجدوا أمام موجتي الحزن والوجع المدمرتين سوى التشبث بعضهم بعضًا... حتى لا ينهدم المعبد... تمامًا.

******

- "مـ... ماما... ليه كل يوم تخرجي الصبح وماشوفكيش... عمتو زهرة بتقولي إني هاشوفك قبل ما أنام بس برضه بأنام قبل ما تيجي..."

كلماته البريئة تشطر قلبها وجدًا على صغيرها الذي عانى من انشغالها قبلاً مع مرض أبيه حيث كانت تتركه مع إيفا للاعتناء بزكريا واليوم تعاود تركه أغلب يومها الذي تقضيه ما بين المشفى والإشراف على إعادة بناء وتأثيث منزل زين.

- حبيبي... مش قلت لك أن عمو زين في المستشفى ولازم أكون جنبه لحد ما يخرج إن شاء الله...

اتسعت عينا الصغير في فزع وهو يقول:

- عـ... عمو ز.. زين لسة في المستشفى...؟ يعني هايروح عند ربنا زي بابا...؟؟؟

شهقت زهرة التي كانت تتابع حديث الصغير بإشفاق ووضعت يدها على فمها تمنع عبراتها، بينما أخذت مايا تتابع الموقف من موقعها على الفراش متكومة على نفسها، أما نور فقد أخذت عيسى بين ذراعيها تربت على رأسه ثم قالت بشرود وعينين لم تجف عبراتها:

- لأ يا حبيبي إن شاء الله يقوم بالسلامة ويرجع لنا.. أنت بس أدعي له كتير أتفقنا..؟

أومأ برأسه وهو يقول يهمس:

- يا رب عمو زين يرجع عشان أنا باحبه أوي... كان بيذاكر لي ويوديني النادي وأما رجع من السفر جاب لي لعب حلوة كتير... يا رب خليه يخف وماتاخدهوش عندك زي بابا...

لم تتمالك زهرة دموعها التي أنهمرت كشلال وهي تتناول عيسى من بين ذراعي أمه تحتضنه بقوة، أما نور فقد توجهت إلى مايا تحتويها بدفئ بين ذراعيها هامسة:

- عارفة إني أنشغلت عنكم كتير بس إن شاء الله أطمن على بابا وأخدكم أفسحكم ونلعب مع بعض...

كانت مايا هادئة.. اعتادت ألا تناقش أو تجادل.. تتأقلم مع ظروفها واختياراتها بهدوء دون تذمر، وقد كانت نور واعية لطبيعتها الكتومة تلك التي ربما كانت السبب في خرسها الاختياري الذي تعمل تقى – رغم كل شيء – على محاولة علاجه، لذا فكانت نور حريصة دائمًا على التحدث مع مايا وشرح كل شيء لها حتى لا تتسبب في تفاقم أزماتها النفسية دون قصد.

طرقات خفيفة على الباب أعقبه دخول تقى التي قالت:

- أنتوا مش نازلين واللا إيه...؟

طبعت نور قبلة على وجنة مايا ثم نهضت قائلة:

- لأ نازلين حالاً.. مش عايزة أتأخر على المهندس هيثم عشان هاديه دفعة من حسابه وأشوفه خلص إيه في البيت وناقص إيه وزهرة هاتروح المستشفى...

ناولتها تقى مفتاح ما وهي تقول:

- طيب ياسر قالي أديكي ده...

عقدت نور حاجبيها ثم قالت: - إيه ده...؟

أجابتها شقيقتها: - ده مفتاح عربية زين... مش استلمتي رخصتك خلاص..؟

قالت نور: - لا يا بنتي خليها مع الدكتور ياسر وأنا هاشتري عربية صغيرة كدة و...

قاطعتها تقى بحسم:

- يا حبيبتي ياسر عنده عربية والده... وبعدين دي رغبة جوزك...

ازداد انعقاد حاجبي نور بغير فهم لتردف تقى بعد تنهيدة حارة:

- وكأن قلبه حاسس إن هايحصل حاجة... قال لياسر يديكي العربية وتبقى معاكي أنتِ.. عشان لو الولاد احتاجوا حاجة وهوا مش موجود تعرفي تتحركي بسهولة...

تناولت نور المفتاح بوجوم وقلبها يخفق بعنف، بينما علت نهنهت زهرة التي نهضت قائلة:

- ياللا بينا يا نور عايزة أشوف أخويا وأبويا...

وخرج ثلاثتهن إلى الردهة ليجدن نجاة قد أرتدت ملابسها وتجلس بجوار الباب ممسكة بحقيبة يدها بينما عينيها قد تورمتا وصارتا بلون الدماء من كثرة البكاء.

- "بتعملي إيه يا أمي...؟ روحي نامي وريحي شوية..."

- أبغى أشوف ولدي... أبغى أشوف أبوك...

- يا ماما ممنوع أكتر من حد يدخل...

- يبقى أدخل لهم أنا... ولدي... ولدي وأبو عيالي بيوم واحد يا رب... يا رب اللهم لا اعتراض... يا رب برد قلبي يا رب وردهم لي... يا رب وجع الصغير ما راح بعده.. والله بعده ما راح...

وكزت نور ابنة عمها بخفة ثم قالت:

- هما بخير يا طنط والله... والدكتور قال لي إن زين خلاص هايطلع خلال كام يوم من الرعاية...

أخذت نجاة تطرق صدرها بكفها وهي تقول:

- ولدي... يا قلبي يا وليدي... أبغى أشوفه... أبغى أشوفه يا بتي...

تبادلت نور وزهرة النظرات، ثم قالت الأولى بحسم:

- طيب ياللا بينا... تعالي أطمني عليه بنفسك..

وأنطلق ثلاثتهن بالسيارة الجيب السوداء وبداخل كل منهن يرتفع صرح خوف الفقد والحزن.. واحدة يلتهمها الهلع من فقد الزوج والابن الثاني والأخرى تخشى ضياع الأب الحنون والأخ الصديق أما الثالثة فلا تدري كيف تنعي قلبها الذي لم يكد يتنشق عبارات الحب حتى جاءت صفعة القدر بقرب فقد الحبيب أو على أقل تقدير عجزه..!

***

وكاد فبراير الحزين أن ينقضي ولازال أحدهما غارقًا في صمته...

والآخر غارقًا في عالمٍ آخر لا يبرحه...

هاهي تعسكر بغرفته.. تخشى عليه مخالب أفكاره السوداء التي تمزق روحه أكثر من خشيتها من جراحه...

فمنذ أن أفاق... منذ أن بدأ الوجع يمزقه... منذ أن علم أنه لا يمكنه تحريك ساقيه... استسلم..

استسلم لشلل إرادة وهلاوس العجز تعيث بعقله فسادًا.

- "تحب أحلق لك دقنك..؟" كذا سألته هذا الصباح، فأشاح بوجهه عنها قائلاً بخشونة:

- لأ... عايزها كدة...

وخيم المساء.. خفتت أضواء الغرفة إلا من ضوء ضعيف بجوار الفراش أخذت تتأمله على شعاعه الواهي.

مسبل الجفنين... يرسم الألم خريطته الواضحة على تعابير وجهه... ودت لو تمسح عليه بيدها.. ودَّت لو تزيل آلامه بمسحة من يدها... ودَّت لو تلثم عنه أفكاره السوداء... ودَّت لو تخبره أنه يكفيها وجوده.. متعجبة من أفكارها الجديدة عليها... ما الذي أيقظ تلك المشاعر.. أهو الخوف من الفقد أم هي الشفقة..؟

"يا عم يا عم عالرومانسية... إيه النظرات الولهانة دي بس...!"

كانت همسات زهرة التي دخلت الغرفة لتوها تخبرها دون مواراة عن مشاعرها التي تفضحها نظراتها.. لكن كيف وصلت إلى تلك الدرجة من العشق وهي كانت تطلب منه الطلاق قبل الحادث مباشرة..!!!!

نهضت من جواره لتجذب زهرة بعيدًا بالغرفة الغارقة في الظلام وهي تهمس لها:

- شششش... ما صدقت نام... الدكتور منع المسكنات القوية وشغال على مسكنات عادية وتعب أوي النهاردة...

شعرت نور بابتسامة زهرة وهي تهمس:

- حاضر يا ست نور مش هانصحي حبيب القلب بس أنت ماكلتيش من الصبح.. أنا روحت أشوف بابا وجبت لك أكل...

أجلستها نور على أريكة بأقصى الغرفة المظلمة وهي تقول هامسة:

- مش هاكل دلوقتي... أطمن بس أن محلول المضاد الحيوي خلص من غير مشاكل وأبقى أطلع برة أكل بسرعة و.....

قاطعها صوت الباب وهو يُفتح أعقبه دخول شبحي امرأتين تتضاحكان.

- "راجل أوي يا بنتي... حتى بتكشيرته زي العسل... تعالي شوفيه وأحكمي.."

- "يا مجنونة يا هبة هاتودينا في داهية بطلي معاكسة في المرضى.."

- "يا بت والله الراجل ده غير.. تحسيه طالع من فيلم أبيض وأسود... حاجة كدة صالح سليم على أحمد مظهر.."

ضحكت الأخرى بخفوت وهي تقول:

- "أخرسي بقى مش قادرة أمسك نفسي هايصحى ويبهدلنا، خلينا نديه الحقنة في سكوت ونمشي..."

وتوجهتا إلى فراش زين الغافي... كشفت إحداهما بطنه و...

- "أنتي بتعملي إيه لو سمحتي...؟؟"

انتفضت الممرضة في وجل وهي تتطلع إلى نور التي ظهرت أمامهما فجأة، بينما قالت زميلتها:

- باسم الله الرحمن الرحيم بيطلعوا أمتى دول...؟؟

أضائت نور أنوار الغرفة وهي تقول بصرامة:

- بيطلعوا للعالم الهايفة اللي ماوراهاش حاجة إلا القذارة...

تمالكت الأولى نفسها وهي تعيد تسديد المحقن إلى زين وهي تقول:

- من فضلك يا مدام... خلينا نشوف شغلنا...

إلا أن نور أمسكت يدها بعنف قائلة بصرامة:

- جدول العلاج اللي الدكتور راغب كاتبه أنا حافظاه زي اسمي ومافيش أي حقن دلوقتي... ماهو يا إما تقولي لي حقنة إيه دي يا إما تتفضلي تطلعي برة...

اقتربت زهرة في توتر وهي تهمس لنور:

- خلاص يا نور... هما أكيد فاهمين شغلهم... سيبك منهم..

إلا أن نور لم ترد عليها وسددت نظرة قاتلة إلى الممرضة التي فرقعت علكتها وهي تقول ببرود:

- هاتفهمي يعني أما أقول لك اسم الحقنة...؟ دي حقنة هيبارين... ممكن تسيبي إيدي بقى... أووف..

زفرت نور بغيظ وهي تقول:

- لأ طبعًا مش هاسيب إيدك...

كان زين قد استيقظ وأخذ يراقب الموقف من خلف أهدابه المسدلة بلا مبالاة، بينما هتفت الممرضة:

- يا مدام مايصحش كدة... ماتخلينيش أجيب لك الأمن...

جذبتها نور هاتفة: - أنا اللي هاجيب لك الأمن والشرطة عشان اللي بتعملوه ده اسمه استهتار..

تدخلت زهرة تحاول تخليص الممرضة من يدي نور قائلة:

- فيه إيه يا نور...؟ إيه المشكلة بس..؟

- المشكلة..؟ المشكلة أن الست هانم باستهتارها كان ممكن تسبب لأخوكي نزيف لأنه لسة واخد الحقنة دي من ساعتين... ودي حقنة بتتاخد كل أربعة وعشرين ساعة.. وأي جرعة زيادة ممكن تسبب نزيف...

بهت وجه الممرضة وهي تتمتم:

- إز... إزاي واخدها من ساعتين... الكلام ده مش متسجل...

دفعتها نور قائلة: - إزاي يعني ماتسجلتش..؟

ارتعدت الممرضة وهي تقول: - أ... أنا لسة مستلمة الشيفت والممرضة اللي قبلي ماسجلتش أنه خد الحقنة فقلت أجي أديهاله...

عقدت نور ذراعيها على صدرها وهي تقول: - طيب تمام... أنا عايزة مدير المستشفى دلوقتي حالاً.. عشان التسيب ده مايتسكتش عليه...

كانت الممرضتان ترتعدان وقالت إحداهما:

- يا مـ.. يا مدام خلاص... يعني بلاش تكبري الموضوع أنا مش هاديه الحقنة وهاسجلها و..

طرقت نور بيدها على طاولة الطعام المتحركة أمامها هاتفة:

- أنا قلت عايزة مدير المستشفى دلوقتي والدكتور راغب وهاكلم الظابط اللي كان بيحقق في الحادثة من كام يوم...

لطمت الممرضة على وجنتيها وهي تقول: - يا لهوي... ظـ.. ظابط إيه يا مدام مش مستاهلة...

توجهت نور إلى الهاتف تطلب حضور أي مسئول بالمستشفى، بينما تسللت الممرضتان لتخرجا من الغرفة، فتنخرط زهرة في الضحك قائلة:

- بالراحة يا كبيرة مش كدة.. غلط وارد والحمد لله أنك لحقتي الموقف...

زفرت نور قائلة: - غلط ممكن يتسبب في مصيبة يا زهرة.. واللي غلطت لازم تتعاقب دي أرواح ناس كفاية استهتار..

