آخر 10 مشاركات
مهجورة في الجنة(162) للكاتبة:Susan Stephens (كاملة+الرابط) (الكاتـب : Gege86 - )           »          في قلب الشاعر (5) *مميزة و مكتملة* .. سلسلة للعشق فصول !! (الكاتـب : blue me - )           »          594- فراشة الليل -روايات عبير دار ميوزيك (الكاتـب : Just Faith - )           »          قـيد الفـــيروز (106)-رواية غربية -للكاتبة الواعدة:sandynor *مميزة*كاملة مع الروابط* (الكاتـب : نورهان عبدالحميد - )           »          319 - زواج غير تقليدي - راشيل ليندساى - احلامي (اعادة تنزيل ) (الكاتـب : Just Faith - )           »          307 – الحب والخوف - آن هامبسون -روايات أحلامي (الكاتـب : Just Faith - )           »          غزة والاستعداد للحرب القادمة (الكاتـب : الحكم لله - )           »          253- لعبة الحب - بيني جوردن - دار الكتاب العربي- (كتابة/كاملة)** (الكاتـب : Just Faith - )           »          في أروقة القلب، إلى أين تسيرين؟ (الكاتـب : أغاني الشتاء.. - )           »          جدران دافئة (2) .. سلسلة مشاعر صادقة (الكاتـب : كلبهار - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

Like Tree508Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 04-09-20, 10:08 PM   #521

دروب ال

? العضوٌ??? » 419433
?  التسِجيلٌ » Mar 2018
? مشَارَ?اتْي » 113
?  نُقآطِيْ » دروب ال is on a distinguished road
افتراضي


موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .

دروب ال غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 05-09-20, 12:11 AM   #522

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
Rewitysmile9 الفصل الثالث والستون



الفصل الثالث والستون



برويةٍ انحنت بجسدها للأمام، لتفتش بين أغراضها في دولابها الخشبي، خاصة الرف الأوسط، والذي تحتفظ به بأغطية الفراش المطوية النظيفة، وجدت "بثينة" ضالتها، فاعتدلت في وقفتها، وأخرجتها من الداخل لتنظر لها مجددًا؛ لفةٌ بلاستيكية مغلقة بإحكام، بلونٍ داكن، لا يظهر ما تحويه بداخلها، تبدو بيضاوية بعض الشيء، أدارتها بين يديها، متسائلة في نفسها بفضولٍ كبير:

-يا ترى فيها إيه دي؟

لم تكن أيضًا بثقيلة الوزن؛ لكنها أصابتها بالحيرة، رغبت في معرفة ما بهل، ومع ذلك تحركت بها نحو ضيفها المنتظر بغرفة الصالون، ناولته إياها وهي تسأله:

-دي عبارة عن إيه يا "محرز"؟

كان متحفظًا، ومراوغًا، في رده عندما أجابها:

-سيبك منها، وخلينا في المهم...

ثم أسندها إلى جواره؛ وكأنه غير مبالٍ بها، ليقول بهدوءٍ:

-عندي طلبية جديدة تبعنا، توريدة من العيار التقيل، يومين وهخلصها، وأجيبلك المعلوم.

هزت رأسها في استحسان، وعلقت:

-كويس.. أهي حاجة تعوض الخسارة اللي حلت عليا.

استأذنها "محرز" بتهذيب:

-هاتعبك معايا يا ست الكل، عايز فنجان قهوة مظبوط يعدل دماغي

-إنت تؤمر يا "محرز".

تابعها بنظراتٍ مراقبة إلى أن اختفت بداخل مطبخها، فأخرج هاتفه المحمول، وطلب على عجالةٍ أحدهم، أخفض نبرته، ليبدو صوته غير مسموعٍ حين قال:

-الأمانة معايا، جاهزة على التسليم.

أصغى للطرف الآخر بانتباهٍ تام، وعقب:

-حاضر هبلغ "حاتم"، وأظبط معاه.

بتعجلٍ أنهى المكالمة محافظًا على ثبات تعابيره، وفحص اللفة بدقةٍ، ليتأكد من عدم فتح "بثينة" لها؛ كانت كما هي، ابتسم في رضا، فقد كانت كل الأمور تسير على ما يرام، وجلس مسترخيًا منتظرًا عودتها إليه.

.................................................. ...............

-أيوه يا "هاجر" أخوكي ظلمني!

رددت تلك العبارة المصحوبة بنبرة حارقة، وصدرها قد غص بالبكاء الخانق، حين سألتها شقيقة طليقها عن أحوالها، لم تمسح "خلود" دموعها عن خديها، تركتهم كدليلٍ حي وملموس عن قهرها، ومدى الظلم الذي تعايشه الآن، نظرت في عينيها بنظراتٍ ملتهبة، وتابعت نحيبها بمشاعرها الناقمة:

-وإنتي أكتر واحدة عارفة أنا بأحبه إزاي.

اقتربت منها بعد أن مددت رضيعها على الفراش، وضعت يدها على كتفها، وربتت عليه بحنوٍ، قبل أن ترد بتعاطفٍ:

-من غير ما تقولي، أنا متأكدة يا حبيبتي.

تحركت خطوة بعيدًا عنها، لتزيح يدها من على كتفها، والتفتت نحوها لتواجهها، واستطردت مُلقية بسيلٍ من التهم الحانقة عليه:

-وبدل ما يقف جمبي، يهون عليا اللي حصلي، رميني خالص، وشاغل عقله باللي خربت بيتي ...

سكتت للحظة لتثبط من اضطراب أنفاسها المختنقة، ثم كزت على أسنانها معاودة لومها له بعينين ناريتين:

-تلاقيه دلوقتي بيفكر يتجوز من تاني، ويعيش حياته، وإياكش أنا أولع

اعترضت عليها "هاجر" بحذرٍ، حتى لا تثور ثائرتها مجددًا:

-أنا مش معاكي يا "خلود"، "تميم" مش كده!!

نظرت لها ابنة خالتها بعدائية، في حين أكملت موضحة لها:

-ولا عمره بتاع بنات، ممكن أصدق أي حاجة عليه إلا كده، لا دي كانت أخلاقه، ولا تربيته.

علقت عليها بنظرات جامدة، وقد توقفت عن ذرف الدموع:

-إنتي مش عارفة حاجة.. طيبة زي تملي يا "هاجر"، أنا بأموت كل ثانية وهو مش جمبي فيها، حسي بيا يا "هاجر"، ده احنا بنات زي بعض.

هزت رأسها في تفهم، ثم انخفضت نظراتها نحو يد "خلود" التي قبضت على رسغها، ضغطت عليها الأخيرة بقبضتها، ورجتها بما يشبه التوسل:

-أنا عاوزاكي تساعديني أرجعه.

حملقت فيها باندهاشٍ مليء بالغرابة، وسألتها بترددٍ:

-إزاي؟

تعمدت "خلود" التهاوي بساقيها لتركع قبالتها على ركبتيها، رفعت أنظارها المغلفة بدموعٍ تنجح دومًا في استدعائها، حين حاجتها إليها، لتتسول عواطف الآخرين، انتحبت بصوت مرتفع، واستعطفتها بصوتٍ ذليل:

-عشان خاطري يا "هاجر"، اقفي جمبي، ماترفضيش بالله عليكي.

حاولت الأخيرة سحب يدها من بين أصابعها التي تشدها، وفي محاولة يائسة منها لإجبارها على النهوض، تمكنت "هاجر" من إيقافها، ثم ردت عليها بقلة حيلة:

-وهو أنا في إيدي حاجة؟ يعلم ربنا مقطعاه تقريبًا، وعمالة ألومه في الرايحة والجاية.

لهج لسانها وامتزج عبراتها بمخاط أنفها، وهي تزيد من ضغطها عليها برجائها المُلح:

-خليه يرجعلي، أنا بأموت من غيره، وحياة ابنك "سلطان"، اتكلمي معاه، قوليله مراتك بتحبك، مراتك مستعدة تسامحك، بس يردني ليه، إن شاءالله أكون خدامة تحت رجليه.

تفاجأت "هاجر" من حالتها التعيسة، بدت لوهلة مصدومة من وضعها، اعتبر ما تمر به يقطع نياط القلوب، ويدفعك للتعاطف مع ظروفها غير العادلة، بسبب إخلاصها الشديد وتفانيها في حبها، هزت رأسها بالموافقة، قبل أن تؤكد لها علنًا، ودون إعادة تفكير:

-من غير ما تحلفيني بيه، أنا هاعمل اللي عليا، وربنا يقدم اللي فيه الخير.

برزت ابتسامة امتنانٍ باهتة على محياها، واكتفت بعدم إضافة المزيد، عل إلحاح من حول "تميم"، والإشارة لبؤسها الموجع، وقهرها المفطر للقلوب، يعيده إليها.

.................................................. .....

