آخر 10 مشاركات
من أجلكِ حبيبتي (71) للكاتبة: ميشيل ريد ×كاملة× (الكاتـب : Dalyia - )           »          ومضة شك في غمرة يقين (الكاتـب : الريم ناصر - )           »          ممر أكرايوس(120)-قلوب غربية-للرائعة ميرفت أمين~مميزة~ *حصرياً*{مكتملة&الروابط} (الكاتـب : الأسيرة بأفكارها - )           »          جنون المطر (الجزء الثاني)،للكاتبة الرااااائعة/ برد المشاعر،ليبية فصحى"مميزة " (الكاتـب : فيتامين سي - )           »          ليلة مع زوجها المنسي (166) للكاتبة : Annie West .. كاملة مع الرابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          شيءٌ من الرحيل و بعضٌ من الحنين (الكاتـب : ظِل السحاب - )           »          أم لابنة الرئيس (41) للكاتبة: Susan Meier..... كاملة (الكاتـب : فراشه وردى - )           »          رهينة حمّيته (الكاتـب : فاطمة بنت الوليد - )           »          حَمَائِمُ ثائرة! * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : Lamees othman - )           »          مع كل فجر جديد"(58) للكاتبة الآخاذة :blue me كـــــاملة*مميزة (الكاتـب : حنان - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

Like Tree277Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 01-04-20, 02:26 PM   #501

شغف123
 
الصورة الرمزية شغف123

? العضوٌ??? » 438815
?  التسِجيلٌ » Jan 2019
? مشَارَ?اتْي » 768
?  نُقآطِيْ » شغف123 has a reputation beyond reputeشغف123 has a reputation beyond reputeشغف123 has a reputation beyond reputeشغف123 has a reputation beyond reputeشغف123 has a reputation beyond reputeشغف123 has a reputation beyond reputeشغف123 has a reputation beyond reputeشغف123 has a reputation beyond reputeشغف123 has a reputation beyond reputeشغف123 has a reputation beyond reputeشغف123 has a reputation beyond repute
افتراضي





يا جماعة الإنصاااااف الحين لأن البعض منكم قرأ الفصول المحذوفة صار يبي قفزة محترمة للمتابعين الجدد و المتابعين اللي انشغلو عن قراءة الفصول الأخيرة...
في انتظار آخر أربع فصول المفقودة... و مع أني قرأت فصلين من اللي انحذفو أي ما بقالي إلا أثنين و ألتحق بالمباشر بس حاسة بالناس اللي طافتهم الفصول....



شغف123 متواجد حالياً  
التوقيع
فقط حين ندرك ،حقيقة وجودنا في هذه الدنيا ،ونقتنع بالهدف من عيشنا سيزهر الإيمان في قلوبنا و سنفلح.
رد مع اقتباس
قديم 03-04-20, 12:43 AM   #502

نورهان عبدالحميد

نجم روايتي وكاتبة بمنتدى قلوب أحلام وقصص من وحي الاعضاءوألتراس المنتدى الأدبي وبطلة اتقابلنافين؟وشاعرةوقلم ألماسي برسائل آدم ومُحيي عبق روايتي الأصيل وقاصة هالوين

 
الصورة الرمزية نورهان عبدالحميد

? العضوٌ??? » 300969
?  التسِجيلٌ » Jul 2013
? مشَارَ?اتْي » 2,663
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » نورهان عبدالحميد has a reputation beyond reputeنورهان عبدالحميد has a reputation beyond reputeنورهان عبدالحميد has a reputation beyond reputeنورهان عبدالحميد has a reputation beyond reputeنورهان عبدالحميد has a reputation beyond reputeنورهان عبدالحميد has a reputation beyond reputeنورهان عبدالحميد has a reputation beyond reputeنورهان عبدالحميد has a reputation beyond reputeنورهان عبدالحميد has a reputation beyond reputeنورهان عبدالحميد has a reputation beyond reputeنورهان عبدالحميد has a reputation beyond repute
?? ??? ~
ليعي البشر السر العظيم... فان أرادوا حياة ...فليفسحوا في قلوبهم مجرى ...لنهر من الحب .
افتراضي


البريق التاسع

قبل سبع ساعات

تجلس في مقهى شبابي راقٍ تتلفت حولها بقلق وهو يراقبها بوجوم .. شعرها الخفيف الناعم يحيط وجهها الرقيق ببراءة عينيها الصغيرة ووردية شفتيها الرفيعة مثل جسدها القصير النحيف .. الجميل
جاء النادل يضع طلباتهما فأجفلها قليلا لتعاود النظر في الوجوه حولها ثم تسمع صوته الرخيم متضايقا

" توقفي عن الالتفاف حولكِ هكذا رنوة "

نظرت رنوة إليه ثم حادت عيناها مجددا تدور بين الطاولات وهى ترد بتوتر

" قلت لك لا احب أن اقابلك وسط الناس هكذا راشد "

يتابع راشد نظراتها فيصدر صوتاً معترضا ثم يمسك وجهها بين كفيه بقوة قائلا بحزم

" حبيبتي "

ثبتت عيناها على وجهه وقور الوسامة بتلك التجاعيد البسيطة المميزة وهو يقول بنبرته الواثقة

" لن يراكِ أحد معي .. ولو رآكِ أحد فأنا طبيب لي اسمي كما أني والد صديقتكِ ولن يكون في الأمر شيء "

أطرقت رنوة بين يديه بشعورها المتأرجح بين الفرح والذنب والخوف تقول بصوت منخفض

" كنت افضل أن نتقابل ككل مرة في عيادتك أو نظل في السيارة "

سحب راشد كفيه ليشرب قليلا من قهوته ثم ينظر نحو الخارج عبر زجاج المقهى قائلا بتباعد

" وربما شعوركِ هذا لكي لا يراكِ أحد مع رجل مثلي .. في سن والدكِ "

ابتسمت رنوة وهى تتأمل أناقته اليوم وتناسق جسده وشعره الأبيض المفضض عشقها لتمسك يده المستريحة على فخذه قائلة بأنوثة

" راشد .. أنت أفضل وأكثر رجولة ووسامة وشباباً من كل هؤلاء الصبية الفاشلين حولك "

يلتفت إليها بنظرة تلمس تلك الأنوثة التي لا يراها غيره وهى تتابع برقة ابتسامتها

" لا اعلم لمَ ترى نفسك عجوزاً عليّ هكذا ؟! "

قلبه يدق حباً بعد طول صيام وكان إفطاره صعب المنال ليرفع يده فوق يدها يرد معترفاً

" أنا لدي ابنة في عمركِ رنوة .. بيننا تسعة وعشرون عاماً .. ألا ترين الشيب في رأسي ؟! "

تقترب منه بوجهها قليلا وعيناها تلمع بوهج أنثى تكبر وتحب لتقول بنعومة صوتها الحنون

" بل أراه .. وتعرف كم احبه وكم يعطيكِ مظهرا جذاباً بشكل غير معقول .. وتعرف أيضا أن عمرك لا يظهر عليك أبداً وأننا نليق ببعضنا كثيرا .. لذلك توقف عن كل هذا الكلام الذي لا معنى له "

يضحك راشد باتزان مميز ضاغطا على يدها في كفه ليقول بجاذبية خاصة لرجل ذو نظرة أكثر خصوصية

" تعيدينني لشبابي وأنتِ تضحكين عليّ بكلمتين هكذا "

ضحكت رنوة وهى تنظر أرضا بوجه أحمر ترجع شعرها خلف أذنها ويعود خجلها بقولها

" أنا لست هكذا إلا معك أنت فقط راشد "

يرفع يدها يقبل باطنها فتسحبها سريعا بدقات قلبها المتسارعة وتأخذ كوب العصير تشرب منه وهو يقول

" اعلم رنوة .. يا أجمل شيء في حياتي "

يتأمل ابتسامتها الفتية متذكرا أول مرة يراها وتراه في زيارتها لابنته تقى .. عيناها انبهرتا به في ذهول كيف لرجل بسن الخمسين له مثل تلك الأناقة والشباب وحيوية الجسد ؟
ورغم محاولتها إخفاء الأمر لكنه أدرك إعجابها به ليبادلها قلبه بلا إرادة حباً بريئا كأنه عاد سنوات للخلف ..
لأول مرة بعد وفاة زوجته منذ سنين يدرك أن له قدرة أن يحب مجددا .. ويحب فتاة صغيرة بعمر ابنته رغماً عن كل التعقل والمنطق والقواعد التي يفرضها عليه المجتمع
دخلت رنوة حياته مثل اسمها .. رنوة عين خطفته .. وما زالت تفعل كل مرة يراها
تضع رنوة الكوب لتهز رأسها بقولها الحزين

" ما يحزنني فقط رد فعل تقى حين تعرف أنني أحب والدها "

يتنهد راشد مفكرا في ابنته ممررا ظاهر أصابعه على ظاهر يدها على الطاولة ثم يقول بثبات الطبيب به

" أنا أخلصت لوالدتها رحمها الله عمراً رنوة .. حتى دخلتِ أنتِ في حياتي .. عشت حياتي كلها لتقى .. من حقي حين أحب وأرغب بحياة حقيقية أن توافقني وتتمنى لي السعادة "

تواجهه نفيا ترد

" ربما ستفعل هذا مع امرأة أخرى وليس مع صديقتها "

يتنهد راشد ممسكا يدها بقوة قائلا بحرارة

" أنا وأنتِ اخترنا بعضنا ولا يحق لأحد أن يراجع هذا الاختيار .. حتى لو كانت ابنتي "

تنظر لعينيه تحاول استمداد قوة من قوته لكن قولها يثقل بذلك المنطق والتعقل والخوف

" سيراجعه أهلي .. سيمنعني أخي فؤاد عنك .. أنت لا تعرفه "

يتراجع على كرسيه يقول بتفكير

" سمعت عنه .. لكن أنتِ ستنهين جامعتكِ بعد عام ويكون لكِ حق اتخاذ القرار في حياتكِ .. لا أحد له أن يجبركِ على شيء "

ظلت صامتة لحظات تتنفس بارتجاف حتى سالت دموعها قائلة

" لا اعلم .. اشعر أنهم سيبعدونني عنك وسأتعذب كثيرا .. اشعر أن القادم سيء للغاية "

يصدر راشد صوته المعترض ليقترب منها يمسح دموعها بكفيه قائلا

" توقفي .. لا تبكي "

يتحرك وجهها بين يديه تتمسح بحنانه أباً وحبيباً وصديقاً بأنفاسها الحارة فيتبسم مداعباً

" يا حب عمري ! "

تضحك باستياء ناظرة إليه تقول بامتعاض

" تعرف أني لا أحب الكلمة الحمقاء المنتشرة هذه "

تتسع ابتسامته ضحكة تشرق بنظرتها وأصابعه بين شعرها تبتعد يداه بصعوبة قائلا بحنان

" لا تبكي إذاً .. كل شيء وله حل "

تومئ برأسها وهى تتشبث بيده بلا قدرة أن تمنع نفسها .. تلك الفتاة الخجولة فيها التي لم تعرف أباً تخرج عن إطار معايير مجتمع كامل .. ورغم الاستحالة القادمة لكن تلك الفكرة بإمكانية الأمر تغلق عقلها كما انغلق قلبها عشقاً.

.........................................



وقفت ألماسة أمام مرآتها تنظر لصورتها التي لم تفقد من الجمال إلا البريق .. لم تفقد من الحقيقة إلا الوهم .. الذي كان يغلفها في رداء باهت التفاصيل لكنه يشوش التشوه !
الحقيقة بذاتها أكثر قبحاً من أي تجاهل وهمي قد تصنعه أو يصنعه الآخرين .. ولا يمكنها أن تلوم إلا الراحلين في عتاب قاسٍ لكن لا صدى له لأنهم لن يشعروه
لقد ذهبوا .. وسواء في جنة النعيم أو في أسفل الجحيم لن يردوا
كانت تتوقع خسارة القضية ظلماً وبهتانا .. زوراً وفسادا
لا يمكنها أن تلومه هو شخصياً إلا على ما فعله معها حين أوقعها – مرضها – أو قدرها .. على ذراعه
كلاهما ضحية الظلم الذي لا دخل لهما فيه .. حسب ما قاله عمها قاسم فإن فؤاد هو الضحية الأكبر .. لعله لن يتعلم الدرس إلا بضربة تقصم ظهره .. وتدعو عليه من كل قلبها أن ينالها !
ما زالت صورتها قوية .. صلبة الملامح .. تخفي الحزن في قاع لا يدركه مخلوق بها .. في عمق يقبع في بحار دموع لا تنفد
لم يعد لها حق الحزن الخاص .. ذلك الحزن المجاني وعليه هدية البكاء رفاهية الضعفاء .. أما هى فحزنها له ثمن .. ثمن الغفلة .. ولا يمكنها أن تغفل بعد كل ما يحدث
تتحرك في صمت دون أن تواجه نظرة الزهراء المشفقة المرتاحة بانتهاء الأمور واستقرارها بهذا الشكل حتى لو كان ظالماً
لقد كان لقاءهم مع فؤاد في المحكمة ملغم الحضور .. نظرات يتطاير شرر تعاليها بينه وبين أكرم والزهراء .. وبينها
لكن نظرته الشامتة بنهاية الجلسة كانت نارا أضرمت الحريق في قلوبهم أكثر
تخرج من الشقة الجديدة بكامل أناقة ملابسها السوداء ذاهبة إلي الجامعة الامريكية حيث تأخذ الدبلومة التي أرادتها من عمها فتجد عبد الجليل بمنتصف الشارع لتتجه نحوه تتوقف أمامه عمداً تتساءل بابتسامة شديدة التعالي نافضة شعرها للخلف

" كيف حالك يا ( حاج ) عبد الجليل ؟ "

يزدرد ريقه بتوجس وهى تشدد على كلمتها فينظر أرضا بخجل يرد باحترام

" الحمد لله يا أستاذة .. مبارك الشقة الجديدة "

رأسها يرتفع في شموخ فطري لتقول بكبرياء جبارة التكبر

" شكرا يا حاج .. رأيت النصيب كيف عدنا مُلاكا بعد أن كنا مستأجرين في بناية قديمة عفنة مشققة الجدران وبإذن الله ستقع على أصحابها قريبا بعيدا عن جيراننا بالطبع "

يرفع عبد الجليل عينيه متفاجئا ليكسو الغضب ملامحه وهى تتابع بنفس النبرة وأنفها يرتفع أكثر

" لكن اخبرني يا حاج .. لم أر لافتة الدكتور رمزي رافع منيرة في وسط الحي !!.. ألم يتفق أخاه معك بعد ؟! "

أطبق عبد الجليل شفتيه بلا رد مفكرا في تلك المكالمات التي يتجاهلها فؤاد منه بعد أن كان يكلمه يوميا أكثر من مرة ويطالبه بالتعجل لكتابة عقد الشقة
ولم تعطه ألماسة فرصة رد وهى تتجه للبناية المقابلة منادية

" دموع "

توقفت دموع ملتفتة جانبا ليبتسم وجهها عفويا وتقترب منها قائلة

" ألماسة .. اشتقت لكِ يا فتاة "

تتنهد بإرهاق ترد بنبرتها الصادقة مع صديقة العمر

" تعرفين أنني لا استطيع المجئ إليكِ لأنني لن ادخل بناية عبد الجليل مجددا .. تعالي أنتِ .. لم ترِ شقتنا الجديدة بعد "

تغيم عينا دموع بأكثر من أي كلمات لتبعد نظراتها قائلة بصوتٍ فارغ

" تعرفين أنني أيضاً لا استطيع المجئ "

رغما عنها تحيد عيناها نحو ورشة الميكانيكا بيقين أنه بالداخل فتربت ألماسة على كتفها تسأل

" ذاهبة إلي عملكِ ؟ "

هزت رأسها نفيا لتجيبها بحذر أكرم .. وحذر ماهر .. وحذر كل حزن يمر بصديقتها

" لا .. لدي موعد مع .. شريف "

تهز ألماسة رأسها بتفهم لتقول بنبرة تبدو عادية

" أنا ما زلت ابحث عن عمل لكن الآن منشغلة بالدبلومة التي آخذها بالجامعة الامريكية "

ردت دموع مبتسمة متسائلة

" وفقكِ الله يا ماسة .. وماذا عن .. موضوع القضية هذا ؟ "

تتصلب ملامحها بذكر الأمر في تلقائية مباغتة لتجيبها بجمود

" ما زال قائما دموع .. أنا فقط افكر حاليا في خطوتنا القادمة .. ساذهب الآن حتى لا اتأخر "

تومئ دموع وهى تنظر إليها مغادرة لتذهب هى أيضاً بطريقها
كانت صادقة حد التأكد أن هناك خطوة بالفعل تفكر فيها .. ولا أحد يعلم بعد أن تلك الخطوة ستكون في عقر أرض الرافعين !.


