آخر 10 مشاركات
52 - خداع المرايا - أجاثا كريستي (الكاتـب : فرح - )           »          ليالي صقيلية (119)Notti siciliane ج4من س عائلة ريتشي:بقلمي [مميزة] كاملة و الرابط (الكاتـب : أميرة الحب - )           »          غمد السحاب *مكتملة* (الكاتـب : Aurora - )           »          لك بكل الحب (5) "رواية شرقية" بقلم: athenadelta *مميزة* ((كاملة)) (الكاتـب : athenadelta - )           »          287 - كذبة العاشق - كاتي ويليامز (الكاتـب : عنووود - )           »          284 - أنت الثمن - هيلين بيانش _ حلوة قوى قوى (الكاتـب : سماالياقوت - )           »          275 - قصر النار - إيما دارسي (الكاتـب : عنووود - )           »          269 - قطار النسيان - آن ميثر (الكاتـب : عنووود - )           »          263 - بيني وبينك - لوسي غوردون (الكاتـب : PEPOO - )           »          التقينـا فأشــرق الفـــؤاد *سلسلة إشراقة الفؤاد* مميزة ومكتملة * (الكاتـب : سما صافية - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى الروايات والقصص المنقولة > منتدى الروايات العربية المنقولة المكتملة

Like Tree3Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 07-04-19, 12:27 AM   #41

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


مدخل الفصـل الثامن والثلاثـون.

رجالُ العراقِ أعادوا البنودا
وصفّوا الأسودَ أسوداً أسودا
رجالُ العراق أعادوا المثنى
لظهر الجوادِ.. أعادوا الرشيدا
أنا يارجالُ تساءلتُ يوماً
أيَغدو أسودُ العراق عبيدا ؟!
أتُسبى النساءُ ويبقى الرجالُ
يجروّن قرب الجيادِ القيودا؟!

× د. احمد عز الدّيـن×

.
.
.
الأمر لم احتملـه.. فكيفَ سيتحملـه صادقَ!
رُبـما تكون صدمـةِ عُمره ، ورُبـما تكون حسنتي الوحيدة في هذا البيت الذي قد نوَعت وشكلت في المـصائب ورميتها عليهم واحدٍ تلو الآخر!
هذا لا يـهمَ الأهمّ الآن!
الأهم أن صادق يعلم ولا يـبقى كالأطرشِ في الزّفـة!
نظرتُ مع السـلالم فإذا هو يصـعدُ وآثـار النُومِ لم تفارقَ وجهه إلـى الآن، صَعد تاركـاً خلفـه عَمته، وعَدها بالنّزول حالاً .. ولكن قبلها يجب أن يسمَع ما أود قولـه ويذهب لها أن شـاء.
رأيـته يُحييني ويمُر ذاهبٍ إلـى غرفـة صاحبـه!
هل رقَ قلبـك عليـه من نُومـهِ الطـويل وتود أن ينهـض يشاركك طعامك؟
مُغفلٌ أنت يا صادق!

ندهُـت عليـه فتوقفَ: صـادق،
خـويه تعال دا احجي لك شي هوايـه مُهم.

تقدم ذاك الرضـي الذي لا أعلم كيف تستطيع عمته استغفاله!
هل أخبره وأدمي علاقتهما ببعـض؟
أدمـي أسمى عـلاقةٍ بين الرجـلِ وأمـه، أُدمـي الحُب العظيـم الذي شـاهدته مـنه؟
ذاك الحُب الذي جعلـه يهرُب من قمـة جبل سـفين بها ، خـوفاً من فقدها.
يخافُ فقدان من أوهمته بتدينها، يخافُ فُقدان زينبه.

وقفَ أمـامي وهو مبتسـماً: سمّـي خيّـه.

نيّـتك الصافيـة، وأسلوبك الجميـل الذي لا يليقَ إلا بك يجعلني أستحي من إخفاء تلك البـسمة، وإشـعالُ نارٍ تسعرَ القلب النقيّ: أريـدك تسأل محمد ليش تأخر،
هو كَايل لي يجي اليـوم علمود أروح معـاه ديـالى.

تكلم وهو لا يعلم بعظم ما اخفيتُ عـنَه: هسّـه أروح أخابره، كمّ مَهتاب عـدّي أني.

رَحل بما زرَع على شفاهي ابتسامةً تقوّست عندما فكّرت بردة فعله بما وددتُ قولـه، ماذا ستكون عَمـته بالنسبـةِ لـه!
تـخافـهُ كثـيراً، يبدوُ ان ما حدثَ البارحة لهُ عـلاقةً بآدم، أ نسيتُ ارتباكها من ذكرِ أسـمه أمامهم!
أ نسيتُ غضبَ صادق وقتها وهو فقط يريد معرفة سبب ارتباك عَمته، كيف لو علمَ بتجاوزاتٍ حدثت أمس من هذه العمـة!
نزلتُ أسـفل أريدُ أن أستمتعَ في أول نهارٍ من "ديسمبر" قبل أن يصحو ذاك الجلمود الذي لم أطيق رؤيـته بعدما فعلَ امس أيـضاً.
لقد كثـرتَ خيباتي مـنك يا آلـن!
تؤلـمني تلك الخيبات التي اتلقفها منـك، ولا أصحو من واحدةً حتى تتبعها بالأخرى!
وتُريد مني أن انسى ما فعلت بـي لأنك اعتذرت!!
وهل تَراني لعبـةً في يديك تُقلبني حيثَ أردت،
وأي لعـبٍ يا آلـن؟
تُحركَ قلـبي كدُميـةً بين يديك، وتريدُ مـنّـي الابتسام؟
قلـبي تضخّم منذُ أن عرفـتك ، بل منذُ أن تركت والديّ خلفي في طهران قادمةً إلـى الموت الذي لا نجـاة منّـه!
قلبٍ مُشبعٌ بالخيبات .. ويقول هل من مزيـد؟
هل رأيتَ شخصـاً يعشق فنـاءه؟
هل رأيتَ فتاةً تحب ان تذرف مدامعها كُل ليـلةً؟
هل رأيت مُغرمة يفصلها عن بلادها القليل وتُقنع نفسها انها لا تسطيع الذهاب من أجلك؟
نعمّ!
لا أُريد الذهاب حتى أُهشم قلبـك وأجعله كفتاتِ أرضٍ عراقيـة بعدما اعتراها صاروخٍ إيراني ما زالت آثاره تنهشُ في أرضـك حتى يـومنا هـذا.
صاروخٌ أبـقى أثـره في أرضك مخترقـاً الزمن ليبقـى أكثر من ثلاثـة وعشرون عـاماً.
صاروخٌ لا يُريد الفـناء حتى يزرع جذوره الصغيرة في ارضٍ تشبعت بالموت وفاءٍ لطيـارٍ إيرانيٍ قذفـهُ من أعلى!
أنا تلك الصـاروخ و إيران من قذفـني إليـك، لا أودُ الرحيـل عنـك إلا إليــك.
تظنـهُ حبٍ ما تفوهت بـه؟
لقد أخطأت يا ابن آدم.. أنا لا أخطئ خطأ كهـذا
وأن أخطأت بالحُب لن أخُطـئ في قرار البُـعد بعد تحقيقي لما أردت!

سمعتُ صوتُ صادقٍ من بعيـد، يبدو ان للتو يخرج من جلسـة عَـمته حتى يُنفذ لي طلبـي: لا تكَـعدي وكَت طـويل، العصـرية ما زيـنة عالوكَـت.

مُمتنةٌ لك بأمرٍ تفوهتُ بـه خوفـاً علـيّ، أو شفقةً بعدما فعل صاحبـك بي التهاويل!
مُمتنةٌ لك يا صـادقٍ ولم يخطئ أباكَ باسمك، انت الوحيـد الذي تسمـى بما يليقُ به!
حتى أنا أصبحتُ أشكُ أن كان أسمي يليقُ بـي أم لا، أشكُ أيـضاً بقولي أني مَهتاب الليل وجاليـةٌ لظلامـه!
بل أصبحت الظلام المُنسكب كل ليلـةً بجانبي يواسيني غصـتي التي تقتلُ كل أملاً فيني.
غصتي القـاتلة التي لا ترحمَ ضعـفي ووهنّ شوقي الفتّاك الذي يُصارع روحـيّ التي تُفضلَ الـبقاء وما ان ينجلي الليل إلا بفوز شوقي على روحي والحنينُ مُجدداً إلـى إيـران!
إيرانُ الفتيـة، إيرانُ العجوز !
اشتقتُ إليـها بكُل مسمياتها، اشتقتُ أيـضاً ان اسمع تنمراً في باحاتِ جامعتها عندما تأتي واحدةٍ تُكمل صف رفيقاتها ثم تقولَ لـي " سـلاماً يا عربستانية"!
ا ترى هي شتيمة؟
ما لطفُ شتيمتها وهي تبـدأ بالسـلام!
وما لطفَ صادقٍ الذي بحثتُ عنـهُ بعيـنايّ لاطمأن خوفه، ولكنـهُ ذهبّ!
لقد مـلّ صمتي، هل تُراني أصحبتُ مملة؟
وأنا كُنت مصدر أنسٍ وسـعادة على البيت الطهراني.. تبـاً للعراقِ وبنـيه أن كانوا مصـدراً لتعاستـيّ!


***


لا أعلم ما الأمـر؟
هناك شيئـاً يشغلهم جميـعاً، عَمتي لم أعهدها بهذا الشرود كَانت شاردة، كانت عشوائيـة، لم تَهتم كسابقـها.
فقد كانت تُراقب كُل تصرفاتي وتحركاتي .. حتى طعامي كانت تُراقبـه وتنذرُ يمينها وتحلفُ بكاظم تحت الثـرى أن أُكمل طعامي!
أما اليُوم كانت تلقائيـةً والدمع يستحي ان يهطل ويتوقف على أطرافِ رمشـها ينتظرُ كلمـةً أو همسةً تُسمحُ لـه بالهطول!
من الذي أبكاك يا أختُ الرجّال ، من الذي أهمّـكِ أمره يا أم البنين !
من الذي تجرأ وأشغل ذهنكِ بشـي لا يصلحُ لـه، ذهنكِ الصـافي الطاهر لا تشوهه الايـام بأفكارٍ تجلب له الضـياع والصُداع !
امرأةً مثلك جديرةً ان ترتاحُ قليـلاً.. ان تبـقى خاليـة الذهن مرتاحةَ البـال.
يكفيـها أن تعاني .. ان تبكي أن تدمع!
فقد فَقدت الأخ والابن في يومٍ واحد ، في ساعـةٍ واحدة.
لقد رددَ صغيـرها الشهادةَ خلـف خاله، الذي ما زالَ يحتضنـهُ وكأنه يعوُض حرمان أخته من حنانه.
رَحل كاظمـاً وهو محتضناً عليٍ ، عليٍ صغيـر أُخته التي خذلـته واغضبته !
ما الذي جعلـهُ يغضـبَ كل هـذه السـنوات.
أ لم تملّ يا صادق ؟ ما زلـتَ تُنبش بشيءٍ قد فـات!
دَعـكَ من هذا.. زَينب لا تُخطئ ولو أخطأ ألفٍ.
نزلتُ إلـى الكبيـنة أريدُ الاطمئنان على صاحبيّ الآخر، كَتب الله عليّ صداقـةٍ مُتعبـة!
مُقلقـة.. يغيبُ واحدٍ ويحضـرُ الآخر.
بالأمسِ حضَر مُحمداً وغاب آلـن، واليـوم يحضر آخرهما ويغيبُ أولهما.
ما ذنبُ صادقٍ حـتّى يعيشُ القلقَ والخُوف من أجل متهورينّ!

رفعتُ تلك السـماعة فإذا بصاحبي الذي كأنه على موعدٍ بـي يتحدث: هلاو.

أجبـته : هلاو بيك،
ليش ما اجيت اليوم؟

ضحك الآخر: على كيـفك أبو كاظم، جيتي ما مضمونة المرة هـاي.

تعجبتَ من قـوله: شـنو؟

تحدث هو أيـضاً مستفهماً : آلـن وين؟

اجبته بتلقائيـة : رجـع الصُبـح.


***


الروُح عادت لي مُجدداً ، وكأن كلمتيّ صاحبي انتشلتني من قاع اليأسِ إلـى قمـة الأمل.
هل عاد حقـاً لما سلاح أبـي بحوزة الامريكـان؟
وما الذي قاده إلـى التخلي عن السـلاح بهذه السُـهولة، وهل حقـاً تخلى عنـهُ بسهولة؟

هذا لا يهمّ .. الأهم انه عـاد مُجدداً، اجبتُ على استفسار صادق: ما أكَدر احجي لك هسّـه،
بس باجر من الصُبـح ان شاء الله أجي شـقلاوة وأخبرك؟

تحدثَ أخ عُمري الآخر بأمرٍ يشغلني كثيـراً كما يشغلـه: مَهتاب تسأل عليـك، تكَول تريد تروح ويـاك ديـالى،
البنيّـة خطيّـة ما مخليـها آلن تتنفس!

اللعنّـةُ!
ألم يسمعُ لما قلنا لـهُ سابقاً ، ألم يحترم حُرمة دينـها؟
الويلُ لك يا ذاك الرفيـق الذي لا يتوبّ عن إقامة الحزّنَ في قلبـها؟

حادثتُ الآخر الأكثـرَ رفقاً بـها ورفقـاً بصاحبـه، لا يطاوعـه قلبه على عتاباً يؤدي بصداقتهما، فيتحسس الآخر ويظنُ انه من أجل الإيرانية! : معليك بيـه ، أني دا احاجيـه ما يتعرض لها مرةً لُـخ!

أغلقتُ الهـاتف وأنـا واضعـاً يدي على قـلبي خوفـاً من مُراقبـة طالت هاتفي أيـضاً ،
وهل أعيشُ وهم المراقبـة أو حقـاً هذا ما يحدث !

دخلت مـلاذ قاطـعةً علـيّ أفكـار قد تُفحم عَقلي: انتـه هنانا وأني أدورك !
- أدرت وجـهي لها مُستفسراً ، ثم أكملت حديثـها – أبـوي يريـدك يكَول خليـه يجي المَـحل بسـرعة!

اتجهتُ إلـى تلك الطاولـة الصغيـرة ملتقطـاً هاتفيّ ومحفظـتي دون أن احادثـها، فقد تقحمني بحديثٍ لا حاجـة لي به!
يكفـي والـدها الـذي بالـتأكيد يطلبني لأمرٍ مُهمٍ ، رُبـما يكون أمر سـلاحه!
رُبـما يكون أمراً أتى من تلك الديـار البلجيكية!
ألا يكفـي صاحبـي همومٍ خلفته تلك الديـار في قلـبه، وفي ذكرياته التي باتت لا تخلو من جرحٍ تفضلت بـه تلك الديار وساكنيها.


***


صحوتُ منذُ ربعِ سـاعة علـى صوت عَمتي التي صدمتني فجراً !
لم تصدمني بعلاقتها بوالدي، فقد كُنت على علمـاً تلك العلاقة.
بل صَدمتني بجنون أبـي العـاشق الذي ضَرب بدينيهما عرضِ الحـائط وفَعلّ ما أراد.
بل خشيتَ انه طَلق أمـي حتى يضفر بزينبـه، مُسلمة الدين، دينها الذي قالَ لي صادق سابقـاً انه يُحرم علاقـةً بين بناته ورجالٍ من دينٍ آخر، خـوفاً عليهنّ من الردة.
أ ليس العصمةِ بيد الرجل؟
إذٍ ، هذا ما خافـه الإسلام على معتنقاته.
يحقُ لـدينهنّ أن يحافظ عليـهنّ وعلى معتقداتهنّ بالشكل الذي شُرعَ بـه.
ولكن ما ذنب قلبينا؟
أبـي ثمّ أنـا.
ولكنّـك يا أبّـي عَشقت عراقية تختلف عن عشيقتي!
عشيقتي فضلاً عن عنادها .. انها إيرانيةً يا ابي، انها من بلاد ما وراء النهريـن.
تلك البلاد التي لا تفتـأ عن حربنا، لا تَبقى سنةً دون نشوبِ حرباً بيننا.
أ نسينا معاهداتِ الفُرس والروم ايهم اجدر بالمُنذر بن النعمانِ حـتى يُسلم لهمّ العـراق؟
أ نسينا ما فعلوا الفُرس بالمناذرةِ والغساسنـة؟
أ نسينا عندما أتت العربيـة "المنذريـة" خالعةٍ حجابها بين الفُرسان العرب تنتخيهم ضد فارسٍ!
أ نسينا الحيـرة، وآشور، والحُروب التي شُنت عليـها من فارس!
أ نسينا قيام آشـور على انقاض الملك سرجون الفـارسـي.
أ نسينا حروب البابلـية، أ نسينا اسطورتنا الخالدة نبوخذ نصر؟
ليتك يا أبي لم تفقهني بالحروبِ والمـعارك،
ليتك لم تُحبب ذلك لقلبي، حتى انتسبُ فيما بعد لوزارة الخارجيـة التي لا يشغلها شيئـاً سوى الحربّ!
ليتك لم تُخبرني من هي فـارس ومن هي العراق.
ليتك أبقيتني أصمٌ أبكمٌ جاهلاً هذه المسـاجلات الحربـية ، التي تجعلني لا أغفرُ لبنت إيرانَ ذنبـاً.
أ رأيتَ يا أبتي .. انعتها بابنةِ إيران وأنا أبرأها من إيران!
الحُروب غدارةً، الحُروب لا تُشـنّ إلا في أراضِ وقلوب الفُقراء.
فُقـراء التّكبر، فُقراء الجشـع، فُقراء النهبّ، فُقراء السَرقة.
لهذا لم أخرجُ من العراق خـوفاً من قول ان "آلـن" أكل من النخلَ ونَسيَ الجـذع.
خوفي من رحيـلٍ يطعـنُ بالوزارة ويجعلُ أحد رجالها خونـةّ !
خوفي من رحيلٍ يُشوه سُمعتي ويجعلني لا أُكملَ صفَّ زُمـلائي الذي تغيبتَ عنهم أشهراً في أربيـل!
ما حلّ بـهم،
وهل حـقاً عَزم كرارٍ على الرحيـل من أرضِ الموتِ كما يقول؟
أم ثَـنى عزمـه سجـادٍ ، الآخر الذي للتـو التحقَ بـنا، توظفَ في يـناير ودبّت الحرب في بداية أبريل!
أراهُ وفيـاً أكثر من منسوبين الوزارة الذين استقروا على مقاعدها منذُ عام التسعةِ والسبعون!
هل تُرى الوفـاء على سنينِ الخدمـة أو على الرجُل ذاتـه إن كان وفيـاً وإن كان جاحداً.
ذلك الوفـاء الذي جَعل زينب تفيّ لقصة انتهت منذُ ما يقارب الثلاث عقـود، وجعلت آدم أيـضاً يفيّ لها بوفاءٍ يُشابه وفاءها.
رُغم بعد المكـان وبعد المنـالِ الذي يُفرقهم!

تحدثتُ إليـها: وين صادق وبَسعاد؟

نظرت إلـي بتلقائيـة: صادق راح يخابـر محـمد،
ومَهتاب هسّـه طلعت دارها.

إذٍ .. الوقتُ يَسمـحُ لي إن أسالكِ عن سبب ذلك الوفـاء: ما كَلتي لي شصار ويه خوتج؟

ابتسمت لي.. ابتسامةً دامعـة: شتريد انته بهالصخام؟

جاريتها بابتسامتها التي تقتلُ قلـبي قبل ان تُقتل هي بدمعةً تنحدر مُجدداً : هيـجّ .. حاببّ أعرفّ اش صار، أبـوي ما كَـالي.. هميـنه هو ما يعرفّ

تحدثتَ وهي تنظر إلـى اللا شي أمامها، وكأن الذكرى تحتمّ عليها ان لا تنظرُ إلى عيناي آدم الـتي ورثتها منّـه: عَقدنا وطلعنا من الجـامع على قريب للمَـغرب،
ما كَدرنا نُبقى وكَت أطول ويَا بعض علمود دوامي انتهى ولازم أرجـع الكاظمـية كَبل صـلاة العشـاء، ومن كَعدت ويـا خوتي وأني أحس بـتأنيب الضمـير، ليش اضم عليهم موضوع هيـج!
وليش من أول ما كَلت لكاظم، كنت أخاف مـنهّ، على كَد ما كان حنّون وحبّاب، جان مثـل صـادق ، تخاف منـه لا عَصـب، كاظم ما يحب الخطاء، حتى لو كان فد خطاء صغير ما يقبل بيـه..
فما بالك والخطـاء أني مزوجة من وراه، ومن متزوجـه مسيحي!
وكَتها عرفت حجم المصيـبة وحجم خطايّ، ما نَمت الليل كَلـه وأني أخـابر أبوك أكَلـه من يجي الصبـح يطلكَني، وكَتها تسودن أبوك، تخبّـل، واقنعني انه ما سوينه الخطاء، جنت مطيـة مسودنة اصدكَـه! " مطيـة= حمـارة"
لين ما وكَـع الفاس بالرأس . . .

توقفتَ عن الحديث واحترمتَ توقفـها، فلتعيش ذكراها كما أرادت!
فلتقفّ تتأمـل ذكرياتها وتُحاد عليـها وتُشرع الصمتَ عزاءٍ.
لا أحد يُقدر حزنها غيّـري!
لا أحد يُفضل العيشَ على ذكراه وإقامـة المآتم لها غيـري.
فلتحزني يا زينبّ .. فليأخذ حزنـكِ حقـه، ولتأخذ ذكراكِ حقها من عقلك!
لنمـشي وسط النّـاس انـاسٌ تحملـه مشـاعر!
انسـانٌ تحملـهُ الذكرى أينما، تُسيره في المُدن والشوارع حيثَ أرادت.
الذُكرى قد تُعيدك إلـى بغداد .. ورُبما تُعيدي فيـما بعد إلـى شَقلاوة!
هل تُرى ذكرياتي ستنمحي في بغداد وتتجدد في شـقلاوة؟
ما بالُ عقلي يهذي كهذيـانُ قلبـي؟ من قالَ أن لي في شَقلاوةٍ ذاكرة؟
من قال انني أود ان أُصبح أسير هذه الأرض الشـمالية التي ستنفجر حربـاً هذه الأيام!
هل هو انفجار حربيـةً في المدافـع؟
أو انفجارٍ تُحدثـه القلوبِ في التحامـها بشكلٍ قاسٍ!

أو انفجارٍ سيدمـي عقولنا كما أدمـى زينب عقـلها ، الذي عَاد الى التحدثُ إلـي: داومت من بـاجر عدّ آدم بمكتبـه، مابيه أسعد منا، بيـه طاقـة اشتغل، احجي، أسوي كلُشي وأني مبسوطة!
أمشـي بجنب أبوك مو مثل كَبل وراه، أريد اخبر العالم أني مريّـته مو ممرضـة تمشي وراه!
أمشي بجنبـه عشان أكسـر كُل عيـن تتطلع بيـه.
جـنت بحلم، بين لحـظة ولحظـة اباوع على أبوك عشان أصحح لعقلـي أني بواقع وكَاعدة أعيشـه!
ومن أول ما انتهت جولتنا بالمستشفـى حتى خابرني أخوي كـاظم،
ما غـريبة يخابرني بس الغريب حجيـه، كَـال ما تطلعيـن من المستشـفى اليوم أني دا اجي بغداد واخذج ويـايه!
وكَتها عادي ما استغربت ولا حسيت بشـي، حتى خبرت أبـوك وكَـال فُرصـة أحاجيـه.


عـودة إلـى 1973..
وقفتُ أمـام بوابـة أكبر مستشفيـاتِ بغداد منتظرة قَـدوم أخي المُفاجئ الذي لم يكن بالحُسبان!
ما الذي أراده؟ ما الامر الذي لم ينتظرني بـه حتى أعود إلـى الكـاظميـة؟
في زِحام الشَوارع وفي زِحام الإذاعات بحربٍ ستُشنّ بين العربّ والعدو الصهيوني في الأيام القـادمـة أتى أخي ليشنُ حربـاً من نوعٍ آخر.
وما ان استقلتُ المقعد الامـامي في سيارته حـتى أخذني إلـى مطعمٍ قريبٍ من المستشفـى.. يعزُمني على مأدبةً من أجل ان يبدأ حديثـه!

وما ان جلستُ حتى فَـتح موضوعـه مـعي! : خـيتي زيّـنب!
العُمـر يمرّ ولا احنا حاسين بيـه، واني ما دايم لج، وخوتج ما أكَدر اخليج يمّهم .. ما يقصرون بس انتي أمانة عدّي أني!
عَلمود هيـج لازم تتزوجيـن ويجوجّ جـهّـال يسندونج بكبرتج، صح بابا؟

هل حقـاً ما تفوهت به يا كاظـم؟
هل أتيت حتى تُحادثني بموضوعِ زواجٍ قد اغلقته بعدما ترملت.
خمس سنينٍ وأنا لاهيـةً في دُنـياي ولم تأتي لتقول لي أن فـلانٍ قد أتى ليخطبك!
كُنت ترفض الخاطب قبل ان يقوم من مجلسـك، تقول الزينب لا يحـظى بها أي أحد.
و تظنني لا أفرحُ عند رفضـكَ لهم!
بل انني انتشـي فرحـاً لانك لم تقبل خاطبـاً يحيلُ بيني وبين دراستـي، وفي آخر الأيـام فرحتُ أكثر عندما علمتَ رفضـك لأخ زوجـتك، خفتُ انه توافقَ عليـه ويحيـل بيني وبين آدمّ!
هل علمتَ لما لم أعارضـكَ في رفـضك؟

تحدث كاظم مُجدداً : جنت أرفـض خطابج!
أكَول زينب ينراد لها رجّـال، زينب مَتقبل أي شـخص، وهسّـه جاجّ الرجال البيحفظج أكثر من أخـوج.
تعرفين من خطبـج، سَعد ابن الشـيخ سالم.. شيخ العشـيرة عرفـتيه؟
جنت متأكد ان زينب ما يلبكَ لها إلا شيـخ ولد شيـخ، مثـل أبوها وأخوتها.

بل أخطأت يا أخي.. زينب لم تعد صغيرتك الارملـة، بل عَقدت قرانها امس على رجلاً يليق بـها أكثر من سعد!
رجلٌ لو تفني عُمرها، لن تَجد مـثله .

تحدثتُ إليـه: كاظم دخيـل ربـك، فدوة لعينـك ما أريده.

أراه يستغفرُ ربـه يبدو انه بدأ يغضب من "دلـع البنات" الذي لا يطيق: وليش؟

ذرفتُ دمـوعي، يبدو انه سيجبرني على الزواج: كـاظم أني ترزوجت.....

قاطعـني.. لم يُلقِ بالاً لم قُلت!
كان يظنُ أنني أقصدُ أنني ما زلتُ أحبّ ابن عَمـي: عارف،
بس مات الله يـرحمـه، ما يصير تدفنين عَمرج على ذكراه!

ربّـاه!
أعنّ قلـبي، أ تراني تسرعتُ؟
ولما لم يخطبني أبن الشيخ إلا بعدما عقدتُ قراني على آدم، اين هو في سنيني الخمس الماضـية!

عاد كاظم حديثـه: رجلج مات الله يـرحمه،
تتوقعيـن لو أنتي الميـتة بيبقـى على ذكراج؟ أكيد بيتزوج، فكري بعقلج زينب!

لقد جُننت يا أخي!
أنا بماذا وأنت بماذا، هل تظنُ ذلك حنينـاً على ابن عَـمك الذي لم يكمل معي إلا بضعـةِ أشهرٍ؟
هل تظنُ ذلك من أجل رجـلاً تزوجت وأنا قد قُدم لي إغراء ذهـابه إلـى بغداد اسبوعيـاً قبل ان يُقدم لي كزوج!
لقد اغرت أخته صباي المُفعم بالطفـولة بأخيـها ، وهل تُرى أخيها جديراً بزينب يا أخي؟

وماذا عن آدم يـا أخي؟: كـاظم خَـويه دا احجي لك بس لا تضوج عليّ.

ابتَسم اخي الذي يظنُ مقدمتي حياءٍ من قـول "ما زلتُ أحب زوجي": ما أضوج علـيج أني.

لا تُعذبَ قلـبي بحنانك!
لا تُشعل الندم في قلـبي وتُحرقـه يا أخيـه: أنـي أمـس انكتب كَـتابي.

كانت تلك الكلمات كفيلـةً بتلوّن وجـهَ أخـي، وكفيلـة بحصـر كل المـساوي لعـقله، عَقله جلبَ له أسوأ الأمور التي تجعلني أعقد قراني بعيداً عن أهلي وبلا ولـيٍ ها انا اصدمـه بحديثي.

تحدثَ ووجه يسود وكأنه ينازعُ الحيـاة: شنّـو؟

تحدثتُ مُسرعةً، أنا زينب أختُ كاظم التي لا تُقاوم غَضبـه الذي لم تشهدهُ في حيـاتها، أنا زينب أختُ كاظم التي من نظرته تقول ما خبـأت عـنه: والله أني ما سويت شي غلط، بس ضمّيت عـنّـك مو علمود شـي، بس لأنـه...

ضاعت الأحـرف وفقدتَ الزينبية سيطرتها عليـها، ضاعت الأحرف من نظرةً حارقـةٍ تُنبئ عن غضب أخيها .. بل أبيها كاظم!
أكملتُ حديثي وسط صمته، صمتهُ يُرعبني أكثرَ،
لما هو صامتٍ إلـى الآن، ما الذي ينوي فعلـه، الم يقولوا اتقِ شر الحليم إذا غَضب؟
وأنتي لم تتقِ شره يا زيـنب: بس، لان .. لان هو مسيـحي كَـالي خل نعكَـد وعقب نخبـرهم!

لقدَ تملكـه غضبـه الذي سَيطر عليـه بقوةٍ وحنانٍ لا يملكـها غيره!
أوقفـني بذراعـي، بل سحبـنّـي بذراعـي خارج أسوار المطعمّ دون ان ينطقُ بحرفٍ واحد ، دون ان يشعرني انني أخطأت!
لولا قبضته الحديدة التي خدّرت كتفي بعد وجعٍ لا يُطـاق وإلا قُلت أنه لم يغضبّ!

نظرَ إلـي نظرةُ لم أستطع ان أفسرها: خابري هالجلب كَولي له يجيّ!

لا أعلمُ إلـى اين يجيئ!
ولكنني لم أتجرأ واسألـه إلـى أيـن، كأن لساني الذي انفلتَ قبل بضع دقائق قد لُجمّ!
كأن حبّ آدم الذي سيجعلني أدافع عن زواجنا تبخّر.
لا أريدُ حبـاً يجعل أخي هكـذا ، لا أريدُ حباً يجعلُ كاظم قاسٍ في نظرته هكـذا.
لم يفعـلُ شيئـاً ولكن نعـته له بـ "الكلب" انبأتني بشيءٍ سيأتي.. شيئـاً لا يُحمد عُقـباه !
كاظم لم يشتمَ أحدٍ بحياتـه، لقدَ وصـل الحالم إلـى ذورة غضـبه.


***


قدمـتَ إلـى أبي الذي قد طلبني!
لم أرى احدٍ في المحلِ غيـره، حـتى العُمـال لم أجدهم، يبدو انهمّ رحلـوا من أجلِ ذاك الطلبّ الذي لم يصبرَ أبـي حتى يقولـه لي في البيت!

دلفتُ البـابّ: السـلام عليـكم.

ردَ السـلام وأشـار لي: أكَـعد.

أبـي دومـاً يتغـنى بالمقدمات، في كل حديثٍ يبدأ بالمقدماتِ وكأنه واجبٍ كلاميّ

هذه المرة طلب مني الجلوسَ بجانبـه لأمرٍ قد أظهـرَ ارتباكه وتشتت نظره: خيـر بويـه اشبيه؟

تحدث وهو بالكـاد يجمـع حرفيـن على بعضهما: جاني اليُوم وشـاية!

نظرتُ إليه "وشـاية" أي خبـراً كاذبـاً ، أو خبراً عن مكان رجلاً مطارد!
هذه الوشايات التي أعلمُ يا أبَـي.. هل من وشـايةً تُخفيها عنّـي؟

تحدثَ أبـي مُجدداً : سمعت اثنين دا يتحجون كَدام المحـل يكَولون بيـه واحد وشـى بصدام.

لم أفهمَ ما يقوله أبـي!
ولمَ هذا الارتبـاك والشتات، فليُقبض عليـه، أ تدخل أميركا بحجة المطالب الشعبية ولا نريدُ القبض على صدام؟

سألته: مسكوه ؟

فَزع أبـي: لا، بس يكَولون الاخباريـة صحّ!

نظرتُ إلـى ذلك التقويـم المُعلق الذي يخبرني أننا بأول يومٍ من دِيـسمبر!
لا أعلمَ لمَ أصدقُ بتلك الوشـاية كما يقول أبـي، هل لأنني أرى صدامٍ أكبر من أن يُخبر عنـهُ من خانه!
أو ان صدام أكثر حذرٍ من أن يوشـَى به.
وكيـفَ لو عَرف آلنٌ بهذه الوشـاية؟ احمد الله ان سـلاح ابـي عاد قبل ان يتصرف تصرفٍ أحمقٍ يتبعُ خبر رُبمـا يكون صادقاً عن رئيسـه!


***


تقابل كاظم وأبُوك عند شيخ أكبر جامع ببغداد، هيج كان رايـد كاظم اللي ضاج هوايه لما عَرف ان العقد بدون شهود!
وبنفس الوقت ارتاح لان العقد باطل من كل جهاتـه، أباوع على كاظم الما رايد يباوع على ابوك علمود ما يطلع ضوجتـه عليـه!
لهسّـه ما أعرف ليش ما تعارك ويـا أبـوك، ولا حاجّـاه، سَمعت أبـوك يحاجي شيخ الجـامع اليكَول كلكم متعدين على دينكم والعقد باطل بكل الديانتين!
بس هذا ما مَنع ان كاظم يعنّـد ولا يطلع كَبل ما يطلكَـني آدم، يكَوله الشيخ العقد باطل، ويكَول ما يخـالف يطلكَـها .
طلكَني ابوك هيـج!
وكَف وكَال انتي طالكَ.. ولا حتى باوع عليـه، حسيت وكَـتها انه رَخصني، وين ياللي ما يريد يعوفنّـي علمود هيـج عقد عليـه؟
وين ياللي بيواجه خوتّـي؟
انخذلت يا آلـن انخذلت!
طلع أبـوك كَبلنا وبعدها رجَعنا وكاظم لهسّـه ما تحجى ويـايه!
وصلـنا الكاظميـة، وصلنا البيت هميـنه وهو ما تحجّـى.
ولمـا وصلنا خذا خيزرانـة وموتني بيـها، كَلتني بالضـرب، هسّـه عرفت صوجي "ذنبي"، وهسّـه عرفت أني خسـرت أخويّ، غَفت عيوني على صوته وهو يكَول " تعرفيـن اللي يحل الحرام شـنو .. كافر يا زينـبّ كـافر".
صحيت بعدها بيوم، صحيت الفجـر وأني بمستشفى ببغداد ..



عَـودة ..
صحوتُ وأنـا أشـعرُ بآلامٍ لا مثـيلٌ لـها، لم تُجرب تلك المترفـة ضربـةً طائـشة مازحـة من أيدي اخوتها،
كان ابوهـا درعـاً لها ، ومن بعده أتـى كاظمـاً الذي حماها اكثـر واكثـر.
أجل زواجـه حتى تستقر في وظيفتها بما انها رفضت الزواج رأى الوظيفـة أعظم استقرارٍ ستواجـه زينب!
اغضب اخوته كثـيراً من اجلها.
نظرتُ إلـى جانـبي الأيـمن عندما شعرتُ بوجود شـخصّ!
لم يكنّ ذلك الشـخص إلا كاظم، حبيب اختـه، خيّـمة أخته، ظلال أخـته .. وكافـلها.

صحتُ بـه متوسلـة: دخيلـك كاظم ما اريـد سَـعد!

نظر إلـى ساخـراً : من يكَول دا ازوجج سـعد، فـلاح أبـوج اولـى، مو حرامات يخطب سَعد علـى خطبـة اخوه المسلم؟



مخرج الفصل الثامن والثلاثون

وجاء الجوابُ وكان جواباً
يَسرُّ القريبَ..ويُدني البعيدا
وأغرقَ نفطُ العراق الغزاةَ
ومن أشعل النارَ صار وقودا
وقال الرجال سنفدي العيونَ
وكُحلَ العيونِ ونفدي الخدودا

× د. احمد عز الدين×






لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 07-04-19, 04:34 PM   #42

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

مدخل الفـصل التـاسع والثـلاثون

فعــراقــي مــا كــانَ صبيـا
لتكــونَ على الحـقِّ وصـــــيا
وتُكــبِّلَ قلبـــي ويــديــــــــا
وتبـــاركَ قتـــلَ الأوغـــــــاد ِ

× عبدالناصر مُنذر رسـلان×

.
.
.
.

غَفت عيوني على صوته وهو يكَول " تعرفيـن اللي يحل الحرام شـنو .. كافر يا زينـبّ كـافر".
صحيت بعدها بيوم، صحيت الفجـر وأني بمستشفى ببغداد ..

عَـودة ..
صحوتُ وأنـا أشـعرُ بآلامٍ لا مثـيلٌ لـها، لم تُجرب تلك المترفـة ضربـةً طائـشة مازحـة من أيدي اخوتها،
كان ابوهـا درعـاً لها ، ومن بعده أتـى كاظمـاً الذي حماها اكثـر واكثـر.
أخر زواجـه حتى تستقر في وظيفتها بما انها رفضت الزواج رأى الوظيفـة أعظم استقرارٍ ستواجـه زينب!
اغضب اخوته كثـيراً من اجلها.
نظرتُ إلـى جانـبي الأيـمن عندما شعرتُ بوجود شـخصّ!
لم يكنّ ذلك الشـخص إلا كاظم، حبيب اختـه، خيّـمة أخته، ظلال أخـته .. وكافـلها.

صحتُ بـه متوسلـة: دخيلـك كاظم ما اريـد سَـعد!

نظر إلـى ساخـراً : من يكَول دا ازوجج سـعد، فـلاح أبـوج اولـى، مو حرامات يخطب سَعد علـى خطبـة اخوه المسلم؟

أي أخٍ مُسلم يقصد؟
بل أي فـلاحٍ يقصـد؟ أ قال فـلاح أبـي.. أي الفـلاح الذي جلبـه أبـي على حياته!
ذاك الفـلاح الغجري، الذي لا يشبهنا لا لونَ ولا شـكل
هل يقصد حنـطيّ البـشرة، أخضـر العيـن، مدعوج الاهداب!
هل يقصد ذاك الجميـل بجمالٍ لا أراهُ.. بل لا أحسبـهُ جمالاً ما دام ليس عربيـاً.
ولو كان عراقيـاً، فهو غجريٍ ، فهو منبوذ من قبل الفلاحين الذي يسكنون منطقتنا.
أخي لا يجعلهُ يذهب للبـيعِ لعلمه ان الغالبـية تنفرُ من الغجر وتسميهم بالـعامية العراقيـة "كاولية" !
هل تُرى زيـنباً ستتزوج "كاوليـاً" منبوذاً من شعبـها ؟
هل تُرى ستبدُلُ آدمٍ بكاولـي !!
فليرحم الله قلبـها، فليحنن الله قلبَ أخيها ويُغيّر رأيـه بهذا الزواجَ العزائي.
نعم عزائـي!
فقد ابدلتُ الدكـتور آدم المنصـور بفـلاح غجريـاً يعمل في مزرعة والديّ.
لما لا يزوجـنّي أخي بابن الشيخ، أ ليس هذا ما أراد لي؟
بل لم تحمله الفرحة وأتى الى بغدادَ يزفَ لي الخبـر.

نظرتُ إليـه مُجدداً متوسـلة وأنا أمسكُ معصمه: دخيل الله كاظم، دخيلك أبو علـي لا تخليني أطيح هالطيحة!
حرامات ترميني على غجري!

أرى وجهه مكفهراً مليءٍ بالاسـى، يحمل بين تقاسـيمه الخيبة.
وأي خيبةً حملها هذا الأخ!
خيبةُ الخيـانة العُظمـى التي وجهتها له اخته.. اخته التي باع العالمين من اجل ان تُكمل دراستها في بغداد،
ولم يكتفي بذلك بل شاجر اخوته مُجدداً من أجل حصولها على وظيـفةً راقيـة في بغداد لا الكاظمية الصغيرة التي بالكاد تضم مركزاً صحيـاً لا يراه كاظماً لائقـاً باخته!

هكذا تُجازيـه تلك الأخـت، وهكذا اصبح يردُ عليـها: أني انطيت الرجال جلـمة،
وهسّـه دا نطلع من هنانا، وتخفّ جروحج وتتزوجيـنه برضاج احسن لج!

خرج مـن أمامي ليُكمل ما تبقىَ لي من إجراءاتٍ وقد حسَم مصيري اثـناء هذيـاني وحسرتي على تفريطي بأخي!

××

تمسحُ دمعتها بعدما نَدمتُ على سؤالها، سؤالٍ أرعنٍ كهـذا ، ما الذي أردته من تذكيرها بأمرٍ فات!
أ لم يكفيـها ذلك الحزن الذي تجلد وتكبد على قلبـها؟
أ لم يكفيـها من الحزنَ الذي تخفـي؟ ان كانت هذه ردة فعلِ احنّ اخوتـها وارحمهم بها، ماذا عن الاخوة الثائـرين والاخت الوحيدة!
ماذا عن اخوها الأوسط "جعفـر" الذي لطالمـا حدثـني صادقـاً عـنه، يقولَ انه كان صلفاً شديداً،
وأي شدةً يمتلك؟
يمتلكُ من الشـدة التي تجعلـه يداوم بشكلٍ يومـي على مراكز الشُرطة في بغدادِ بسبب قضاياً لا تُعد، وكان معظم هذه القضايا تحت اسم الشـرف!
كان لا يقبل ان يتواطأ احدهم بالحديث مع أي امرأةٍ تمرُ في الشـارع، فقد رأى بائـعٍ يتسكعُ أمام امرأة و ما تحامل على نفسـه أمرٍ هكـذا !
حتى جعله هو والقـاع الذي يحمله واحد، لقد تسببَ له بعاهة بإحدى قدميـه!
وعندما سُئلَ عن سبب ضربـه المُبرح لـه قال من اجل اثنتين، حتى لا تحمله رجلـه لعملٍ مثل هذا ، وحتى لا يعجبَ المرأة منظره مرةً أخرى.
بل باتت إصابة ذاك الرجل خيـراً عليـه، فقد سُمي بعدها بالأعرج، وكُل ما جاد ببضاعته وأعجبت النـساء وصفنّ لبعضهن موقـعه بقولهن "محلُ الأعرج".
فتأتي المرأة في أول السوقِ سائـلةٍ عن دُكانِ الاعرج.
وهل تُراه عندما يسمع ان اسمه الاعرج، سيعرضُ جماله وطوله أمامها؟
بل يطأطأ رأسـه .. ليسَ من إصـابته بل من سببها الذي أصبحَ حديثَ الكاظـمية لأشـهر،
الذي فعلَ برجـلٍ هكذا ما الذي سيفـعلَ بزينب عندما يكتشفُ أمرها ؟

قطـعَ صمتُ زينب الحزيـن وصمتي احترامـاً لذلك الحزن دخـولَ صادق: السلام عليكم.

