آخر 10 مشاركات
همسات حروف من ينبوع القلب الرقراق..(سجال أدبي)... (الكاتـب : فاطمة الزهراء أوقيتي - )           »          84-امرأة لورد الشمس - فيوليت وينسبير - ع.ج ( إعادة تنزيل)** (الكاتـب : * فوفو * - )           »          بين أزهار الكرز (167) للكاتبة Jennie Lucas .. كاملة مع الروابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          أنتَ جحيمي (82) للكاتبة المُبدعة: Just Faith *مميزة & مكتملة رابط معدل* (الكاتـب : Andalus - )           »          عشيقة الإيطالي (1) للكاتبة: Jacqueline Baird *كاملة+روابط* (الكاتـب : monaaa - )           »          في بلاط الماركيز(71)-غربية-للكاتبة:منى لطفي(احكي ياشهرزاد)[حصرياً]كاملة بالرابط -مميز (الكاتـب : منى لطفي - )           »          جنون المطر (الجزء الثاني)،للكاتبة الرااااائعة/ برد المشاعر،ليبية فصحى"مميزة " (الكاتـب : فيتامين سي - )           »          أسيرة الثلاثمائة يوم *مكتملة * (الكاتـب : ملك علي - )           »          لك بكل الحب (5) "رواية شرقية" بقلم: athenadelta *مميزة* ((كاملة)) (الكاتـب : athenadelta - )           »          الجاغوار الأسير (68) بقلم majdalina "مميزة"... كاملة & روابط جديدة (الكاتـب : monny - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

Like Tree247Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 17-05-22, 09:32 PM   #41

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي


السلام عليكم ورحمة الله،
فصل اليوم بلا مقدمات .. واعتذر إن كان قصير
وقفت عشاو القفلات، إن شاء الله القادم أطول
أتمنى لكم قراءة ممتعة ..


لا تلهيكم الرواية على الصـلاة


-

الفصــــل الثامــن





" كنتي تعرفين عن زواجي اللي خطى فيه أبوه بخطواته ؟"

عقدت حاجبيها مريم لثواني معدودة ، وبعد هذه الثواني احتدّت نظرة عيناها لتقف أمامها دون رد
أكملت زينة بقهر مخفي :
كنت تعرفين إنه سفك طفولتي .. ومراهقتي بدون إذن منّي ؟
تعرفين عن خُططه ، وسعيه ، وهدفه من زواجي ؟
أردفت مريم بجدية :
وأنا وش دخلني عشان تسأليني ؟ كان الأولى تسألين أبوش
ضغطت على نفسها حتى لا ترفع صوتها :
أسأل قبر فاضي ولا جسد ما نعرف وينه ؟ من أسأل يمّه؟
أنتي اللي كنتي معه بآخر أيامه .. وأكيد تعرفين باللي صار
أشاحت بعيناها ، والقهر يفيض منها
بدأ الإرتجاف يصعد لصوت زينة ، لتُكمل :
يمه تكلمي ، يمه لا تخليني محروقة ومترجيّة للإجابة
أنزلت يديها بجانبها ، بحدة :
الإجابة وش تفيدش لما فكرّتي تسأليني ؟
عضّت زينة على شفتها ، وبصراخ مكتوم :
تفيدني واجد .. لازم تفيدني وأنا صاحبة الشأن
تفيدني أعرف من اللي غدر فيني وباعني برخيص ..