نزل شريف درج بنايته ركضا وهاتفه ما زال يرن هاتفاً

" كفى لقد أتيت .. اغلقي الخط "

هزت دموع رأسها نفيا مبتسمة باتزان في وقفتها بفناء البناية الصغير ثم قالت بهدوء

" احب نغمة هاتفك "

يبتسم شريف باستغراب وهو يطالعها اليوم .. كانت أجمل .. أكثر رقة وأناقة .. حتى شعرها مفرودا بأنوثة مميزة وهى تضع زينة وجه طبيعية اللون
اقترب حتى توقف أمامها قائلا بهيبة جاذبيته

" هذا أول اعتراف منكِ أنكِ تحبين بي شيئا "

تستدير دموع تتقدمه للبوابة الصغيرة مستمعة لصوت فيروز الصباحي القادم من المقهى على آشعة شمس اليوم المشرق مثل مزاجها ترد

" ما يعيب الرجال أنهم دائما متعجلين ! "

سبقها شريف يسد طريقها مقتربا منها بجسده الضخم قائلا بنبرة صوت خافتة مميزة

" ليس جميعهم .. بالنسبة لي أنا حليم وصبور ومعكِ للنهاية "

قلبها يدق نبضاته على استحياء فتبتعد خطوة لتمد يدها إليه فجأة بقولها

” أريد مفاتيح سيارتك "

يتراجع ناظرا إليها بتوجس زائف متسائلا

" لماذا ؟!.. من أولها هكذا سرقة !! "

تضحك لتحاول تجاوزه فيمنعها وهى تجيبه

" سرقة وأنا اطلبها منك !.. اعطني إياها أنا ساقود اليوم "

انتبه إليها جدياً فيسأل

" هل تستطيعين القيادة ؟! "

حزن مر بمحياها يلونه ببهوتٍ متحسر لترد

" علمني أحمد قبل .. استشهاده "

لطالما كانت كبيرة في نظره بشخصها .. بثقتها وذاتها .. لكنه نسي أنها أخت شهيد .. رمز رفعة وكرامة أكثر وأكثر
يتذكر أحمد وصداقته به ولعبهما صغاراً بهذا الحي فيقول بصدق

" رحمه الله "

تحاول دموع الخروج فيضع ذراعه يمنعها مغيرا الموضوع بسؤاله المبتسم

" لماذا تريدين القيادة اليوم ؟.. انتظري أولا .. منذ الصباح انزل انزل !!.. أين تريدين الذهاب فجأة هكذا ؟! "

تزفر بامتعاض كاذب وهى محتجزة بهذا الفناء الصغير فتقول بنفاذ صبر مدلل

" استيقظت من النوم تذكرت أن مدة إجازتك على وشك الانتهاء فقررت قضاء اليوم معك .. وحتى لا تسأل مجددا .. أريد القيادة لأني لم اقود منذ سنوات وساستغلك لأتذكر ما نسيته "

نظرة لأول مرة تراها بعينيه .. نظرة إدراك أنها تعبر إليه بحار خوف وسنوات انتظار بالية .. يرى بعينيها تقديرها لرجولته .. رغبة احتماء به جعلت قلبه يشق بنبضه صدر الحياة القادمة معها
أنزل ذراعه بنفس حار وكل مشاعره اللحظة يخفيها فلا تظهر إلا بعينيه مداعباً

" لم ارغب يوما أن يستغلني أحد إلا اليوم ! "

تبتسم دموع تخرج من البناية وهو يخرج مفاتيح السيارة المعلقة بميدالية في حزامه قائلا بسطوة محببة

" حسنا ساعطيه لكِ اليوم لكن عليكِ أن تعرفي أني لا اركب جوار امرأة تقود "

توقفت قدماها مباشرة كأنما تم إعطائهما أمراً بالتوقف .. لتلتفت ناظرة إليه بجدية غريبة وعقلها يعمل بسرعة رهيبة مشوشة كل أفكارها فجأة
وتلك الأفكار كان يقرأها بوضوح ليقول بمنطقه

" لا لا لا انتظري قبل إعطائي محاضرة في المساواة بين الرجل والمرأة .. أنا لست ضد قيادة المرأة بالعكس .. قيادة السيارة للمرأة أفضل لأنها تحميها من شقاء المواصلات وما قد تواجهه بها لكن أنا كرجل لا استسيغ أن اجلس هكذا وبجواري فتاة تقود .. خاصة لو كانت مثل القمر مثلكِ "

تتنفس دموع بعمق كأنها تفرز طباعه تتعرف عليها وترى مدى اختلافها معها وكم يبدو الأمر صعباً مع شريف .. بينما مع أكرم تتعاشق طباعهما كقفل ومفتاحه !
تهز رأسها تحاول إبعاد أكرم من تفكيرها بقوة لتقول بقبول متفهم

" لا بأس .. كل شخص له أشياء لا يتقبلها حتى لو كانت عادية "

تفتح السيارة لتركب وهو يلتف يركب جوارها قائلا

" سنمر على بيتكِ أولا "

تشغل المحرك مدققة النظر حولها بتركيز تتساءل

" لماذا ؟! "

يرد شريف ببهجة قلب مرتجف وهو يراقبها تتفحص كل شيء بسيارته

" أولا لاستئذن عم جمال أننا سنخرج معاً .. وثانيا لتحضري الكمان .. ألم أقل لكِ أني أتوق لاسمعكِ تعزفين لي ؟ "

نظرت دموع إليه وكادت أن تنطق أنها استأذنت والدها بالفعل لكن .. ( الرجل ) به يأبى إلا أن يأخذ إذنه بنفسه
تلك الكلمة التي – تصفه – بها .. رجل .. هو أنسب وصفٍ لشريف.

في ساعات طالت ولم يشعرا بها بدأت بأنغام ( الدنيا ريشة في هواء ) وانتهت بـ ( ألف ليلة وليلة )
وكانت ليلة .. ليلة حب حلوة بألف ليلة وليلة .. بكل العمر
والاسئلة تدور بعقله قبل عقلها .. كم ليلة مثل الليلة في العمر ؟!
ذلك التدفق اللحني من بين يديها جعله يتمنى لو تأتي الشمس بعد سنة بالفعل !
في حكايا نظراتها يتغيب الشفق تارةً ويلمع القمر تارةً .. أكثر حرية وهى تعزف ..
وهى تعزف .. تعزف كلمات ومشاعر وقصصاً ليس ألحاناً فارغة .. تعزف الدموع المرسومة باسمها .. الحزن الموشوم بقلبها .. تخرج أعمق ما بها نغمة ..
‏نغمة صامدة على كمان حزين .. تلك كانت دموع.


لم يعرف أحد منهما أنهما سيعودان على الكارثة المقامة بالحي لينصدما بما يحدث مثل كل سكان الشارع المتجمهرين
يقف فؤاد بمنتصف الشارع مناديا بجنون متهور

" ألماسة .. ألماسة يا بنت زاهد .. انزلي إليّ بنفسكِ بدلا من الهواتف .. هيا يا ألماس سادفع لكِ المزيد .. أريدكِ الآن ... قلت لها نتزوج قالت لا .. تموت حباً في الحرام "

تغطي دموع فمها بصدمة في مكانها بالسيارة متسائلة بصوت مسموع

" مَن هذا ؟!.. أيمكن أن يكون ابن عمها الذي طردهم من شقتهم ؟! "

يعقد شريف حاجبيه جوارها متخذا قناعاً شديد الصرامة يسأل بجدية مهيبة

" ابن عمها ؟! "

عيناها متسعتين مشدوهتين ترد بلا تصديق

" كنت معهم يوم طردهم عبد الجليل من شقتهم وسمعت ماسة تقول أن ابن عمها يريد الانتقام منهم "

يخرج شريف من السيارة متحفزا بغضب الرجولة والنخوة هاتفا

" لا تخرجي من السيارة "

تجمع الناس مستغربين مستنكرين وألماسة تخرج لشرفتها فتقف بلا فهم وصوت فؤاد يعلو يكتب سطرا آخر في نذالة لا تنتهي

" انزلي يا شريفة .. لمَ جئتِ معي طالما لا تريدين أن تكملي .. أم إنها ليلة أخذتِ المتعة وقبضتِ الثمن ؟! "

نزل عماد من سيارته مقطوع الأنفاس ينظر للوضع الملغم حوله .. كارثة ..
كل شيء مخيفا .. وفؤاد نفسه .. خارجاً عن السيطرة .. تماما !
‏يستعيد عماد تركيزه سريعا ليقترب منه بخطوات تنهب الأرض سخطا فيسأل فؤاد بنبرة وحشية بغيضة لاهثا

‏" هل تأكدت مما قلته ؟! ''

‏بكل الغضب داخله رفع عماد قبضته ليلكمه بعنف صائحاً بصوتٍ جهوري مخيف

" استفق .. استفق .. هل جننت ؟ "

يمسح فؤاد الدم عن أنفه بأنفاسه المتسارعة وملامحه الإجرامية بينما يتقدم صاحب المقهى منه قائلا بغلظة

" عيب ما تفعله .. هؤلاء الناس يسكنون معنا منذ خمسة عشر عاماً ما رأينا منهم شراً .. حرام عليك .. الفتاة ما زالت ترتدي الأسود على خطيبها "

رفع فؤاد عينيه نحوها يتلاقى مع عينيها بنظرتها الغريبة .. وجهها شاحباً مصدوماً لكنها ثابتة .. أقوى مما يتخيل
وهج الماس بها يسطع بحدة ، ورياح ليل بارد تتداخل بخصلاتها .. شامخة .. راسخة دون أن يهتز جفنها
وهو يصرخ .. وتموت الصرخات في درب الحماقات ولا سامع لابتهالاته .. ما سلم يوماً قلبه لأحد وما امتثل ظلم راياته
باب موصود على مرار نزيفه وما رأت نوراً سماواته .. ليس ذنبها لكنه عهدا أن يمد كفيه ليجتث قلوبهم ولا يدري أحد معاناته
وصل شريف إليه متضخم الجسد ورغم الغضب يحكمه عقله فيرى مرتضى مع رجال الورشة يتجهون نحو فؤاد وهو يهتف بنبرة عدائية لرجل حر الدماء

" تتهجم على بنات منطقتنا .. لن نكون رجالاً إن تركناك تخرج حياً "

وبالأعلى كانت الزهراء تلطم على رأسها باكية بحرقة قولها

" يا للمصيبة .. يا للمصيبة .. انفضحنا في الشارع .. سيرتنا ستكون على كل لسان .. ضاع مستقبلكِ أكثر من ضياعه .. يا مصيبتي فيكما .. يا مصيبتي "

يتابع عماد الوضع حوله يتأزم محاولا إرجاع فؤاد للخلف وهو كالحجر يفتح صدره للموت .. وفيما يقف شريف ليسيطر على الموقف ناظرا للأسلحة البيضاء في يد البعض .. يبرز أكرم من حيث لا يدرون حاملا سكينا وصوته يعلو كالمجرمين بالشارع كله

" تتكلم عن أختي أنا يا مزور يا ابن الـ ... .. جئت لموتك يا ابن الـ.... "

تتسع عينا ألماسة وهى تصرخ بخوف

" أكرم "

جذب صوتها أنظار الجميع وهى تدخل مسرعة من الشرفة فتصطدم بأمها تصدها بجسدها تمنعها النزول هاتفة

" إلي أين تذهبين .. إلي أين في وسط الفضيحة ؟ "

لكنها لم ترَ أمامها وهى تبعد أمها وتخرج قائلة بقوة

" ابتعدي أمي أكرم سيضيع مجددا "

جلست الزهراء مكانها أرضا وساقاها لا تحملها تضرب على رجليها تصيح بصوتها المكلوم

" يا خراب بيتكِ يا زهراء .. يا خرابي .. يا خراب بيتك يا زاهد .. ابنتك ضاعت .. حسبي الله ونعم الوكيل .. منك لله يا فؤاد .. منك لله يا راسل .. يا رب .. أنت حسبي يا رب .. يا رب "

سمعت أصوات صراخ بالأسفل فتنهض متعثرة بلا قدرة تقول ببكائها المتحسر وهى تخرج إلي الشرفة

" أولادي ضاعوا .. أولادي ضاعوا .. حسبي الله ونعم الوكيل "

نزلت ألماسة إلي الشارع بملابسها التي خرجت بها صباحاً راكضة نحو أكرم تتمسك بذراعه صارخة

" لا يا أكرم .. لا تضيع نفسك من أجل هذا الجبان "

يعلو صوت أكرم مخيفا فوق صوتها وهو يدفعها بعيدا

" اصعدي إلي أعلى "

تقف أمامه تتشبث به فيقبض على ذراعها يبعدها نحو المنزل صارخاً
" ابتعدي "

في ثانية لا تُدرَك يبرق السكين في يد أكرم نحو فؤاد الذي سكن بتبلد نظراته الصقيعية الظافرة بعد عنف فيمنع عماد السكين بأخر لحظة قابضا على يد أكرم موقعا السكين ثم يتراجع للوراء مسرعا ليمد يده بحزام فؤاد يأخذ مسدسه مطلقاً عيارا ناريا في الهواء وصوته يعلو وهو يبعد فؤاد للخلف

" لا أحد يقترب "

تعلو الشهقات من الشرفات الممتلئة بالنساء والبعض يغلق شرفاته خوفا وسط كلام أهل الحي ..
لم يهتم أكرم ليتقدم نحوهما بعنفه فتقف ألماسة أمامه قائلة بصوتها العالي

" لا يا أكرم .. أخذ كل شيء .. سيضيعك أنت أيضا "

استدارت فجأة تنظر لفؤاد تهتف فيه بنبرة اخترقت كيانه

" ماذا تريد منا ؟.. لعنك الله .. لعنك الله "

صدى دعواتها يُرَد يطرق قلبه وعماد يقف أمامه يحميه رافعا المسدس لأعلى وأكرم يبعدها من ذراعها صائحا باهتياج

" قلت لكِ ابتعدي "

الإجرام يلوح على الوجوه وشريف يمنع الرجال من التقدم بأسلحتهم وفجأة اندفعت دموع توقف أكرم بنبرة قوية

" كفى يا أكرم .. الجميع يعرفونكم ويعرفون أخلاق ألماسة فلا تضيع نفسك "

تستدير نحو عماد وصوتها يعلو

" وأنتما اذهبا ويكفي ما فعلتماه "

بحركة حمائية معتادة لا يدركها أرجعها أكرم من ذراعها خلفه هاتفا بوجه دموي من شدة الغضب

" ابتعدي دموع "

لكنها تتصلب في الأرض أمامه ونظرة عينيها تأمره أمرا بصراخها الثائر

" كفى يا أكرم .. أقول لك كفى "

لم تنتبه لنظرة شريف إليها إلا بعدما انفض كل شيء !
يلوح عماد بالمسدس في وجوههم وهو يتراجع للخلف دافعا فؤاد ليقول بصوت متحفز مسموع للجميع

" إنه ليس في وعيه .. كل هذا الكلام كذب .. كذب "

بعض الرجال يمنعون أكرم التقدم وعماد يضرب فؤاد بكتفه قائلا بغيظ عنيف

" هيا امش أمامي .. هيا "

وصل فؤاد لسيارته ليستدير بحركة حادة خاطفا المسدس من يد عماد يشهره في وجه أكرم بنظرة مستفزة جعلت أكرم يثور مزمجرا ليبتسم فؤاد راكبا سيارته منطلقا بها بلا مبالاة مخلفا طاقة كارثية غير عادية ..
يتبعه عماد مسرعا بسيارته يخرج من الحي بضيق وغيظ وغضب تاركين الشارع لاهبا بنيران القلوب.


بعد منتصف الليل أوقف فؤاد السيارة تحت بنايتها ليستند برأسه على المقود لا يعرف لمَ فعل كل هذا ؟!
جنون تلبسه جعله فعليا غير مدرك لأفعاله .. أم إنه نجح في قتل أي مشاعر إنسانية بلا رحمة كما أراد ؟!
نزل بخطوات تجر نفسها جراً بطيئا ليدلف إلي البناية صاعدا إلي شقتها يطرق الباب منتظرا
لم تتأخر اسما في فتح الباب بعد أن نظرت بعين العدسة المركبة به لتعرف مَن بالخارج وقد كانت تقرأ بكتاب الله
تتفاجأ برؤيته بهذا التوقيت وملامحه الهامدة بعد جبروت فيفاجئها أكثر بقوله المتعب

" هل يمكنني النوم بجوار كريم الليلة ؟ "

لم يكن هو .. نظراته أرضا كأنه محارب مثخن بالجراح وينزف ولا يريد إيقاف نزيفه عله يرتاح من الدنيا
لم يكن بيدها منعه خاصة أن كريم يعاني حالة تشتت غريبة هذه الفترة .. ولم يكن لديها شيء لتخاف عليه الآن إلا ولدها !
وبدعوة صامتة مدت يدها مبتعدة عن الباب فدخل فؤاد مباشرة إلي غرفة كريم مغلقا الباب خلفه
يرى ولده نائما .. يرى النور رؤي العين يتحول إلي نارٍ شرارها يصل للسماء .. كل ما به يحترق ..
يقترب من سرير كريم لينام جواره دون أن يلامسه .. ومن حيث لا يدري سقطت دمعة على الوسادة .. قبل أن يغلق عينيه !.


انزعج كريم من القيد الذي يحيط جسده ففتح عينيه بضيق وحركة جعلت فؤاد يستيقظ فاتحا عينيه عن اخرهما حتى استوعب مكان وجوده ليقول بصوت متحشرج

" صباح الخير "

ينظر كريم لذراع أبيه التي تحتضنه باستغراب متسائلا

" كيف جئت إلي هنا ؟! "

اندفاع متدفق لكل أحداث الأمس عبر عقله بإحساس رهيب بالذنب لكنه يدفنه كالعادة قائلا

" اشتقت إليك بالأمس فحضرت لأنام جوارك .. ولا تعرف كم ارتحت في النوم هنا "

يقولها بصدق وهو يضع رأسه على كتف ابنه بأريحية يتلقاها كريم بحذر سائلا

" حسنا .. هل تحدثت مع أخيك عن الرحلة حول العالم ؟ "

ابتسم فؤاد وهو ينتبه لتذكره ما اتفقا عليه فيضمه أكثر بسؤاله

" ما رأيك آخذك الآن إليه لتحدثه بنفسك وتقابل عائلتك ؟ "

تحتار ملامحه الطفولية الجميلة مع شعره المشعث من النوم فينظر إليه متسائلا

" الآن ؟!!.. وهل ستذهب أمي معنا ؟ "

يجيبه فؤاد بنبرة رائقة كأنه ما فعل شيئا بالأمس

" سنسألها "

اعتدل كريم جالسا بقوله الحماسي

" جيد .. هيا بنا يا ... "

صمت عن نداء غريب على لسانه وفؤاد يراقبه بترقب متلهف فينطق كريم بتوجس

" فؤاد "

بعض الإحباط تمكن منه كأنه خبر مسبق .. لن تسمع أبي يوما !
يتجاوز شعوره بخيبة الأمل قائلا

" هيا يا كريم .. فلتأخذ حمامك وتبدل ثيابك وأنا بانتظارك لن اتحرك .. وسنفطر هناك "

ينزل عن السرير بمنامته القطنية راكضا للخارج بقوله

" حسنا "

بعد دقائق خرج فؤاد من الغرفة ليجد اسما جالسة تشرب قهوتها بأناقتها المعهودة .. ابنة ناس .. أخلاق وجمال .. كانت أصعب أنثى مرت عليه واحتاج وقتا طويلا ليوقعها .. ليضعفها ..
خطؤه معها جريمة .. وخطؤها معه ذلة
تلاقت أعينهما فيطل الكره منها صاعقا يجعله يخفض عينيه أرضا متظاهرا بتمسيد عنقه وهى تنظر له من أعلى إلي أسفل .. حين خرج كريم بملابس خروجه يحمل حقيبته على ظهره ويقف جواره ينظر إليها ببراءة فتسأل بجمود

" إلي أين تأخذه ؟ "

ربت فؤاد على كتفيه يجيبها بجدية

" لا تخافي .. ساعرفه بعائلتي .. هل تريدين المجيء معنا ؟ "

صمتت اسما لحظات تشرب أخر قهوتها ثم تضع الفنجان على الطاولة لتنهض قائلة

" لا .. ليس اليوم "

تقابل نظرات فؤاد الحادة بكرامة عالية وكريم يقترب منها هاتفا بضيق

" لماذا أمي ؟ "

عيناها بعيني فؤاد تجابهه وهى ترد على ولدها بحزم

" اصمت كريم .. هيا إلي غرفتك الآن "

يهتف كريم بحنق

" أمي !! "

تنظر اسما إليه نظرة صارمة مشددة على اسمه

" كريــــم "

يضرب الأرض ليدخل غرفته بغضب وفؤاد يقترب منها قائلا بنبرة تحذيرية

" أنا لن أضر ابني يا اسما "

كتفت ذراعيها بلا خوف لترد ببرود

" وما أدراني بنيتك ؟.. ربما تفعل كل هذا تمثيلا كي تأخذه وتتخلص منه .. لن تتحرك معه إلا تحت عينيّ "

كاد أن يقبض على ذراعها يسحقه لكن يده انقبضت على الهواء نافرة العروق ليرد من بين أسنانه

" أتخلص منه ؟!.. هل ترينني قتال قتلة ؟!.. هل أنا بهذه البشاعة لاؤذي طفلا ؟ "

ابتسامة ساخرة أعادت له ماضيه المخزي حتى الأمس وهى تجيبه قاصدة كل حرف

" أنت أبشع من هذا بكثير "

بإظلام عينيه انسدل حاجز قاتم آخر يغلف كيانه وهو يغادر بلا كلمة صافقا الباب خلفه .. وحاجز خلف حاجز أصبحت محاولة الولوج إليه شديدة الصعوبة .. لا شعاع نور قد يصل لأعمق ظلماته !.
............................................