أصغت لأكاذيبه والترهات التي لم يتوقف عن الثرثرة بها، منذ لحظة عودته إلى المنزل، مدعية تصديقها له؛ لكن حدسها يؤكد لها النقيض، لم تبتسم، وبدا وجهها خاليًا من أي تعبير غريب، بل على العكس قالت له بنبرة عادية؛ وكأنها تهتم لأمره:

-الله يكون في عونك يا خويا، غير هدومك كده وروق على نفسك.

مسح "خليل" عرقه الزائد المتصبب على جبينه، بمنديل قماشي مصنوع من القطن، لعق شفتيه، وتابع كذبه:

-والله يا "حمدية" الواحد بيتعب جامد في شغله، نفسي أسيب الهم ده كله وأركز في الدكان الجديد.

ببرودٍ مريب قالت له:

-وماله يا "خليل"، شوف المصلحة فين وأعملها.

ابتسم مضيفًا:

-تسلمي يا "أم العيال"..

ثم تنهد في تعبٍ، وأكمل؛ وكأنه يوضح لها باقي روتينه:

-هاخش الحمام أخد دش، لأحسن جسمي معفر من الطريق، وبعد كده هاقعد معاكي إنتي والعيال، وآخر النهار هنزل عند "آمنة" اعرف منها الجديد.

علقت بكلماتٍ موحية، أظهرت التوتر على ملامحه:

-الجديد كله عندي.

ابتلع ريقه، وسألها:

-قصدك إيه؟

أجابته بنفس الهدوء المربك له:

-متخدش في بالك يا "خليل"..

وأشارت له بيدها، حين تكلمت مضيفة:

-ابقى شوف السخان حرارته عالية ولا لأ.

حرك رأسه بإيماءة صغيرة، وخطا في اتجاه الحمام مكملاً حديثه له، بما يشبه الوعد:

-لما ربنا يفرجها معانا، هنبقى نجيب سخان غاز نركبه بدل التعبان ده.

قالت بوجهٍ جامد التعبيرات:

-إن شاء الله ..

رافقته "حمدية" بنظراتٍ غريبة، توحي بنوايا غير بريئة مطلقًا، وما إن اختفى في الداخل حتى توعدته:

-قالوا للبومة كام مهرك، قالت 10 بيوت خراب، وأنا هاخربها عليك يا "خليل"، لو طلعت متجوز عليا!!

.................................................. .....

سكونها كان ظاهريًا؛ لكن بداخلها كان كل التخبط الذي لا يمكن تخيله، ما رفضته، وأصرت على عدم القبول به، لكونه يجبرها على اختيارات لا تروق لها، اليوم ترتضي به، وبخنوعٍ يناقض شخصيتها المتمردة على ما هو عقيم. أشاحت برأسها للجانب، بعد أن اكتفت من التطلع لزرقة المياه المغرية، وعادت لتطلع إليه، بابتسامته المنمقة، وهيئته اللبقة، لم تمس "فيروزة" كأس مشروبها البارد، والذي تحول للسخونة بفعل حرارة الجو، واحتفظت بصمتها المغلف بابتسامة مرسومة بعناية، خلال محادثة "آسر" لها، في نفس المطعم الذي اجتمعت به توأمتها مع زوجها وأقربائه .. يا للسخرية! الزمن يعيد نفسه، مع فارق أنها تجلس كعروسٍ مستقبلية، لشخص لا تكن له أي مشاعر، ولا تشعر نحوه حتى بقدرٍ من الانجذاب .. انتفاضة منزعجة سرت ببدنها، وقد تجرأ مُضيفها على لمس كفها المستريح على الطاولة، سحبته سريعًا للخلف في صرامةٍ وتحفظ، أسندته في حجرها، لتمنعه من تكرار الأمر، وعلى عكس ما توقعه، بدا "آسر" هادئًا، لم يظهر على تعابيره المسترخية أدنى تغيير احتجاجًا على جمودها المتشدد معه، تركزت نظراتها المحملة بالكثير على وجهه عندما سألها:

-تحبي ننزل امتى ننقي الشبكة؟

ردت بهدوءٍ، وتاركة لها حرية الاختيار؛ وكأن الأمر لا أهمية له لديها:

-الوقت اللي يناسبك.

استند بمرفقيه على الطاولة، بعد أن أبعد فنجان قهوته، بادلها النظرات المهتمة، وقال:

-أنا معاكي في اللي تختاريه يا "فيروزة".

تنهيدة بطيئة لفظها من جوفه، ليكمل بعدها:

-بس أتمنى نخلص كل حاجة بسرعة، إنتي عارفة بعد كتب الكتاب لازم أسافر، عشان أرتب للإقامة بتاعتك، وبعد كده أبعت أجيبك، وآ..

أعطته جوابًا صريحًا:

-هسأل ماما، وأرد عليك.

أومأ برأسه معقبًا عليه، وابتسامته ما تزال تحتل شفتيه:

-تمام ..

ســاد الصمت من جديد، وعادت "فيروزة" لتدير رأسها بعيدًا عنه، وتحدق في أمواج البحر المتقلبة، في فترة وجيزة تبدلت الأمور عليها؛ ما بين سعيها لإقامة مشروع شبابي يدر عليها المال، وبين معاناتها لحرق حلمها، وبيعه بسعر زهيد، ليتبع ذلك إذلالها بين الأقرب إليها، وأخيرًا تجربة الحبس المهينة، لمحات غير مضيئة مرت بحياتها أضفت المزيد من السواد عليها، انتشلها "آسر" من استغراقها في تفكيرها المرهق لروحها، نظرت إليه مرة أخرى، وقد استطرد متجاذبًا معها أطراف الحديث:

-أنا عاوز أسألك في حاجة، بس متردد شوية.

سمحت له قائلة:

-اتفضل.

سألها بصراحةٍ، ونظراته الحذرة تدور على ملامحها، لتلاحظ ردة فعلها:

-هو إنتي زعلانة عشان مش هنعمل حفلة للخطوبة أو حتى للفرح؟ أكيد إنتي بتحلمي بليلة مميزة زي أي عروسة، وده طبيعي.

بمنطقية بحتة أجابته، ودون أن تتأثر تعبيراتها:

-إنت هاتكون مش موجود، أعتقد مافيش داعي ليه، الفرح مش هايكون ليه لازمة من غير وجود العريس.

كانت محقة في رأيها، وأيدها مدعيًا حزنه:

-فعلاً.. اللحظة دي مهمة عندي زي ما هي عندك، بس أنا أوعدك هاعوضك.

حركت شفتيها لتظهر ابتسامة مجاملة، بينما أخبرها "آسر" وهو مسبل عينيه نحوها:

-"فيروزة"، أنا عايزك تتأكدي إنك هاتكوني أكتر واحدة سعيدة معايا.

ظلت ابتسامتها المصطنعة كما هي على ثغرها، وهي ترد:

-إن شاءالله.

أرجع ظهره للخلف، واعترف لها بحماسٍ:

-الصراحة متوقعتش إني أقع في الحب بسرعة كده، ومن أول لحظة شوفتك فيها مع "علا".

تنحنحت بخفوتٍ، ورمشت بعينيها قبل أن تتشجع لتبوح له:

-أنا حابة أكون صريحة معاك، أنا لسه مش حاسة ناحيتك بحاجة دلوقتي، يعني بأقدرك، وأحترمك، جايز مع الوقت آ...

قاطعها بشكلٍ مفاجئ:

-أنا مش مستعجل، المهم نكون سوا يا حبيبتي.

قطبت جبينها، وضاقت نظراتها في استنكارٍ، فاستأذن منها، وهو يبتسم:

-اسمحيلي أقولك يا حبيبتي..

اعتذرت منه بجديةٍ بائنة في قسماتها، وكذلك نظراتها:

-ممكن ماتقولهاش غير لما تبقى العلاقة بينا رسمية، ده أفضل.

اعترض بلطفٍ:

-أنا عارف كلها كام يوم وهنكون سوا، بس مش قادر أستنى، أنا مجنون بيكي.

تحرجت من اعترافاته الهائمة بها، لم تعتد على مثل ذلك، فتجنبت الخوض معه في جدال، ربما سيسير في اتجاه حميمي أكثر إن استمرت في الاعتراض عليه، وللمرة الأولى امتدت يدها، وتناولت الكأس، بللت جوفها بالمشروب الطبيعي المنعش، وسألته بعدها:

-إيه اللي عجبك فيا؟ أنا عادية جدًا، معنديش حاجة مميزة، في مليون بنت غيري تقدر تتقدملها، وأكيد ظروفهم أحسن مني.

صمت لبرهةٍ، وعيناه مثبتتان على وجهها؛ وكأنها تدرسانه، ليقطع سكوته اللحظي معترفًا لها بصدقٍ؛ وإن كانت نواياه خبيثة:

-لأنك يا "فيروزة" مختلفة عن أي حد عرفته.