وكزتها زهرة قائلة بخبث: - يعني ده بس اللي خلاكي تنفجري في الممرضة المسكينة..

- قصدك إيه يا زهرة..؟

ضحكت زهرة وهي تشير برأسها إلى شقيقها مردفة:

- يعني... قصدي أن الغيرة اشتغلت أما لاقيتيهم بيغازلوا الباشمهندس.. وماصدقتي تلاقي حاجة تـ..

"مساء الخير.."

قاطع حديثها ذلك الصوت الرجولي اللأجش لطبيب شاب دخل الغرفة خافضًا بصره، فردت نور:

- مساء النور يا دكتور بدر..

كان طبيبًا أسمر البشرة طويل القامة عريض المنكبين، يتحدث مطرقًا بوجهه في حياء نادر.

- فيه إيه بس يا مدام نور..؟

- من فضلك يا دكتور بدر أنا عايزة الدكتور راغب ومدير المستشفى...

- الدكتور راغب سافر مؤتمر يومين وأنا هنا بداله.. قولي بس فيه إيه وهاعمل اللي يرضيكي...

قصت عليه نور ما حدث ثم ختمت قائلة:

- طبعًا ده تسيب وإهمال واللي تقصر في حاجة زي كدة ممكن تقصر في حاجات أخطر..

همست زهرة: - خلاص بقى يا نور ما تبالغيش...

رفع الطبيب رأسه قليلاً لتلتقي عيناه بعيني زهرة التي تورد وجهها وأطرقت أرضًا بدورها، ثم قال:

- معاكي حق يا مدام نور.. أنا هابلغ المدير الإداري وأخليكي تقابليه بنفسك...

قالها ثم توجه للخروج، إلا أنه وقف قليلاً عند باب الغرفة واستدار يلقي نظرة خاطفة، ثم تابع طريقه.

- "مين الدكتور بدر ده..؟ أول مرة أشوفه..!!"

تسائلت زهرة، فقالت نور:

- ده دكتور بدر المنياوي جراح عظام صاعد تلميذ الدكتور راغب.. بيشرف على حالات الدكتور راغب وقت ما يكون الدكتور راغب مشغول أو مش موجـ...

إلا أنها قطعت عبارتها وهي تلمح ذلك الطبيب الوسيم الوافد إليهما بخطوات واسعة بمنظاره الطبي ورأسه الأصلع وهو يتسائل عن ماهية ذلك الأمر الخطير الذي استدعوه من أجله و...

"نووور.......؟؟؟؟"

"دكتور هشاااام....؟؟؟"

*******


Just Faith غير متواجد حالياً  
التوقيع
//upload.rewity.com/uploads/157061451865811.jpg[/IMG]ستجدون كل ما خطه قلمي هنــــــاااااااااااا[/URL][/FONT][/SIZE][/B]
الشكر لصديقتي أسفة التي دائماً تشعرني بأن هناك من يشعر بدون شكوى



سلسلة حد العشق بقلوب أحلام

رواياتي السابقة بقلوب أحلام
أنتَ جحيمي -- لازلت سراباً -- الفجر الخجول
هيـــامـ في برج الحمـــامـ // للكاتبة: Just Faith *مميزة
فراء ناعـــمــ (4)- للكاتبة Just Faith-

عروس الأوبال - ج2 سلسلة فراء ناعم- * just faith *
سلسلة عشاق صنعهم الحب فتمردوا "ضجيج الصمت"

ودي مشاركاتي في سلسلة لا تعشقي اسمرا
https://www.rewity.com/forum/t326617.html
https://www.rewity.com/forum/t322430.html
https://www.rewity.com/forum/t325729.html
ودي رسمية
https://www.rewity.com/forum/t350859.html

خواطري في دعوني أتنفس
ديوان حواء أنا !!

شكرا نيمو على خاطرتك المبدعة
رد مع اقتباس
قديم 18-12-17, 01:49 PM   #29

Just Faith

مراقبةومشرفةسابقة ونجم روايتي وكاتبة وقاصة وملكة واحة الأسمر بقلوب أحلام وفلفل حار،شاعرة وسوبر ستارالخواطر،حكواتي روايتي وراوي القلوب وكنز السراديب

alkap ~
 
الصورة الرمزية Just Faith

? العضوٌ??? » 289569
?  التسِجيلٌ » Feb 2013
? مشَارَ?اتْي » 145,786
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » Just Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond repute
?? ??? ~
جروبي بالفيس (القلم وما يهوى)https://www.facebook.com/groups/267317834567020/
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