وجهتُ لـه سؤالاً لا قيمةَ لـه حتى ينشغل بي عن زينب التي تُكفكفَ دمـعها عـنه: ويـن رحت وتركـتني؟

جلسَ بجانبـي وأنا أميلُ جانبـاً حتى احجبُ عنهُ عمته قلـيلاً، وكأنني مُعطيـاً ذاك الحديثَ جُل اهتمامـي: رحتَ للكبيـنة وخابرت محمد،
دا يسـأل عليك، جان يتوقعك معتقل علمود شمرتك لسـلاح أبـوه،
تعرُف وكَعتـه ويـانا ولك مصخم!

انتقلتُ من وضعي الـسابق مُدارٍ لدموع زينب، إلـى مُهتمـاً بما يحكي صادق: شـنّو؟

تحدث وهو لا يجُود علـيّ بكلِ شيءٍ وكأنني أسرقُ الكلمات من فيـه!: ما اعـرف كَالي وين آلن كَتلـه رجـع، وكَـالي جيتي يمكم ما مضمونة هسّـه،
تعرُف حتى اني شاكك انه دا يتراقب!

جلستُ صامتٍ كصمتَ صاحبي الذي شُرعَ بعد قولـه هـذا، هل ستُنار قلوبنا بمعلومـةٍ تُنفـي ما نتوقـعه ثلاثتـنُـا.
هل أوقعـتُ صاحبي الآخر بما أنا بـه!
ألم يكفيني إيقاع صادقٍ في وحل المُطـاردة؟ لمَ أنا هكـذا لا أُؤثر على نـفسي؟
لمَ لا يخبرونني أهلي مَعنى الإيثـار الذي جهلته!
بل أنهم لم يؤثروا على انفسهم ويبقوا من أجلي، كيف لهم ان يعلمانني ما يفتقرانـه !
وكيف لا يعلمني الزمن ما افتقره والداي!
أ ليس الزمنُ كفـيلاً بهذه الأمور؟
ألم يقولوا ان الزمن يزرع بالـشخص ما لم يزرعـه أهله؟
ألم يقولوا ان الزمن يُربي العـاصي؟ ها هو ان لم يخلقُ بي مساوئ جديدة لا ينفعني بمحاسـنّه!
وهل للزمن محاسن؟
ألم يقولوا أهلنا تعوذوا من دورة الزمن، فأن دار مال!
أي لن يتعدل بعد دورته .. بل سيميلُ ميلاً عـظيـماً.
لقدَ انجرفَ ابنُ آدم بانجرافاتِ الزمن مُدخلاً صاحبيـه بهذه الانجرافاتِ مُتناسٍ ان كل واحدٍ منهما خلفهُ عائلـة وهو يظنهما مثـله .. وحيـداً .

تحدث احد الذين اغرقتـهُ بوحلٍ لا خلاصَ مـنّه: عَمتي تحاجيـك!

نظرتُ إلـى المحسوبة عليّ عمـتاً أيـضاً ، أليس زوجة أبي؟
إذٍ، هي عـمةً لي بشكلٍ رسمي، لم تكنّ عَمتي وحدها التي تحكي معي، بل انها تحكي وخلفـها ابنة طهران الوفيـةُ لها : هلا عمـة!

عادت حديثها الذي علمتَ انه قدَ انتهى من تأفف التي خلفها، تتأفف من إعادة أسطوانة رجاءها المُغلف الذي يأتيني بطريـقةً غير مُبـاشرة!

ان تحدث عَمتي بما ارادت بنتُ طهران فهذا يعني انهُ رجـاءٍ غير مُبـاشر، تنقلهُ لي تلك المُحببة على قلـبي حتى لا أقولُ لـها "لا": آلـن،
فدوة اروحنّ الك، خليني أطلع ويـا مَهتاب نتـمشـى شوية لعبت نفسـنا من كَعدة البيت!

وجدت الصمتَ منّـي فاستحثـتني: يالله صاحبـك رَخص لي،
وانته اعطيني سيارتـك!

أ كان طلب خروجكنّ وحدكنّ لن يكُون لي علمٍ بـه، ولكنَ حدّتكما "الدُنيـا" على طلب سمـاحي لكنّ بالذهاب بسيّـارتي!
أ لم يكنّ استئذانكم منـي كما استأذنتِ صادقـاً بالخروج لأنـه كما يقولَ دينكِ ولي أمرٍ ؟
هل جُنت بَسعاد حتى تذهبَ بوضـحِ النهار لوحدها ؟
لن تستطيـع التخفـي عندما تتأهبَ الأمور، لن تستطيـعَ القيادة بشكلٍ جيد حتى تراوغَ بين السياراتِ والأزقـة ان أدعى الأمـر.
لن تخُرج بعـمتي وقلبي مطمئنـاً كخروجي وخروجَ صادق!
لن يكون لها ذلك !
ماذا لو اُعتقلت، هل ستبقَ عَمتي سالمةّ؟
بل ستُدانُ بإدانتها، أُليست متسترة على مُجرمّ!
تحدثتُ إليـها وأنـا كُـلي عجبٍ من تلك التي لا تغضب، لا تمتلكَ شعوراً حتى تغضبّ!
ألم أبيحُ ضربـها منذُ يومين؟

ألم تغضبَ بسبب لصوصيتي على ممتلكاتها؟ ما الذي جعلها تخرجُ مُجدداً وتأتي من برجـها العاجي لطلبٍ مُستحيـلٍ مثلُ هـذا؟: زينبّ علمود نبيج سمعيني،
لا تتسودنين وياها، لو طاح حظكم بحاجز شدا تسوون؟

نظرتَ إلـي بَسعاد!
ويا ويحُ قلبـي من تلك النِجل ومن نظرةً رمتني بها.

هل تعلمُ علّـتي حتى تداويني؟ هل تعلمُ مصـابي حتى تطبطبُ عليـه بنظرةً: أروح فدوة ليسـوع أنيّ، خلينـا نروح!

هل تحاجينني بمنزلة يسوعَ كما حاججتُ عمتي بمُحمد، أ تخدعين عقلـي بحديثٍ كهـذا؟
ألم يكفيكِ قلبٍ تعلق بكِ؟: وإذا واجهج حاجز ما تطيح حظ عَمتي وياج،
تنزلـين بسرعة من الشـارع من تلمحين نُقاط الحاجز.

نظرتُ إلـي وهي تُرفعَ يدها وابتسامةُ الرضاء لم تزَل تُزينُ شفاهها: هذا احجيـه لعـمتك،
نسيت اني إيرانـية!

لم أنسَ سبب اعتلالُ قلـبي يا بنتُ إيران!
لم أنسَ سبب شيبُ رأسـي يا بنتُ إيران!
لمَ تحاولين إغضابي بأي طريقـةً؟ بإمكانكِ قول أنني لا أقود السيّـارة بدلاً من ادخالِ اللعيـنةُ إيران بكِ.
أعلمُ ان أنظمتها سببٍ في جهلكِ للقيادة، ولكن لا تأتي بذكرهـا أمامي.


***


أرى ملامحـهُ تتشـنجُ غضـباً حيالُ ذكري لإيران!
فلتغضبَ ما حييت ولتموت بغيضـك، من لم يقبلَ بذكر إيران فليتحملُ ما يأتيـه على لسـانُ مجنـونةً بحب إيران!
رأيتـه يتحدث إلـى عَمـته بتلك التعليـماتُ البلهـاء التي لا أعرفها من قبل إلا بوجودي في بيتِ مُجرمـاً.
وهل حـقـاً هو مُجرم؟ أو أنني أنا من شَرع إجرامـه؟
وأي إجرامٍ أتحدثُ عـنه؟ هل يحق لي أن أتهمه بإجرام لم يكن إلا مساعدتي، لم يكن إلا تحريري من يد احـتلالٍ فتك بأرضـهم كما فتكوا ببلادي في الثمانينات الماضـية!
ما بالي بُت أفكرُ مثلـه؟
ما بالي أصبحتُ أُدخل العراقَ في كُل أمرٍ بيننا؟
يكفيّني عُنصريته، لن اتعنصرُ مثله أيـضاً..
نظرتُ إلى صادق الذي بدأ يوصـي عَمته وكأننا سنرحلُ أيـامٍ وليس ساعاتٍ قلـيلة سأذهبُ إليـها كيفما أردت لا بإرادته هو وصاحبـه!
أخيـراً، خرجـنا.
لم أتصورُ أن يسمح لنا ذلك الجلمودَ برحلـة هكـذا، وعصرٍ أيـضاً،
لعلّ الله رحـمني عندما قررتَ الذهـاب إلـى "حاج عُمران" بعـيداً عن صُحبته في هذه الرحـلة!
أُريد ان أرى إيران بشكلٍ أقرب، وأن كانت بعيدةُ عن العيـن فنسيمها أقربُ للقـلب.
سمعتُ من أبـي سابقـاً أن الجنود الإيرانيون يعسكرون على أقربِ نقطـةً في ارض العراق!
وتـقعَ هذه النُقطـة على قُربٍ من مديـنةً تُسمى "حاج عُـمران" !
لقدَ صَبـا قلبي لها منذُ دخولي إلـى شقلاوة، ولكني آثرتُ جبـل المصـائب "جبل سفين" عليـها، فلمَ أجد منـهُ إلا مناراتٍ ضئيلـة تُزين الاهواز ومصيبتين كل واحدة أعظم من الأخـرى!
هذا ما وُجدتُ في الجـبل، وما الذي ينتظرني بـحاج عُمران.


***


أرى صـاحبي منتشي بخروجـهنّ ما الذي أراده!
أعلم لو انه لم يخفـي أمرٍ لا يريد منهنَّ سمـاعه لمَ جعلهنّ يخرجنّ بوضحِ النهـار وعلى مرأى الجميـع !
شروده ما جعلني أسمحُ لعمتي بالذهابّ.
ما الذي أردتُ الوصول إليـه يا آلن، ما الذي يشغلك حتى تتفوهَ لهنّ بالموافقـة، انك ترميـهنّ في غـابةً وتجهل مصيـرهنّ!
أ لم تقل ان المُطارد يحسبُ حساب ألف خطوة بمجرد تفكيره انهُ سيخطو خطوةً واحدة!
ما الذي اشغلك عن مُطاردتك السقيـمة، وجعلك تقـعَ في وحلِ أعظم منها.
أعلم أنك تتردد بين حديثٍ وآخر عن خبراً تُخفيـه تظنني سأسلك عن ما تُخفـي؟
بل سأجعلك تتمهل في قولك حتى تُبينه!
ما الذي يجعلنيّ أستعجل علـى "رزقـي" من خبراً أعلم انه لن يكون خبراً جيد.
بل رُبـما سيصبح مصيـراً في يومـاً من أيـامنا المـأساوية في شـقلاوة!
ألم يكن هروبـنا إلـى شقـلاوة مُجرد خبراً، ألم يبدأ بزرعِ الألغام ليـلاً.
إذٍ، ما الذي أشغلك يا آلـن حتى توقـعَ على قلـبي خبراً مثـله.


***


أراها لا تتحدث كثـيراً، بل أخبرتني بما أرادت!
تُريد الذهاب إلـى الحدود، بل إلـى مركز الحدود، تُريد حاج عُمران.
ارغمـتُ نفسـي على قطعِ مسافـة سبعون كيلو من أجل رجاءها الذي يُذكرني برجـائي لأخي الأصغـر " أحمد" وأنا أطلبـهُ الذهاب إلـى بغداد!
لا لمَ لم أذهبَ بنفسـي لهـا.
يعلمُ انني لن اطلبهُ من كاظم وجعفر لغضبهما الذي لم ينتـه مع مرورِ اربع سنوات.
كان يحنُ على أخته التي ترمـلت مرةً أخرى بعد استشهاد الفلاح الغجري تاركاً لها بضـعةً منـهُ اسمته عليّـاً .
أرادتَ بتلك التسميـة إغضاب كاظم الذي كان يُنادى أبو علـيّ نسبةً إلـى ابيهم!
لقدَ احتكر كاظم ذلك الاسم دونـاً عن باقِ اخـوته.
ولكنها لا تعلم تلك المُغفلـة ان كاظم يشعرُ بالذنب اتجاهها ولكن تأخذهُ العزةُ بالـشرفَ الذي هدرته عندما قررت الزواج بغيـر مُسلم!
لم يخاطبـها باسم عليَّ بل كانت زوجته حامل في ذلك الحيـن وما ان ولدتَ حتى سمعتُ انه اسمى ابنه صـادق!
لا أعلم لما اختار له ذلك الاسـم.
بل لأنني مُذنبـة ظننتهُ يتهمـني بخيانتي وكذبي، نسيتُ ان ذلك اسم والد زوجـته!
لقدَ كرهَ أسم عليّـاً عندما اخترته لأبني، وآثر على نفسـه وتسمى أبـو صادق نسبـةً لصُهره!
ما هذا الغضب الذي جعلهُ يتخلـى عن اسمٍ لطالما نُسب إليـه وتردد على اسماعه مُلكيته لهذا الاسم بقولـهم " أبو علـي"
هل تُراه تخلى عنـه لأنني تسميتُ بـه أيـضاً.
لهـذا لم أخبر صادقاً بسبب غضبَ أخوتي، خوفـاً من تخليه عني وكُره لأي شيئـاً قد يربطـني بـهّ!
ابن كاظم عذَب قلبي بشبـه الكبير بأبيه خُلقـاً وخَلـقاً.
أراد الله ردَ الدين الذي آلمتُ أخي به وجعلني أحتضنُ ابنه بعده!
وأراد الله ان يقتصَ لآدم من خمس سنين قطعـتُ بها أي صلـةٍ قد توصلـه إلـي وها أنا أيـضاً احتضنُ ابنه الشبيه به بكلُ شـيء.
لقد علمتَ سبب احتضاني لأولئـك الرجُليـن، ولكن ما سبب احتضاني لكِ يا مَهتاب؟
هل هو من أجل ان أتذكرُ نفسي بكِ، وبكلِ خـطوةً تخطيـنها.
أراكِ عـاشقـةً لذلك المسيحي الذي استجاب لنظرةً من عينيكِ ورجاءٍ يُكاد يتجاوز الكلمتين!
أراكِ تتخطين كُل الاخطـار باحثـةً عن هواء إيران المُتشبث بكِ!
كما تشبثت بـي بغداد وهواءها.
أراكِ أيـضاً تشتكينَ من جورِ أخيـك خالد، واتهام عُمر الغير مُـباشر بأنكِ سبب بتعاسته!
كما كان كاظمـاً وجعفراً.
والله أنكِ لم تأتي من اجل صحافـةً، بل اتيتِ حتى تُعذبي قلب زينب بكل خطوةً وحركـةً تصدرُ منـك!
هذا ما جعلني أستجيبُ لأمركِ يا مَهتاب، هذا ما جعلني أقطـعُ تلك الكيلوات الكثيـرة وأنا أدعُو الله ان يغفر لي كُل ما فعلتّ ، وأن يَمسح تلك العشـقَ من قلبكِ قبل ان يتضـخمّ أكثـر وأكثـر وتفعلين ما فعلتّ !
وجدتكِ أكثرَ تعقلاً ، بل أقلُ عشـقاً.


***


أرى أخـي يعودَ لـي كالمجـنون الذي يهذيَ ويخاطب نفسـه !
ما الذي قال له أبـي؟
ما الذي يخفيانه عنّـي؟
مُحمد لم يستجب لي ويذهبُ إلـى غُرفته مُجدداً ثم يغُلق البابَ خلفـه!
وها هو أبـي أيـضاً يعود .. شارداً ، يتمتمّ بشيءٍ يُشبه الدُعـاء
ويشبـهُ أيـضاً تعويذات وسيطة الآلـهة عشتار العظيمة!
تنقلُ لها مآسـيِ البشر وشكواهم، وتنقلُ لهـا دموع المآقي التي ذرفها أبناء بابل العظيمـة يرتجونَ بها صـلاحٍ وغـناءٍ ولهوٍ وطربٍ!
بابل أم الحدائق العظيمة تنكبُ ابناءها على صوت كريهةً يتوسل ويدعو لهمّ ونارً تقبسُ وصوتُ تلك الوسيطة تضجُ بالمكان وتقول بملأ فيـها " يا عشتار العظيـمة يتوسلُ إليـك أبناءُ بابل ببعضِ المال واللهو والحيـاةَ".
وهل تُرى التوسلَ اندثر باندثارِ بابلٍ وعشتار ؟
وهل تُرى الخنوع والاذلال اندثر؟ أم انهُ أصبح عادةٍ تتناقل وسطَ بابلٍ حتى توزعت على أبناء العراقَ والعربَ كافـة؟
أراهمَ مقنّعين الرؤوس صاغريـن عند سيدٍ من الطبقـة الارجوازيـة!
يتوسلونَ إليـه ببعض المـال فقط!
لا يريدونُ حريـتهم بعدما عبدوا المـال.
ألم يقلَ مُحمد خيرُ البريـة – صلى الله عليـه وسلم – "تَعِسَ عبْدُ الدِّينَارِ"
بل أصبحوا يعبدونَ فلسٍ لا يُعد!
إلـى أين سيحولَ إلـى الحال، والطبـقةُ تلك أصبحت تحكم، لم تحكم بعقلها ولا بعسكريتها ولا بدينها وورَعها، بل أصحبت تحكمّ بمالهـا.
أصبحت نفوسَ البـشر رهنّ الدينـار، أين ما ذهبَ الدينار ذهبَت إليـه نفوسَ البشر!
ومن أضـاعَ ديناراً تلحقُ روحـه بذلك الدينار .
أصبحت البشرَ الضعيفـة سلعةٍ بيد اولئـك التُجار!
وإن قُتلَ واحدٍ منهم، من الذي سيسمعُ لشكوى أهله ما دام يترأس العدل ارجوازيـاً آخراً.
نظرتُ إلى من لم يغريـه المـال، وبقيَ من عامـةً الشعب.. بل وبَقي يُدير محل فواكه بسيط، رغمَ مُلكه
لشيءٍ قد يؤهله لمنصبٍ مـا: بابا،
اشبيك؟ شصاير؟

نظرَ إلـي وقد شردتَ تلك المُقل إلى شيئـاً يخفى عليّ: خايف على البلد!

هل تُراه يخاف على البلد من بعد احتلالٍ عاث بها ، أو يخافَ عليها بعد تخلصها من جلادٍ لم يرحم أهلـها: خايف من شنّو؟
خايف يرجـع صدام؟

وقفَ أبـي وهو بائـساً : خايف من اللي ورة صدام!

من الذي بعد صدامّ؟ من الذي يخشـاهُ أبـي؟
ألا يعلمَ أن صدام كان دموياً ، كانت يده حمراء من دمـاء الشعب!
ألا يعلم انه كان قائداً لم يؤهـلَ للقيـادة؟
ألا يزالَ يحنّ لذلك القائد السفّاك؟ ألا يزالَ يحنُّ لذلك القائد الذي لم ينتصر إلا لطائفته؟


***


شعرتُ بنسيـمٍ باردٍ ليسَ تلك البرودة التي أشعرُ بـها بأجـواء شـقلاوة القـاسيـة!
بل نسيـماً يبعثُ بالروحِ حيـاة، نسـيماً يُذكرني بتلك الأيـام الخوالي التي عُشتها في أكنافِ إيـران.
إيراني.. كُنت استاء من جوهـا، من قَزوين البحر التاريخي المُغلق!
طهراني.. التي فضلتَ عليـها مزندران سـابقـاً.
هل لي بـحفنةِ أرضٍ من أي محافظة من محافظاتها الواحد والثلاثون؟
هل لي بفارسيـةً كنتُ امقتُ التحدثُ بـها.
هل لي بـملامحٍ غـريبةً على عربيتي؟ لقد سَأمت من تلك الوجوه العربيـة التي اواجهها يوميـاً في ذلك البيت الريفي.

نظرتُ إلـى زيـنب التي بدأت تُعلق على ما ترى: دا تشـابه شقـلاوة – نظرت إلي وهي تقول – بس أحلى؟

هاجمتها بتهكمٍ مُعلقـة: لا،
دا تشــابه إيران، مثل الأهواز أرضـها خضـراء ورضيّـة، باوعي ميّتها كيف نديّـة!

ضحكتّ زينب: ماء المطـر ما يتغيـر نفسـه!

بل يتغيّر يا زينب، يكونَ نديـاً عندما يواجه قلوبٍ نديـةٍ لا تعرف الحقد والكره، يكونّ صافيـاً كصفاء النفوس الذي شوهته بلادكِ بحرب الثمانين.
كانت الأرضُ خضراءَ والشعبُ ندياً كفراشاتٍ لا تعرف من المواسمِ الا المطر.
ولكنّ صدامكمّ شنَ حربـاً على شعبٍ لا يعرف ما معنـى الهاون، ولا يعرف المُدرعة!
ولا يعرف الصاروخ، شعبـاً مُسالمـاً.
شعبـاً يُجيبك عن أنواع الشَـهد والياسمين والجوري، شعبـاً يتعجب من ذكر المُدرعة والقذيفـة..
مـهلاً يا مَهتاب!
كأن حنينكِ أوصلكِ إلـى الكذب، ألم تثور إيران على الشـاه بهلوي قبل حربـها مع العراق؟
ألم تمتلأ شطأنها دمـاً، ألم تنتهي تلك الحرب الدمويـة وتبدأ أخرى مع العراق!
وتنتهي تلك وتبدأ حربٍ مع شعب الأهواز المستضعف.
كأن إيرانكِ الدمويـة وليسَ عراقـهم!
ما الذي يجعلكِ تهذين بهـذا يا مَهتاب؟ ما الذي يجعلك تصلين إلـى ذلك؟
أتركِ كُل ما زرعـه ذاك العراقي بقلبك من أحاديث الحرب واستمتعيّ في حاج عُمران الحدوديـة مع مملكة قلبـك الإيرانية.


***


تجاوزنا السَـاعتين في جولتـنا اليتيـمة، التي لن تظفرُ مَهتاب بمثـلـها، تلك الجولة الصامتـة احترامـاً لُحزنٍ تلك الغريبة على بـلادهـا.
يحقُ لـها ان تحزنَ، فقد ترجتني كثـيراً ان تلامس قَدميها الأرض وهذا ما حذرني منـهُ آلـن!
لا نستطيـعَ ذلك.. تحسبـاً لأي هجـومٍ قد يأتي!
تحسبـاً لأي انفجارٍ نهربُ مـنَـه بأقل الأضرار، تحسـباً لأي تعريـفاً ينالـهُ المارة من ملامحِ مَهتاب..
حان وقتَ العـودة وحـان الرحيـل، فلتودع تلك الأرض البعيدة التي تتوهم أنها تشمّ رائـحتها!

نظرتُ لـها : نرجَـع؟

تسألت ولم تُلقي لحديثي أي اهتمام: أول شـي خلصـنا منـه، وشمّيت ريـحة إيران ..
بـاقي فد شـي صغييير لازم أعرُفـه، وما اريد الولد يسـمعون!

نظرتُ لـها، أي جنونٍ تحملـهُ هذه الفـتاة،
أ ترى ذهابـنا إلى هذه الأرض وبهذا الوقت من أجل حديثٍ ستقوله لي!
بإمكانها قولـه ونحنُ نرتشفُ قليـلاً من الشاي!
بإمكانها قولـه لي عند ذهاب أبنيّ لمشاويرهما الكثيـرة،

أوقفتَ السيّـارة يمنياً وأنا أديرُ وجهي لـها: شنو حابّه تعرفيـن؟

دوَت قُنبلتها بوجـهي: شنو بينـج وبين آلن؟


***


لقدَ ذهبَ مُجدداً لشراء الخـمرَ!
لم يكنّ طائـشاً حتى يهذي بكأس خمراً، بل كان يستخدمـه لتنظيفَ سـلاحٍ كاد ان يبلـى!
يملكُ أطنانٍ من الأسـلحة ولم يستخدم إلا واحدٍ يعود إلـى أبو محمد.
هذه الأسلـحة لو تُفقد يضـيعُ مُستقبل عشرة رجالٍ وراءها.
فضـلاً عن امتلاكهم للأسـلحة فأنها تعود لوزارة صـدام المُدان الذي دخلتَ دولـةً لاحتلالنا بحجـةَ البحث عـنه.
نظرتُ إليـه وهو يحملُ بضـعة أسلحةً ويعود بالمزيد.
ما هذه الروح المنتشيـة وهي تحملُ الأسلـحة، أ يراها قُرةُ قلبـه حتى تعود البهجةُ إلـى قلبه وهذه الاسلـحة تتوسط جلسـتنُـا؟
أ هذا ما أخرج عَمتي ومَهتاب من أجله؟
ليسَ من أخلاقه أن يحترم وجودهمـا ولا يخرج خَمـراً.
بل .. هُناك شيئـاً في نفس يعقوبَ لم يُفصح، فلننتظرَ يعقوب يُفصح عن ما أشغلَ نفسـه!

تحدثَ بعدما انتهـى من جلب السـلاح أجمـع: اشبيك صافن هيج؟

ابتسمتُ إليـه وأنا أعلم انه يُمـهدُ بحديثٍ لم يبدأه: انتظر جنابك تخلص من هالبلوة قبل ترجـع عَمـتي؟

لقد سَكب خـمراً ملئ المكان برائـحته النتـنة، المُحببة للبـعض!
فقد بدأ يتفشـى في بلادنا ويُبـاع أمـام العـامة وكأنه أي بضاعةً تُبـاع !
كـان يُباع في مناطقٍ مُعينة لا يعرفها إلا من أراد أن يسكُر..
أما الآن يُباع كما يُباع التـبغ، كما تُبـاع القيثارات والعـود العربي.

تسألتُ: ما تحسّ البلد بدت تفسـد؟

ضحك الآخر ساخراً: ومـتى صلحت علمود تفسـد؟

جاريتـهُ تلك السخرية وكأنـهُ لا يعلم ان صدامه سبب الحرب التي أباحت للفاسدُ فساده!
فقد كُثرَ القَتل، كُثَرت السّـرقة، زادت إعداد الانتحار في شبابٍ لم يبـلغوا من عمرهم إلا أعوامٍ معدودة!
ما الذي سيضُره لو تنـحى من أولِ مطالبة؟ أ ليسَ ذلك أفضل من تخفيـه!
كأنه أرنـباً استعرضت قواها أمام أسدٍ، وما ان اتى حتى تخفت في اقربِ مكان لـها.
أ يقالُ لـه بعد ذلك أسد العرب!!
أي أُسدٍ تنعم به العرب حتى يكون صدامَ على رأس أسـودهـا.
كتلك الجلسـةِ التي يسودها صوت الزنادِ الذي نتأكد من خـلالـه من عدم إبـقاءِ أي رصاصةٍ بجُعبته!

تركَ ما في يده وبقيَ يتأمل الأرضَ وكأنه بدأ بنطق جوهرته التي جعلته يسمـح لهنّ بالذهاب وحدهنّ: أبو كاظم،
عوفّ اللي بيدك وأسمـعني، بس عليك الله ما تضـوّج!


انتهى




مخرج الفـصل التاسـع والعشـرون :

بعــــراقي هـارونٌ قــــــالَ
هذا الغيــــمُ أنـــّــى مــــــــالَ
بالبشرِ يُنــزلهُ تعــــــــــالى
ويعـــودُ لنـــا بعـــدَ حصــــاد ِ
بدمــــائي أفـــدي بغـــــــــدادي

× عبدالنـاصر منذر رسـلان×



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 07-04-19, 05:35 PM   #43

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



مدخل الفصل الاربـعون

مـاذا، وبغدادُ المفاخر أصبحتْ
عطْشَى، تُلمِّظ قلبها الحسراتُ؟
بغـدادُ ، يا بغدادُ ما التَفَتَ المدى
إلا وعنــــدكِ تُـــورق اللَّفتـــاتُ
بغدادُ ماابتسمتْ رؤى تــاريخنا
إلاً وعندكِ تُشرق البَسَمـــــــاتُ

×عبدالرحمن العشـماوي×
.
.
.

جاريتـهُ تلك السخرية وكأنـهُ لا يعلم ان صدامه سبب الحرب التي أباحت للفاسدُ فساده!
فقد كُثرَ القَتل، كُثَرت السّـرقة، زادت إعداد الانتحار في شبابٍ لم يبـلغوا من عمرهم إلا أعوامٍ معدودة!
ما الذي سيضُره لو تنـحى من أولِ مطالبة؟ أ ليسَ ذلك أفضل من تخفيـه!
كأنه أرنـباً استعرضت قواها أمام أسدٍ، وما ان اتى حتى تخفت في اقربِ مكان لـها.
أ يقالُ لـه بعد ذلك أسد العرب!!
أي أُسدٍ تنعم به العرب حتى يكون صدامَ على رأس أسـودهـا.
كتلك الجلسـةِ التي يسودها صوت الزنادِ الذي نتأكد من خـلالـه من عدم إبـقاءِ أي رصاصةٍ بجُعبته!

تركَ ما في يده وبقيَ يتأمل الأرضَ وكأنه بدأ بنطق جوهرته التي جعلته يسمـح لهنّ بالذهاب وحدهنّ: أبو كاظم،
عوفّ اللي بيدك وأسمـعني، بس عليك الله ما تضـوّج!

***

أوقفتَ السيّـارة يمنياً وأنا أديرُ وجهي لـها: شنو حابّه تعرفيـن؟

دوَت قُنبلتها بوجـهي: شنو بينـج وبين آدم؟

ما الذي سيكون بيني وبين ابن عشيقي يا مَهتاب؟
ما الذي سيكُون بيني وبين من حملَ وصـفه ورسمه واسمه؟
كذبتُ قلـبي الذي رجَف من هوّلِ شوقٍ أحاط بـه، كذبتُ رجفـةٍ سكنت يداي التي قبضت بـها مقود السـيارة حتى لا تبينُ رجـفتها: أم وابنها قابل شنو بينهم؟

نظرتَ إلـي!
وهي تمتلكُ نظرةً ثاقبـة تستخدمها بموقـعها الصحيح، استخدمتها لإرضـاءِ آلـن والآن تستخدمـها ضدّ مشـاعري المتأججة شوقـاً ولوعـةً: بس!

تشابه آلـن بإصرارهـا، يُثير مشـاعري المتوقدة وهو يسألـني عن أخوتي وتُثيرَ هي مـشاعري المكبوتـة وهي تسألني عن آلن وابـيه.

همستُ لـها : بس.

وعادت مُجدداً لاستثارة مشـاعري: تتوقعيـن لو وحدة مكانـج، ضامـه عن ابن اخوهـا شي بتكَـعد مرتـاحة؟

نظرتُ إليـها بحدة!
ما الذي تعلميـنه يا مَهتاب، ما الذي جعلكِ تستدرجينني من شـقلاوة إلـى هُنا.

***

بهتَ لونـها وهي تقول: شـنّو؟

ما الذي ابهت لونكِ واغاب ضيـاء وجـهكِ، ما الذي جعلكِ هكـذا شاحبـةً وكأنكِ أُغنـية الشـهادة التي تنطلقُ في أفـواه المواكبّ التي تلحقُ بالشـهيد!
كلماتها لم تتضح وهي تغُوص بحشـرجة صدور السـائرين للتأبيـن، وألوان اعلامهـا باهتـةً بعدما تغنى بها آلاف الشُـعراء!
نعم انتِ هكـذا يا زيـنب!
كأنكِ زفـةً استقبلت شـهيد، كأنكِ كُحلاً أسوداً تزّينت بـه عروسٍ لا تغشاها من السوادِ غـيره.
كُنتِ الفـرحة النـاقصـة، والمأساة الفـرحة..

نظرتُ لـها بعد ما استفهمتّ مجدداً : يعـني ما أعرف أحساسي يكَول وراج شي ضامـته على صـادق.

رأيتُ الراحـة تسكُنها مجدداً، تأكدتُ ان هُناك شيئـاً جللٍ يُخفى عنّـي: ماما مَهتاب باعي لي..
الام وابنها قابل شنّـو بينهم؟ ام وابنـها افتهمتي؟
آلـن عرفتـه من هو زعطوط أبو السنتين تريدي ما احن عليـه؟
ما اباوع لي مثل ما اباوع لابن اخويه؟
ربّيته بين ديّـاتي، أقسم الخبزة بينه وبين صـادق، جّـنت اشوف بيهم ابني اللي انكَتل.. جنت اشوف بيهم زّينب الصغيرة المدللة، دللتهمّ وربيتهم سوا.
درستـهم، مرّضـتهم، كُل شـي يخطر على بالج سويـته لهم، ما جنت اريد اقـصر على ابن كاظم بشـي..
الموت اهون عليّـه من دمعة ابن كاظم، حبّيت كُل شي يتعلق بيه!
حـتى صاحبـه ما قصرت عليه بالحُب، انطيتهم كُل شي اكَدر عليـه..
مع انهم كلهم ما عيـالـي، واحد ابن اخويـه وواحد ابن جارتيّ..
بس الام اللي تربـي يا مَهتاب، اللي تخلف وتشمر ابنها ما تسمى امّ.. صح لو لا؟

أومأت برأسي وصوتاً بالكاد يخرج خجلاً من ظنوني السيئة : صح.

هل حـقاً ظلمتهم!
ما أقبـح الظُلمَ يا مَهتاب، وما أقبـح ظلمكِ له للمرةِ الثانـية.
لقدَ ظلمتيه سـابقاً بالخَمر والآن بعلاقـةً ساذجة بينهما ، حتى ولو بالغوا بتلك العلاقة ولكنها تُسـمى أُمٍ ثـانية!
كأمومتها لصادق، كأمومتـها لـمحمد .. كأمومـتها لي أيـضاً.
ولكنَـها تُبالغ في حبّ آلـن،
وهل تُلام بـه!
لقد ظلمتُ أيضاً هذه المرأة النبيـلة التي لو تجاوزت حداً من ديـنها فهي قد رّبت من تجاوزت مـعه ذاك الحد.
وهل من تجاوز عندما تدمَع عينيها بحضنه؟ وهـو من وارى دموع صغره بحجرها؟

نظرتُ لـها وهي قد سارت بطريـق العودة إلى شـقلاوة: زيّنب حبّـابة!
أني هيـج مسودنة كُلـش ما أفكر.. سَـامحيـني..
ابتسمت تلك الرّضيـة: مَيخالف مامـا.

***

حادثتهُ بما يجولَ في خـاطري رغم عدم اقتناعي التـامّ بـه، ولكن هذا ما سيحدثّ!
رغـماً عن الجميـع، رُغـماً عنها ورغمـاً عن مُحمد أيـضاً.

نظرتُ إلـى من عاهدني انه لن "يضـوج" : أريد أخطّب محمد لزُمرد.

التفتَ إلـي نصفِ التفاته مُنتظراً أسباب تلك الخطبة القبيحة!
نعم قبيحـةً تلك الخطبة عندما يخطبُ الرجلُ رجلاً لأخـته، فهو يُرغمَ صاحبه عليـها، يضعهُ قاب قوسيـن وأدنى من الاحراج الذي لا يستسيغهُ رجلاً شرقياً.
وهل تظـنهُ سيرفضُ تلك الخُطبة التي سيقدمها أخ الفتاة لهُ: كَبل كم يوم خابرتني أمـي عن خُطبة زمرد لواحد ما عراقي!
وأعرف زُمرد ما تريد، وعلمود هيـج دا اخطبها لمحمد.

تحدثَ صاحبي وهو لم يفقدُ اعصابه كما كنـتُ أتوقع : والسبب؟
ليش دا تخطبها لمحمد؟

لن تفهـم مخاوفي يا صاحبي، لن تفهم مـعنى ان صغيرتك ستعيشُ عُمرها في ظلالِ رجلٌ لا يعرفُ من العراقِ إلا أسـمه!
لن تفهمَ مـعنى ان من تربتَ في اكنافِ عراقنا ونمتَ على حُبـه ستشارك ابناءها بضـعٍ من حُب العراق فقط ..
فوالدهم سيشاركهم الجزء البـاقي من حبِ بلده!
أبناء الزُمرد لن يحملوا الجنسية العراقيـة يا صاحبي، وهل تقبلَ ان صاحبـك سيُصبحُ خالاً لمن لم ينتموا

لأرضِ العراق؟ : أريده يجيبـها للعراق، أني مطلوب ما أكَدر أروح، وهو من يوصلـها لبغداد يطلكَـها وتـجي يمي!

أعلمَ إشارات الجنونَ التي تلبست صاحبي: آلـن ما يصيـر..
ولك كيف تقرر حياتـهم؟ وتتوقع يطلكَـها هيـج؟ بس وصلها الك دا يطلكَـها؟
اختك ما سـلعة علمود ياخذها ويشمرها هيـج!
وبـعدين منو كَالك محمد دا يـرضىَ؟ هذا اخو خيّـته دا يطكَ لك صدره ويتحمل كُل شي ..
نسيت أمـه؟ ما قبلتك صاحب لابنها علمود تقبل اختك عَروس لـه، تسودنتَ آغاتـي؟

ما هذا الهجومَ يا صاحبي؟ لا يعارضَ دينك هذا الزواج، لمَ لم تقبله؟: على كيفكَ صادق!
اني ما كَلت أريده يتزوج اختي؟
كَلت بس يملج عليـها ويجيبها من بلجيكا ويطلكَـها، لا أحد يعرف!
اهلـه كلهم لا يعرفون، يوميـن ونفضـها سيـرة.
وانته همينه نسيت أمـي؟ والله دا تجبر زُمرد عليّـه، أميّ حابّـه عريس الغفلة!

جلسَ صاحبي بجانبي بعد نهوضٍ مشاكسٍ لواقعٍ أكاد افرضـهُ على اثنين..
هما الضحيـة في هذه القـصة، ولكن لا أحبذَ زواج اختي من شخصٍ غير عراقياً ولو كان مسيحياً.
أ ليس الوطـنُ دينـاً آخر ؟ لمَ تفرطُ بأحد دينيها من أجل رجل!

تحدثَ صاحبي وهو يربت على فخذّي: آلن!
فدوة أروحن لك لا تحجي ويا محمد، تعرفـه مدا يرفـض، خطيّـة تزعل عليّه امه بسببك، حتى ابوه مَيقبل بزواج لابنه هيـج، مَيقبل ينكتب كتابه بعيد عنـه.

لا أعلمَ لمَ كل هذا الرفضَ اللئيم من صادق!
كيف لو عَرف بعمته؟

بدأ صاحبي يقنعـني بحديثـه: تعرُف محمد ما يحبّ الغلـط والظلم، مُستحيل يطلكَ اختك لو ما رايدهـا، راح يتحمل ويضـحي علمودك!
ترضاها على اختك؟ ينجبر عليـها رجّـال؟

لم يفهمـني مهما تحدثت!
لا يفهم معـنى ان بضـعة اخـتك سينتمون لبلدٍ آخر، لا يعرف معنى ان أختك لو فكرت بالعـودة لن تعود للعراق.. بل ستذهب إلى بلد زوجـها.

لا يفهم معنى ان زُمردتـك ستذهب من يديك ويديّ العـراق!: لا خاوة يطلكـها، بلكي هي ما تريده!

نظرَ إلـي نظرةً مـبهمة: بلـكي؟!
أني اضمن لك هو ما يريدهــا ، كافي يضحـي علمودنا، خليـه يختار حياته بنفسه..

نهضَ صاحبـي مُزيلاً لآثار الخَمر بينمـا بقيتُ في حيرتي!
ما الذي سيحصلُ ان اتى بهـا وطلقـها؟
لن تكبر الأمور ولن اجعله يبقى مرتبطـاً بها، نعمّ!
سيطلقـها رُغمـاً عنهما جميـعـاً، كما فرضتُ عليهم تلك الحيـاة أيـضاً سأفرضُ عليهم انهاؤها.
يجب أن أُحادث زُمرد أولاً .. ويجب ان توافق أيـضاً.


***


في الثالث عشـر من دِيـسمبر..
نظرتُ إلـى السـاعة التي شارفت على السـادسة صباحاً ونظرتُ إلـى مُحمد الذي يجلسُ يمينَ أبـي.. كأنهم في حفلِ تأبين!
كأنهم في حدادٍ امرأة عراقيـة لبستَ الأسود سنة كاملـة على وفاةِ زوجـها ..
كأنهم بيتٍ عراقيٍ لا تنتهي ارملتـهُ من سوادهـا حتى تعقبـهُ اختها او حرمَ اخيـها عليـه!
باتت الشـَوارع لا تخلـو من ثُلـةِ نسـاءٍ لبسنّ الاسـود، بل وبات البـائع لا يتبضـعَ من الأقمشـة إلا سوادهـا.
يكتب الموت على رجالَ الحي قبل ان يموتون!
تدفعُ المرأةُ نقودَ قماشـها الاسـود كما يدفـعُ المجاهـد نقودَ قبره.
يحاربُ من أجل تحرير العراقِ وهو لا يملك بها حتى قبـراً..
أ هذه العدالـة؟ يحررُ أراضٍ وهو لا يملكُ أرضٍ .. بل قبـر.

نـظرتُ إليـهم وأنا نادمـةٌ على عدم ذهابي لجارتنا مـع أُمـي: شبيكـمّ؟

نظرَ إلـي مُحمد، وانا لم أتأكد ان كان ينظرُ أم لا، كنتُ أراهُ يشتتُ انظاره بكُلِ مكان!

ويمدُ نظره إلى ما ورائـيّ، وكأنه لصٍ انتهز فُرصـة النظر إلـى مكان سيسطو عليـه الليلة: صدّام..