.................................................. ...................

على الجانب الآخر، جلست "همسة" مع والدتها على طاولة ثنائية، وإلى يسارهما جلست "حمدية" بصحبة زوجها، على طاولة منفصلة، ركزت الأولى كامل انتباهها مع توأمتها، وخطيبها، بدت سعيدة للتجاذب اللطيف بينهما، وإن كان خاليًا من أي حماس؛ لكنه مُرضي للطرفين، مالت نحو والدتها، ليبدو صوتها مسموعًا إليها، وهي تقول لها:

-حلوين أوي يا ماما، شكلهم يفرح القلب، تحسيهم لايقين على بعض.

التفتت "آمنة" لتنظر نحوهما، وردت بإيجازٍ:

-ربنا يهنيهم.

أراحت "همسة" جانب وجهها على باطن كفها، وتطلعت إليهما بمحبةٍ، قبل أن تواصل حديثها:

-يا رب.. بجد "فيروزة" تستاهل كل خير.

لم تكن ملامح والدتها بالسعيدة مُطلقًا، فقد رأت جريرة رفض ابنتها الأولي له كخطيب، وشعرت بأنها مرغمة على القبول به، لتنأى بنفسها من شر ابن عمها، وإن كان يعني ذلك تعاستها، دمدمت بأنفاسٍ مهمومةٍ، والضيق يكسوها:

-طول عمرها حظها قليل.

استغربت ابنتها من التشاؤم البادي عليها، واعترضت بصوتٍ خفيض:

-ماتقوليش كده يا ماما، كل واحد بياخد نصيبه، وأنا واثقة إن "فيرو" هتلاقي مع "آسر" كل اللي كانت بتتمناه.

همهمت بفتورٍ:

-يا ريت.

استدارت "همسة" برأسها للجانب الآخر، وألقت نظرة على "خليل" وزوجته، كانا مشغولان بتناول الطعام الشهي، احتلت الأطباق المليئة بالأصناف المختلفة مساحة الطاولة بالكامل، وهذا غير اعتيادي على خالها، حيث كان الأخير حريصًا كل الحرص على عدم إنفاق ماله إلا في الضرورة القصوى، وبمعايير معينة، واليوم ينفق بسخاء شديد، مطت فمها في دهشةٍ، ثم أبعدت نظراتها لتهمس لوالدتها، بنوعٍ من التهكم:

-أومال خالي واخد جمب مع مراته ليه؟ مش بعوايده يدلعها كده، جايبلها أكل غالي، وحلويات وعصاير، ده يتحسد.

بدت غير مبالية وهي تجيبها:

-جايز بيعوضها عن غيابه.

لم يكن بالرد المقنع، فكتفت ساعديها، وتساءلت باهتمامٍ فضولي:

-تفتكري؟!!

نهرتها والدتها عن التدخل فيما لا يعنيها مشددة عليها بنظراتها، وأيضًا بنبرتها:

-مالناش دعوة بيهم، هما أحرار.

ثم طردت الهواء الثقيل من صدرها، ونطقت بتعب:

-خلينا نشوف هنعمل إيه بعد كده، لسه ورانا حاجات كتير تخص جوازة أختك.

.................................................. ...

بطيئة كأدهر، انقضت الليالي عليه كل واحدة تشبه الأخرى، بما فيها من كآبة، وأحزان، لم يترك نفسه لعقله، أرهقه بإغراقه في المزيد من الأعمال المستنزفة لقواه، ليعود مساءً إلى فراشه، غير قادرٍ على الحركة أو التفكير، فينام مانعًا الأحلام من زيارته .. عكف "تميم" على مراجعة دفتر آخر، بعد أن اكتشف عدم تطابق البيانات والأرقام في الدفتر الأول، قارنه بالفواتير المجمعة في ظرف قديم من اللون الأصفر الداكن، والتي من المفترض أنها تخصه، لاحظ وجود نفس الفروق على فترات متزامنة، ليست متعاقبة؛ لكنها متكررة بطريقة تدعو للاسترابة، ناهيك عن ضياع بعض الفواتير ذات القيم الشرائية العالية. لف يده خلف رأسه، ليضعها على عنقه، ويفرك بها فقراته المتيبسة، مرددًا لنفسه:

-الحكاية دي مش طبيعية، مش مرة والسلام!

قلب في الفواتير مجددًا، وفتش في الدرج السفلي الذي تتواجد به الأظرف، باحثًا عن فاتورة ضائعة، أو أخرى تائهة بين مقتنياته؛ لكن لا شيء، مما ضاعف من حيرته، توقف عن البحث، وأرجع ظهره للخلف ليريحه، متابعًا حديث نفسه؛ وكأنه توصل لاستنتاج ما:

-إما إن في حد بيسرقنا، يا حد بيعمل شغل من ورانا.

أنهكه البحث عن التفسير المنطقي للتلاعب البائن في الأوراق التي فحصها، وبالتالي لم ينتبه لمن يراقبه في الخلف، غامت تعابير "محرز"، وتوحشت نظراته، بخطواتٍ حثيثة، انسحب قبل أن يلحظه وهو يتوعده:

-هو لو فضل على الحال ده، كل حاجة هتتكشف، يبقى لازم أتغدى بيك قبل ما تتعشى بيا.

كالمذعور قفز في مكانه حين باغته "هيثم" متسائلاً من خلفه:

-بتعمل إيه يا "محرز"؟

استدار نحوه بوجهٍ مفزوعٍ، وادعى بالكذب، وهو يحاول لملمة شتاته:

-بأراجع الطلبات اللي ورانا في دماغي، الشغل اليومين دول كتير والحمدلله.

حك "هيثم" طرف ذقنه معلقًا عليه بطرافة:

-إيه يا عم هتحسدنا ولا إيه؟!

رمقه بتلك النظرة الحادة قبل أن يوبخه:

-أنا عيني شبعانة طول عمرها، الدور والباقي عليك، يوم هنا، ويوم في أجازة، تقولش موظف شغال في الحكومة.

رد عليه بتعصبٍ:

-هو بمزاجي يا "محرز"؟ ما إنت عارف المشاكل اللي واقعة اليومين دول، ده غير أخت الجماعة هتتجوز.

كان في البداية غير منتبه لجدالهما الصاخب؛ لكن إفصاحه عن قرب زواج "فيروزة"، وتطرقه إلى سيرتها، دفعت حواس "تميم" للتيقظ كليًا، واشتعلت بروحه المعذبة، تلك النيران التي تلتهم صموده الزائف، وتزيد من تحطيم فؤاده، جاهد بكل ما امتلك من بقايا قوى وعزيمة على تجاهل ما يخصها؛ لكنه فشل، دومًا تسحبه إلى دوامتها المهلكة؛ وكأنها تعرف من أين تُجيد تعذيبه. عض على شفته السفلى، كاتمًا مشاعر الحنين لحبٍ لا أمل فيه، وخنق بقساوةٍ دمعة غادرة فرت إلى طرفه، ليهب بعدها واقفًا، ودافعًا مقعده الخشبي للخلف، قبل أن يلتفت نحوهما ليصيح بهما بخشونة:

-ما كفاية رغي بقى، وكل واحد على شغله، البضاعة لسه في سوق الجملة، عايزة تتشحن على التلاجات.

نظر "محرز" في اتجاهه، وقال بوجومٍ:

-أنا واخد الرجالة وطالع على هناك..

ثم التفت ناحية "هيثم" ليسأله:

-جاي معايا؟

هز رأسه بالنفي وهو يرد:

-لأ، رايح مع الجماعة مشوار عند الجواهرجي، ولو خلصت معاهم بدري هحصلك.

انفلتت أعصاب "تميم" بعد جملته العفوية تلك، بدا في تصرفه المنفعل عليه، وكأنه قنبلة نُزع فتيلها للتو، فامتلأت الأجواء بالبارود الحارق، حيث صرخ به:

-نسيبنا من شغلنا، ونركز مع موال جماعتك يا "هيثم"، ده مال ناس، ومصالح، ولا عايزنا نجيب ضرفها بدري؟!

رد عليه بأسلوبٍ شبه هازئ:

-لأ يا معلم، مش هتوصل للدرجادي، أنا بردك خايف على المصلحة .. وبعدين هانت .. كلها يومين وتتفض الليلة دي كلها.

طعنه بكلماته الأخيرة دون أن يدري، فاحترق أكثر، وانكوى بنيران هجرٍ لن يتذوق مرارته سواه، بلغ تلك الغصة التي تشكلت في حلقه، وقال بجمودٍ منهيًا الحوار، ومستديرًا بظهره ليبتعد عنهما:

-يكون أحسن.