وقفت اسما بحلتها الرياضية تراقب حال كريم المتبدلة بعد رحيل فؤاد وهو يجلس منعزلا يلعب بسياراته الصغيرة ولوحه الالكتروني في ركن من غرفته فتقدمت لتجلس على سريره بصمت وهو يتجاهل وجودها حتى سألها فجأة

" كيف لم يستطع الوصول إلينا كل تلك السنوات ؟ "

تنظر إليه فتدرك طوفان الأفكار المتناقضة برأسه وهو يتابع

" وحتى بعدما عاد لم يأتِ ليجلس معنا مثل باقي الآباء "

تدمع عينا اسما ولا تجد جواباً حقيقيا وهو ينظر إليها باتهام قائلا بغضب

" وعائلتي الكبيرة التي يتحدث عنها ألم تسأل عني ؟!.. ألم تستطع الوصول إلينا هى الأخرى ؟!.. هل انفصلتما وسافرتِ بي وسافر هو ونساني ؟!.. قلتِ لي أنه كان في سفر طويل ولم افهم شيئا .. وهو اخطأ وقال لي أنه أول مرة يراني دون أن ينتبه .. كنت اعلم .. لم يعرفني في النادي حين رآني أول مرة "

انتبهت اسما لفطنة ولدها وربطه كل ما يقال إليه معاً فتقترب لتجلس أمامه أرضا تضع يدها على كتفه تسأل بحيرة

" متى قال لك أنه أول مرة يراك ؟! "

نفض كريم يدها بتمرد دامع العينين بطفولة مجروحة ليجيب بعبوس

" قال لي أنه لا يعرف كيف يكون أباً .. أنني أول مرة أراه وهو أول مرة يراني أيضاً .. هل تكذبان عليّ ؟ "

مشاعرها تثور حنقا على ذلك الأحمق .. لم تتصور أن يكون بذاك الغباء مع طفل صغير فلا يحاسب على كلامه .. لكن واضح أن كريم الصغير يشل تفكير الثعبان !
سبحان مدبر الأمور وفارج الهموم .. يضع سره بأضعف خلقه
تهز رأسها نفيا لترد عليه بصدق حار

" ليس كذباً .. لكن أنا وهو بيننا بعض الأشياء التي علينا حلها وحدنا .. ولا نريد شيئا أن يؤثر عليك "

نهض كريم من مكانه متضايقاً فيركل السيارات وباقي الألعاب نافخاً قائلا بعصبية بالغة

" متى سأعود مدرستي ؟.. لا أريد أن أظل بهذا البلد "

تنظر اسما إلي وجهه الأحمر بخوف عليه فتقف تحاول معه بحذر

" ألم نقل أننا لن نسافر مجددا .. أننا سنعيش كعائلة مع أبيك ؟.. أنا انقل أوراقك إلي مدرسة جميلة هنا لكن علينا انتظار بضعة أشهر للفصل القادم .. اعتبرها إجازة صيفية طويلة حبيبي .. وساجعلك تقضي الوقت في تنمية هواياتك التي تحبها "

فجأة همد جسده يلهث بشكل غريب عاقدا حاجبيه بنظرة ناقمة فبدا نسخة من فؤاد وقت غضبه ليسأل

" أين عائلتكِ أنتِ أمي .. أليس لديكِ أب وأم وعائلة ؟! "

أجفلت قليلا والكلام يتقطع على لسانها

" لدي بالطبع لكنهم ... "

لم تقل شيئا صامتة بعجز ذنبها الذي اقترفته ضعفا لتتحمل نتيجته إلي اليوم .. وما ذبح قلبها ذبحا دموعه التي سالت وهو يقول بضعف
" لماذا اشعر أنني لست مثل كل الأولاد في سني ؟ .. اشعر أنكما .. أنكما لا تريداني "

اقتربت اسما منه سريعا تأخذه بحضنها قائلة بلهفة أم

" لا .. لا يا حبيبي .. ما الذي تقوله كريم .. هل قصرت معك في شيء من قبل ؟.. نحن نمر بتغيير في حياتنا لا أكثر "

دموعها تجري بألم الروح والضمير وهى تضمه وفي محاولة تماسك واهنة تنظر لوجهه الباكي بقولها
" استمع إليّ حبيبي .. سفرنا وابتعادنا غير اشياءا كثيرة بيننا وبين عائلاتنا .. وحين عدنا هكذا فجأة علينا انتظار إصلاح هذه الاشياء التي ستأخذ وقتاً ليس قصيرا .. لكن أيضا ليس طويلا .. سنجتمع جميعا وترى عائلتي وعائلة أبيك وتحبهم ويحبونك "

أنهت كلامها لتمسح على رأسه برفق تسأل
" هل يمكنك الانتظار قليلا بعد ؟ "

أطرق كريم برأسه بحزن يبكي القلوب فأخرجت هاتفها من جيب كنزتها تقول بابتسامة باهتة
" ما رأيك إذا اتصلت بفؤاد ليأتي ويأخذك ترى عائلتك ؟.. أنا موافقة "

ظل كريم صامتا بنظراته البريئة الحزينة وبعض القبول يتسلل إلي ملامحه الشبيهة بأبيه فتلوح اسما بهاتفها مؤكدة
" ساتصل "


توقف فؤاد بسيارته أمام منزل العائلة الكبير حيث اختاره ' راسل رافع ' ليكمل هو المسير بعده .. شرحت له اسما ما حدث ليؤكد كل كلامها لكريم عسى أن تهدأ أفكاره قليلا
مجبرة هى على التعامل معه ومجبر هو على التعامل مع الوضع بحكمة بعيدا عن تهوره المعتاد
بجواره يجلس كريم الذي انتبه للمنزل بانبهار فالتف بجذعه متشبثا بحواف النافذة ينظر منها للبيت الجميل وحديقته المزهرة
يطالعه فؤاد بابتسامة حزينة عليه !.. حزينة أن هذا الولد الجميل له أب مثله .. فقط لا يتمنى إلا أن يكون كريم أفضل .. ويكون هو أفضل لأجله وهذا ما يشك أنه سيحدث !!
ينزل من سيارته يشير له بيده أن ينزل فيترجل كريم ناظرا حوله وفؤاد يمد له كفه ليمسكها ويدخل معه
فتح فؤاد الباب ليخطو كريم أولى خطواته وقلبه يدق إثارة بحياته الجديدة
عيناه السوداء تتجول حوله برهبة حماسية في وسع المنزل حتى وقعت على فتاة شابة قصيرة القامة رقيقة الملامح والجسد اقتربت منه مبتسمة بقولها

" مرحبا كريم "

يده الصغيرة تضغط على كف فؤاد يستمد منها الدعم بلا وعي وهو يسأل بخفوت مهذب

" أنتِ رنوة ؟! "

تميل رنوة بجذعها نحوه فيحيط شعرها الخفيف جانبي وجهها وهى تجيبه بنعومة متلاعبة بشعره

" نعم أنا .. ما شاء الله أنت جميل جدا "

يداعب شهاب شعرها لينخفض أمام كريم واضعا يده على صدره يقبل خده ثم يقول ضاحكا

" اسمها وسيم يا وردة .. جميل هذه للأطفال لكن كريم رجل مثل عمه "

نظر كريم إلي فؤاد ثم إلي عمه مجددا ليقول ببراءة

" أنت عمي شهاب .. قال أبي أنك ستأخذنا في رحلة حول العالم "

ازدرد فؤاد ريقه بصعوبة وهو يسمع - أبي - عفوية من كريم دون أن ينتبه فتدمع عيناه بتأثر يخفيه سريعا بنبض القلب الهادر وشهاب يرد بحماس

" حقا ؟!.. جيد .. تعال إذاً لنرتب لها يا بطل "

ما إن تحرك كريم مع شهاب تاركاً يد والده حتى تقدمت عديلة لتأخذه بين ذراعيها إلي صدرها تربت على ظهره بغلظة وهى تقول بفرحة مبالغة .. جدا

" أهلا يا حبيبي .. أهلاً أهلاً يا ابن الغالي "

وجه كريم يمتلئ بقبلاتها الفظة وشهاب يشفق على الطفل من هذا الترحاب القاتل فيحاول سحب الولد من بين يديها تحت أنظار فؤاد النافذة للصبر وهو ينادي
" نصرة "

تهرول السيدة الممتلئة إليه من المطبخ فيسأل بملامحه الحادة
" جدتي مستيقظة أم نائمة ؟ "

اقتربت نصرة منه بنظرة غريبة لتستطيل بجسدها القصير تحاول الوصول إليه وهو يفوقها طولا فيخفض فؤاد رأسه متسائلا لتهمس في أذنه بحذر مريب
" مستيقظة لكنها قالت لي لا أريد رؤية ابن فؤاد "

تزداد حدة عينيه حريقا وهو يرفع رأسه يرمقها بنظرة قاتلة لكنها تستدير عائدة من حيث أتت لتتركه منقبض القلب وصوت بركة يتردد مجددا فجأة
( يا ويلي كيف سيداويك ؟ )

وبينما كان غارقا في أفكاره وجد كريم يتراجع مصطدما به ليتشبث بذراعه خوفاً بأنفاس مرتعبة فيحيط فؤاد كتفيه بحماية تلقائية منتبها إلي ما يخيفه ..
فقد كانت أمه السيدة ' تحية رافع ' تنظر إلي كريم برفض صارم وملامح جبلية لا رأفة فيها تخيف ابنه كما كانت تخيفه صغيرا !.
......................................




دخلت وصال غرفة يحيى في ضوئها الخافت تطمئن على نومه فتقترب تغطيه وتجلس جواره برضا وجهها تمسح على صدره بحنان وهى تتلو آيات من القرآن الكريم .. تحصنه بذكر الله وتقيه برحمة ربها ولا غيره – سبحانه – واقٍ
يفتح يحيى عينيه ينظر إليها بوجهه الأبيض الجميل مبتسما بقوله الناعس

" أنا ما زلت مستيقظا أمي "

تميل وصال على جبين ولدها تقبله بدفء فطري متسائلة بخفوت
" هل تحب أن تسمع شيئا ؟ "

يهز يحيى رأسه إيجابا فتتبسم وصال وهى تفكر فيما ستحكيه ثم أراحت جسدها أكثر لتنام جواره تحتضنه قائلة بصوتها الشجي
" ساحكي لك قصة رجل اسلم بعد عداء شديد مع الرسول عليه الصلاة والسلام .. وكان حين يسلم أحد المشركين تُطوى صفحة ماضيه تماما .. فلا يذكره أحد بما كان منه قبل الاسلام .. وكان سيدنا محمد صل الله عليه وسلم يعفو عنه كل ما كان منه مهما بلغت عداوته وقال { الاسلام يجب ما قبله } .. بمعنى أن الاسلام يهدم أي ذنب قبله حتى لا يشعر الشخص بالخوف من عقاب ما فات "

يومئ يحيى برأسه ويغمض عينيه في استرخاء حضنها وأصابعه تتلاعب بخصلات شعرها الناعمة وهى تتابع بصوت خافت

" سيدنا عكرمة بن أبي جهل .. ابن أبي جهل الذي حارب الاسلام وأذى الرسول كثيرا وكان ابنه عكرمة معه .. جاء يوم فتح مكة وحين دخلها الرسول أعطى الأمان للناس جميعا ما عدا امرأتين وأربعة رجال كان منهم سيدنا عكرمة .. بمعنى أن هؤلاء من شدة كفرهم وأذاهم المنتشر أباح الرسول عليه الصلاة والسلام دماءهم فإذا رآهم أحد فليقتلهم .. وكما تعلم أن النبي يأتيه الوحي من الله فكان إهدار دم سيدنا عكرمة خيرا له "

يهمهم يحيى لتتأكد أنه يستمع إليها فتواصل بنبرة تمثيلية مؤثرة

" حين علم سيدنا عكرمة أن النبي عليه الصلاة والسلام أباح قتله لم يعرف إلي أين يذهب .. ظل يمشي حتى وصل إلي البحر فوجد مركبا عليه بعض الناس فركب معهم ولا يدري إلي أين سيذهب به .. كل ما في عقله كان الفرار .. فجأة اشتدت أمواج البحر وكاد المركب أن يغرق .. وكان صاحب المركب مسلما فقال بصوت عالٍ { اعلموا جميعا أنه لا ينفعكم هنا آلهتكم التي تنحتونها من الحجارة ، وإنما لا ينفعكم هنا إلا الله الذي في السماء } .. فقال سيدنا عكرمة { والله لئن لم ينجني هنا إلا الله الذي في السماء فلله عهد عليّ ، إن انجاني من هذا أن ارجع إلي محمد فلأضعن يدي في يده فلأجدنه عفوا كريما } .. وبعدها هدأت الأمواج وعاد المركب إلي الشاطئ "

هدأت يد يحيى في شعرها فصمتت قليلا لكنه تذمر بصوته النائم

" تابعي أمي ماذا حدث .. هل ذهب لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ؟ "

عادت تبتسم تمسح على شعره وهى تكمل البقية

" في نفس الوقت كانت أم حكيم زوجة عكرمة عند سيدنا محمد وأعلنت اسلامها .. وكانت تحب سيدنا عكرمة كثيرا فقالت { يا رسول الله ألا تُؤمِن عكرمة حتى يأتي ويُسلِم بين يديك } .. فلما رأي سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ذلك الحب من الزوجة لزوجها قال { قد أمنته يا أم حكيم } .. فذهبت تبحث عن عكرمة قالوا لها ذهب إلي البحر .. فوصلت إلي البحر في نفس اللحظة التي عاد فيها المركب إلي الشاطئ .. وعندما حكى لها سيدنا عكرمة عما حدث معه وعن عهده لله قالت له { والله لقد عفا عنك النبي صل الله عليه وسلم } .. فذهب عكرمة إلي رسول الله ووقف أمامه في خجل بما فعله لأكثر من عشرين عاما ليسأله بحياء { أيغفر الله لي ما قد مضى ؟ } .. فابتسم النبي وقال له { يا عكرمة أما علمت أن الاسلام يجب ما قبله ، وأن الحج يجب ما قبله ، وأن الجهاد يجب ما قبله } ... فانشرح صدر سيدنا عكرمة بالنور ليقول { والله يا رسول الله ما وقفت موقفا في عداوتك إلا وقفت أضعافه في نصرتك ، وما أنفقت نفقة في عداوتك إلا وأنفقت أضعافها في نصرتك } "

تشعر بانتظام أنفاسه نائما فتضم نفسها إليه أكثر تغطي نفسها معه مريحة رأسها على الوسادة بقولها الخافت

" وعاش سيدنا عكرمة رضى الله عنه حتى استُشهِد بمعركة اليرموك يحارب في صفوف الاسلام وكان يحب النبي كثيرا والنبي يحبه .. كان بطلا عظيما قدم روحه للجهاد في سبيل الله .. رضى الله عنه وعن صحابة الرسول صل الله عليه وسلم جميعا يا يحيى "

أغمضت عينيها لتضيع في سبات عميق بعد إرهاق يوم طويل غير منتبهة لوقفته ..
استمع عماد إليها وهى تحكي بطريقتها الروائية المميزة تجعل يحيى وهو نفسه منتبهين إليها تماما .. منذ بدأ يحيى يفهم بعض الاشياء في دينه وهى عملت على تقوية تلك النقطة بما يتناسب مع سنه .. فبدلا من أن تحكي له قصص طفولية غير مجدية صارت تنوع بين قصص الرفاهية وقصص التعلم الحقيقي في نشأة سوية تريدها ليحيى
تريدها له لاخر عمره بعد أن ذاقت ويلات الحياة مبكرا وكادت أن تقتل يحيى قبل أن ترضى به !
وفي ذكراه لا ينسى كيف أرادها كما لم يرد شيئا بتلك القوة .. أرادها حياة مُدمَرة مثله ويعيدها من جديد .. هى مَن أعادت له رغبة الحياة والتمسك بشيء والإيمان به والأمل فيه بعد رحيل سلاف ورغبة قتل ليلة
‏لم يرد فيها أنثى سطحية مصابة .. أراد جوهرا نقيا براقا طمسه أحدهم في غدرٍ ظالم .. تزوجها و- اكتفى – بها امرأته .. اكتفى تماما بها كأنها قضية عمره .. يصلحها ويداويها ويساندها .. حتى أيقن بعد عام كامل أنها لن تكون له بإرادتها .. فالتمست – رجولته – سحرا أنثويا رآه حين رأى روينة !!
‏وذكرى خلف ذكرى .. يمر الطريق أمامه كما بذلك اليوم

طريق مظلم كروحه تتوه عيناه فيه من خلف زجاج السيارة .. يجلس جوار صاحب شركة العامري حيث يعمل .. ’ كامل العامري ’ رجل تتلمذ على يديه كثيرون عملا وحياة
ليلة على ذمته منذ عدة أشهر .. تقريبا ستة أشهر من الغضب الذي لم يجربه قبلا .. كل نظرة بوجهها جحيم يحرقه راغبا بثأر يرى فيه دماءها
أصله البدوي وكل أعرافهم وتقاليدهم تثور وحوشا في عقله .. لم يرَ بحياته فجورا أكثر من أن تغدر بأهلها في دارهم .. تغدر بوالدها الشيخ ووالدتها ابنة الأصول .. خطيئة !.. هل الأمر هين ليكون اسمه فقط خطيئة ؟!
إنه فاجعة .. غاشية .. نكبة هلاك
ليلة طامة حملها وحده وستظل هكذا إلي أن يشاء الله أن تمضي لسبيلها .. لكن لا مساس لتلك المحنة الملوثة
وهى .. بكل وقاحتها تكرهه .. تكره عائلتها ولا تطيق أصلها .. تنظر له بغضا وخوفا أن يقتلها يوما ولا تأمن له حتى بعد تلك الأشهر التي سترها
أنفاسه تتباطأ بموت الحياة فيه وطعم المرار بفمه وموت سلاف منذ عام ونصف فقط يؤرق خلاياه .. تنام العين والقلب يتوجع والروح تنكوي بشهب الفراق
أجفل وهاتف كامل العامري يرن جواره وحين رد انقلب وجهه تماما ليهتف

" حاولت إجهاض نفسها !! "

استمع إلي محدثه قليلا ثم قال بنبرته الداعمة

" اهدأ أنا قادم إليك .. مسافة الطريق سأكون معك "

أغلق الخط ثم التف عائدا بالسيارة بالطريق الآخر وهو يقول له بجدية صوته الأبوي بطبيعته

" عليّ الذهاب إلي مشوار هام عماد .. إذا أردت أن تأتي معي سيكون هذا الأمر سرا بيني وبينك .. أتفهمني يا عماد ؟.. هل تريد أن تأتي معي أم تنزل أنت ؟ "

انتبه عماد إليه ليرد بمؤازرة حقيقية

" سآتي معك بالطبع سيد كامل .. لعلك تحتاجني هناك "

ازدادت سرعة السيارة في طريقها نحو المشفى .. نحو قدرٍ آخر ..
لقد كان بدون أن يعلم على موعد ليلاقي .. وصال.