- 2 –
” ولأننا محملون بقدر كبير من الغباء، لانرتاح إلا إذا كسرنا أجمل الأشياء فينا“
واسيني الأعرج - طوق الياسمين
***
قد تجذب امرأة فاتنة نظر الرجل للحظات... ويستمر تأثيرها لعدة ساعات؛
بينما قد تسلب امرأة صادقة عقل الرجل لساعات... ويستمر تأثيرها لعدة أعوام.
وهي امرأة صادقة مع نفسها مخلصة لمبادئها.. عفوية في تعاملاتها...
هي امرأة لا تُنسى...
شفافة كالضوء... واضحة كالماء.. غامضة كالعلن المتقن حد الإرباك...!
هي امرأة لا تتكرر كثيرًا...
ترفض بإباء سحر الطبقة المخملية لتحيك بأناملها الدقيقة معجزاتها...
هي امرأة لا تلتفت لما سقط منها...
كانت خيالاً يصعب تصديقه... وواقعًا أكبر من عقله.
"نور..!"
يردد اسمها مرة أخرى غير مصدق، لتخفض عينيها هامسة
"أهلاً دكتور هشام.."
آسرةٌ هي بخجلها الكبير ووجهها المطرق أرضًا.
- يااااه يا نور... أد إيه الدنيا صغيرة...
- أحم.. أ... المهندس زين رحيل العربي ابن عمي وزوجي..
- هوا ده بقى اللي سيبتيني وسيبتي الكلية كلها عشانه...؟ يا بخته بيكي بجد...
وارتجافة مست أطرافها، والتفاتة نحو زين الذي كانت تقف يمين فراشه ثم إلتجاء لكفه عندما رأته نائمًا، فأمسكت بيده تنشد دعمًا ولو واهيًا.
- دكتور هشام... لو سمحت أنا عايزة أي مسئول هنا في المستشفى...
وعودة لنبرة الجد الحاسمة منعًا للمزيد من التمادي، لينظر إليها هشام الواقف بالناحية الأخرى من فراش زين قائلاً بشيء من الفخر:
- أنا المدير الإداري هنا... إيه المشكلة...؟
عقدت حاجبيها في دهشة لم تلبث أن تلاشت وهي تتذكر منصب أمه التي قد تتوسط لتعيينه مديرًا لذلك المشفى الضخم رغم صغر سنه، ثم قصت عليه تقصير الممرضة التي أعطت زين علاجًا دون تسجيله لكن رده عليها كان أبعد مما تخيلته...!
- للدرجة دي بتحبيه....؟؟
رجفة أخرى مرت بجسدها فشددت من قبضتها حول كف زين وهي تعقد حاجبيها قائلة بحدة:
- دكتور هشام... من فضلك... يا ريت تتكلم معايا بعملية... يا إما تجيب لي حد تاني أكلمه..
لكنه أصر على مجرى حديثه..
- أصل نادرًا ما بتلاقي زوجة مهتمة بزوجها كدة لدرجة معرفة مواعيد علاجه وبتحميه بكل قوتها و...
"فيه إيه يا هشام إيه اللي حصل...؟"
صوت أنثوي حاد أطل عليهم مع عطر نفاذ، ليستديرا نحو تلك القادمة بسرعة يطرق كعبي حذائها أرض الغرفة ويتطاير معطفها الأبيض المفتوح مبديًا تنورتها القصيرة.
"سارة..؟" تسائل هشام وقد بدا الضيق على وجهه
- فيه إيه يا مدام إيه اللي حصل ممكن تفهميني...؟
تسائلت تلك الطبيبة التي دلفت إلى الغرفة، فنظرت نور إليها باستفهام لتجيبها وهي تمد يدها:
- دكتورة سارة الميهي رئيسة قسم الجلدية والتجميل...
صافحتها نور ثم عقدت ذراعيها على صدرها وهي تقول ساخرة:
- لا يا دكتور... حضرتك دخلتي غلط.. ده قسم العظام مش التجميل...
حدجتها سارة بنظرة غاضبة عبر عينيها ذات العدسات اللاصقة السماوية ثم قالت:
- أولاً أنا جاية بتكليف من رئيس مجلس الإدارة الدكتور مدحت الميهي.. والدي زي ما هو واضح... ثانيًا الدكتور هشام أبو النجا يبقى جوزي يعني تتكلمي وتقولي لي إيه الحاجة الفظيعة اللي تستاهل تقلبي الدنيا عليها كدة...!
كان هشام مطرقًا أرضًا لا ينبس ببنت شفة، فنظرت نور إلى سارة وقصت عليها ما حدث لتقول تلك الأخيرة:
- ياااه كل ده عشان حقنة هيبارين...؟ على فكرة الهيبارين مش سم والأعراض الجانبية للجرعة الزايدة مش بتموت.. ومع ذلك خلاص أنا هاشوف التقصير فين ومين السبب في كدة وأعاقبه تمام..؟
قالتها ثم استدارت تدفع هشام من كتفه قائلة:
- ياللا بينا يا دكتور هشام مش ناقصين إحنا...
ورحلت بسرعة كما جائت كعاصفة هادرة مرت سريعًا ورحلت سريعًا، فزفرت نور في ضيق وهي تدرك جيدًا أن ذلك الفساد المستشري والذي يُعرف به التمريض المصري لن يتم التعامل معه بجدية ومسئولية.
حانت منها إلتفاتة إلى زين لتجد عيناه الأبنوسيتان تشملانها بتدقيق جعلها تتوتر بينما هو ينقل عينيه بين وجهها ويدها المتشبثة بكفه كطفلة، وقبل أن تسحب يدها في خجل كان هو الأسبق بسحب كفه من بين أصابعها ثم الإشاحة بوجهه بعيدًا، ففركت كفيها بتوتر وهي تقول:
- أنت كويس...؟!
عاد ينظر إليها مضيقًا عينيه وهو يقول:
- مين الدكتور الملزق اللي اسمه هشام ده...؟
خفضت عينيها إلى الأرض ثم قالت:
- كان أستاذي في الجامعة...
- بس...؟
سؤاله يدل على سماعه لكل حرف نطقه هشام... ويطالب تفسيرًا..! فرفعت عينيها إلى أعلى ثم عادت إليه قاصة تفاصيل أول من طرق باب بيتها طالبًا يدها وكان الرفض من نصيبه. لكن إنعقاد حاجبيه وشى بعدم تصديقه لقصتها حيث قال:
- يعني هوا كان معيد في الكلية بتاعتك وجه يتقدم لك فجأة كدة ورفضتيه على طول ولسة فاكرك لحد دلوقتي...؟؟؟
هنا تدخلت زهرة لتمنع إنزلاق شقيقها في هوة الشك السحيقة وحصر زوجته المسكينة بزاوية هناك، فقالت في مرح:
- آه يا زين لو تشوف نور وهيا كانت هتاكل الممرضات عشان كانوا هايدوك حقنة غلط...
ضحكت نور بتوتر بينما بدا زين شاردًا فتأملته نور لتشرد بدورها في تفاصيل وجهه المشدودة... تفكر في كيفية إزاحة تلك الغمامة التي تسقط على عقله تشوش أفكاره كلما سحقته الحياة بين رُحاها..! تفكر..
"كيف أبدد ذلك الدخان الذي يكتنف عقلك كلما شردت أمامي هكذا... أدرك ذلك من حاجبك الأيمن المرتفع قليلاً.. من عينيك اللتين ضيقتَ الرؤية عليهما بخفض بوابتي أهدابك السوداء... كيف اختطف ذلك العجوز الذي لا يكف عن التدخين القابع في الركن المظلم من عقلك يحيك الأساطير ويعبق دخانه المسرطن وجدانك...؟ كيف أمزق تلك الحُلَّة السوداء التي يتسربل بها عقلك عندما يهبط للقاء ذلك العجوز المقيت في الدرك الأسفل من الوعي..؟ كيف أدحض جدلية أفكارك المعطوبة التي أرهقني تشبثك بها باختلال..؟ وأنا أنثى الضوء... أكره الدخان والظلام والمعاطف السوداء.. أمقت التخبط بين جدران الشك والأنصهار تحت لهيب نظراتك المرهقة التي تجول في تفاصيل وجهي بحثًا عن حقيقة أخرى ربما..! لكن أعدك ألا يتراجع صدقي بهزيمة وانسحاب في مواجهة مدخنة أفكارك التي تنفث السم... فإذا كنت رجلاً غَشَت عيناه أدخنة الخديعة حتى صار لا يفرق بين الحقيقة الناصعة والكذب... فدعني أبقيك على قيد الحيرة قليلاً.. سأكون أمامك... كقطعة البازل المفقودة في لوحتك الأخيرة.. تلك التي يسهل تخمينها ويستعصى على عقلٍ مشوش بدخان أسود إيجادها...!"
وانتبهت من شرودها على نظراته المتشككة التي تجول وجهها الشارد فقابلتهم بابتسامة الواثق.. وكانت ابتسامتها من أعتى أسلحتها التي أنهزمت أمامها عيناه فأشاح بوجهه كي لا يطالب شفتيها بما يفوق الابتسامة ويوغر صدر عجزه.
***
- على فين...؟
- نازل أتمشى شوية..
- طيب خدني معاك عشان خاطري..
- ماينفعش هقابل أصحابي...
- أنا زهقت بقى... وتعبت... تعبت بجد والله...
- يعني أنا اللي مبسوط أوي... ما تقدري حالتي شوية...
كان ذاك حوارهما الذي تحول إلى صراخ عند باب المنزل... حيث كانت جملته بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، فصرخت به:
- بقى أنا مش مقدرة حالتك..؟ أنا يا ياسر...؟
زفر بغضب وهو يقول:
- يعني أختي ماتت وأمي جالها شلل نصفي ومستكترة عليا إني أتنفس شوية...؟؟
أنهارت دموعها على وجنتيها وهي تقول:
- وأنا شايلة ومستحملة ومقدرة بقالي شهر وباقول بكرة يتحسن ويرضى بالقدر ويخرج من عزلته... كانت نور وزهرة بيهونوا عليا شوية... بس خلاص نور وزهرة ومرات عمي راحوا بيت أكتوبر وبقيت لوحدي... باكلم الحيطان... مش مقصرة مع عمتي ولا مع بنتي وبحاول أنسى تعب الحمل... وأقول ياسر مش هاهون عليه... بس أنا بشر يا ياسر وكل واحد منا له طاقة...
عادت حالة اللامبالاة تتلبسه وأكمل طريقه نحو الباب وهو يقول:
- يعني عايزة مني إيه..؟ هااه...؟ أعمل لك إيه..؟ الستات في بلدنا بحملوا ويولدوا وبيشيلوا بيت عيلة باللي فيه بيطبخوا ويعجنوا ويخبزوا.. واللا عشان بقالك شهر شايلة شوية مسئولية هاتبدأي تعيطي زي العيال..؟ أكبري يا هانم وخليكي زي بقية الستات وقدري الظروف شوية... الدلع اللي كنتي فيه وكل يوم والتاني تعبانة مش قادرة أطبخ ناكل أي أكل من برة خلاص بح... عندك طفلة والتاني جاي يعني بقيتي أم مسئولة.. أكبري شوية زهقتيني..
قالها ثم خرج وصفق الباب خلفه، فأرتدت تقى إلى الخلف وهي تضع يدها على فمها بينما ازداد نحيبها وبكائها وهي تشهد تحول حبيبها مائة وثمانون درجة... من هاك المسخ الذي سكب عليها دلوًا من الماء المثلج جمد أوصالها ومزق نياط قلبها...؟؟ أهو الحزن أم الغضب الذي حوله إلى ذلك الرجل الذي يلقي بالكلمات الجارحة دون تقدير لامرأة بذلت كل جهدها للتخفيف من حزنه ورعاية أمه..؟ كيف يلقي عليها التهم جزافًا..؟ كان قلبها ينبض بعنف وحزن وجرت رجليها حتى سقطت على فراشها في عالمٍ مظلم لا تعي شيئًا مما حولها.
***
مقعد صغير صار أسيره... لا يمكنه حتى السير لقضاء حاجاته الأولية...! من نافذة المشفى أخذ يتأمل السماء الصافية بسحبها الناصعة متخيلاً نفسه غيمة... لكنه سيكون غيمة شاذة وسط الغيمات البيضاء.. سيكون غيمة غاضبة من أرضٍ لا تزهر... أرضٍ لا يستطيع قطعها بمقعد صار بديلاً لرجليه...!
- "لااا.. شكلك النهاردة أحسن كتير..."
قالها الدكتور راغب وهو يدلف إلى الغرفة مبتسمًا كعادته وخلفه الدكتور بدر بقامته الغارعة، فابتسم زين بزاوية فمه اليسرى وهو يقول ساخرًا:
- اااه أحسن كتير.. حتى لسة راجع من التراك...!
بدأ الطبيب الكهل في فحصه وهو يقول:
- يا سيدي بكرة تروح التراك وتجري وتسبق كل اللي فيه كمان إن شاء الله...
- ما تضحكش عليا يا دكتور... أنا مش حاسس برجلي وأنت قلت لي قبل كدة أني مش هاينفع أتحرك..
ضحك الدكتور بدر قائلاً:
- ده مؤقتًا بس يا باشمهندس شهرين بس...
بينما ضبط الدكتور راغب من وضع منظاره على أنفه مكملاً:
- شهرين وعدى منهم شهر يبقى فاضل لك شهر بس ولو ما تحركتش بعد الشهر ده أنا اللي هازعل منك...
قال زين بخنوع:
- يعني حتى لو أتحركت هارجع زي الأول...؟
تبادل الدكتور راغب والدكتور بدر النظرات ثم قال الأول:
- لو ألتزمت بالعلاج الطبيعي والتمارين هاتتحسن كتير إن شاء الله...
زفر زين بيأس، وعندما هم الدكتور بدر أن يتحدث سمعوا طرقًا على الباب أعقبه أنفتاح الباب ودخول عاصفة وردية من صوت عيسى ومايا المتسابقين نحو زين يتبعهما نور تحمل بيدها حقيبة ملابس صغيرة وزهرة التي دخلت مطرقة في حياء عندما لاحظت نظرات دكتور بدر التي لم يتمكن من غضها عنها.
احتضن زين مايا بقوة ودفن رأسه بشعرها قليلاً ثم احتضن عيسى الذي قال:
- البيت بقى حلو أوي يا عمو... مش هاتيجي تشوفه بقى...؟
قال الدكتور راغب مداعبًا الصغير:
- خلاص يا عيسى عمو زين زهق منا وراجع معاكم النهاردة مع أنه كان المفروض يقعد شوية كمان...
التمعت عينا عيسى وقال بفرح: - بجد..؟؟
أومأ زين قائلاً: - أيوة يا حبيبي.. هانرجع مع بعض النهاردة إن شاء الله...
قفز عيسى ثم جذب يد زين قائلاً:
- طيب ياللا قوم عشان نروَّح وأوريك الألعاب اللي ماما جابتهالي أنا ومايا..
طعنة نافذة إلى الأعماق من براءة طفل جعلته يغمض عيناه في وجع لتقول نور:
- عيسى... تعالى ساعدني نحط الشنطة دي هنا لو سمحت...
يعشق صغيرها دور الرجل الذي لعبت عليه بمهارة ليأتيها طواعية بفخر منقذًا أمه من عبئ الحقيبة الثقيلة فتهمس له: - عيسى.. أتفقنا على إيه...؟ عمو زين رجله وجعاه ومش هاينفع يمشي عليها دلوقتي...
بينما اقتربت زهرة من شقيقها لتجلس بجواره وتمسك بيده هامسة له:
- ماما من الصبح عمالة تحضر لك الأكل اللي بتحبه ومستنياك على نار...
لكن الطبيب الشاب التقط همساتها فأنحنى قليلاً ليقول:
- أيوة كدة... لازم تتغذى كويس جدًا عشان العضم يلئم...
ونظرة خاطفة إلى الشقيقة ثم إرداف بلهجة ملتبسة:
- والله هاتوحشنا يا باشمهندس بس مادامت دي رغبتك... خلاص..
نظراتٍ وتلميحات لا تدري كنهها تفتح على قلبها النار، لكنها تعرف قدر نفسها جيدًا فربما تضخم الأمور دون وعي منها، فنهضت مبتعدة نحو التي أخذت تجمع من غرفة المشفى أغراض زين الذي كان يراقبها بطرفٍ خفي، ثم قال لدكتور راغب:
- هل وجدت لي ممرض موثوق يرافقني..؟
تسائل الطبيب في غير فهم:
- أنت لسة مصر يا ابني..؟ حالتك مستقرة والمدام ممكن تساعدك بس في....
- مش ممكن...
قاطعه بحدة وهو يضم قبضتيه بقوة طارقًا ذراعي المقعد، فقال الطبيب الكهل:
- خلاص يا زين زي ما تحب... عامة أنا كلمت لك ممرض كويس هأكد عليه يكون عندك النهاردة إن شاء الله..
أومأ زين برأسه، ثم تهيأ الطبيبان للخروج من الغرفة بينما يقول الدكتور راغب:
- نسيبك بقى عشان تغير هدومك وتستعد للخروج...
فطلب زين منكسرًا:
- يا ريت تبعت لي محسن يساعدني عشان أغير هدومي...
نقل الطبيب عيناه بين نور وزين متعجبًا من طلب زين للمرض الموجود بالمشفى بينما يمكن أن تساعده زوجته في أمر بسيط كتبديل ملابسه، فتضرج وجه نور خجلاً، بينما قال زين موضحًا:
- عشان المدام والآنسة زهرة والأولاد هاينزلوا حالاً يجيبوا السيارة قدام المستشفى عشان نمشي على طول..
فأومأت نور وهي تلملم الحقائب قائلة:
- آه إحنا نازلين دلوقتي ياللا يا زهرة...
قالتها ثم لاذت بالفرار من موقفٍ لا تُحسد عليه واسئلة ترتسم في أعين الجميع، جلست خلف المقود تنقر عليه في توتر بينما احتلت زهرة المقعد الخلفي مع عيسى ومايا، ولم تمر دقائق حتى رأته يتقدم إلى سيارته بمقعدٍ متحرك يدفعه ذلك الممرض الشاب محسن ثم يستقر جوارها في صمت بينما يضع الممرض المقعد في حقيبة السيارة لتنطلق بها نور نحو بيته الذي أثثته بشكل يشبهه.. يشبههما معًا.
عندما توقفت الجيب السوداء أمام منزله لم يتعرف عليه... تلك الأسقف القرميدية..هاك المدخنة.. ألوان المبنى من الخارج تشي بعاصفة تغيير من الداخل..! وعندما أحضرت مقعده المتحرك بجوار الباب ومدت يدها قائلة بهدوء:
- أتفضل...
نظر إلى يدها في وجع، ثم استند على ذراعي المقعد جاراً رجله دون أن يعتمد عليها، إلا أنها رغم ذلك كانت تسنده وتعدل من وضع رجليه، ثم تغلبت على موجة التوتر السائدة وهي تقول بمرح:
- يا رب يعجبك ذوقي في فرش البيت..
حديقته... حديقته الغالية اختفت لتحل محلها أخرى هزيلة.
- "أنا ماعرفتش أرجعها زي الأول بس دي مهمتك أنت بقى.."
همست بها إليه وكأنها تقرأ أفكاره... ثم أنفتح باب منزله الذي تحول لونه إلى اللون البني الغامق المطعم بأشغال معدنية... دلفت زهرة والطفلان ثم دلف بمقعده حيث وجد أمه متهللة تحتضنه وتغمره بقبلاتها بينما جالت عيناه بالمنزل الذي تغير كل شيء به.. تحول من برودة الجدران البيضاء إلى دفئ وحميمية الجدران ذات اللون السكري المطعمة بلوحات بسيطة تتراوح ألوانها بين الأسود والأبيض والأحمر، تحولت الأرضية الرخامية إلى أرضية خشبية أنيقة مفروشة سجاد تركي عصري دافيء عوضًا عن البُسُط الحريرية والشينواه بينما كان الاستقبال مكون من أريكة زاوية وأريكة لشخصين ومقعدين ذوي لون رمادي مكللين بوسائد بيضاء وبرتقالية أضفت بهجة إليهم بينما كانت مائدة الطعام خشبية بسيطة ذات لون بني غامق والمطبخ الذي أصبح مفتوحًا على غرفة الطعام كان مكونًا من خزائن خشبية ذات لون أسود مطعمة بدورها بحواف معدنية مع ثلاجة مطلية بالكروم.
- "أنا سويت لك كل الوكل ياللي بتحبه يا زين... ياللا يا ولدي بدل ملابسك وتعال كل"
قالتها أمه في حب، لتدفعه نور نحو غرفته التي وقع في غرام تصميمها منذ اللحظة الأولى... الفراش البسيط المحتفظ بلون الخشب مع الخزانة والمناضد الجانبية والأضواء الهادئة وأكثر ما أعجبه هو الشرفة التي تحتل حائطًا كاملاً من الغرفة بواجهتها الزجاجية التي تطل على حديقته.
أنحنت جالسة على ركبتيها تجاوره تحاول كسر ذلك الحاجز الذي يبنيه حوله منذ الحادث..
"إيه رأيك في ذوقي..؟"
قالتها وهي تسند ذقنها إلى ذراعها المستقر على ذراع مقعده، فعاد بنظره من نافذة الشرفة الضخمة ليتأمل عيناها المبتسمتين كشفتيها بسحرٍ كاد أن يغرق به لولا أن أبعد جسده عنها قائلاً بجفاء:
- كويس...
أومأت في إحباط... هي تعرف أن الطريق معه طريقٌ طويل، فنهضت قائلة بحياء:
- تـ... تحب أساعدك في حاجة..؟
أشار بيده قائلاً:
- لأ... الممرض جاي بعد شوية...
أومأت في صمت مبتعدة عنه بقلب ممزق وعقلٍ تشتت... عالقة هي بين مشاعرها نحوه وكبرياؤه الساحق الذي يمنعها حتى من مجرد الاقتراب أو حتى محاولة تبديد عالمه الدخاني القاتل الذي صار مدمنًا له.
***
هو متأكد من دخولها إلى حيز وجوده رغم عينيه المغلقتين... نعم.. فأسبوعين بقربها ببيته كفيلين بأن يجعلاه يحفظ دورتي الشمس والقمر مغمض العينين... ففي الصباح تطل عليه بعبق الياسمين الهندي الآسر... يشرق صباحه مع رائحتها الندية وهي تدور حوله كفراشة نشيطة... ترتب فراشه.. تغير الشراشف.. تناوله قهوته بعد ساعتين من كوب الحليب المُحلى بالعسل.. ذلك شرطها الصارم كي ينال القهوة... تفتح نافذته الضخمة لتطل عليه السماء بزرقتها وتشرق الشمس مع إشراقة ياسمينته الخجولة.
وفي المساء يتيه في نكهة الفانيلا الممزوجة بالمسك الأبيض بأنوثة ناعمة تثير حواسه... هنالك يسطع قمره المطعم بالفانيلا والمسك.
لكن ذلك الصباح كان مختلفًا... فقد دلفت ياسمينته بتنورة بيضاء واسعة مطعمة بزهرات زرقاء صغيرة وقميص من الجينز أرتفعت أكمامه قليلاً بينما رفعت حجابها الطويل عن ذراعيها وألقته إلى الخلف ليتأمل روعة قدها الأنثوي الجميل.
- "إيه اللي أنت لابساه ده...؟؟"
تسائل في قسوة، فتلعثمت وأخذت تضرب بخمارها ليغطي جيبها كما كان وهي تقول:
- أ.. أنا كنت في المطبخ وجيت عشان أطمن أنك أخدت الدوا... فمنتبهتش...
قاطعها بحسم: - يا ريت ماتنسيش أن فيه راجل غريب موجود معانا في البيت...
تلفتت حولها قائلة: - هوا فين الممرض صحيح...؟
أجابها: - في الحمام... يا ريت تطلعي عشان زمانه جاي..
قالت: - طيب أداك الدوا..؟
أومأ برأسه في ملل، فزفرت بضجر وهي تخرج من الغرفة لتتركه صريع أفكاره وقراراته... فقبل أن يتحول إلى حطام إنسان كان عازمًا أن يكون لها سكنًا ووطنًا.. أن يعشقها حتى الذوبان... أن يريها منزلها بقلبه وأن يرى بصدرها أمنياته؛ لكنه أدرك أنه غير قابل لعشق النساء... وكأنها لعنة قديمة أو سبيل عذاب عليه أن يسلكه..!
لقد صار لا يصلح لشيء... لذا يتعين عليه أن يطلق سراح قلبها المثخن بجراح الماضي كي لا يزيد جراحه، فخيرٌ لها أن تودعه بقلبٍ منقوص قبل أن يودعها بقلبٍ مخذول..!
"أطير أنا بقى يا باشمهندس..."
قاطع أفكاره سمير الممرض الذي عينه حديثًا والذي خرج لتوه من دورة المياه الملحقة بالغرفة، فنظر إليه زين منهكًا ثم قال: - هاتتأخر...؟
كان سمير شاب في منتصف العشرينيات أسمر ضخم الجثة، إلا أنه كان ماهرًا بعمله.
- هارجع قبل ميعاد الدوا إن شاء الله ما تقلقش...
قالها ثم فتح الشرفة التي كانت تحوي منزلاً إلى الحديقة والتي يخرج ويدخل منها ممرضيه... أخذ يراقبه وهو في طريقه إلى الخارج حتى... حتى تسمر مكانه في جمود. إنها هي... نعم أبدلت ملابسها بعبائتها الفضفاضة وحجابها الطويل إلا أنها تقف مع ذلك الممرض سمير الذي ينحني نحوها بطريقة أشعلته... يحادثها ويبتسم لها ثم يرحل.
والأفكار كالوحوش تنهش عقله بلا هوادة... تنطبق قبضتاه على ذراعي مقعد قيده بقوة وتمر الدقائق بطيئة حتى تدخل إليه ثانية تنحني نحوه.. تسأل عن حاله ليجذبها من ذراعها هاتفًا:
- كان بيقولك إيه..؟؟
حاولت تحرير يدها منه متسائلة:
- مين ده...؟
- سمير...
- سمير مين...
- هاتستهبلي... أنا شايفه واقف يتكلم معاكي ويضحك لك...
سقطت على ركبتيها أمامه.. رفعت إليه عينيها العسليتين المترقرقتين بالدموع وهي تقول بصوت مبحوح:
- كنت باطلع سلة المهملات برة فشافني وقعد يطمني عليك قبل ما يمشي وقالي كلها أسبوعين وتبدأ تمشي... بس كدة...
- آااه... يعني هوا عارف أنك زهقتي من جوزك المشلول فبيصبرك...
- والله هوا اللي جه يكلمني وأنا....
- يبقى يترفد...
قاطعها بحسمٍ فعقدت حاجبيها قائلة:
- زين ده رابع ممرض ترفده خلال أسبوعين...
التمعت عيناه بوحشية وهو يمسك هاتفه قائلاً:
- إن شالله يبقى الألف مادام مابيحترمش حرمات البيوت..!
قالها وهو يجري مكالمة للطبيب يطالب بممرض خامس بعد أن بلغ سمير ألا يعود إلى البيت ثانية، بينما تنظر إليه نور في أسف وخوف من أن ينزلق أكثر إلى بئر جنون الارتياب المظلم.
وحل المساء ولم يتمكن الطبيب من توفير ممرضًا له مباشرة.. فدخلت إليه نور قائلة:
- مش هاتتعشى..؟
هز رأسه نفيًا وهو يقول:
- لأ... عايز أنام...
تقدمت نحوه ببطئ وأنحنت نحوه قائلة:
- طيب أوديك على السرير تريح شوية وبعدين تتعشى وتاخد الدوا تمام...؟
شعر بعجزه يكبله... لا مفر من أن يرمي على عاتقيها وجعه ومرضه.. لكن إلى متى ستتحمل..؟
كانت تعاونه على الاستلقاء على الفراش وهو يحاول أن يبتعد عنها ألا يغرق أكثر في سحر الفانيلا المخلوطة بالمسك الذي يصيب كل من يقع بين ذراعيها، وأثناء محاولته للابتعاد كاد أن ينزلق حيث خذلته ساقيه، فأمسك بطرف حجابها الذي سقط عن رأسها وسقط معه شعرها الليلي الطويل ثم سقطا معًا على الفراش. للحظة أحكم ذراعيه حولها وغرق بجنون بين أمواجها العسلية اللامعة وجسده يصرخ .."الآن.. ضميني إليك..."، لكن... باللحظة التالية... ابتعد عنها بعنف وهو يتسائل بيأس...
"- لكن.. كيف سأضمك..؟ بأي وجه حق أجمدك بردًا برماد ما بقي مني..؟؟!!
لن أضع قلبي في رحمة نرد قد يرحم ويئد رغبة الكمال الفطرية أو يلعنني للأبد بتأجيجها...
وإن كان يجب عليَّ أن أحب... فأنا أحب أن أنساك...!!"
وكأنها قرأت نظراته... فأرسلت إليه نظراتها ترجوه..
"- حاول أن تخالف ولو مرة عقيدتك في عدم الاعتراف بالضعف.."
لتجيبها نظراته في إقرار..
"-فطرتي هي البحث عن قوتي... وقوتي هي اللا احتياج.."
لكن خفقات قلبه الخائن وموجات جسده المحموم تعلنها صريحة...
تخالف فطرته وعقيدته وكل موروثات قبيلته...
إنه... يحتاج إليها...
يحتاج إلى امرأة مثلها...
في السعادة صديقة... وفي الحزن أم..!
امرأة قد تعرف عن الرجل ما لا يعرفه عن نفسه.
تعود نظراتها تتشبث به كالطفل ترجوه أن يذر كل موروثاته غير المنطقية ويختارها...
فتجيبها نظراته...
"- كيف أختارك وأرفض زماني والمكان..؟ وعجزي عن تلبية حد كفايتك كامرأة مكتملة الأنوثة..؟!! فعيناكي الرائعتان اللتان تحتوياني بكل تعاستي وعقدي وشفتاكي الساحرتان الكفيلتان بإضرام النار بعالم من جليد لم يُخلقن ليجاورن رجال مهزومين بمعارك الحياة... لقد خلقن لعشق مثالي دون حرمان أو أوجاع... "
ورغم اقترابها الخطر منه... اقترابها غير المسبوق الذي يعلن بوضوح عن مشاعرها نحوه... اقترابها الذي كاد أن يستسلم له في نهاية المطاف لولا بقايا أفكار لم تهترئ بعد جعلته يشيح بوجهه عنها مذكرًا قلبه وجسده أنه يرفض أن يكون عبئًا على عاتقي امرأة لم تعرف سوى الوجع والحرمان..!! هي امرأة ظمئى وهو يرفض أن يكون سرابها الخادع الذي يحسبه الظمآن ماء..!
عندها حسم أمره... فألم وجودها لا يقل وجعًا عن ألم فراقها..! فكيف سيقضي لياليه دون أن يتخلل شعرها بأصابعه.. شعرها الذي يحلم به منذ أن رآه في أمريكا... شعرها مفتاح الليل وبداية القصيدة..! كيف يراها أمامه دون أن يود لو يخاصرها ويضمها بين ذراعيه وينهل من عبق المسك والفانيلا...!! لكنه صار رجلٌ لا يصلح لشيء... لن يكون وجعًا لها.. يجب عليه أن يطلق سراحها.
- "أنتِ كنتِ.... طلبتي مني طلب كدة قبل الحادثة..."
دفعة بيديه وإشاحة بوجهه ثم كلمات مسنونة يمزق بهن ثوب قربهما الذي حاولت رتقه منذ قليل...
- "كنتِ طلبتِ مني أن أحنا ننفصل.. وأعتقد أن من حقك تمامًا دلوقتي إني أنفذ رغبتك دي... نور أنتِ.."
لكنها مدت أناملها تضعها على شفتيه مرتجفة وهي تقول:
- بلاش... بلاش يا زين أرجوك...
نظر إليها وهو يبذل جهدًا خرافيًلأ في السيطرة على نفسه.. آهٍ ل تعلم ما الذي يود فعله بها...!
- مش ده كان طلبك..؟؟!!
- وأنت طلبت مني أعيد التفكير...
- وفكرتي...؟
- أيوة... وقررت أنه كان غلط...
- شفقة...؟ واللا عشان عيب تطلبي مني الطلب ده وأنا في حالتي دي..؟؟
- أفهمني بقى.. لا ده ولا ده...
لكن ظلام عقله يتكاثف... وجسده ينأى عنها ويستحضر برودته لرد لهيبها المشتعل..
- عامة براحتك... بس فيه موضوع كدة حبيت أقول لك عليه يمكن تغيري رأيك...
ودت لو تخبره أنها لا تريد أن تعرف شيئًا... خائفة مما سيقول... وكأنه سيشطر قلبها نصفين، لكنها قالت:
- موضوع إيه..؟؟
وينأى بجسده وعقله أكثر.. يفتح جرحًا وراء الآخر...
- كارمن كلمتني...
هبطت كلماته عليها كصاعقة، فلم تملك سوى أن تفغر فاها وهي تسمعه مردفًا:
- كانت بتعيط بعد صدمتها في أبوها وأمها وحياتها كلها وقالت لي أنها ندمانة على كل لحظة بعدت عني فيها واترجتني ترجع تعيش تحت رجلينا أنا ومايا، وعشان مصلحة البنت ممكن جدًا أوافق أننا نرجع لبعض.. خاصة وأنها ندمانة جدًا ومستعدة تعمل أي حاجة تصحح بيها أخطائها... فزي ما أنت عايزة... تحبي ننفصل دلوقتي واللا أما كارمن ترجع.. ؟ القرار قرارك..
***