ركل "تميم" المقعد بقدمه في عصبيةٍ، فأسقطه أرضًا، مما سبب صخبًا مزعجًا، وجمع الدفاتر معًا، ليعيدها في مكانها بالخزينة، قبل أن يغلقها وينصرف. تابعه كلاً من "محرز" و"هيثم" بنظراتٍ متعجبة، فتساءل الأول في استغرابٍ:

-هو ماله ده؟

أجاب الأخير بنفس الحيرة:

-مش عارف!

ربت "محرز" بيده على ذراعه، وأضاف، وقد همَّ بالتحرك:

-طيب خليك إنت هنا، وأنا ماشي.

اكتفى بهز رأسه، وظل ماكثًا في الدكان يدير حركة العمال، بعد ذهاب الجميع.

.........................................

-لسه زي ما إنت؟

تساءل "محرز" بتلك الجملة الساخرة وهو يدفع الباب ليلج للسطح، ليجد "نوح" ما زال يدخن تلك النارجيلة المشبعة بالمواد المخدرة، وهو يجلس مستلقيًا على الوسائد الأرضية، انضم إليه، وجذب منه خرطومها ليسحب نفسًا عميقًا يختبر به مدى جودة المنتج، أطلق الدخان في الهواء، وقال في مدحٍ:

-حتة أصلي يا صاحبي.

قال بتفاخرٍ، وهو يستعيد خاصته ليستنشق دخانها:

-إنت عارفني، في المزاج أستاذ.

أثنى عليه "محرز" بهدوءٍ:

-طبعًا.

ثم مد يده ليتناول إحدى زجاجات البيرة، نزع غطائها، وألقاه على الأرضية، ثم تجرع ما بها في جوعه، لتتقلص عضلاته مع مذاقها اللاذع، أدار رأسه في اتجاه رفيق السوء، عندما تساءل بفتورٍ، وهو يضبط حجر الفحم المتقد ليزيد من وهجه:

-ها .. السبوبة إيه المرادي؟ نقلة جديدة؟

نفى موضحًا بغموضٍ مثير:

-لأ، حريقة كبيرة.

بدا من حديثهما المتبادل في اقتضابٍ، أنها لم تكن المرة الأولى التي يتشاركان فيها في أعمالٍ غير مشروعة، تساءل "نوح" بفضولٍ، وقد أظهر استعداده للمشاركة:

-حلو .. فاضي ولا مليان؟

رد غامزًا له بابتسامة منتشية:

-مليان يا بونط.

حرر "نوح" أنفاس الدخان من صدره، وقال بتلميحٍ متوارٍ:

-كده الفيزيتا (التكلفة) هتعلى!

أكد له بثقةٍ ملموسة في صوته، وتعابيره المستريحة:

-متقلقش.. هنتراضى كويس.

تساءل، وخرطوم نارجيلته بين شفتيه:

-زي الفل، الكلام على مين بقى؟

جاوبه بغموضٍ، ونظراته تحولت للقتامة:

-واحد حبيبك..

سأله مستفسرًا، قبل أن يسحب نفسًا آخرًا عميقًا، حبسه للحظات في صدره المحترق:

-مين يعني؟

ثوانٍ لم تتجاوز أصابع اليد الواحدة صمت خلالها، لينطق بعدها مفصحًا عن هوية الضحية الجديدة:

-"تميم"، ودكانه.

بمجرد الإعلان عنه، هبطت الصدمة غير المتوقعة على رأسه، لتصيبه بالارتباك والذهول، اختنق بدخان نارجيلته، وسعل بقوةٍ جارحًا أحباله الصوتية، بصوتٍ مبوحٍ مختلط ببقايا الدخان والسعال، سأله في توجسٍ مندهش:

-نعم .. "تميم" بتاعنا؟ ابن الحاج "بدير"؟

حرك "محرز" رأسه بإيماءة بسيطة، دون أن يبدو عليه التعاطف معه، وقال مؤكدًا –وبحسمٍ- وتلك اللمعة الشيطانية تتراقص في نظراته:

-أيوه .. هو المغضوب عليه ..................................... !!!

.................................................. ............






منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس
قديم 05-09-20, 01:11 AM   #523

ام حاتم الطائي

? العضوٌ??? » 464229
?  التسِجيلٌ » Apr 2020
? مشَارَ?اتْي » 345
?  نُقآطِيْ » ام حاتم الطائي is on a distinguished road
افتراضي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية . موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .

ام حاتم الطائي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 05-09-20, 08:08 AM   #524

نور علي عبد
 
الصورة الرمزية نور علي عبد

? العضوٌ??? » 392540
?  التسِجيلٌ » Feb 2017
? مشَارَ?اتْي » 944
?  نُقآطِيْ » نور علي عبد has a reputation beyond reputeنور علي عبد has a reputation beyond reputeنور علي عبد has a reputation beyond reputeنور علي عبد has a reputation beyond reputeنور علي عبد has a reputation beyond reputeنور علي عبد has a reputation beyond reputeنور علي عبد has a reputation beyond reputeنور علي عبد has a reputation beyond reputeنور علي عبد has a reputation beyond reputeنور علي عبد has a reputation beyond reputeنور علي عبد has a reputation beyond repute
افتراضي

تسلم ايدك ياجميله 🌼
محرز شيطان نفسي تكون نهايته تتناسب مع جرائمه واتوقع نهايته قريب
بالتوفيق ان شاء الله 🌼


نور علي عبد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 05-09-20, 10:17 PM   #525

Dina abd elhalim

? العضوٌ??? » 434126
?  التسِجيلٌ » Oct 2018
? مشَارَ?اتْي » 242
?  نُقآطِيْ » Dina abd elhalim is on a distinguished road
افتراضي

روايه رائعة جدا جدا
متشوقة النهاية


Dina abd elhalim غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 05-09-20, 10:36 PM   #526

ع عبد الجبار

? العضوٌ??? » 460460
?  التسِجيلٌ » Jan 2020
? مشَارَ?اتْي » 260
?  نُقآطِيْ » ع عبد الجبار has a reputation beyond reputeع عبد الجبار has a reputation beyond reputeع عبد الجبار has a reputation beyond reputeع عبد الجبار has a reputation beyond reputeع عبد الجبار has a reputation beyond reputeع عبد الجبار has a reputation beyond reputeع عبد الجبار has a reputation beyond reputeع عبد الجبار has a reputation beyond reputeع عبد الجبار has a reputation beyond reputeع عبد الجبار has a reputation beyond reputeع عبد الجبار has a reputation beyond repute
افتراضي

بارت مشوق جدا بالانتظار الفصل القادم ابدعتي جدا بارك الله فيك 🌹🌹

ع عبد الجبار غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 08-09-20, 06:49 PM   #527

فوفو1980

? العضوٌ??? » 439000
?  التسِجيلٌ » Jan 2019
? مشَارَ?اتْي » 65
?  نُقآطِيْ » فوفو1980 is on a distinguished road
افتراضي

اجمل منال في العالم احلي رواية واحلي فيروز

فوفو1980 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 09-09-20, 12:16 AM   #528

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
Rewitysmile9 الفصل الرابع والستون



الفصل الرابع والستون



كان من العسير عليه، أن يستوعب فكرة التخلص من أحد أهم رجــال منطقتهم الشعبية، ممن يملكون الصيت القوي، والسلطة غير المحدودة، ناهيك عن سيرة واسعة النطاق، بين أوساط رجال السوق، والتجار الثقال. ظل "نوح" باقيًا على حالته المندهشة، محدقًا في وجه "محرز" بنظراته المصدومة، لعق شفتيه، وسأله مجددًا، ليتأكد من كونه لا يهزئ، وأن مفعول المخدر لم يعبث برأسه حقًا:

-إنت بتكلم عن المعلم "تميم" بتاعنا؟ مش حد تاني؟ ولا ده المدعوق اللي بأشربه؟

أجابه ببرود، وهو يحرر دفعة أخرى من الدخان من صدره:

-أيوه هو!

دعك وجهه بيده المتعرقة، وصاح متسائلاً في توترٍ:

-طب ليه؟ وعشان إيه؟

استوى على المقعد الهابط، واسترخى أكثر عليه، قبل أن يجيبه بغموضٍ، وبلهجةٍ شبه آمرة:

-من غير ما تسأل، وتوجع دماغنا، نفذ على طول

ثبت عينيه عليه، وأظهر تردده بوضوحٍ عندما أكمل:

-بس الحكاية كده ماتطمنش، طول عمر المعلم جدع معانا، وآ...

قاطعه بجمودٍ، وتعابيره القاسية بائنة للعيان:

-ساعته أزفت، كفاية عليه كده!

اعترض بنفس الخوف البائن في نبرته:

-بس آ...

تلك المرة قاطعه بحزمٍ، ليقطع عليه السبل للتراجع:

-بأقولك إيه، ماتلوكش كتير، واعتبره زي أي مصلحة بنخلصها، الفرق هناخد سبوبة زيادة.