لمَ يبتر جملـته هكـذا ؟ هل آذى صدام أحدٍ؟ هل خرجَ من معزلـه؟: اشبيه ؟

تحدث وهو ينفثُ هواء سُمم بالهمّ خارجـاً وكأنه يبثـهُ إلـى رئتي لكي يتقوقعَ سمّ الهم والخوفِ بـها : خانـوه وخبـروا عن مكـانه..

ضربتُ جيبي من هول خبراً تلقيته : عمت عيني عليـه!

هل حقـاً سأحزنُ من أجـلِ صـدام؟
هل حقـاً "عمت عيني عليـه"؟
هل حقـاً سأذرفُ مدامـعي من أجله؟ هل حقـاً رحلَ القـائدُ العظيـم؟
كيف تحملهم قلوبهم على وشايـةً كهذه؟
كيف استطاعوا نقلـها إلـى الاميركان؟ ألا يعلمون هيبـة صـدام؟
الا يعرفون من هو صدام؟
كأن غيابـهُ في الأشـهر الماضـية انساهم من هو أخو هدلـه.
أنساهم من هزمَ الفُرس من أجل عراقٍ مزدهـراً، هزمَ كل من سوّلت له نفسـه في دمار العراق ونهب خيراتها.
حاولَ ارجاع محافظتي العراق المسلوبات، لما لم يقدروا جهوده؟
لمَ لم ينصروه؟
ألا يعلمون انه صـدّام ؟ قويّ البـأس، الصلف، الصبور!

سمعـتُ أبـي يقول: اعتقلوه؟

ردَ أخـي والهمُ قد تجلـى في وجـهه: الفجر.

تساءل ابي ثانيـةً: دا تروح شـقلاوة؟

نهضَ أخـي: أكيـد..
آلن مخابـر اخته بفد موضوع وينتظر ردهـا ، وأنيّ تأخرت عليـه هوايـه!

فليرأف الله بكَ يا آلـن!
كيفَ ستتحملَ وقـعَ خبراً هكـذا؟
ان كان هذا حالـي وانا الكارهة لصدام ما هو حالك انت؟
ان كان هذا حالُ أبـي الماقت لصدام ومحمد المتحفظ عليـه.. ماهو حالُك انت؟


***


أراها تتقدم خطوةً وتتأخرَ عشرا.
تبدو كأنها ضائـعة.. وِجلـة، تخاف الدخولَ وتخاف مما قد يُقـال بعده.
كخوفي فجراً من تلقي الخبر نفـسه، كوجلـي منه وأنا القيـه على مسامعها وعلى مسـامع أبي.
نعمّ!
نخاف النصـر الذي يشبـه الهزيـمّة، أليسَ نحنُ من طالبنا بسقوطـه؟
لما نقلبُ بيتنا الى محطـةِ تأبين ضخمـة، تتجرع بها الأرواح الهـزيمة!
نعمّ نصرنُـا على صدام أعظم هزيـمة، ما أقبـح ذلك النصر وما أحزنُ المنتصرين.
أراها تدخلُ بعد ترددٍ، أليست مُنتصرة؟
لمَ كل هذه الانهزاميـة والتردد الذي تعيشُ بـه؟

أمسكـت ذلك المشط الذي أُسرحَ بـه شـعري: محمد حبّـاب باوع لي.

ما الذي "أباوع لـه" يا أختُ مُحمد؟
هل أنظرُ إلـى رجفـة اعتلت شفاهكِ ويديكِ؟
أم أنظرُ إلـى مآقٍ تحجرت وتنتظر كلمـةٍ حتـى تهطل!

ما الذي أنظر إليـه يا مـلاذ: هه.. باوعت لج.

حركت يديـها وهي تقول: يـعني خلاص صدام راح؟
عـفيه تأكد بلكي غلطانين بغير واحـد، بلكي يكون خُدعـة لو كميـن من صدام.

ما أحزنّ تلك الأمنيـات التي تخرجُ على هيئـة احتـمال..

ما أحزنُ عينيكِ التي لطالما طالبت بسقوطـه ونالت ما طلبت وذرفت!: باباتي والله متأكـدين.. حـتّـى يحجون انه دا يطلع على الفضـائيـات المساء.

هطلـت عينيـها وهي تُديرني ظـهرها عائـدة!
عادت بعد خطواتٍ من الرجـاءِ والتوسل حال انقطاع ذاك الرجـاء.
كانت ملهوفـة على خبـر يقول انه "مزحـة" بـل "كميـن"..
صدام لا يُعتقـل هكذا، صدام لا يموت موت الضـعفاء.
ان لم يمتّ جبـاراً لن يـموت جبـانا ، صدام لا نتصـور نهايـته!
القـائد المُقـدس للبلدِ الاقدس لا أحد يتصـور نهايـته بعد الاعتقـال..


***


نقـاشٍ مُحتدم بيـن الصديقيـن الذين انظر إليـهم من نافـذة المطبـخ مجاورة لزينب التي تُحضـر الفطـور وهي تسألـني: بره برد؟
اشـوف آغـاتي صادق عاجبـته الكَعدة بره!

رددتُ علـى سؤالـها وانا قد شـهدتُ خروج آلـن وصاحبـه إلـى المزرعـة!
كأن البيت الريفـي يضيقُ بـهم ليخرجوا في برد ديسـمبر ..
يتحجج صـادق بأن البردَ لم يبدأ ، فهو يمتلك عشـرةُ أيامٍ قادمـة "للتشمس" خارجـاً.
وتقاطعـه زينب المُمرضـة التي تهوّل الامـر وتحادثـهم عن قساوة تلك الضربة التي سيتلقونها من شمس الشـتاء الدافئـة: الجـو حلـو، تباوعيـن الضباب ع الجبل؟

تركت ما في يدها وهي تأتي بجواريّ: تحسيـن شـقلاوة كلـها وسط غيـمة،
سُبـحان الله!

كررتُ مع تسبيحـها وعيـنايّ تدمـع شوقـاً لتلك التي أرى نفسـي فوق الغيـوم مُجرد ما أخطو على أرضـها..
شـوقي لتلك الغيـمةُ النديـة التي لا تحجبـها حتى شمس الصيـف، ومن قال انها لا تحجبـها؟
بل شمسُ صيـفها بعينيّ غيـمة، الغيـمةُ لستُ مجردِ بيـاضٍ يصحبُ المطر..
بل الغيـمةُ طهران النقيـة، إيـران العجُوز، مزنداران الفتيـة.
كُنت أحلمُ تحت غيـمةً اعتلت نهر "اورند رود" على أطراف مدينة المحمرة "الخوزستانية" أو "الاحوازيـة" كما نحبُ مناداتنا.
كنتُ أسمـعُ حديث والدي عـنها ولم ازرهـا إلا بعدمـا دخلتُ الصحـافة.
كنتُ انازعَ صحبّ الصحافة وأقول اسمهُ "شط العرب",
والآن انطقُ اسمه الفارسي بكل سـلاسة!
هل تُراني أحببتُ العرب في ظـلال طـهران، وعندما خرجتُ منـها حنّيتُ لطهران.
يا لساذجـةِ شوقـاً يجعلـني متقلبـة الأحوال كحربـاءٍ تتلون لما تتصيّـر عليـه.
ولكني لم أتصيّـر إلا باتجاهٍ معاكس لما انا عليـه..

نظرتَ إلـي زينب التي قد انتهت من اعدادِ الإفطار : يلا ماما.

لحقتُ بـها وأنا أتأمل الغيـمَ الذي سـاقَ قلبي إلـى عاصمـته المحببة طهران واعادني على سِفح جبـلاً يتوسط شـقلاوة!
اقتربتُ مـع عَمتي والنقـاشُ ما زالَ قائـماً بينهم، يبدو ان آلـن المنهزمّ برأيـه هذه المرة، على عكسِ عادته!

وضـعتَ زينب الإفطار على تلك الطاولة التي تتوسط جلستهم، وتحدثت وهي تسكبُ الشـاي: شبيكم؟

تحدثَ صادق: مـاكو.

ابتسمت: بكلي تلاكَـوا وياي جارة "حل".

تحفـزَ ابن اخيـها للحديث: هالمصـخم دا يخطب اخته لمحمد، دا يقبلها منطق؟

نظرتَ زينب إلـى آلـن الذي ابتسمَ حيالُ نظرتـها: انسى الموضوع هذا على صـفحـة ولا تفكر بيـه مرةً لُـخ.

نظرَ إليـها آلـن: اشبيج زنّـوبة؟
ما رايده تُبقـى زُمرد يمج؟ أني دا اطلكَـها منه رأساً من تطبّ العراق.

غضبت زينب وهي تقول: هذا اللي باقي..
دكّ النـاقصـة بيـهم مثل أبـوك..

نظرَ إليـها صادق: اشبيه أبـوُه؟


***


رأيت دهشـتها من سؤالِ صادق، بل هزيمتها وتعثـر احرفها : تخيل ماما، تزوج مُسلـمة وطلكَـها، هيـج علكَها بيـه وشمرها.
دا يقبلها العقل؟ دا يقبلهـا الديــنّ؟
وهـي هميـنه مسودنـة كيف ترضـى بيه وهو أخذها على مُرته..
تخيـل ماما ، تجاوز على ديـنه ودينـها !!
وهي القشره يالرضت بيه، في بت عاقلة تعمل هيج؟ - ثم وجهت الحديث لموضوعِـنا – و هسـّه صاحبـك دا يطكَ النـاقصـة ويعيـد امجاد أبـوه.

رأيت الدهشـة تعلو ملامح صادق الذي يحتفظ بردة فعلـه التي قد تسيء بوالديّ، رأيت التوُتر يغزو زينب التي تطوّل حديثها حتى لا يشعرُ صادقٍ بنعتها لنفسـها بهذا الحديث.
لمَ يشـعر بتفصيلـها للحديث، تُبرأ نفسـها وتنعت المرأة المعنيـة بالجنون حتى لا يشعرُ بـها.
نظرتُ إليـها والتقتَ عينيـنا، وهي تفركُ يديـها ببعضٍ وتنظرُ بين الفينـةِ واخـتها إلـى صادق الذي انشـغلَ بإفطاره عـنها.
تُقطعَ لـهُ الخبـز حتى ينشـغلُ بما تناولـه عن ما حدث!
لا تعلم انها تُحيط نفسـها بالشكِ وتُشككهم أكثر.
نظرتَ إلـي وهي تُشيـر لي بعينيها ان أحادثَ صادق ، لا أعلم بما احادثهُ؟
يبدو انها "ستكبُّ عشاءها" مجرد شكها بانه عرفّ!
يا لـها من امرأة وجـلة!
أ تخافـه وهو لم يقـل شيئـاً !
لم ينظرُ لـها ، نظرتـه وحدها من يبحث خوافيّ زينب..

ضحكتُ علـى نظراتها التي ما زالت تطلبُ مـني ان احادثه، تلقفت ما في يدها وهي تضربـني به: وسليـمة تطيـح أسنانك. " سليمة= مصيبة"

ضحكتَ مَهتاب التي لا تعلمُ ما الامر وهي تقول مازحـة: معليـه آلـن، احسبـها عليـه لخاطر أبـوك.

هلّ تُريد ان تنوب عن زينب بسبابي؟
أ يُقال من المزحِ زرح!!

نظرتُ إليـها وانا أقول: علموج بس.

شعرتُ بارتباكـها، شعرتُ بخجلـها، وكأنها لم تقل لي منذُ قليـل ان احمّلـها المذّمةِ بدلاً من زينبّ!
تبّاً لشعورٍ يجعلها هكـذا تنتفضُ خجـلاً، ما بالكَ يا آلن أ ليست فتاة؟

نظرتُ إلى صادق الذي سنّ حديثٍ قاصداً بـه الخجـلا: تره يكَول محمد دا ياخذج ويـاه المرة الجـاية.

تصلبت يداي وأنا أقول: وييين ؟

همستَ هي: لديـالى .. ارد أروح ويـاه.

نظرتَ إلـي عَمتي تُنبهني من حديثٍ يسوء بجلسـتنا الصباحية: محمد تأخر هوايـه.. خوما بيـهم شـي؟

نظرَت إليـها وأنا أقولَ : هو كَالي انه دا يتأخر ، اليوم او بعده يجي..

نهضـت مَهتاب وتحججت بامرٍ يلزم عليّ النهض .. وكأن الحجةُ تُفيد وأنا مفضوحِ المشـاعر أمام زينب، التي مسكت يد ابن اخيـها حتى لا يقوم ولا يتحدث
أريدُ ان أفهمّ سبب عزوفـها عن حياةٍ بيننا، لمَ يرنو قلبـها إلـى ديـالى!
أ ليست هيّ معقلـها أو باب حُريتها ان صح التعبيـر..
لقدَ دخلت ديـالى بصحبـةِ الجيـش وخرجت منها بصحبة رفـاقي، لمَ لا تحنُ لـها وهي لم تشهد ذكرى بيـننا.
كأنها تُريد عذابـي وهي ترحلُ إلـى مكانٍ أجهلـه، نعمَ أجهله ما دامه لم يشهدُ شيئـاً وقـعَ في قلـبي..
لم تشهد هذا العذاب الأسـطوري الذي لا مثيـلُ لـه.
كأنها تُريد مسـحي من ذاكرتها، ولكن لمَ إلـى ديـالى؟
صعدتُ أعلـى وأنا أرى طيفـها قد تسلل إليـه، يجب ان أفهم لمَ الرحيـل؟
ألا يكفيها مُطاردةً ننعم بها قد تُفرقـنا بأي لحظـة!
ألم تقولَ انها مُمتنـة لي؟ فليكن شكرها لي بقاءٍ بجواري.

تنحيت عن طريقـها وهي تعود مُجدداً للـنزول: بَسعاد أوقفـي.

توقفتّ!
نظرت إلـي وهي ستعوُد اسـفلاً، تُعلـي رأسـها حتى تنظرني في أعلى السلالم، أليسَ حديثـاً شاقاً الذي سيدور عن مسـافةٍ هكـذا: تعـالي يمّـي.

تقدّمـت فعـلاً وهي تقف على أعتابِ أول درجـةِ أعلـى، سحبـتها جانبـاً إلـى تلك الجلستين الانفراديتين
التي تقاسمنا انا وصاحبي بها ليالٍ السـهر : ليش دا تروحيـن؟

نظرتَ أسـفل، وهي تتحدثَ: هيـجّ !

وهل كانت الأمور المصيـرية تُجـاب اسئلتها بـ "هيج"..
نعمّ!
انها مصيرُ قلـبي لمَ لا تفهمُ ذلك؟
لمَ لا تعيّ بـه؟ أ تحمل درجـةً كبيرةً من البـلادةِ تجعلها لا تشعر بمن حولها ؟
هذا ان شعرتَ بنفسـها أولاً : لا ما هيـج،
هذا مصـير مدا نكَـول هيـج، زمالـة؟ مسودنـة؟ اشبيييج نسيتي ان ديالى كلها ثكنّ وعسكر؟

نظرتَ إلـي وهي تكشف خوفـي الوهمي من اعتقالها : حتى هنانا اكو عسكر .

لمَ لا تفهم ما أعني: بس هنانا اني يمجّ،

شعرتُ بوتيـرة الغضب التي علت بتلك المتحفظـة في حديثها : أنته يميّ!!
من متّـى؟ لما ضربتني ؟ لو لما شمرت بلاويـك عليه؟
من تضـرب بيك مصيبـة كَلت مَهتاب هي السبب، ولك حتى اسمي نكرته، ولكَ تخيل أصيح عليك باسم مو أسـمك وأخليك عدّي علمود افرغ بيك ضوجتي وطركاعاتي
من متى انته يمي؟ اني وجـه نحس عليك صح لو لا؟ هذا حجيك آغاتي من متى وأنته يمي ولا مداريني .
وبعد كل هذا تكَول ليش دا تروحين؟

حان لك يا وجـهُ ان تخجل من أفعالكَ بـها، حان لك يا دمـاء ان تنزفـيّ من هَول دمعاً تراكم في جفنيـها.
وقفتُ وانا أتقدمُ إليـها وأنا لا أعلمُ أي قولٍ أقول، هل أُخبرها عن ما يجـول في قلـبي من أحاديثٍ تُشبه تراتيل كـنائسٍ في ارضِ تُدين المسيحيـة ، لا تُقرع أجراسـها على مسامع الجميـع خوفـاً .. كخوفي من قول أن آلـن "هـوى"..
نعمّ أخاف الهـوى، أخاف النسـيم، أخاف الليـل الذي تسمت به ..

هل تعلمين انني لمَ أخافـه إلا بعـدك: بَـسعاد أني آسـف،
بس همينـه انتي تحدّيني اسوي وياج هيـج، أني اتسودن إذا شفت الغلط وانتي تتمادين بالحجي ويـايه!

نظرتَ إلـي مُجدداً وكأن عينيـها تُرسل بريقـاً لم افهمه إلـى الآن، هل هو بريـق متحديـاً لي، أم بريقَ الرحيـل بدا يشعُ من عيـنيها ؟
ولمَ لم يكن ذلك البريقُ عبارةً عن مدامع؟: دا تفهمين عليّ بَسعاد؟
أني أخاف عليـج، ما أريدج تروحيـن لغيـر مكـان!

ابتسمت بازدراء وهي تقول: لا عاد تخاف عليـه رُحمة لوالديـك،
اش لقيت من خـوفك إلا المـذلة!

رحلت..
رحلت وتركتني أمام مقعدها راجيـاً، أمسكتُ يدُهـا متشبثـاً بها قبل الرحيـل: لخاطر الله لا تروحيـن.
لقد فضـحك قلبـك امامها يا أبـو آدم، لقدَ ابتسمت لهزيـمتك.
لقد لامستَ الحُب في صوتك!
شـهدتَ هزيـمتك يا آلـن، كيف تجعلـها تنتصرُ عليـك؟ كيف تتركها تتمادى بالحديث لتُخرجك المُذنب!


***


هل حـقاً تُريد بقائـي؟
هل حـقاً يمسكُ يدي راجيـاً مني البقاء؟
هل حقـاً هذا آلـن ام ابدلوه ؟ هل يستطيـع قول أنه يخـاف علي من أذى قد يُحيط بي؟
متـى تطوع عقله وبدأ يُفكر؟
لا يوهمـكِ يا مَهتاب بحروفـه، هو لا يخاف عليـكِ بل يخاف على نفسـه لو اعتقلتِ.
يعلم انكِ رُبـما ستُخبرين عـنّه، يعلم انكِ ستعوديـن إلـى إيران وتتركيـه في معاقل اميركا.
لأجل ذلك قال انهُ يخـاف.. لا توهمـي قلبـكِ وتسمعي له!
هو لا يخاف عليـكِ يخاف على نفسـه فقط ..

مخرج الفصل الاربـعون

صوت المــآذِن فيكِ يرفعنـا إلى
قمم تشيِّدها لنـــا الصَّلــــــواتُ
أوَّاه يـا بغـــــدادَ أَقفـرتِ الرُّبى
ورمَى شمـــــوخَ الرَّافدين جُناةُ
لغةُ الحضارةِ أصبحتْ في عصرنا
قَصْفــــاً ، تموت على صداه لُغات
لغةُ تصــوغ القاذفاتُ حروفَها
وبعنْفهـــــا تتحدَّث العَرَبــــاتُ

×عبدالرحمن العشـماوي×


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 07-04-19, 05:47 PM   #44

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

مدخل الفصل الواحد والاربـعون:

آهِ يا بغـدادُ يـا أمَّ البــلادِ !
آهِ لو تدريـنَ شـوقي بازديـادِ!
آهِ يا أحـفادَ سعــدٍ والمثنّـى
هل وُلدتم فوق أعناقِ الجِيـادِ ؟!

× د.عبد المعطي الدالاتي×

.
.
.


هل حـقاً تُريد بقائـي؟
هل حـقاً يمسكُ يدي راجيـاً مني البقاء؟
هل حقـاً هذا آلـن ام ابدلوه ؟ هل يستطيـع قول أنه يخـاف علي من أذى قد يُحيط بي؟
متـى تطوع عقله وبدأ يُفكر؟
لا يوهمـكِ يا مَهتاب بحروفـه، هو لا يخاف عليـكِ بل يخاف على نفسـه لو اعتقلتِ.
يعلم انكِ رُبـما ستُخبرين عـنّه، يعلم انكِ ستعوديـن إلـى إيران وتتركيـه في معاقل اميركا.
لأجل ذلك قال انهُ يخـاف.. لا توهمـي قلبـكِ وتسمعي له!
هو لا يخاف عليـكِ يخاف على نفسـه فقط ..
ولكن لمَ هو هكـذا ، راجيـاً ، خانعـاً ؟ أليس هو من يشرع الكلمة وعلى الجمـيع التنفيذ ؟
أليس هو من سيزوّج اخته لمحمد دون مشورةِ أحد منهما ؟
أليس هو آلـنُ الذي لا تُكسر له كلمةٍ ولا يُقطع له حديث!
لمَ هو هكـذا الآنّ!
لمَ يخافُ الرحيل؟ هو قطـعاً لم يخف من أجلي، بل خاف من رحيلي، كررَ " لا تروحيـن" أكثر من مرة!
أ ترى برجائه أمراً أيـضاً؟
لم يُؤكد قوله عندما قُلت انك لا تخاف علي، لم ينفِ ظني به، كُل ما في الامر انه قال لا ترحليّ.
أظنهُ يخاف الوداع ، يخاف الغياب، يخاف الرحيل.
لقد سمعتُ من زينب ان أهله قد خيّـروه بينهم وبين العراق، فاختار العراق!
لمَ لم يقل لأهله لا ترحلوا كما قالها لي؟
وهل تُرى للعراقِ صوتـاً يُناجيـه بالبقـاء؟ هل تُرى للعراقِ نبـضاً تُقرع طبوله من أجل الرحيل؟
رحلتُ ليس من غضبٍ، ولا من حسـرةٍ على ما فعل بي، بل رحلتُ لأنني لا أحبُ نظرةِ الرجاء منه!
لا أحبُ ان أرى السُلطانَ أسيـراً مُقيداً بكلمة الرحيـل..
لقد سببت له هذه الكلمة "فوبيـا"، الويلُ لأمـه من خوفـاً جسدته في قلبه الفتيّ الذي شابَ.
الويل لأبـوه الذي لم يجبـر خاطره ويبقـى بجانبه، لم يتوكأ عليـه بكبره كما يفعل الإباء مع أبنائهم.
الويل لأخـيه الذي سافرَ من أجل زواجٍ يرتبط به وقد نسـيَ رباطَ الأخـوة!
الويل لأخـتيه اللواتي لا يفـتأ عن ذكرهما، يُقدمَ لهما ما يستطيـع، يريد لهما الأفـضل .. كزواجٍ سيفرضـهُ على زُمرد دون معرفـة أسبابه!


***


نظرتَ إلـى وحيدي ان صح التعبيـر، فهو الابنّ وبُقيّـة الأخ، ورائـحة طين تلك القبـور الأربعـة التي خلفناها ورى ظهرنا في الكاظـمية: يُمـه صادق مـتى تفرحنـي بيك؟
أريد أشوفك عرّيس قبل أمـوت.. تعرُف ما ضلّ بالعُـمر كثر اللي راح!
وأني ما اريد من هالدنيـا إلا أأمن حياتك كَبل أموت..

فزَع صغيري وهو يقبلُ يدي: بعد عُمر طـويل، دخيـل الله لا تقهريني..
ما بقـى لي إلا أنتي .. لا تفجعيني بهالحجي المصخم. "قهر = حزّن".

ابتسمتُ ودمـعتي قد تسربلت في سواد شعره وهو منّـحنيٍ ليدي: حبيب عمـتك والله،
إذا ما تريد تقهرني وتنقـهر عليـه تزوّج..
أنته بس كَول يالله واني دا اخطبّ لك بت سُلطان لو تريد.

ضحكَ وهو يحتضنُ أكتافـيّ: عوفي بنات السلاطيـن عدّ اهلهن، واللي خلقج ما يصير الا اللي يرضيـج بس نطري علـينا شوي لما تتعدل اوضاعنا.
اكو احد يخطب وهو مطارد؟

زفرتُ الهمَ من تلك المطاردة بقدوم المُتسببة ببعض الشيء منـها، تعود مكفهرة الوجـه.. وهل تركـها ابن آدم بحالها حتى تعود بانبساطه؟

جلست وهي تبدأ القولَ حتى لا أسألها، لقدَ حفظت تفاصيلها كما حفظتُ سابقيـها: جّـن الجو بدأ يبرد؟

أيدها صادق وهو ينهض: صح،
يلا ندخل؟

وقفتُ وأنا أحمل بقايا افطارنا مع مَهتاب: يالله.

أمـشي بالمنتصف واحدهما يميـنٍ والآخر يساري، ما الذي سيضرُ صادقاً لو وافقني لخُطبتها؟
لقد وافقا بعضيهما طبـاعاً و خفـةِ دمٍ وديـناً .. هذا الأهمّ لقدَ توافقا ديناً.

تحدثتُ إليـها : ويـن آلن؟

رفعت كتفيـها أعلـى: ما أعرف.

نظرَ صادق ناحيـة الباب، متفقداً سيّـارة صاحبه: ما طلع من البيّـت،
تلاكَـيه يحوس بالأسـلحة له أسبـوعين وهو دايـر عليـها.

نظرتُ إليـه: ليكُون دا يعود لطركاعاته وجهاد الصخـام مالته؟

هزّ رأسـه نافيـاً: لا .. قالت يعود،
اش يعود؟ عليمن يعود أصـلاً، هو ضـل حواجز بشـقلاوة!

تسألت مَهتاب: لمن طلعنا اني وزينب موجودة – تؤكد حديثها له - من عشر أيام كانت موجودة!

تحدث وهو يُخبرها: بس من كثـر الهجمات عليـهم خلاص ما صار بيـه حواجز، الجـنود تداوم خفارتها بفـرع، لين يلكَـون لهم جـارة،
يا خُوفي تطبّ قـوات المارينز هنانا هميـنه!

نطقتُ متخوفـة من حديثـه: شنّـو هاي يطبّـون؟
ما كفـتهم بغداد وديـالى؟ عَـمى بعينهم ولاد الكلبّ.

ربت صادق على كتفيّ: وحيـاتج دا يطلـعون وعينج تشـوف.

تممتَ مَهتاب بـ "ياربّ" تبـعها دخولنـا للصـالة بينما هي ذهبت تُجدد لنا الشـاي!


***


ما الذي أصابَ عقلي وانا ارتجيـها؟
هل جُننت، هل ثملَ عقلي؟
أ أفندُ ذلك على حبـها ؟ سحـقاً لحبٍ يُهينني، سُحقـاً لمشاعرٍ تودي بي أمامها مرتجيـاً ان لا ترحل.
ولما ارتجيها؟
لقد وضعتُ لها قيـمةً وودتُ ان يأتي الرفضُ مـنها، كان باستطاعتي ان أكفّ صاحبي عن اصطحابها معه لديـالى..
بل بوسـعي ومقدوري واستطاعتي أيـضاً، وهذا ما سيحدث!
أردتُ ان أضـع لها قيـمةٌ بينهم وهي تقول " لن أرحـل"، ولكن الآن فلتتحمل نتيجـةُ عصيـانها وتمردهـا.
تباً لها كيف تقول بوجهي انها لا تُريد مني أن أخاف عليـها، بل كيف استطاعت ان تقول لـي "ولك"..
تلك الكلمة التي تُقلل من قدر المعنيّ بـها، تلك الكلمة التي استشيطُ غضباً من صحبي عند قـولها لي.
أ لم تقل اليوم انها ستنوبُ عن زينب بشتيمتي؟
صار لها ما أرادت وصدقت بعهدها، لقد شتمتني، لقد تطاولت معي بالحديث!
ألا تعلم انني عراقيٍ.. عصيٍ على فتـاةٍ مثلها ان تلوي ذراعي؟
ألا تعلم انني عراقيٍ .. يقبلُ الموت الذي انتشر ببلاده بدلاً من قول "لا" له من شفـاه فتاة!
وليس أي فتاة .. انها إيرانية!
انها بنتُ فارس التي أبغضُ، كيف قادني قلبي إلـى ترجيـها ان تكفَ عن ما راودتها نفسـها به!
لمَ لم يصحو عقلي إلا متأخراً.. أعني بعدُ رحيـلها، لمَ لم أوقفها عند حدَهـا ثم ترحل حيثَ أرادت .. إلـى ديالى ان ارادتّ ولكن قبلها يجب ان تعلم من كانت تُخاطب بهذه الوقاحة والأسلوب الارعن!

رفعتُ رأسـي على صوتِ زينب التي يبدو انها قد انتهت من جولتها التفقدية التي تبحث من خلالها عـنّـي: انت هنانا واني ادور عليك.

ابتسمتُ لـها وأنا أغلقُ كتابٍ لم أقرى منهُ حرفـاً، ولكن دعتني الانفـة لفتحه حتى لا يقولوا ابن آدم شغلـت عقله امرأة، كتلك المرأة التي تحادثني وقد شغلت آدم قبـلي: لا تكَـعد هيج بروحك،
تعـال سولف عليـه..

وقفتُ ذاهبـاً لها: اعترفي .. ما يكمل صباحج الا بيـه.

ضحكتّ وهو تقول: ولك مصخم والله احبنّـك.

ما هذا الحُب الذي يسبقه شتيمة؟: تحبيني؟ وانتي كله ترزليـن بيه!
حرامات والله أبـو آدم ما يستاهل منج هيـج..

توقفت وهي تنظرُ إلـي، ادّكرت وطاري آدم يعود في الأفق مجدداً: ليش ما تحجيت ويا صادق؟
ورطتني وياه..

ما زالت توهم نفسـها انها وقعت في شِراكِ صادق: والله ما داري عن هوا دارج..
انتي ليش كله خايـفة ما عرف طول عُمره تريديه يعرُف هسّـه!

تسألت وهي تجوسَ خيـفةً: أفكر أقولـه؟

لقد جّنت.. كجنوني وانا اطلبُ من تلك البـقاء!! : لا شنّـو هاي تكَولين له!
لا تحجين ولا شـي، خلي الحجاية مستورة دام الربّ سترها.

تحدثت وهي تنزلُ في أول خطواتها مع السلالم: سمعت صادق يكَول انك هاليوُميـن تتفقد سـلاحك!
دخيلك يُمـه ما ناقصني وجـع راس عوف هالشـغلة اش رايد بيها؟
بتحرر العراق قابل!!
كل اللي تكَتّل اثنين لو ثلاثـة شـنّو استفدت؟

مُحقـة بما قالت، ولكن هذا لا يعني انني اتركَ الأرض بما رحبت لهم: لو عدّنا جيش بيه خير ما بقـى المحـتل دقيقـة!
ولا نسيتِ أيام التسـعين اش سوى بيـهم صدام؟ نسيتِ الصـاروخ الصنعت أميركا علمود تضرب العراق؟
جـان الرئيـس مطيـح حظهم وهسّـه طاح حظ العراق بـعده..

أعلم ان تحفظـها على الرئيس وقولـي كان من باب ان لا أغضب، اعلم عداوتها اللا منتهية مع صدام حُسيـن.
لو كان بيدي لجردتَ العالميـن من كُرهه، وجعلتهم ينظرون إليـه من خلال عيـناي ويسمعون خطاباته من خلال قلبيّ..
لا بأس، سأعُيركم قلبي وعيـناي حتى تنظرون إلـى الحياةِ بشكل جيد..
اعلم ان نظرتكم السوداوية لصدام لن تضره ، ولكنها ستضركم.. حتمـاً ستضركم عندما تنتهـي حياتكم وانتم لم تتعرفوا على قائد عظيـم يُسـمى صدام حُسيـن المجـيد..

عَمتي المتحفظة كتحفظ ابن اخيـها الذي تحدث: انته تحجي عن صدام اللي أعرف لو لا !

يقولها هكـذا ساخراً، لمَ تُقلل من قيـمةِ صدام وبنتُ طَـهران تسمع.
ألا تلتمس ابتسامةُ السُخرية التي اعتلت مُحياها يا صاحـبي؟
ألا تشعر بانها تبتهجُ داخليـاً من شقاقِ حـلّ بين أبناء العِراق العظيم؟: انته أعمـى مدا تشـوف زيّـن..

غيّـر صاحبي مجرى حديثـه لأنه لا يريد ان يُتعب حباله الصوتية في نقاشٍ عقيم، وصمتتُ أنا أيـضاً واستحسنت صمتَ صادق بسبب وجودها بيننا، ألا تشعر بأنها دخيلـةٍ بيننا؟
وكيف تكون دخيلة وانت قد جرّك ذكر الفراق الى ترجيـها بالبقـاء بجانبك!
أخشـى الفراق وهذا ما أبقاه والدايّ في قلـبي أثناء رحيلهم، خوفي من فراقٍ جديد جعلني أنذلُ إليـها متوسلٍ البقـاء.
وأي بقاءٍ أُريد؟
بقاء إيران التي ما زالت تمتصُ من دمـي من ناحيتين.
الأولى من دباباتها التي بدأت تجرُف أرضَ بـلادي وتتشبث في الأرض أكثر وتُدمي قلبي بكُل ثباتٍ يقويها بأرضـنا.
والثانية والأدهـى .. ابنتها
لقد كسَرت القَلب وأدمتهُ وبدأت تقطعُ شرايينه بكل بسمةٍ تُزين تَقاسيم وجهـها.
لمَ ترسل الدوُل جنودها التي تُعود لها ملفوفةً بالعلم؟
لمَ ترسلُ الدبابات والجرافات والمدرعات، ثم تدعمها بالطائراتِ من أعلى؟
لمَ لا يفعلوا فعلَ إيران؟
لقد كسبت حربها وهزمتني عندما أرسلت لي ابنتها.
لقد كسبت بنتُ إيران قلبَ البغدادي، وهل هُناك هزيمة أكبر من هذه؟
هل يُهزمَ المرء وقلبـه حيـاً مُفعمـاً بروح الثورة؟ بالطبـع لا.
ولكنه يموتَ عندما يُسلبَ قلبـه ثم أرضـه.
لم أعد قادراً على شتيمة إيران بوجودها أخافَ من دمـعٍ تذرفـه تلك العينِ النجـلاء ويُذهب بريقـها.
لم أعد قادراً على التمتعُ بعراقيتي، لقدَ احتلوني !
بقيَ عقلـي مازال يتقوقع بـه أسم العراقَ.. ماذا لو احتلت ذلك العقل وأصبحتُ خلفـها .. عراقيٍ مجنون!

نظرتُ إلى صادق الذي قطعَ حديثه مع عمـته، لم أكنّ واعيـاً لذلك الحديث ولكنني فقتُ على وقفتـه وهو يقـول: محمد جـاء.

ذهبَ صادقٍ لاستقباله، بينما وقفتُ أمـام الصالةِ لأخذ العلمِ اليقين من زُمرد، وهذا ما حدث عندما قدمَ مُحـمد إلـي وسط سؤال صادق عن غيابه الطويـل.. الذي لم يتجاوز العشرةِ أيـام ألا بقليـل

تحدَث مُبرراً: بالشـتاء كُلش مشـغول ويا أبـويه، بس اليوم انجبرت أجي يمّـكم علمود فد شيّ مُهم لازم تسمعوه!

تحدثتُ هذه المرة بعدما سلمتُ عليـه: كَبلـه أريد احجي ويا أختـي..

سلّـمني هاتفـه وأنا أشعرُ بـه مُشتتاً، مسالمـاً، لم يجادل، لم يبدأ بموضوعِ بَسعاد كزيارته الفائـتة.


***


دَخـل غائبـي وهو على حالٍ لم أعهدها ، لما ابتسامتهُ هكـذا شحيحة؟

لما يرتشفُ الموتَ في كأسه؟ وكأن الشاي شابـه دم ميـتاً يتلذذُ محمد بشرابه!
لما هو هكـذا ضـائعُ؟: أهلك بيهم شي؟

رد سؤالِ بجوابٍ وهو يقول: لا الحمدلله كُلش زييّـن.

عُدت سؤالي بصيـغةً أخرى وذلك الوجـعَ الذي نُقل لي من أسابيعَ ما زلتُ اتجرع فاجعـته: وأهل آلـن إن شـاء الله بـخير؟

أجاب بتلقائيـة مُشتتة، ولما لا تتشتت وهو هكـذا يُشتتُ نظراته بالمكان، يهربُ بعينيه حيال وقوعها بعينيّ احدنا: لا الحمد لله بخـير، من هستوه مخابر يـنال – ثم أردف – يسلم عليـكم.

أتته إجاباتٍ هامسة مُتقـطعة حتى من ثالثتنا الصامـتة، ليُردف بعدها صادق: شـنّو الشي المُهم يالجاي علموده؟

أنزل الآخر كأسـه: دا ننتظر آلـن.

صمتَ .. وتركنا في حيرةً من أمرنا، ونحنُ نُقلّـب أفكارنا ونضـع بها المساوئ.
بالطبع إنها مأساة ما دامت هذه ملامحُ ناقلها.
فلننتظرُ آلـن .. لتكتمل المأسـاة.


***


مشـاعري نفسـُها في كل مرةً أحادث بها أهلي، لاسيما محادثتي لزُمردة القلب.
كيف لا أُحبها وهي من رَفضت ذلك الزواج العزائـي، فكيفُ لا يكون عزائي وبغدادَ تُزف الى عرش عربيٍ لا يُقدرها.
هل تظنُ أن بغداد تصلحُ عاصمـةً لبلدٍ غير العراق؟ إذٍ ملاذي عاصمة لا يجدر بها أي عرقٍ ولا جنسيةٍ سوى العراق!

أتـاني صوت تلك الملهوفة: هلا بالجبد .

رددتُ بصوتٍ لا يقل منها لهفةً: هلا بيج عيـنيّ، شاكو ماكو؟

كأني شعرتُ بها تستقلُ مقعداً مـا وهي تقول: على حطة ايدك ببيّـت ينال، وماما تحاول بيـه وأني مغلّسة.

شجعتها على عراقيتها بشكلٍ غير مباشر، وعلى موقفها بشكلٍ مباشر: عفيـه.. ظلي هيج مغلّـسة.
ثم تحدث متضجرة من قرارها الذي جعلها تبقـى أسيرةُ رضـاء والدتها او الدفاعُ عن عراقيتها المسلوبة: لمـتى بضل هيـج؟

أتاك مربَط الفرس يا آلـن: ما كَلتي لي رايـج بزواجج من محمد؟
تره لو وافقتي عليـه باجـر يجيج..

شعرتُ بها تغوصُ بخجلها وكأنها للتو لم تتحدث بزواجٍ مثيلـه!
شعرتُ بـها تتلعثـمّ بأحرفـها: ما أعرفّ.. انته اش رايك؟

أ بعد كل هذا الصمتَ الذي أذابـها خجلاً تسألني عن رأيي!
وهل أُسأل عن شيءٍ قد عقدت العزمَ بتنفيذه؟: أني اللي دا اسالج عن رايج؟
لج عشر أيام دا تفكرين بيـه؟

همستَ وهي ترميّ احرفها وكأنها تُريد التخلصُ مـنها: خـلاص.. أ.. أني موافقة.

ابتهجتَ اساريري، اودُ احتضانها، اود تقبيل الهاتف الذي أوصل لي موافقة اختي.. اودُ ان أشكرُها فقد أصابت!
لقد عرَفت تختارُ شريكَ حياتها.
لقد أقرّت بأمرٍ صحيحٍ فقد فقدَ والديها الصحـة مـنذُ ست سنوات: والربّ ما راح تندمـين، محمد اخو خيّـته، سامحيني زُمرد .. بس هذا الصـحّ،
وأني متأكد محمد أكثر واحد دا يصونج ويحافظ عليـج .. صح تمنيت زواجج بظروف أحسن!
- ثم زفرت همٍ طُبقَ على صدري من جريرةٍ جررتها على صغيرتي - تره محمد خوش ازلمة، الله يوفقـج

تحدثتَ وهي تتعثرَ بالأحرف: ما تاكل همـيّ ألون، أني واثقة بيك – ثم تحدث على عجلٍ- اجت مرة ينال، مـع السـلامة.

هذا ما يقتلني يا أختُ أخيك، تقتلني ثقتكِ العميـاء بي!
رُبمـا تصبح هذه الثقة في قادمِ الايام عمياءٌ صماء بلـهى..

لا أعلمُ لما تُخفي علـيها أمرٍ سيصبحُ حقيقةً في قادم الأيام القليلة.
الأمر ستعلمـه ويعلمهُ الجميـع ان لم يكنّ الآن، فقد يعلمانه عند قدومِ مُحمد.
نزلت أسفل الى المعـني الآخر .. او المجني عليـه ان صح التعبير.
فقد قررتَ حياة رفيقي دون علمـه، لقد وقَعت عقد قرانهُ على اُختي دون مشاورته، أعلم ان مرؤته ستمنعهُ من رفضَ خُطبتها..
كما انني أعلمُ أيـضاً ان أحدهما لا يُريد الآخر.. وربما يكونا الاثنينِ مـعاً.

وصلتُ إلـيهم بعدما توسطَ "خطيب أختي" مجلسـهم: مسـاء الخيـر.

ردَ الجـميع ليتبع ذلك قولَ زينب: خابرت زُمرد؟

لقد اخبرها صادقاً، هل ستفتح الموضوعِ أمام مُحمد: لا،
خابرت يـنال، كَالي زُمرد بعدها نـايمة.

ابتسمتَ زينب بل انفرجت اساريرها بعد ضيقٍ طُبقَ على ملامحها: أكو بنت من هالجيـل تصحى عشرة الصبح!

تحدثَ مُحمد قاطـعاً حديثنا الذي كان سيُبر: أني أجيت اليوُم علمود موضوع يهمّـنا كُلـش.. ويمكن يحدد مصير البلد كامل مو فد شخص او شخصيـن!


***


يبدأ مُحمد مقدمـته وسط ترقبٍ من الجميـع، أولهم زينب التي تقدمـت قليلاً وهي تنظرُ إلـى عينيّ مُحمد، ومن ثمَ صادق والمتكأ الذي يبدو و"كأنه" مُهتمـاً..
ثم بالداخلِ قريباً الذي سكبت له زينب كأسٍ من الشـاي العراقي الذي علمتُ من أول ليلةٍ عرفته بها انهُ يعشـقه.. بل يتلذذ بعـشقه.