Just Faith غير متواجد حالياً  
التوقيع
//upload.rewity.com/uploads/157061451865811.jpg[/IMG]ستجدون كل ما خطه قلمي هنــــــاااااااااااا[/URL][/FONT][/SIZE][/B]
الشكر لصديقتي أسفة التي دائماً تشعرني بأن هناك من يشعر بدون شكوى



سلسلة حد العشق بقلوب أحلام

رواياتي السابقة بقلوب أحلام
أنتَ جحيمي -- لازلت سراباً -- الفجر الخجول
هيـــامـ في برج الحمـــامـ // للكاتبة: Just Faith *مميزة
فراء ناعـــمــ (4)- للكاتبة Just Faith-

عروس الأوبال - ج2 سلسلة فراء ناعم- * just faith *
سلسلة عشاق صنعهم الحب فتمردوا "ضجيج الصمت"

ودي مشاركاتي في سلسلة لا تعشقي اسمرا
https://www.rewity.com/forum/t326617.html
https://www.rewity.com/forum/t322430.html
https://www.rewity.com/forum/t325729.html
ودي رسمية
https://www.rewity.com/forum/t350859.html

خواطري في دعوني أتنفس
ديوان حواء أنا !!

شكرا نيمو على خاطرتك المبدعة
رد مع اقتباس
قديم 18-12-17, 01:51 PM   #30

Just Faith

مراقبةومشرفةسابقة ونجم روايتي وكاتبة وقاصة وملكة واحة الأسمر بقلوب أحلام وفلفل حار،شاعرة وسوبر ستارالخواطر،حكواتي روايتي وراوي القلوب وكنز السراديب

alkap ~
 
الصورة الرمزية Just Faith

? العضوٌ??? » 289569
?  التسِجيلٌ » Feb 2013
? مشَارَ?اتْي » 145,786
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » Just Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond reputeJust Faith has a reputation beyond repute
?? ??? ~
جروبي بالفيس (القلم وما يهوى)https://www.facebook.com/groups/267317834567020/
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