يمه تكلّمي ، لا تخليني أطلّع رجاي قبل سنين في هاليوم بالذات
تكلّمي يمه والله إني على الحافة
وبكلمة واحدة ، دمرّت ما بقي من طمأنينة في صدر زينة
أردفت مريم بجدية :
أعرف
ابتلعت الغصّة التي تكومت في حلقها ، هذا آخر ما كانت توّد سماعه
هذا يعني أن والدها ووالدتها تشاركوا في نحرها من وريدها بلا شفقة
أكملت مريم بذات الحدة :
سواها عناد فيني ، سواها لأني قلت له ولد أخوي يبي بنتّي
سواها ورمى ورقة زواجش قدامي وهو يقول لي بالحرف
"والله ما ينول الذليل ولد أخوش ، ملكة وجوهرة مثل بنتي "
تراجعت للخلف خطوة ، بصدمتها العارمة :
علّقتوني وسط عنادكم ؟ سويتوا منّي لعبة ورُهان ؟
اقتربت منها وهي تشدّ طرف عباءتها من كتفها بغضب :
راهنت عليش تشدّين من أزري . راهنت عليش أبوش توقفين معي وما ترضين عليّ بالضيم
والنتيّجة ؟ وقفتي دايم بصف أبوش ضدّي
أكيد .. مافي شكّ إنش بنت مُرشد دم وطبع ! منتي بنتي
كممت فمها بطرف يدها وهي تضحك بسُخرية ، تضحك بعذاب ، تضحك بألم قاسي ينخر عظام قلبها
انحنت بظهرها وهي تُزفر ضحكاتها المُزيفة ، تأوهت أملها المُجهض ، يالله لا تُصدق أن طوال 23 سنة وهي لُعبة
تُسيّر مثلما يُراد على يديّ والديها
"يالله وجهت وجهي نحو بابك راجيّة أن لا يكون المُراد بقلبي مثل الغِبار .. رجوتك يالله والحال لا يخفى عليك وأنت العليم"
استقامت من انحناءها ، تراجعت للخلف خطوة أكبر
وهي ترفع يداها على مستوى كتفيها
وتقول بسخرية امتلأت بالدموع :
وش أقول ؟ أصفق على المسرحيّة اللي بطلتها الغبيّة أنا ؟
ولا أشجعّكم على لُعبتكم اللي كنت وما زالت أنا ضحيّتها
واحد ميّت ، والثاني متخلّي
أي نوع من أنواع العِتاب بيصير لايق لكم .. ولا شيء
نشكُر أمومتكم إللي ما بانت نتايجها سوى اليوم .
باعدت مريم بين شفاهها لتتحدث وتُكمل ما بقي بقلبها لولا ذاك الإعصار الذي دخل هاجمًا على أرض المجلس
ومن وراءه ابنه خلفه كالمخدوع
ابتلعت ريقها ، وتراجعت خطوة عن زينة وهي تنظر لعينيّ أخيها الهائج ، الذي يصرخ بشدة :
الكلام اللي تقوله صدق يا مريم ؟
تغيّرت نظرات مريم في ثواني الى نظرات شافِقة ، ماكرِة في الوقت ذاته
وهي تقترب من أخيها وتقوم بتهدئته :
هدّي بالك يا أخوي .. هدّي الله يخليك تاج على رووسنا
أنا توني اسمع منها ، حالي من حالك
وجهّت نظراتها نحو ابن أخيها وهي تغمزّ له بأن يسكت ويُكمل التمثيلية معها
اقترب الهائج من زينة لولا يد مريم الذي منّعته ، ليصرخ :
يعني ما كفّاه أبوش باللي سواه .. يجي ويزوجش لولد عمش الخايب ؟
يخسي ما ينول اللي بباله ولد عزّام
-تنّفس بغضب-
سمعيني يا زينة وحطّي ببالش هذا الكلام اللي أقوله
تطلبين الطلاق منه أو تخلعيه ، واحد من هالحلّين .. أما الثالث موتش
أنتي مُستحيل تكوني لغير ولدي
-التفت لمريم وهو يقول بذات الغضب-
قلتي لنا انتظروا على بنتي تكبّر ، وتخلص دراستها وتشتغل
وبعدين خذوها وزوجوها ولدنا
ما درينا إن ولد عزّام مخلّص وقاضي من أمره
ربتت على ظهره وهي تقول بدموع :
ياخوي وأنا وش دراني .. توني أستعلم بالعلم منها قبل لا تدخل أنت
أثاريها كانت جايّة تبّشرني .. والخيبة من الزوج اللي تبّشرني به
قبض على يده بشدة حتى كاد يفتكها وهو ينظر لصمتها :
سمعتيني ؟ ولا صرتي طرما بعد سوايا أبوش ؟
كانت تنظر إلى المسرحية أمامها ووّدت لو أنها تضحك بشدة
تنظر إلى طغيان خالها الذي لم يتغيّر ، ولم يتبدّل ويتعضّ
تنظر إلى ذاك الجرح الذي يستوطن أسفل عينه وحتى بالقُرب من ذقنه
جُرحه التي هي المُتسببه به ، بلا ندم
أمالت فمها بتهكّم ، تكتّف يديها أمامهم تدًعي القوة:
ما شاء الله عليك يا خال ، ينّهد حيل كل الشيّاب إلا أنت
حيلك ما ينهّد ، لأن حيل الطاغية يكبر بجبروته
فتحت مريم عيناها على وسعها ، وهي تُنعي زينة مُسبقًا
تعلم أن أخيها سيذبحها لا مُحال إن طالت بكلامها
لتُكمل زينة بلامُبالاة :
وتبغى تزوجنّي ولدك الحمار اللي يمشي وراء خطاويك بلا عقل
ياترى اتسائل وش هدفك ؟ وش وراك حتى تتمسّك فيني كذا
أكيد مو من زود الحب اللي مغرّقني فيه
اتسعت حدقة عيناه ليصرخ بوجهها :
بنـت !