ثم يأتي بعدهُ مُحمد الذي بدأ يتعمـقَ بحديثـه: وتعرفـون وضـع العِراق هاليومين ما مستقر.. وأي طركاعـة نتخيل انها بتوكَـع هسه...

صمتَ ولا أحد تجرأ على حثّـه ليكمل حديثـه، كأنهم يأخذون آخر أنفاسٍ صافية بلا مُصيـبة جديدة!
أكمل حديثـه بعدما رأى الجميـع يترقب تلك الفاجعـة: ليلة اللي جيتكم كان عندي اخبـارية عن الموضوع.. بس غلّست كَلت مُستحيل ومدا يصير.
بس اليُوم الفجر تأكد الخبـر، أو صار الاعتقـال.

تحدثَ صادق وهو يتخلى عن متكأه ويتقدم قليـلاً في جلسته: اعتقلوا ابوك علمود السـلاح؟

كان هذا التساؤل الذي أقلق آلـن بشكلٍ أكبر لأنه المُتسبب باعتقال رُجـلٍ نبيلٍ كأبو محمد.

اوقفهم مُحمد.. بل أخرسـهم بإجابـته وهو يقول: ما ابـوي – ثم وجـه نظرته لذلك الذي للتـو فزعَ من اعتقال أبو محمد – اعتقلوا صدامّ .


***


أراهُ يقف من هولِ خبراً نزلَ على قلبـه وفتته أشلاءٍ، خبراً شلّ قدميـه.. لم يقف!
لم يقف.. لم يغضب كعادتـه.
فقط وقع ذلك الكـأس المتوسـط يمينـه، ولَمـعت عينيـه كلمـعةً صليبـه!

لم ينـبسُ إلا بتلك الكلمات المتقطـعة: خيـانة؟

زاد الديـن بلّـه صاحبـه وهو يقول: أي فسّـدوا عليـه عيـال الكلبّ..

رأيتُ مَهتاب تُغادر المكان وطيفَ الابتسامةِ يغزو محيـاها، لم ينتبـه ذلك المشدوه والمصدوم وهو يسأل صاحبـه عن تفـاصيلُ تلك الخيـانة وكأنه محمداً حاضرها: شوكَـت اعلنوا؟

تحدثَ الآخر وهو يطأطأ رأسـه ألمـاً، أو قهراً، أو حُزنـاً على صاحبـه الذي لم يعـي حجم مُصيـبه.. بل بات يتساءل أكثـر وأكثر عن ألمـه وحُزنه الذي سيصادقـه أيامٍ بل أعوامٍ مَـديدة: اليـوم الفجـر.. ما اعتقـل الا السـاعة ثنتين.

تسآل مُجدداً: ما اعلنوا مين معتقلـه؟

أجاب الآخر بتلقائيـة الحُزن والألم الغير معهودة: المـاريـنز.

وقفَ المغلوبَ على أمره.. الحزين لفاجعـته، التي لا نُقدرها انا وابن أخي لطالما انتظرنا هذا الخبـر منذُ أعوامٍ ليست بالقريبـة.
يبدو ان مُحمد ثانيـنا حُزناً بعد ابن صدام الوفـيّ.. الذي وفـى له بترك اهله!
الذي لم يخـنهُ يومـاً حـتّـى بالتفكيـر، لقدَ جاهدَ من أجلـه وليس من أجل الجهاد بعيـنه!
مشَـى وهو لم يهتدي طريـقه، أراه يُدخل يده في جيـبه مُخرجـاً ذلك التبغَ الذي شهد احزانه واتراحـه..
وقفَ على نافـذةٍ مُطـلةً على تلك المزرعـة التي شهدت بالاسـم ضحكاته، واليوم لا ضـير انها تشهد دموعه التي توارى بالنافذة من اجلها.
يحقُ لك ان تحزن على قائداً جعل منك رجلاً فذاً، يحق لك ان تحزن على قائداً جعل منك مغواراً لا يخاف الا من خالقـه.. يحق لك كُـل هذا ولكن ليس أمام مرأى عيني!
لا تبكي عدوّي وعيوني تشـهد ذلك البُكـاء، لا تنوحَ من أجلـه وانا قد نحتُ بسببه أعوامٍ لا تُعد.
لقد أدمـى قلبِ عَمتك وذَبـح أغلـى رجالها، لقد أُعتقل أخـي أحمد واعدمـه في يومٍ واحد.
وأودى بجثـته على بابِ بيت أخي جعفرا.
لم يحترم تلك الروح الجاثيـة بين يديـه، لم يحترم تلك الروح التي سكنتها الحرقـةُ والالم بعد مقتل زعيمها الإسلامي والثوري " الصـدر".
لم يحترم جُثمانٍ لا حراك لها تحضنها يدي جنوده وهي تسجيه كالمولود على عتباتِ بيت أخيـه
لم يحترم قلوب ستُفجع وهي تراه بين قدميـها طريـحٍ لا حراكَ لـه.
عَمتك تلقت فجيعتها منـهُ في أعوامٍ متتاليـة، وكان أخرها موتَ أخيـها جعفر بمادة مُسمومـة في بدايـة عام الالفيـنّ!
لقد ودعت تسعيناتها بوداع احمد واستقبلت الفينهُا بوداع جعفر..
قطـعَ علـي تلك الذِكرى الأليمة صوتُ زغرودةً تبدو انه أتى من أعلى، من تلك المشاكسـة ابنت إيران كما يسميـها آلـن.

رأيتُ آلنُ ينفثُ دُخانٍ تراكم في الجوِ ليعود أدراجـه إلـيّ .. بل إلـى أعلـى لـولا يدي التي تلقفتـه: وين رايـح؟

نفض يدي!
ولأول مرةً يفعلها، آلم يدي ولأول مرةً أتألم بسببـه: روحي كَولي لها بلا مزعطة كَبل أروح أطيح حظـهـا.

ذهبتُ إليـها مُسـرعة فعينيه الحمراويتين لا تُبشر بخير!
وأي خيراً وصدامـه قد أُسـر.


***


لم أصدقُ الخبـر.. بل لم احتمل وقـعه!
أعلمُ انه قتلَ أناسٌ كثير ما زلتُ اتجرع مرارةُ فقدهم .. ولكنه صدّام..
أخو هدلـه.. أبو عداي!
هل سيمرُ رحيله هكـذا؟ وأي رحيلٍ أقصد؟ بل لم يفكر احدنا برحيـله !

لم تُهيأ انفسنا لاعتقاله حتى نُهيأ لرحيـله: يا ولّـد .. أخاف يرحلـوه.

رشـف الآخر سيجارته وكأنه ينتقمُ منها، وعينيه التي صُبغت بالاحمر ويده التي ترتجف كلاهما لا يُنبآن بخيـر!

تحدث الشـارد الآخر: مدا يقدرون..
هو حاكم وهميـنه عسكري، محاكمته بتكون أخفّ.

حديثنا وصمتنا لم يحد من وتيرة الغضب التي تسللت لثالثنا الذي قد أتعب رئته بتلك السحُب الدخانيـة التي جعلت الرؤيـةُ من حولهِ ضبابية.. كضباب العراقَ وهي تودعُ حُريـة سُلطانـها.
بل قادتـهُ إلـى الجـنونَ الذي لم نتوقـعه في يـومّ، نده إليـه مُحمداً وهو يرتحلُ مُسرعاً من أمامنا إلـى أعلـى..

تحدث مُحمد قبلـي: يريد يكَتلها.. دا يموتها والله!

هذه البضع كلماتٍ جعلتنا نحثُ خطانا إلـى ما نوى..


***


ذهبتُ إليها وأنا قاصدة توبيخها، هل ما فعلت قليل؟
فلتحترم صدمـتنا ومرارة ما تجرعناه، لقد رحل رئيسنا ، فمن حقـه علينا الحزُن.. مـهلاً يا زينب!
هل أنتي صادقةٍ بما تقوليـه؟
هل احزنكِ أمرُ صدام؟ بل احزنني ابن آدم الذي ينتهي من فقدٍ ليبدأ بآخرٍ.
دلفتُ باب غُرفتها وأنا أنظرُ إليـها وقد حوّلتها في غضونِ دقائقٍ إلـى ملهى!
لقد خلعت حجابها ونقضت ذلك الحرير المتخفي تحتـه، لقد فتحت تلك الإذاعة اللعيـنة التي شككتنا سابقاً بها، أراها تقعدُ في منتصفِ سريرها وعلى يمينها ماعونٍ ملأتهُ بأنواعِ المُكسراتِ وعلى يسارها مذيـاعٌ عربيٌ المنشـأ فارسي اللغة!
تارة أسمـعُ كلمة "سـدام هُسين" وتارة أراها تتمايلُ طربـاً على أغانٍ لا أفهمها ولكن أسمعُ بها "طراطيش كلام" كإيران و الخُميني!
أراهم منتصرون!
إذٍ، يحق لابنتهم ان تزغرد فرحـاً ولكن ليس في هذا البيت، فلتذهب إليـهم ولتقضـي محكوميتها ثم تفرحُ في شوارع إيران!
تحدثت أول ما وقعتَ عينها علي: أم علاوي، فدوة لـ الله تعـالي يمّـي.
امشتنيّ خُطـاي إليـها، ثم سحبت يدي وهي تُجلسني بجانبها وتمدُ لي حلقومـاً: هااي علموُد وكَـعة صدام.
ضحكتُ على هرائـها وأنا من أتيت لتوبيـخها، ولكنني اتمتع بنفس الكرهُ الذي تتمتعُ بـه!
كلانا لا يطيقُ سماعِ أسم صدام..
لقد ثملتُ في تلك السـعادة المنسية التي اقمناها على رُفاتِ عرشِ صدام


***


هل صحيحـاً ما يقولونه؟
هل ذهبَ صدامـي؟ هل فقدتُ بُقيّـتي في هذه الأرض؟
هل سيحاكمونه على التلفازِ كما هددت بعض الصُحف الأميركية؟
هل سأراهُ حزينـاً مكسور القلبِ والعيـن؟
أواه عليكِ يا صدام!
أواهِ .. لو أعرفُ فقد أسم خائـنك، والله لن تُسمي عليـه ليلته، لقد شمتوا بك!
سمعتُ إيران وابنتها يزغردون لرحيلك، لقد تخفوا في جلبابِ أميركا والآن ظهرت أصواتِ القرِدة!
هل رحلتُ بحق رب يسـوع؟
هل سأودعُ صورك كما ودعتُ نجليك وحفيدك في بضعِ أشهرٍ مضت!
هل سأغُني عليك لحنُ الحرية وأقول لك معزوفـة درويش وهو يقول
" يحكون في بـلادنا ، يحكون في شـجن..
عن صاحبي الذي مضـى وعاد في كفن"..
هل سيعودُ صدامي مكفـنٍ ؟
هل هم جديرون بقتلـه؟ ولمَ انتـظرُ منهم قتله!
أ ليس انا من سِباع الخارجيـة؟
فلمَ أنا واقفٍ كالثكلى التي تبكي وليدها؟
وقفتَ وأنا أدعسُ على تلك السيجارة التي تُشبـه روحي التي باتت قريبة من السـُقوط!
وأي سقوطٍ هذا؟
سقوط صدامـي.. أي سقوط بغداد ، ثم سقوطي أنـا.
ركضتُ ملهوفـاً لمَ أردت وأنا أتجاهل نداءات صاحبي التي لا تتوقف!
ماذا انت رائدٌ يا مُحمد بشخصٍ يبيعُ روحـه ولا ترخصُ قيمةُ صدامـه، ما انت ظاناً بصاحبك يا مُحـمد أن يبقَ مكفوف الايدي ورئيسـه أسيرها ؟


***


لقد جُـنّ!
لقد أوشـك على قتلها، ذهبتُ مُسرعاً وخلفي صادقـاً، اقتربتُ من بابِ مَهتاب فإذا بضحكاتها المنغـمة تصلُ إلي!
هل يُعقل انها تفرطُ ضحكاً من سَـوطه؟

ولكن هُـناك ما أيقظني حركـةً في غُرفـةِ آلـن: طلع بغرفـته!

سبقنـيّ إليـه صادق وما ان دلفَ الباب حتى صرخ بـه: عوفـه من ايدك يا مخببببّل

انتـــهى


مخرج الفصل الواحد والاربـعون

في سواد العين أنتم قـد سكنتـمْ
وانغرستمْ في ضميري ، في فؤادي
رُبّ جمرٍ قد توارى في رمـادٍ
كي يعيدَ النـارَ في كلّ الرمـادِ

× د. عبدالمعطي الدالاتي×


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 07-04-19, 05:54 PM   #45

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



مدخل الفصل الثاني والاربـعون.

ما بالُ دجلةَ في العراق يخضَّبُ؟!
والمَوتُ يحصدُ في السَّواد سَواده
واللَّيلُ أضحَى بالقَذائفِ شُعلةً.
وعَلَتْ بلادُ الرَّافدين كَآبةٌ..
وعيونُه تبكي الحضَارة دُمِّرَت..
والقَصفُ مُستعرٌ بها وبأَهْلها..

×د.محمد إياد العكاري×
.


.
.
لقد جُـنّ!
لقد أوشـك على قتلها، ذهبتُ مُسرعاً وخلفي صادقـاً، اقتربتُ من بابِ مَهتاب فإذا بضحكاتها المنغـمة تصلُ إلي!
هل يُعقل انها تفرطُ ضحكاً من سَـوطه؟

ولكن هُـناك ما أيقظني حركـةً في غُرفـةِ آلـن: طلع بغرفـته!

سبقنـيّ إليـه صادق وما ان دلفَ الباب حتى صرخ بـه: عوفـه من ايدك يا مخببببّل.

ما الذي قاده إلـى جنونٍ يجعله يستخدمَ هاتفه؟
ألم يكفيـه هاتفـي حتى يهلكُ نفسـه بيده؟

أراهُ يضـع الهاتف أذنهُ وهو يتحدث: شلـونك كرار؟

إذٍ، هذا ما قاده إلـى الجنون، كرار لا غيره، علمتُ إن صاحبـه أصبح لا يستقبل أي اتصالٍ مجهول بعدما مُلأ هاتـفه بأنواع التهديدات.

***

كرار لا غيـره!
هو الحـل، هو الذي سيحلُ تلك الازمـة بعد رحيـل صدامّ.
كان صدام الأمـان الروحـي بالنسبـةِ لي، لم أكنّ أخافُ مثلي اليُوم بعدما تجرعـتُ مرارةِ فقده!
لا أعلمَ أن كان مُحمداً مُحقـاً في خبره.. بل لا أعلم ان كانت مسرحيةً من صدام!
صدام داهي الدُهاة لا يرتحلُ هكذا، لقد اخبرني محمد انها خيـانة.. رُبـما توقعـه خيانة ولكن ليس بهذه الطريـقـة.
صدام لن يستسلم إليـهم.. لن يبـقَ اسير سجونهمّ، هذا أن سجـنّـوه!

ردّ كَرار الغـائبُ عن ناظريّ من أشهرٍ ليست بالبسـيطة: هلا أبـو آدم!

سمعتُ الغرابـةَ بصوته، ولكن يجب ان أخبرهُ بما أردت، ولكنهُ سبقني وهو يستفسـر: أعفوا عنك!

لست بمجرمٍ يا صاحبي حتـى يُعفـى عني، لستَ إلا عراقيٍ باع الغالي والنفيس من أجل عراقه: لا،
بس أني خابرتك علمود تخبـر الشباب دا تجون تأخذون السـلاح..
تعرفُ بعد اللي صار بتكثـر الاقتحامات والاعتقالات!

تحدث صاحبي والحزن يتسلل الى صوته: الله يسـتر من اللي صار.

سألتهُ وأنا أختلسُ سؤالي من تلك الأمور التي تورّم صدري بـها: دا ينتصـرون الدعوة بعده؟

زفرَ الآخر وهو يقول: كثـرت سجاجيـنـه!

لا أعلم ما هي تلك السكاكين التي يقصد، هل هي تلك القضايا التي سوف يُدانُ بها "صدامي" وتعلو في وجهه وتُدمـره!
أم يقصد بتلك السكاكيـن الخونة الذي لم يحترموا الأربع وعشرون سـنة حُكمـاً، لم يحترموا نضاله في حربي الخليج الأولى والثانية!
لم يحترموا تعزيزه لكل أمرٍ أختص به عراقنا، أ نسوا الاقتصاد الساقطَ من قبله؟
أ نسوا انه حكم بلادهم بشكلٍ غير مباشر في حكم البكر؟
ألا يعلموا انه بقيَ أمامهم مناضلاً مناهضاً لبلادهم على ما يتجاوز الثلاثون عاماً؟

ألا يعلموا من هو صدامي الذي رقصـوا كالقردةِ على هزيـمته؟:أني ما أرد أطول وياك بالحجي موبايلي مراقبّ،
بس اليوم لازم تجـون شـقلاوة تاخذون السـلاح .. لازم اليوُم.

تحدثَ صاحبي وهو يمتثلُ لأمري: شوكَت نجي؟

نظرت إلى ساعتي التي تجاوزت نصف العاشرة صباحاً بالقليل: لا تطلعون من بَغداد الا من بعد نصُف الليّـل.

تحدثَ مُطيعاً ، موافقاً ، مودعـاً: مـاشي.. مـاشي.

انهيتُ تلك المكالمة العجلة، الوجلة.. بعد رحيلِ صدام: الله ويـاك!
أغلقتُ هاتفي وما ان أدرتُ وجـهي إلى جهةً أُخرى حتى فُوجئت بتواجد عزيزيّ قلبي، فتحدثَ أعقلهم: يعني ضروري تخابر كرار؟
جان خابرت واحد لُخ، ما انته غشيم عن المراقبـة!
تحدثتُ وأنا لا أحملُ لومٍ هـكذا، بعدي لم أستوعبَ فاجعـتي، بعدي لم أتصور حياةٍ بلا صدام: ما عدَي حل غيـره.

تحدثَ صادق الغاضب: يا زمااال دا نطلع من طركاعة ونفوت بطركاعـة، متى تتوب؟
ما تجوز؟

تحدثتُ وأنا أخرجُ على خُطـى مُحمد: ما أجوزن عن صدامّ..

هُزم القولَ في شفاهي وأنا للـتو أعلم يقيـناً داخليـاً كان متشبثاً بأملٍ قليل..
هُزمَ القولَ كما هُزمت قواتنا أمام جيشٍ لا عزةً ولا إيـماناً يمتلك!
هُزم القول كما هُزمت عزيمةُ عربيـاً أمام قلبـه وأرضـه..
كحالِ عاشـقٍ لأرضِ بغدادَ، ثاملٍ ببنتِ طَهران، وهل هُناك رابـطاً؟
لا يوجد بينهما رابطــاً إلا شريانٍ تقطـع أرباباً وأودى بالدمِ في جداولِ قلبٍ تضخمَ ألـماً، تضخمَ عشـقاً، تضخم فراقاً .. جمـعنّ وهطلن على هيـئة دماءٍ أتعبت القلبَ من فيضانها.
كتلك المدامع التي تنهمر على الخدود القاحلـةُ حُزنـاً، اليافعـةُ حُبـاً، السـامرة ليلاً .. تنهمر أدمـعها فجأة وتحُول يباسـها إلـى زهرةٍ كضيمة مليئـةٌ باليـأس مثخنة بالحسـراتِ تُطالب العين بدمعاتٍ أكثـر وحزنٍ أعمق!
لما قستَ الخدودَ على عينٍ لم تجربَ الحُزن؟
لما قستَ الشرايين وتفجرت بقلبٍ لا يعرف الألم؟
لما يرحلُ صدام بخيـانةٍ ويتركني خلفـه بلا قبلةً أتوجـهُ إليـها بنضالي، بسـلاحي!
سـلاحي.. الذي سأودعُ الليلةَ ليرتحل إلـى عاصمة السـلام ويتركني بأرضٍ لُغمت بأمرٍ من صدامي!
لما لا أرتحلُ مـعها إلـى أبعدُ نقطـةٍ عن الكُردِ، أقربُ نقطةٍ إلـى قلبي.
بغدادُ بوصلتي و اتجاهي، بغدادَ لا أُضيعَ ملامحها بين ملامح المدن العتيقة والحضارية!
بغدادَ سومر لا تُجهل، قصر الرشيد لا يخفـى..
بغدادَ حلوةِ المرابع، طفلـة مليئةٌ المدامـع..

نظرتُ إلـى من لم ينعمَ ببغدادي إلا نظرةِ يختلسها بين زياراته المتكررة: شنو دا تحجي؟

عادَ له قوله الذي قالهُ لصادقٍ منذُ قليل: دا يبثـونه على الفضائيات..

ألا يكفيهم اعتقاله بُهتانٍ وخيـانةٍ؟
لما يرونَ العالم خيبـةٍ تتجلى بوجه من نبذَ ملامحِ الخيبة عن وجه شعبه كثيراً.
لما يرونَ اعدائـه بؤسٍ جهله شعبـه طوالِ سنواتِ حُكـمه؟
لما كُل هذه العدائيـةُ لصدام؟
أينهم من سفاكين الدمـاء سارقيـن الموارد مُهلكين الشعوب؟
أينهم منهم ؟ لما اجتمعوا على صدام؟ أ يسقطوه بهذه الطريقة؟
وأن سقطَ من الحكُمِ من يسقطه من قلوبِ شعبه؟
من يقدر على محو سيرةَ صدام من صُدورِ العراقييـن، أو كما أسمانا خونة بـلادنا "البعثيين".

***

شعور الانتشـاءِ والفرحَ الذي لم يحسب له حسـاباً عظيـمّ.
يتجلـى وصـفه.. بل يُصبح وقـعهُ في القلبِ أقوى من فرحٍ خُططَ موعده!
كذلك الفرحَ الذي ساقَ زينب لتُشاركنـي الفرح.
يحقُ لها ان تفرح وقد تخلصت اليوم من حاكمٍ طاغٍ حبسَ أنفاسها لسنينٍ طوال.
يحقُ لـها ان تفرح وقد تخلصت من قاتلِ اخوتها.
يحق لهم جميــعاً .. عداه!
لا يحقُ له ان يحزن، لا يحقُ له ان يبكي صدامه، فقد جُرّ حاكمه كما تجترُ الأغنام إلـى مسالخها.. بل كما جرّ شُهـداء حلبجة إلـى اختناقٍ وموتٍ في قصفٍ لحقـهُ الكيماوي!
لا يحق له ان يحزن، بل لا بُد ان يُقتل صدامه كما تسبب بحربٍ راح ضحيتها مليونينِ شـخصاً من الطرفيـن.
فلتضحكَ دجلـةَ، ولتزغرد الفُرات.. وليعمّ فيضان فرحهما العراقَ أجمـع!
أ ليس موسم فيضانهما ؟ فليفضنَّ فرحـاً يعمُ المحافظات المكلومـة.. البائسـة منذُ عقدينِ ونصف.
فليذهبَ الى جحيمٍ أورد الناسَ إليـه.. فليذهب إلـى مصيرٍ صيَّر الناس إليـه.
فلينقمَ منـهُ الشعبَ بواسـطة أميركا.
لا أعلمُ لما ينبذونَ تدخل اميركا وهي أتت لتنتصر لحلبجة من كيمياويٍ خنقَ أهلها أبانُ حربـاً قصفَ بها بلادي.
أ يردونني التزم الصمتَ وأنا قد عشتُ عشرَ سنين عمري الأولـى مرعوبةً من شخصٍ يُدعـى "صدامّ".
لم أكن أعرفهُ إلا من صوتٍ يدوي في منطقنا ويلحقهُ صوت دُعـاء امـي وهي تقولَ " سواها صدام .. الله لا ينطيـه".
ثم تتليها دعواتٍ كُثر على مر العشر السنين التي لم افقه أغلبها.
هل يردونني أصمتُ وقد جاورني في الصفِ من فقدَت والديها، وأخرى فقدت أخـوتها.
وأخرى عرفتها من دارِ الايتامِ التي لجأت إليـها بعد تشردِ أهلها، ولم يسلمَ ذلك الدار من القصفِ أيـضاً.
خرجتُ من طهران منذُ أشهر وهي ما زالت تنشرُ لها صورٍ وفيديوهاتٍ تُخبر الناسَ بقصتها بين الفينةِ والأخرى لعل احد أهلها حيـاً ويعرفها.
تصورَ وهي لا تعلم أن كانوا أحيـاءٍ أو أموات..

نظرتُ إلـى زينب: تتوقـعين الغايـب يعود؟

نظرتَ إلـي مستفهمة.. بل مستغربة من سؤالي الذي لم يطرأ على حفلةٍ نُأبن بها صدام: لشـنو هالسؤال؟

هل أخبركِ بحال صديقةٍ ما زالت تتألم؟: أقصد يعني يمكن اللي بالسجون العراقيـة دا يطلعون إذا طار كُـرسي صدامّ؟

هطلتَ دمعتيّ زينب وهي تقول: فاقدة احـد هنانا؟

بررَت لها، بل أردت ان تمسحَ مدامعها : لا أهـل صديقـتي.. فتحت عيونها بدار أيتام، ولما كبرتَ قالوا لها جاء قصف دمَـر أحد أقضيـة إيـران، ولما هدا الضَرب لكَيوها بالشـارع مشمورة..

مسكت زينب رأسـها: الله لا ينطيـه، الله لا ينطيـه، دا يبيد الأرض كُـلها هذا.
أرهفت السـمعَ إليـها وهي تُخفضَ صوتها: دا يكَولون بيـه معاقل سَرية، ومذابح سريـة هميـنه .. جوا الكَـاع !

ذُهلت من صدامهم الداهيـة، بل ذُهلت من حقارته التي جعلته يُسكّـن معظمـه شعبـه في تلك المعاقل والمذابـح أيـضاً.
ولا عجبَ ان قُلتَ معظم شعبـه .. فأكثرهم مـُعارض!

***

جمّـعتهم مرةً أخرى بعدما فجعتهم قبلها بثلاث ساعات!
السـاعة تُقارب الثانيـة عشـر والطرقُ أتاني خبرها انها توشك على الاغـلاق، لا أعلم كيف سأخذُ مَهتاب مـعي.. ولكنني سأفـيّ بوعدي لها.
لقد وعدتها بحيـاةٍ أطيبُ من تلك التي يذلُها عليـها صاحبي النّـازي، لن أتركها تتجرع ذلـةٍ لها سبب بها.
وهل سيزيدُ عياره عليـها و"يفشّ بها غلّـه" بعد رحيل صدام؟
وأن رحل صدام ما ذنبُ تلك اليافعة بما تجنيـه يديك ويدا صدامك؟
أ تركها لأرضـها؟ صدامك من غزاها وليس هي من غزتك.
أ تُركِهها لما لم ترتضِ يومـاً؟ هُنا سأقف بوجـهِ صُحبتنا وأقول لك مَهـلاً يا صاحبي .. انك تجاوزت حدود إسلام يجعلني أقربُ لها منـك.
فأنا أخوها بالدينِ وأنت نازٍ لأرضـها ولو لم يكن صدامك سُنيـاً "لنزيت" على دينها.

تحدثتُ وأنا أرى صادقٍ قد أكمل جمعهم وأتـى: الطُرق دا تتسكر لازم أرجـع ديـالى، ودا اقولك آلـن لا تتخبّل وانطيني موبايلك اشـمره بالطريق بدل اعتقال حنا بغِـنى عنـه!

صادق الذي وقف: مَعليك بيه خاوة دا يعطيك!

وقف الآخر غاضـباً وهو يريدُ أن يفرغ حسـرةً وقهراً مكبوتين: شـنّـو هاي خاوة؟
والله مدا يـاخذه.

صرخ بـه الأول: يعتقلونك ولك مسودن.

هاج آلـنُ غاضبـاً: لا تكَـول ولك ماني زعطوط عدّك، وخل يعتقلوني اشعليك؟ اني أريد اُعتقـل.

وقفَ الأثنيـن وهم ينُوون عراكٍ من نوعِ آخر ليس أجهلهُ ما دمتَ أعرفُ آلن، وقفتُ بنيهما وأنا أُخاطبَ آلـن: خلاص لا تنطيني موبايلك بس عوفـه لا تفتحـه.. انّسـاه لين يهدا الوضـع، هاليومين دا تتوسع حواجزهم وتكثـر اقتحاماتهم للبيـوت!
لا تخليهم يندلون عليـك..

وضـعَ يده على كتفي وهو يحاول ان يهدأ من موجة غضبـه: لا تشيل همـي، أني أدبّر روحي.

ادرتُ ناحيـة صادق وأنا ارتجيه بعيناي ان يصمتُ عـنَه، فهو لم يغضب من أجل الهاتف بل هُنالك أمور تزدحمَ داخله وتُجبره على ان يغضبَ من اتفه الأسباب!

وما ان تفهمَ الآخر الوضـع، حتى بحثتُ عن تلكَ بعينيّ: يلا مَهتاب دا نمشـي.

سَلطت عينيها على آلـن الذي قد جلسَ وأتخذ متكأ له، لم يبدو عليـه أي ملامحٍ تجعلها تخاف مـنّـه!
بل كان غير مُهتمـاً حاله كحالِ صادق..
وحالـهم غيرُ عن حالِ تلك التي امتلأت عينيـها برُكام غيومٍ وهي تشرعُ غيابُ مَهتاب من الآن!
نظرتُ مُجدداً إلـى مَهتاب التي ما زالت مُسلطة عينيها على ذلك الذي بدأ يتناول كأس الشـاي من صاحبه الذي للـتو عادى!
وكأنهم يديـنِ تشـابكت وفرقعتَ اصابعها وعاد إلـى وضـعها السليـم!
ها هي أخوتهم التي جعلت منهم شخصـين في روحٍ واحدة، لا أعلمُ كيف سيستغني واحدهم عن الآخر، أرى الخوفَ في عيـونِ صادق وهو يزجرُ الآخر ويطلبـهُ تسليم هاتفـه!
وأرى ذلك الغضبَ الذي يخرج على هيئـةِ اطمئنان من فيـه الاخر.

نظرتُ مرةً ثالثـةً إليـها: يلا باباتي روحي جيبي اغراضج!

وضعتَ يدها على عضدي وهو تستعجلُ حروفها: مرةً لُخ مو هسّـه، عفيـه محمد لا تتأخر عليـه.. الحين مدا اقدر اروح ويّـاك.

خرجتَ على عجلٍ!
لفتت نظر الجميـع، كيف تريد البقاء وهي تطلبني ان لا اتأخر لانها تُريد الذهابَ في المرةِ القادمة!
ها انا امامها لمَ لا تذهبُ مـعي الآن، ما الذي يمنعها ويجعلها تتوارى!
هل تخاف من إصرارٍ يتبعها؟
ما الذي جعلها تبقـى بعدما عُرضَ عليـها الرحيل؟
بُت لا افهمها.

نظرَ إليّ صادق وهو يتحدث: اشبيـها؟

تحدث الآخر قبل ان انفـي علمي بحالها: شَعليك بيها، طبّـها مَرض!

وقفتَ زينب وهي تبدو غاضـبة من حديثِ آلـن: تسهل يمه محمد،
أني عدّهـا لا تخاف عليـها.

لقد فهمت زينب خوفي عليـها من وفيّ صدام، رُبما يعيدُ حرب الثمانين مع هذه الفتاة التي لا حيل لها ولا قوة!

***

لما لا يغضبّ؟
لما لم يمنـعني من الذهاب؟ أ ليس هو من كان صباحاً بين يدي راجيـاً؟
إذٍ، لمَ هو هكـذا الآن؟ ما الذي جرى حتى يتغيرُ هكذا؟
هل أشغلهُ موضوعَ صدام عنّـي؟ هل رأى أنني لا أساوي خردلاً بحضرة صدامه؟
ومن هو صدام حتى يقارنـه بي!
أنا لم ألطخُ يدي بدم مُسلم ذلك الامر الذي عظـمه الله وهوّن هدمَ الكعبةِ عنده!
أنا مَهتاب الليلِ وجاليـهُ ظلامه لا يحق له ان يقارنني بصدامّ الدموي.
دلفـتُ زينب الباب وهي متجهمة قليـلاً: ليش ما رحتي ويا محمد؟
هل هُناك تبريرٌ يا زيـنّب؟: هيج، ما حبّيت اروح اليُوم،
ومنها همينه اشـوف سُقوط صدام بحضرة آلن!
استفزتها كلمتي ونزلت عليها كلمـة "سقوط صدام" كالمُهدئ الذي أزال كُل غضبٍ: الله يوريني بيـه ليل..

***

غربتَ شمسُ يومـنَـا الأول، وهل تعلموا لما قلتُ الأول!
لأنهُ أول يوم أشعرُ بـه أنني حرٌ من قيود قُيّدت بها من الطفولـة..
قيودٍ ولدت معـي كما يولد معي أسـمي، كما لم أخير بوالديّ ولا بقرابتي.
قيودٍ اختارتني لم اختارهـا، قيودٍ فرضتَ عليّ ما لم يُفرضُ على البشـريةُ من قبـل!
نعم يومُ أولٌ في الحُريـة.. حريةً من صدامَ وبطشـه!
حُريةً من اختلال صاحبي العقلي الذي ما زالَ يهذي باسم صدام.
أُكملُ جلسـتنا أمام التلفـاز الذي لا أعلم ان كان الكهرباء اليوم قد تفضلت عليـنا أو انتقمت من آلـن!
بنتُ إيران كما يدعوها صاحبي، اعتزلت في غرفتها حتى اخبرتها عَـمتي ان اعتقالُ صدام سيُبث!
أتت إليـنا ملهوفـةً لهذا الخبـر، نَذرت ان لا يعمـلَ العشـاءَ إلا هي، وها هي ستبدأ bbc بثُـها من داخل معقلٍ زُجَ به صدام!
عادتَ مَهتاب إليـنا بعدما رحلتُ منذُ قليل إلـى المطبـخ، قادمـةً بصينيةً تحوي إبريق يتوسط أربع كاسات..
لقد تكرمت عليـنا اليوُم ، وهذا ليسَ من شيمـها !!
وزعتَ كأساتها وسط صمتٍ مَهيبٍ عندما خَرج إعـلانٍ يُخبـر انهُ لم يبقَ على البث سوى نصفِ سـاعة.

نظرَ إليـها آلـن وهو يقـطع الصمتَ: اش حاطه بالشاي؟

ترتشفُ كأسها وهي تضعُ رجلاً فوق الأخـرى: هيـل وزعفران.

ارتطم الكأس بالطاولة التي أمامه من قوة ضربته بها: أعرف انه الصخام، ليش مسـويته هيـج؟

ابتسمت: ما اعرف أسوي إلا هيـج..

نظرَ إلـى عَمتي غاضـباً: دخيـل الله أريد شاي اوادم.

وقفتَ عَمتي وهي تُشير إلـى عينيها: من عَيوني.

هل غَضب لانه شايٍ إيرانيٍ؟ هل اغضبتهُ طريقـتها في الكلامّ؟
جميلةُ تلك الحرب الخطابية التي تبدأ بينهما وتنتهي بهزيمـةُ أحدهما، كانت خيـراً من تلك التي يمتهنا آلنٌ معي انا ومحمد.
يبقـى الولدُ جلفـاً حتى يمرُ بأمرين: أما يتزوج أو يُحب!

***

هل حقـاً تغيّـرت هكذا؟
هل طالَ شعُرك بهذه الطريقة التي لا تُشبـه إلا مُطارديّ القَاعدة الإرهابية؟
هل أصبحت لحيـتُك كثـةٌ خالطـها البياض الذي لا تُداني انه تراهُ قد صبغها؟
هل ترى عينيكِ تحملُ بؤساً بهذا الحد، ما الذي جرى لك حتى تحملُ عينيك ما تتفطرُ منهُ قلوب معارضـيك الذي تجمعوا ليتشفوا منـك!
هل حـقاً يشمتون بمصابك؟ بل مصابي .. بل مصاب العراق والأمـةَ العربيةَ أجمـع!
كيف يهنأ منامهم وهم قد سلموا صدام، كيف يطيبُ عيشهم في عالمٍ سيخلو من أسمِ صدام.
سمعتُ صوتـها وهي تقول لعَمتي: باعي الله شسوا بيه!
أ تشمتين وعلى مسامـعي، أ تعلمين عمتي كيف هي الشـماتة.
وقفـةُ صدامي مُقيّـدُ اليدين مأسورَ الخيـانة تجعلني اتركَ "رعاعٍ" خلفته أرضَ إيران خلفـها.
اليُوم يوم الأسـى، يوم العـنّاء، يوم حزينٍ ولا يحق لنا ان نذكرُ بـه إلا صدام.
فلتقيـمَ شعوبنا حدادٍ لأربعين عامـاً قادمـة عنونها الأسى على فقيدٍ لم يُفقد إلـى الآن..

***

رغم فرحـتي بسقوطـه إلا أنني كُسـرت عندما رأيتهُ بهذا البؤس الذي يحمله، لا أعلم ان أخبروه بوفاة ابنيه وحفيده ام لا !
تذكرتُ فجيعتي بأخوتي وكُنت ادعوا الله ان يفجعه بنفس الطريقة، ولكن الآن يالله اتراجعُ عن دعوتي.. يكفيـه بؤسـه الذي وزّعَ على تقاسيمَ وجهه!
أشعثُ الشَـعر، مهمل اللحيـة، بليد المشـاعر، زائـغ البصـر.. يكفـيـه ما به..
أرحموا عزيز قومٍ ذُل.
ارحموا قاتلَ أخـوتي .. أرحموا صدام حُسين!!

***

السادس عشــــــر من ديســـمبر ..


أيامٌ ثـلاث عصيبةٌ مرت على الجميـع.
أولهمـا آلـن الذي نقلَ جميـع الأسلـحة إلى بغدادَ في تلك الليلـة، وبقيَ هُنا مهمومـاً شارد الذَهن!
مُدمن السجائر والشـاي زاد ادمـانه وزاد حرمـانه والغيابُ يلوح له بيده مرةٍ أخرى.
لقدَ فقد سلوته بعد اهله، لقد فقدَ عَمود العراق كما يصـفه!
لقد كرر عليّ في الايـام الثلاث السابقة اننا سنندم بتفريطنا بصدام، وكأنه علمَ بفرحـتي التي شاركتها بنتُ إيران !
كانه يريد ان يخبرني بصورةً غير مُباشرة انها ستعودُ إلى حكامها الذين رضيت عنهم وانا سأبقى هُنا أتجرع ويلاتُ من أتى خلفِ صدامّ.
وثانيهما صادق الذي لم يعرفَ من الحُكام الا صدام، لم يشهدَ انقلاباتٍ سبقت فهمه للحيـاة.
لم يعرف من الدُنيـا حكامـاً عدا صدام، أراهُ يفرحَ دقيقـة باعتقاله ويحزن عشـرا.
من حقـه ان يحزن ويفرح فمن قُتلَ محسنَ المساوئ.. او سيئ المحـاسن!
لا يُعرفَ له وصـفاً .. غير انه يتداول الناس قولاً للبشـاعةِ والدموية عندما يقولون " صدام ما سواها"..

***

لقدَ عاد مُحمد مجدداً سمعتُ صوته بين العمـةِ وبينها ، لقد تشفيتَ بابن بَغداد بما فيـه الكفـاية، لقد اخذتَ ديـن القهـرَ والحَزن الذي مـرَ علي منـهّ!
رأيت انكساره كما رأيت عنفوانه، رأيت نظراته الحزيـنة المتوسلة كما رأيت النظرةَ الجبّـارة التي تكاد ان تُلين الحديد من قوتها.
رأيت به كل ما عاكس سابقـه، هذه الليالِ الأربع كانت كفيلةً أن أخذَ حقـي وأكثر..
أمـا الآن علـيّ الذهابَ مـع مُحمد، لا أودُ البـقاء بين مُجرمي بَغداد !
أخذتُ كاميرتي التي كُنت اتصفح نازلـةً أسـفل، ووجدتهم جميـعاً في تلك الجلسـةِ الأرضـيةُ خارجـاً متنازلين عن طاولتهم المحببة لانها لن تكفي عددنا!
اتيتهم أهرولُ وأنا أقول: لا أحد يتحرك!
كان الشُبّـان الثـلاثـة بجانب بعضـهما، يتوسطهما مُحمد وعلى يمينه صادق الذين ابتسموا لكاميرتي، بينما ثالثهم البائس فقط نظرَ بعينيه إلى تلك العدسـة بكُلِ سـلام.

***

جلست مَهتاب وهي تضع كاميرتها بحجرها حيالُ قدومِ زينب التي للتو أتت، فوضعتُ ما حملت يداي.. انها جريدةً ستحملُ ما يسعدهم وما سيحزن مَهتاب.
كما فرحت في ايامها السـابقة وهم حُزنـاء، ستحزنَ الليلـة وهم سُعـداء.

وضعتُ الجريـدةُ على الصفحـةِ المطلوبة: والله مدري شكَـول لكم،
أمـس صدر حُكم إعـفاء بكل "فدائـيين صدام"، مَـبروك يا ولِّد.

وقفَ صَـادق مذهـولاً ، غير مصدقـاً بهذا الفرج! وهو يبحثُ عن أسمـه: باعي عَميمه – ويقرأ عليـها اسمه حتى يُصدق نفسـه قبل عَمـته – صادق بن كاظم بن علـيّ – ثم رَفـع عينيه إلى قائـمة حرف الالف- وهذا اسم آلـن دا تشوفيـه؟ - ثم نزلَ بعينيه الى أسفل- حاطين اسمج أخر أسم مكتوب والإيرانية مَهتاب يوُسـف.

نظرتَ لها عَمتي وهي تمازحـها وهي للتـو أيـضاً احتضنت صادق : وطلعتـي فدائيـة لصدام!!

كنتُ أراها تحتضـنُ صادق، ثم تنظرُ إليـه وتحتضـنهُ ثانيـةً.
وتُردد بصوتٍ عالٍ: الحمدلله يا ربي الحمدلله.

نظرتُ إلـى تلك التي لم أعلم كيف أخبرها انها ستبقى مُطاردة من اجل دولتها: مَهتاب، صح تحررتي من مُطـالبة أميركـا بس باقي إيـران، يعني باقيـة مُطاردة!

أومـأت براسـها وهي متفهـمة: مَعليـه نَـار إيران ولا جنّـة أميركا.

صدقتّ!
وصدقوا عندما قالوا نار الوطن ولا جنَـة الغُربـة، وان تحررت من أميركا سيبقـى الانتربول يطالبُ بـها من أجلِ إيـران.
ستبقـىَ مُطاردة لن يتغيـر بوضـعها شيء، كل ما سيتغيّر انها لن تخافَ بعد اليوم من الحواجز وعسكرها، ستخاف من الطائرات من المبعوثين!