- 3 –
"خذ قلبي، وأقضمه كتفاحة
ولكن لا تسجنني داخل دائرة مغلقة!.."
غادة السمان – إمرأة البحر
***
كان عشاءًا على إيقاع الصمت الصاخب... كل منهم يلوك أفكاره المتناحرة كما يلوك طعامه...
هو – على غير العادة – قرر الخروج من صومعته والانضمام إليهن على مائدة العشاء عوضًا عن تناول العشاء بغرفته كعادته؛ فأيامه صارت شبيهة ببعضها إلى حد الجنون طوال الأسبوع المنصرم... ما عادت شمسه تشرق بعبق الياسمين الهندي الساحر ولا يسطع قمر ليله بنسيم الفانيلا المخلوط بسحر المسك الأبيض... تتجاهله عن عمد منذ أن قطع بيده شرايين وصالها ومزق بكبرياءٍ مقيت وشاح القرب الذي كادت أن تسبغه عليهما ليضمهما في شرنقة عشق أبدية... كيف له أن ينسى إمارات الألم التي انطبعت على ملامحها لحظات قبل أن تنهض في إباء تلملم مع وشاحها بقايا مشاعر وكبرياء أنثى لم يتقوض حتى تلك الليلة حيث انطلقت كلماته تضرب ذلك الكبرياء في الخاصرة..! لم تنبس ببنت كلمة... لم تزايد على كبرياؤه النازف... فقط ضمت جسدها بذرايها مع وشاحها لتزيد حرائقه إشتعالاً... كم ودَّ ليلتها لو كانت ذراعيه هما اللتان يضمانها قرب قلبه علَّه يسكن، لكنها رحلت... رحلت تاركة جسده محتلاً بعبق المسك والفانيلا... رحلت ليلتها وظلت تتحاشى لقائه طوال أسبوع... سبعة أيام... مائة وثمان وستون ساعة دون أن يتمكن من رؤيتها أو حتى سماع صوتها رغم وجودها الذي كان يشعر به في كل شيء... في طعامه المميز بتكامل كل العناصر الغذائية وطريقتها المميزة في التقديم والذي كانت تحمله إليه شقيقته تارة وأمه أخرى لكنه يقرأ توقيعها عليه دون عناء... كان يشعر بوجودها عندما يدفع مقعده إلى الحديقة صباحًا ويعود ليجد غرفته مرتبة على أكمل وجه تفوح عطرًا للمفارش لم يعرفه إلا معها... كان يشعر بوجودها عندما تدلف إليه زهرة كل عدة دقائق تطمئن عليه وثمة شبح لشخص عند الباب يقف ليسترق السمع... لكنه لم يستطع الاكتفاء بوجودها الشبحي... لقد كاد أن يفقد أعصابه وهو ينتظرها كل صباح بابتسامتها المشرقة ونظراتها التي تحيط به فتنقله إلى عالم آخر وردي اللون مخملي الملمس... لذا قرر ذلك المساء أن يتجاهل العشاء الذي جاءت به أمه ويخبرها كاذبًا أنه سيخلد إلى النوم... ليدفع مقعده بعد قليل إلى الخارج ليرقبها من طرفٍ خفي وهي تنتقل بين غرفة الطعام والمطبخ المفتوح تضع لهن طعام العشاء وتتبادل مع زهرة حديث مرح... بشعرها الليلي ذو الخصلات الكسنائية الذي تجمعه في ذيل حصان يتراقص خلف ظهرها منسدلاً على ثوبٍ شتوي ذو لون رمادي ووردي متوسط الاتساع يصل حتى منتصف ساقها... كانت منهمكة في الحديث عن صغيرها مع زهرة عندما وقعت عيناها عليه فقطعت حديثها وتبدلت نظرات عينيها اللامعة إلى نظراتٍ غائمة تشي بعاصفة قد تطيح به، بينما تهللت زهرة وابتهجت أمه من انضمامه إليهن على مائدة العشاء... ظن أنها قد تتهرب منه وتلوذ بغرفة الأطفال كعادتها لتتحاشى لقياه، إلا أنها أحتلت مقعدها في صمت بعينيها الغائمتين وقد بدأت غيومهما في الإنقشاع لتتكون نظرة لم يرتح إليها أبدًا.
"هل يجوز التعلق بأسمال حُلم أصدر المجتمع صكك استحالته؟؟" سؤال يدور باستمرار في فلك يأسها وتسليمها بأمرٍ واقع فرضه عليها رؤية ذكورية وضعتها في خانة العطب أو عدم استيفاء الشروط اللازمة لتكون امرأة مكتملة الأنوثة يمكن أن تنال إعجاب رجل أعزب دون الخمسين...! لكن... نظرات ذلك الطبيب الشاب واهتمامه بالسؤال غير المباشر عليها ومحاولة رؤيتها ولو للحظة أثناء تقديمها ضيافته كلما جاء للأطمئنان على شقيقها جعل إيمانها بالمستحيل يتزعزع... لكن خوفها من التعلق بخرافة قد يحيكها عقلها الباطن من أفعال قد تكون طبيعية في مجتمع كذاك بعيدًا عن مجتمعها المحافظ جعلها تلفظ الأمل الكاذب وتعود طائعة لخانة النقص بابتسامة يائسة وهي تلوك عشائها مع بقايا حلم.
"طول عمره سندي وراجلي... أبويا وابني... كبرت على يدينه وماوعيتش على حد لي غيره... كان عوضي عن أهلي اللي راحوا وأنا صغيرة... ما هاني ولا جرحني حتى في غضبه... وفي رضاه كان يقولي يا ست الكل يا أم عيالي... آاااااااااه يا ساليم.... وعدتني تبقى جنبي ولا تسيبني... أرجع لي يا أبو زين..."
أما أفكار أمه فقد خرجت من حيز الصمت لتتجسد في الفراغ بكلماتٍ تنزف وجعًا على رفيق العمر... كلماتٍ ترددها كل ليلة وكأنها تستجدي القدر أن يهبها حبيبها من جديد...!
- "حبيبتي يا طنط بكرة يقوم بالسلامة ويرجع أحسن من الأول..."
قالتها نور التي كانت تجاورها وهي تمسك بكفها تربت عليه، لتقول نجاة في وجع:
- طولت رقدته يا بتي... طول غيابه... عمره ما غاب عني اكده...
وكانت الظروف أكثر من ملائمة لتبدأ هجومها، فقالت لزوجة عمها بكلمات مدروسة:
- ماتقلقنيش عليكم يا طنط أرجوكي... أجمدوا مع بعض كدة لحد ما عمي يقوم بالسلامة... ماتخلينيش أسافر وأنا قلقانة عليكم...
وأصابت قنبلتها الصغيرة التي فجرتها هدفها بكل براعة... حدَّق الجميع بها في ذهول امتزج بسعير غضب بعينيه الأبنوسيتن.
- "إيش الحكي هيذا عاد يا نور...؟ وين بتسافري يا بتي..؟ تبغين ترجعي النجع...؟؟"
تسائلت نجاة بغير فهم بينما تأملتها زهرة وهي شبه مدركة لما يحدث عقب ملاحظتها تباعد نور عن زين طوال الأسبوع الماضي مع تغير حالة شقيقها المزاجية إلى الأسوأ.
- لأ يا طنط... أنا مسافرة أمريكا...
ألقى زين بملعقته على طبقه وهو يصيح:
- وده من إيه ده...؟ صحيتي الصبح كدة قررتي تسافري..؟ مين سمح لك بكدة..؟
تراجعت في مقعدها بثقة... عقدت ذراعيها على صدرها وقد اختفت نظراتها الحالمة والغائمة والخجول لتحل محلهن نظرة متحدية مقاتلة كنظرات قطة شرسة ثم قالت بهدوء:
- يعني أنت فاكر إني هاقعد هنا بعد ما نتطلق عشان الجدة تجوزني تاني... أقصد تالت على مزاجها... ومش بعيد المرة دي تجوزني طلال... أهو بقى أرمل ومحتاج زوجة... وأعتقد أنه هايكون أكتر من مُرحب بالجوازة دي...
كانت تعرف أنها تسير على أرض متصدعة وأن ثمة بركان سينفجر بداخله إن عاجلاً أو آجلاً... وهو لم يخيب ظنها وأنفجر بركانه أعجل مما تصورت... حيث ضرب المنضدة بقبضتيه وقال بلهجة مخيفة:
- إستحالة ده يحصل... إستحالة تتجوزي طلال...
- مين اللي هايمنع الجدة أنها تهددني بأبني تاني عشان تجوزني الشخص اللي هيا عايزاه...؟
- أنا... مش هاسمح بكدة... أبدًا...
- بصفتك إيه...؟؟
هجوم شرس بسؤال مع رفعة حاجب وازاه تراجع موجوع من جانبه لتكمل هي هجومها:
- أعتقد بعد الطلاق وغيبوبة عمي سليم هايبقى عمي عتمان أقرب لي والمسئول عني من أي حد... وعمي عتمان ما بيكسرش كلام الجدة... خاصة وأن الجوازة دي فيها مصلحة ابنه...
أخذت نجاة تضرب صدرها بكف يدها وهي تتمتم:
- يا لهوي يا لهوي.... طلاق إيه عاد بس يا بتي...؟؟ إيش السيرة هاذي...؟ ليش تبغي تتطلقي وتتركينا في الظروف هاذي؟؟ ليش طلاق بعيد الشر عنيكوا...؟؟ يا بتي أني عارفة أنك تعبتي بس بكرة زوجك يطيب وترجعوا زي الأول و...
إلا أن نور قاطعتها بنبرة أودعتها شيء من ألمها وهي تحتضنها:
- والله يا طنط أنا لو عليا ماسيبكوش أبدًا... وتعبي معاكم راحة لأني وسط أهلي وناسي... مين يختار الغربة بكامل إرادته...؟ بس خلاص يعني... بعد قرار الباشمهندس مش هايبقى لي مكان وسطيكم...
أستدارت إليه أمه بنظرات نارية وهي تسأل بحدة:
- قرار إيش هاذا...؟
زفر زين بغضب لتكمل نور هجومها:
- إيه ده....؟ هوا ماقلكوش...؟ بصراحة أنا..
إلا أنه قاطعها بحدة:
- ده مش قراري لوحدي... ده كان طلبك قبل الحادثة واللا نسيتي..؟؟؟
رفعت إليه نظراتها المتحدية وهي تقول بقوة:
- لأ مانسيتش... أنا طلبت وأنت قررت تنهي الموضوع... يبقى خلاص خلصنا... هاروح بكرة أحجز تذاكر السفر ليا أنا وعيسى على أقرب طيارة و...
"هاتسيبيني لوحدي نور..؟"
صوت ملائكي ناعم رقيق... همسٌ تغلغل بأعماق روحيهما المتناحرتين... لينزل بردًا وسلامًا على قلبيهما... وعند مدخل الردهة تقف بعينيها الناعستين وشعرها الأسود الحريري الطويل المجدول والذي تشعثت خصلات منه حول وجهها الخمري البريء ومنامتها الطفولية البيضاء ذات الرسوم الكرتونية وجواربها الدافئة تمسك دميتها وتصوب نظراتٍ مستجدية إلى نور بعينيها الفيروزيتين.
"مايااااا..."
هتفت نور وهي تهرع إليها... تحملها في حب وتحاول تخبئتها بداخل ذراعيها كي لا ينالها أي سوء يؤدي إلى فقدانها ذلك الناعم ثانية... ذلك الصوت الذي همس اسمها في أول جملة له بعد صمتٍ طويل. تمالكت دموعها وهي تقبل ابنة قلبها التي لم تحملها بداخل أحشائها بل حملتها منذ أن ألقمتها ثديها بداخل قلبها.. حملٌ من نوعٍ خاص أعظم شأنًا من الحمل العادي.
تحلقت حولها نجاة وزهرة غير مصدقتين أنهما سمعا صوت الصغيرة أخيرًا بينما لم يتمالك زين نفسه وسقطت دمعتين خائنتين على خديه.
جلست نور على مقعدها وأجلست الصغيرة على المنضدة أمامها وهي تقول:
- حبيبتي إيه اللي صحاكي دلوقتي..؟
أخذت مايا تتأملها ثم أعادت سؤالها:
- أنت هاتسافري وتسيبيني نور...؟؟
أغمضت نور عينيها للحظات وابتلعت غصة حلقها مع ريقها ثم أخذت نفس عميق علَّ شيء من القوة يدعم قلبها المرتجف كي تكمل طريق حربها كشف الأوراق... لتقوم بكشف آخر ورقة رغم شكها بزيفها لكن يتعين عليها ذلك فربما تصفعه صفعة إفاقة من الوهم الذي أغرق نفسه به.
- "حبيبتي مايا... ماما راجعة إن شاء الله وهاتخلي بالها منك... هاتعيش معاكي أنت وبابا هنا... فماينفعش أكون موجودة... هاسافر وأبقى أجي....
- "Nooo"
صاحت الصغيرة بحدة، ثم أردفت:
- أنت مامي نور... أنت مامي... كارمن مش مامي... هيا كانت بتطلب مني مش أناديها مامي قدام الناس.. هيا كارمن أو كوكي بس... لكن مش مامي... أنت مامي اللي بتلاعبيني وبتعلميني وبتأكليني... أنتِ نور اللي عايزة أقولها مامي... خديني معاكي نور مش تسيبيني مع كارمن... هيا بتسيبني وتجيب نانيز يزعقوا لي ويحبسوني... نور بلييييز مش تسيبيني...
أغمض عينيه بوجع ووضع كفه على جبهته، بينما احتضنت نور مايا ثم نهضت تحملها وهي تهمس لها:
- ماتخافيش يا حبيبتي... مش هاسيبك أبدًا...
وضعت الصغيرة ذراعيها حول عنق نور وهي تهمس بدورها:
- شكرًا يا مامي... هتنامي جنبي تونايت..؟
طبعت نور قبلة على جبينها قائلة:
- يا قلبي أنت... أيوة يا روحي هنام الليلة جنبك وبكرة إن شاء الله نعمل حفلة كبيرة عشان الأميرة مايا سمعنا صوتها الجميل ده..
ضحكت مايا ضحكة خافتة رقراقة وهي تقول بسعادة:
- هانعمل ستروبيري كاب كيكس زي ما وعدتيني..؟
استلقت نور بفراش الصغيرة التي لاتزال بين ذراعيها تتوسد صدرها ثم قالت:
- هانعمل كل اللي نفسك فيه يا قلبي... بس لازم ننام دلوقتي...
دفنت مايا وجهها في صدر نور ثم همست:
- طيب أقري لي القرآن والدعاء اللي بتقريه كل يوم... وماتسيبينيش أبدًا...
أخذت نور تعبث بشعر الصغيرة وهي تتلو عليها آيات تحفظها وتحصنها بهن من كل سوء وبعد أن غفت مايا... شردت نور في هجومها الذي شنته على رجلٌ يظن أنه يملك الكون بين يديه... يظن أنه يطلق سراحها بحصرها داخل دائرة الاحتياج... يظن أنه يحرر جسدها بينما هو يُبقي قلبها مسجون بكهف مشاعره المظلم... هي لن تنحصر بدائرة أحتمالاته الفرضية... ستكسر حاجز الخوف وتنطلق إلى فضاء الثقة الشاسع، لكن عليها أولاً هدم أسواره السوداء التي تحيط بكبرياء مبالغ فيه سيجعله يفقد أغلى ما يملك.. وكما قالوا قديمًا أن الهجوم خير وسيلة للدفاع... فقد شنت هجومها عليه تلك الليلة ولن تتوقف حتى يرفع راياته البيضاء مسلمًا.
***
ثرثرة أمه وتوعدها له إن عاد لتلك (الخبيثة) وترك الملائكية التي أرسلها له القدر بفضل دعائها الدؤوب له... تهديدها له أنه لن يكون ابنها ولن تعرفه إذا استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير... وهي وقد كاد الجنون أن يستبد بها أن كيف يفرط في امرأة كتلك..؟ أي أحمق أصبح عليه ابنها..؟
ثم تأتي شقيقته لتأخذ دورها في توبيخه لكنها لم تقل له سوى جملة واحدة:
"أنا متأكدة أنك بتحب نور... ومتأكدة أن نور بتحبك جدًا... ومتأكدة أن كل اللخبطة دي أنت اللي عاملها... يا ريت تفكر بقلبك شوية يا أخويا وتسيب عقلك وحساباته على جنب.."
قالتها ثم تركته بغرفته شبه المظلمة في مواجهة قلبه الذي ألقى عليه تحية المساء ساخرًا ثم سأله..
"كيف أمسى كبرياؤك الزائف..؟ لكم يسعدني قرب إنهياره عند أول إنذار بالفراق...!"