أنا تقولين لي هالكلام أنـا ؟ أنا لا ناظرتيني نزلًتي عينش خوف
أنا اللي لا سمعتي صوتي تنكتمين!
تناولت حقيبتها وهي تهمّ بالخروج حتى لا تستأثم بوالدتها ولا أن تُجبر على قطع صلتها بها :
أنا كنت أخاف ربّي فيكم وأقول أهلش
صلة رحمش ودمهم دمّش
بس أنتو ناس ما تخاف الله ، واللي ما يخاف الله
ما ينخاف فيه
-رفعت عيناها لوجهه بإستهزاء-
وبمُناسبة عرضك السخيّف أنت وولدك ، أحب أقولك ألمس النجوم ولا تطولني
وش جاب الثرى للثريا ..
مرّت من جانبه وجانب ابنه وأمها وهي ترشقهم بنظرات ناريّة
ولا تعلم كيف نجت من بين يديه
هي تعيّ أن الكلام الذي قالتّه خالٍ من الصحة ، فربما تتساوى منزلة حاتم المعقّد بابن خالها غريب الأطوار
ولكنّها لم تود أن تترك لهم مجال للشماتة ، وأن والدها رغم خطأه .. أخطأ
هي تعلم أن الثرى أرض ، الثرى كرامة ، الثرى وطن
وأن والدها كان يُنضال من أجلها جميعًا
خرجت بخطوات مُثقلة من الهمّ ، من تداعي القوة ومن إنهدام الثّقة
أقفلت الباب وراءها ، لولا الصوت الصغيّر الذي أوقفها :
زينــة ؟
التفتت بقوة لتبتسم بملء الدموع التي احاطت بياض عينيها
جثّت على رُكبتيها وتمدّ يديها لذاك الصغير الذي اشتاقت له جدًا
لأخيها حسن ، شبيهها وشبيه والدها ! ونسختّه المصغرّة
همست وهي تدعيه لحُضنها :
حسّون ، تعال
اقترب منها بسرعة وهو يرتمّي في حضنها بشوق عارم لأخته
التي لم يراها إلا القليل طوال سنواته الستّ
وجميعها كانت لقاءات قصيرة مشحونة بالشجن
احتضنته بقوة وهي تشتمّ رائحته المسكيّة ، احتضنته وهي تنثر دمعها البائس على كتفه
ليُهمس لها هو بحزن :
ليش تروحين ؟ خلّك معي لا تروحين
ابتسمت بملء الشوق له ، أحاطت وجهه بيديه لتُقبل وجنتيه:
بجيك ياروحي ، بجيك يا نظر عيني زينة
ما راح أخليك في هالبيئة المسمومة
تكبر على حقدهم وتتجرع غلّهم على أبونا
باخذك منهم .. والله باخذك
أردف بزعل واضح :
متى تاخذيني ، أبغى أروح معش
الحارث يقول هناك مطر ، ووادي ! هنا مافي شيء
مافي أطفال .. محد معي ، محد يكلمني
آلمها قلبها لتُعاود إحتضانه بشدّة ، قبّلته مرة ومرتين وعشر
وهي تتحسب في داخلها على خالها البغيض
وبذات الوقت ، وفي هذه اللحظة .. شكرت قايد كثيرًا
لأنه لولا الله ثم لولاه لما استطاعت أن ترى حسن بعد ولادته
تذكر الآن جيدًا كيف كان يقف في وجه خالها ، ووالدتها
ويضربهم بسياط كلامه .. فقط لكي يسمحوا لزينة برؤية حسن
ما زالت تتذكر المرة الأولى التي أقبل بها ويده بيدّ حسن لمّا بلغ الثلاث سنوات
وهي أول مرة تراه فيها .. كيف بكتّ ، كيف شقّ الشجن قلبها لوالدها وهي ترى وجهه مُتمثل في وجه حسن
كيف كاد أن يُغمى عليها من شدّة بكاءها لولا أن هددها قايد
ابتعدت عنه وهي تُرسم الابتسامة
رغم هطول الدموع على مجرى خدها :
أنت خلك شاطر ، وقوي .. وأنا بجي أخذك بعدين طيّب ؟
الحين لازم أروح زين ؟
هزّ رأسه ، ليتعلّق برقبتها وهو يقول بحنو عميق:
أنا واجد أحبش !