نظرتُ إلـى ذلك العاقدَ لحاجبيـه: اشبيك مدا تفرح؟
تحررت يا عَمّي!!

نظرَ إلـي وهو ما زال عاقدٍ لحاجبيـه: دا أفرح لأيش؟
لأن خلاص صدام مدا ينـفع تُهمـة، لأنه ما عاد خطر عليـهم؟
لأنني جُردت من أسم صدام؟

أما زال يذكر صدام؟ والله انك في ضلالٍ يا صاحبي ما دام صدامَ نورك!

نظرتُ إلـى تلك الدامـعةَ التي تُوشكَ عينيها على الهُـطول: مَهتاب بابا، لا تبجيـن إن شـاء الله إيران همينه تعفو عنج وترجـعي لبلادج معززة مكرمة.

نظرت إلـي وهي تمسكُ بيدي: دخيـل الله دا اخابر أهلـي.

أعلمُ ان ضعفها وبُكاءها الذي تنذُر عن قربه تلك الدموعَ المتجمدة أثار ريبـة الجميع، آلنُ البائـس، وعَـمتي التي بترت فرحتها بابن أخيـها.
لقدَ اختصتهُ بفرحتها وكأنها تعلم انه لن يدومَ لها غيـره، لن يبقَ لها إلا ابن اخيـها مهما لقتَ وصادفتَ من أحـبّـه!
لقد تبدلت بهجـةُ الإيرانية التي للتو تلتقط لنا صورٍ إلـى حزنٍ عميقـاً خرج لنا باحتياجٍ لعائلـتها.

وقفتُ وأنا أمدُ يدي عليـها: يلا دا قَـومي ويايـه.

وقفَ آلـن: لحظـة.. دا أروح ويـاكـمّ.

تحررَ صادق الذي سيبقَـى بشوشـاً بحزنـه وسعده: تخلوني أني وعَميمـه؟

تحدثتَ عَمته: لا حبيبي روحه انته،
ما اريد اروح، تشوف الليل ليّـل وأني بكَعد أسوي عشـاكمّ؟

ذهبَ آلـن ليرفـهَ عن نفسـه، وأتـى صادقٍ ليُحد من التوتر بعد علمه بذهابِ آلـن!
ركبتُ سائـقاً وبجانبي آلنُ راكبـاً وفي خلفِ استقلا مَهتاب وصادق الذي لا يكفُ عن الحديثِ معها مُخرجـها من صدمـتها في بلـدها.
الطريقُ لم يكنّ طويـلاً في العادةِ ولكنـه طال اليوم ببؤس صاحبي، وصمتَ الآخر احترامٍ لحُزن التي على يسـاره!
أسرعتُ في سيري على غير العادة من اجل تلك التي تقطنُ خلفي، من أجل حُزنها الذي لن يزول قريبـاً، لن يهدأ روعـها إلا باحتضانِ من جلبتنا من أجلهم إلـى تلك الكبيـنةُ التي تتوسط البلد.
أوقفتُ السـيّارةُ جانباً، ونزلت مُسرعة تلك المكلومـة إلـى الكبينة بينما وقفنا أنا وصـحـبي بجانب السيـارة، فقد عانقت أقدام اصحابي الرصيف غير متأهبين.

فأحدهم يتلذذ بدُخانـه مُرتكيـاً على السيّارة والآخر ينظرُ إلـى ما ورا الشارعيـن، وأخرهم يحادثني من متكأي على عمودِ إنارة: هذا جديد؟

نظرتُ إلـى السَوق الذي للـتو فُتحَ: أي من كم يوم فاتحينه.

***

متكأً على السيّـارةُ وأنا نادمٍ على ذهـابي معهما، ما الذي جرّني إلـى الذهابُ معها وهي ستحادثُ أهلها؟
هل دموعها التي بقيت عالقـةٍ في جفونها من أيقظ روحي بعد سُبات أيامٍ عدة لتراقبها من قُرب؟
ما الذي جعلني اتِ؟ لما لم أفرحَ بحُريتي كما فرحَ صادق؟
كما فرحتَ مَهتاب وبُترت فرحتها سـريعـاً؟ لمَ أحسُ ان وقـعهُ عاديـاً على الروح؟
أتت قريـنةُ الروحِ تتهادى في مشيـها، وكأن الحجابَ الارجواني الباهت قد زادها رونـقاً.

قدمتَ وهي تتحدث قاصدة محمد: دا يكَولون الكبينة بيها صيانـة.

تأسف محمد لحالـها وقد بان على ملامحـه: مَعليه باباتي، باجر دا تخابريهم من ديـالى.

لقد عزمَ الرحيـل اثنينهم بلا مشاورتـي؟
وهل لـي حقٍ أن اعترض؟

انتشلـني من أفكاري حديثـها وهي تقفزُ بخـفة وهي تمسـكُ ذراع صاحبـي وتنظر إلـى الشـارع الآخر، وقد وضعتَ آمالها البسيطـةُ عليـه بحكم قُربـه لها !: الله ايس كريـمّ

نظر إليـها الآخر وهول يعلم انها تحاول الهـاء نفسـها عن ذلك الحزن الذي اعتراها ، يقـول باسمـاً : تريدي؟

تحدثتُ قبلها : ناقصنا مزعـطة، يلا مشـينا.

تحدث من جديد وهو بلطفٍ غريبٍ قد تسربلَ بـه: اشبييك صارت الموطـة مزعطة،
انطري ثواني.

خرجَ أحد صحبي مُلبيـاً رغبتها الطفولية متناسيـاً انها مطلوبـة لا يجب ان تقف هكـذا!

تحدثَ صاحبي الذي بقيَ: دا نفـوت جوه بالمحلات لين يجي .. برد!

عارضـتهُ: خلينـا هـ....

قطـع صوتنا صوتُ رصاصٍ قادمـاً من السـوق الكبير الذي يفصلنا عـنهُ شارعيـن، تبـعَ الرصاصَ انفجاراً، او تفجيـراً انتحاريـاً جعل السـماءِ فوقـنا سماويةً.. حَمراء!
اخفضتُ رأسي وأنا أبتعدُ عن قطـعَ السّيارات التي قد احترقت:


انتهى



مخرج الفصل الثاني والاربـعون.

أبا الفراتينِ قد شلَّ الأسى رئتي
ومن سواك يحطم قيد أحزاني
أنا ذهلت لصمتك يا أبا قلمي
وأغنياتي وأشواقي وألحاني
لا شاطئاك كم كانا ولا شفة
باست جراحي ولا مشفاك أشفاني
صفعت وجهي أهذا يا زمان أنا
سلمت للريح ساقيتي وبستاني؟

×كريم العراقي×


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 07-04-19, 06:13 PM   #46

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

مدخل الفصـل الثالث والاربعـون.


فتنت روحي يا شـهيد
علمتها معنى الخلود
شوقتها إلي الرحيل
علمتها معني الصمود


.
.
.

انتشلـني من أفكاري حديثـها وهي تقفزُ بخـفة وهي تمسـكُ ذراع صاحبـي وتنظر إلـى الشـارع الآخر، وقد وضعتَ آمالها البسيطـةُ عليـه بحكم قُربـه لها !: الله ايس كريـمّ

نظر إليـها الآخر وهول يعلم انها تحاول الهـاء نفسـها عن ذلك الحزن الذي اعتراها ، يقـول باسمـاً : تريدي؟

تحدثتُ قبلها : ناقصنا مزعـطة، يلا مشـينا.

تحدث من جديد وهو بلطفٍ غريبٍ قد تسربلَ بـه: اشبييك صارت الموطـة مزعطة،
انطري ثواني.

خرجَ أحد صحبي مُلبيـاً رغبتها الطفولية متناسيـاً انها مطلوبـة لا يجب ان تقف هكـذا!
تحدثَ صاحبي الذي بقيَ: دا نفـوت جوه بالمحلات لين يجي .. برد!

عارضـتهُ: خلينـا هـ....

قطـع صوتنا صوتُ رصاصٍ قادمـاً من السـوق الكبير الذي يفصلنا عـنهُ شارعيـن، تبـعَ الرصاصَ انفجاراً، او تفجيـراً انتحاريـاً جعل السـماءِ فوقـنا سماويةً.. حَمراء!

اخفضتُ رأسي وأنا أبتعدُ عن قطـعَ السّيارات التي قد احترقت: خليكم هَنانا، دا اروح أشـوُف محمد وأجـيّ .. ما راح اتأخر.

***

ذهبَ صاحبي لاحـقاً بالآخر، مجهول المصـيرَ، هل تُرى دمَـوع آلـن التي تجمعت في عينيه وهو راكـضاً لمعرفـة مصيرَ مُحمد .. تُنبئني عن مكروهٍ أحاط بهّ!
هل تلك العيـونَ الدامعة استشعرت حدس صاحبها الذي قلَ ما يخيب؟
رَبـاه سلم مُحمد لعائلـةً لا تأكلَ عشاءها ولا تلدُ طرفها ولا تُريح جسدها إلـى أن يعود.

نظرتُ إلـى تلك التي قد تحدثت كثـيراً ولم اجبها حتى انها اخذتَ تهزُ كتفي: صادق، دخيلك باوع الدنيـا رجعت مثل ما كانت وهم ما بيّـنوا !!

نظرت إلـى تلك الدُنيا التي تقصد، فلم يكن مقصدها إلا ان ألوانَ الموتِ قد تلاشت من السـماءِ وجثمتَ على قلوبِ أحباب من أخذت!
وهل اللونِ يأخذُ أُنـاس معه؟
نعمّ!
انه يسلبُ الحيـاة، انه يسلبَ الدم من العروقِ، انه يسلب الفرح من الأوطان ويلبسـها ثياب الترح
انه لا يُبقـي شيئـاً على حاله ان سمحَ له الانسـان بالتصرف!!
مشيتُ بجانبـها وهي تتلهفُ للطـريق الذي أمامها، تتجاوز السيارات وكأنها تقول أنا من أذنبتُ بحقـه!
الشوارع المُغلقة اعاقت طريقنـا، فقد كنتُ أكثر تعقلاً من آلـن الذي تركَ خلـفه أصواتِ مكابحٍ تُنبـأ عن قدرٍ قد كُف عنـه وخرج منه سالـماً ..

نظرتُ إليـها ونحنُ نتجاوز الشـارع الأول مُرسين خُطانا على الرصيفِ الفاصل بين الشـارعيـن: أني دا اروح ادور عليـهم بالمحـلات، وكَت الانفجار يتخبون هناكا.
وأنتي أبقـي لا تتحركين من المكان اللي ابقيَـج بيه..
أومـأت برأسـها وهي تنظرُ يميـنـاً ويسـاراً عن بُعد شارعـاً لعلها تجدُ هدى!

أمسكت يدي وهي تتجاوز الشـارع ملهوفـةً: باوع آلـن هناكا.

***

منظر الدامي، وهو ما بين حملَ مُحمدٍ وبين محاولة ايقاظه لا أعلم ان كان متوهمـاً بإغماء يكرره على مسامـعنا وهو يحاول ايقـاظـه: محمد قووم!
لم يستجيب مُحمد لنداءاته المُتكررة وسط وقوفي متصلبة وجلوس صادقٍ بقلـةِ حيلة يُراقب ما الذي سيحدث !
وقف راكـضاً وهو يبحثُ عن سيارةِ إسـعاف، فلم يجد!
يعود مرة أُخرى وصدره يعلُو ويهبط ويسقط أرضاً حاضناً مُحمد باكياً، كأنه استوعب شيئـاً غفلتُ عـنه.. وكأن صادق الجـاثي جانبـاً قد استوعبـه قبلـنا.
آلـنُ يبكي!! بكاءه صعبّ! وموقفنا أصعب..

يصرخ منادياً به متوسلاً: محمد اروح لك فدوة لا تخليني، دخيل ربك لا تخليني،
ثم يشهق باحثاً عن حياه مكفكفٍ دمعه الذي سقط بيده المحررة لا الحاضنة لمحمد: امك هستوهّ مـخابرتكَ تنطركَ ع العشاء !
لا تكسر بخاطرها قوم علمودهـا .. دخيلك.

انحنى صادق الباكي واضعاّ يديه على كتفيّ ألن، وهو ينظرُ إلـى العدد الهائـل من الناس التي قد تجمعت على جرحاها وشُهداءها: قوووم

نشجّ الاخر ماسحاً دموعه بيديه الاثنتين كالأطفال: واترك محمد للأميركان؟
تهجد صوته- ما اعوفه يظل بدون دفـان!

بكى منحنيّ على محمد الجاثيّ فوق ركبتيه بيداً يُمْنَى مجروحـة، بل ذهبَ بعضها.. لطالما كانت سنداً وعوناً لنا،
وبقدمٍ لو كُتبَ له عمر جديد رُبما ستُبتر .. لطالما حثتَ المسير تخبأنا عن الغُزاة،
وتحمينا لتبقى هي اخر من يدخل الى مأوى حمايتنا،
تلك القدم التي اتعبهاّ عندما يدوس بها على وقود سيارته شبه يوميا بين ديالى وشقلاوة من اجلنا!
حمله ألن النـاعي، راكباً بالخلف موسد محمداً فخذه ..
منحنياً عليه بين حين وآخر، استقليت المقعد الأمامي وأنا لم أعد أشـعر!
حقـاً لا أجدُ ردةِ فـعلاً لكل ذلك!
هل حزنتَ لأنني من ذهبَ بـه، أو أحزنَ عندما رأيت الايس كريم متهشمـاً بجانب مُحمد وهو قبلها بثوانٍ كان بيمينه الجريحـة ؟
ولكن ماذا عن مُحـمد يُخيـل لي انه مـات من حديثِ آلـن وتصرفاته!
ولكنني أشعرُ انهُ ما زال بخيـر وأنا بجانب صادق الصامت لولا دموعاً يمسحها حتى يرى طريقه ، فارين الى شـقلاوة قبل قدومّ الاميركان.
بين اللحظة وأختها انظر للخلف بوصيّة من صادق لأنظر إلى ألن الذي يُفزعنا بكل شهقة تخرج من صدره .. هدأت شهقاته، هدأ المكان،
نظرت إليه وهو يميلُ على مُحمد بحجرة، أراهُ يضـع رأسـه على صدرِ صاحبـه وهو يصـغي سمـعه لقلبٍ يرتجي منـهُ ان لا يتوقف ان لا يموت!
ان لا يتركـه وحده، فقد رحلَ أهله منذُ سنينٍ خلت، ورحلَ صدامه منذُ أيامٍ قليـلة .. لن يحتملُ وداعُ محمد !


***


لا أعلمُ لـما أمـي هكـذا قلقــة!!
ليست المرةِ الأولـى التي يذهبُ بـها إلـى شـقلاوة، وليست المرة الأولى التـي يُغلقَ بها هـاتفه.
لمَ تخافَ عليـه إلى هذا الحد!
لطالما تفاخرت بابنها "السبــع"، فأن كان حقـاً سبع فلـما الخوف؟
كفـي عن ذلك يا أمـي ولا تنقلـي إلـي عدوى خوفـكِ.

دخلَ أبـي والساعـة قد تجاوزت التـاسعةُ مـساء: إذا اجـا المصـخم صيّـحي عليـه، ولو نايم قعديني.

غضبَ أبـي كثـيراً من غياب أخي الذي لم يكن لا على البالِ ولا الخـاطر.
لقد أخبرَنا انه سيعودُ قبل ان يأُذن الـعِـشاء، بل وعدَ ابي ان يُصلـي جمـاعةً مـعه!
لمَ كل ذلك التأخيـر يا مُحمد ؟

رددتُ على سؤالِ أمـي التي تسألني ان فتحَ أحد من "مهجريّ" شـقلاوة هاتفـه أم لا: ما يمدي ماما،
من هسـتوة شـمّـوا الحُـرية، صعبـة ينفتح أي خط لأسبـوع أو أسبوعين!
وأنتي لا تخافيـن محمد سَبع ما ينخـاف عليـه.

وقفتَ وهي تقول: دا اروح ارتاح، من تسمعين صوت سيارته بأول الفرع تعالي كَولي لـي.

بقيـتُ مُراقبـةً لمجيئـك يا فقيدَ النصفِ سـاعة!
انهما لا يطيقـان غيابك، وان كابرَ اباك على دموعه لن تكابر امك، لقد تجلدت بما يكفيها من الصبرِ في أولِ خمس دقائـق.
لم تذهبَ لترتاح.. بل ذهبت لتنوحَ وحدها، عُد قبل ان تقضـي تلك المدامع الساحقة على صفـاءِ خديّ والدتـكّ!


***


هل حـقاً هذا ما حدث يا صادق!
صديقٍ في السيّـارة شـهيداً، وآخراً اعتلاهُ الوجـع جريـحاً.
وماذا عنـك؟ بل ماذا ستفعل بهما؟
لا أحد يجرؤ على اخبارِ احدٍ بخبرٍ كـهذا، وكيف نخبرَ أهلاً بفقد ولدهم الوحيد؟
كيف نفجـعَ أماً لم تنـم إلـى الآن خوفـاً عليـه، لقد أوصتهُ ان لا يتأخر.. وأن تأخر فهذا يعني انه سمحَ للسـهرِ ان يُغزوهـا.
كيف نفجعَ أبـاً يريدُ قربـه أكثر وأكثر.. وهو في جواره ويريد قربـه كيف ان بعُد؟
لم يسمح له ان يتطوع في الجيش.. خوفـاً عليه!
لم يسمح له ان يتوظف بمجالٍ يُحبـه حتى لا يذهبَ نصفِ النهارِ وهو لم يرى وجهه!
أي حبٍ يحمله هذا الاب.. بل أي فجيعـةً سيتلقـى؟
او عن تلك الأخت التي لطالـما عرفتَ المجالس اسمها وهو يُقترن مدحـاً وتبجيـلاً لأخيـها.
"
أخُـو مـلاذ" وهل ستبقَ بعده؟
هل ستنسى ذكريات الطفـولة والصِـبا والشباب؟ هل ستتجاهل تلك المسـيرة التي جهزهـا احتفاءٍ بتخرج اخته بعد شـهرين؟
هل ستُهـدم تلك المظلـة التي بناها مُحاكيـاً "جوادر" العزاء ، ولكن بطريـقةً أخرى، لقد بناه جادراً حتى لا تتأذى اخته الشغوفـة باللعبِ خارجـاً من الشمسّ
لقد بني ذلك الجادر في عُمر الثانيـة عشر، وهل سيكـونَ ذلك جادرُ عزاءه بعد مرورِ عشريـنّ عاماً؟

أوقفتُ السـيارة أمام بيتنا الذي تلبسـهُ الحُزن، ولمَ لا يحزن و"خطَـاره" اليوم يرحل بلا عودة! "خطار = ضيـف".
ضيفـه الدائم لن تستقبلهُ الحيطان، ولن يُشرعَ له الباب بعد اليُوم.
سيارتهُ التي استقلها نيابةً عنـه في رحيله لن تدور عجلاتها في أرضِ شـقلاوة اليوم!
الصاحب الذي كُنا نستبشر بقدومـه ونعدُ له الأيام .. لن يأتي بعد اليوُم .
لن ننتظره أيـضاً .

شعرتُ بمَهتاب وهي للتو استوعبت الامر: زينب،

أردفت وهي للتو تدمع على رابعنا الراحل: والله دا تموت!
نظرتُ إلـى ذلك الذي لم يتحدث!
لم يقل شيء، منذُ ان تحركنا من موقع الانفجار، هل قُص لسـانه في تلك الحرب إلا عن نداءاتٍ متكررة يستغيثُ بهـا طالبـاً من محمد جواباً.

تحدثتُ إليـها وأنا أنفضُ غبـار السـماء عن عيـناي، وهل للسـماءِ غباراً غير الدمـوع؟
من يقولَ انها مطراً او سحاب.. والله انها اعصاراً يعتصرُ القلب ويضعفُ حيلة ويخرجُ من أقربِ مخرجٍ لـها ليبُين ضعفك وقلـة حيلتك أمام مصابـك: أني دا اروح أخبـرها ، لا تطبّـون لحد ما اكَول لكم " تطبون= تدخلونّ".

نزلتُ وأنا لا أعلم من أواسي!
بل أحتاجُ من يواسيني أولاً، أحتاجُ من يقول لي انني لم أعد صادق الأول!
لم أعد الصاحب الذي يركن همومه ومسؤولية عمته على شابين رحلَ احدهم!
لم أعد صادقاً الذي لم يخافَ من المطاردة لانه يعلم ان هناك حراً طليـقاً سيسندهم عند انكسارهمّ.
لم اعد صادق الذي فرحَ قبل ساعتين بخبر حُريتــه .. ذلك الخبر الذي زفـه راحلي.. بل شـهيديّ!

دلفتُ باب المنزل فإذا بزينب خارجـة من المطَبخ بابتسامةً مازالت عالقة في وجهها من آثار التحرير المشؤوم: هلاو بالكبـد،
ليش تأخرتو ؟

قطعَ عليّ دخول مَهتاب الباكيـة، وهي تمسكُ يدي ترتجـي: آلـن مشـى ديـالى.

خرجتُ وأنا أريدُ اللاحقَ بـه، ولكنني لم أستطعَ.
فقد سابقَ الزمن ليفجـعَ أهلـه، لقدَ صحـى من هذيـانه ليفجـعَ الهانئين بأبنهـمّ.


***


لا أعلمُ أي طريـقٍ سيوصلـني لديـالى.. بل لا أعلم أي طريـقاً انهجـهُ وونيس سفـري يرقدُ خلفـي بإغمـاءٍ ليس بالسـهل..
لطالمـا اراحنـيّ من عـنا القيادةَ، لطالما آنس طريقي من وحشـته!
لطالما اختبأت من دوائر الدنيـا خلفَ ظهره، جداريّ الأميـن الذي سأودعَ اختي خلفـه بعد أيامٍ قد انهدمّ!
بل هُدمَ، سقطتَ على انقاضـه روحي التي ثكلته، نعمّ!
ليس أمه وحدها من سيثكله، فروُحـي التي كانت تحاوطـهُ من كل أذى اليوم ثكلـته.
فلتذوي روحـي بقاعٍ جرداء لا تحملُ من الحبِ والكره شيـئاً ، لا تعرُف الفقد، قاعٍ لا تحملُ مشـاعراً.. جرداء من كلُ شيءٍ!
لا تحتملُ روحي فقداً آخر، بان على وجهـي وأعينُ الاميركان تصافح هويتي وتُشفقَ عليّ من دمـعٍ جمدَ كما جمدت الدمـاء على اهداب صاحبي!
أشعرُ برائحـة الموتَ تفوحُ من لبـاسيّ الغارقَ بدمـاء صاحبي، فضـلاً عن وجودِ صاحبٍ تلونت أهدابـه وشـعره البُني بلون الدمّ، تلطخت يدايّ و وجـهيّ بلونـه أيـضاً.
وكأن لون الدمّ القـاني يُشابهنا ببـعض!
يلوّنَ ليلتنُا الأخيـرة بلونـه الذي لن يُنسـى في ظلامٍ ليلـة لا يسمـعُ بهـا إلا صوتُ أنفـاسي!
والآخر أين صوتـه؟ أين ضحكتـه؟ اين ابتسامة المعهودة حتى في سرحانه؟
أين نظرته الحانيـة، على الأقـل لماَ لا تشاركني انفـاسه انفاسي؟
لما لم أشعرُ بحركةً صادرةً منـه، هل يُعقل انه مات!
وبهذه السـهولة؟
ومن اختراقٍ بسيطٍ في جسده؟

فزعتُ من صمتَ صاحبي، نظرتُ إليـه وأنا أوقفُ السـيارةُ جانبـاً : محمد!

لمَ لم يرد؟ هل وقَع حدسي وصدقَ احساسي وأنا للـتو أقول انه ميتٍ؟
هل تسببتُ بموته وهو قد قال لـي سابقـاً انهُ القدرَ طائـراً يوقع على المتشائم تشاؤمه وعلى المتفائل تفاؤله !
لقد اعتقد ذلك واخبرني بـه، ولكنني لم أخذ بحديثـه!!

نزلتُ وانا متفائـلٌ عكس تشاؤمي، وصلتُ إليـه وأنا أمسحُ تلك الدمـاء عن جفونه وأخللُ شعره الذي تغطـى بالدم: محمد، حَـمود؟
وَصلنا ديـالى أمك لا تباوع عليك وانته هيـج!
بو خالد حاجيني!

لم يرد، بالفعلِ مات!
بحق المسيح انه قد قُـتل، قد استشهد أيـضاً.
ألا يقولون ان عينـيّ الشـهيد تُغلق؟ لن أغلقَ عينيه سأجعلها تشهدُ ما لم يشهده!
تشهدُ لوعـتي ودمـعي، وخُوفي من ظلام الليل وصمـته!

عدُت مُسرعـاً وأنا أسعلُ الحزَن، الذي قد سعلتُ بسببه سابقاً على أمورٍ لم تكن شبيهة بهذا أبداً.
قبضتُ على صدري الذي لم يهدأ من روعـي، بل زادني سُعالاً يخبرني انني فقدتُ.. بل فُقدت !
اليوم فُقد آلن وليس مُحمد.
فليرحلَ مُحمد شهيداً في السـماء، وليبقَ آلن يتجرعُ الفقد مجهولاً في الأرض!
بل أنني سأكسبُ جـنّـة الربّ على حُزني، فقد اخبرني متّى في انجيله اني من أهل الجـنّة "طُوبَى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ."!
سعلتُ المرارةِ في أرضٍ أقتربُ بها من ديـالى، لما انتهى الطريـق بهذه السُرعة؟
لما بدأت لي معالمُ ديـالى التي للتـو كرهتُ النظرَ إليـها .
لقدَ كرهت مهد بطولاتي المهزومـة!
وقفتُ بجانب ذلكَ البيتَ الذي حوى مُحمداً في صغره وحوى قليلاً من طيشي وكثـيراً من شبابي!
فتحتُ بابَ السيـارة وأنا للتـو شعرتُ ببللٍ يرتقـي إلـى صدري!
ما هذا؟
هل نزفَ صدري أسىٍ على حالي؟
هل بـكت رئـتي علـى وحدتي وخرجت دموعها على هيئـة دمـاء؟
ما هذا الجرحَ وما هي أسبابه؟
ليـهونَ جرحـي الصغيـر الذي أصمدته براحـة يدي أمام مَصابي براحـليّ.

طرقتُ الباب فإذا بيّ أسمعُ خطاها مُسرعـةً: ماراح أفتح عدّك مفتاح آغـاتي، تره بويه متوعد بيك.

***

عَاد صادق خالي الوفـاض مُنقذني من اخبار زينب: تعال ماما اش صاير؟
أسأل مَهتاب ولا راضـية تتحجي!

أرى مدامـعه التي صدّ بهـا عن عَمـته وهو يمسكُ اكتافها ليجلسـها: كَولي يالله!

جلست وهي تقول: ياربّ دخيلك!

اشعرُ به يرمي كلماته التي تتعثَـر بلسـانه: محمد تصـاوب.. ويمكن استشهد!

نظرتَ إليـه وهي تقف: عزززه!
انته شتكَـول؟

وقفَ وهو يضع يديـه على اكتافها: يمكـن!
هلبت ربـي يكتب له عُمر جديد.

نظرت إليـها وهي مصدومـةً من حديث ابن اخيها بل من مدامـعه التي لم يعد قادراً على اخفاءها امامها، تقدمتُ إليـها وأنا لـتويّ أتجرعُ مرارة فقده!
هل فعلاً فُقد؟
هل هذه ما يُقال عن فجيعـة الموت؟
ذهبتُ إليـها وانا احتضنها حتى تخففُ من فجيعتي، أنا من قتله!
أنا من أوصلـه الى ذلك المكان، كان يقف بمكانٍ بعيدٍ جداً عن الانفجار وانا من أوردهَ إليـه، كما يورد حادي العيس عيسـه إلى مورد ماءها.
ولكني أوردته إلـى موردَ دماءه!
إلـى مورد دموع أهله التي لن تنتهي وأن انتهت الحربّ وفنت الديـار.

تكلمتُ ودموعه تنسكبُ كموردٍ على كتفٍ زينب: أني السبب!
الله لا ينطـيني، موتّـه علمود موطة..

***

لمَ لم يرد؟
ألا يعلمَ انني اختلست النظر حتى رأيت سيارته تتجاوز الشارع لتقف أمام البيت؟
ألا يعلم أنني تسحبتُ من أعلى حتى لا يصحى أحد أهلي، أريدُ ان استفردَ به وأعاقبـه أولاً.
وبعد يعاقبـاه أباه بما أرادوا.
ولكنني فِرحـةً اليوم، ستكون هذه أخر رحلةٍ يذهبُ بها إلـى شقلاوة، سيبقى قريـباً مني.
ستصبحُ سهراته في ديـالى التي يأتي إليها صاحبه قاصدين الهدوء هاربين من ضوضاءِ بغداد.

سمعتهُ يطرقُ الباب والساعةُ قاربت الحاديـة عشرة: ماراح أفتح عدّك مفتاح آغـاتي، تره بويه متوعد بيك.

فزعتُ من صوتِ أخي الذي قد تغيّر علي، بل فزعتُ لأنه صوت شخصٍ آخر أعرفه!
انه صوت آلـن.. صديقَ أخي!
ما الذي أتـى به.. بل لمَ لم يأتي مـعهُ محمد؟
فتحتُ الباب وأنا أشهقُ الموتَ من منظره، رثّ الثياب الدمويـة الذي صدّ بـها عـني!

تحدث بصوتٍ قد اختنقَ وانا اسمعه يسعلُ بـعده: صيّـحي على أبـوج!

نظرتُ إليـه وهو قد ولاني وجهه متكأ على الجدار: شتَريد بيه ؟
بابا نـايم!

نظرَ إلـي بعينين حمراويتين: مـلاذ ما وكَتج،
روحي صيحي عليـه.

ذهبتُ من أمامه وأنا فقط أريد الهرب من مرأى عينيه الباكيـة، عيناه التي لم أعتد على رؤيتها إلا بجبروتٍ يليقُ بصاحبـها.
لم أعتد عليـها إلا كعيـونِ صقرٍ يتحـدى ان تأتي نظرةً تكسرُ عيـنه!
لم أعتد رؤيـته هكـذا كسيـراً، لم أعتد أيـضاً مجيئه إليـنا بلا مُحمد.

صعدتُ أعلى وأنا أخففُ من روعـي حتى لا أفزعُ أبي: بابا ، بابا.

طرقتـين ومناداةٍ بسيطة ايقظت من ينتظرون ولـداً.

فاقت أمي وهي تنفرجُ أساريرها : الحمدلله ياربّ جاء، رجع ولدنا يا خالد رجع.

سبقتني إلـى أسـفل، بل سبقها أبي وكـأنهم عادوا إلـى شبابهم، أردتُ اللحاقُ بـها لأخبـارها ان آلـن من يقف خارجـاً وليس مُحمد.
لا أودُ لهـا خروجٍ بـلا حجابٍ أمامُ صاحب ابنها الذي تُمقت!

سبقني صوتُ أبي الذي أوقفـها وهو ينظرُ إلـى آلـن: اشبيكم؟

***

وهل هُناك إجـابةً تُقال يا أبا مُحمد ؟
نظرتُ إلـى السيارة بل أشرتُ إليـها، وكأن الذي أمامي استفاق للأمـر!
ذهب مُسرعـاً يفتحُ بابهـا الأمـامي، فلم يجد شيـئاً.
لم يجدَ ضـالته.
ليفتح الخلـفي ويجدُ ابنهُ مسـجاً بطريـقة المـوتى!

ولكـنه ليسَ ميـتاً .. للتو استوعب شهادته، نظرتُ إلـى ابيه الذي يقول لي: اشبيه؟

لمَ لم تصلك إشـارة الموتَ التي ايقظتني في ظلمة الطريق؟: شـهيد.. بإذن الله!

ارتميتُ في حضنه وكأنه هو من صوبني بسهام خبراً مُفزع كـهذا، تلقفتني يداه وهو يتشبثُ بـي وينطقُ
بصوتٍ تحشـرجَ بكـاءً وأسـى: الاميركانّ؟

رفعتُ رأسـي وأنا أقول: عراقيـين ..

للتـو يدمـع!
للتو تكبر فجيـعته وتقـوى، أ يقتلُ الأخ أخيـه؟
أي قتلـةٍ .. قتلهُ غدرٍ تجعل ام الشهيد التي لا تعلمُ استشهاده تتوارى خلف الباب تسأل: اشبيه؟
خالد انت هنانا؟
انحنـى خالد ودمـوعه تغسـلُ دمـاء خضّبت وجهِ وليده، أغمـضَ عينيه التي لم أستطع ان أغمضـها، حملهُ وحده!
وكـأنه يقول لي ما زال صغيـري، ما زال ابنُ أمسـي.
جلستُ أرضـاً بجانبِ البابَ وأنا أسمعُ عويلَ امه وهو تقول: اشبيه أبني؟

حتى شعرتُ بـه قد وضـعه أرضـاً، ووالدته تتحدث وصدره قد دفنَ صوتها من شدةِ التصاقها به: حموودي ماما،
أروحن لك فدوة أكَـعد، حمـودي ، تسمـعني رد عليـه؟

وأخته أيـضاً بدأت تبكي بجواره: محمد، بطل عيـونك!
محمد؟ صح اني جنت بزرلك بس انته وعدتني ما تطبّ شـقلاوة، خلاص قوم وانسـى وجع الراس من وره ضوجتنا انا وأمـك.
آلـن اشبيه موجوع ؟ صدره كلـه دم؟ وانته هميـنه مثلـه!
اشبيكم؟
متعاركينّ ؟ لو مسعفين احد ؟
ليش ما ترد عليـه ؟ ليش هيج بويـه حاملك بيدينـه مثـل الموتى؟ - ثم شهقتُ بعدما اوصلها حديثها الى ما لم تفقهه – انته همينــ.....

صرخت أمها وهي تبعدها عنـه: لا تتفاولي عليـه !!
ابني دا يطيب، بعدي عـني.

وقفتُ بعدما شعرتُ انها قد جُنت، تصرخ وهي تردد املاً ان ابنها المسـجى بين يديها سيطيـبّ .
أي دوى سيـعيدُ الموتى يا أم محمد؟

***

ضيقٌ يكتمُ انفـاسي، ودمـعٍ بلل مخدعـي !
هل حقـاً قتلته؟ هل حقـاً أصحبتُ قاتلة ؟ أسبُ صدام لقتله، وأقتل!!
تباً لي، ولكأس ايس كريمّ لعينٍ أورد احدهم الموت.
لمَ لم أغضبُ من رفضِ آلـن وسُخريته وارفض ذهابِ محمد؟
لمَ لم أذهبُ مـعه؟
لم جعلتهُ ينازعَ الموت وحده؟
هل قـسى قلبي؟ هل حزنتُ بالشكل المطلوب؟ هل قتلتَ القتيل ومشيتُ بجنازته؟
هل تسببتُ بمقتلِ حلم عائلـة ترى النور من خلالِ عينيه ؟
فلتقتلِـي نفسـكِ عوضـاً عنهُ يا مَـهتاب، فلتذهبي إلـى آلـن وتقولي له كفّـر عن ذنب صاحبك بالطريقـة المسيحية.
اجعلي منكِ خطيـئةً تُرمى بالحجارة إلـى ان تموت!

***

الشمسُ الساطـعة في عيـنيّ في زحامٍ أراهُ من بعيد لم يكنّ الا زحامَ المشيـعين بعدما انتهيـنا من مسيـرةِ تأبيـنه!
لم أدخلُ المقبرةَ لأنني لا أعلم ان كان دينهُ يمنعُ ذلك او لا، حرمةَ دينه التي أجعل اوقفتني.
فيكفيـني لوعـةً في حملـه بجانب والده ومن خلفـنا مسيـرةً تُردد أناشيد الشهادة التي تُلوعَ قلبـي أكثر فأكثـر.
يمّـه ذكريني من تمُر زفـة شباب.
من العرس محروم وحنتي دم المصاب
شمعة شبابي من يطفوها ..
حنتي دمي والكفن دار التراب..
سيُحرمَ صاحبـك حيـاً ما حُرمت منهُ ميـتاً، سيُحرمك أولاً.
نعمّ!
ستصبحُ محرمـة لقيـاك، ورُبـما سيحولَ إسـلام أحدنا ومسيحـيةِ الآخر عن الدخول في ساحة المقبـرة!

انتهى




مخرج الفصل الثالث والاربـعون.
ونفس الشريف لها غايتان
ورود المنايا ونيل المـُنى
وما العيش لا عشت إن لم
أكن مخوف الجناب حرام الحمى






لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 07-04-19, 06:20 PM   #47

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

مدخل الفصل الرابع والاربـعون.
ألا يا أمتي ضاعت رؤانا
وفارقْنا الدليل فما هُدينا
ألا يا أمتي تاهت خُطانا
وفي البيداء ظَلْنا حائرينا

ألا يا أمتي بِيعت رُبانا
وللأعداء سلَّمنا العرينا

حياضَ العز خلينا ، وصرنا
يذلِّلُنا العدو ويمتطينا
.
.
.
الشمسُ الساطـعة في عيـنيّ في زحامٍ أراهُ من بعيد لم يكنّ الا زحامَ المشيـعين بعدما انتهيـنا من مسيـرةِ تأبيـنه!
لم أدخلُ المقبرةَ لأنني لا أعلم ان كان دينهُ يمنعُ ذلك او لا، حرمةَ دينه التي أجعل اوقفتني
.
فيكفيـني لوعـةً في حملـه بجانب والده ومن خلفـنا مسيـرةً تُردد أناشيد الشهادة التي تُلوعَ قلبـي أكثر فأكثـر
.
يمّـه ذكريني من تمُر زفـة شباب
.
من العرس محروم وحنتي دم المصاب

شمعة شبابي من يطفوها
..
حنتي دمي والكفن دار التراب
..
سيُحرمَ صاحبـك حيـاً ما حُرمت منهُ ميـتاً، سيُحرمك أولاً
.
نعمّ
!
ستصبحُ محرمـة لقيـاك، ورُبـما سيحولَ إسـلام أحدنا ومسيحـيةِ الآخر عن الدخول في ساحة المقبـرة

بل يخشَ قلـبي ان يحول ديننا بين ملقانا في ديـار الحق.
دار الحقَ الذي تراني محرمٍ من دخولها.. مثلـما أراك أيـضاً
.
أسمـعُ أصواتٍ من داخلِ المقبـرة بعدما انتهوا من الصـلاة وهم يعزّونَ والده الذي وقفَ وحيـداً، لأولِ مرةً أراه وحيداً في جمعِ النّـاس، لطالما باهى الجموعَ بأبنه
.
لطالما صُدمَ النـاس .. بل أعجبُوا بالتقارب الذي بينهما
.
ايس كريمّ.. يُحرم الاب مـن المباهاةِ بولده
.
ايس كريم.. يمنُـع تلك الثكلـى من اعتزاؤها بذلك الابنّ

ايس كريم.. يُميت الاخوة التي للـتوِ وصلت لنضجها بعد مراهقـةً سبقتها طفولة
!
لطالما أخبرني محمداً انه يعيشُ من أجلِ مـلاذ، لقد واجه براكين الغضب من والده لأنه رفـضَ عريسٌ لا يفرط بـه
!
فما كان جواب مُحمد إلا " ملاذ ينراد لها رجّـال
".
كنتُ أعلمُ بهشاشةِ اخته وليـن عودها وغنجـها الذي لا يتحملهُ ولداً شقيا
.
كان مُحمد يـصفي الرجالُ لأخـته، يقول ان لم يعتلِ شأنها أكثر .. لن يصغر
!
كـان يخافَ من استصغارُ رجـلاً لها، بل يخافُ من كلمةً تجرحها
.
ألا يخافَ عليـها من موته؟

ألا يعلمَ ان موته هو فقط ما سيجرحها ويلوعَ روحـها؟
ألا يعلم انها بكتَ حتى جفتَ أعينها من الدمـع؟ ألا يعلم انها سهرتَ ليلـها البارحة بجانبه؟ وكيـفَ تقوى فتاةً على مجالسـةِ ميـتاً؟
ولكنه ليس أي ميت.. انه مُحمد!
مُحمد الذي لم يتركَ خلفـه إلا قلوبٍ تلوعت وعيونٌ عُذبت دمـعـاً وفقداً
.
فليقبلهُ ربّ السـماءِ شـهيداً ذهبَ غدراً ، شهيداً لا يُكسر
.
شهيداً اختارَ الشـهادة بدلاً عن عودةِ بنتُ إيرانَ بلا ايس كريمّ
.
وهل ترى الكفـةَ رجحت ؟ او المعادلة عادلة؟

ولكنها يا ربّ لم تحصل على الايس كريم ولم يعودَ محمداً حيـاً.


***


لمَ يُعزون؟ وبَـما يعزون؟

ألا يعلمون انني قد جربتُ الموقف هذا قبل هذه المرة؟
نعمّ!
قد سهرتَ احادثـهُ وهو لا يقفهُ شيئـاً، لقد ناغيته ودللتهُ وهو ابن السـاعة
!
والبارحة دللتهُ وناغيـتهُ وحادثتهُ بما يفقه وهو قد انتهت ساعة افاقته
.
لقد عشتُ الساعتين الأولى والأخيرة من حياته لوحدي
..
لم يردُ عليّ بأحدهنّ ، لقد رحلَ وهو يفقه انني أمهُ، لما يعقُ بي ولم يستجيب لندائي؟

مـهلاً.. ابني لا يعقُ بيّ، ولكنهُ جريح!
ألم أرى الدمـاء التي أغرقتَ لبـاسه؟ ألم أرى الدماء التي تطفلت على عينيه ولم أرى صفاءها للمرة الأخيرة؟

ألم أخلل شعره البني ويخرجُ منـه الدمّ.
هل هو جريحٌ؟ إذٍ، لمَ ذهبَ ابوه إلـى المقبـرة؟

لقد سمعتُ صوت التشييعَ منذُ ساعـة، يرددون اسمه!
هل حقـاً كانوا يقصدونني وهم يرددون على اسماعـي " ابنج شَـهيد"؟

هل حقـاً سيعودُ ابوه وصاحبه بدونه؟
لن يقدمَ صاحبـه إلـى البيت وهو غير موجـود، أنا متأكدة أن ابني جريحٍ سيشفـى، هؤلاء النسـوة المتجمهرات لا يفقهنّ شيئـاً.