وبداخله يثور بركان غضبه... كيف تجرؤ... كيف تجرؤ على اتخاذ قرار كذاك..؟ كيف تقرر بكل أريحية مفارقته وكأنها كانت تنتظر الفرصة على أحر من جمر..؟ كيف تعلقت مايا بها إلى تلك الدرجة...؟ بل كيف تعلق قلبه الأحمق بكل ما يخصها حتى رائحة جسدها التي تغمره كلما اقتربت والتي صار مدمنًا لها حيث أصابته أعراض الانسحاب عند انقطاعها عنه لأسبوع واحد.. فكيف سيصير حاله إذا اختفت من حياته وسافرت بعيدًا..؟ تسائل قلبه في ملل... "كيف بالله عليك ترفض ذاك الحصار... حصار الياسمين والفانيلا مع المسك الأبيض...؟ كيف أمام عسل العينين المصفى ومخمل كفين رقيقين تصمد وترفض... وترغي وتزبد... وأنا... أنا القلب المشطور في أعمق هوة سحيقة أتهاوى... أسقط..؟؟!"
كيف صار قلبه عاشقًا إلى تلك الدرجة... كيف حولته إلى شاعر أحمق ممن كان يسخر منهم طوال حياته... بل كيف جعلته في قمة إنفجاره وسخطه... يمسك بقلم وفي دفتر يستدعي كلمات شاعر قرأها عابرًا منذ أمد بعيد واستحضرها قلبه وكأنه يكتب إليها رسالة لن يرسلها أبدًا...
"فيا امرأة حاصرتني طويلاً....
بعطر السفرجل
من قال أني أضيق بهذا الحصار؟
ومن قال أني أخاف مواجهة الموج والعاصفة ؟
فإني بقطرة عطر صغيرة...
سأغزو أعالي البحار..!"
لكن عقله كان قد انتهى من ترميم كبرياؤه، وأحكم السيطرة على مشاعره الحمقاء فمزق الكلمات القبانية التي لا يستسيغها العقل وتناحرت الأفكار والمشاعر... كيف يحررها ويحتفظ بها... كيف يريد لها حياة أفضل مع رجل كامل وفي نفس الوقت تقتله فكرة كونها لرجل آخر...!
هنا أمتدت يده بعنف إلى هاتفه طلب رقمًا ما ثم قال:
- أزيك يا ياسر... نايم واللا صاحي..؟ طيب كويس... تقدر تعدي عليا...؟ لأ مافيش حاجة حاسس إني مخنوق وعايز أكلم حد قبل ما أتجنن... والله؟ أنت كمان..؟ طيب تعالى حالاً مستنيك..."
***
" إيه الدور اللي أنت عايش فيه ده يا هندسة...؟ أنت معقد الأمور بصراحة يا زين..."
قالها ياسر صديقه الأقرب إليه من نفسه عقب أن حكى له كل تمزقه الداخلي، مكملاً:
- أنت عايش في دور المشلول واللا إيه..؟ يا ابني أنت المفروض تبدأ العلاج الطبيعي الأسبوع الجاي عشان ترجع تمشي...
زفر زين بتعب ثم قال:
- مش عايز وجودها جنبي يكون من باب التضحية أو الشفقة...
- إنسانة واعية زي مراتك مش هاتقدم تضحية من غير ما تكون على أرض صلبة...
- خايف...
- يادي النيلة... خايف من إيه يا عم الفيلسوف..؟
- خايف استسلم لجنوني بيها وأما أوصل لمرحلة الإدمان التام... تقرر تبعد.. يخلص رصيد الشفقة والتضحية عندها وتشوفني عبئ عليها...
- الخوف سم يا صاحبي... سم بيموت كل الحاجات الحلوة في الحياة... واللي بيخاف من العفريت يطلع له..
- الخوف حرص والاستسلام للحب ضعف... كل الحسابات العقلية بتقول كدة...
- حساباتك أنت بس اللي بتوديك للنتيجة دي... لكن لو حسبتها بمنظور تاني هتسأل نفسك إزاي إنسانة هاحبها بالجنون والاحتواء ده وما تتعداش مشاعرها حد التضحية أو الشفقة...
- ماهي حصلت قبل كدة وكان ردها عليا طعنة خاينة...
- لأ ماحصلتش.... أنت ماحبيتش كارمن أصلاً يا زين...
صمت زين بموافقة ضمنية، ليعتدل ياسر في جلسته هاتفًا:
- ألا صحيح... هيا كارمن كلمتك فعلاً...؟؟؟
ألتوى فم زين بملل وهو يقول:
- أيوة يا ياسر... كلمتني وكانت بتعيط وبتترجاني تشوف بنتها...
- وأنت قلت لها إيه...؟
- فهمتها أنها ممكن تيجي بس تشوف بنتها وتنسى أنها تاخدها..
- و....
- وبس...
- يعني موضوع أنكوا ترجعوا لبعض ده....
- استحالة...
- قصدك اشتغالة...
نظر إليه زين وقد نجح ياسر في اختلاس ابتسامة منه، ثم قال:
- المهم زي ما قولت لك... خلي أم حبيبة تقنعها أنها ماتسافرش... هيا أكيد هاتسمع كلام اختها....
ضرب ياسر كفًا بكف وهو يقول:
- يا ابني أنت شكلك ماسمعتش حاجة من اللي حكيتهالك أول ما جيت... على الحب وسنينه يا جدعان... باقولك أنا مطرود من أوضتي وبنام مع حبيبة... تقولي أكلم أمها...!!
أشار زين بيده قائلاً: - أهي فرصة جبتهالك عشان تكلم أمها... أي خدمة..!
رفع ياسر حاجبيه بطريقة مسرحية وهز رأسه قائلاً:
- لا والله الواحد مش عارف كان هايعمل إيه من غيرك...
وابتسامة أخرى اقتنصها من صديق العمر وابن خاله الذي عاودته سخريته وهو يقول:
- عد الجمايل...
وهم ياسر أن ينهض منصرفًا، إلا أن زين استوقفه بقوله:
- ياسر... ممكن تعدي عليا بكرة المغرب...؟
- فيه إيه تاني...؟ واللا هاتعملني رسول الغرام وتبعت معايا رسايل أديهم لتقى تديهم لاختها...
لكن دعابته لم تنجح في اقتناص ابتسامة ثالثة حيث انعقد حاجبي زين وهو يقول:
- عندي متابعة مع الدكتور راغب بكرة وهايعمل لي أشعة وفحوصات وبصراحة بعد اللي حصل الليلة دي ماعتقدش أن ينفع نور توديني زي كل مرة...
زفر ياسر بنفاذ صبر ثم قال:
- يا دماغك يا أخي... تصدق وتؤمن بالله... توهتني...
- لا إله إلا الله يا ياسر... هاتيجي واللا أكلم عم محمد...
- خلاص خلاص هاجي وأسيب عندكم حبيبة ومامتها عشان المهمة اللي طلبتهم فيها... أي أوامر تانية..؟
أشار زين بيده ليرحل ياسر وصدى كلماته تتردد في عقل زين...
" الخوف سم يا صاحبي... سم بيموت كل الحاجات الحلوة في الحياة... واللي بيخاف من العفريت يطلع له.. "
هل يحاول ردم ذلك القبر الذي يحفره كبرياؤه الزائف مدفوعًا بخوفٍ عقيم من شبح الخذلان وتسليم أشرعته لنسيم الثقة؟؟!!
***
كانت أمسية ربيعية دافئة كأمسيات صباها الأولى عندما كانت تجلس مع شقيقتها تتبادلان في مرح الحديث والمزاح لساعات طوال... كانت في حاجة لتلك الجرعة من البوح التي أفسحتها لها تقى... حتى وإن كان حديثًا سطحيًا عن لون الجدران والشتاء الذي رحل سريعًا دون وداع... وبضعة الكيلوجرامات الزائدة وطريقة عمل السينامون..! أحاديث متفرقة بخلفية صاخبة من أصوات لعب عيسى ومايا وحبيبة؛ لكن رغم كل شيء... لاحظت الأختين أن أحاديثهما لا تحمل شفافية الماضي بل صارت كستار ثقيل يحجب وجعًا ما أو صدمة ما..!
- تقى... أنتِ فيه حاجة تعباكي..؟
- يعني غير إني حامل في الشهر الخامس وعمتي اللي هيا حماتي مابتبطلش شكوى وحسرة وبنتي الي ماكملتش سنتين بقيت زنانة ولا تطاق...؟
اتسعت شفتي نور بابتسامة احتوت شقيقتها كقارب نجاة وربتت على كف تقى المتورم قليلاً وهي تقول:
- غير إنك بطلة بتتحملي كل ده وأكتر كمان في حالة وجود سند لروحك...
تُطرق تقى في حزن وهي تقول:
- وسندي تعب وعايز اللي يسنده... جه يتسند عليا لاقاني عروسة قَش خدته ووقعت...
احتضنتها نور بدفئ وهي تقول:
- والوقعة اللي مابتموتكوش... تقويكوا... تسندوا بعض وتقوموا تاني كل ما تقعوا... دي سنة الحياة..
زفرة حارة ثم همس شبه باك:
- جرحني جدًا...
- الكاس المكسور بيجرح أكتر من السليم... أجبري كسره وأحتويه وأرجعي أمليه ثقة وحنان وحب هايسند قلبك ويداوي جرحك...
وتنهيدة راحة رفعت عقبها عيناها نحو شقيقتها وهي تقول باسمة:
- لسة زي ما أنتِ ماتغيرتيش... بتحبي الصفا والسلام وتكرهي المشاحنات والمشاكل...
ربتت نور على كف شقيقتها وهي تقول:
- الدنيا مش مستاهلة مشاكل ومشاحنات خاصة مع إنسان بتحبيه وأثبت كتير أنه بيحبك جدًا...
رفعت تقى أحد حاجبيها بمكر ثم قالت:
- طيب بمناسبة الناس اللي بنحبهم واللي لازم نفوت لهم... قولي لي بقى يا هانم... أنت فعلاً مسافرة..؟
لم تكد نور تطالع شقيقتها بدهشة حتى وجدت صياح عيسى ومايا يتعالى ومعهما حبيبة تحاول تقليدهما
"ماما... ماما... الفرن رن... ياللا نطلع الكاب كيكس..."
نهضت نور بسرعة متوجهة إلى المطبخ وكأن رنين مؤشر الفرن جاء بمثابة الإنقاذ لها، إلا أن تقى تبعتها في إصرار وهي تقول: - ماتهربيش من سؤالي يا نور... أنت قررتي تسافري أمريكا فعلا..؟!
أخرجت نور الصفحة التي بها الكعكات الصغيرات وهي تتسائل:
- عرفتي منين...؟؟
أجابتها تقى:
- من ياسر يا اختي.. قال زين بلغه أنك عايزة تسيبي البلد وتسافري وطلب منه إني أقنعك ماتعمليش كدة...
ابتسمت نور بجذل وهي تقول: - كدة تمام أوي...!
ضحكت تقى قائلة:
- إيه اللي تمام...؟ الراجل واضح انه بيحبك يا جميل ومش قادر على بعدك..
رفعت نور كتفيها وهي تقول بغرور مصطنع:
- عارفة..
عقدت تقى ذراعيها على صدرها ورفعت إحدى حاجبيها في تعجب وهي تتمتم:
- لا يا شييخة...!!! بقى عارفة كدة وعايزة تسيبيه...؟ على فكرة بقى مش هاتقدري لأنك أنت كمان بتحبيه يا فالحة..
ضحكت نور بخجل ثم قالت بشرود:
- مش قولت لك الكاس المكسور بيجرح أكتر... والحادثة اللي حصلت كسرت كتير من اللي بنحبهم...
- طيب ما أنت لسة قايلة أجبري كسره وأحتويه وأرجعي أمليه ثقة وحنان وحب... مش تبعدي عنه...!!
- عشان أقرب وأملا قلبه ثقة وحنان وحب لازم الكسر الجارح اللي فيه أجبره الأول... ومش كل إنسان بيرمم روحه زي التاني... فلو كان القرب دوا ياسر... فالبعد هوا دوا زين... لازم كبريائه الزايد عن حده ده يتكسر عشان شرخ روحه يلتئم ويحل أزمة الثقة اللي جواه ويعرف يميز بين إنسانة موجودة جنبه لأنها بتحبه فعلاً وإنسانة مافيش دافع لوجودها إلا تضحية نابعة من شعور مؤقت بالشفقة...
خيم عليهما الصمت للحظات بينما تتابعهما ثلاثة أزواج من الأعين الصغيرة البريئة في انتظار إنتهاء ذلك النقاش الذي لا يفقهون منه شيئًا كي يقوموا بتزيين الكعكات كما وعدتهم نور. تحركت تقى إلى الخارج وهي تقول: - ربنا يهديكوا يا بنتي.. أنا طالعة ألحق أجهز الترابيزة في الجنينة عشان الرجالة يتعشوا عليها...
قالت نور وهي تخرج الكعك من القالب:
- على مهلك يا توتة لسة مرات عمك وزهرة هايعدوا على عمي سليم يطمنوا عليه بعد كشف زين يعني قدامهم شوية...
لكن بمجرد خروج تقى إلى الحديقة وجدت سيارة زين تتوقف وياسر يترجل منها ثم يساعد زين على الخروج من السيارة والجلوس بمقعده المتحركثم يلمح تقى من بعيد فيتوجه إليها مع زهرة وأمها التي كانت تستند عليها في تعب، أما زين فقد دفع مقعده حيث شرفة غرفته المجهزة بمَنْزَلٍ بسيط إلى الحديقة عوضًا عن الدرجات صعده بمقعده في سهولة ودفع نافذة الشرفة نصف المغلقة ليدلف إلى المنزل فيتناهى إلى مسامعه صوت أناشيد أطفال وبعض الصخب، فدفع مقعده متتبعًا الصوت... و.. وقف عند ممر غرف النوم الغارق في الظلام والمشرف على الردهة والمطبخ وطاولة الطعام ليراها.. تقف هنالك تضحك وتدندن مع الأناشيد وتشارك الصغار في وضع كريمة التزيين الملونة على الكعكات الصغيرة... تعطي مايا أداة التزيين تارة وعيسى أخرى حتى حبيبة الصغيرة أعطتها قطعة فراولة لتضعها على سطح الكريمة.. تتسخ يدا مايا ببعض الكريمة فتأخذ شيئًا مما بيد الصغيرة بطرف إصبعها لتضعه على أنفها بمرح فتعمد مايا إلى تلطيخ وجه نور بكلتي يديها الممتلئتين بالكريمة فتصيح نور متظاهرة بالهزيمة وتعجب اللعبة عيسى فيحاول مطاردة أمه بيديه الملطختين بدوره... فتقفز وتجري منهما هربًا... تخرج من المطبخ وتدور حول طاولة العام ليراها أكثر قربًا ببنطالها الجينز الذي يتعدى ركبتيها ببضعة سنتيميترات وبلوزتها ذات اللون البرتقالي الداكن كشمس المغيب والتي كانت تحتضن جسدها كاشفة بعض تفاصيله الشهية المتناسقة... شعرها المتطاير النافر من قبضة الذيل حصان... و... سقطت باستسلام أمام هجوم الصغار الذين صاحوا بمرح المنتصر... لقد انتصر سحرها... انتصر حبها في قلبه مخرسًا أي صوت آخر... عندما رأى عين اليقين أنه لن يستطيع أبدًا انتزاع تلك المرأة من حياته... وأن رحيلها سيضرب وجدانه بزلزال قوي قد لا يخرج منه سالمًا..!
***
كان عشائًا هادئًا على صعيد الرجال... صاخبًا بمرح الأطفال وحديث نور وتقى وزهرة المازح على صعيد النساء... انتهى برحيل تقى وياسر وحبيبة ثم مساعدة زهرة أمها على الخلود إلى النوم وقيام نور بتبديل ملابس الصغار وتفريش أسنانهما ثم وضعهما بفراشهما خرجت بعد ذلك إلى الردهة لتجد زهرة تقف شاردة خلف زجاج الشرفة، فتوجهت إليها قائلة:
- على فكرة... بقالك كام يوم كدة بتسرحي كتيير ومش معانا خالص... تكونش بتحب...؟
قالتها منغمة في مرح فتضرج وجه زهرة بحمرة الخجل ثم قالت:
- حب إيه وكلام فارغ إيه بس يا نور...!!!
ضيقت نور عيناها ورفعت أحد حاجبيها وهي تقول:
- كلاام فارغ...؟ طيب أسبقيني على البلكونة هاعمل لنا كوبايتين عصير خلينا نشوف إيه أصل الكلام الفارغ ده...!
ضحكت زهرة متوجهة إلى الشرفة، إلا أن نور أوقفتها متسائلة بتردد:
- زهورة.. أ... أنت أطمنتي على أخوكي...؟ يعني أخد الدوا ونام ومش محتاج حاجة...؟
ابتسمت زهرة في حنو وهي تقول:
- آه يا نور دخلته أوضته وأخد الدوا وقالي هايقرا شوية قبل ما ينام..
أومأت نور باطمئنان لتخرج زهرة إلى الشرفة تتبعها نور بعد عدة دقائق تحمل بين يديها صفحة عليها كوبين من العصير وضعتها على الطاولة ثم قالت:
- هاااه بقى يا زهورة... مش هاتقولي لي إيه اللي شاغلك اليومين دول كدة...؟