وصلا إلي المشفى العام في دقائق معدودة ليتوجها نحو الغرفة الكبيرة التي تضم أشخاصا عدة على أسِرة متجاورة يفصل كل منهم عن الآخر ساتر قماشي سميك
يتقدم كامل العامري من رجل ما في جلسته المهمومة أمام سرير ابنته الشابة الصغيرة فيربت على كتفه بقوة ليقف الرجل يحدثه بصوت خفيض لم يسمعه عماد ..
كل ما كان بعقله أن يفهم الأمر .. أن يرى وجه تلك المستلقية ألماً
اقترب من السرير دون النظر للرجل ليلتف حوله يطالع وجهها .. وسكن مكانه !.. سكن غضبه .. سكن الثأر !
وجهها الأبيض كنعومة الحليب مخضبا بحمرة الجمال .. حمرة الوجع والدموع .. شعرها مفرودا ظاهرا من تحت وشاح تراخى عن رأسها ليترك تاج أنوثتها لامع الخصلات
كانت أجمل فتاة تراها عيناه بعد عشقه الوحيد الراحل .. وحين فتحت عينيها فجأة مذعورة اختضت روحه لتدب الحياة في عروقه مجددا .. عينان خضراوتان كالزمرد في أبهى صوره
لم ينتبه إلا على صوت الرجل المقهور خجلا

" سيد عماد !! "

نظر عماد إليه بعد أن كان يوليه ظهره فيعقد حاجبيه باستغراب قوله

" عم طاهر !! "

لقد كان طاهر .. الرجل الذي لم يرَ بطيبته .. ساعي شركة العامري لسنوات طويلة
أعاد عينيه نحو تلك الراقدة الشبه فاقدة لوعيها فلا يميز من كلماتها إلا هذيانا هامسا وهى تضرب على بطنها باكية بضعف متألم

" لا أريده .. لا أريده .. أرجوك أبي أرحني من هذه الدنيا .. أنا مت أبي فاقتلني لارتااااح .. اقتلني واقتله .. لا أريده .. أنا ساقتله بيدي .. بيدي .. أنا ميتة .. ميتة "

نظر عماد حوله للمرضى بقلب ينشق مفجوعا بوجيعتها ليعيد نظره للرجلين أمامه ثم إليها مجددا ..
ماذا يفعل هنا ؟!.. كيف أتى ؟!.. ولمَ هو ؟!
لقد كان القدر يظهر له سطراً آخر مما كُتِبَ على جبينه .. وكان الفاصل .. كلمة ضميره.



............................................
صباح يوم غائم

جالسة على سريرها بسكون قاتم مريب .. قناع صلب مخيف يغطي وجهها .. لم تنم والعزم يشعل أوردتها
عيناها جامدتين ساهمتين منذ ساعة .. ساعة كاملة تدور مع طواحين أفكارها .. لأول مرة بحياتها تفكر بهذا الشكل ، ترتب وتخطط .. لأول مرة تكتشف أن لديها تلك القدرة على الالتفاف الخبيث
فيها منه !.. اكتشفت أنها تشبهه لكن بدرجة أقل !.. لكن لديها تلك القدرة على الخدش .. قلبها لم يعد يعرف شفقة .. تشعر بقسوته كأنها تلمسها حية
وقرارها اليوم هو مصير حيوات عدة .. كانت ستسافر بلدتها أولا لكن انحرف قرارها حين جاءها .. جاءها ستأتيه !.. والبادئ أظلم !
رمزي .. شهاب .. رنوة .. هدفها اليوم ولا انكسار مهما فعل !!
أمسكت هاتفها لتقوم بثاني خطواتها بعد أن قامت بالخطوة الأولى وعرفت من المصنع عنوان منزله فترسل رسالة

( مرحبا علي كيف حالك حبيبي ؟.. أريد سيارتك لأمر هام )

بعد دقائق حين رأى الرسالة أرسل لها

( بخير يا ماسة اشتقت إليكِ .. حسنا تعالي وخذيها بأي وقت )

قرأت ألماسة الرسالة لتضع هاتفها جانبا وتسكن تماما .. حتى يحين الموعد !!.

" عذرا .. هل الدكتور رمزي والآنسة رنوة بالداخل ؟ "

يقترب رجل الأمن من تلك السيدة الآنيقة بجمالها المميز ليرد على سؤالها باحترام

" الآنسة رنوة بالداخل لكن الدكتور رمزي لم يصل بعد "

عقدت حاجبيها متظاهرة بتفكير قلق لتسأل

" آه الدكتور رمزي ليس بالداخل .. إذاً هل أجد أستاذ شهاب أو فؤاد ؟ "

يجيبها الحارس باهتمام لبق

" سيد فؤاد يحضر ليلا وسيد شهاب ليس بالداخل أيضا لكن موعد وصوله بعد قليل .. تفضلي .. اخبرهم مَن حضرتكِ ؟ "

فجأة رن هاتفها لتقول بنبرتها المترفعة

" شكرا لك .. سأرد على هاتفي أولا "

سارت ببطء وهى تطفئ نغمة الهاتف التي شغلتها بنفسها بعد أن عرفت ما تريد وحين تأكدت أن حارس البوابة عاد مكانه أسرعت الخطى نحو سيارة علي التي أوقفتها بعيدا لتجلس فيها منتظرة تراقب البيت ناظرة للساعة .. الرابعة عصرا .. فلتنتظر !

انتظار .. انتظار .. الساعة الخامسة والنصف .. لمحت شابا يدخل المنزل ميزت أنه شهاب
غابت الشمس .. ودعت الأفق ناشرة شذى الشفق ليوم راحل وليلة قادمة .. ليلة صعبة !
انتظار .. الساعة السابعة .. دخل رجل تعرفت على ملامحه من بعيد ومن ذكريات طفولتها أنه رمزي
تبقى هو .. وهم !
أمسكت هاتفها لتتصل بأكرم وحين فتح الخط قالت بجمود

" أنا عند فؤاد ببيته يا أكرم .. أريدك أن تأتي لتأخذني حالا .. سأرسل إليك العنوان "

ارتفع صوت أكرم بحدة متسائلا عما حدث لها لكنها أغلقت الخط لترسل رسالتين .. إحداهما إلي أكرم بالعنوان ..
والأخرى إلي الرقم الذي حفظته على هاتفها حين اتصل يستفزها قبل القضية

( أنا عند بيتك .. تعال لننهي كل ما بيننا الليلة )

تبقى هاتفين !.. يجب أن يتزامن كل شيء معا كما خططت له !
بحثت عن رقمه بالفعل لتتصل به مرة ولم يرد .. للحظات توترت بشدة لأنه أهم مَن بالأمر لكنها عاودت الاتصال ثانية وثالثة حتى فتح الخط بنبرته الباردة المعتادة فتمالكت أعصابها المشتدة لتقول ببرود مماثل

" عمي قاسم .. اسبقنا على بيت فؤاد .. أنا وأكرم ذاهبين إليه وقد تحدث كارثة تحكي عنها عائلة الرافعين جميعها "

أغلقت الخط على صوته الغاضب وهو يصيح بقوة كأنه ما فعل شيئا أبدا
الهاتف الأخير .. تركته للنهاية .. تركته حتى تستمد دعماً من صوتها الحنون .. لتتأكد أن روحها ما زالت تحمل الخير كما تحمل الكيد
طلبت رقم الزهراء لتنتظر الرنين لحظات جعلتها تود لو تغلق المكالمة وتخرج أمها من الحسابات .. وحين أوشكت على فعلها فتحت الزهراء الخط بسؤالها الرقيق الحزين بما حدث

" أين أنتِ ماسة ؟.. لمَ خرجتِ اليوم ؟ "

شفتاها تتردد لكنها تطبق قلبها على الألم لتقول بهدوء

" أمي لا أريدكِ أن تقلقي .. ساخبركِ شيئا .. أنا وأكرم ذاهبين إلي فؤاد ببيته .. أريدكِ أن تأتي إلينا .. لا تتعجلي ولا تقلقي .. اعلم أنكِ تعرفين العنوان "

ككل مرة لا تسمح لأحد أن يناقشها أغلقت الخط هذه المرة رغما عنها .. تخاف أن تسمع صوت أمها أكثر فتجهش بكاءا متراجعة
هاتفها يرن بلا توقف .. أكرم .. فؤاد .. عمها .. أمها .. فأغلقته تماما تاركة كل شيء يسير بلا تفكير بعد الآن
وانتظار أخير .. نصف ساعة فقط ورأت سيارة مجنونة تمر برقا لتتوقف أمام المنزل وينزل فؤاد منها بكل همجية يدخله .. بعدها بدقيقتين تقريبا رأت أكرم ينزل من سيارة أجرة بغضب شديد ويدخل المنزل دافعا حارس الأمن الذي أراد منعه
لحظات وسيأتي عمها .. لحظات وستصل الزهراء .. الآن بيديها كل الأطراف ..
الدائرة تبقى لها القليل وتكتمل .. وتنغلق !
نزلت ألماسة من السيارة راسخة النظرات بكبرياء الجبال .. وبكل ثباتها كانت تتقدم من المنزل ..
لقد كانت هى هذه المرة .. خارجة عن السيطرة .. تماما !!.







انتهى
يتبع بالفصل العاشر ....


نورهان عبدالحميد غير متواجد حالياً  
التوقيع






رد مع اقتباس
قديم 03-04-20, 12:59 AM   #503

نورهان عبدالحميد

نجم روايتي وكاتبة بمنتدى قلوب أحلام وقصص من وحي الاعضاءوألتراس المنتدى الأدبي وبطلة اتقابلنافين؟وشاعرةوقلم ألماسي برسائل آدم ومُحيي عبق روايتي الأصيل وقاصة هالوين

 
الصورة الرمزية نورهان عبدالحميد

? العضوٌ??? » 300969
?  التسِجيلٌ » Jul 2013
? مشَارَ?اتْي » 2,663
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » نورهان عبدالحميد has a reputation beyond reputeنورهان عبدالحميد has a reputation beyond reputeنورهان عبدالحميد has a reputation beyond reputeنورهان عبدالحميد has a reputation beyond reputeنورهان عبدالحميد has a reputation beyond reputeنورهان عبدالحميد has a reputation beyond reputeنورهان عبدالحميد has a reputation beyond reputeنورهان عبدالحميد has a reputation beyond reputeنورهان عبدالحميد has a reputation beyond reputeنورهان عبدالحميد has a reputation beyond reputeنورهان عبدالحميد has a reputation beyond repute
?? ??? ~
ليعي البشر السر العظيم... فان أرادوا حياة ...فليفسحوا في قلوبهم مجرى ...لنهر من الحب .
افتراضي

البريق العاشر

صباح يوم غائم .. الحادية عشر صباحا

تنظر دموع إلي الصندوق الخشبي حيث تضعه بشرفة الشقة للهدية الاستثنائية التي أهداها لها منذ عشر سنوات .. كانت رمزا مضحكا لها لأنه دائما كان ينعتها بالبطيئة فأهداها .. سلحفاة !
سلحفاة في صندوق مزخرف مملوء بالرمال وأوراق الأشجار لتكون شبه بيئة طبيعية للسلحفاة .. ولأن السلاحف تمتاز بطول العمر تحمد الله أنها معها إلي اليوم .. تعتني بها كروح صغيرة مسؤولة منها
وضعت المياه في مكانها ونظفت الصندوق لتبتسم بحزن وهى تقف متنهدة بإرهاق .. شريف لا يخاطبها منذ يوم شجار الشارع حين اوقفت أكرم .. رغما عنها لم تحتمل وهى ترى الأسلحة بأيديهم والسكين على الأرض يريد الوصول إليه
ليست عِشرة يوم لتنساه .. بل أربعة عشر عاما حباً صافيا لا يخفت
تسقي الزروع الموزعة في الشرفة كما اعتادت لتتوقف ملامسة أشواك الصبار بحذر .. دائما جرحتها كلما نظفتها مهما أخذت حذرها
ترنو عيناها نحو ورشة الميكانيكا لتلتقي بعينيه وهو ينظر إليها كأنه على موعد ري قلبه هو الآخر
بنظرة تذكرها أنها منه وله مهما حاولت الانفصال
أناني .. صارت تدرك عن يقين أنانيته وهو يريد وجودها جواره بلا سبب
وبنظرة هادئة باردة استدارت لتدخل الشقة تمسك بهاتفها وتطلب رقم شريف .. رنين .. رنين .. ثم فصل الخط .. كأنه يخبرها عمدا أنه رأى اتصالها وفصله
دخلت دموع تبدل ملابسها لترسل إليه رسالة

( من فضلك شريف اريد رؤيتك .. سأكون تحت البناية بعد ربع ساعة )


بعد ربع ساعة ظلت واقفة في فناء بنايتها وقد تأخر عليها بغير عادته .. الكمان على كتفها ولديها تدريب بالفرقة اليوم
بعد عشر دقائق أخرى علمت أنه لن يأتي فخرجت لتذهب في طريقها أمام أنظار أكرم وقد تنبهت حواسه لوجودها بالشارع فوقف ينظر إليها بحنين على باب الورشة متذكرا وقفتها أمامه كل مرة للدفاع عنه .. وخذلانه لها كل مرة لحمايتها منه
غافلا عن عينين تكاد الفتك به لتجرأه على ما لا يملكه .. اقترب شريف بسيارته منها ليتوقف جوارها تماما فتجفل وهى تنظر بعبوس شديد إلي الفاعل ثم هدأت ملامحها أمام غضب وجهه
التفت حول السيارة لتركب وينطلق بها فيرمي أكرم منشفة بيده أرضا ويدخل الورشة لا يطيق نفسه !.