مسحت على ظهره وهي تبتسم بدموعها :
وأنا أحبك
ودّعته بيدها ، ودعّته لودائع ربها ، ودّعته ترجو لقاءً آخر
ودّعته ودعت له بالإطمئنان ، والسعادة والبهجة
خرجت من المنزل وهي تركب السيّارة ، لتمسح دمعها وتتذكر موقفها
لتقول بهمس جاد وحاد :
زين يا خالي ، إن كنت من طواغي الأرض .. فأنا نجم سهيل
حتى لو كنت تملك مال قارون ، ما بتقدر توصل لي
يا أنا يا أنت ..
أعلنتها حربًا ، وأشعلت فتيلها بكامل إرادتها
فيُستحيل أن تنسحب ، ستكسر شوكة خالها التي يتكئ عليها
وستعلم السر .. سر خالها وسر مُرشد وسرّ مريم
حينها فقط ، ستقتصّ من جميع الآم التي تسببت لها

-



-
فتح عيناه وذاك الصُداع يداهمه من جديد بعد سلسلة من التفكير المُضني في القنبلة التي ألقاها والده
وقف من سريره وهو يتأفف ، يتحرك ببطء شديد في الغُرفة
يغتسل ، يستحم ، يتوضى ويصلّي صلاة الفجر التي فاتته
يرتدي ملابسه ببرود ، يسرّح شعره بلا مُبالاة
وهذه هي حياته .. منذ أصاب العُطب دماغه
لولا عمله لظّن أنه هُلك من شدة التفكير
خرج من غُرفته وهو يُغلقها .. نزل من السلالم
يسمع أصوات أهله القادمة من الصالة الرئيسية
صوت والده بالذات .. وهو يسوق له البُشرى
بُشرى خُطبة زيد لأميمة ، التي فرح بها سيف جدًا
فبنظره زيد رجل لا مثيل له .. وأن أخلاقه وسمُعته تشفع له قِل جيبه
وطأ أرض الصالة على صوت والده وهو يقول :
كلمّني أمس ، والرأي الأول والأخير لها
لتُردف أم حاتم بتردد :
وأخوانها وش شورهم ؟
قاطع والده وهو يتقدّم حيث يجلسون ، على الأرض يفطرون
أمه وأبيه وأخته ضحى ، بصوت جاد :
لا راضيين ولا طاحهم الرضّى
بس الظاهر أبو حاتم بيتجاوزهم ويزوّجها على كيفه
نظر له والدته مُثلى بقلق ، بينما نظر له سيف بحدة :
بنتّي ، ما اختلفنا على كونكم أخوانها
بس دامنّي حي .. ودام قلبي باقي بنبض فأنا وليّ أمرها
رفع رأسه عاليًا بصبر ، فرقع فقرات رقبته
الجدال الذي خاضوه بالأمس انتهى بإغلاق سيف للباب بقوة حتى التهشيم ، سيُعاود الصعود الآن مرة آخرى
أردف بثبات :
وهي أختي ولي حقّ عليها ، وأنا مو راضي على زواجهم ما دمتّ حي
قال سيف بتهكّم :
دق رأسك في الجدار ، هذا ناقص تحلّ محلي
أمسكت مُثلى بيد زوجها لكي لا يتفاقم الحديث :
سيّف هدي ، مافي شيء يجي بالعِناد
وخلونا نسمع رأي أميمة أول ..