شردت زهرة بعيدًا وتنهدت ثم قالت:
- اللي شاغلني ده مش اليومين دول بس يا نور... ده من سنين...
صمتت نور تفسح لها مساحة من البوح الذي كانت زهرة في أشد الاحتياج إليه عقب لقائها اليوم بذلك الطبيب الذي أطال النظر إليها وسألها عن حالها لأول مرة خارجًا عما عُهد عنه من الحياء وإطراق النظر.
- فكرك يا نور ... يعني ... ممكن يتقدم لي شخص كويس... سنه مناسب ومتعلم وشكله أكتر من المقبول..؟
تأملت نور زهرة التي أخذت تفرك كفيها في توتر ثم قالت بهدوء:
- أنت أصلاً لازم ماتقبليش بأقل من كدة...
ابتسمت زهرة بمرارة ثم قالت:
- مش مهم أنا اللي أقبل... المهم هما اللي يقبلوا..
- إزاي يعني..؟
- يعني يا نور... أكتر من شاب أتقدم لي ورفضني أما شافني... لأني سمرا شوية ووزني زايد حبتين بس عشان أنا طويلة وعريضة فأي زيادة وزن بتبان أوي... لحد ما قربت عالتلاتين أهوه ومابيرضاش بيا إلا واحد مطلق أو أرمل وعنده صف عيال عايز أي واحدة تربيهم له وأغلبهم خمسين سنة فما فوق... أنا عارفة إني مش حلوة ومش من حقي أتشرط و....
لكن نور قاطعتها بسرعة:
- نعم... نعم ... نعم...؟؟؟ يعني إيه عارفة أنك مش حلوة..؟ إزاي تقولي على نفسك كدة..؟
أطرقت زهرة متمتمة بألم:
- الكل بيقول عني كدة... حتى أمي...
لكن نور وضعت سبابتها أسفل ذقن زهرة ورفعت رأسها ثانية وهي تقول:
- حتى لو العالم كله قال كدة – ولو أنه صعب – إلا أنك لازم يبقى عندك ثقة في نفسك أكتر من كدة.. أنت مابتشوفيش نفسك وأنتِ بتضحكي أو تبتسمي وتظهر الغمازتين الحلوين بتوعك دول واللا عيونك الواسعين المليانين دفا.... واللا سهولة طباعك اللي هاتخلي منك زوجة وأم متميزة لإنسان بيفهم فعلاً مش عاوز مانيكان جميلة وخلاص...
- بس الشباب فعلاً عايزين واحدة مافيهاش غلطة... حتى شباب النجع عندنا... عشان كدة أمي كانت بتضغط عليا أقبل أي عريس يتقدم لي ويرضى بيا... بس أنا كنت بارفض... لكن دلوقتي والعمر بيجري بيا وصلت لقناعة إني مانفعش أعجب شاب زيي أو حتى أكبر مني بعشر سنين... مش ممكن أعجب إنسان متعلم أنا اللي وقفت عند الثانوية العامة وماكملتش تعليمي...
- أولاً يا زهرة... لازم تعرفي أن الجواز مش كل حاجة في الحياة ولا هوا هدف في حد ذاته.. حياتنا زي قطر ماشي في طريقه ممكن يقف في محطة الجواز وممكن لأ... عيشي حياتك مع أهلك واستمتعي بيها لحد ما توصلي للمحطة دي وتلاقي فيها اللي يناسبك تمامًا... وإلا كملي طريقك بكل عزة... أنت دورك مش محصور في كونك زوجة بس... أنت ابنة أي أم وأب يفتخروا بيها وأخت حنينة على أخواتك وولادهم... أنت صديقة يُعتز بصداقتها... أنت إنسانة واعية ومثقفة وحنينة وطيبة وصبورة ومتسامحة... ده غير أنك فعلاً جميلة ودي مش مجاملة... دي حقيقة اللي مايشوفهاش يبقى أعمى... ولازم قبل ما تفكري في حب أي راجل أو قبوله ليكي.. لازم تحبي نفسك وتقبليها زي ما هيا...
ترقرقت عينا زهرة بدموع أمل بدأ ينمو بداخلها بعد أن تم قتله مع سبق الإصرار والترصد من قبل كل من حولها، فنهضت نور وجلست على ذراع مقعد زهرة ثم ضمتها بحنان وطبعت قبلة على رأسها وهي تقول بمرح:
- وأنا بقى عندي إحساس قوي جدًا أننا هانفرح بيكي قريب جدًا... هانعمل لك فرح كبييير وهارقص لك كمان في فرحك... رغم إني ماليش فيه إلا إنه هايبقى عرض حصري فقط لعيونك يا قمر...
قالتها ثم ضحكت لتبادلها زهرة ضحكاتٍ عذبة من وسط أدمعها... ضحكات وصلت إلى أذنيه كما وصله حديثه كله حيث كان يجلس بمقعده في شرفة غرفته الملاصقة لشرفة الردهة لا يفصلهما سوى جدارٍ قصير... وكأن القدر ساقه ليضيف المزيد من الأغلال التي تجذبه نحو تلك المرأة الحانية باقتدار... تلك التي تمسك بين راحتي كلماتها نورًا لا ينضب يضيء أحلك الأماكن بروح محاورها... إنه متأكد من أنها قد أضاءت لتوها ذلك الركن المظلم بروح شقيقته... ذلك الركن الذي لم تتعرى منه زهرة أمام أحد قط وأئتمنت نور على الحقيقة العارية من أي رتوش، لتزهر بين عيني زوجته وتعيدها إلى شقيقته جنة أمل خضراء مورقة..!
***
الطفلين بالمدرسة... زهرة وأمها قد أصطحبهما ياسر منذ الصباح الباكر لزيارة عمها سليم الذي تعذر زيارته ليلة أمس لتأخر الوقت... زين لم يستيقظ بعد منذ أن أعطته زهرة دوائه عقب كوب الحليب فجرًا ثم عاد للنوم... حسنًا... يتعين عليها الآن البدء في تنظيف المنزل الذي كان مقلوبًا رأسًا على عقب منذ الأمس. أنهت فنجان قهوتها وبعض الحلى في شرفة المنزل ثم توجهت إلى الداخل كي تبدأ معركة التنظيف لـ... لتجده هنالك... عيناه تجولان بحرية على تفاصيل جسدها المختفي أسفل بيجامة قطنية ذات لون أرجواني جذاب أضفى دفئًا على بشرتها الخمرية الناعمة... رفع عيناه إلى وجهها المتورد بحمرة الخجل أو الغضب ربما وشعرها المرفوع إلى أعلى كيفما أتفق ويبدو مشعثًا قليلاً... عيناها المنتفختان قليلاً... وفكر..لكم تبدو شهية حتى بهيئتها الصباحية المبعثرة..!!
عمدت سريعًا إلى شال صوفي طويل أحاطت به كتفيها وضمته على وسطها ثم رحلت من جواره متوجهة إلى الداخل دون كلمة واحدة؛ إلا أنها وجدت قبضة قوية تمسك برسغها، فاستدارت نحوه قائلة بتنمر:
- أفندم... فيه حاجة...؟؟
رفع حاجبه الأيمن قائلاً:
- مافيش صباح الخير... مافيش سلام عليكم حتى...؟؟
أعادت خصلة من شعرها خلف أذنها وهي تلعن نفسها بداخلها ألف مرة على تلك الهيئة الحمقاء ثم قالت:
- خلاص.. استحمل قلة ذوقي يومين ومش هاتشوف وشي تاني...
جذبها من ذراعها بقوة لتنحني نحوه في مواجهة وجهه وهو يقول ببطيء مشددًا على كل حرف ينطقه:
- أنسي تمامًا أنك تسافري...
جذبت يدها من قبضته وهي تقول بغضب:
- يعني إيه..؟ عايزني أقعد معاك أنت والست كارمن...؟ واللا تكونش عايزني أتجوز ابن عمك طلال..؟؟ يمكن تكون الجدة المرة دي كمان مهدداك تاخد منك المزرعة لو ماجوزتنيش طـ...
- أخرسي...
صاح بها وقد اشتعلت عيناه غضبًا... فصمتت نور في خوف لم تبده وتشبثت بقناع الصلابة وهي تسمعه يكمل محاولاً استعادة هدوئه:
- إستحالة أسمح أنك تتجوزي طلال...
عقدت ذراعيها على صدرها متسائلة بسخرية:
- والمزرعة...؟
- في داهية...
قالها بتلقائية غير محسوبة لتنظر إليه في دهشة حقيقية، فيحاول إخفاء لهفته عليها وصبغ كلماته بشيء من اللامبالاة وهو يقول:
- أنت هاتقعدي هنا لحد ما كارمن تيجي ونشوف هانعمل إيه...
عقدت حاجبيها قائلة بتحدي:
- يا سلااام..! هاقعد تحت أمرك أنا بقى...!!
تردد قليلاً ثم قال بحيرة صادقة:
- لأ... هاتقعدي عشان مايا... مش بتقولي أنها بنتك زي عيسى وأكتر...؟ البنت متعلقة بيكي أوي... ماتخليهاش تتعرض لصدمة تانية الله أعلم هاتفقدها النطق تاني واللا هاتعمل فيها إيه...!
اعتصرت قلبها قبضة باردة خوفًا على تلك الصغيرة العزيزة، فلاذت بصمت متواطئ فهم منه إصابته لهدفه وأنها لن ترحل حاليًا على الأقل. فقال بلهجة ماكرة:
- عرفتي إيه اللي حصل في عيادة الدكتور راغب أمبارح..؟
رفعت رأسها تتسائل بلهفة لم تتمكن من إخفائها بدورها:
- إيه اللي حصل...؟ في حاجة تقلق...؟؟
ابتسم بزاوية فمه اليسرى كعادته وهو يرى لهفتها الصادقة، ثم قال:
- لأ الحمد لله... قال لي أبدأ جلسات علاج طبيعي عشان لازم أحاول أمشي وكلم لي دكتورة علاج طبيعي هاتتابع معايا و....
- نعم..؟ دكتورة إيه...؟
قال ببراءة مصطنعة: - دكتورة علاج طبيعي ممتازة و...
قاطعته بحدة: - من قلة الدكاترة الرجالة يعني...؟ وبعدين مش لازم دكتور خالص... أنا واخدة كورس علاج طبيعي هتابع معاك لحد...
قطعت حديثها ثم أطرقت مردفة بخفوت:
- لحد ما كارمن ترجع وأبقى تابع مع أي دكتور أنت عايزه..
تجاهل تتمة حديثها ولم يتجاهل غيرتها المشتعلة، ومد يده إليها قائلاً:
- طيب ممكن يا دكتور نبدأ أول جلسة لأني زهقت من الكرسي ده جدًا...
اتسعت عيناها بدهشة وهي تشهد به حماسًا غير معهود فتقدمت منه بحذر وهي تقول:
- بجد...؟
أومأ برأسه ثم غمز قائلاً:
- نفسي أرجع أقف على رجليا بقى فيه حاجات كتييير نفسي أعملها بعيد عن الكرسي ده...
أزدردت لعابها وهي تشعر بسخونة تلفح وجهها الذي تورد مرة أخرى في خجل لا تدري سببه، ثم قالت:
- طيب أحضر لك الفطار الأول عشان ميعاد الدوا قرب و...
- طيب نفطر مع بعض ونبدأ أول جلسة تمام...؟
أومأت برأسها وهي تهرب من مرمى عينيه اللتان تشهد بهما نظرات مختلفة تمامًا عن نظراته السابقة... نظرات عابثة... وإن صح القول يمكن وصفها بنظرات متلهفة...!!
***
" تكبّر.. تكبرّ!
فمهما يكن من جفاك
ستبقى، بعيني و لحمي، ملاك
و تبقى، كما شاء لي حبنا أن أراك
نسيمك عنبر
و أرضك سكر
و إني أحبك.. أكثر"
صوتٍ عذب بعبق الياسمين الصباحي يصله دندنته من خارج غرفته..
هو صوتها... بتلك البحة المحببة التي تقف عند كل مقطع ليتغلغل بروحه أكثر..
خرج مقتفيًا أثر صوتها حتى وصل إلى المطبخ... هنالك تقف ببنطالٍ من الجينز الأزرق الطويل وبلوزة حريرية بيضاء واسعة تضفي لمساتها على إفطاره المميز وتكمل دندنة..
"يداك خمائل
و لكنني لا أغني
ككل البلابل
فإن السلاسل
تعلمني أن أقاتل
أقاتل.. أقاتل
لأني أحبك أكثر!"
تسكب القهوة بتلك الأقداح المنمنة بأناقة التي انتقتها بذوقٍ رفيع... تتنهد ليعاود صوتها الغناء ببحته التي تدغدغ أحاسيسه...
"غنائي خناجر ورد
و صمتي طفولة رعد
و زنيقة من دماء
فؤادي،
و أنت الثرى و السماء
و قلبك... آآآ.. أخضر..!
و جزر الهوى، فيك، مدّ
و جزر الهوى، فيك، مدّ
فكيف، إذن، لا أحبك أكثر"
تعيد خصلتها الناعمة النافرة خلف أذنها... تخرج بعض المخبوزات شهية الرائحة من الفرن.. ترصها بأناقة على الصحن المخصص وتكمل تعويذتها التي تأسر قلبه أكثر وتزيد من عمق غرقه...
"وأنت، كما شاء لي حبنا أن أراك:
نسيمك عنبر
و أرضك سكر
و قلبك أخضر..!
وإنّي طفل هواك
على حضنك الحلو
أنمو و أكبر !
وإني أحبك أكثر!"
واستدارت... لتشهق بصدمة... تضع يدها على فمها... وجهها الساخن المتورد الشهي... ذلك العرق النافر بجبهتها... هل حقًا وقف على قدميه خلفها مباشرة واصطدمت بصدره...؟؟!!!
رفعت رأسها نحوه في ذهول وهي تتمتم بغير تصديق:
- ز... زين...؟؟؟؟ أ... أنت واقف...؟ أنت واقف هنا من أمتى...؟
مد يده عبرها ليحصرها بين ذراعيه متناولاً واحدة من المخبوزات الساخنة قائلاً بلامبالاة مصطنعة:
- وإني أحبك أكثر...!
- إ... إيه...؟؟!
خفض رأسه نحوها وعيناه تلتمعان بعبث غريب وهو يقول موضحًا:
- كنت هنا من أول "وإني أحبك أكثر"...
أخذت تعيد خصلات شعرها خلف أذنيها بتوتر وهي تقول:
- د... دي قصيدة لمحمود درويش كنت لسة باقراها و...
- الله... أمممم المخبوزات دي لذيذة جدًا...
قالها وهو يتناول المخبوزات في تلذذ... إلا أنه لم يلبث أن بدا على وجهه بعض الألم، فقالت في قلق:
- زين أنت واقف كتير كدة على رجلك.. الدكتور قال شوية شوية...
نظر في عمق عينيها وهو يقول:
- أعمل إيه أنا...؟؟ عندي دكتورة شاطرة وصوتها حلو وريحة أكلها جابتني من آخر الدنيا... ووقفتني على رجلي...
خفق قلبها في عنف وكادت عيناها تدمعان، إلا أنها قالت بسرعة:
- طيب أتفضل بقى الدكتورة بتقول كفاية وقوف كدة عشان الوقوف مش كويس... أحنا بقالنا كام يوم بس بادئين علاج طبيعي...
قال بلهجة كالأطفال:
- طيب أنا محتاج مساعدة هنا... الدكتورة مش هتساعدني أقعد على الكرسي واللا إيه..؟
زفرت وتوجهت إليه وهمت أن تمسك يده إلا أنه أحاط كتفيها بذراعه مستندًا عليهما ليحصرها بين ذراعه وصدره... يحصرها بين رائحة عطره وقلبه... وكي تتزن كان عليها التشبث بوسطه. وعندما همت التوجه به إلى مقعده المتحرك رفض بتذمر طفولي قائلاً:
- لأ... عايز أقعد على كرسي السفرة...
كم تبدو مناوراته مكشوفة... يتعلل بأي شيء كي يطلب مساعدتها على النهوض والجلوس...! ساعدته على الجلوس على مقعد طاولة الطعام وعندما همت أن تجلس بدورها رن جرس الباب، فنهضت لتفتحه، إلا أنه هتف بصرامة:
- هاتفتحي الباب كدة..؟؟؟ ألبسي عبايتك وحجابك يا نور...
منحته ابتسامة حلوة وهي تقول:
- العباية عند الباب هالبسها طبعا قبل ما افتح الباب..
وارتدت عبائتها وقلبها يرفرف كطير في سابع سماء... أكانت حقًا بين ذراعيه منذ لحظات....؟! أيغار عليها فعلاً من فتحها الباب بملابس المنزل...؟
لكنها فتحت الباب، و.... سقط قلبها كطير تم اصطياده على حين غفلة.... ليسقط من سابع سماء إلى سابع أرض... فهناك عند الباب... كانت تقف... بتنورتها الكحلية القصيرة وزيها الرسمي... وقبعتها التي ينسدل أسفلها شعرها كشلال ذهبي... ساقيها الرفيعتين الطويلتين وحذائها ذو الكعب العالي... وصوتها الرقيق المتسائل بصدمة:
- أنتِ...؟؟؟؟!!!!!
- كارمن...؟؟؟؟!!!
******