سار شريف بسرعة عالية نسبيا حتى خرج من الحي ليصل لمنطقة هادئة مطلة على البحر ويتوقف جانبا متسائلا بنبرة باردة صارمة

" لماذا تريدين رؤيتي ؟.. تكلمي لأن ليس لدي وقت .. عليّ تحضير حقيبتي للسفر "

تنظر دموع إلي جانب وجهه الصخري القاسي فتسأل بهدوء

" ألم يتبق على سفرك ثلاثة أيام ؟ "

زفر شريف بخشونة ليرد بنفس النبرة

" جاءني أمر من قائد كتيبتي وعليّ العودة "

لا تعلم لمَ نغز الخوف قلبها فجأة فتدمع عيناها وهى تهمس معاتبة بضعف نادر لها

" وكنت ستسافر دون إخباري ! "

لم يرد مشيحا بوجهه بعيدا عنها وضعفها يصل إليه حريق قلب يوهن ثباته فينزل من السيارة صافقا الباب بقوة جعلتها تهتز .. لتنزل دموع تلتف للقاء عينيه الداكنة الغاضبة تسأل بحرقة وتشتت

" لمَ تفعل هذا بعدما اقتربنا ؟ "

صوتها يضرب قلبه عواصف راعدة فيلاقي عينيها المُعذَبة متسائلا بضيق وغضب مكتوم

" تسألين ؟! "

في جوف روحها اعتراف يخنق أنفاسها فيفيض عذابا على وجهها وهى تقول بشقاء القلب

" حسنا أنا معترفة أني اخطأت .. لكنه لم يكن يوما ولقاءا عابرا .. كان ارتباطا وثيقا لأربعة عشر عاماً .. كيف تريدني أن انساه بهذه السرعة ؟ "

بلحظة كانت دموع أخرى تُذرَف بيأس ينال من رجولته .. كانت أضعف من أن تصمد أكثر
وبلحظة كانت عروقه كلها تنفر تكاد تنفجر ببركان غضبه هاتفا بكرامة تزأر

" اصمتي دموع .. أنتِ لا تدركين ما تقولينه "

لا تصمت وهى تفتح جرحها وتتعمق بمرضها فيخرج كلامها كهذيان حاد

" لا .. ادرك تماما .. واعرف أنك الوحيد الذي لا يجب أن يسمع هذا مني أو عني .. لكن مرت سنوات عليّ وأكرم يجري في دمي .. تلك الدماء اندفعت بعيون عمياء عن أي شيء إلا إيقافه حتى لا يؤذي نفسه ذلك اليوم "

تفيض ملامحه بمشاعر ثائرة اخافتها للحظة وهو يهدر بعينين مشتعلتين وعرق جبينه يرتجف بقوة

" اصمتي "

تتشبث بمواجهة تحتاجها معه غامرة نفسها بنقائه فتصارحه بحدة عاطفتها

" لا .. اريدك أن تساعدني .. ألا تحبني ؟.. أنا اخترتك بعقلي كما قلت لي أول مرة تحدثنا .. لكنني واثقة من اختياري ومقتنعة بك .. بل أكثر من هذا شريف .. كياني كله يرغب أن يكمل معك أنت "

تتسع عيناه بخطورة مقتربا منها يسرق أنفاسها يشرب تعابيرها وسواد عينيها يتعمق كفضاء يحترق ونبرتها تحترق لكنها تضج صدقاً

" أنت الرجل الوحيد الذي حين أقول عنه ( رجل ) فإني أصفه بحق .. أنت الرجل الوحيد الذي لن اشعر بالأمان إلا معه الآن .. أنت دخلت حياتي لتجعل أفكاري كلها تتشبث بك .. تريدك أنت وحدك .. أنت الآن تكملني .. تشبهني .. فلا ترحل حين تزل قدمي وأقع .. بل ساعدني على النهوض لنكمل الطريق معاً "

أوردته كلها تنتفض ودماؤه تتضارب برأسه وقلبه يطرق أضلعه وروحه تتلوى في عشق جامح كخيل ينطلق في ترحاب وجودها
وكل هذا يتجسد بملامحه مشتعلة المشاعر فلم تره هكذا يوما .. يرفع يده بارتجاف ثائر يريد لمس وجهها لكن يده تتراجع وتنقبض على هواء بارد قبل أن يمسك بيدها يطبق عليها بقوة كفيه الاثنتين العنيفة ثم يرفعها ليستند عليها بجبهته مغمضا عينيه باحتراق الحب داخله
وهى كانت تعترف بمرضها وتطلب منه الدواء
دموعها تسيل وانتزاع أكرم من داخلها كانتزاع روح طالحة من جسد .. عذاب .. عذاب خالص
ترفع يدها الأخرى تحيط كفه لتستند بجبهتها مثله على تلك القبضة التي مثلت صمودهما معا
تتشبث بحباله المنجية تقاوم التيار ضد جاذبية الماضي هامسة بعذوبة صوتها وعذابه

" تعال معي للتدريب .. أريدك أن تسمعني اعزف .. ساعزف لك شريف .... راقب كل وتر يرتجف في الكمان اليوم ... ساجعله يرتجف لك أنت شريف .. لك أنت وحدك "

يومئ برأسه على قبضتهما وفيض أنوثتها يغمره حرا برغبة فوضوية إليها .. كل حواسه كرجل تجتاحها دموع .. كل مشاعره تشتعل راغبا بقلبها ملكه
كرامته ترضى وكبرياؤه تسامح وهى ترجوه علاجاً لعشق تشعب بأعماقها .. لن يلومها بل سيداويها .. ألم يتشعب عشقها بأعماقه هكذا وأكثر ؟
وبوعد حر اقسم داخله أن دموع له .. لنهاية العمر.




.............................................
الثانية عشر ظهرا

فتحت فجر باب شقتها لتخرج وتغلقه بالمفتاح ذاهبة إلي تدريب الفرقة .. تعدل نظارتها الطبية التي ترتديها نادرا على أنفها وتنزل أول درجة من الدرج بتنورتها الأنثوية و كلاسيكية أناقتها بالحجاب
عندما انفتح باب الشقة المقابلة ليخرج زايد منه قائلا بوجوم

" أنا لست فاشلا .. إذا عاندتني الظروف وعدت كما ذهبت فهذا لا يعني أنني أنا الفاشل "

شعور الذنب يراودها مجددا فتقمعه وهى تلتفت إليه واقفا بجسده الضخم فترد ببرود

" هذا لا يخصني "

تحرك زايد وشعره مفرودا على كتفيه بجاذبية رجولية لبدائية محببة المنظر فيجلس على الدرج قائلا بنبرة تحمل الكثير

" لأنكِ حققتِ ما تريدين لا تدركين معاناة الآخرين الذين يصلون كل مرة إلي حائط سد .. كل فرصة وكل أمل ينغلق في وجوههم .. سواء هنا أو بالخارج فجر .. نفس الشقاء .. معاناة البسطاء الغير شغوفين بالدراسة مثلكِ .. أو لا يجيدون عملا يجلب لهم قوت يومهم .. معاناة بائع المناديل الصغير الذي ناديتِ عليه في الشارع ذلك اليوم "

عيناه الداكنة تتعمق بحزن غريب مهموم .. خوف !.. صوته يحمل خوفاً بعيداً .. هارباً من روحه !
لطالما كان شابا مختلفا .. طموحاً لدرجة عدائية لكل ما يعارض أحلامه
سافر منذ سنوات طويلة تاركا أهله بحسرة غيابه لكنهم لم يقفوا في طريق طموحه .. لكن عودته بهذا الشكل تثير فيها هى نفسها حزنا فكيف به هو ؟
عادت تصعد تلك الدرجة لتتقدم منه قليلا بقولها الجاد

" أنت تعرف أني لا اقصد هؤلاء وإلا ما كنت ناديت على بائع المناديل ذلك اليوم "

شبه ابتسامة ساخرة تلوح بملامحه كلها لا شفتيه فقط متسائلا

" تقصدينني أنا فقط أليس كذلك ؟ "

تتنهد فجر وإحساسها بمسؤولية وطن ينبض .. تعتبر نفسها محظوظة أنها رأت ثورة مليونية بعينيها بل وشاركت فيها .. رأت مَن نزل يحمل روحه على كفه حقاً ومَن نزل زيفا ليلتقط بعض الصور أو يدعو لحملة انتخابية قادمة !!
لطالما أرادت التواجد زمن ' هدى شعراوي ' وانتفاضة النساء .. زمن ' أحمد عرابي وسعد زغلول ' وانتفاضات الشعب
هذا ما زرعه أهلها بها قبل وفاتهما .. والدها كان أستاذ التاريخ بمدرستها الثانوية .. والدتها كانت أستاذة اللغة العربية بنفس المدرسة ..
كانوا أساتذة حقيقيون قبل أن يذهب الأستاذ للبيوت لإعطاء الدروس الخصوصية وشرب الشاي من يد أهالي التلاميذ !!
ليس غريبا كيف شكلا وجدانها واسلوب تفكيرها منذ الصغر .. لذلك اقتربت منه وهى تقول باقتناع وصدق

" ليس أنت وحدك .. بل كل شخص يكره وطنه .. هذا البلد الذي مات من أجله أشخاص .. أتضيع دماؤهم هدرا يا زايد ؟ "

بجلسته على الدرج مستندا للجدار يحدق بعينيها تحت نظارتها ورغم الظلام النسبي لطابق البناية كان لون عينيها واضحا .. بنيا به آشعة عجيبة كأنها شمس تتوهج داخل عينيها
حاجباها أيضا بلون بني داكن لكن واضح .. ذلك اللون الذي يناسب مصرياتها .. يناسب ضفاف النيل ومعابد الفراعنة ورمال صحراء الوطن
لون تميزه تلك القوة التي رآها بعينيها أول مرة .. قوة الفراعنة .. لحفيدة الفراعنة المصرية
‏ابتسامته تتلون بحنين قديم لذكريات طفولية عدائية بينهما رغم قوله القاتم

" ولمَ اهدروا دماءهم أصلا من أجل بلد لا يعنيه أمرهم ؟!.. الوطن هو الذي يضم ابناءه لا الذي ينبذهم منه .. الوطن هو الذي يعتني بأطفاله لا يتركهم يبيعون مناديل في الشارع "

تعقد فجر حاجبيها بضيق شاعرة بذاك الوطن يصرخ من ألم الظلم والقهر .. إحساس يتردد صداه في كيانها الذي تربى أن مصر حية مثلنا .. تتنفس حرية وتتألم قمعاً وتحارب وتعافر لتصمد
تكاد سماع تلك الصرخات تدوي على سفوح الأهرامات علها تصل للفضاء العريض الذي صار يتسع فقط للأغراب
بكل إحساسها يخرج صوتها بصدى مصر تتحدث بلسان امرأة حرة

" وما ذنبه ؟!.. ما ذنبه إن كان شعبه لا يهتم به ؟!.. إن كانوا يسحقون الوطن وهو يصرخ ولا أحد يرحم .. إن كانوا يهدمون ذلك الكيان المسمى مصر .. العيب في شعبها لا فيها يا زايد .. الشعب الذي صنع الحاكم الامبراطور وصنع اللص السافل وصنع الفقير في العشوائيات .. مصر تصمد .. والشعب يدهس .. مصر أكبر .. أكبر بكثير "

عيناه تتسع قليلا متفاجئا بصدقها لتلك الدرجة وكلماتها تصل عميقا به .. لطالما كانت فجر أنثى مختلفة
أنثى ليس كل همها الوقوف أمام مرآة زينة وجهها .. بل الوقوف أمام مرآة زينة روحها
لم ترض يوماً بجهل واكتفاء بتعليم دراسي لا امتداد له .. بل أحبت علماً وثقافة لترفع رأسها بقيمة فريدة وسط الناس
وإن كان يدرك بطريقة ما أن الناس اخر ما تفكر به ، لكنها أرادت قيمة في وطنها
شعوره بها يتشكل بتميز فريد مثلها فيبعد ذلك الشعور بمرارة المستقبل المجهول له قائلا بنظرة مظلمة

" ستظلين تزرعين بي إيمانكِ بالوطن وسأظل أنا كافر به "

حتى لغته الغربية ومصطلحاته ترهقها نفسيا .. وتلك المسؤولية ترهقها أكثر .. كأن بلدها يعطيها اختبارا آخر بعد اختبارها الأول ووفاة أهلها
هذه المرة الاختبار يتجسد في هذا الكاره الناقم .. هذه المرة واجبها ليس أن تحكي تاريخ الأجداد للطلبة .. بل أن ترشده هو لطريق حب الوطن
تشعر بكل طاقاتها تبدأ شراراتها ككل مرة تلقي فيها إحدى القصائد .. بصوتها المؤثر تنثر إيمان روحها عليه

" هنا .. لو وقعت في الشارع ستجد ألف يد تساندك .. هنا ذلك الدفء الذي يملأ القلوب .. الإيمان الذي لن تراه في غربة موحشة باردة .. جافة كأنك لا تعيش إلا خريفا قاحلا لا تشرق عليه شمس صيف .. ولا يناله غيث مطر "

وصفته .. هذا إحساسه تماما بعد سنوات هجرة .. كأنه ما عاد يعرف لحياته فصولا إلا الخريف وهو يسقط ذبولا مع أوراقه
نبض قلبه يعلو بألم شباب يضيع وهو يقف يفوقها طولا فيقترب منها قائلا بهدوء قناعته هو

" ذلك الوطن سيظل بخير طالما فيه أمثالكِ .. أما أنا سأعود من حيث أتيت .. سأظل شاردا ولن انتمي إلي وطن إلا الذي سيحتويني .. سيعينني ويأخذ بيدي .. يا مصرية "

اطلقت نفسا طويلا مقررة التوقف عن الكلام وهى تنظر إلي وجهه ترى أملا لا يراه هو فتطرق عقلها فكرة لكنها تراجعت لتستدير وتنزل الدرج مجددا لكن ..
الفكرة تلح عليها أكثر فالتفتت على منتصف الدرج متسائلة

" ما رأيك إذا أتيت معي ؟ "

يتعجب زايد يسأل باستغراب

" إلي أين ؟! "

ابتسمت لأول مرة في وجهه لترد بنظرة عجيبة فيها قوة وأمل وتفهم

" اعلم أن بداخلك صراعاً يعيشه معظم الشباب بين أمل بالمستقبل ويأس بالحاضر .. بين طموح لا سقف له وعجز يديك عن تحقيقه .. وأنا .. "

صمتت حين تلاشت ابتسامته وهى تقبض على أعمق ما به بسهولة لا يدرك كيف وصلت إليها ثم تتابع

" ساجعلك تعاتب الوطن .. بصوتي "

وكانت نبضة .. غير عادية !.


وصلت فجر بسيارتها الصغيرة أمام الكنيسة التي تجاور معهد الموسيقى وأوقفت السيارة لتنزل منها فينزل زايد يدخل المعهد خلفها دون أن يفهم شيئا
فقط يريد أن يكون معها بإحساس غريب أول مرة يجربه .. أن يفعل بحياته شيئا حقيقيا !
لطالما كانت حياته فارغة لا مفيد فيها واليوم .. يشعر أن تلك القيمة التي يبحث عنها مع .. فجر !
دخلا مقر التدريب فتوقف مكانه بمظهره الأجنبي وهى تتصرف بتلقائية وتسلم على المتواجدين حتى رأى احد الشباب ينظر له نظرة غريبة ثم يقترب منها متسائلا بصوت واضح بارد

" مَن هذا فجر ؟! "

بسطت فجر كفها نحو كرسي في الزاوية مشيرة له أن يجلس ثم ترد على مصطفى بالقول المسموع للجميع

" هذا زايد جاري يا شباب .. والده ووالدي كانا أكثر من إخوة .. عاد من سفر سنوات .. غربة جعلته مشتاقا إلي وطنه لكنه يفتقد التعبير عن ذلك الشوق .. اليوم أريده أن يدرك ... "

جلس زايد ناظرا إليها بغرابة وهى تقحمه كذبا في شوق للوطن لكنه شعر أن رأسه مرفوع أمامهم بطريقة ما !
عيناه عميقتين ومشاعره يحدث بها شيء غريب لا يدركه !.. ولا يدرك ماذا ستفعل هى وكيف ستجعله يعاتب الوطن ؟!
بينما تتجه فجر نحو البيانو حيث يجلس أمجد مستعدا ليبدأ فتشير في دفتر الموسيقى أمامه لموسيقى خاصة بقصيدة ( هذا عتاب الحب للأحباب ) للشاعر فاروق جويدة
يشير أمجد بدوره للعازفين برقم معين فيصطف الجميع بانتظام .. يتخذ مصطفى مكانه بالكمان ..
‏تتخذ دموع مكانها وشريف يجلس ناظرا إليها بعشق ازداد بعد مصارحتها له
بينما يتابع زايد وقوف فجر الواثق أمامهم كأنها قيادية منذ ولادتها .. الموسيقى تبدأ بخفوت لتعلو تدريجا يقشعر الأبدان
وهى تكمل كلامها بنبرة ما سمع يوماً بجمالها

" اليوم أريده أن يدرك ... ما زال بهذا الوطن شباب يرفعون الرأس .. ما زال الأمل بداخلنا طاقة نور لا تنطفئ .. نحن شباب الثورة وكل ثورة .. ما زلنا نقول نحن نستطيع .. بعد عام بعد عشرة أو بعد مائة عام سنظل نستطيع .. وستظل مصر تحيا .. تحيا مصر "


وانطلق صوت الفجر


هذا عِتابُ الحُبِّ لِلأحْبابِ
لا تغْضبى مِنْ ثَورتِى وَعِتَابِى .. مَازالَ حُبــُّـك مِحْنَتِى وَعَذابِى
مَازالَ فِى العَيْن الحَزينَةِ قُبْلَةٌ .. للعَاشِقِينَ بسحْرِكِ الخَلابِ
أحْببتُ فِيْكِ العُمْرَ طِفْلاً باسِـماً .. جَاءَ الحَياةَ بأطْهَرِ الأثْوَابِ
أحْببتُ فِيكِ اللَيلَ حِينَ يضُمُّنَا .. دِفْءَ القُلوبِ ورفقَةُ الأصْحابِ
أحْببتُ فيكِ الأمَّ تسكنُ طِفلَهَا .. مَهْمَا نَأىَ تَلقاهُ بِالتِرْحَابِ
أَحْببتُ فِيْكِ الشَمْسَ تَغْسِلُ شَعْرَهَا .. عِندَ الغُروبِ بدمعِهَا المُنسَابِ
أَحْببتُ فِيكِ النِيْلَ يَجْرِى صَاخِباً .. فَيَهِيْمُ روضٌ فِى عِناق روَابِ
أحببتُ فيكِ شُموخَ نهرٍ جامحٍ .. كَمْ كانَ يسْكرني بغيرِ شرابِ
أحببتُ فيكِ النيلَ يسجدُ خاشِعاً .. للهِ رَباً دُونَ أىّ حسابِ
أحببتُ فيكِ صلاةَ شعبٍ مؤمنٍ .. رسَم الوجُودَ عَلى هُدى مِحرابِ
أحببتُ فيكِ زمان مجدٍ غابرٍ .. ضيعته سفهاً على الأذناب
أحْببت في الشرفاء عهداً باقياً .. وكَرهت كلَّ مقامرٍ كذّابٍ
إنّى أحبكِ رغم أنى عاشقٌ
سَئِم الطوَافَ وضاقَ بالأعتابِ
كَم طافَ قلْبي فِي رِحابِكِ خَاشِعاً .. لم تعرف الأنقى من النصابِ
أسرفتُ من حبي وأنتِ بخيلةٌ .. ضيعتِ عمري واستبحتِ شبابي
شاخت على عينيكِ أحلام الصبا .. وتناثرت دمعاً على الأهدابِ
مَن كان أولى بالوفاءِ؟..عصابة! .. نهبتكِ بالتدليس والإرهابِ؟
أم قلب طفلٍ ذاب فيكِ صبابةً .. ورميتهِ لحماً على الأبوابِ؟!
عمرٌ من الأحزان يمرح بيننا .. شبح يطوف بوجهه المرتابِ
لا النيلُ نيلكِ .. لا الضفافُ ضفافهُ
حتى نخيلكِ تاهَ في الأعشاب!
باعوكِ في صخبِ المزاد ولم أجدْ .. في صدركِ المهجورِ غيرَ عذابِ
قد روّضوا النهر المكابر فانحنى .. للغاصبين ولاذ بالأغرابِ
كم جئتُ يحملني حنينٌ جارفٌ .. فأراكِ والجلادَ خلف البابِ
تتراقصين على الموائد فرحةً .. ودمي المراق يسيل في الأنخاب
وأراكِ في صخب المزاد وليمةً .. يلهو بها الأفاق والمتصابي
قد كنت أولى بالحنانِ ولم أجدْ
في ليل صدركِ غير ضوءٍ خابِ
في قمة الهرم الحزينِ عصابةٌ .. ما بين سيفٍ عاجزٍ ومُرابِ
يتعبدون لكل نجمٍ ساطعٍ .. فإذا هوى صَاحوا: نذير خرابِ
هرمٌ بلون الموت .. نيلٌ ساكنٌ
أُسدٌ محنطةٌ بلا أنيابِ
سافرتُ عنكِ وفي الجَوامِح وحشةٌ .. فالحزن كأسي والحَنينُ شَرابي
صَوتُ البلابلِ غابَ عنْ أوكارِه .. لم تعْبئِي بتشرّدي وغِيابي
كُلّ الرِفاقِ رأيتهُم في غُربتي .. أطلالُ حلمٍ في تِلال تُرابِ
قد هَاجروا حُزناً ومَاتوا لوعةً .. بينَ الحَنين ورفقةِ الأصحابِ
بيني وَبينكِ ألفُ ميلٍ بَينمَا
أحْضَانك الخضْراءُ للأغرابِ!
تبنينَ للسُفهاءِ عُشاً هادئاً .. وأنا أمُوت على صَقيعِ شَبابي !
في عتمَةِ الليلِ الطَويلِ يشدُّني .. قلبي إليكِ أحِنُّ رَغْم عَذابِي
أَهفُو إِليكِ وفي عُيونكِ أحْتمِي .. مِنْ سجْنِ طَاغيةٍ وقصْفِ رِقابِ
هل كان عدلٌ أنّ حبكِ قاتلي
كيف استبحتِ القتل للأحبابِ؟!