التفت لها سيف وهو يقول بإبتسامة يُغيض فيها ابنه :
أنتِ وش رأيش يالغالية ؟
دعكت كفيّها ببعضها وهي تنقل نظراتها بين حاتم وبين سيف بقلق :
لو جينا عليّ أنا ما عندي مانع ، زيد ولدي ورابي مع حاتم
ووالله إن سيماه على وجهه .. مايحتاج شهادة من عندي
لكن بالأخير الأمر راجع لأميمة ، ما لرأينا أهمية بعد رأيها
تراجع للخلف بخطواته غير المُتزنة وساقيه تضرب في حد مكتبة التلفاز
احتضن يده المتألمه بيده الآخرى ووجعها بدأ يتصاعد
رصّ على أسنانه بغضب :
يبه لا تقهرني في خواتي .. لا تلوي ذراعي فيهم
ما راح اسمح لأميمة تتزوج زيد
لو تبي تزوجها واحدٍ ما يملك من حُر يدينه إلا ريال ، زوجّها
بس زيد لا وألف لا
نظرت له مُثلى بإضطرات لتُردف :
ياولدي وش أنت شايف على زيد .. وش ذنبه هاللي ما نعرفه ؟
نفضّ يده من حضنه وهو يكره هذه اللحظة
يكره اللحظة التي يتفاقم فيها وجعها بسبب غضبه
يكره تبيان ألمها أمامهم ، وتبيان الوجع على ملامحه
ليصرخ بشكل أفزعهم :
ذنبه إنه أخوي وصاحبي ، ذنّبه إنه بياخذها وبيهرب فيها
وبيضرب بالعادات والتقاليد عرض الحائط
ذنبه إنه بكره بيذبح حد .. ويقول أنا بريء مما تعملون
صرخ وهو يضرب يده على حافة المكتبة ، فقط لكي يتوقف ألمها
يشعر كما لو أن هُناك منشار يمر بين جلده وعظمه ويفتته
يشعر أن نارًا وسعيرًا تشتعل بداخله ، يشعر بوخزات الملح وسط الجراح
ضربها عدة مرات آملًا أن تتوقف نوبة الألم .. لكن بلا فائدة
طالما أن عقله ودماغه يصَور له سوداوية الموقف
فسيستمر الألم ما دامت هذه أفكاره
صرخت والدته وهي ترى طرف المكتبة بدأ بالتهشّم :
حاتـم !
ها قد عادت إحدى نوبات جُنونه ، لابد وأنه على وشك سفك دماءه التي يكره
فزّت ضُحى من مكانها على نبرة والدها المُهتاج وهي تبتعد حتى آخر الصالة خوفًا على نفسها وعلى حالة حاتم
توقف والده خلفه وهو يضرب ظهره بقوة :
وقف يا مجنّون ، بتذبحني وبتذبح نفسك وأمك وراك وقف
اتكأ بطرف جبهته على المكتبة ، وهو ما زال يتنّفس بقوة
ويُعاود احتضان يده الموبوءة لحُضنه ، يالوجعه
ومأساته .. التي تتشكلّ في تهدئة وجع نفسي لا جسدي
نبش المكتبة وهو يبحث عن مسكن للألم ، رغم أنه أكل قبل أقل من ثماني ساعات نفس المُسكن بلا فائدة
لم يجده ، توّجه نحو طاولة المدخل لينبش درَجها الصغير ليجده أخيرًا هُناك ويزفر بتعب وصمود
في ذات اللحظة فُتح الباب ، ليلتفت حاتم بشكل مُتأزم مع فتحته
ويا لحُسن حظّه ، وسوء حظّ أميمة .. التي جاءت للتو من بيت الجبل
نظر لها حاتم بحدة ، ليرمـي علبة المُسكن على الأرض ويتقدم نحوها
متجاهلًا صراخ والده الذي اشتدّ :
حاتم والله العظيم اذا لمستها بتشوف شيء ما يسرّك
اقترب أكثر ، مسك عباءتها من جهة رقبتها ، هزّها بعُنف :
وش اللي حكتيه من وراي ؟
وش اللي نسجتي خيّوطه بدون ما يمرّ على جلدي ؟
اجترعت ريقها بفزع وهي تلمح الحدّة في عيناه :
حاتم ؛ بسم الله عليك .. وش تقصد ؟
عن وش تتكلم ؟
دفّعها حتى أخرجها للخارج ، يتقدم خطوة لتتراجع هي خطوتين للخلف من شدّة خوفها :
لا تتغابين علي ، لا تستفزّي جهلي منّش ..