سألتُ مـلاذ التي تجلسُ بجانـبي: محمد دا يعـود وياهم؟


رأيت امرأة تقوم من آخرِ المجلس: كَولي لا اله الا الله.

نظرتُ إليـها بغرابـة: لا اله الا الله، محمد دا يعود ويـا آلـنّ؟


تحدثت ملاذ بصوتٍ يشـبهُ الأنين: محمد رااح!

هل جُنت كما جُنت بقيـة النسوة من حولها ؟ ألا يعلم ان آلـن أيضاً جريحٍ وذهبا سويـاً يضمدا جراحهما : دا يتطبب ويعود ويا آلـن،

آلـن كَـالي هيـج.


***


الويلُ لك يا آلـن من أملاً أحييهُ في قلبِ ثكلى
.
متخبطة ما بين شهادةٍ ترى بالعيـنِ وبين أملاً كان خاملاً ونشطَ في قلبـها كما ينشطُ الخبيثَ في جسداً وينهشُ منهُ عافيته
!
لمَ تقـل لها ان أخي عائد؟

ها هي لم تصدقَ الوفود ، لم تصدقَ اهازيج الشـهادة ولا أصوات المشيعين!
لم تصدق أيـضاً تلك الزغاريد التي تختلطُ بالبكـاء عند قدومِ كل امرأة للـعزاء
.
لم تصدق كل هذا، وصدقت حديثـك صباحاً وانت تحملُ محمد وتقول انك ستعودُ بـه بعد مداواة جراحـه
!
أمي العاقلة يصُبح عقلها مرهونٍ بحديثٍ منك
!
ولما لا تصدقكَ وانت خليلُ أبنها وشاهدُ شهادته؟ هي تعلمُ انه استُشهد
.
ولكنها تُعاندَ الزمن وتُعاند ما يدورَ حولها، وتستشهدُ بقولك اليتيم
!
لا ضير انها ستُجنَ عند عودتكَ وحيداً
.
لا ضيرَ انها لن تبقَ يومـاً بلا مُحمد
.
خرجـتُ وأنا أسمـعُ صوتَ أبـي قد ندهَ عليّ
!
ذهبتُ إليـه مُسـرعة وأنا أراهُ قد ملأ أسـىٍ لن اتصوره في يومّ
.
فتحَ لـي احضـانه وأنا أنثرُ جَلديّ الذي تمثلتُ به أمام امي، وأنـا أبثُ إليـه حُزني
!
هل رحلَ أخـيّ بهذه السهـولة؟

للـتو احتفينا يا أبي بميلاده الثـلاثون، للـتو أطفـئ شـموع عامه.. وقد طفت فـعلاً شموع عُمره البـاقي ولم تنتظر منهُ اطفأها.
للـتو ودّعناهُ يا أبي بمشواره الأخير إلـى شـقلاوة، لقد تعهد لنا انهُ آخر مشوارٍ يذهبُ بـه إليـها
.
لقد كرهتها يا أبي وأنا من تاقت لرؤياها
.

تحدث أبـيّ بصوتٍ لم أسمعـهُ من قبل، وهل كان هذا الاختناقُ بصوتِ أبـي؟

هل هذه الغصـةُ تحملهـا حناجر أبي؟: بابا ملاذ،
أعرفج قـوية، صبّـري أمج على بلواها، بنتي السبّـاعية أخـ....

شهقتُ عندما بترَ جملته المعهودة
!
لم أعد "سباعيـة" عندما فقدتُ "أخي السبـع
"
هذا ما بترَ قولك يا أبي، هذا ما جعل لسـانك يُجلمُ؟



***


في تلك المزرعـة، وفي تلك الجلسـةُ الأرضـية آخر ما جمعـني به!
أقضِ نهـاري أسىٍ.. حتى يعودُ آلـن بخبـرٍ عنه، أخبرني ابن أخي ان هُناك بصيصٍ من الأمل بحيـاته ولو كان ضـعيفاً
.
أنني واثـقة بعودته، لن يتركنا مُشردينَ في شـقلاوة
.
دخلتُ شـقلاوة بمعيته، ولن أخرجُ منها الا بتلك المعيـة
.
أنني لا أُؤمن أحداً على مَهتاب غيـره ، أشعرُ انه هو اخيها الذي تفتقدُ في وسطَ ابنائـي الأسودَ الذي سينهشُ احدهما بها حيالُ عودتـه
!
لقد ناحتَ ليـلها أمســاً في حضني وهي تخبرني انهـا السبب ما حدث لمحمد
.
ان " موطـة" يتلهى بها الصـغار أوردتَ زيـنتهم إلـى حتفـه كما تظن
!
خُطـى ابن أخـيّ المُكبل بنا تسوقـهُ إلـي، أعلمُ انه حزينٌ على تقييدنا لـهُ وعدم ذهابه خلفِ آلـن
.

تحدثتُ بعدما رأيتهُ يجلسُ بجواري صامتـاً: الله بالخـير
!

حيّـاني دون ان ينظرُ إلـي: هلا
.

شعرتُ انهُ لم يعدُ قادراً على الحديث، بل يستصعبـهّ
!
لم أعهدكَ ضعيـفاً يا ابن روحي، لم أعهدكَ بائـساً هكـذا
.
أنت الرجُل.. انت الجَلد، انت الصبـر يا صادق
.
لا تُريني عبوسـاً اعتراكَ بمُجرد احتمالٍ بشهادة صاحبك، ألا تعلمَ ان عمتك تعلمُ بالفجيعـةِ قبل قدومها
.
انني لا أشعرُ بما شعرتَ به في مقتل عليـاً ولا في موتٍ جعفرا
.
ولا يشابـه شعور الموت الذي تذوقـه بمقـتلِ ابيك واخي
.
انهُ يشـابه اللا شعورُ، لم أعد أشعرُ بالوداعِ يا صادق، لم تعدُ روحي متقبله لذلك الامرُ أبداً
.

تحدثتُ إليـه: اجيب لك فـطور؟


يضـع رأسـه على كتفي وهو يـقول: لا.

هل هذا البللُ الذي اعترى كتفي مدامـعٍ، هل أنت تبكي وأنا لا أشعرُ بك؟

هل هذا قهرُ الرجـال الذي تعوذَ منهُ نبيـنُا؟
هل للموتِ قهراً؟
ما أشدُ قهراً من الموتِ غدراً؟ ما أشد قهراً من المـوتِ وأنا ذاهبٍ لإسعادِ احدهم بالقليل؟
فلنبكـي صامتيـن خوفـاً أن تشعرُ ارواحنا بوداعٍ جديد.
فأرواحنا فُطرت يا ابن أخي، ثُقبت ألـماً .. وهل نذرُ على ثقوبـها ليمـونٍ بتلك المدامع؟



***


التّـاسعةُ مسـاءٍ وصوتُ انفجارَ البارحة يطنُ في أُذني ويعدمها السـمعَ..
يعدمها سمعَ صوت أبو فقيدنـا الذي يتحدثَ بجواري
.

نظرتُ إليـه وأنا أعتدلُ في جلسـتي: شكَلت عَـمو؟


اراهُ ينُكَس رأسـه يُخفـي مدامـعَه التي يُدراي طوالِ نهـاره عن وجـوهِ المُعـزّين: أمّ محمد.. ما مصدقـة أنك هَنانا، تكَول انه لهسّـه ويا محمد دا تطببون جروحـكم وترجـعونّ!

علمتُ من كلامهُ مغزّاه
!

يُريدَ مـنّـي اخبارها بالحقيقة كما ظللتها صباحاً وانا اختطفُ ابنها من بين يديها
.

نفثتُ ما يحملهُ صدري من مـتاعبِ الوداعِ الأخير: صيّـح عليـها
.

رحلَ ذلك الرجلُ النبيل الذي لم ينصفُ خمسيـنه إلـى الآن، ولكن فقدَ ولده كبّـره اضعافاً في يومٍ وليلة
!
فقدَ ابنه جعلهُ يمشـي بلا عَكازةٍ يستندُ عليـها، كان مُحمداً عكازته اللا مرئيـه التي يُسندَ عليـها متاعبـه ونحولَ جسـمه
.
وما ان ذهبَ حتى عاد مع تلك الملهوفـة، التي جلستَ أرضـاً أمامـي ونزلتُ بجلسـتي أمامها
.
لا أعلمُ كيف أخبرها.. بل كيف أواسـيها وهي مُحرّمـةُ عليّ
.
أعلمُ ان ابنها يكره مرآها راجيـةً هكـذا امامي، وأعلمُ أيـضاً انه لا يُحبذ ان أمسكُ يدها أو انظرُ إليـها بملأ عينيّ
!

أراهَـا تتحدث بلهفـةً: شـلونَ جُرحـك ماما ان شـاء الله طابّ؟


تحسستُ صدري ذلك الجرح الصغيـر اللعيـن الذي ضمدتهُ بعد عودتي من المقبرة: طابّ يا خالـة طابّ.

ثم بدأت تخترق قلبـي بمدامـعها وهي تسأل: ومحمد كيفه ليش ما جاء ويّـاك؟


لم أُفجـعَ بأنها تتوقـع حيـاته، ولكن ما هذا الإصرار والثقـة التي تجعلها تتحدث عن حاله وكأنهُ مُصـاباً رُقدَ في مشـفىً لحين شفاءه!

تحدثتُ وأنا أشعرُ بعدم رضـى صاحبي وأنا أمسكُ يديهـا الاثنتين التي تَحتضن: أني ودّيته المستشفـى الصُبـاح
.

اراها تومأ برأسـها بمـعنى "أكمل" وهي نسيت أنني آلـن المسيحي الذي لا تطيقُ لـه اسمـاً
.
لا تطيـقُ لـهُ معشراً لولدها : وأني طلـعوني وهو بـقى عدّهم للـعصر وبـعدها نزَفت جروحـه
..

تحدثَ أبو مُحمد وكأنهُ قد صدقَ روايتي التي تُمهدَ لـها الفاجـعة، وكأن ابنها حقـاً خرجَ من عندها مُصاباً لا شـهيداً: وبعد ما نزفـت جروحـه حاولوا يوكَفوا النزيف .. بس خذاه ربّـه لعنـده
!

التفتَ بكامل جسدها إلـى ذلك الاب المكلوم أيـضاً وهي ترتجيـه ان يقول قولاً آخراً فإذا بـه يحتضنها وهو يقول: مـاريّـة
..
لو الله كَـالج أني دا اخذ محمد من عدّج تكَوليـن لا،

دا توافقين لأن ربّـي اختار لـه الجـنة، اختاره بين كُـل النّـاس علمود يروح الجـنة كَبلنـا.. توافقين صح لو لا ؟

أومـأت برأسـها وصوتها يغيبَ بين حزنٍ وفاجـعةً: صح.

رفـعَ رأسـها وهو يمسـكُها مع عضديها : ربّـي اختاره شـهيد، عَلمود يوم القيـامة تباهيـن كل النّـاس بابنج الشـهيد
.
مثـل ما رفـع راسج بين النّـاس حي، دا يرفـعه لج بين الله والنّـاس يوم القيـامة
.
دا تكَولين هذا وحيدي الما وطـا لي رأس، اليـوُم يشفـع لي وأدخل الجـنّـة
!

اختلطَ بُكاءها ونعيـها ببُكـاء ذلك الرجـل الذي حاول ان يصبرها واكتشفَ انه يلوع نفسـه أكثرَ وأكثـر
.
خرجتُ وأنـا لم أعُد قادراً على سمـاع ذلك النحيب الذي لا يرضـاه صاحبي لوالديـه
!
بل لا يحترقا هذين القلبين ولن ينهمرا مدامعهما وهو حيّــاً
.
خروجـيّ.. كأنه أذنٍ لتلك التي تتوارى خلف الحُجرات لتأتي أخيـراً تُشـارك اباهـا البُكـاء
.


***


أراهم في الأسـفل ينتظرونَ عودة آلـن الذي لا أعلمُ ما الذي أخره الى هذا الوقـت
!
هل تراهُ سيحضـرُ عزاء مُحمد الذي قارب يومـه الثـاني على الانتهـاء؟

سيمـضـي اليوم كما مضـى أمسـاً، وهمَ ينتظرونَ آلـن، وأنا أرتجي عقابَ آلـن الذي سيخفف عن روحي ويُزيل من عيني مدامـعها.
لا أتصورَ أنني قتلتُ أحنّ رجـلاً رأيتـهُ في حيـاتي
.
والله لا يُشابهه بالحنانِ لا أبـي ولا أخوتي الذين ظننتهم احنُ قلوبٍ وارقُ أفئدةٍ
!
هل يُدفنَ ذلك الحنانَ بسببي؟ هل ما زالت أمـه تبكيـه؟

هل ما زالت تنتهـي من حفلتها البُكائـية بقول "الله يجازي من كان السبب".
هل ترى الله يُجازيني على فعلـةٍ لم أقصدها؟

ولكننّـي يا الله لم أقصدُ أذيته، لم أقصدُ موته.
نعمّ
!
أنني اخترتـهُ من بينهما ليشتري لي بوظةً ولكنني لم أقل له أذهب إلـى موتك
!
لم أكن أعلم الغيبَ يا الله وإلا لم آتي من طهرانِ بالأساس
!
طَهران
!
ما حالُ طهـرانّ وأهلها وابنتهم قاتـلـة؟

هل ستنجوُ؟ هل سُيبقيها البغدادي في كنفـة بعد تسببها برحيـل صاحبـه؟
هل سيُسلمني لتلك القوات التي تُطالبَ بـي؟
أم ما هو العقابَ الذي يراهُ منسوب الخارجيـة لائقـاً بفعلتي التي لم أقصد؟
يالله!
أنني بين عذابٍ نفـسي ينتظرُ عقابٍ جسديٍ يخفف عنـه
!
وهل ترى العقابُ يخففـه عقابٍ آخر؟ من نوعٍ آخر؟


صوتُ عمتهم التي ما زالت تحملُ بصيصـاً من الامل تفقدهُ ثم يعود لروحها بين الفيـنةِ واختها: مَهتاب، مَهتاب .

خرجتُ وأنا متلهفـةً لعودةٍ آلـن، اتلهفُ لعـقابي
!
أشتاقُ لذلك السوط الذي لم أجربهُ في حياتي إلا على يده
.
أشتاقُ لتلك الكلماتِ اللاذعة التي يبقـى أثرها في روحي أعظمُ من أثرِ سوطـه
!
هل تعلمون أحدٍ يحبُ عذابه؟ يحبُ فناه؟


اجبتها : هلا زينبّ.

نظرتَ إلـي وهي تُعيد أسطوانة البَـارحة: مامـا.. كَولي يالله
!
راح ولا بقـى الله اللي كاتب له، وشـنّو هالتشاؤم الصابكمّ؟

ليش تتفاولون على الولد ؟ أني متأكد انه ما بيه، يومين ثـلاثـة يكَوم مثل السَـبع.

سكتـتُ فقد جادلتها أمسـاً بمصـير مُحمد ، بل بموتِ محمد الذي تأكدتُ منـه بنفسـي
..
لا داعيّ ان أُحزنها قبل أن يأتي أوانـها
.

أردفتَ: يخزيك يا شيطان .. نسـاني اش كنت رايده،

يالله مامـا صبّيت العـشاء تعالي.


***


أرى ابن أخي الذي ما زالَ يُحركَ ملعقتـه في صحنه دونَ ان يأكلَ منـه، وفي الجهـةِ الأخرى تلك التي تختلسُ النظرَ إليـه مرعوبـةً
.
فلم يردُ على سـلامها، لم يُحييـها ، لم ينظرُ إليـها
.
لا أعلمُ ما الذي قسّـى قلبـهُ عليـها، ألا يؤمن بالقضـاءِ والقدر؟

إذٍ، ما بالهُ هكذا يتطيرُ بـها ويتشاءم؟
ألم أربيـه على الإيمانِ بالقدر؟ على ان الله المتسبب ومن في الأرض سبباً فقط؟
أن من أرسلتَ صاحبك إلـى موته كانت مأمورةً من المولى ومسيرةَ بما أرادت، ألا تعلمَ ان القدرَ هو الذي ساقنا من بغدادِ إلـى ديالـى ثم إلـى شقلاوة الذي أُصيبَ بها صاحبك او استُشـهد!
ما باليّ أصحبتُ اتطيّـر مثلـه؟

عليـنا ان لا ننتظر آلـنُ هكذا ، يجب ان نتحرك ان نفعلُ شيئـاً

تحدثتُ إليهما جميـعاً: إذا اجا باجر هالوكَت وآلـن ما اجا بروح ديـالى
!

تحدثَ صادق وهو يقف: إذا ما اجا أني دا اروح، انتمّ خلوكم هَنانـا
.

لحقتَ بـه مَهتاب وأنا أدعُـو الله ان لا تبدأ حربـاً بينهما، فهي ذهبتَ لتوقدَ النّار على نفسـها
.
وقد نذرتُ على نفسـي ان لا أتدخلُ في أمورٍ تبدأها هـيّ
.
فلتخرجُ مثلما بدأت .. أو لا تخرجُ إلا بخدشٍ يمسُ كرامتها ويقللُ من شأنها، فابن أخي لم يعد قادراً على احتمالُ نفسـه فكيف بـها ؟



***


أسـمعُ خُطواتٍ خلفـي، تسيرُ إلـى حيثُ أسير.
ليستَ عَمتي من تخطو هذه الخُطـى العجولـة، انها مَهتاب
.
ولكن ما الذيّ تُريده من صاحبٍ لم يعد حتى الآن من غيبوبـةِ الفقد التي تجرعـها صغيـراً في موتِ والديـه؟

ما الذي تُريده من رجلاً يحاوطَ عَمته في حلها وترحالها خوفـاً من رحيـها؟
ما الذي تُريده من جازعـاً من الموتِ يرحلُ أمانه الوحيد الذي يرمـي عليـه ثقلَ احمالـهُ وهو يبتسمُ.
لقد رحلَ مُحمد يا مَهتاب، وبقيتِ هُنا
.
كُنا جميـعاً مُهددين بالموتِ ، فيرحلُ الآمن ويبقـون المُهددين
!
كُنا جميـعاً على شفا حفرةً من الهاوية، فيسقطُ الذي يستقرُ قدمـه على الأرض ويثبتُ من كانوا على مشارفِ الهاويـة
.
ما الذي تريديـنه بعد ذلك؟


نظرتُ إليـها: شـنّو؟

رأيتها تعودُ خطوةً وهي مصدومةً من توقفي، بل من التفاتتي عليـها: صادق..
ليـش مدا تحجي ويايـه؟

انته تعرُف ما كنت قاصـدة والله!

ما زالت تنبشُ بموتـها، ما زالت تتحدث بالأمورِ قبل أوانها
.
ألم تنتظرُ حـتى يحينُ عقابـها، ها هي تُعاقبَ نفسـها عندما ترانـي لا أصدرُ أي ردةِ فعل اتجاهها
.
تعلمَ انني لستُ قادراً على مرائها
.
ولكن هذا لم يكفيها ، فهي تُريد ان أغضبُ مـنها، ان أنعتهـا بالقاتلة
!
ان أضربـها أيـضاً، تُبررَ وهي تنتظر العقاب
!
تبـاً لكِ من فتاة، هكـذا تقودكِ عاطفـة الأُنثى؟

ترين العقاب من أحدنا مُكفرٍ لخطاكِ؟ ولكن ما الذي يُكفرَ عنكِ مدامـعٍ كانت ان تفيضَ بهـا دجلة؟
ما الذي يكفرَ عنكِ لوعـةَ امه وحرقـةُ قلبِ ابيـه، وضـياع الأمان من حياةِ اخته؟
ما الذي يكفرَ عنكِ دمـعةَ امـه كلما لدَ طرفـها إلـى غُرفته؟
ما الذي يكفرَ عنكِ شـهقةُ أخته وهي تكاد ان تتصلَ بـه ليأخذها من جامعتها؟
ما الذي يكفرَ عنكِ وحشـةُ ابيه وهو يخرجُ بيتٍ موحشٍ إلـى دكانٍ أكثر وحشـةً!
لن يأتي أحدٍ يساعدهُ في حسابِ محصول اليومّ
.
لن يذهب أحداً إلـى الشمالِ كُل بدايـةِ فصـلاً ليأتي بأطيبَ الخُضـار
.
لن يتعللَ مع صحبه وهو مؤمن محلـه بأن صاحبهُ الآخر بـه
.

سيصُبح المحلَ لشخصِ واحد فقط ، لذلك الكَهل العجوز الذي افقدتيـه ولداً : عـارف انج مو قاصدة
!

نظرتَ إلـي مشدوهة، كيف بررَت لـها تصرفها الاحمق
!
تحدثتَ وهي تُندبُ نفسـها وحظـها : بس هو عاد علمودي.. علمود موطـة
!
راقت مدامعـها وهي تقول: سـامحنّـي
.

لم تنتظرُ منّـي سماحاً وهي تسرعُ بخطاها إلـى غُرفـتها
.
غريبةٌ تلك الفتـاة التي تُبرأ نفسـها وتلومها، التي تقول انها لا علاقـةَ لـها ثم تردُف انه رحلَ بسببها
.
غريبـاً تناقضـها الذي جعلـني أشفقُ عليـها لا ألومها
.
وكيف الومها وهو قد رحـل، ليـسَ هي من فجّـر
.
ليس هي من أرعبّ الآمنين واقضَ الهانئيـن من مضاجعهم على الفقد
!


***


ثلاثُ ليالٍ ويوميـن وأنا شـاهدٌ على تلك الآلامِ والمدامـع
!
لأكثـرَ من مرةً تأتي إلـي أم محمداً طالـبةُ مـنّـي أن أُأكد حديثي أمسـاً
.
ثم بعدها تطلبُ منّـي ان أذهبُ بـها إلـى قَبره
!
روحـي لا تحتملُ كل هذا يا أم خليـلها، روحـي ليست قادره على حملِ نفسـها حتى تحملُ في داخلها الآمكِ ولوعتـك التي أشعرُ بـها كل ليلـة
!
هذه الآلام لا تساوي شهقتها عندُ كل مكانٍ قد صحبت محمد إليـه في يومـاً من الأيـامّ
!
لوعتها لن تخفَ وروعـها لن يـهدأ ما دامت في ديـالى
.
على المُدن ان تبيدَ وتنزوي مع صاحبـها في قَبره، لم نعد قادرين على وضَعِ عيننا بعينها ونحنُ وإيها فاقديـنّ
!
أيا تلك الأرضِ ألم تفقدي ولداً ؟

ألم تفقدي من ودعـكِ سالمـاً وعاد في كفن؟
ألم تفقدي من تغـنّـى بكِ وقد فضلكِ على بغدادنُـا؟
نظرتُ إلـى مدخل مقبرة ديـالى منتظراً قدومَ أمِ محمد المكلومـة .. المظلومـةِ فقداً وألمـاً
مثلها لا يليقُ بـه الاسـى، من ولدتَ رجلاً مثلُ محمد يحقُ لها ان تفخرَ ولو وارى الثّـرى
!
أراها تقدمُ إلـي بجوارحـها وقلبها وعينيها يخالفا مسيرها ويعودا إلـى ذلكَ القبـر، إلـى الآنِ لم اسأل أحداً عن دخولي حُرمةَ دخولي إلـى تلك المقبرة؟

لقد احترمتَ شعائرُ ديـنكَ للمرةِ الأولى .. عندِ رحيـلك يا صاحبي!
لطالما اغضبتُك تصرفاتي، لطالما هددتني ان أمسكتُ بيد مَهتاب مرةً أخرى
!
لم أشعرُ بغيرتكَ على ذلك الدّيـن إلا عندما دفنوكَ في مراسيمٍ تخصّـه
..
تقدمتَ تلك المرأةُ أكثـر وهي تبعدُ قلـيلاً حتى تركبُ في مقعدِ الراكبَ الأمامي
.
موتَ مُحمد جعلها تتقبلني في هذه الأيام القليـلة، بل أصبحت تأتي إلـي كُل ليلـة معَ زوجـها حتى تسألني ما أخرُ كلمةً قالهـا مُحمد، هل أتى بذكرها في تلك الليلـة، هل أخبرهم انها تنتظره؟

هل أخبرهم انهُ يستعجلُ في طريـقه حتى لا تنتظرُ أكثر؟
تقضـي نصفَ الليلِ في سؤالٍ وذكـرى.. تُشاطر روحي بها وهي تظنني أقلَ أهل البيتِ وجـعاً وهي لا تعلمُ ان في كلِ وداعٍ ينقسمُ قلبي إلـى ذكرى الراحليـن جميـعاً، أهليّ .. ثم صدام!
ويتلوهم مُحمداً ، الذي كان أقسـى وأشد ، كان القشّـة التي قصمت ظهري وجعلتني أحدودبّ وجـعاً وانفطاراً على فقده
.
ركبتُ بجانبها بعدما شعرتُ انه قد طالَ انتظارها ليّ، لم أتحدثَ احترامـاً لذلك الحزنَ الذي شعرتُ بعظمه وجلالتـه وروحها قد ارسـلتهُ لروحي
!
روحي التي ربَت ونَمت على الوداعِ أصبحت تُشاطر الآخرين حُزنهم، أصبحوا يتقربون منـي وهم لا يعلمون سبب القُرب
!
لا يعلمون ان ارواحهم الهانئـة أرادت القُرب من روحي التي تشبعتَ اسى، أروحاهم تُريد من يواسيها، ولم تجدُ من روحي
!
ألم يقولوا " اسال مجرب ولا تسأل طبيب"؟


إذٍ، هذا سبب قُربِ ام محمد التي تحدثتَ بصوتٍ اعتدتُ عليـهِ مبحوحـاً في أيامي التي مكثتُ بجوارهـا: كَالي خالد انك دا تمشـي اليوم؟

ومن مـتى تقولي له خالداً ؟
ألم يكنّ أبـوُ محمد؟ لمَ تدفـني أسم ابنك؟ وان مات!
فهوَ لن يموتَ ذكره؟

ما هذا الغبـاءُ يا خالة؟ تخرجيـن من قبَره وتتجنبين ذكرِ اسمه؟

إذٍ، لمَ تزوريـه وانتي قاصدة نسيانه؟

اجبتها وأنا ابتلعُ حسرتي على عدم ذكر فقيدها: إن شـاء الله.

أراها تضـعُ يدها على عضدي: لخاطر الله ابقـى يمّـي.. لخاطر حمّـود عدّك
.
بس الليـلة الله يوفقك، بس الليلـة
!

لم استطع قادراً على رفضِ طلبـها، ولا استطيـعُ أيـضاً البقاءُ هنا لوقتٍ أطول، فعمتي ومن معها لا يعرفونَ ان ما الذي حدثّ
!

لا أعلم ان كان صادقـاً قد تنبـأ بمقتلِ محمداً او لم يعلم إلـى الآن: راح ابقـى يمجّ
.

نظرت إلـي وهي تشكُ بصدقُ قـولي: والله
!

ابتسـمتُ وأنا للـتو ادّكرُ آخر ابتسـامةُ لـي كانت مع وليدها: والله
!


***


لقد لقت أميّ ملاذهـا وأمانها بذلك المسـيحي، لقد منعتهُ من الذهابِ إلـى شـقلاوة
.
أعلمُ انه يحملُ من الاسـى ما تحملـهُ قلوبنا، لقد شهدَ آخرُ لحظـةً من حياةِ أخـي، وها هي أمـي تودعـه بعدما قضت مـعه ليلـة الأمس
!
بهذا اليُوم ينتهي عزاء أخـي الشـهيد الذي لمَ استوعبّ موتـه إلـى الآن
.
أن سَلت أمي عنهُ بذلك المسيحي لن أسلـى عنهُ بصحبهِ أجمـع
!!
من هو آلـنُ حتى ترى بـهِ أمـي مُحمداً، أليس هو مسيحيٍ الأمس كما تنعته؟

وماذا عن صاحبهما الشيعي؟ أما زالَ شيعيـاً بنظرها؟
سمعتُ صوتها وهو يخالطهُ البُكـاء: الله ويـاك ماما، لا تطوّل عليـه!
سـحقاً لموتٍ يجعلكِ تنسين ابنكِ في ثوانٍ وتسلين بصاحبـه
.
أ تبكينه
!!
أ تبكين رحيله؟

لمَ جفت دموعكِ عن نزيلُ المقبرةِ بهذا الرجلُ الذي يجب ان تكرهيه فهو من زفَّ لي استشهادُ ابنكّ!
لقد قربـها استشهادُ أخي من صاحبه الذي حاول جاهداً أن يمنعها من سبابهُ وبُغضـه بسبب دينه
!
فلتنـهى يا مُحمد فغيابك أزال غشاء عيـنيها وأحبتَ صاحبك المسيحي
!!


***


أرى محاولاتُ عَمتي بصادق ان لا يذهب وكأنها لم تقل في الأمسِ انها ستذهب إلى ديـالـى
.
غيابُ آلـن في اليوم الرابع غيـر لا يُطمأن
!
هل هذا يعني ان مُحمداً فعـلاً قد رحل، هل يعني هذا ان صادقـاً لم يكن يتوهمَ موته ؟


اسمعُ صادقاً يقول لعمـته: كنت عارف انه استشهد،
وكنت عارف هميـنه ان آلـن دا يبقـى بالعزاء!

جزعت الأخرى وهي تقول : لا محمد ما مات،

أني قلبـي يكَولي ما مات!

ليُجيب الآخر، ثم تُجيبَ أبواقِ السيـارةِ بدلاً عـنّه، ليستفهم الآخر: آلـن؟


لتذهب عَمتي مُسرعةً إلـى الباب ويلحق بها ابنُ اخيـها واتراجـعُ هيبـةً وخوفـاً.
أين تلك الوعود التي قُلتِي؟

الم تقوليِ انك ستقفي بين يدي آلـن ليعُاقبك؟
ألم تحسبي الدقائـق لعودتـه؟
ألم تتأكدي من شـهادةِ مُحمد، التي كُنتي موقنة بها منذُ ان رأيته على الرصيـفِ واقـعاً.

انتهى ..


مخرج الفصل الرابع والاربـعون.

ألا يا أمتي عشنا نِعاجا
يجول الذئب فينا ويصطفينا
متى ما نعجةٌ سكنت حشاهُ
تخيَّر أختها صيدا ثمينا
ألا يا أمتي صرنا غُثاءا
تُبعثرنا السيول مذبذبينا
تَيمَّمنا الأُلى من كل فجٍّ
وصرنا "قصعةً" للآكلينا
×
عبدالعزيز بن غيث×


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 07-04-19, 06:23 PM   #48

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

مدخل الفصل الخامس والاربعون.

غَريبٌ جَاءَ للدُّنيا
بلا أَبويْنِ مُنتَحِبا
قَضَى أبواهُ كَي يَحيا
وعاشَ غريبُ كالغُرَبا
فلا صَدرٌ يفيضُ نَدىً
ولا ظَهرٌ لهُ حَدِبا
ولا أُختٌ فقد ذُبحَتْ
وكلُّ الأهلِ قَد ذَهَبا

×د.محمد إياد العكاري×
.
.
.
.
عيـونٌ تستفهمُ مـن الآخر بريبـةٌ لا تُريد إجابة إلا ان مُحمد ما زال يتنفـسّ!
مُحمد لا زال حيّـاً يُرزق في بُقـعةِ أرضـه بين أهـله.
كانت عيُون صادقٍ تستفهمُ وهي تُسيّـر آلـن إلى إجابة أرادها.
ولكـنّ آلـن لم ترحمَ تلك العيـوُن ويجيبها بما ارادت.
أرى جبـليّ زينب يرتطـما ببعضهما وترتجـفُ فرائصـهما، ولم تسمعُ منهما إلا شهقاتٍ تشبـهُ من يستجدي الحيـاة وهو على فراشِ الموت!
زينب لم تـعد زينب .. وبنيها أمامها يبكُون ابنها الثـالث، وأي ابن؟
مُحمد البار، مُحمد الذي لن تنجب النسّـاء مثله، كأن الله اصطفى أهلِ مُحمد واعطاهم ابنٍ لو وُزعَ حنانه و اخلاقـه على العالمـين لكفـاهم.
مُحمد يجب ان لا يُدفن في قبر!
كيف يُدفن رجـلٌ بلاده مُحتلة، مثلُ محمداً جديراً بالبقـاء .
مثلُ محمد يجب ان يتواجدا في هذه الايـام العصيبة، كيف يبـقى أراذلُ الناس الذين سكنوا المنطقة الخضـراء ويموتُ محمد؟
هل للموتِ عيونٌ حتى يعلم ضحاياه ؟
لمَ يختار صـفوةِ شبابنا ؟
لمَ يختارُ مُحمد من بين أخوتـهُ الذين بكـوه أماميّ.
لمَ الموتَ يأخذنا فرادا ؟
هل لهُ من إحسـاناً يأخذُ الشـهيدُ وأهله؟
هل لهُ من إحسـاناً يأخذُ انفسٌ لم تعتد البُكـاء فصعبَ عليّ بكُاءها اليوم!


***


جلستُ بجانب آلـنَ بعدما شاركني الفقد ولوعتـه.
لقد شاركَ أهل مُحـمد والآن يُشـاركني!
لمَ صاحبـيّ يعيشُ الحزنَ مرتين؟ لمَ لا يفرطُ بلحظـةً حزينةً تمرُ بـه.
وأي حزنٌ اعترانا؟
انهُ مصابٌ جلل.. انهُ محمد الصاحب والاخ !
انهُ مُحمد الذي لطالما عاش من اجلنا ونسـيَ نفسه، أني خجلٌ من أهله فقد سلبنا ولدهم لأيـامٍ وحرموُا منه!
أعلمُ ان أمـه زاد كُرهها لـنّا، فقد مات ابنها بين يدينا، مات وهو قادمـاً إليـنا.
كأن الموتَ تشبثَ بـه ولم يطلـقهُ لـها.. وهل نحنُ سببٍ في ذلك؟
ام تلك هي السبب!
وأيـن ذهبت "تلك".. لا تتلقـى فجيـعةُ محمداً وحدها.
فلو مرتَ أي حجراً أو شجراً في ارضِ شـقلاوة أخبرها بمصابها الجلل الذي لم يكن الا صاحبي!

نظرتُ إلـى زينب وأنا أواريّ مدامعـي عـنَّـها: شوفـي مَهتاب وين راحت،
لا تُبـقى وحدها.

رأيتُ صاحبـي يرفـعُ رأسـهُ قلـيلاً وينظرُ إلـى زينب: إذا جت هنانا .. تره دا اكَتلها،
روحـي يمّـها لا تجي ..

***


أ يقولُ أنه سيقتلني؟
ولمَ لا يقتلني؟ أليس القتلُ حقـاً من حقوقه؟
حق صاحبه الذي توسدَ أرضَ ديـالى شهيداً ، لمَ لا يشعرُ بحاجتي الماسّـة للقتل.. كحاجتي للـطعام كحاجتي للبُكـاء أيـضاً.
شعرتُ بزينب تقتربُ إلـيّ في تلك الجلسـة التي قد طلب مني ذلك البغدادي البقـاء بجانبه وعدمّ ذهابي إلـى ديالى!
ليتني ذهبتُ ولم اتسبب في قتلِ ابن ديـالى..

شعرتُ بها مرةً أخرى وقد جلست وتمسكُ بعضـدي: لا تبجين حبّـابة!

أ تحرمنُي من البُـكاء ودموعها قد بللت ثيابها من شدتها ؟
التفتُ عليـها فمـا كان منها إلا احتضـانٌ يشبـه احتضانُ بنيـها منذُ قلـيل.
ولكـنّ بنواحٍ نسائيٍ لا تخلوا منه الجوادر في العـراق!


***


العصُر حـلّ !
وأنا لم أعد قادرٍ على اخبارها، كيف اخبرها وانا من زّفهُ لها عريسـاً ؟
كيف اخبرها وانا اعترضَ دربـها وقال لها انها له .
كيفَ نُخبرَ مخطوبةً بموتِ خطيبها؟
ولو كانت الخُطبـة من طرفٍ واحد لا يعلمـها العريس!
العريسَ الذي زُفَ قبل أربـعةِ أيامٍ، عريسٍ لأرضِ العراق، عريسٌ تتبـاهى النّـاس في زفافـه وتُجـمع لهُ المسيرات!
ويسيرونَ بـه ويرمـون على زفـه قطـعَ الشوكولاتة، نعمّ!
انهُ عريسٌ عراقيٍ.
عريسـاً وددتُ خطبتهٌ لأختي، ولكن أرضَ العراقَ غارت وتختطفـهُ مني عريسـاً لها.
هنيئـاً لك يا صاحبي بهذا العرس.
وهنيئـاً للعراقَ بك.
فلتهنأ العراقَ وتردُ طرفـها، فابنها لم يخيبُ ظنها وتواجد في ساحاتِ الموت ليهبها دمـه!
يقولونَ دم الشـهيد كـافور..
ولكن شهيدنُـا ليس أي شـهيد، عاشَ مظلومٍ ومات مظلوم!
ظُلمَ بديـنه، ظُلمَ باسمـه، ظُلمَ بمنطقـته .. ظُلمَ بعراقـه!
كُلنا مظاليمٍ وسبب ظُلمنا العراق..
يقولـونَ بـلادي ان جارت علـيّ عزيزةً، ولا يعلمون ما هو جورَ العراق على بنيـه.
لا يعلمون مـعنى ان الوطـن يُخيركَ بينك وبينه!
فلا يُساوم أبناء الرافدين على عراقـهم، فوهبوا انفسـهم فداءٍ لدار المُتنبيّ، لدار هارونَ الزاهيــة!
ودار الحجاج الواهيـة!
نعمّ!
هي العراق التي سَلبت النومَ من أعين بنيـها لتهنـأ في مَنامها.
نامـيّ قريرةُ العينَ يا دار، فمُحمداً أتاكِ عريـساً.
سمعتُ تذبذباتُ الصوتِ تنقطـعُ مُجدداً، فهذه المكالمة الثـالثة التي لم تردُ عليـها.
ولكنّ هل عرفت بحُريتي حتى تردُ على هاتفـي؟
يبدو ان أُختي اخذتها الظنونَ وظنت ان من يطلبها للحديثِ اميركاني.
هل جلبتها المساوئ الى ظنها أننيّ أسيراً ؟
أغلقتُ المكالمـة التي للـتوِ ابتدأت وأنا أذهبُ إلـى صندوقِ الرسـائل لأكتبُ لـها " أنـي آلـن".
هذه الكلمة التي بُت امحقُ الحاقـها باسمـيّ!
فكثيـراً ما ينمو خلفـها جرحـاً من والدتي، فهي بحد ذاتها جرح، كيف يُعرفَ الشخـص أهله بنفسـه!
ألم يقولوا ان الاهل يعرفـون ابنهم من "زولـه"!
ألم يقولون ان الاهلِ يعرفون "ظفر" ابنهم؟
لما تجهل امي صوتي وتطلبُ مـني التعريف بنفـسي؟
لمَ تجبرني على قولٍ يخرجُ اشواكٍ من حبالي الصوتية ويُجرّحها وأنا أقول "أني آلـن".
وكأن تلك الأخت رحمَت انتظاري!
ورحمت استيائي من التعريفَ بنفسـي الذي أُجبرَ عليـه.

رفعتُ الهَـاتف بعدمـا رنّ: هلاو زُمرد

ردتَ وكأن الروحَ عادت إليـها، أراها على عكسِ ما كانت عليـه سابقـاً، تتكلمُ براحـةً عكسُ ترقبـها وتخوفاتها في المكالمات السابـقة: هلاو بالكبد،
شلـوُنك؟
ولك طيـحت كَلبي من باوعت على رقـمك كَلت أكيد مسكوه!

رددتُ عليـها بابتسـامةٍ عكسها ذلك الترحيب: لا أبشـرج خلاص أعفوا عـنّـا .. بس!

الحقتَ عفـونا وحُريتنا بـ "بس" حتى لا تفرحَ ثم تحزن!
لا أود لها صدمـةً كتلك التي تجرعـت، لا أودُ لها الموت حيـةً وهي تستقبلُ ما يُفرحها ويُحزنـها.

لا اودُ ان تعاني ما عانهُ اخيـها، سمعـتها تقول: بس شـنّو؟

اجبتُـها وأنا اتخلصُ من تلك الكلمتين التي أودتَ بقـلبي سكيـناً وبحُنجرتي جرحـاً، جُرَحت حنجرتي اليـوُم يا شقيقـتي، أولاً بتعريفـي بنفسـي وثانيـاً بقول ان مُحمداً قد مات!
لم أستطع ان اقولها لصادقٍ وكان عيـني تقول ما لم أستطيع قولـه!
ولكن انتي بأي وسيلـةٍ أقول لك؟: محمد .. راح.

اسمـعُ صوتُ فـوضى تصدر من سمـاعةِ الهاتف كأنها قد أوقعت كرسيـاً تستقله!: عَمت عينيّ عليـه!

فلتعـمى عيوننا يا أختي قبل ان نتلقـى مصابه،
فلتذبلُ تلك العيون وتفنـى قبل ان نقتلها بالمدامـع.

تحدثتَ مُجدداً : ولك كيف ماتَ وينكم عنّـه؟

هذا ما يُدمـي القلب يا أختي!
جميـعنا حوله، جميـعنا لم يمنعـهُ من الذهاب ورا مطامع الطفولة التي سكنت قلب الإيرانيـة: راح بتفـجير،
حاولت أسويّ شي ، حاولت انقذه .. بس ما قدرت!
راح وهو بين يديـني يا زُمـرد .. راح!

أراهـا تنـعى وكأنـها تقمصت شخـصيةً فقدتها في بلجيـكا، شخيـصةُ النـعي!
التي لا يخلو منها أي جادر!
ذلك النّعي الذي يزيدُ الوجـع اوجاعاً والجرحُ جراحاً.

تحدثتُ وأنا أسمـعُ صوتها يختلط ببُكائها : كافي زُمرد كَولـي يالله!
راح شـهيد.

تحدثتَ وهي تقول: أنـي افتقتدك يوميـن بس وصار بكَلبي مثل النّـار عليـك،
من أنّـام أحلم بيك!
من أكَـعد كله صافنـه بيك وبحالك، أتخيلك بأسوأ احوالك علمود ما انفجـع بيك!
بس أخته كيـف تكَـعد وتنام وأخوها موسد للترابّ.