أكملت أبيات القصيدة وعيناها تدمع .. صوتها ونبض إحساسها يدمع .. وكل حواسها تبكي صدقاً وتعاتب حباً
مشاعر دموع ترتجف بنزاعها المؤلم ناظرة إلي شريف .. حبيب عمر قادم سيذوق ظلماً حتى تُشفَى
مصطفى يعانق نظرات فجر نحو زايد بغضب وألم ومرارة فقد
أما هو .. فقد كانت تحكي عنه تماما .. تطابقه الكلمات كأنها مولودة من جوفه لا من جوف الشاعر
كان يدرك ما يحدث لمشاعره أخيرا .. تتحرر .. ويتحرر معها .. تتفتح كأطياف تطوف حول فجر وحدها
يتحرر لعتاب بلد ما استطاع عتابه إلا بالقسوة .. لأول مرة يعاتبه مثلها .. يعاتبه عشقاً فيه
وهى .. تلك المرأة الحرة مرآة روح لانعكاسات شعبٍ يعاني .. انعكاس قوة والده .. وحنان أمه
ولأول مرة منذ وقت طويل عيناه تدمع لكلمات أبحرت لأعمق مخاوفه .. وبزغ نور ضئيل بمسمى .. فجر !.

...............................................

الواحدة ظهراً

دخلت ألماسة بصينية الافطار إلي الزهراء التي تعتزل الجميع بغرفتها .. مصدومة منذ ذلك اليوم ولا تصدق الفضيحة التي طالتها بعد عمر في الحي
أكرم ينتوي شيئا خطرا لفؤاد تراه بنظراته .. هى أيضا تنتوي شيئا وعليها أن تسبق أكرم .. لذلك ستتحرك اليوم !.. وغالبا بعد ساعتين سيبدأ انتظارها !!
أمها نائمة على جانبها توليها ظهرها فتضع الصينية جوارها ثم تهزها برفق من كتفها قائلة بنبرة قوية لا يمسها أذى

" أمي .. انهضي لتأكلي شيئا وتأخذي الدواء "

لا ترد الزهراء ودموعها تسيل بصمت على وسادتها بقهر يقهر القلب
تجاعيد العمر تزيد على وجهها بغمٍ ثقيل حتى باتت تشعره غضبا من الله عليهم فتردد في كل سجدة

( اللهم إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي )

تشعر ألماسة أنفاسها المجروحة فتجلس جوارها تقول بعزم التوعد وقوة الإرادة

" لا تبكي أمي .. لأجل كل دمعة نزلت من عينيكِ بسببه سآخذ حقكِ منه "

عيناها تشعان توهجاً كبركان يغلي على وشك ثورة حممه .. لا تخاف .. روحها وجسدها يستعدان لخوض جولة أخرى
بعد أن اعطته عذرا فيما يفعل لأجل ما رآه بحياته لكن الآن نفدت الأعذار الواهية .. الآن لا مبرر لما فعل
يهتز جسد الزهراء ببكائها الخافت وهى ترد بضعف موجوع بالظلم

" كفاكِ يا ماسة .. كفى ما حدث لنا .. أنا .. أنا لا استطيع نزول الشارع أو حتى الخروج إلي الشرفة .. أكاد اشعر بهمسات الناس علينا تصلني هنا إلي غرفتي "

دمعت عيناها وهى تلتف حول السرير لتصعد جوار أمها تنظر لوجهها المبلل دموعاً وانطبقت شفتاها بغضب شديد لحال أمها
وجه الزهراء الرقيق يتوجع وألمها النفسي يصيب اعضاءها بالوهن والإعياء .. ضغطها ينخفض أغلب الوقت وأكثر من مرة تدخل بغيبوبة مرض السكري
وكل فكرة تغذي ذاك الغضب أكثر ليزداد تصميمها على خطتها .. فضيحة مقابل فضيحة !.. والبادئ أظلم !!
‏تمسح دموع أمها لتربت على خدها بحنان قولها وعزيمته

‏" انهضي أمي .. هو فعل كل ذلك ليضعفنا .. لا تدعيه ينجح .. لا تدعيه يرانا جثث كما يريد ونحن على قيد الحياة "

‏دموعها لا تتوقف تنزل دون مجهود ، فقط تنبع من قلب الألم .. وقلب الأم
‏أنفاسها تخفت وصوتها يتعب والكلمات تخرج بصعوبة الفضيحة

‏" أنتِ تقاومين كعادتكِ ماسة .. صلبة ولا تنكسري .. لستِ مثلي واحمد الله على هذا .. احمده أنه منحكِ القدرة على دفن حزنكِ وألمكِ كي لا يستضعفكِ أحد .. أما أنا فانكسر .. انكسر واختبأ رغم قوتي الظاهرة إلا أني كبرت وضعفت .. وكسرتي فيكما قصمت ظهري "

‏تنظر ألماسة لأعلى مخرجة نفسا مرتجفا وقبر الحزن داخلها يوارب بابه ليحاول سحبها فيه لكنها تقاوم .. ‏بين غضب لنفسها وغضب لأمها وغضب لأكرم تقاوم
‏لم تخطئ أمها أبدا .. لديها قدرة على دفن الحزن والألم هى نفسها تستغربها حتى ظنت قبل خطبتها لماهر أنها بلا مشاعر
‏مسحت الزهراء عينيها المحترقة بالدمع المالح لتقول بحسرة ووجع وخزي

‏" أنا لا اعرف كيف تنزلين بكل قوتكِ تذهبين لجامعتكِ أمام أنظار الجميع ؟.. اعلم أن ظهوركِ بهذه القوة أخرس ألسنتهم وأصبح الأمر افتراءا عليكِ .. لكنهم ما زالوا يتكلمون .. وأنا لا استطيع أن اسمع السوء عنكِ .. القصص المُؤلَفة بالباطل ممَن يغتابون الناس .. يكفيني أنهم يتكلمون عن أكرم .. بعد صبري ليدخل كلية الهندسة ويصبح مهندسا يرفع الرأس .. أصبحوا يتهامسون أنه رد سجون حتى لو كان سُجِنَ بشرف "

‏تطبق شفتيها تغطيها بكفها تحارب وخز البكاء وصوت الزهراء ينحر القلب
‏أنفاسها تنتظم عمدا لتهدأ رغم أعصابها المتشنجة ثم تقول باصرار

‏" لم يعد يهمني أحد أمي .. إلا أنتِ وأكرم .. والله لآخذ حقنا منه واجعله يندم على الساعة التي أتى بها إلي هنا "

‏اعتدلت الزهراء جالسة فجأة لتضرب على رجليها وهى تشهق ببكاء حاد صارخة بلا وعي

‏" كفاكِ .. كفاكِ .. هل تريدين موتنا .. هل تريدين أن أموت الآن أمامكِ لترتاحي ؟.. يا رب خذني يا رب "

‏غطت وجهها بكفيها لينفجر بكاؤها أكثر وأكثر فاحتضنها ألماسة إلي صدرها بقوة ودموعها تتحرر أخيرا ‏
‏وسط ضباب الدموع تراه .. شيطانا شامتا ثعبانا خبيثا .. لن تتراجع
لن تثنيها دموع أمها عما ستفعل .. لقد اخذته عهدا على نفسها .. ستقف أمامه للنهاية !.


بعد ساعة كانت جالسة على سريرها بسكون قاتم مريب .. قناع صلب مخيف يغطي وجهها .. لم تنم والعزم يشعل أوردتها
‏عيناها جامدتين ساهمتين منذ ساعة .. ساعة كاملة تدور مع طواحين أفكارها النهائية !
‏أمسكت هاتفها لتقوم بثاني خطواتها بعد أن قامت بالخطوة الأولى وعرفت من المصنع عنوان منزله فترسل رسالة

‏( مرحبا علي كيف حالك حبيبي ؟.. أريد سيارتك لأمر هام )

‏بعد دقائق حين رأى الرسالة أرسل لها

‏( بخير ماسة اشتقت إليكِ .. حسنا تعالي وخذيها بأي وقت )

‏قرأت ألماسة الرسالة لتضع هاتفها جانبا وتسكن تماما .. حتى يحين الموعد !!.
‏ ............................................


الثانية مساءا

جالسة أمامه خلف مكتب صغير بعيد عن مكتبه في غرفة الفحص بعيادته الخاصة .. شعرها يتماوج ورياح شتوية قادمة من الشرفة المفتوحة خلفها تغازل خصلاته اللامعة الخفيفة
وجهها الرقيق مضاءا بنور الصباح وهى تذاكر بتركيز عابسة منذ خمس دقائق وهو يراقبها بلا ملل
لم يحسب حسابها .. لم يحسب أن يحب من الأساس ، ولا يمكنه التراجع .. حتى تفكيره المقلق من فارق السن بينهما لا يجعله يستسلم ويتركها بعدما حركت مشاعره بعد ركود
يدرك يقينا أنها لا تهتم بهذا الفارق لكنه يدرك كيف سيكون الوضع وهى امرأة في عز جمالها بالأربعين وهو بسن السبعين .. هذا إذا وصل إليه !
يغمض عينيه الرمادية الداكنة ليدق قلبه بتوتر غير طبيعي .. هذا الشعور الذي كان يفتقده يعود بقوة
طعم الحياة يعود أقوى .. ألذ .. حياته الآن حياة
في لحظة يفتح عينيه مشتاقا وهى ما زالت عابسة فيدرك أنها وصلت لحائط سد بأوراقها !.. يبتسم بحنان ويده تمتد جواره إلي مروحة يوجهها على الجالسين أمامه فيشغلها على أعلى سرعة ويوجهها نحوها
تطاير شعر رنوة فجأة مع تطاير أوراقها فتشهق متفاجئة والهواء البارد يخترق عظامها تحت كنزتها الصوفية الحمراء فتهتف بحنق

" اطفئ هذه المروحة نحن في عز الشتاء !.. هل يعجبك ما فعلته ؟! "

تنظر لأوراقها المتناثرة على الأرض بتحسر بينما هو يضحك مستمتعا بتطاير شعرها لأقصى حد .. وعيناها التي ترمش بسرعة كأنها تواجه رياح البحر الرملية الطبيعية
تنهض رنوة لتتجه بنفسها نحوه تطفئ المروحة بنظراتٍ غاضبة فيمسك راشد معصمها قائلا بغزل متمهل خبير

" تعالي في حضني وأنا انسيكِ عز الشتاء واجعلكِ في عز الصيف وحرارته "

مستريحا برأسه على مقعده وعيناه تهيم بوجهها الذي يتورد بشدة وهى تسحب يدها منه باعتراض خجول فلا يسمح لها ليرفعها لشفتيه يقبل باطنها بعمق
تبعد رنوة يدها ببطء مبتسمة وهى تذهب لتجمع أوراقها من الأرض شاعرة بنظراته تراقب كل تفصيل فيها .. نظرة خبيرة بعينيه تشعرها ولم ترها في أعين شباب لا ينظرون للأنثى إلا برغبة حمقاء فقط
مع راشد الرغبة تختلف .. تتزن .. تصبح أعمق من علاقة سطحية .. هكذا تشعر وتتوق
وضعت الأوراق على المكتب لتعاود الجلوس فتسمع صوته المتأني الهادئ

" إذا أردت تقبيلكِ الآن هل تعتبر قبلتي أبوية أم قبلة حبيب لحبيبته ؟! "

تضحك بخفوت وهى ترتب الأوراق مجيبة بخبث

" على حسب مكانها ! "

تتسع ابتسامته مرتاحا بتلك السلاسة بينهما وهو يسأل بخبث مماثل

" ماذا تقصدين ؟! "

تنظر إلي فضة شعره بإعجاب أنثى وقلبها يرفرف كأجنحة طير حر لترد بابتسامتها الناعمة

" لو كانت على جبيني مثلا فيمكن اعتبارها أبوية ! "

ربما توقعت سؤاله التالي وصوته تميزه بحة مميزة تلامس أنوثتها

" ولو على شفتيك ؟! "

لذلك جهزت الرد وهى تنظر لأوراقها مبتسمة بوجه يضج حمرة وتمسك القلم قائلة بخفر نبضاتها العالية

" هل يمكنك أن تصمت قليلا لاذاكر ؟!.. تعرف أني لا استطيع المذاكرة إلا هنا "

يراقبها تعض شفتها السفلى فتتفاعل معها رجولته التي يحكمها عقل لا شهوة بينما يقول بهدوء

" في أي زمان وأي مكان .. وعلى أي مكان في جسدكِ ستظل قبلتي واحدة .. بها حنان الأب ودعم الصديق ولهفة الحبيب "

يرتجف جسدها شوقا وهى تطرق برأسها أكثر فيخفي شعرها ملامحها الوردية الصغيرة وعيناه تحيطها ..
بعيادته وضع لها هذا المكتب الصغير هنا لتأتيه كما تشاء .. نهارا بعدما ينهي مواعيد المشفى يلتقيها قبل أن تبدأ مواعيد العيادة مساءا
تذاكر وتتحدث وتسترخي وأحيانا تنام على سرير الفحص لتحكي له عن حياتها كأنه طبيبها النفسي
وهو يستمع بصمت إلي ما لا تحكيه لأحد ويوجهها بما يقضي ضميره الحي محافظا على براءتها في مواجهة الدنيا الصعبة عليها
رنوة فتاة ذكية طموحة لكنها لا تستطيع مواجهة وحوش العالم .. ليس لها أظافر تنحت بها صخر البشر ولا أنياب تخيف بها ذئاب الصعاب
نقية طيبة خجولة كل ما تريده سلاما نفسيا وراحة وسعادة بلا تكلف .. بلا مشاكل
ظل صامتا بالفعل لدقائق يتركها في تركيز وقد حلت المعضلة الأولى التي عبست بسببها فعلا بعد كلامه معها لتعبس مجددا بمعضلة جديدة
صار يفهم طريقة مذاكرتها وحين يستعصى عليها فهم شيء فتتوقف عابسة !.. وحين يتحدث إليها وتعود لتبدأ من جديد تستطيع فهمها
لذلك أمسك هاتفه ثوان لتصدح أغنية تغنيها له دائما

( يا أجمل عيون وأحلى عيون
أيقظتِ ليل العاشقين
أيقظتِ الشوق بغير ميعاد
وسافرتِ لمَ لاخر البلاد
والله أحبكِ موت
وأحب برج الحوت !! )

تضحك رنوة وهى تترك القلم لتستند لظهر كرسيها تنظر إلي ملامحه الوسيمة بخطوط عمرها المميزة وهو يتأملها وكل حرف بالأغنية يراه فيها
يعشق تفاصيلها .. هى الدنيا .. هى راوية ظمأ روحه
هما الاثنان ولدا بنفس الشهر .. هما الاثنان برج الحوت كأنه قدر وأعطاهما موعدا بفارق سنوات
انتهت الأغنية ليتساءل راشد ككل مرة معطيا نفسه أملا .. أيمكن أن يتقبل المجتمع علاقته برنوة كما تقبل علاقة مطرب الأغنية بفتاة تصغره بنفس فارق السن بينه وبين رنوة تقريبا بفرق سنوات قليلة ؟!.. أم سيحل التناقض كما يحل بكل شيء بالمجتمع ويرفضون لكونه ليس مطربا أو ممثلا شهيرا بل طبيبا له اسمه كرس حياته لابنته ؟!
ربما يحتاج لاستطلاع رأي فوري ليعرف بما أن الشعب كله بحالات !!
يتنهد مبتسما وأصابعه تنقر على مكتبه الفخم متسائلا باشتياق

" متى سينتهي العام القادم لتنهي دراستكِ وتكوني في بيتي أخيرا ؟ "

الابتسامة على شفتيها تخفت تأثرا بخوف الفراق وهو يميل للأمام على مكتبه متحمسا بقوله العابث بمرح رجولته

" بالمناسبة .. لقد اخترت غرفة نومنا "

تبعد رنوة شعرها خلف أذنها لتجاريه قائلة بأنوثة

" هكذا وحدك !!.. بدون أخذ رأيي كأنها ليست غرفة نومي أنا أيضا ؟! "

يهز رأسه نافيا ليرد بنبرته الخاصة التي تحتضن قلبها

" يمكنكِ تغيير أي شيء بالبيت واختياره كما تريدين .. إلا هذه .. ستكون اختياري أنا .. اخترتها مزهرة .. مثلكِ .. ساحرة .. مثل نظرة عينيكِ .. اخترتها لتخطف النظر من مجرد رنوة عين إليها .. مثلكِ رنوة "