تكلمي دامني الحين بكامل قواي !
ضغطت على يدها بقوة لتُردف بتوتر :
والله مادري عن وش تتكلم ، والله
دفعها من كتّفها حتى كادت تسقّط من السلالم الأربع لولا تداركها ، ليصرخ بغيض :
أتكلم عن زيد ، عن خُطبته لش ..
أتكلم عن أي جرأه خوّلته يدخل بيتنا ويتقدّم لش
ليش أنتِ بالذات ؟ ليش من بدّ هالعالم كله مالقى إلا أخت أخوه
مات كلامها عند حُروفه وما نطقه ، لم تستوعب حتى الآن بشكل كلّي ماذا يجري
وحاتم يواصل الصُراخ في وجهها مُتجاهلًا يد والده ونعيّ والدته وخوف أخته ضحى :
ليش يطلبش بالاسم ؟ بأي صفة يقول يبيش
بأي حق وبأي صواب .. تكلّمي
ما زال ينظر إلى وجه أميمة المُتصلبّة ، ودموعها المتحجرّة
إلى رجفتها الواضحة للعيان ، أردف بوعيد :
وش بينش وبينه ؟
تجاوز يد والده التي تضرب ظهره ، وكلامه المقهور :
حسبي الله على إبليسك من ولد ، حسبي الله عليه
تشكّ في بنتي وتربيتي .. تشكّ في أخوك واللي تسميه صديقك ؟
حاتم ابعد عن أختك ولا والله موتك على يديّ
حين استوعبت كلامه ، واتضحّت معالم الحكاية بأكملها
انهارت وجعًا وأسىً وحُزنًا ؛ أنهارت حين تحققت أُمنيتها
وحين أُجهضت بسبب أخيها في الوقت ذاته
فرحتها من تقدّم زيد لها وأخيـرًا ، بُترت بسبب شكّ أخيها
الذي اقتصّ منها المُهجة
ما زال وجع حنان يمتّد إليها وإلى أختها ، ما زالت تدفع ثمن فاتورة هرب حنان والنفاذ بزواجها
حاتم اليوم ليس بمثل حاتم الأمس ، حاتم اليوم شكّاك
معقد ، ومليء بالمآسي
لوهلة دعت لزينة ، دعت أن يمدها الله بالصبر أو يمنّ عليها الهرب
أيًا كان قدرها ونصيبها
فحاتم أصبح لا يُطاق ، تحركّه الويلات لا مشاعر الأخوة
تسيّره الظنون السيئة لا حُسنه وثقته
نطقت وهي تحتضن يديها ببُكاء تفجرّ من مُقلتيها :
والله العظيم ما بيني وبينه شيء ، والله العظيم يا أخوي ما خنتكم
أنا أختك وهو أخوك ، كيف تشكّ فينا كيييف ؟
سحبه والده من كتف قميصه ، ليقف أمامه بحدّة :
أنا ما ربيّت رجال .. ربيّت حيوان ما يعرف يستخدم عقله
أنت عقلك طار من سنين .. طار هو وذكرياته
واليوم جاي تصنع ذكريات أشدّ قسوة من اللي قبل
يا عيب المجالس اللي تباهيت فيك بها .. يا حسرة تعبك وشقاك يا سيف
توقفّت أنظار حاتم على الذي يقف خلف والده بمسافة أمتار
والذي يتضّح أنه سمع ما دار من جنون للتو
ارتجف قلبه .. ذاك الرجل الحكيم ، زيد
الذي لطالمّا أعده مثل أخيه ونصف روحه .. يُكسره
يدّمر روحه بشكّه الذي خرج بلحظة غصة
همس ونظراته تشرح التناقض الذي به :
زيـد
عقد سيف حاجبيه ، ليلتفت حيث تتجّه أنظار حاتم
تنّهد بيأس وقل حيلة لمّا لمح زيد المُجهد بجانب سيّارته
وقد سمع رفض حاتم التام وشكّه وبُكاء أميمة وغضب زيد
تداركت حاتم موقفه ، اتّجه بخطوات سريعة نحوه
ليقف أمامه وهو يقول بصوت لاهث :
زيد اسمعنـي !