ورغم هذا رد "نوح" بتوجسٍ مفزوع:

-ده احنا هنهيج علينا الدنيا كلها، المعلم "تميم" مش واحد عوأ والسلام، ده آ....

توقف عن الكلام ليبتلع ريقه؛ لكن "محرز" مد ذراعه ناحيته، ووكزه برفقٍ فيه، ثم غمز بطرف عينه يستحثه:

-ماتخافش، وخلي قلبك جامد، دي زي طلعات زمان.

لم يخبت خوفه، بل زاد عليه موضحًا هواجسه:

-ده أنا لازم أخاف، وأعمل حسابي مليون مرة، ده المعلم "تميم"، هو إنت بتكلمني عن واحد صايع، ولا موظف كحيان، ده ليه شنة ورنة!

سأم من خذلانه الواضح، وهدر به يوبخه:

-يخربيت المعلم زفت بتاعك ده، فلقت دماغي بيه...

ثم لانت نبرته قليلاً، حين استخف به:

-ده ولا يقدر يعمل أي حاجة، صدقني، اللي زي "تميم" ده من بتوع الصيت ولا الغنى.

تساءل "نوح" ببساطة، وقد رأى مدى بغضه له في حدقتيه:

-للدرجادي إنت بتكرهه؟!!

رمقه "محرز" بتلك النظرة النافرة، قبل أن يبعد نظراته عنه، وعلق بفتورٍ:

-لا كره ولا محبة، أنا مع المصلحة مطرح ما تكون!

لم يسترح لرده، ولا للمسألة برمتها، شعر أنها ستكون بداية النهاية لمسيرتهما غير المشروعة، لفظ زفيره ببطءٍ من صدره، وهمهم بارتعابٍ معلوم أسبابه:

-استرها علينا يا رب!

.................................................. .......

تصدع غير مرئي شعرت به في علاقتها معه، رغم تلك الابتسامات المنمقة التي تغطي محياها، لتُشعر من حولها أنها حقًا تهتم لأمره، أغدق عليها بكل ما تحتاج إليه الفتاة؛ من المحبة، الاهتمام، والتفاهم، ليستحوذ عليها قلبًا وقالبًا؛ لكن علاقتهما افتقرت إلى الانسجام، والتناغم. لم تجد روح "فيروزة" الضائعة نصفها المكمل في شخصه الهادئ، بدا بأسلوبه المنظم والدقيق غريبًا عنها، وإن كان يسعى بشتى الطرق ليشعرها بقربه، وتواجده في محيط حياتها، بذلت جهدًا مضاعفًا لتجبر عقلها، وقلبها –معًا- على فكرة تقبله، وكان ذلك من الأمور المستعصية عليها، مذكرة نفسها أنه لم يفعل ما يسئ لها مطلقًا، دومًا يعاملها بلباقةٍ وتهذيب، يمنحها معطيات السرور الأولية، لهذا بعقلانية رجحت كفة الميزان المنطقية، واستمرت في مسعاها لإتمام زيجتهما.

زيارة شبه يومية كان يقوم بها، ليحرص على إنجاز ما تم الاتفاق عليه أولاً بأول، وفي مرته تلك، جلس منفردًا بها في غرفة الصالون بمنزلها، إحساسًا من الرهبة اتخذ طريقه إليها، وتسلل أسفل جلدها، بعد أن منحها مظروفًا مغلفًا يحوي الأوراق التي تخص سفرها، رفعت أنظارها لتتطلع إليه، وهو يوضح لها بابتسامته الثابتة:

-كل حاجة مترتبة يا "فيروزة"، مش ناقص بس غير إنك تنوريني في بيتنا المتواضع في "دبي".

بادلته نظراتٍ تائهة، لم يكن بالمازح حين أخبرها أنها ستنتقل للإقامة معه بعد عقد قرانهما، ببضعة أسابيع، قطعت صمتها اللحظي لتسأله:

-هو لازم أسافر؟

رد "آسر" متسائلاً، بنوع من العتاب الممتزج باللؤم:

-يعني ينفع كل واحد فينا يفضل في بلد؟

بدت تعبيراتها غير مسترخية وهي تعقب عليه:

-أنا كنت مفكرة هنكتب الكتاب، ونقعد فترة، عقبال ما نوضب بيتنا هنا، ونتجوز فيه، وبعد كده نسافر سوا.

أكد لها بابتسامة أكثر اتساعًا، تناقصت مع استمراره في حديثه:

-ده هيحصل، وبيتي موجود زي ما قولتلك...

تنهد سريعًا، وعلل لها ساردًا أسبابه:

-بس هياخد وقت في التوضيب، لأنه قديم، فمالوش لازمة التأخير عشان أظبط مع شوية عمال، ومقاولين، وبتوع نجارة، ومش عايز أقولك إن كل يوم يدوني ميعاد شكل، ومافيش حد بيلتزم، ولا حاجة بتخلص في وقتها ...

ثم تجرأ ليمسك بيدها الموضوعة في حجرها، احتضنها بين كفيه، وأسبل عينيه نحوها قائلاً لها بتنهيدة بطيئة:

-وبعدين يا حبيبتي، أنا بعد الثواني عشان نكون سوا.

شعرت بقشعريرة مزعجة تجتاحها لمجرد تلمسه لها دون استئذانٍ، سحبت يدها سريعًا للخلف لتتحرر منه، وقالت بوجهٍ شبه عابس؛ كأنه تهذبه:

-لو سمحت، مش بحب كده.

هز رأسه بإيماءة متفهمة، وقال دون أن تخبو بسمته، وهو يعيد ظهره للوراء:

-براحتك .. وأنا مش حابب إني أضايقك.

وعلى حين غرة ولج "خليل" للداخل لينضم إليهما مرحبًا بضيفه:

-منور يا عريس.

استدار "آسر" برأسه نحوه، ورد مجاملاً:

-البيت منور بأصحابه دايمًا يا أستاذ "خليل".

سأله الأخير مستوضحًا:

-على ميعادنا الخميس الجاي إن شاء الله؟

هز رأسه بالإيجاب وهو يقول:

-أيوه، اتفقت مع المأذون يجي هنا على بعد صلاة العشا، وسلمته الورق المطلوب.

تصنع العبوس، وزفر الهواء بتمهلٍ، ليضيف بعدها؛ وكأنه حقًا يشعر بالتعاسة لأجلها:

-كان نفسنا نعمل حفلة وهيصة، دي بنتنا وفرحتها تهمنا.

تحولت أنظار "آسر" نحو "فيروزة" ليتأمل تعابيرها الواجمة، بدت غير راضية عن تذمر خالها، ومع ذلك استغل الفرصة ليكرر اقتراحه بهدوءٍ واثق:

-معنديش مشكلة .. لو "فيروزة" حابة، فأنا جاهز نحجز في أكبر فندق و آ.....

قاطعته حاسمة أمرها، بما لا يدع أي مجال للمناقشة:

-لأ مش عايزة، زي ما اتفقنا من الأول، أعدة عائلية على الضيق.

على أعتاب الغرفة، وقفت "حمدية" في سكونٍ حذر تتابع بتلصص ما يدور بالداخل، وعلامات الامتعاض تكسو وجهها، حدجتها بنظرة ساخطة مزدرية، وتمتمت من بين شفتيها بصوتٍ خفيض:

-وش فقر!

تنحنحت عاليًا بعدها وهي تكمل سيرها نحو الداخل، وصينية موضوع بها حلوى الجلي بالموز تحملها بين يديها، وضعتها أمام الضيف، وقالت مفتعلة الضحك:

-بص بقى يا سي الأستاذ دي عمايل إيدي، ولا أجدعها شيف فيكي يا جمهورية.

هتف مجاملاً، ونظرته المشرقة تضيء قسماته:

-ما هو باين من شكلها اللي يفتح النفس.

ضحكت مجددًا، وجلست إلى جوار "فيروزة"، ثم استطردت مضيفة بسماجة سخيفة:

-بس أنا زعلانة منك، إزاي تهاود عروستنا كده، وتعملها فرح سُكيتي؟ ده إنت مقامك عالي، وهي ..

تعمدت التباطؤ في كلماتها الأخيرة، وعيناها مرتكزتان على وجه "فيروزة"، لتراقب ردة فعلها بانتشاءٍ مستفز؛ وكأنها تريد تذكيرها بمذلتها الأخيرة، في بيت عمها، على يدها، ويد غيرها، من أجل كسر هامتها:

-بنت بنوت، وزي الفل.

ببساطة علق عليها "آسر":

-والله أنا مش ممانع.