أخته!
تلك التي نسيتُ في خضمَ الأمور.
اخت أخوهـا.
أخت مُحمد ما هو حالها وأين يصيّـرها مصيرها بفقده؟

تحدثتُ إلـى زُمرد التي ما زالت تبكي على ذلك الفـجيعَ، تحدثتُ وكأنني قد فُجئت بمقتحمٍ: أي زُمرد،
المساويـات دا خابرج.

أغلقتُ الهـاتف وأنا جُل ما يدورَ في ذهني أختُ محـمد.
اباءها قد بلغوا من الكبرِ عتيـاً، لن يدوموا لهـا، وان داموا سـنة أو سنتين؟
لابُد ان أأمن مستقبلها بأسـرع وقـت!
ولا يوجدَ أمانٍ لفـتاةٍ عراقيـةٍ بهذا الوضـعِ الراهـنُ الا الزواج!
نعمّ!
تموتُ الاحـلام والطموحات من أجل تأمين الحيـاة ودفن غيرها من الأمور في أسم الزواج.
فتاةٌ تستقبلُ تخرجها بعد شـهرين..
ستُدفن مع شـهادتها عندمـا أقرُ ان مصيرها الآمن هو الزواج.
يعيشُ النـساء في أقطارِ العالم وراء طموحاتهم واهدافهم، أمـا في العراق فقد تُزوجَ فتاةِ الثالثــةِ عشـر لأنـها فقدت مُعيـلها وسندها في الحربّ.
رُبـما تكونُ مـلاذ أحسنهمَ حالاً فهي ما زالت تتمتعُ بظلال الأبـوة الذي فقده الكثيـر من بنات عراقـها.
ولكن مـلاذُ لا تبقـى هكذا، حتى يُزفَ لها خبرَ ابيها وتذهبَ لتأميـن عيشـها في خضم الحرب مع رجلاً لا يستحقـها.
الملاذُ شبيهـةً بالزُمرد.
فكلاهنّ فـنى شبابِ اخوتهم لتأميـن العيشَ الهانئ لهنّ.
ولكـنّ ملاذ فقدت ذلك الأخ، او بالأصح انتـهى شبابه وهو لم يُأمن ما كان ينوي تأميـنه!
سأكونُ ذلك الأخ يا ملاذُ لا تقلقيّ.


***


لقدَ توعدَ بـي على مسـمعي وهو ينقلُ حديثـه لعمـته!
لا يُريدَ مرائـي حتى لا يقتلني!
ومن قالَ لك أنني أهابُ الموت الذي وردتُ محمداً إليه.
من قالَ لك أنني أخشـى سوطك الذي قد جربت لسـعته التي تُشبـه لسعلة من يتخبطهُ الموت؟
من قال لكَ أنني أخافُ لسـانك الذي لا ينكفُ عن قول السوءَ في إيرانـي وحكومتـه؟
من قالَ لك أنني لا أُدينَ لمحمداً؟
فقد أهداني مُحمداً سُنيته التي تجعلكُ لا تسبُ ديـني!!
أو انه ديـن صدامك قبل مُحمدك ؟
لا علـيّ بك.
سأخرجُ من غُرفـتي التي تقوقعت بهـا أثر تهديدك، سأخرجُ لأنني أحبُ الموت على يديك.
سأخرجُ لأنني أودُ المعاملـة بالمثل!
فقد قتلتُ محمداً، فيحينُ اليـومَ قتلي.
خرجـتُ وأنـا أسمـعُ صـوته صادراً من غُرفته وهو يحادثُ أهـله.
تلك الأهل الذي قد حظـيَ بمهاتفتهم سابـقاً من هاتفِ محمد، واليومُ يحادثهم من هاتفـه!
لمَ لا أكونُ مـثله؟
لـمَ لا تسمحُ لي قواتَ بلدي بمحادثـةِ أهلـي من الهاتف؟ بدلاً من ذهابي الى الكبيـنة التي خلفتُ بجانبـها شهيداً.
نزلتُ اتسحبُ وقلـبي يُعيدنـي إلـى غُرفتي وعقلـي يقولُ تقدمـيّ ولا تهابي!
خـوفي من تلك الهيبـة التي سكنت قلـبي..
ولكـنّ لن أكترثُ بـها وسأقابلُ سوء المصـير.


***


عَمتـي كَـما لم أراهـا من قبل!
حزيـنـةٌ بائسـة، تشبـهُ أكليلٍ شـعَ بلونـهِ البَراق وبرائـحته الزكيـة وما ان قويَ جذعـهِ وكبُرَ مات ساقيـه!
ها هي عَمتي قد مات عونهـا، وجابرُ كسرها.
وجودي أنا و آلـن ، لن يجعلها تأمنُ كما هي في وجودِ مُحمد.
كانت كأن من ربطتَ عينيها وسلمتهُ يدهـا ليقودها في طريـق وحلٍ مُمتلئ بالأشـواك!
والآن اعتادت على رباطِ اعينها ولكنها فقدت من يقودها.
ولن تأمنُ لـنا كما كانت تؤمنَ لـه!
يحقُ لـها.
فنحنُ لا نؤمنَ انفسـنا على مصيرنا، نحنُ لا نملكُ ما يملكهُ محمداً.
حتـى وان تسلمَ كرار السـلاحَ قبل أيـامٍ وحيـاتنا لم تعد مُحاطـة بالمخاطر.
ولكنها فقدتَ عَمودها ومُحركَ هيكلتها.
فقدتَ مُحمدها.
قُل للقـوافي أن تضمُ عجزها وصدرها فلم يعدُ هـنا ما يجذبـها.
فلتذهبَ إلـى ديـالى وتبحثُ عـنهُ في مقابرها وتنـعاهُ بشطورها حتى تفيـضُ المدامعَ من دجلـةِ والفرات!
نظرتُ إلـى تلك الخطوات التي سرقها سَمـعي فلم تكنّ الا تلك البريئة التي لُطخـت بدمـاء الشـهيد.
احنُ عليـها من قسـاوةِ صاحبـي.
أحنُ عليـها من معاندتها له وخروجـها فهو يعلمُ انه لن يتمالكَ نفسـه ولن تحملـهُ أي درجـاتٍ من التعقلِ إلـى برِ الأمان!
أراها تسيـرُ بخطاها الـى موتـها، ولكن دعوها تسيرُ وهي عالمـةً مثلـما سيّـرت صاحبـي وهو جاهـل.

أرى عَمتي التي فُجعتَ بوجودهـا: ولج مصخمـة رجـعي لدارج!

جلستَ بجانب عَمتي: شيريد يعمـل خل يعملـه!!
قابـل بموت؟
تعبت وأني أكل نفسـي بهالخـوُف، ما خفت من قوات ولا انتربـول وأخاف منه؟
شفـتي كيف؟

تسخرُ من حالها لانها هابت آلـنُ ولم تهابُ القوات التي جُندت لانتشالها من ارضِ الموت إلـى موتٍ آخر!
لا تُريدَ ان تنتظرُ موتها على يـده، بينما انتظرت لشهورٍ طوال موتها على يد تلك القوات.
عجيبـةٌ انتي يا فتاة!
تظنينَ أنكِ تسلحتِ بالقوة في وجـه تلك القوات ولكنكِ لا تعلمين ان قوتكِ وخروجكِ من تلك المعاقـل لم يكن إلا على يده!
تخشيـنه ولا تخشينهم!
ا تعلمين لمـاذا؟ لأنكِ تختبين خلفَ ظهره ان أتـوا.
لأنـكِ قد هربتِ وواجه الموتَ وحده من أجل حُريتك
واليُوم تواجهين ذلك الذرى الذي تذريتي به من هجيـر وزمهريرا بلادك!
ماذا لو التفَ ذلك الذرى على عُنقكِ وقتلك؟
ماذا لو أثقلَ عليكِ انفاسكِ في ليـلةٍ باردة تذريتي به ومُتِ!
أنكِ لا تهابيـن الذرى لأنكِ لم تُجربـي جوره.


***


اتسلـحُ بالقـوة التي خـارت عندمـا سمعـتُ قرعَ قدميـه في السلالـم!
هل تُراه مُحقـاً في قتلي؟
هل تُراه قد جُنّ؟
بل انا من جَـنّ وأنا أواجههُ بموتَ صاحبه، وهل التبرير ينفـع عندِ رجلٌ لا يؤمنَ بالقضـاء والقدر؟
وكأنني انا من يؤمن بـها وانا أحملُ نفسـي موتِ محمد.
رأيتهُ يقدمُ ويجلس بالمـقابل بجانب صاحبـه، لم ينطقُ بشيء!
لم يتحدثَ، لم يقتل كما قـال.
قد اخلفَ وَعده، كان تهديداً كاذبـاً لأخافتكِ يا مَهتاب.
لا يستطيعُ فعلَ ذلك، لن يجرأ علـى قتلك الذي قد تجرأتِ به وقتلتـي نفسـاً.
ولم تكنّ تلك النفسَ الا صاحبـه الذي أتـى هو ليـأخذُ بثأره..


***


أراهُ يغضُ بصـره عن مراءها يُشتت انظارهَ في كُل مكانٍ سواها.
لقد رحمـها من نظرةً تسحقها، لقد حنّ عليها من صفعةً بصرية تظهرُ علامتها علـى وجهها كصفعةً يدويـة!
وكأن الكهربـاء رحمتـهُ وها هو صادقاً يقفـزُ للتـلفازِ الذي كانت على تلك القـناة "البعثـية" التي لا يكفُ آلـنُ عن مشاهدتها من صغره!
أراهُ وهو قدَ تعطشَ لخبـرٍ عن صدامـه، وكأن تلك القنـاة اخرجـتهُ من حزنـه على مُحمد إلـى املاً مُشـعاً ينتظرُ بـه قولَ كلمـة صدامّ.
أراهُ يُصغّـر تلك النِجل التي لا تفرقُ عن عينيّ آدم بشـي وهو يقرأ الشريطُ الاخبـاريّ!
ثم بـدأ صوتُ القصيـدةَ يعلـو وهي تنـعى العراقَ.
اندماجـنُـا معـها لم يكـنّ إلا بعد حِرقـةً سمعتُها من فمِ المُلقـي، بل حتى مَهتاب التي تناساها ابنُ آدمّ قد تأثرتَ بـها.
وما حانَ لنا التأثرَ حـتى انتقلتَ عينيّ على آلـن الذي قد قطبَ حواجبـه بعدما ازعـجهُ ذلك البيت!

" واليومَ عُبَّادُ الصَّليبِ تَنَمَّرُوا
نصبوا على أرضِ الرَّشيدِ صَليبهم".

نظرتُ إلـى صادق: ماما،
دور لنّـا غير قناة!

وضـعَ آلنُ يده على عضدِ صادق: لا خليّـه..

يبدوُ انه مسالمـاً اليُوم بشكل لا يُطـاق!
كيف لهُ ان يرضَ بشخصٍ يسبُ "عبادتـه" ويصمت؟
وكيف له ان يتوعدُ بتلك الفتاة التي بنظره قتلت صاحبـه ويصمت؟
هل تُرى ديـالى وأهلها قد علّموه السـلامَ كما علّموه مُحمداً؟
هل تُرى غضبه قد تهاوى مع ذلك التُراب الذي دفنَ صاحبه؟
هل تُرى من أمامي آلـنٌ آخر ؟
لم أعد أعرفكَ يا أبن آدم، لم تعدُ آلنـ"ي" الذي أُريد.
أريدكَ ان لا تصمتُ عن شيئـاً ترى بـه الاحقيـةُ لك، أريدكُ أن تأخذُ بكل ما تراه حقـاً من أي أحدٍ سلبه منك.
لا أريدك تستلمُ كما استسلمَ ابيك لكاظمٍ وتركـنّـي أُقاسـي العذابَ وحدي.
مَهتابُ تشتاقُ لعذابك، لأنها تُريد مشاركتك لها حتى لا تموتَ من عذابٍ نفسـيٍ قد قتلَ زينب قبلها.
النَـساءُ يا بُنـي تحبُ من يُحملها الذنبَ ويُكفّـر عن خطيئتها بضربـها.
كلما تذكرتَ ذلك الذنب فتُبادرَ بقول انني قد جُزيتَ!
تُريدُ ان تُكفّر عن ذنبها بذنبٍ آخر يُخرجها المظلومـة بعدما كانت ظـالمة.
فهمتَ لمَ تودَ مهتاب عذابك؟
انتهت تلك القصيدة التي لا تخلو من سب من اعتنق المسيحيةُ ولبسَ الصليب، لم يتحدثَ آلنُ وتجرعَ سكاكينُها كعلقمٍ أذابَ قلبـه.

كان سيستمُر بسلمـه لولا حديثـها : دا تسمـع وساكـت!
علموُد تعرفُ انه ولا دين لـه علاقـة بالصار بعراقـك،
اش ذنب الشيـعة تكرههم علمود الخميني، قابل دا تكره السنُة لو ما صدام سُني؟ "قابل= يعـني".

استشاطت غضبه الذي بات يعوذها من شرّه!
أراهُ يتحدث من بين اسنانهِ والغضبُ قد تجهمَ في وجهه، رُبـما لو كان ما في قلبـه عليـها حديثٍ بالٍ كهذا لن يغضبّ!
ولكن بقلبه عليـها قتلِ صاحبـه
بقلبـهِ عليـها حسرته وهو ينظرُ إلـى مُحمد يذوي ويموتَ بين يديـه ولا يحركُ ساكـنّـاً.

بقلبـهِ عليـها خوفـاً من مستقبلاً خالٍ من صاحبـه الذي يواري خلفـه طيشَ شبابه المُتأخر: وليّ من كَدامـيّ كَبل اطيح حظج وحظ والديج!

وقفتَ وهي من كانت تضـعُ رجـلاً فوقَ الأُخرى: دا اوليّ،
علمود ما اتشمتّ بيكم أكثـر -وهي تُقلد نص الكاتب- يا عُبّاد الصَليب!

وما ان التفت ذاهبة إلا ويده أسرعُ منـها وهو يمسكُ بعضدها، أرى يمينهُ تكاد ان تهشمُ عضدها وهي تحاولُ الإفلاتُ منـه: واللي خلقـج دا ادفنج بالكَـاع لو ما وليّـتي..

وما ان أفلتَ عضدها حتى ذهبتَ مُسرعـة وقد لمحتُ مدامـعها التي بللتَ خديّـها، لم أتحدث ولن اتحدثّ ما دامت هي من أخطـأ ..
هي أول من سنّ الخـطـأ .. والباديّ أظلمّ.
عادَ بمكانه وكأن شيئـاً لم يحدثّ!
فلنبقَ هكـذا مُسالميـن غير آبهيـن بما عاقبـها به، ولو كان عقابه عبارةً عن فكٌ في عضدها!


***


أنزلتُ حجابي وجلبابيّ وأنا أرفـعُ كمّ كنزتي لكـي أرى طبـعةِ أصابـعه المُحمرَة على عضدي!
الويل لهُ من حرارةٍ شعرتُ بـها في عضدي وكأنني قد اثقلتُ على نفسـي باللباسِ ولم أعد أشعرُ بالبرد!
في منتصفِ ديـسمبر وأنا أشعرُ بالحـرّ.
من فعلِ يميـنِ ابن بغداد الذي قلتُ أنني سأواجهه وهو يشرعُ مـوتي..
وأنـا لم أواجهه وهو قد أمَسك بعضدي فقط!
أن لم استطع مواجهة بأمرٍ هكـذا، كيف اواجهه وهو يسنُ سيفـه لقتلي؟
سقطت مدامعـي على عضدي الذي أتأمل!
لو كان ذلك الشـهيدَ الذي قتلت موجوداً لما فردَ عضلاتـه ذلك البغدادي في وجودِ زينب وابن أخـوُهـا.
لو كان ذلك الشـهيدَ حيـاً لتوعدتُ بآلـن، لو كان موجوداً لحسبت الدقائق لمجيئـه ، حتى يأتيني ابن بغداد مترجياً بعدم ذهـابي!
لا ديـالى ولا مُحمد سيكونونَ مستقبلين لي عندما تضيقُ بي شـقلاوة.
شقلاوة التي ساعدتني وهي تمتصُ دمـه عندما سَال أرضـاً.
شقلاوة التي احتضتنهُ شـهيداً واحتضنتني بائسـةٍ بعده.
لقد تمردتُ علـى ابن بغداد وانا قد نسيتَ انني كسيرة ضلعٍ بعد صاحبه.
بكيتُ الفقد الذي للتو استشعرت!
هل بكاهُ أهلـه مثلما بكيتـهُ حاجةً؟ هل بكتهُ اختهُ سنداً؟
الويل لكِ يا مَهتاب من مُصيبـةً حلّت على تلك الأُسرة..


***


ما زالَ صامـتاً غاضبـاً..
غضبٍ لا أعلم سببه، ولا أعلمُ ان كان يُجدي نفـعاً ام لا .
بنتُ طهران التي يقول لم يعد متوعداً بها ولم تعد تهابـه!
فقد اخذت نصيبها اليُوم..
عَمتي وقد أوقفتـني عن محاسبته او نهره عن ما يفعل، وقد اوقفني محمدا قبلها
لم يعدُ قادراً على فـعلِ شيئـاً وكأنهُ تبلدَ!!
يستحقُ البـلادةَ قلبـاً لم يعد قادراً على استيعابَ شيئـاً، في غضونِ نصفِ الشهر رحلَ رئيسه، ورَحل صاحبـه، ورَحل أيضـاً ذلك الامل الذي علّـقَ اخته بـها.
كان ينويّ تزويجها من صاحبـه حتى لا تذهبَ إلـى شـخصاً يجهلُ قدرها.
والآن حُطمتَ كل تلك الآمـال وذهبت مهبَ الريـاح عندما فقد الاثنين!
نظرتُ إليـه متحدثـاً وأنا أخبرَه بعدما رأيتهُ قد تركَ تلك السيّـارة "المزورة" وعادَ إليـنا بسيارته التي قد
احتجزت أمام البيت مع البيت!: أني دا اروح ديـالى أعزّي على أبو محمد، ووراها بجيب اللي ينقصنا من بغداد .

تحدث : لا.
روحـة بغداد هذي عوفها على صفحـة،
أني أريدك تروح ديـالى علمود شـغلة بس مو هسّـه.

لا أعلمُ ما يُخفـي في أرضِ ديالى حتى أتي بـه بعد أيام؟
هل تأخير زيارتي لهـا سيكُون مصيبـةً أخرى قد جهزها آلـنُ من ضمن مخاطراته المجنونة !
.
.

انتهى

مخرج البارت الخامس والاربـعون.

فوا عَجَباً لعَولمَةٍ
لهَا الإِعلامُ قَد نُصِبا
ولا نلَقَى سِوَى نُوَبٍ
وتنفُثُ حَولنا الرِّيَبا

×د.محمد إياد العكاري×


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 07-04-19, 06:29 PM   #49

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


الفصل السادس والاربـعون.



نظرتُ إليـه متحدثـاً وأنا أخبرَه بعدما رأيتهُ قد تركَ تلك السيّـارة "المزورة" وعادَ إليـنا بسيارته التي قد احتجزت أمام البيت مع البيت!: أني دا اروح ديـالى أعزّي على أبو محمد، ووراها بجيب اللي ينقصنا من بغداد .

تحدث : لا
.
روحـة بغداد هذي عوفها على صفحـة،

أني أريدك تروح ديـالى علمود شـغلة بس مو هسّـه.

لا أعلمُ ما يُخفـي في أرضِ ديالى حتى أتي بـه بعد أيام؟

هل تأخير زيارتي لهـا سيكُون مصيبـةً أخرى قد جهزها آلـنُ من ضمن مخاطراته المجنونة !

تحدثت عَمتي وهي متحفزة بعض الشيء: شـنو باقي ببالك ما سويته يا ابن مريمّ؟


علمـنا جميعنا غضبـها بسبب مناداةِ آلـن باسمِ أمـه، لا أعلمُ لمَ عندما تغضب تُجرده من اسمه واسم ابيه وتجعل اسمُ مريم الذي بات يسبب لصاحبي نصفَ أوجاعه اسماً له!

تحدث آلـن بابتسامة شَح بأكثـرها : أم علاوي ضايجـة علينا؟


وقفت وهي تقولُ بحزمٍ: محمد وراح من وره طركاعاتكم، وهسـه ان صار شي بأحد منكم دا اموت وراه والله!

رحلت بعد تهديدها او انكسارها الذي نتج عن تنهيدةٍ تبعتها حرقـةٍ من ذلك البغدادي الذي بات يَقمت أرضَ شـقلاوة: من أول يوم طبينا بيه شـقلاوة وهو يكَول ما مرتاح لـها،

ليش ما سمعنا حجيـه!
لو سمعناه ما صار اللي صـار
.

لا تنهزمُ يا صاحبي فالموتُ حقـاً وسيأتي الأنسان في يومه المحدد ولو كان في فراشـه او في حجرِ أمـه ، أو حتى في تلك القصور الشاهقة المحصنة في المنطقة الخضـراء : أبـو آدمَ،

كَول يالله، كُل شي قسـمة ونصيب، وهذي قسمته من الدنيا.

وقف وهو قد تناولَ موتـه المحقق
!
ذلك الباكيت الذي يلازمـه في كل أحواله، وكـأن الدخان متنفسـهُ من جديد؟

ألم يكن سلواهُ منذ ان رحل أهله ؟
فلتحتمُل تلك العائـلة الى ما يؤول إليـه مصير ابنهما جراء هذا السُمِ القاتل.


***


لما لا يفهمونَ أنني أخاف عليهما؟

لما لا يفهمون انهم بُقيّـة الراحلينّ؟
ألا يعلمونَ ان الله من وهبني ابنُ كاظم بعد وفاته ليُنسيني فقدي المُر ؟
ألا يعلم ابن آدم ما هو ابيه بالنسبةِ لي حتى يُخاطر ببقية والده؟
بُقيـةُ آدم الذي أصبح يشحُ عليّ بنظرةً تلتقـي بها اعيننا، وكأنه استحى من فعلةِ ابيه عندما خذلـنّي!
كان يرى ارتباكي في كل مرةِ انظرُ إلـى عينيه ولكنه لم يكن قادراً على تفسيرِ ارتباكاً يُحيط بقرنية العين وينتجُ مدامع
!
لم يكن قادراً على تفسـيرِ احتوائي لهُ واسلامي قد يُقيدني قليـلاً من ذلك
.
وان عُرفَ السبب بطل العجبّ
!
لقد عرف ابن ابيه منزلته، وهذا لم يمنعهُ من ترك المخاطر التي تقع في طريقه، بل ويقحمُ ابن أخي معه
!
ألا يعلم ان رحيل احدهما يعني رحيل كاظم او آدمّ؟

ألا يعلمون ان العيونُ فضّاحة؟ وان تلك العينين التي ذبـتُ في عشقِـها وتلك العينين التي فضحت ذلك العشق ما زالتا محوطات حياتي؟
نعمّ!
قد وهبَ الله ابنيهما تلك العينين التي اختص بها كل واحدٍ منهما
.
وعن أي عينيـنِ اتحدث؟

هل هي عيونُ كاظم الشامخـة التي كُسرتَ من فعلِ اخته؟
او اتحدث عن عينينِ العاشق المُتيم الذي ينظرُ إلـي كما ينظرُ ابنه إلـى مَهتاب.
مَهتاب
!
أوه
!
لقد نسيتها في خضمِ امورنا ولم أذهبُ استرضيـها
.
لقد قطعتُ على نفسـي عهدٍ ان لا أتدخل ولكنني قد ذقتُ علقمَ كأسٍ ما زالت تتجرعـه
.


***

أسمـعُ قرعـاً على باب لن يكون إلا زينب
!
فقد تجبرَ ابن بغدادَ حتى طغـى، واصبح يقتلُ القتيلَ ولا يمشي بجنازته كما فعلتُ مع محمد
!
اصبح لا يسـأل عن أي حال صيّـرتني قسوته
.
اصبح لا يهمهُ ان كنتُ قد عُوفيتَ من ضربـةً لم تقع على عضدي فقط، بل اذابت ذلك القلب الذي قد تخثَر بـه دمـه
!

فتحت زينبَ الباب وهي آسـفة على حالي: ماما مَهتاب تعالي ويايـه
!
والوِلَد من هسـتوة طلعـوا
.

هل تراني أخاف من بنيها حتى تخبرني انهم قد رحلـوا؟: لا فدوة لربج زينب ما اريد
.

أغلقت الباب بعدما قالت: أنـي تحتّ
.

كأنها تعلمُ انني سأملُ والحقُ بـها؟

تناولتُ تلك الكاميرا التي بقيت اشهراً وديـعة بيد البغدادي.
انهمرت مدامعي على اول صـورةِ واجهتني
!
من كان يظنُ ان عُمره في هذه الصورة لن يتجاوز السّـاعتين؟

من كان يتوقـع ان هذه الابتسامة ستنطفِ بعد ساعتينّ؟
من كان يظـنُ ان هذه اليدين المعانقـة لصحبـه ستذوبَ احدهما بينما تبقَ الثانية شاهدة على كُلِ المٍ أحاط بالأٌخرى؟
من كان يظنُ انني سأرى هذه الصورة في غضونِ أيامٍ وهي ذكرى؟
هل كانت هذه الصورة العقابُ الذي انتظرهُ من آلن؟
هل عاقبني المولى بها؟
هل مُلئت كاميراتي بأبناءِ العراق بدلاً من قائدهم الذي اتيت لأوثقَ سقوطه؟
تباً لحربٍ تجلبني من أرضِ الهـناء لأرضِ الموت.
تبـاً لعشقٍ يجلبني من أرض السماوةِ أسيرة إلـى أرضِ ديـالى مُحررة وإلـى شقـلاوة مُشردة
!
لا أعلمُ لما لم اعارضُ وأنا اراهم يتصرفون بحياتي ويقتحمونها وانا اتفرج؟

هل تراني سأكونُ بأحسنِ حالٍ بعدما أُنقلَ إلـى سجنِ أبو غريب؟
هل تُرى قد انتهت محكوميتي وانا لم أزل هُنا.
ماذا لو لم يساومني أبناء العراق بالقائد الذين اسروا؟

هل سأكونُ الآن في أحضانِ أُمـي؟
هل كسبتُ رضـى خالداً بعد عودتي؟
هل سأحلُ تلك المشكلة التي افتعلتها بين عُمراً وفاطمـة؟
هل ترى عودتي فاتحةُ خيراً لهم ليبدوا حياتهم من جديـد؟
لا أعلمُ كُل هذا
ولكن كل ما اعلمه ان محمداً راح ضحيـة تهور صحبه الذي تهوروا من اجلي وفقدوا صاحبٍ في شـقلاوة!


***


أراهُ عاد آلـن القديم
!
وهل يفتأ المرء عن عشـقه القديم؟ عشقـه لتلك العادات التي تجذرت بروحه وتشبثت بـها
.
تلك العاداتُ التي قد يكونُ معظمـِها طيشُ شبابٍ يجبُ على آلـن الترفعَ عـنهِ وتركه
!
ألا يعلمَ انه قد جاوزَ الثلاثين بعامين؟

ألا يعلمَ ان حكومة صدامهِ لو بقيت لكان اليومَ في منصبٍ عالٍ؟
لكان وزيراً على الأقل!!
نظرتُ إليـه عيونه قد تسمرت في الشـارع الذي امامه، وكأنه منتبهاً لذلك الطريق
!
هل لي بمعرفـةِ ما يجعلهُ هكذا؟ ما الذي يفكرُ به؟

انني لا أجهلهُ ابداً.
وأعلم ان ما يدورَ في ذهنهِ شيئـاً ليس بعاديٍ
..
شيئـاً قد يكونَ مصيراً قادمـاً كشـقلاوة التي أصبحت مصيرنا منذُ شهورٍ خلت إلـى الآن
!
ومتى اللقاءُ يا بغداد ؟

هل سيكونَ ذهابنـا إلى بَغداد نهايةِ هذه المشاكل؟
هل ستكون بَغداد المأوى الأخير لـنا من كل هذه الفتنّ؟
وماذا عن مَهتاب؟
هل ستعودَ الصحفية العظيمة الى البيت الذي قد استأجرته لها السَفارة؟
ام سنكونَ مُراقبين بسببها ؟

سألتُ آلـنُ عن ذلك؟: شوكَت نرجع بَغداد؟
لم ينظرُ إلـي،

ولكنهُ أجاب: وكَت تتحرر بَسعاد.. أو ....

شدّتني "أو" التي تعتبرَ مصيراً آخراً لنا او لمَهتاب: أو شـنّو؟


اكملَ عبارته التي قد بَتر: أو ياخذوها من بيناتنا.

هل ترانا سنعوُد للخطرِ من جديد ؟

ولكن أميركا قد عَفت عنها.. إذٍ، نحنُ في برِ الآمان ان وجدت!


***


أتت إلـيّ كما كُنت أعلم
!
أعلمُ أنها لن تغيبَ طويـلاً، لا تصبرُ على جلسةٍ خرساء وهي ثرثـارة
.
أعلمُ انها ما زالت تُعاني من ذنبٍ اقترفتهُ على نفسـها بموتِ مُحمد
.
فقد أكون انا مثلُ آلـنَ وأُحملها بعضٍ من الذنب
!
ولكـنّ لن يكونَ ذلك امامها
.
فلقد اتهمتني زوجـةُ أخي جعفراً بموته
!
تقول ان عَقدي على مسيحيٍ أمات اخي بعد عشرون سنة من ذلك العقد
!
وهل تُرى الموت من حسرةً تبقـى إلـى زمنٍ طويل؟

ولما تعجبين يا زينب؟
وانتِ الآن تموتين حسـرةً، وليس الآن فقط!
بل منذُ خروجكِ مع اخيكِ من باب المسجدِ وانتِ ترين آدمَ قد ولاكِ ظهره
.
ذلك هو الموتَ يا زينب الذي كذبتي به زوجةُ أخيكِ وقلتِ انه لا يبقـى المُتحسرَ طويـلاً
.
ولكنكِ بقيتِ يا زينب
!
بقيتِ إلـى يومـنا هذا تشربينَ أقداحٍ من الحسراتِ على آدمّ
..

نظرتُ إلـى القادمـة التي نعتها قليـلاً بانها متسببةً في موت احدهما كما قد نُعتَ!: كَتلج مدا تصبريـن تكَعدين بروحج
!

نظرت إلـيّ بابتسامةً سُرعان ما تحولت إلـى تقوساتِ بكاءٍ
!
هل تراها جادةً في بُكاؤها؟

وما الذي يُبكيها؟ ألم تروي عطشَ عينيها منذُ قليل على يديّ آلـن؟
إذٍ، ما الذي يُبكيها الآن؟

فتحتُ إليـها ذراعـيّ: لا لا ماما، اشبييج ؟

هرعت إلـي احتضانّـي: أريد إيـران، ما اريد اكَـعد هنانـا.
لخـاطر الله كَولي لهـم يعوفونّـي أسلم روحي
!

لم أردُ على هرائها لانها بالتأكيد لم تقصده
!
هل تراها ستذهبُ إلـى الموتِ بقدميها ؟ لقد جُنت
!
لن اوافقها ذلك الجنونَ ولن اخبرَ أحدا عنه
..


***


أمـي التي ما زالت على حالها منذُ رحيل سلوتها الأخيرة بعد غيابِ مُحـمد
.
كانت ترى آلـنُ السلوى والملاذُ بعد رحيلَ صاحبه
!
والآن عادَ آلـنُ إلـى حياته وخضم أمورها متناسـياً امرأةً ثكلت ابنها ورأتهُ عوضـاً عنـه
!
وهل تراهُ مثلُ محمد وهو منذُ رحيله الذي بات يُقارب اليومِ لم يتصل
!
لم يسـأل
!
وهي من أوصته في حال وصوله ان يتصلُ بـها لتطمأن عليـه
..
ها هي النّـارُ تُضرمَ في قلبـها خوفـاً عليه
!
أعلمُ ان خوفها عليـه ليس خوفـاً عاديـاً
.
بل تخافُ من فقدانِ رجـلاً يذهبُ بـها إلـى المقبرة وسط رفض والدي من الذهابِ معها
.
تخافُ فقدانِ رجلاً شاركها المدامعُ واللحظات الأخيرة
.
تخافُ فُقدانُ من لا يملُ من حديثٍ يبتدأ بذكرى مُحمد
.
وهل تُرى هُناك حديثٍ يملُ وأولهُ ذكر أخي؟

رنّ هاتفـها ووقفتَ فَرحِـه كطفلـةً تنتظرُ مجـيئ أبيها ببعض الحلوى!


***


عُدنا كما كان مطلوبٍ مـنا ضمن الأوامر الزينبية التي أقرّت علينا العودة مع آذانِ العِـشاء
.
قد انزلتُ صادقـاً في المسجدِ القريب بعد رحلـةٍ صامتةٍ استغرقت اربعُ ساعاتٍ
!
لا يكسر صمتها إلا بعض الاحاديث التي نرسمُ بها مستقبلاً باهتاً بلا صديقـاً كان لـنا الرسـامَ والكاتب
!
كُنا لا نحملُ همَ أمراً كان مُحمداً خلفه
..
والآن نحملُ همَ انفسنا أيـضاً لان محمداً لم يعد خلفـها
.
لم يعدُ في الوجودِ أيـضاً حتى نستشعرُ من روحـه صوابنا وخطانا
.
محمد.. اوه
!
لقد نسيتَ والدته التي قد اوصتني ان احادثها في حالِ وصولي
!
الويل لي قد غربت شمسٍ ودعتها في شروقهـا
..
هل تُراها ما زالت تنتظر؟

دخلتُ البيت مُسرعـاً فإذا بي أرى زينب لوحدها ؟
أين تلك الفضولية عن تواجدٍ تستقبلنا بـه وهي قد علمت موعد عودتنا؟

سألتُ زينب: وين بَسعاد.

ابتسمت تلك الرَضيـة وهي تضـعُ سنارةُ خيوطها في حجرهـا: عدّها خطّار "ضيوف
".

لم أطيلُ استفهامي وأنـا أصعدُ أعلـى، قبحٍ لـها ا تستقبلُ ضيـوفاً وهي ما زالت مُطاردة ؟

أ تريدُ ان تُنهي حياةً لها على أرضنا؟
أ تُريد ان تنهي تعب محمداً وشقاه الذي أودعه شهيداً؟
لن يكون ذلك يا بَسعاد.. لن يكونّ.
تقدمتُ إلـى غُرفتها وقد رأيتها تجلسُ على سريرها ويجلسُ مقابلتها طفـلاً
..
بل رجـلاً في سنته العـاشرة
!
هل جُنت وهي تُخرج شعرها المُحرمُ أمامـه؟

قد حُرم شعرها على الجميـع كما حُرمَ عليّ..
عُدت للوراء ادراجاً وأنا اغضُ بصـري عن تلك الحُرمة التي قد سنيتها على نفسـي.. لا يحـقُ لي مرأى شيئـاً لم تأذنَ لـي به
!

اعتلى صوتـي وكأنني للتو اتيـت: بَسـعاد
.

أسمعُ صوتها وهي تقولُ لذلك الولدُ الذي مقتُ: خرررب حظنا،

انطيني حجابي!

سمعتها وهي تظنُ انها هامسـة في حديثـها إليـه: تره مسودن مَعليك بيه
..

تحدثتَ وهي تخرجُ وتمسكُ بيدها ذلك الولد
!
ألم تعلمَ انني أُمقتُ تلك الحركات الطفولية التي تصدرُ مـنها؟


تحدثتُ إليـه وانا أنظرُ إليـها : روح بابا لأهلك..

تحدثتَ هي قبله وهي تُريني وجهه وقد امسك دقنـه وهي تقول: باوع
!
وردة مال الله ... يخبّـل
!

نظرتُ إليـها وهي قد انهتُ كل ما احملـهُ من تعقلٍ
..
هل ستُرى انه وردةً وهو يبلغُ من العُمرٍ ما ينصُف عُمرها ؟

هل تراهُ صغيـراً على مرأى شعرها وعلى ابتسامتها في وجهه؟
هل تراهُ بطريـقةً لا أراهُ بـها؟: اني شدا اكَولك وليّ يم أهلك.


***


أراهُ يتركُ يدي هاربـاً بعدما صرخَ بـه آلـن
!
لا يحقُ لـه ان يخاطبـه بهذه الطريقة، فأنا لم أتي بـه من أمهِ حتى يُحادث بهذا الاسـلوب: مو من حقك تحاجيـه هيج
!!

تحدثَ وهو يوليني ظهره: بلا مزعـطة وخل اشوفه مرةً لُخ هنانا
.
تره اكَتله والله مو شـقى " شقى = مزح
".

تقدمتُ بعدما رأيته قد ولاني ظهره وكأن شيئـاً لم يحدث: وليش أن شاء الله ؟


أدار وجهه إلـي وهو يقول: لانـج مطلوبة!
اش عرفج ان هالزمال ما يروح يفتّـن عليج
.

انك كاذبٍ يا ذلك الجلمود بتبريرك، لم يكن هذا الولد الا ابن الفلاح الذي امنتُ له انت قبلنا! : بس هذا ابن الفلاح مدا يحجي شيّ
.

صرخ بي وهو يقول: وإذا ابن الصخام تخليـه عدّج هنانا
.

رحلَ وانا لا أعلمُ ماذا يعني بقـوله؟

هل غضبَ لانني قد ادخلته البيت للمرةِ الأولـى؟
هل اغضبهُ ذلك؟ ولكن زينبَ قد سمحت لي؟
لا عليّ به!
لن أتركَ صداقتي بذلك الطفلَ من أجله، فهذا الطفلُ هو الحسـنة الوحيدة في هذه الأرض
!


***


رفعتُ هاتفي وأنا اتصلُ بوالدة محمد الذي قد نسيتَ وعَدي لها: ألـو
.

ردت ملهـوفةً بصوتٍ لم اعهدهُ من أمي!: هلاو بابـا،

وينك حبيـبي من الظـهر انطرك تخابر ؟

خجـلٌ منكِ يا أمُ راحليّ، خجلٌ من نسياني لوعودٍ قد قطعتها على نفسـي أمامك، هل تُراني سأكذبُ وأقول انني لم أنسـى؟
بل نسيتُ يا أم محمدٍ ومثلكِ لا يُـنسى: مَيخالف خالة!
تعرفـي من هسّـتوة عمتي وصادق عرفوا بالصار ويـانه
.

سمعتها وكأنني اراها وهي تكفكفُ تلك المدامـعُ التي حاولت ان اجنبها ذكرَ ابنها
.
ولكن تلك المدامـع تلقطُ الكلم الطائـر ويلطمها بقسـوته: مَعليـه ماما،

اهم شي انته بخيـر،
بس هاه ما تطول عليّـه تره انطرك أنّـي.

ما الذي تريدينه منّـي يا أم محمد؟

هل تُريدين افزاعي بذكر الموتِ في كل مرةً اجدُك بها؟
هل تُريدين بحث خوافي روحيّ أمام قبرَ ابنك؟
تحدثتُ إليـها وأنـا أقول: ان شـاء الله خالة مدا اتاخر عليـج.

ابتسمـت
!
وبانت لي ابتسامتُها في ذلك الحديث: يلا ماما مدا أطول عليـك،

تصبُح على خيـر.

أغلقتُ هاتفـي وقد ازاحت بعضٍ من هَمي في كلماتها
.
افتقدت ابنٍ وانا افتقدُ امٍ
!
هل تُرانا مُكملين لبعضٍ في هذه المأسـاة؟

هل تُراها قد شعرت بي وانا أجلسُ بجوارها كالفاقدِ في عزاءِ من فقد.
ان فقدتِ ابنٍ ووجدتي من يُعزيك به
!
فأنا فقدتُ أمـاً ولم أجدُ معزيـاً
.
أمي التي تُريد ان تطمـسُ كل ما يربطني بـها، بل وما يربط اختـيّ أيـضاً
.
لا أعلمُ ما الذي ستفعلهُ بزُمرد بعدما اطالت عليها الردُ بشـأن عريسها العربي
!
لا أعلمُ ان اتعظت من موتِ محمداً الذي كان زوجـاً لابنتها ام لا
.
لا أعلم هل وضعتني بمكانِ محمداً وشعرت بشيءٍ من الخـوفِ على حياتي وعادت إلـي .. ام لن تحركَ ساكـنـاً
.
تلك القيودَ التي احسُ بـها قد قيدت رقبتي بسـلاسلها حتى بُتَ غير قادراً التنفس
!
رميتُ سيجارتي الجديدة أرضـاً وأنا انحـني مستجيـباً لنوبـةِ سُعـالٍ لم اعهدها
.
لقد فقدتُـها منذُ شهراً
.
ما الذي أعادها ؟

انحيتُ وأنا أقعدُ على ذلك الكُـرسي، وضعتُ يدي على قلـبي وأنا أشعرُ بـه سيخرج!
نعمّ
!
قلـبي قد ملّ مني وسيخرجُ إلـى رجلاً يقدّره
!
قلـبي ملّ من أسـى حملتهُ بـه وها هو ينازعُ للخروجِ من قفصـه
..
أمسكتُ موضـعهُ وأنا استصعبُ رحيـله، سُـعالاً لا يتوقف
!
يمنعني من أخذِ نفـسٍ أردُ بـه قلبي إلـى موضـعه
.
هل تُرى هذا ما يقال له الموتَ من فرطِ الأسـى؟

هل هذا الموتَ الذي بُتُ انازعه؟
وأي نزاعٍ وهو قد ابتدأ بمقارنـةً بين أمي وأمُ محمد؟
لمَ الدُنيـا بدأت تتلون بالسواد والكهربـاء قد تكرمت عليـنا لساعاتٍ طوال؟
لمَ اشـعرُ بأن الغُرفـة تدور؟
وان أرجُل الكُرسي الذي قد مثلتُ فوقـه كُسرت!
بل انا من وقـع وليس الكُرسي
..


***


في جلسـتنا اليتيمة سواء من الحاح مَهتاب على الذهابِ إلـى إيران
.
سمعنا صوتِ سقوط
!
سقوط لا يُشبـه إلا سقوط النجمـةِ إلـى الأرض بعد عزةً تمتلكها
.
سقوطٍ لا يُشبه إلا سقوط النيازكَ وهي ترجمُ الشياطين من الاعاليّ
.
سقوطٍ لا يُشبـه إلا سقوطَ صدام الذي أُخرج بعد العزةِ من قبو
!!
وقفتُ متأهبـاً وأنا أشعرُ ان قلبـي من سقطَ عندما ذكرتُ صدام
.
رُبـما "وغدُ" صدامَ في الأعلى قد أصابـهُ مكروهـاً ؟

اسرعـتُ في المسـير وعَمتي ومَهتاب يسيـرنّ خلـفي، ولم أصحُ من ذلك السيرَ إلا على صرخـةِ عَمتي وهي ترى آلـنُ مسجـى أرضـاً في وسط غرفـته: سوده عليـج يا زينبّ!
تركضُ لاحتضانهِ وهي ترفـعُ رأسـه بين يديـها وتوسدُ باقي جسده رجليـها
.
تحادثـهُ وكأنها قد جُنت
!