Just Faith غير متواجد حالياً  
التوقيع
//upload.rewity.com/uploads/157061451865811.jpg[/IMG]ستجدون كل ما خطه قلمي هنــــــاااااااااااا[/URL][/FONT][/SIZE][/B]
الشكر لصديقتي أسفة التي دائماً تشعرني بأن هناك من يشعر بدون شكوى



سلسلة حد العشق بقلوب أحلام

رواياتي السابقة بقلوب أحلام
أنتَ جحيمي -- لازلت سراباً -- الفجر الخجول
هيـــامـ في برج الحمـــامـ // للكاتبة: Just Faith *مميزة
فراء ناعـــمــ (4)- للكاتبة Just Faith-

عروس الأوبال - ج2 سلسلة فراء ناعم- * just faith *
سلسلة عشاق صنعهم الحب فتمردوا "ضجيج الصمت"

ودي مشاركاتي في سلسلة لا تعشقي اسمرا
https://www.rewity.com/forum/t326617.html
https://www.rewity.com/forum/t322430.html
https://www.rewity.com/forum/t325729.html
ودي رسمية
https://www.rewity.com/forum/t350859.html

خواطري في دعوني أتنفس
ديوان حواء أنا !!

شكرا نيمو على خاطرتك المبدعة
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:06 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.