نظراتها الوقحة، وتعابيرها الشامتة كانتا كفيلتان بإشعال جذوة غضبها، تلون وجهه "فيروزة" بحمرة نارية، وصاحت بها بعصبيةٍ، قاصدة إحراجها، وربما التشاجر معها:

-ممكن ماتدخليش، دي حاجة تخصني.

اغتاظت "حمدية" من هجومها عليها، خاصة أنها بدت متحفزة للتشابك اليدوي معها، وهيئتها أكدت استعدادها الفعلي للمضي قدمًا في ذلك، لذا التفتت نحو زوجها تشكوها له:

-شايف يا "خليل" بتكلمني إزاي؟ أل وأنا اللي عايزاها تفرح وتتبسط!

على ما يبدو لم يكن زوجها منتبهًا لها، فهاتفه المحمول كان في يده، وتركيزه بالكامل تقريبًا مع ما تم إرسـاله إليه عبر رسائل خطه، في حين ردت "فيروزة" بتشنجٍ، ونظراتها قد تحولت للقتامة:

-وإنتي مالك؟ دي حياتي أنا، خليكي في اللي يخصك وبس.

أشــار لها "آسر" بيده، راجيًا:

-اهدي يا "فيروزة"، الموضوع مش مستاهل ده كله.

للمرة الثانية أحرجتها أمام الضيف، فشعرت "حمدية" بمزيدٍ من الاستياء، وهتفت في زوجها:

-ما تقول حاجة يا "خليل"؟!!!

رفع الأخير نظراته المشغولة عن شاشة هاتفه، وأدرك أن كافة الأعين متجهة إليه، خاصة نظرات "حمدية" الحانقة، أومأت له برأسها في اتجاه ابنة أخته، ليقول بصوتٍ رخيم، وبجملة اعتراضية محايدة، محاولاً مجاراة المحادثة التي لا يدرك ماهية تفاصيلها بالضبط:

-جرى إيه يا "فيروزة"؟ ماتزعليش حد منك!

ردت عليه "حمدية" بتهكمٍ:

-ده اللي ربنا قدرك عليه؟

هنا تدخلت "آمنة"، وزجرتها بصرامةٍ:

-خلاص يا "حمدية"، زي ما بنتي تعوز هنعمل.

استغربت الأخيرة من تضامنها مع ابنتها، على عكس المعتاد منها، وقالت لاوية ثغرها بتأففٍ:

-هو أنا قولت حاجة غلط؟ على رأي المثل، العروسة للعريس والجري للمتاعيس.

نهض "خليل" واقفًا ليستأذن، بقليل من الربكة البادية عليه:

-معلش يا ابني، المدير طالبني في الشغل، هارد عليه في البلكونة، وراجعلك تاني.

أشــار له "آسر" قائلاً بتفهمٍ:

-اتفضل خد راحتك يا أستاذ "خليل".

لعق شفتيه، وقال مؤكدًا:

-دقيقة وجاي.

لم تسترح "حمدية" للتوتر الملبك الظاهر على تصرفات زوجها؛ كان مرتبكًا، متلجلجًا، يبدو وكأن به خطب ما، استراب حدسها الأنثوي بشدة، وانتظرت خروجه لبضعة لحظات، حتى تتبعه، وتفتش ورائه .. ســارت بخطواتٍ حثيثة، استندت بظهرها على الحائط الملاصق لنافذة الشرفة، وأرهفت السمع لهسيس صوته وهو يقول:

-حاضر يا "سماح"، إديني كام يوم بس، وهاقولها أي حِجة، وأجيلك.

غمامة مظلمة حلت على ملامح "حمدية"، والتي كانت تكتم أنفاس حنقها بصعوبة، مجهود يفوقها بذلته لتبدو ساكنة، وهي تكتشف حقيقة خيانته لها مع امرأة غيرها، وإن كانت زوجته، لا يحق لأخرى مشاركتها فيه، تصلبت في مكانها، ولازمت الهدوء، فلا ينتبه لوجودها، سمعته يقول لها بلهجة منزعجة رغم خفوتها:

-هعمل إيه يعني؟ خدي البت للدكتور يشوفها.

زفيره الطويل وصل إلى مسامعها، ليكمل بعدها منهيًا مكالمته:

-طيب هبعتلك فلوس بكرة في البريد، سلام بقى.

على عجالةٍ أخفت تعابير الغضب، وتراجعت بضعة خطوات للخلف، لتبدو وكأنها قد جاءت لتوها، ادعت اهتمامها الزائف بأمره، وسألته:

-في حاجة يا "خليل"؟

تفاجأ من وجودها، فردد بلعثمة متوترة، والعرق يغزو جسده:

-"حــ...حمدية"!

ببرودٍ متقن سألته، وكأنها لا تعرف الحقيقة المخبأة:

-وشك قلب كده ليه؟

لعق شفتيه الجافتين، وقال نافيًا:

-مـ.. مافيش.

رفعت حاجبها للأعلى، وتساءلت بابتسامة ساخطة، أخفت ورائها نيران حقدها:

-ها، المدير كان عايزك في إيه السعادي؟

تنفس الصعداء لاعتقاده أنها صدقت بسذاجة كذبته السخيفة، وأجابها بعبوسٍ:

-ده .. بيقولي إن بنته تعبانة، ونقلها المستشفى، واتحجزت هناك.

زمت شفتيها في أسفٍ، وتساءلت:

-يا حرام.. شوف إزاي؟ وده من إيه يا خويا؟

تنهد على مهلٍ، ثم جاوبها مسترسلاً في تجميل كذبته بوقائعٍ منطقية، علها تنطلي عليها:

-مش عارف.. بس باين من كلامه حالتها صعبة، واحتمال يغيب كام يوم، وبيرتب معانا الشغل هيمشي إزاي.

قطبت جبينها، وعلقت باقتناعٍ مفتعل:

-ده شكل الموضوع كبير.

أكد عليها بثباتٍ، بعد أن استعاد كامل هدوئه:

-الظاهر كده، المرض مالوش كبير.

ضاقت عيناها، وقالت:

-أيوه.

نظر إليها مضيفًا بشيء من الرجاء المختلط بالسخرية:

-عندك حق. ادعيلها يا "حمدية"، ده إنتي دعوتك مستجابة.

على ثغرها ارتسمت ابتسامة باهتة وهي ترد:

-أه طبعًا.

وقبل أن يختتم كلامه معها، أخبرها بحذرٍ، مترقبًا لردة فعلها:

-مش عارف بقى إن كان هيكلفني أقوم بالشغل مكانه ولا لأ.

أتاه تعليقها حياديًا:

-هنشوف يا "خليل"..

ثم ربتت على كتفه تستحثه:

-بلاش نشغل بالنا بحاجة لسه مجاش وقتها، وتعالى نشوف العريس اللي مستني جوا.

وافقها الرأي، وقال في استحسانٍ:

-معاكي حق.

تباطأت "حمدية" في خطواتها وهي تتبعه؛ لكن نظراتها نحوه أكدت أنها ستذيقه من الويلات ما لن يطيق مطلقًا.

.................................................. ............

أزاح المنشفة عن رأسه المبلل بعد تجفيف خصلاته تقريبًا، وألقى بها بإهمالٍ على فراشه، ليقف أمام المرآة، ويبدأ في تمشيطه، وترتيب المتنافر منه، وما إن انتهى "تميم" من إكمال ارتداء ثيابه، حتى خرج من غرفته، واتجه إلى غرفة الطعام؛ حيث شرعت شقيقته في رص الأطباق، استعدادًا لتناول الغذاء، ألقى عليها التحية متسائلاً:

-عاملة إيه يا "هاجر"؟ وحبيب خالو أخباره إيه؟

بوجهٍ شبه متجهم أجابته:

-الحمدلله.

كان متفهمًا لجفاء معاملتها معه، فتلك وسيلتها المكشوفة للضغط عليه، من أجل العودة إلى زوجته السابقة؛ لكنه لم يشتكِ من جمود تصرفاتها، وتقبل ما تفعله برحابة صدر، بينما تساءلت "ونيسة" بصوتٍ شبه عالٍ، وهي تضع صينية البطاطس بالفرن الساخنة في المنتصف:

-مش ناوي تتغدى معانا؟

هز رأسه بالنفي وهو يجاوبها:

-لأ يامه، كلوا إنتو بالهنا والشفا، أنا عندي شغل متلتل ورايا.

عقبت في تذمرٍ ساخط:

-أهوو كل يوم واجع قلبي كده، لا بترضى تاكل، ولا بقينا نشوفك، ولا كأنك تعرفنا، زي ما تكون قاعد في لوكاندة، تيجي تبات فيها آخر النهار، مش بيت أهلك ولا ...

ثم تطرقت للموضوع الآخر، والذي لا يحبذ سماعه مُطلقًا:

-حتى مش عايز ترد "خلود" الغلبانة تاني لعصمتك، ده البت بعد كل اللي حصل فيها لسه شرياك، هتموت نفسها عليك، وبتحبك، والله ما يرضي حد إنك تظلم مراتك كده!