كانها قد ثملت من الخوف: آلـن،

ماما اشبيك؟
من هستوة طلعت من عدّي ما بيـك..

ثم نظرتَ إلـى جانبه ورأت سيجارته ما زالت مُشتعلة لم تنطفئ جمرتها، صرخت وهي تقول: عَمت عيني عليـه
!

لم أشعرُ بتحركاتِ مَهتاب التي ذهبت لتساعدُ زينبَ في ايقاظـه، ويبدو ان الدَخان قد ملئ رئة صاحبي مما جعلهُ غير قادراً على التنفس
!
مما جعله غير قادراً على حيـاةٍ مليئـة بالاسـى كتلك التي نعشيـها
..
صاحبي يُقاسي الوجـع منذُ ستِ سنين عجافٍ، حان لقلبـه ان ينطقُ وجـعاً
.

شعرتُ بعمـتي وهي تصرخُ بـي وكأنني من تسبب بسقوطه وليس علبـة دخانٍ لا يسيرُ إلا بـها : تعال سـاعدنـي
.

رأيتها تهمُ بحمله
!
حقـاً انه لم يعد قادراً على الحراك، حقـاً ما اراهُ امامي؟

هل يخرُ الجبلَ الشامخ ارضـاً؟
هل ترى الجبالُ تسقطُ أسـى؟ ولكن كيف يسقط من كمية ليست بالكبيرةِ من تبـغٍ اعتاد عليـه؟
ما الجديدُ في أمركَ يا صاحبي؟
تقدمت إليـه وأنا أحملـهُ وهو طريـحُ الأرضِ بين الناعيتين اللواتي امتهنّ اليوم النّعـي على صاحبي الأول صباحـاً وعلى الآخرُ عشيـةً!


***


لحقـنا بصادقٍ قبل ان يذهب بقُرةِ عيـن آدم من أمـامي، وكيف يذهبُ بـه دون ان اسيرُ مـعه في كل خطـوةٍ نعلمُ مـنها مصيرُ ذلك الفتـى الشقي
!
لقد اشـقى عُمره بما قد يكفيـه من أسـى وهمٍ وغم
..
لقد تشبعت صماماتُ قلبـه من همومٍ تضـخُ بها كما يضخُ الدمّ
..
اين مريمَ عن وليدهـا ؟

ألا تعلمُ انه طريحـاً في حضني في ابعدِ منطقـةً عنـها؟
دعـها تلهو ببنيها وتبقـيه إلـي، ولكن يجب علينا أولاً مسحها من ذاكرته وابقى انه امـهُ الحقيقة!
ليتُ الأمومة توهب لمن هي أرقُ فؤادٍ و احنُ شعورٍ بين النّـساء
.
لتسميتُ من يومي الأول أمٌ لأبنائي الذي ربـيتُ على يميني
..
ما بالُ احدهم اليومُ قد استسلمَ لدنيـاه وتركها تعثـو به؟

لا يستسلمُ ابن آدم بهذه الطريقة، لا يجوزُ لـه ان يستسلم كما استسلمَ ابيه أمام كاظمّ.
ولكن ما الذي اشغل قلبك يا وليدي؟ وجعلك تضخمـه اكثر واكثر بأنفاسٍ نتنـةٍ من التبغِ
.
ألم احذركَ عنـهُ؟

ما الذي جعلك تعودُ إليـه، أيها الوديـعُ في حجري.. ما الذي آلمك؟

هل عصفتَ بك رياحٍ بلجيكية؟ ، أو صُفعَ قلبك في بردِ شـقلاوة؟
هل حادثتُ أحدٍ ملأ قلبك أسـىٍ فوق أساه؟
لمَ لم يرحمُك أهلك؟ لمَ لا يسالون عن عيونٍ في العراقِ تُسامر الليل وتنتظرُ خبراً؟
لمَ كل هذا ؟
ألم تقل ان أباك قد وعدك بمجيئـه ان تحررت ؟
لما لم يفي بوعده؟
وهل وفـى آدم لي حتى يفي لك ؟
هوّن عليك يا حبيب عَمـتك لا أحد يستحقُ ان تتألم من اجله..


***


في مستشفى شـقلاوة العامّ
!
والذكرى تعصفُ بي عند قدومنـا انا وآلـن بثالثنا مُحمد
..
هل تُرى الزمـنُ سيُعيد نفسـه ليُألم قلبـي اكثر؟

لمَ تغزونا الذكرى عندما نُقرر النسيان؟
لمَ لا تحرمَنا الطيوفَ ان رحمتنا عيوننا وجففت مدامعها؟

لمَا لم نشعرُ بمكانةِ احدهم إلا بعد رحيـله ؟
لمَ لم أشعرُ بروحِ مُحمداً الذي قد ملأت المكانِ عبقـاً وكأنه لم يغيبُ عنّـي؟
لم كل هذا العذابُ يا الله !
هل العقابُ نصفَ الذنب؟ هل يغفرُ ذنبي عقابٍ يحاوطني أينما توجهت؟

ان لم يعاقبني آلـن بعد اليوم من الذي سيُعاقبني؟
من الذي سيحمي ظهرَ المَهتاب من المُطاردة؟
ألم تحتمـين بظهره خلفَ هذا المستشفـى؟ لمَ انتي اليوم عاريـةً من أي حمايـةً وأمام الجمـيع؟
أين ذهبوا صادق وعَـمته؟
أوه!
لقد سرقني الوقت وأنـا لم أشعرُ بـه من ذكرى عصفت بي ومن ليلٍ أحاط بي أيـضاً
.
كفاكِ يا مَهتاب ظُلمـاً لهم، فلترحلـيّ
!
يكفيكِ ذنب محمد حتى تعودي من جديد وتحملي ذنبُ آلـن الذي جهلتي مصيره في وقوفكِ امام يافطةِ المستشفـى وقد رحلوا زينب وصادق بـه إلـى الداخل
.
لحقتُ بـهم وأنا أبحثُ عنهم بعيـناي ولم أكلفُ نفسـي ان اسال كُرديٍ عنهمـا
.
سيضيـعُ من وقتي ما تبـقى منه
!



***


الانتـظار قاتلٌ
!
وكيف لا يقتل؟ والمُنتظرُ آلـن
.
آلـن الرفيقَ الذي بقـيَ لي في هذه الدُنيـا
.
لا أعلمُ ان بقيَ لـه عمراً ام لم يطيقُ الحيـاةُ بعد محمد
.
لا أعلمُ ما الذي بـه، سواء صفارٍ يُسيطرَ على وجهه، وسوادٍ يحيط عينيه
!
لا أعلم ما هي أسبابه؟

فقد استبعدتُ التدخين عن ذلك، فهو مدخنٍ شره منذ زمنٍ ليس بالقريب!
كأن الدكتـور رحمنـي وخرج وهو يبحثُ بانظاره عني وسط وصولِ تلك الغائبـةُ ايضـاً
.
وصول الدكتور العراقي بل العربـي أيضـاً إليـنا، وهو يوجـهُ حديثـه الذي صدمـنا إلـى زينب
!



انتهى
..




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 07-04-19, 06:32 PM   #50

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



الفصل السـابع والاربعون ..

ماذا يفيد الدَّمْــعُ ، والدَّمُ هَهُنــــاَ
يجــري،ودِجْلَةُ يشتكي وفُراتُ؟!
مـاذا ، وبغدادُ المفاخر أصبحتْ
عطْشَى ، تُلمِّظ قلبها الحسراتُ؟
بغـدادُ ، يا بغدادُ ما التَفَتَ المدى
إلا وعنــــدكِ تُـــورق اللَّفتـــاتُ

×عبدالرحمن العشـماوي×

.

.
.

الانتـظار قاتلٌ!
وكيف لا يقتل؟ والمُنتظرُ آلـن.
آلـن الرفيقَ الذي بقـيَ لي في هذه الدُنيـا.
لا أعلمُ ان بقيَ لـه عمراً ام لم يطيقُ الحيـاةُ بعد محمد.
لا أعلمُ ما الذي بـه، سواء صفارٍ يُسيطرَ على وجهه، وسوادٍ يحيط عينيه!
لا أعلم ما هي أسبابه؟
فقد استبعدتُ التدخين عن ذلك، فهو مدخنٍ شره منذ زمنٍ ليس بالقريب!
كأن الدكتـور رحمنـي وخرج وهو يبحثُ بانظاره عني وسط وصولِ تلك الغائبـةُ ايضـاً.
وصول الدكتور العراقي بل العربـي أيضـاً إليـنا، وهو يوجـهُ حديثـه الذي صدمـنا إلـى زينب: انتي امّـه؟
أرى عَمتي التي تومـأ برأسـها بـ "نعـم" مما وسعَ حدقتي الطبيب وهو يتفاجأ من مسيحيٍ لـه امٍ تتحجب؟
بل وامرأة أخرى تقف بجانبها وتُحكمُ حجابها أيـضاً، ربما صدمته اخفت عنه هويتها !

تحدثَ مُجدداً : ابنج مُصاب بشظيـة، يبدو انها إصـابة جديدة!!

نظرتُ إليـه وأنا أُنكرُ ذلك: لا.
يمكن من شي لُخ بس ما شظيـة. "لُخ = آخر ".

يظنُ ان انكاري لذلك خوفـاً، لا يعلمُ اننا لتونا خرجـنا من خوفـاً اعظمُ منه، بل وبُتـنا لا نخافَ ابداً .
وما معنى الخوفَ وانت عراقـي؟
وهل انت تهاب الخوف او الخوف من يهابك؟
حتى ان ملكَ الموتَ أصبح الرفيق الأقرب لهذه البلد وابناءها.
أراد اللهَ لشـعبنا دخولَ الجنـة فأتخذَ شبابه شُهـداء.
أراد اللهَ لشعبنا النجاةُ من وحلِ الدُنيـا فاختارتهم في رعيان شبابهمّ لتعلو ارواحهم في حوصلِ طائر يتطوّف بهم في رُبـى الجـنة.
مشيتُ مع عَمتي التي سبقتني بالمسيـرَ إليـه.


***


لقد أخفق مستشفى ديـالى في إخراج تلك الشظيـة بأكملها.
أ تراها ستلتهب وتتضخمُ بعد أيامٍ قليـلة كهذه؟
ولكن ليسَ بوقـتها.. فأنا أمرُ في أحلكِ الأمور التي قد مررتُ بـها.
لمَ تأتينا العوائقُ كالموت الذي لا تأخذه سِنة ولا نوم في بـلادي!
لم تُعيقنا تلك العوائقُ البسيطة من اكمال مسيرة الكِفـاح الذي كنتُ اظنُ انني امتهنهُ قبل رحيل صدام.
وماذا بعد رحيلـه ورحيلُ صاحبي؟
هل سأتوقفُ عن النضال؟ هل سيظنون ان هويتي ستُطمسُ عندما يطمسَون صدام؟
لا يعلمون انني عراقيٍ لعراقي، وليس لمسمياتٍ ولا لشعاراتٍ أخرى؟
هل لهم ان يعلمون ويوقنونَ ان العراقـي لأرضـه ولا لشخوصٍ نُصبت من أجلِ أرضـه!
نحنُ الساس والاساسَ في هذه الأرض، لا حاكمٍ وطنٌ، ولا السُلطةِ وطنٌ!
حتى وان كان الحاكمُ صدام والسُلطة حزب البعث..
والله لن تخدموا لنا ناراً ولن تخرسوا لنا صوتاً ما دُمـنا عراقيين لعراقـنا.
ما دامت الخطواتُ تضربُ بالأرضِ كدبكِ الخيولَ وهي تتسابقَ الى الموت!
ما دامت الخطواتُ عجولة لا تُشابهه إلا خطوات زينب التي تتسابق ملهوفةً لرؤيتي!
من أنا بلا زينب؟
هل سأموتُ في ثيابـي بلا لطمٍ وتشييعٍ تحفـنّـي به هذه المرأة؟
من أنا بلا زينب؟
كأنني ذلك الولد الذي اودعاه اباه ويمروُن علـيه بين حيـنٍ وآخر ليراقبـوا أمانة من وِضَـع عندهم، متناسيـن انهم أحق بتربيته!

أحـقُ بمناغاته من زينبّ التي قَدمت لاحتضاني باكيـة: اشبيك ماما؟
دا يكَول هالمصـخم شظيـة، من وين دا تجيـك يا ماما، ما يدري بيك تمشي ويا الحيط وتكَول يالله!

هل حقـاً انا أُهـلاً للمشيّ بجانب "الحيط" مُسالماً ؟
ام انها بالغت في وصفِ مسالمتي التي لا أعلمُ من أين أتت بها، ألم تقول لي قبل ساعاتٍ ان مصائبـي المُتعددة كانت سبباً بموتِ مُحمد؟
إذٍ، من الذي يمشـي بجانب الحيط يا زينب؟

رددتُ عليـها: أم علاوي،
باعي عليـه، ما بيه....

قطع حديثي صادق الذي للـتو دخل: مثل الحصـان لا تشيلين همّـه.

فزعت زينب وهي تقول : كَول ماشاء الله لا تطيح حظـه!

جلسَ الآخر على الضفةُ الأخرى: من شنّـو جاتك؟

علمتُ انه يقصدُ إصابتي!
وكأنني قد فارقتهُ للحظـةٍ حتى يخفى عليه أمري؟
دَعك من سؤالك القـاتل الذي لا أودُ أن اجيبَ عنه وكأنني البطلَ المغوار أمام زينبّ!
ألم أقل لك يا صاحبـيّ .. انني كرهتُ أسـمي!
كرهتُ مناداتهم بـه وكأنني من سيُنقذهم من هول أمرٍ استدعاهم لمناداتيّ!
أُختي التي ندهت باسـمي وهي تستجيرُ من موتٍ يُقال له "زواجٍ بالاكراه".
أو صاحبي الذي رحلَ وهو يناديّ باسمي!!
أكرهُ ذلك الاسـم الذي ظنهُ الجميعَ اسطورةً، ظنوا ان صاحبهُ جبلاً لا يخر.
ظنوا ان آلـن يُعاكس اسمه ليخرجهم من ما هم فيه.
لا يعلمونَ ان آلـن يريدُ اخراج نفسـه من وحلها ولكنه لا يستطيـع يا صاحبي: هاي وكَت عُبرت الشـارع رايح لمحمد.


***


اسمعُ تلك التي تشهقُ الموتَ مع ذكرى الموت التي كلما انجلت اعادها امرٍ يشابهُ وقـعها في الوهلةِ الأولـى.
شعرتُ بزينب وهي تضـعُ رأسـها على صدرِ آلـن وتبكي صاحبـه وتبكيـه أيـضاً.
فلتبكي يا زينبَ ميتٍ حي!
ميتاً لولا ذلك الذي ينبضُ بإرهاقٍ يسار صدره، وهل لقلبـه ان يستحي من نبضٍ يجدد المواجـع على صاحبه؟
هل لقلبـه ان يخشـى عذابٍ يتجدد بكل نبضـة!
يقولون ان النبضـةُ الواحدة حياةً جديدة، ولا يعلمون انها تُشكلَ له موتٍ جديدٍ من نوعٍ آخر .
نوعـاً لا يُشابهه الا رحيـلُ محمداً على ذراعـيـه، أعلمُ ان مُحمداً نازعَ بين يديّ آلـن.
أعلمُ ذلك وأعلمُ ان لحظاتهم الأخيـرة قد رَسبتَ احداثـها الأليـمة من عقـله الذي شابَ كما يشيبُ شعرَ الرأس إلـى ذلك القلبَ الذي ما زال يُضرمَ الاسـى بداخله الى ان يستصرخُ بصاحبه ويتوقف!

شعرتُ بمَهتاب التي تحركت من وراءِ زينب المنحنية على آلـن الصامت إلـى الامامِ قليـلاً بجانب زينب وهي تُسهبُ في حديثـها وتعيدُ لنا ما حدث وكأنها تُخبرننا عن سبب وجودِ الشظيـة في جسدِ آلـن، تتحدث وتُميتَ ما بقيَ في قلوبنا من حيـاة: واقفـة ويا صادق بعد ما باوعَـنا على آلـن وهو يعبـر الشـارع، تأخر عليـنا هوايه!
فاتفقنا نروح ندور عليهم اثنيناتهمّ..
جنت اباوع عليـهم من بعيد، محمد يـتحرك مدري اجذب عيوني ولا اصدق الواقع!
بس والله جان يتحرك حتى صادق دا يباوع ويايه و أكَله محمد حيّ!
بس من اجينا يمهم وانداريت عليـه لكَيته جثّـة.. لكَيته ميّـت، باوعت على آلـن أريد يحجي لي مات لو لا .
لكَيته يحاول بيـه يكَـعد، بســ ...

صمتت بعدما دوى صوتٍ آخر .
جميعنا ارتفعت اعينهم لذلك الجهاز التي بدأت تدرجاته ترتفع وصوته يعلى وكأنه يستصرخ من حكت لتخرس وتُعيد حكاياتها للسانها.
جميعنا نُراقب الإشارات المنبعثة من ذلك الجهاز
ما عدا هو مثبتٍ نظره الى الامام حيثُ اللا شيء!
وزينب التي تسمعُ دلائلُ ذلك الجهاز عن كثبٍ ومن مصدراً آخراً غير مصدرنا .. بل من مصدره الحقيقي، تسمعُ من ذلك المنزوي يسار صدره الذي تتوسد.


***


ليلةٌ كئيبة قد مرَت بعدما عُدنا من مركزِ المديـنة إلـى بيتنا برفقـةِ آلـنّ!
الذي ما كان منهُ إلا ان يتوسدَ رجليّ زينب وينامَ بهمـهِ وألمهِ الجديد.
وعن أي ألمٍ يا مَهتاب تتحدثيـن؟
عن ألمٍ يُذكره ببطولته النـاقصة وهو يحاول انقاذُ صديقه من الأنقاض؟
وأي انقاضٍ تلك؟
انقاضُ سوقٍ يرتطمُ بالشـارع وتصرخُ تلك السيـاراتُ فاقدةٍ راكبيها.
وأي رُكابٍ أولئك؟
اشباهُ محمد طهراً وصدقـاً وإخلاصـاً للدينِ والوطن.
ذلك الوطنّ الذي لطالما تمنيتُ ان أأتي إليـه وأنا أنعمُ في ظلالِ إيرانُ البهية، وأنازعُ عروبتي التي قد يتخلى عنها اخوتي في قادم الايـام .
أما الان يا عربية ها انتي بين عربٍ يعيرونكِ بإيران!
وأي عربٍ همّ؟
ذلك المسيحي الذي نكرَ عروبتكِ لانكِ إيرانية؟
ولما لا تُنكريّ عربيتهُ وعراقيتهُ لانه مسيحي؟
أ ليس أجدر هو بأن يُنكر؟ على الأقل أنا مُسلمةً في بلدٍ مسلمٍ.
وليس أقليـةٍ به وأحاجج كلُ من يأتيـه بعروبته، أ ليس ديننا الدينُ العربي المُعجز؟
إذٍ، ما بالكُ يُنكرُ عروبتي في أرضٍ عربيـة ولو كنتُ تمتلك جوازها وانا لا أمتلكه!

أيقظت زينب عروبتي وهي تسألُ من بعيد: شصار على الشاي؟

أغلقـتُ النارَ متفادية تلك الفوهة التي خرجت من فمِ الأبريق لتعاقبني على نسياني!
وكيف لا تُنسين وقد نُسيتَ بنتاً في بلادٍ وحدها ؟
حملتُ تلك الصينية التي تضمُ أربـع كؤوس ويتوسطهم ذلك الأبريقَ.
لقد أيقظت زينب الجمـيعَ صباحاً وقد اعادت لي ذكرها ايقاظها لي في بيت الصحافةِ في بغداد.
أواه على بغداد وعلى ما حدث في أرضِ بغداد .
ألم أكن هانئـةً بـها و "رفستُ " هنائي حتى عاقبني الله وحطت بي رحالي مُرغمةً في أرض شـقلاوة.
منذُ مـتى والديـارُ تختارُ ساكنيها؟
فقد اختارتنا شـقلاوة من بين أراضِ العراق لتشهد ما نحنُ عليـه.
لتشهدُ حبـاً تكنّـهُ نفسـي لآلنُ بغداد .
وتشـهدُ موتاً اشعرُ بـه في قربـه.
يقولون من الحبِ ما قتل وانا أقولُ ومن الحبِ ليّـنه ولو قَسـى!
وهل لليـنُ قسـاوة؟
نعمّ!
لليـن قساوة، كما للجلمودِ اسمـاً يُدعـى به "آلـن"!


***


أراها تجلسُ مقابلي وعينيها تثملُ ذلك الموجوعِ على استحياء!
فلتملئ عينيكِ من النظرِ لعينيـه الداكنّـة وتقولي له بملأ فيـك ما يجب قوله له!
ان لم تملئي عينيكِ منهُ اليومّ فلن تملئيـها بيومٍ آخر..
فتلك العيون الداكـنّة تشابه عيون والدها، عيونٍ تعشقُ الغيابّ!
وأي غيابٍ؟
الذي يجعلنا خلـفه ضحايـا، ضحايـا الهجرِ المرير.
ان لم تملئي عينيكِ منـهُ فلا تعشقيـه!
فعشقهُ من بُعدٍ سيوردكِ بجحيم لا يوجدُ بـها إلا انا ويقفُ على خزنتها جيوشٍ من الشوقِ والولـه الذي سقتهُ في سابق سنيني لآدمّ.
ولكن آدم يعلم انني عاشـقة.. وأعلمُ أيـضاً أنني معشوقته!
ولكن انتي تعشقين من يعشقك، واحدكما لا يعلمُ عن الآخر.
فلتبقـوا على عشقٍ صامتٍ يخجلُ من الافصـاحِ عنه!
فأن رحلتِ فيبقـى سركِ او عشقـكِ مؤنباً لكِ لعدم افصاحك به..
لا تكوني مثـلي فقد فصحتُ عن عشقي وعرفَ قدره ورحل!

صحوتُ من سكرة العشقَ الصباحية على صوتِ صادق وهو ينافيّ قول صاحبه: هميـنّه فبراير بردّ!

تحدث القابـعة امامـي وهو تحاول ان تُقحمَ نفسـها بحديثهم: ماكو مثل برد ينايـر.

قد أيدت آلن بقولها، وهذه المرةِ الأولـى!
ما الذي تحمليـنهُ لقادم الايـامِ يا مَهتاب؟


***


يا فتنةً صباحيـةً ارتشفُ نظراتي التي استرقُ من عينيها، يا فتنة أختتمُ بها دَيسمبرَ، ولا تحلو نسـائمَ يناير إلا بـها.
يا فتنـةً عبرت النهرَ لتستقيم عودها النحيلُ على مقعدٍ بجانبي ليقتصُ من قلـبي ما بقيَ بـه من حياة!
وعن أي حيـاة تتحدث؟ وهي بحد ذاتها حياة..
يا مَهتاب الليل وسطوته، هل تأمريه ان يأتي قبل موعده ليستُر عورةَ قلبٍ بينتها شمس الاصباحِ لعيون الملا؟
وعن أي صباحٍ اتحدث وعيونكِ لُغته وسطوته الأولى..
تلك السطوة التي احكمت قلبـي ولم تُفلتهِ منذُ شهورٍ خلت!
ليتكِ لستُ فتاة إيـران.. لكان هذا الحُبَ عامراً في فنجانَ قهوةٍ وترانيم فيروز ومقعدين يحملان عاشقيـن لحد الموت!
الموت؟
ما الذي أتـى به في أعظم أحلامي؟
هل لأن عراقي عشق الموت بسبب إيرانك؟
بل وأصبحنا نهيمُ بالموتِ ونعشقـه وأصبحنا نُدلل بعضنا باسم الموتّ
أ ليس نحنُ من يقول في عاطفته " اموت عليـك"؟
أن كان هذه عاطفتنا فما هو غضبنا وحزُننا؟
إلـى أين يا عِراق؟
ما عُدت عراق الجواهري الذي اسماك عَراقاً حتى لا يكسر عيـنك!
ها انت يا عِراق قد كسرتَ قلب آلـن وتربَـع الوجع به وانت تمنعهُ من مصافحة عينيّ تلك الإيرانية بلا قيودٍ تشابههك!
انت قيدي .. فنعم القيدَ انت . . .
انت وطـني.. فنعم الوطنَ انت . . .


***


شرودٍ عظيم تُحيط به جلستنا الصباحية الخاليـة من أي جمالٍ بـها.
لا شعُورٍ تمتلكه تلك الجلسة إلا البرودَ الذي يشابه نهايات ديسمبر!
البرود الذي يُحيطنا بنا ولا يجد من يضفي الدفء له إلا كاسات الشاي التي تتوسط أيدينا .
عَمتي قد سَرحت بعالمٍ ليس بجديدٍ عليّ!
وهي تنظرُ إلـى عينيّ آلـن وتُفتشَ عن وجـعاً في تقاسيم وجهه، لا تعلمُ ان تلك الشظيـةِ لم يتم استخراجها من صدره إلـى الآن!
لا تعلم ان الطبيب قد قالَ لـهُ في الامس انها ستبقَ هذه الشظيـة متشبثة به إلا ان أراد مُفارقتها بأحد مستشفيات الأردن أو سوريا ..
لو كانت تعلمُ ذلك لأصرت عليـه بالذهاب إلـى احدهنّ!
وهذا ما قد جعلهُ يقول لي ان لا أخبرها عن شي.
فقد تتحول تلك العينين المُتـأملة الى ساهرةٍ ذابلةٍ لا تُريد له البقـاء هُنا ثانيةً !
وأي ذهابٍ تُريدين لمتشبثٍ بمياه الأرض التي تفيضُ من النهرين في الشِتاء وتجعلُ من الشوارعِ والاراضٍ مستنقعاتٍ طاهرة نتوضا حب الوطن منها كل صباح!
وكيف لا وهي مياهُ دجلةَ والفرات!

نظرتُ إلـى مَهتاب التي تتحدث بشيءٍ يُقال انه من حقوقها لو لم يذهبَ مُحمداً ضحيةً لهذا الحقِ المسلوب: أريد اخابر أهلي!

أجابت لها عَمتي بالموافقة.

وهذا ما اغضبَ صاحبي وجعلهُ مسمر النظر إلـى الأمام غير قادراً على فعلِ شيئـاً سواء حسرةً تتكابلُ على قلبـه وتعصرهُ بيديها..
أعلمُ انه ليس مؤمناً لا بقضـاءٍ ولا قدر!
صاحبي الذي يتطيرُ بمن يراه المتسبب، جاهلاً ان الله هو السبب بكل أمورنا التي تقودنا اليها أقدامنا حذريـن !

سمعتُ عَمتي وهي تُخبرني او تأمرني! : العصـر دا تاخذها وياك تخابر أهلها.

وقفتُ وكأن برد المكان الخالي من أي مشاعرٍ قد نُقلَ لي: ان شاء الله!

خرجتُ وأنا أرقبُ نجوم آخر يومٍ من عام 2003 !
العام الكئيب في حياة أي عراقـي، العام الذي قَتل فرحـةً وسلب ضحكـةً من شفاه صـغارٍ حالميـن ببغدادٍ اجمل، وسامرّاء تعكسُ ذلك الصدى من خلال الملوية!
والنجف تُبارك تلك الضحكات ، والرمادي تبتهجُ من بهجتهم!
وتُخبرَ الموصل ان الفرحـةَ قادمـة ولكن بَتر حديثها صوت اباتشـي في التاسع من ابريل.
هكذا توأد البُلدان كما كانت توأد البنات في الجاهليـة.
لم تكن أميركا إلا أبو لهبٍ مصغراً يختارُ زهرات المدائن ودُرة الأوطان ليوأد أفراحها ويتراقصُ على أحزانها.
سويعاتٍ وتزول شمس 2003 طالبينَ من المولى بكل رجـاء وخضوعٍ ان يبدلنا بسنين قادمـة أجمل!
لعل عامنا القادم يحملُ فرحـةً لا نعلمـها.
ولو رأيناها لتمنينا هذه الحربَ من زمـان، فلتذهب القوات الأميركيـة لتحتفلَ وتتراقص بميلاد المسيح ونبقـى هنا نُبارك لمسيح العراق ميلاده المجيد بلا ضجيجٍ ينغصُ علينا عراقنا.
فلتنجلي يا شمسُ الواحد والثلاثـون ولتقدمَ شمس الأول من ينايـر 2004 .


***


عَـصر اليومِ المُنتظر !
ألبسُ جلبـابي وكأنني من تلبسُ فُستانِ زفافها.
نعمّ!
انه فُستانَ زواجٍ .. لا تفرقهُ عن ذلك الفُستانَ إلا لونهّ.
فذلك ابيضٍ كبياضِ الثلج في هذه الأيام في أرضِ طهران، و جلبابي كغيومٍ تلبدتَ هذا المساء حتى
أسوّدت من كثافتها في أرضِ شـقلاوة الشَـمالية!

نزلتُ أسـفل على مناداةِ زينب : مَهتاب وينج؟

اجبتها وانا اتخـطى عتباتِ السـلالم بشكلٍ أسـرع: جيتّ!

قد تسربلتَ زينب بخمارِ اسود مثيلُ الذي قد لبست، وقد وقفَ صادقاً بالقُرب منها.
وماذا عن المستلقي فوق تلك الكنبة!
ألا يودَ الذهابَ مـعنا؟ ما الذي يمنعه؟
أ يخاف الموتَ ان ذهبَ مـعي بمشوارٍ يشابه الذي قد تخطف مُحمد من بيننا؟
أ تراني وأهلي محط رُعبٍ في قلبِ البغدادي؟
أراهُ يناولَ صاحبـه مفاتيح سيّـارته بلا حديثٍ ينبسُ به!
ما بالهُ صامتٍ بطريقـة لم اعتدها منه؟
لمَ لا يلقي أوامره وتعليماته على صادقٍ كما هو في السّـابق؟
أ أن صادق تحرر؟ ولكنني بقيتُ في قيودِ إيرانَ يا آلـن.
ألا توصيهم عليّ؟ دَعك مني!
ألا توصيهم منّـي؟ ألا تخبرهم انني خطراً عليهم كما كنتُ تقول في السَـابق.
اين تلك الإنذارات وتلك الوعود؟
أ قُصَ بعضـاً من لسـانكَ في خضم هذه الأمور؟

نظرتُ الى زينب التي تهمسُ لي وقد علمت حالي وقد فضحتني عيّناي: أنّـي ما خليته يروح!
ما لازم يتحرك هوايه علمود ما يتخربط عود ! " يتخربط = يفقد وَعيـه=.

مشيتُ بجانبها بلا تبريرٍ أقوله له عن تعجبي من عدمّ ذهابهُ مـعي!
بل ومن تعجبي من عدم رفضـه لطلبٍ اطلبه في هذا الوقت بالتحديد!!
ليس زينب من تصدر الامر ، ولا آلـن من يُطيع!
ألا تعلمَ أنني أستمدُ القوةَ من شموخِ عيناك؟
ألا تعلمَ انني أحارَبَ عصبيةُ خالداً من خلال تلك النظراتَ المليئـة بالحنينِ التي تسترها عن أعيننا وتذهبُ بعيداً تُريها جُدران غُرفتك وانت تحادثَ زُمرد !
لطالما تمنيتُ لي أخٍ كما كنتُ انت لزمردٍ .
أعلمُ ان يامن لا يُقصرُ علي بمشـاعرٍ ، وأعلمُ ان عمراً قد جفت ينابيع مشاعره من فقدِ فاطمة!
وأعلمُ ان خالد كلما أراد ان يلينَ أتـى ما يُقسيَ قلبـه اكثر واكثر!
لن يبقَ مـعي سواء أبي، فأمي قد تغلبُ عليـها غضبَ ابناءها وحزن اوسطهمّ.
اما أبي سيبقـى ذلك الرجل الذي تركَ عشيرته من اجل ان تتلقى ابنتهُ تعليمها في العاصـمة!
أبـي الذي لا يقبلُ يامن ان احادثهُ خوفـاً على صحته!
بُت أهدد حياةَ والدي !!
إلـى أي حالٍ وصلتِ يا مَهتاب وبـأي حالٍ ستعودين بعد ساعـة..


***


الدمعُ الذي يغطي عينيها كما تُغطي غيومَ شـقلاوة معالمها يقتلني!
أعلمُ انها تخافُ الرفض، تخافُ الجفاء !
تخافُ ان تأتي متلهفةً ولا تجدُ من يحتضنُ تلك اللهفـة ويمسحُ تلك المدامع ويُبدلها بضحكاتٍ تُشرقَ على وجـهٍ فقد اشراقـه..
وأي اشراقٍ ستنعمُ به فتاةً جفاها أهلها.
فتاةٍ ترحلُ من الكبينة وهي تعلمُ ان لا احدٍ سيحادثـها.
تعلمَ خطورة ان تحادثهم من هاتفٍ نـقالٍ تحمله، لا يبينُ لها شوقَ أهلها من عدمه!
لا تعلم ان كان اتصالها بلسمـاً او مراً علقمـاً.
لا تعلم ان كانوا ينتظرون هذا الاتصال ام يرونه حملاً كالجبال.
قد احيطت بالحيـرةَ والخوفَ من القادم الذي تسيرُ إليـه راغبةً.
وكأنها تحملُ بين يديـها بياضاً ستحولُ إلـى كفانٍ أو بدلة عروس!
عن أي رجـاءٍ وشوقٍ أتحدث؟
وأنـا قد قاسيتُ ذلك من كاظمٍ وعلـيـاً وجعفرا .
لا أنسـى في يوم ولادتـي لابنـي، كلما طرقَ الباب قلتُ انه احد اخوتي وافزُّ واقفـةً حتى أرى الطارق!
قد خابَ ظني كثيـراً إلـى ان اتى جعفراً في غروبِ شمس اليومَ الثاني ، وقد نذرتُ ان اُسمي اسم ابني على اولِ اخٍ يأتيني!
ألا ان جعفراً قد رفضَ ذلك..
أي خذلانٍ قاسيته وانا اخبره انني قد نذرتُ ذلك النذر فيجيبُ " دوري له غير أسـم".
جرحهُ الذي خلفـه بقلبي وأضاف لهُ آخر وهو يقوم ويقول انه أتى حتى يراهُ زوحي ويعلم اني لدي أخ!
وما فائدةُ الأخ وهو آخ على القلبّ؟
وقتـها تمنيتُ وجود أبـي فأنا أعلمُ انه لن يصدني كما فعلَ أخوتي.
أعلمُ انه لن يرميني الى الفلاح الغجري بهذه الطريقـة..
سميتُ ابني عليـاً على اسمه.. وهذا ما جعل كاظم يُسمي ولدهُ صادقـاً
حتى لا يُشابهني بشيء!
رُغم انني تعديتُ على ممتلكات كاظم الذي امتلكَ الاسم وتكنى به من صغره!
إلا انه تنازل عن ملكيته حتى لا يُشابهني.
أي مرارةً تجرعت وأخي يتركُ ما تعلقَ به لسنواتٍ حتى لا يربطـهُ بي شيئـاً .

نظرتُ إلـى ذلك الذي كان سيصبحُ عليـاً وأنـا أريدُ ان أخرجُ من قوقعـةِ ابيه: بعيد الكبيـنة؟

أجابـني وهو يهدأ من سرعته قليلاً : ها وصلنـا.

نزلت مَهتاب حيالُ توقفَ السيـارة، اللهم لا تخيبُ لـها أملاً.
ولا تكسـر لها فرحـةً ولا تُرخي لها سنداً.


***


أردتُ ان تنزلُ زينب بجواري!
ولكنني لا أُريد ان تشاهد خيبتي ودموعي وأخوتي يصفعونني ببرودهم المعتاد.
سميتَ الله وانا اخطـو آخر خطوةً توصلني إلى الكبينة.
اودعتُ مالي وأنا أودعُ الله قلـبي ان لا تنفجـع بأخوته!
ضغطتُ أرقـام يحفظـها قلبـي قبل ان يُدركها عقلي، أخـي الأكبـر، ضلعي الأكبـر .. يامن!

أجـابني ذلك الصوتَ ولم يخيبَ رجاء قلـبي: هلاو والله بالمهتاب!
شنّـو هالغيبـة يا الظالمة!

سابقتَ دموعي احرفي وانا مُمتنة لذلك الربّ فلم يخيب رجائي ولم يكسر لي خاطراً قد كُسرَ على مَدى أسبوعـاً بتهمـةً باطلـة تتهمني بمقتلِ محمد، مالي وهذه الأمور، فيامن يسمعني الآن!

لا عليّ بهـم، ما دام يامنُ يسمع صوتَ انفـاسي فقد تجدد يومي هذا بمئـةِ عامٍ قادمـة، يكفي انه عرفـني منذُ ان رأى الرقمُ الغريبَ ينوّر هاتفه: هلا بيك حبيبي، شخبارك؟ ماما وبابا والعيـال شلونهم؟

أجابني وأنـا أرى ابتسامتهُ بقلبـي، وكيف لا يراها قلبي ومن يبتسمُ ثغرَ اخيـه؟ كُلش تمام، ما ناقصـنا الا وجودج!
وقد تدارك قولـه فحديثـه الملهوف يراه يسرقُ من كل جملةً حرف: صحيح مبروك عليج الحُريـة، عُقبال ما تجيج كاملة!

آهِ من تلك الحُريـةِ يا أخي، فقد ذهبَ ثمن بُشراي لكم شهيداً : يبارك بُعمرك يمّـون.
ما كلت لي شصَار على عُمر؟ بعده متضوج على الموضوع؟

اجابني وهو يطلقُ تنهيدة من صدره لو أطلقتَ تلك التنهيدةَ على قزوين لخرّ من ألمها : نكَول يالله!
ابوها مغلّـس على الموضوع، يكَول مدا ازوجـه لحتى ترجع اخته.
ما عليج بيـه طرن ، لا ترجعين كَبل تاخذين حريتج بايدج، إذا اميركا عافتج إيران ما مقصرة وياج ان شاء الله ! "طرن = غبي"

رددتُ خلفـه المشيئة الإلهية وانا موقـنة بها: ان شاء الله ياربّ.
وبابا كيفه هسّـه؟

أجابني والبهجـةُ تعود إليـه: لا مـا بيه الحمدلله،
وخصوصاً من عرف ان اميركا حررتج، كَام على حيله ليوزعَ الحلوان على الحارة.
ابتسمتُ لذكره وحزنتُ شوقـاً إليـه ، تريدُ ان تطمئنُ قلبـي يا أخي وأنت توجعـه أكثر وأكثر، أمنتُ على دعوته: عقبال رجعتج ياربّ.

شعرت انني طفلـةً تطيرُ فرحـاً بكلِ كلمةً عذبـة تأتيها: الله يسمع منـك.
ومامـا ما كَلت لي، لهسّـه واكَفه بصف خلود ضدكمّ؟

ضحك الآخر وهو يقول: أي يُبـه هذا خلود مو حي الله،
وصل عُمره العشَرين وهي لهسّـه تباوع عليـه مثل الجهالّ، ومن دخل الجامعة وهي حايسـة وياه بكُتبه وملازمـه تريده الأول!

كفاكِ يا أخي لعبٍ بأوتار قلبـي، فأنت بحديثـك قد تترنمُ فرحـاً وتظنني مثلكّ!
ولكنك تدقُ الوترَ الأول ليصرخ بك العـاشر توقف عن هذا فقد ادميتني: الله يوفقـه ياربّ ويبلغنا بيه!

تمتمَ خلفـي وهو يبعدَ الهاتف عن اذنهُ قليـلاً ويردُ السـلام على من اتـاه، ثم يعيدُ الهاتف إلـى أذنـه ويحادثني برسـميةً وبالفارسيةِ أيـضاً: فلتأتي غداً ولتُنجز معاملتك بنفسـك.

لا تُغلق الهاتف يا أخي، اخبر زائرك انني اختك المُغتربة التي تُريد حديثٍ يطول ويطول إلـى ان تغيبَ الشمس وتنعسُ معها عيون الظُلام وتخطفـني النمسةُ الى بيتنا.
لنصحـوُ بغدٍ أجمل، ولمـةً دافـئةُ المشـاعر غير تلك اللمـةُ الباردة صباحاً.
لا تُغلق يا أخي قبل ان أودعكَ.
فمهتاب شابت يا أخيـها ولا تعلم ان كان قلبـها سيعيشُ إلـى يومـاً آخر تحادثك به أم لا.
أ قلتُ عند وداعي تعـال غداً .
ها انا قادمة ولكن أين غداً الذي سيستقبلني في أرضِ إيران؟
أين الصباح الذي سيجلي خلفهُ عتمـةً تُسمى العراق؟
اخبر خالداً انني كرهتُ الصحافة وكرهتُ العملَ بـها أيـضاً، اخبره انني لن أعودُ لـها ولكن دعوني أعودَ إلـى إيران.


***


ابتسامتها وهي قادمـة بعثتَ في نفسـي الانشراحُ قبل زينب، لولا تلك المدامـع التي تخونـها لتنزلقَ على وجنتيها وتُبينها شمسَ العصـر التي سطعت في وجـهها.

عادت إلـى مقعدها وزينب تسألها: خابرتيهم؟

ابتسمتُ حتى بانت ثناياها وهي تقولُ : خابرت يامن، يممه فدوة لقلبه!


انتهى



مخرج الفصل السابع والاربعون.

بغدادُ ماابتسمتْ رؤى تــاريخنا
إلاً وعندكِ تُشرق البَسَمـــــــات
صوت المــآذِن فيكِ يرفعنـا إلى
قمم تشيِّدها لنـــا الصَّلــــــوات
أوَّاه يـا بغـــــدادَ أَقفـرتِ الرُّبى
ورمَى شمـــــوخَ الرَّافدين جُناةُ
لغةُ الحضارةِ أصبحتْ في عصرنا
قَصْفــــاً ، تموت على صداه لُغات

×عبدالرحمن العشـماوي×


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:51 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.