عيناها تدمع بشفتين ترتجفان بعجز عن الكلام فتصمت قليلا بأنفاس متسارعة ثم تهمس بصوت مسموع

" هذا كثير عليّ .. أنا لا اخطف النظر راشد .. أنا لا يراني أحد .. أنا مجرد صغيرة إخوتي التي تُدَلَل كطفلة .. أنت فقط مَن يراني هكذا "

كانت صادقة وهى تشعره دوما كثيرا عليها .. طبيب معروف ناجح تتمناه معظم النساء ونظر إليها هى .. رآها هى .. عشقها وحدها
تسير عيناه الرمادية بطريقها إلي تفاصيلها وهو يؤكد لها بصوته الرخيم المميز

" وصغيرتي أنا أيضا .. واحمدي الله أن لا أحد يراكِ هكذا وإلا كنت ارتكبت فيه جريمة بعمري هذا .. أنتِ رنوتي أنا .. لا استطيع أن اكمل البقية القليلة من عمري دونكِ "

ينخطف قلبها عليه خوفا هامسة

" بعيد الشر عنك "

تبعد شعرها عن وجهها وهى تلاقي عينيه لحظات طويلة بكيان يتوحد في عشق ناضج مختلف ..
هى النجمة البعيدة التي أراه القدر بريقها .. هو الليل الذي سكنت إليه عن اقتناع تام
هى الاختلاف ذاته .. لم تشعر في حياتها مشاعر نحو شاب بسنها ولا تعرف لماذا ؟!.. هكذا هى ..
‏كل ما تعرفه أنها تحب هذا الرجل وتتمنى عمرا معه وبكل فكرة تدعو الله أن يطيل بعمره فلا يتركها إلا وهى امرأة عجوز .. أو تموت هى قبله
‏قطع تواصل أعينهما رنين هاتفه فيجيب راشد مستمعا إلي محدثته ثم يقول بجدية مهنية

‏" نعم صحيح دكتورة تهاني .. العملية الجراحية كانت نتيجة مضاعفات حالته وقد حذرته أنها الحل الأخير وها هو وصل إليه "

‏ظل يستمع باهتمام عاقدا حاجبيه وهى تراقب ثقة الطبيب به لتنهض متجهة نحوه تجلس أمامه على حافة المكتب فيلتفت إليها يبتسم تلقائيا لعينيها وهو يجيب

‏" نعم دكتورة .. كل كلامك صحيح "

تعدل رنوة ياقة قميصه بشقاوة ابتسامتها فتتسع ابتسامته وهو يمسك بيدها على خده ويقول بتركيز

‏" سيتم إجراء الجراحة التالية الاسبوع القادم .. شكرا لاهتمامك دكتورة تهاني "

‏ ‏أنهى المكالمة واضعا هاتفه على المكتب فتميل نحوه أكثر متسائلة بغيرة هادئة

‏" مَن هذه المهتمة التي كل كلامها صحيحا ؟! "

‏شعور مذهل ينعش كل كيانه ويعيد شباب قلبه بغيرتها ليراوغ بخفوت ملامسا خصلات شعرها المائلة نحوه

‏" دكتورة تهاني .. مجرد زميلة عمل ! "

‏تنظر ليده في شعرها بعبوس فتعتدل واقفة تجمع شعرها بضيق واجم ليقف راشد ضاحكا يحيط وجهها بكفيه قائلا بحرارة

‏" يا ربي .. هل يمكنكِ أن تغاري هكذا أكثر ؟.. تقتلينني "

‏ردت رنوة بنبرة جادة محاولة الابتعاد عنه هاربة من تأثرها فلا يتركها

‏" لا أغار .. تذكرت أني اريد الذهاب إلي طبيب لأن شعري أصبح خفيفا جدا ويتساقط "

‏اقترب خطوة فارتجف جسدها رجفة لذيذة ليرفع يديه لشعرها متفحصا خصلاته وفروة رأسها ثم شعرت بشفتيه على تلك الخصلات ثم على جبهتها طويلا ليبتعد يأخذ دفتر وصفاته الطبية يكتب اسما بخط الطبيب الغير مقروء إلا لعيني الصيدلي !
‏تراه يقطع الورقة ويناولها لها قائلا بهدوء مبتسم

‏" هذا الدواء واظبي عليه لثلاثة أشهر وبعدها سترين النتيجة "

‏أخذت الورقة من يده مطمئنة إليه رغم بُعد تخصصه عن الجلدية إلا أنه راشد .. وكفى !
‏عاد راشد يمسك وجهها هامسا

‏" والآن .. هل ستغارين أكثر ؟!.. تصوري أني بعمري هذا اعود مراهقاً أمامكِ يا طفلة !! "

‏تقابل عينيه وجاذبيتهما الرمادية فتومئ برأسها مبتسمة بقولها
‏" رغما عني اغار من أي امرأة تمر جوارك .. حبي لك لا يقبل نقاشا في هذا "

‏ثبتت عيناه على شفتيها وهى تتهجى حروفا كالعسل تقطر عشقا على قلبه .. وبحكم العقل الذي يقيد جنون حبه ابتعد خطوة مانعا نفسه عن تلك الشفاه الوردية .. مكتفيا بلمسة يديها بين كفيه دافئة الحنان.
‏........................................

الخامسة والنصف مساءا

أمام مرآة تعكس ما أمامها تقف تحدق بنفسها بعينين غريبتين .. ترتدي قميصا شفافا قصيرا وتلتهم جسدها المتمكن بنظرات غير سوية اللحظة
متوحشة الجمال .. والنظرة .. حقد يظلل عينيها بتوعد مخيف .. يجعلهما مريعتين .. رهيبتي الشرار
يعافها !.. يعاف جمالها !!
سيرى تلك المستيقظة بعد سنوات وهى تتدحرج عن ركنها لتأخذ مكانها كامرأة ابن كبير الزِيِن !
تضم ليلة جسدها بذراعيها لتمسح على كتفيها بأنفاس حارة راغبة .. لتتجرأ يداها على كامل جسدها بحسية منفرة .. بغيضة
مغمضة عينيها تتخيل يديها أيادٍ أخرى تعيث فيها برضاها .. برغبتها
عماد .. فؤاد رافع .. شهاب رافع .. وائل معرفة النادي .. أستاذ جامعي سابق .. وأمير !!
وغيرهم شعرت نحوهم بتلك الرغبة الضارية أن يتملكوها .. تدب حرارة لاهبة في جسدها فتفتح عينيها بوهج قاس لتتخلل شعرها البني المموج وتنثره هائجا
كما كان تلك الليلة .. ليلة الأمير

بسنتها قبل الأخيرة بالجامعة في غرفتها بدارهم الكبيرة تنظر من شق الباب نحو مضيفة الرجال تراقب ما يحدث وقد تجمع رجال عائلات الزِيِن ورافع والصوالحة لمناقشة أمر ما يخص عائلة الجبالية
الباب مفتوح على مصراعيه لدخول صواني الطعام النحاسية الكبيرة وهى تنظر نحو رجال عائلتها الجالسين بشموخ الملوك بنفور شديد .. كل منهم بملامحه الخشنة الغليظة القاسية ..
همج بدائيون !.. هكذا تصفهم بعد ذهابها للجامعة بالعاصمة ورؤية الرجال هناك برقيهم حتى لو كان البعض زائفا !!
لا ترى في أهلها خيرا ولا فخرا لاعنة انتمائها لهم !
لا تدرك بجهلها عراقة أصلها وأصالة العرق البدوي الذي يملأ النفوس فخرا وعزة ورفعة نفس
أغلقت الباب بلا صوت مستاءة الملامح لتتجه لخزانتها مخرجة عباءة سوداء رمتها رميا مشمئزا على سريرها .. صارت لا تطيق ارتداء العباءة وغطاء الرأس بعد أن ذهبت للجامعة وارتدت الچينز الملتصق وجربت تطاير الشعر الطويل المتماوج ونظرات الناس إليه حاسدين
تخلع ملابسها البيتية التي تحضرها من العاصمة لتضع العباءة عليها دون أن تغلقها على قميص نومها القصير بل تتجه اولا لتمشط شعرها بضيق .. لابد أن تذهب مع أمها وأختها جميلة لواجب عزاء لا تعرفه لكنها مضطرة للذهاب حسب تقاليدهم
رن هاتفها على منضدة الزينة أمامها فتأخذه تكتم صوته سريعا لتطالع اسم .. أمير
ذلك الشاب الذي تعرفت عليه في رحلة مع الجامعة ذهبت إليها دون إخبار أهلها لتنشأ بينهما علاقة ارتباط تتباهى بها وسط قريناتها
ابتسمت بدلال وهى تفتح الخط وتتجه في زاوية الغرفة كي لا يسمعها أحد تجيبه

" مرحبا أمير "

أتاها صوته الشبابي المميز شقيا

" لن تصدقي أين أنا ليلة .. أنا تحت بيتكِ "

انصدمت ملامحها تماما وهى تنظر لغرفتها وكل ما جاء بعقلها أن غرورها بأصلها بينهم في الجامعة سيُنسَف !.. هى التي ترسم التحضر والرقي والجاه وسلطة أهلها أتاها مَن يتباهى مثلها ليرى وضعها الحقيقي !
تهمس بصدمة وصوتها يحتد عليه

" هل جننت ؟!.. ما الذي تقوله وكيف جئت إلي هنا ؟! "

رد أمير يداعبها بغروره

" أنا أمير يا ليلة لمَ تحدثيني هكذا ؟!.. ليس صعبا عليّ معرفة بيت أبيكِ الشيخ علوان في بلدة كهذه ! "

شعرت بإهانة ضمنية كأنه يذكرها بكل كذباتها عن أهلها فتهمس بتوبيخ غاضب

" لمَ جئت إلي هنا ؟.. لو رآك أحد لفصلوا عنقك عن جسدك .. أنت لا تدرك ماذا تفعل .. هيا اذهب "

يضحك أمير بلا اهتمام قائلا

" فصلوا عنقي ؟!.. هل نحن في العصر الحجري ليفكر أحد هكذا الآن ؟!.. المهم .. اخرجي لأراكِ خلف البيت .. طالت إجازتكِ واشتقت إليكِ "

هدأت ثورتها قليلا لتغلق أزرار العباءة العلوية وتخرج للشرفة بالقول الحازم

" اذهب من هنا أمير لا تتسبب في فضيحة "

قابلها الصمت لحظات فتتعجب وهى تنظر للهاتف ترى الخط ما زال مفتوحا فتهمس

" أمير .. أين أنت ؟! "

شعرت بأنفاسه تتبدل وصوته يأتيها بنبرة بطيئة

" تبدين أجمل ليلة .. متوحشة الجمال "

صمتت وهى تبحث بعينيها بين النخيل والزروع الطويلة التي تخفي ما خلفها لتجده بالفعل بحقل الذرة يتقدم نحو الدار فتتسع عيناها بهلع تهمس

" تبا لك اذهب .. لا تقترب أكثر "

لكنه لا يستمع وخطواته لا تتوقف نحو الشرفة الأرضية فتسارع ليلة بالنزول إليه حافية عبر عدة درجات تصل الدار بالأرض الزراعية هاتفة بوجهه بنبرة خافتة محتدة

" تبا لك ستفضحنا .. اذهب من هنا "

لم يفعل أمير أكثر من إغلاق خط الهاتف والابتسام المستفز في وجهها بوسامته الشبابية ثم يقول بتأنيب رقيق

" هل هذا جزائي وقد سافرت لساعات من العاصمة إلي هنا لأراكِ ؟! "

تنفخ بقلق ناظرة حولها تتأكد من خلو المكان لكن فجأة تسمع صوت والدها مع بعض الرجال وهم يخرجون من المضيفة لتضرب على خدها هامسة بفزع

" سيرونك معي ماذا افعل الآن ؟ "

تتمسك بذراعه وعقلها يتوقف عن العمل حين لاح أحد الرجال بالفعل فتنخفض معه كي لا يراها أحد لتدفعه أمامها نحو درج غرفتها هامسة

" اصعد بسرعة هيا "

يرتقي أمير الدرج ببرود أعصاب لا مبالٍ لينظر خلفه إليها وهى تصعد فينتبه لعباءتها المفتوحة تماما من الأسفل .. حتى وصل لغرفتها فأغلقت ليلة باب الشرفة الزجاجي وشدت الستار السميك وظلت تراقب خروج الرجال من شق الستار
غافلة عن عينيه التي تناظر طول جسدها والرغبة التي تفور في عروقه وهو يقترب متحسسا شعرها الطويل حتى نهاية ظهرها
لم تكن فتاة جامعية أبدا .. كانت امراة ناضجة فارت أنوثتها مبكرا مثل معظم فتيات الجنوب
أنفاسه تتهدج ويداه تلمس خصرها وبمباغتة أدارها إليه يرتشف لذة عنقها كخمر معتق ليس كخمور العاصمة .. خمر فاجر محرم
اخذتها المفاجأة بصدمة أخرى فسكنت له ليفعل ما يفعل .. يفك عباءتها .. يلامسها بكل طريقة .. حتى استعادت بعض العقل لتحاول إبعاده لكن همسات شفتيها باسمه تأوهاً تضيع بحرارة شفتيه ويده تتجرأ تحت ما ترتديه
تضيع المقاومة بالمتعة العاهرة ويتلاشى الزمان والمكان وهو يميل بها أرضا ينثر شعرها بيده كلما حاولت التكلم أسكتها بشفتيه
الوقت يمر وهما يرتجفان أرضا بغرفتها .. بدار الشيخ علوان .. بدار عائلة الزِيِن
الوقت يمر وأباها الشيخ بالمضيفة حيث يوقره كل الرجال يكرم ضيوفه
الوقت يمر ووالدتها ابنة الزِيِن تشرف على موائد الكرم في دارهم بالأصول قبل أن تذهب لواجب العزاء
الوقت يمر وأختها بغرفتها تذاكر لترتاد الجامعة مثلها وتحقق حلمها بدخول كلية الطب
لكنها لم تشعر بذلك الوقت إلا وباب الغرفة الذي نسيت إغلاقه بالمفتاح يُفتَح وتدخل جميلة بابتسامتها المشرقة بالقول

" هيا ليلة لقـ..... "

انصعقت جميلة من المنظر المنفر أمامها .. عجزت عن أي حركة وظلت كتمثال أمام الفجور المتجسد لها .. ترى بعينيها حيوانين مسعورين تعدا كل الحدود المحرمة
شهقت ليلة فزعاً وهى تعتدل جالسة تشد العباءة من الأرض تستر جسدها بهلع أمام أختها الصغرى
أما أمير فقد نهض بلا مبالاة يرتدي ملابسه ناظرا لجميلة نظرات تفوق نظراته لليلة بمراحل .. أختها أجمل بكثير !!
وبكل ثبات فتح باب الشرفة ليخرج مسرعا تاركا أختان تتواجهان
أخت هى رمز العفة .. وأخرى صارت رمز العهر.

عادت ليلة من تلك الليلة وهى تجلس على سريرها بنظرات فارغة .. تتذكر نظرة جميلة إليها لم تر بحياتها كرهاً كذاك الذي نفر من عيني جميلة
لأيام بعدها عجزت جميلة عن النطق .. اصابتها حالة غير عادية من الإعياء ليحضروا لها اطباء وحتى أمها احضرت لها شيوخا لمعالجتها وعجز الجميع عن تفسير حالتها المفاجئة .. حتى استطاع لسانها الكلام فأبلغت أمها بكل ما رأته
تتذكر ليلة الحزام الذي أدمى جسدها المفضوح وصفعات أمها وهى تولول وتنوح بالمصيبة حتى تعبت
رقدت أمها بالفراش لأسابيع وجميلة تخدمها شاعرة بالذنب أنها اخبرتها لكن ماذا كان بيدها .. كانت ستخبر أبيها أكثر من مرة ليقتل ليلة ويرتاحوا من عارها لكن كل مرة أمها تمنعها ..
حتى طلبت أمها رؤية عماد ابن أختها وحين جاء عماد يلبي نداء خالته فهمت كلتاهما علام انتوت أمهما ؟
ضمير جميلة لم يسمح لها أن يظل عماد غافلا عن الحقيقة فاخبرته .. لكنه كان أكثر شهامة من أن يفضحها حتى بعد فجورها الغير مسبوق
تزوجها في ليلة حالكة لا نجوم فيها ولا قمر .. جرح كفه أمام عينيها لتسيل دماء شرفه هو عله يمنح أهلها شرفاً ولو زائفاً
تلك الليلة من أصعب لياليها وعماد يقترب منها بغضب لم تره عليه سابقا ليشد شعرها فجأة فتشهق بصرخة مكتومة وهو يسأل بنبرة خافتة قاتلة بألفاظها

" اريد أن اعرف كل شيء عنه الآن .. مَن هو ذلك ( القذر ) يا ( قذرة ) ؟ ''

أمام رعبها منه لم تجد إلا أن تخبره كل ما تعرفه عن أمير .. لكنه لم يجد أثراً له كأنه هرب عالما بما قد يحدث له !
ماتت أمها قهرا بعد زواجها بأسابيع قليلة .. وانفصلت عنها جميلة قائلة بروحها الحرة أن أختها ماتت .. وعاشت هى بالخطيئة التي تصغر بالسنوات لتصبح مجرد خطأ !
كانت تكره عماد وتهابه كما تكره رجال عائلتها .. لا تطيق اقترابه منها هلعا أنه قد يقتلها بلحظة
وتكره فكرة الستر عليها بزواج من ابن خالتها ! .. ترتاح أنه يعافها ولا يريد لمسها وتوطد نفسها على الحياة الجديدة بالمدينة
حتى أتاها بعد ستة أشهر يخبرها أنه سيتزوج أخرى .. لم ترد وهى تغلق باب حجرة نومها لتهمس بكره

" تزوج أو اذهب في ستين داهية .. عسى أن تموت أنت وكل رجال تلك البلدة "

وبعد عام آخر اخبرها أنه سيتزوج الثالثة .. كان عامها الجامعي الأخير لتحصل على شهادتها كرماً منه أنه سمح لها إنهاء دراستها .. وفي لقاء منذ فترة قصيرة بزوجته الثالثة ونظرتها إليه .. استيقظت !
نظرت لعماد كرجل .. ووقع قلبها تحت قدميه !.