حاول إجبار شفتيه على التقوس، والابتسام قليلاً، ثم صحح لها –ككل مرة- بأسلوب ساخر:

-ما بقتش مراتي يامه، دي بنت خالتي وبس، إنتي على طول كده ناسية؟!

حدجته بنظرة قوية مستنكرة، قبل أن تتنمر عليه:

-ده اللي فالح فيه، تتنأرز عليا بالكلمتين الخايبين دول.

أصر على قوله مشددًا عليها، علها تتخلى عن تلك الفكرة الميؤوس من حدوثها:

-ماهي دي الحقيقة اللي لحد دلوقتي إنتي مش قادرة تستوعبيها.

اِربد وجهها بالضيق من تعنته، والتفتت إلى ابنتها تُشركها في الحوار:

-قوليله حاجة يا "هاجر"، اتكلمي معاه إنتي، أنا جبت أخري، ومابقاش عندي حاجة أقولها.

وقبل أن تشرع شقيقته في لومه، بادر الجد "سلطان" متدخلاً، وهو يجلس على رأس المائدة:

-ما تسيبوا "تميم" في حاله، بلاش شغل الحريم ده عليه.

ردت عليه "هاجر" مبررة تصرفها:

-يا جدي احنا كلنا عايزين مصلحته، نفسنا نشوفه متهني في بيته وآ...

قاطعها معلقًا بنبرة هازئة:

-ومافيش إلا بنت "بثينة" عشان تعمل كده؟!

أطبقت على شفتيها في حرج، فتابع ملوحًا بذراعه:

-ما أكم (يوجد) في مليون بنت غيرها.

ردت عليه "ونيسة":

-احنا أولى بيها من الغريب.

أشاح بنظراته الباردة عنها، وقال:

-خليها للغريب، معدتش تنفعه.

كان "تميم" يراقب جدالهم دون أدنى تدخل منه، كان فاقدًا للرغبة في النقاش في أمر يستبعد كليًا تكراره، ابتسم بتلقائيةٍ، وارتخت ملامحه، حين أخبره جده:

-اتوكل على الله يا ابني، وسيبك من كلامهم، دي صفحة واتقفلت من حياتك.

هز رأسه في استحسانٍ، واستطرد بكلماتٍ مقتضبة:

-تسلم يا جدي.

ثم ودع والدته، التي لم تنبس بكلمةٍ، واتجه إلى خارج المنزل، ليتساءل بعدها "سلطان" موجهًا حديثه إلى حفيدته:

-وجوزك عامل معاكي إيه؟ معدناش بنشوفه خالص.

أجابته بتنهيدة متمهلة:

-الحمدلله، مشغول على طول يا جدي في الدكان.

رفع حاجبه للأعلى، وقال بابتسامةٍ ذات مغزى:

-يعني زي أخوكي، طفحان الدم، مش فايق لرغي الحريم، ولا مين طلق مين.

تلون وجهها بحمرةٍ حرجة من تلميحه الصريح، وتلعثمت وهي تبرر:

-أنا عاوزة الخير لأخويا.

أشار لها بعينيه قائلاً بصرامةٍ:

-أخوكي عارف مصلحة فين، وركزي إنتي في حياتك، وابعدي عن الوسواس الخناس خالتك!

على مضضٍ ردت:

-طيب.

.............................................

زيلت بيدها توقيعها بجوار اسمها في قسيمة الزواج الموضوعة أمامها، قبل أن تلطخ إبهامها بالحبر الأزرق لتختم به الأوراق، وأصوات الزغاريد تصدح حولها، ليتم الإعلان بهذا عن إتمام عقد قرانها. تلقت "فيروزة" التهنئات الغبطة من "همسة" أولاً، مصحوبة بقبلات حارة على جانب وجنتها، ثم تبعتها والدتها، وزوجة عمها، وصديقتها "علا"، بينما وقفت "حمدية" على الجانب ترمقها بنظراتها الحاقدة. كان التجمع عائليًا، ومحدودًا؛ المقربون فقط هم من حضروا، لم يتجاوز عددهم عن العشرين، تواجدوا في مطعمٍ شهير تم حجزه مسبقًا للاحتفال بالزواج.

التفتت "فيروزة" برأسها للجانب، عندما تحدث إليها عمها:

-مبروك يا بنت الغالي، بارك الله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير.

وبوجه خالٍ من التعبيرات، ردت تجامله:

-أمين، شكرًا يا عمي.

وضع يده على كتفها، واعتذر منها:

-أنا مش عايزك تزعلي مني يا بنتي بسبب اللي حصل، أنا عارف إنك بنت أصول، ومتربية، بس الشيطان بقى وآ....

أفسد عليها –دون قصد منه- مزجها المتوتر مسبقًا، بكلماته المُحفزة، لذكريات ترفض وبشدة نبشها من جديد، لذا قاطعته مدعية كذبًا:

-خلاص يا عمي، أنا نسيت الموضوع ده.

ربت على كتفها بضربات خفيفة، وابتسم يمتدحها:

-ربنا يكملك بعقلك..

ثم صمت للحظة ليضيف بعدها:

-"فضل" كان عايز يجي، بس مراته تعبانة، عقبالك يا رب حامل.

بابتسامة متحفظة ردت:

-ربنا معاها.

انتهى من حديثه معها، لتتخذ "سعاد" دورها في إسماعها بعض التوصيات التقليدية من أجل حياة أسرية سعيدة، مستقرة، وهانئة، دقائق أخرى انقضت عليها وهي تجيد تمثيل اهتمامها بالإصغاء للجميع، حتى لمحت زوجها مقبلاً عليها.

تقدم "آسر" نحوها وهو يتأملها بنظراتٍ بطيئة، متمهلة، مليئة بالإعجاب، تجول بعينيه على ثوبها الكريمي الرقيق الخالي من البهرجة، أو الزينة المبالغة فيها، كان قماشه مدعمًا بطبقاتٍ من التل المتراصة فوق بعضها البعض، ليمنح الثوب كثافة مقبولة، فتزيده حجمًا من الخصر، وصولاً للأسفل، أما كتفيه فكانا يغطيان ذراعيها بالكامل، وفتحه صدره لا تكشف إلا عن عنقها فقط، لاق الثوب بها كثيرًا. ارتفعت أنظاره نحو تفاصيل وجهها، مسحة ناعمة من مساحيق التجميل ازدانت بها بشرتها، فمنحتها المزيد من الجمال الباعث على السرور في النفس، كما أنها لم تحرر خصلاتها، وعقدتها في كعكة تدلت لأسفل رأسها، مزينة بطوقٍ من الإكسسوارات الذهبية، ووضعت مشبكًا رقيقًا، على جانب شعرها، تصميمه كان كما تحب؛ لطاووسٍ صغير.

ابتسم بعذوبةٍ وهو يمد يده ليمسك بكفها، رفعه "آسر" إلى فمه ليقبله في لباقةٍ تحرجت منها للغاية، لكونه يفعل ذلك علنًا، ثم مال نحو صدغها برأسه، ليبدو صوته قريبًا من أذنها، وهمس لها:

-زي القمر يا "فيروزة".

ردت بابتسامةٍ صغيرة:

-شكرًا.

رفع ذراعه للأعلى تقريبًا، وبخفةٍ مسد على شعرها، وكأنه يسويه، شعرت "فيروزة" بيده تنتزع مشبك رأسها من الجانب، اختفت ابتسامتها، وتطلعت إليه باندهاشٍ مستنكر، وقبل أن تعترض على تصرفه، كان مشبكها في راحته، يخبئه بداخلها، حاوطها بذراعه من خصرها، وظلت أنظاره مثبتة على وجهها المتقلص عضلاته، ابتسم موضحًا لها بصوتٍ خفيض:

-شكله رخيص، وبلدي أوي عليكي.

ردت بتحفظٍ محتجة على رأيه:

-بس عاجبني.

أومأ برأسه بحركة خفيفة، وقال ملطفًا:

-هاجيبلك الأحسن منه، ده مافيش حاجة تغلى عليكي يا حبيبتي.

اتسعت ابتسامته أكثر، وغمز لها بطرف عينه، قبل أن يقول بعبثيةٍ:

-دلوقتي من حقي أقولك يا حبيبتي.

من المفترض –وفي تلك الليلة- أن تسعد "فيروزة" كثيرًا لمشاعر الحب الودودة المحاصرة لها، وكذلك لتلهف زوجها على التودد إليها؛ لكنها لم تشعر بمظاهر السعادة تجتاحها مطلقًا، فقط أحاسيس الانقباض، والخوف من المجهول، وبدا ذلك مُربكًا لها.

ارتفع صوت الموسيقى، فأرخى "آسر" قبضته عن المشبك، ليلقيه بغير مبالاة على الأرضية، تحرك بخفةٍ في اتجاهه، ودعسه بقدمه ليحطمه بكعب حذائه، وفي غفلة منها، وكأنه تخلص من قمامة، لا قيمة لها.

...........................................

بقلبٍ مكسورٍ، وروحٍ محطمة، وعينين تحبسان الدمع فيهما، اختبأ "تميم" كاللصوص، في تلك البقعة المعتمة نسبيًا، في سيارته، وعلى مسافة جيدة من هذا المطعم تحديدًا، حيث تكشف حوائطه الزجاجية عما يدور بالداخل للمارة في الطريق، رأها توقع صك ملكيتها لغيره، ولم يجرؤ على إبعاد نظراته عنها، ومع سماعه لانطلاق أصوات الزغاريد، ذرف الدموع قهرًا، فالحقيقة أصبحت نافذة، لم ولن تكون له أبدًا، تبخرت الأحلام البسيطة، وتلاشت في معترك الحياة الأليمة، أما الوحشة فعادت لتحتل قلبه وتغلفه، اشتدت أصابعه على عجلة المقود، وقال لنفسه بحزنٍ؛ وكأنه يواسيها:

-هي خلاص اختارت طريقها، وحتى ماتعرفش أصلاً إني .....

بتر اعترافه بعشقه المنفرد، قبل أن تتجرأ شفتاه على النطق به، تنفس بعمقٍ، ومسح بظهر كفه وجهه المبتل، ثم قال في أسفٍ، كما لو كان يناجي المولى، وبنبرته الحزينة:

-يا رب أنا ما عمريش طلبت حاجة لنفسي مخصوص، طول عمري بأفكر في غيري، وضحيت بسنين من عمري عشان غيري...

نشج صوته أكثر، وغلفه المزيد من الشجن، وهو يتابع:

-هي الحاجة الوحيدة اللي اتمنيتها من كل قلبي.. بس راحت خلاص مني..

انسابت دموعه الحرقة مرة أخرى تأثرًا بابتعاده المحتوم عنها، والذي بدا وكأنه دوامة ساحقة للروح من العذاب الأبدي، نكس رأسه منتحبًا في أنينٍ خافت، وأنهى سلوان نفسه مرددًا بعينين ارتفعتا ببطءٍ نحو السماء:

-أكيد يا رب ليك حكمة في كل اللي بيحصلي، أنا راضي بقضاءك، فصبرني عليه.

أخفض حدقتيه المشبعتان بعبراته ليراها تحملق أمامها بشرودٍ، التقت عيناه -وسط العتمة التي يختبئ بداخلها- بنظراتها الضائعة لمرة كانت فعليًا الأخيرة له.

.................................................. ..........

بغير ترتيب مسبق، اتصل هاتفيًا بها، في تلك الساعة المبكرة، لتستفيق من نومها العميق على خبر صدمها بشدة، وجعل حواسها تتيقظ بالكامل، خاصة أنه كان بعد بضعة ساعات من عقد قرانها عليه، ليربك كافة حساباتها، ويفسد جميع مخططاتها بشأن إعادة تغيير تصاميم الديكور للمنزل المملوك لزوجها، والذي لم تره بعد! سألته "فيروزة" في ذهولٍ، وهي تدعك عينيها بقبضة يدها، لتطرد بقايا آثار النعاس منهما:

-يعني إيه إنت في المطار؟

رد عليها "آسر" بنبرة هادئة معتذرًا منها:

-أنا أسف يا حبيبتي، بس في مشكلة حصلت في الشغل، ولازم أسافر حالاً.

تعقدت ملامحها وهي تسأله مستفهمة:

-فجأة كده؟

أخبرها باقتضابٍ:

-أيوه.

سألته بنفس النبرة المصدومة:

-طب وأنا؟ وترتيباتنا سوا، احنا متفقين على إننا هنروح نختار ألوان الدهان، وآ...

منعها من إكمال جملتها بتكرار اعتذاره:

-حقك عليا، هعوضك لما تجي عندي، هتقضي أحلى أيام.

سألته كمحاولة أخيرة فاشلة، كانت متأكدة أنها لن تجدي نفعًا:

-مكانش ينفع تأجلها كام يوم؟ الموضوع شكله بايخ أوي لما تسافر تاني يوم كتب كتابنا.

بهدوءٍ علق على ذلك، وقال:

-حبيبتي محدش ليه عندنا حاجة، وبعدين كان صعب أأجل السفر.

زلة لســان انفلتت منه دون وعيٍ، التقطتها "فيروزة"، وسألته مباشرة على الفور:

-يعني إنت كنت حاجز قبلها؟!!

تلجلج وهو يبرر لها:

-لأ.. مش بالظبط... ده أنا آ...

وقبل أن يبدو ضعيف الحُجة أمامها، أضاف بلهجة رسمية للغاية:

-بصي أنا هاكلمك أول ما أوصل، لأحسن الطيارة ميعادها جه، خلي بالك من نفسك.

طردت زفيرها المهموم من رئتيها، قبل أن تنطق:

-حاضر.

غازلها بمعسول كلامه الناعم، فقال:

-هتوحشيني يا قلبي، الدنيا من غير مالهاش طعم، غصب عني أسافر.

لم تجد ما تقوله له سوى:

-حصل خير.

أنهت معه المكالمة وهي ما تزال في حالة اندهاش من سفره المباغت، خابت آمالها، وانهار سقف توقعاتها في تشييد مسكنها؛ لكن ما باليد حيلة، عليها أن تتعامل مع الواقع ومفاجآته الصادمة.

.................................................. .........

بمحض الصدفة عَلِم من "وجدي"، خلال حفل عقد قرانه، عن انشغاله مؤخرًا، بكشف الخيوط المؤدية لإحدى عصابات التهريب الخطيرة، بعد انتقاله لمكتب المكافحة، واستشف من جمله المقتضبة، أنه بصدد الإمساك بأول أطراف الخيط معًا، فاتخذ "آسر" حذره، وحجز تذكرة ذهابٍ (فقط) لدولة الإمارات، على أول طائرة متجهة إلى هناك، استقر في مقعده بدرجة رجال الأعمال، وأمسك بهاتفه المحمول ليهاتف "محرز" ليأمره بلهجة من يقرر:

-ماتخليش أي حاجة ليها صلة بينا، سامعني.

سأله مستوضحًا:

-ليه يا ريس؟

رد بكلماتٍ ذات دلالة مفهومة لهما:

-النسر بيشمشم.

جاءه صوته متوترًا وهو يلاحقه بأسئلته:

-أوبا، وبعدين؟ إيه العمل؟ وحاجات الناس؟

أمره بنفس اللهجة الصارمة:

-نضف كل حاجة وراك، مافيش قشاية.

لم يكن "محرز" راضيًا عما يخبره به، ومع هذا قال له بإذعانٍ مرغم:

-ماشي الكلام، مع إن فيها خسارة كبيرة.

شدد عليه بنبرة لا تمزح:

-الخسارة تتعوض، لكن حياتنا لأ.

رد عليه مستسلمًا:

-معاك حق.

عــاد "آسر" ليأمره، بعباراتٍ متوارية:

-واطلع شم هوا، الجو حلو اليومين دول، قبل الزحمة.

علق بنوعٍ من السخرية:

-حاضر.. نقضيها مصايف.

أنهى "آسر" المكالمة معه، وأغلق هاتفه المحمول، ليغوص بعدها في مقعده المريح، وقد قامت المضيفة بالتأكد من ربطه لحزامه، التفت للنافذة البيضاوية إلى جواره، واستمع بابتسامةٍ تعلو زاوية فمه، إلى صوت المذياع الداخلي بالطائرة، حيث تطلع المضيفة جميع الركاب، على إرشادات السلامة خلال الرحلة الجوية، وشعوره بالارتياح اِزداد تدريجيًا مع بدء تحرك الطائرة على مدرج الطيران .................................................. .............. !!!

.................................................. .............




منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس
قديم 09-09-20, 12:35 AM   #529

Dina abd elhalim

? العضوٌ??? » 434126
?  التسِجيلٌ » Oct 2018
? مشَارَ?اتْي » 242
?  نُقآطِيْ » Dina abd elhalim is on a distinguished road
افتراضي

فصل رائع يا رب تتكشف حقيقة آسر قبل ما تسافرله

Dina abd elhalim غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 09-09-20, 12:53 AM   #530

Om noor2
 
الصورة الرمزية Om noor2

? العضوٌ??? » 445147
?  التسِجيلٌ » May 2019
? مشَارَ?اتْي » 267
?  نُقآطِيْ » Om noor2 is on a distinguished road
افتراضي

كل شوية الامور بتتعقد اكتر ..اهم حاجة فيروزة مش تسافر له

Om noor2 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:04 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.