.................................................. ..
السابعة إلا ربع مساءا

رغم غروب الشمس إلا أنه ما زال يلعب معه كما يفعل منذ أيام .. تراقبهما اسما من شرفة الشقة وهما يلعبان كرة القدم في حديقة المجمع السكني
' فؤاد رافع ' يضحك !!
يضحك من قلبه مع كريم كأنه ما أدمى قلوبا ودهس بشراً وأسال دماءا .. ضحكة صافية عالية لرجل يتوق أن يضحك
يسجل كريم هدفا ليصيح بسعادة فيضحك فؤاد رغم هزيمته على غير العادة !.. هو الذي لا يقبل الهزيمة ولا يتقبل السير على غير هواه
ورغم كرهها له الذي لن يتغير لكنها اطمأنت له نحو كريم .. مشاعرها كأم تؤكد لها أبوته الحقيقية التي تتفتح على مهل
فؤاد مع كريم شخصا آخر .. مجرد أب لا يعبأ في الدنيا إلا بمصلحة ولده
صار يوميا ينهي عمله مبكرا ليأتي إلي كريم .. يجلس معه بغرفته أحيانا .. يخرج معه ويعود كريم محملا بكل ما يرغب أحيانا .. ويلعب معه ضاحكا هكذا أحيانا .. كأنه طفل مشتاق ليلعب !
دخلت اسما الشقة لتعد قهوتها بتوتر من القادم .. كريم تفهم أن هناك خلافا بينها وبين فؤاد يجعله لا يمكث معهما دائما .. تعود على فؤاد وصار يناديه بأبي .. لكن فؤاد نفسه يلح عليها بموضوع الزواج وكل مرة ينغلق الموضوع بعصبيته أن لا مبررا لتأجيلها
الأمر أنها .. لا تتقبل أن تتزوجه أو أن يقترن اسمها باسمه ولو ليوم واحد .. لكنها أيضا لا تستطيع أن تكون أنانية لأجل كريم ..
قلبها ينخسف باختناق ودمعة تسيل من عينها اليمنى تذكرها .. لأجل أهلها أيضا.

وبالأسفل كان كريم يسجل هدفا آخر فيعلو صوته حماسيا مغيظا لفؤاد الذي ضحك متخصرا ليقول بتنهيدة عميقة

" الظاهر أنني كبرت على كرة القدم ليهزمني ضفدع يقفز مثلك !! "

يتضاحك كريم وهو يركض ليجلب الكرة فيتعثر فجأة ليسقط على الأرض العشبية وتتدحرج الكرة بعيدا
هوى قلب فؤاد بارتجاج عنيف وهو يركض نحو كريم يجثو جواره ليساعده أن يعتدل ويفتش في جسده بلهفة خوفا من أي جرح أصابه
ظل كريم جالسا مستكينا ناظرا لوالده ثم يقول بتذمر

" أنا بخير أبي .. توقف عن تفتيشي مثل أمي "

ابتعد فؤاد ينظر إليه بحاجب مرفوع يتأكد أنه بخير فيهدأ قلبه ليجلس جواره قائلا بامتعاض

" ضفدع !.. ابني أنا ضفدع !! "

يضحك كريم بشدة ببراءة وجهه المنير مغلقا عينيه الحادة برسمتها الطبيعية مثل أبيه فيقول فؤاد ببعض الحزم مستمتعا بصوت ضحكاته

" كم مرة قلت لك أن تنتبه لخطواتك ولا تقفز هكذا ؟! "

يرد كريم بثقة طفل عاقل مطلع

" خطواتي مثل خطواتك وقدماي تشبه قدميك تماما لكن أنت كبير وأنا صغير "

يجاريه فؤاد عاقدا حاجبيه ثم يحرك قدميه ناظرا إليها هامسا

" يا رجل !! "

اومأ كريم برأسه مؤكدا اكتشافه العظيم فينظر فؤاد لقدمي كريم الصغيرة ثم يقول

" دعنا نرى إذاً .. أنت لا تعرف جنون أبيك بعد !! "

فجأة أخذ فؤاد يفك رباط حذائه الضخم الشبيه بأحذية الثلوج ليخلعه عن قدميه ليتبعه بجوربه ثم ينظر متحديا إلي كريم !
وبالفعل التقط كريم التحدي ليخلع حذاءه الرياضي الصغير ويقيس تشابه قدميهما ضاحكا !!
كان الفرق شاسعا وكريم يقرب قدمه الصغيرة من قدم فؤاد ضعف الحجم !!
ولا يعرف ماذا حدث فجأة وضحكاته تعلو بانطلاق طبيعي تماما جاذبا أنظار بعض المارة لكنه لا يهتم .. يضحك كريم على ضحك أبيه وفؤاد يميل للخلف لينام على العشب ناظرا للسماء نظرة رائقة بلا اهتمام بشيء
هذه اللحظات مع ولده يشعرها أثمن من أن يفكر في أي شيء .. أخيرا اكتشف جمال الأبوة
بعد أن اعتاد كريم قول أبي ، كل شيء بينهما صار عفويا بسيط التعامل بفطرة طفولية
يسأله كريم محركا قدمه على العشب باستمتاع

" هل تريد النوم ؟ "

وضع فؤاد ذراعيه تحت رأسه ناظرا لنجوم السماء التي ظهرت واضحة في ليلها المظلم قائلا

" لا يا حبيبي ارتاح فقط .. عمك شهاب يحب النوم هكذا ناظرا للنجوم ولم أكن اعرف السبب .. اليوم فقط اشعر أن الأمر ممتع بالفعل "

نام كريم جواره يضع ذراعيه تحت رأسه مقلدا فؤاد متسائلا باستغراب وهو يحدق في النجوم

" ما الممتع في الأمر ؟! "

التفت فؤاد إليه يبتسم بشجن وكريم يجيب نفسه عن النجوم بلا اهتمام

" لا شيء "

مثل قوله لأخيه شهاب ذات يوم !
شعور لذيذ بالاسترخاء مع حركة قلبه النابض كأنه يعطيه إشارة أنه يحيا أخيرا بعد موت ليسأل بهدوء

" هل تعرف أنك تشبهني كثيرا ؟! "

يرد كريم وهو يحاول الوصول إلي سر نجم ما أمامه

" اممم .. أمي تخبرني "

شعوره بالذنب نحو اسما يتفاقم وذنوبه الأعظم توخز ضميره كأشواك دامية ليقول بقتامة

" هل تعرف أني اعيش في حرب مع نفسي من أجلك ؟ "

يثير انتباه كريم فيلتفت برأسه عاقدا حاجبيه يسأل

" لماذا ؟! "

تنهد فؤاد بثقل لا يُحتَمل على صدره قائلا باختناق

" لأني أريد أن أكون جيدا لأجلك ... ولا استطيع "

لا يفهم كريم كلامه بينما ينظر فؤاد لعيني ولده البريئة يتابع بصوت أجوف عميق

" أنا لست بجيد .. أنا اسوأ مما يتخيل أحد "

يسأل كريم بنبرته الرقيقة الفاهمة

" هل ترتكب اخطاءا كثيرة ؟ "

تنفس فؤاد بحرارة وهو يهز رأسه إيجابا ليرد بنفس الصوت

" كثيرة .. كثيرة جدا "

عاد يسأله وهو يناظر النجوم

" وهل تُعاقَب عليها ؟ "

ينظر فؤاد للسماء ولثوان شعر أنها ستقع عليه عقابا فينقبض صدره مغمضا عينيه ثم يفتحهما مجيبا

" أحيانا يكون هناك عقاب .. عقاب مؤلم للغاية .. وأحيانا لا "

يبسط كفه على جانبه بنغزة ألم قديمة وعيناه تشرد بذكريات سوداء .. فيما يتفهم كريم والده ليقول بلين

" إذا عوقبت فمعناه أن الخطأ انتهى .. يجب أن تنساه لكن تتعلم منه حتى لا يتكرر .. هكذا تخبرني أمي "

عاد فؤاد ينظر إليه كأنه طوق خلاص متسائلا

" والاخطاء التي لم أُعاقَب عليها ؟ "

رد كريم ببساطة دنيته الصغيرة الخالية من الهموم

" حاول إصلاحها "

ظلت عيناه بظلامها الأهوج معلقة بولده مفكرا بكلامه .. هو الذي لا يقبل نصحاً كان يأخذ الحكمة من فم طفل صغير !
فجأة التقت عينا كريم بعينيه يسأل بهدوء

" هل الخلاف الذي بينك وبين أمي كان سببه خطأ من اخطائك أيضا ؟ "

رعدة باردة سرت في جسده كأن كريم صعق ضميره بسؤاله .. لم يستطع الرد إلا بإيماءة نادمة من رأسه مبعدا عينيه للسماء
عبس كريم وهو يفكر في حل لمعضلة أبيه وامه ثم يسأل

" ألن تحاول إصلاح ذلك الخطأ ؟ "

رد فؤاد وهو يرمقه بطرف عينه بتوجس

" احاول "

رغم صغر سنه إلا أنه يشعر بما حوله ويخاف أن ينزلق معه بالحديث .. لئيم مثل أبيه !!
صمت كريم قليلا لينطق اخيرا فكرته

" انا ساجعلها تسامحك .. أنت فقط جهز باقة ورود وتعال لتجثو أمامها "

ارتفعت زاوية شفتي فؤاد وهو ينظر إلي كريم ببطء ثم يقول مستنكرا

" نعم يا روح أبيك !! "

لم ينتبه كريم لما قاله بل نهض جالسا متربعا يقول بحماس

" اسمع مني فؤاد .. صدقني ستسامحك هكذا "

فؤاد !!.. صار لديه نسخة ثانية من عماد لكن تشبهه هو !!
نهض فؤاد متربعا مثله يضيق عينيه بالسؤال

" أين رأيت هذا يا ولد ؟! "

رد كريم مبتسما بإثارة

" رأيته في فيلم امريكي .. والبطلة سامحت البطل فورا "

ابتسم فؤاد بلطف مبالغ ناظرا في وجه ابنه ليمسح على لحيته قائلا بفظاظة

" تريدني أنا أن اجثو أمام أمك !!.. اقصد والدتك !!.. حل عبقري يا كريم ! "

تمسك كريم بذراعيه ليحاول إقناعه بالمزيد

" صدقني أبي .. سينتهي كل الخلاف وتعود لتعيش معنا .. ألا تريد ذلك ؟.. ألا ترى أمي جميلة وتريد البقاء معها ؟! "

تتسع ابتسامة فؤاد ليجيب بألفاظه

" أمك ... "

تنحنح فجأة متسع العينين مصححا

" اقصد والدتك جميلة بالطبع "

أدار وجهه ناظرا للشرفة حيث كانت تقف ورغما عنه يتذكر تلك الليلة الوحيدة له مع اسما فيعترف همسا

" وجمالها كان سبب غبائي ! "

وجمال آخر يلح عليه كان سبب غباء آخر .. جمال يبرق برقا ما ظن أن يخرج من آل الرافعين ، ولم يرَ فتاة بجمالها في عائلتهم بأكملها ، لكنها شبيهة الزهراء بالفعل والزهراء من قلب مدن الجمال كما كان يسمع عنها صغيرا !
اليوم يشتهيها كما اشتهى والده أمها !.. العرق دساس !!
انزعجت ملامحه وهو يحاول إبعاد كل ما رآه ويراه وقت وجوده مع كريم الذي أطرق بحزن قائلا

" أنت لا تريد أن تصالح أمي وأن تبقى معنا أبي "

أحاط فؤاد وجه ولده وقلبه يطرق مشتاقا كلما سمع أبي فيقول برفق صادق

" أنا احاول كريم لأني أريدك أن تظل أمامي دائما .. يومي لا يكتمل إلا بك .. ولا اشبع منك أبدا "

اومأ كريم بوجوم كأنه يصدق فيبتسم فؤاد ليقبل شعره ووجنتيه ثم يضمه إلي صدره بقوة .. يشعر انه ينقيه من كل اخطائه بطريقة عجيبة ملموسة .. داخله يتغير .. ينير .. قلبه ينبض بلا شـر
يشدد ذراعيه حول كريم قائلا بلهفة حقيقية

" لو تعرف كم أحبك .. أحبك كثيرا .. كثيرا "

فجأة تذمر كريم بلغة انجليزية وهو يخلص نفسه منه قائلا بامتعاض

" ابتعد فؤاد ستخنقني .. تبا لحبك !!.. كلما ضممتني تؤلمني عظامي ! "

يضحك فؤاد عاليا وهو يحرره ناظرا له يعدل ثيابه منزعجا نافخا مثله !.. تباً للحب وسنينه !!
صوت رسالة سمعه فأخرج هاتفه مبتسما لكريم لينظر إلي الشاشة يطالع رقما يحفظه باسمها يقرأ

( أنا عند بيتك .. تعال لننهي كل ما بيننا الليلة )

بلحظة واحدة يطفو شيطانه ليقلب ملامحه بقسوة غضب مخيف .. مخيف بشراسة
غضب التجرؤ على القدوم لعرينه
الثعبان في أشد حالاته عنفا يتلوى في الدماء .. دماء تلون عينيه الحادة وهو .. يتوحش !.
.................................................. ...



دقت ساعتها .. السابعة والنصف مساءا

في مكانها بسيارة علي تنتظر وطال انتظارها منذ الرابعة مساءا .. عيناها تتركز على منزل ' راسل رافع ' حتى يحين موعد دخولها
قلبها يدق إثارة وترقبا لليلة .. ليلة أصعب من أن تمر سريعا .. ليلة تستحق انتظارا طويلا
الخامسة والنصف وصل شهاب .. السابعة وصل رمزي بنفس توقيت إرسالها الرسالة إلي فؤاد ومكالمة أكرم .. ثم هاتفي عمها قاسم وأمها
الآن تنظر إلي ساعتها النظرة الأخيرة .. وانتظار أخير ..
ثوانٍ فقط ورأت سيارة مجنونة تمر برقا لتتوقف أمام المنزل وينزل فؤاد منها بكل همجية يدخله ..
صدرها يتحرك بقوة لا تدري رد فعله حين لن يجدها لكنها تدعو أن يكون كل شيء بتوقيته
بعدها بدقيقتين تقريبا رأت أكرم ينزل من سيارة أجرة بغضب شديد ويدخل المنزل دافعا حارس الأمن الذي أراد منعه
لحظات وسيأتي عمها .. لحظات وستصل الزهراء .. الآن بيديها كل الأطراف ..
الدائرة تبقى لها القليل وتكتمل .. وتنغلق !
نزلت ألماسة من السيارة راسخة النظرات بكبرياء الجبال .. وبكل ثباتها كانت تتقدم من المنزل ..
لقد كانت هى هذه المرة .. خارجة عن السيطرة .. تماما !!.






انتهى


نورهان عبدالحميد غير متواجد حالياً  
التوقيع






رد مع اقتباس
قديم 04-04-20, 12:28 AM   #504

mansou

? العضوٌ??? » 397343
?  التسِجيلٌ » Apr 2017
? مشَارَ?اتْي » 3,026
?  مُ?إني » عند احبابي
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
?  نُقآطِيْ » mansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond repute
?? ??? ~
«ربّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَاغْسِلْ حَوْبَتي، وَأجِبْ دَعْوَتي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي.»
افتراضي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

mansou غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-04-20, 07:00 AM   #505

مهجه123

? العضوٌ??? » 406229
?  التسِجيلٌ » Aug 2017
? مشَارَ?اتْي » 127
?  نُقآطِيْ » مهجه123 is on a distinguished road
افتراضي

صرااااحه يقف اللسان عااااجز عن الوصف ابدااع ماشاءالله
قريت كل الفصول المنزله وماكان نفسي تخلص 💔
سلمتي عزيزتي


مهجه123 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-04-20, 11:13 AM   #506

زهرة الغردينيا

نجم روايتي


? العضوٌ??? » 377544
?  التسِجيلٌ » Jul 2016
? مشَارَ?اتْي » 4,778
?  نُقآطِيْ » زهرة الغردينيا has a reputation beyond reputeزهرة الغردينيا has a reputation beyond reputeزهرة الغردينيا has a reputation beyond reputeزهرة الغردينيا has a reputation beyond reputeزهرة الغردينيا has a reputation beyond reputeزهرة الغردينيا has a reputation beyond reputeزهرة الغردينيا has a reputation beyond reputeزهرة الغردينيا has a reputation beyond reputeزهرة الغردينيا has a reputation beyond reputeزهرة الغردينيا has a reputation beyond reputeزهرة الغردينيا has a reputation beyond repute
افتراضي

السلام عليكم ورحمة اللة وبركاته
تسجيل حضور
بانتظار الفصل


زهرة الغردينيا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-04-20, 08:44 PM   #507

Hendalaa

? العضوٌ??? » 383726
?  التسِجيلٌ » Oct 2016
? مشَارَ?اتْي » 222
?  نُقآطِيْ » Hendalaa is on a distinguished road
افتراضي

بالانتظاااااااااااااااااا اااااار

Hendalaa غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-04-20, 09:09 PM   #508

ام سليم المراعبه

? العضوٌ??? » 342138
?  التسِجيلٌ » Apr 2015
? مشَارَ?اتْي » 568
?  نُقآطِيْ » ام سليم المراعبه is on a distinguished road
Rewitysmile1

تسجيل حضورررررر منتظرين الفصل واحداثه على نار

ام سليم المراعبه غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-04-20, 11:07 PM   #509

Noor Alzahraa

? العضوٌ??? » 352224
?  التسِجيلٌ » Sep 2015
? مشَارَ?اتْي » 225
?  نُقآطِيْ » Noor Alzahraa has a reputation beyond reputeNoor Alzahraa has a reputation beyond reputeNoor Alzahraa has a reputation beyond reputeNoor Alzahraa has a reputation beyond reputeNoor Alzahraa has a reputation beyond reputeNoor Alzahraa has a reputation beyond reputeNoor Alzahraa has a reputation beyond reputeNoor Alzahraa has a reputation beyond reputeNoor Alzahraa has a reputation beyond reputeNoor Alzahraa has a reputation beyond reputeNoor Alzahraa has a reputation beyond repute
افتراضي

في فصل جديد اليوم؟؟؟.

Noor Alzahraa غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-04-20, 11:17 PM   #510

تالن يوسف

? العضوٌ??? » 431382
?  التسِجيلٌ » Sep 2018
? مشَارَ?اتْي » 162
?  نُقآطِيْ » تالن يوسف is on a distinguished road
افتراضي

تسجيل حضور 💕💕💕💕💕

تالن يوسف غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:26 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.