شدّ على قبضة يده ، وذاك الظلام القابع أسفله يعني أنه سهر الليل بأكمله خوفًا على حاتم ، وعلى حالته بعد أن أنزله
عضّ على شفته :
أنا زيد
سكت ، وكأنه يقول " أنا زيد اللي رميت عليه حمولك ، وتاليها كسرت ظهري "
لكنّه لم يقدر ، في أشد حالاته كسرًا لم يوّد كسر حاتم
مسك حاتم عضده بضيق :
لحظة غضب ، لا تآخذ بكلامي غلوة
أبعد يده .. وتراجع للخلف وهو يبتسم بحُرقة :
لمّا قلت معذور ومسموح ، وتناسيت حُر جوفك رغم إنه أكل من جوفي أنا
جيتني مصوّب سهامك مو ناوي على الوجع..
لا ناوي على الموت
يا ترى وش من عذر هالمره أقدر أسطّره لك ؟
على العموم ، وصلتني إجابتك
وصلني شرف مقامي عِندك .. وعلمّتني من أكون ووين لازم أكون بالضبط
مدّ يده لكتفه يضغط عليه :
زييييد ، لا تقول حكي فاضي تندم عليه بعدين
أنت أخوي ، عجننا حياتنا مع بعض ، وشكّلنا شخصياتنا جنب بعض
لا تكسر ظهري زود ! ياخوي
ابتعد عنه وهو مكسور فعلًا ، مكسور من كلام حاتم ورفضه
من نظرات أميمة الدامعة وسيف البائسة
فتح باب سيّارته وكاد أن يركب لولا صوت سيف الحازم :
زيـد ، أدخل مجلسي
ووالله الشيء اللي جيتني عشانه ، ليجيك اليوم وأنت مرتاح
اقرب حيّاك الله
-
-
يجلس أمامه ، يشبك يديه ببعضها البعض ويدعك عليّهما
كأنه يدعك على قلبه لا كفيّه .. بلغ منه التوتر ما بلغ
وسكوت سيف ، وحوقلته .. تزيده ضيقًا لا رحبًا
ما كان يريد المواجهة مع أعضاء هذه العائلة حتى يُداري ألمه أولًا ، لأن ألمه وكبرياءه المجروح .. مفضوح
لا يقدر على تخبئة الضيق بصدره ، ولا يقدر ببُعد شوائب الحُزن من وجهه .. كل شيء يطفو على ملامحه بكل شموخ
وكأنه يُقسم عليه بفضحه ، وفضح شعوره ، وإضطرابه
من تنهيدّته ، ومن دعك كفيّنه ببعضهم، ومن حركة قدمه المُضطربة
زفرّ سيف وهو يرفع نظراته نحو وجهه زيد ، ليقول بهدوء :
إن قلت لك اعذر أخوك ، فما بعد كرمك في العفو كرم يا زيد
قلبّك هاللي شايل جبال .. ما يقدر يشيل ذرّة من ضيق على أخوه
وإن ما عذرته ، اعتبر رقبّتي لك سدادة
أبدّل ضيقك فرج .. بعون الله وحده
انحرج زيد من كلام سيف الحنون ، يؤلمه كيف أنه يُحاول الاعتذار نيابةً عن ابنه وهو يعلّم معزته بقلبه
ليتنّهد وهو يقول بخفوت :
ويمكن إني أنا الغلطان ياعمّي
-عقد سيف حاجبيه ليُكمل زيد بهدوء-
يمكن غلطت لما ما مهّدت سبيل خُطاي لحاتم ، ولا شاورته بالموضوع
لأني تعودت من وأنا صغير .. أخذ برأيه واسمع بنصايحه
أنا تربّيت في ربوع هالبيت أكثر من أهله .. أكثر من حامد حتى
أخذت من غُرفاته ملجأ ، ومن حُوشه مُتنفس !
شربت وأكلت ونمت ، بعض دم جروحي محفور في جدران هالبيت .. وبعض أسناني مدفونة وسط الزرع
أنا بنيّت نفسي هِنا وشيّدت صروحي لجل بكرة ينقال "هذا زيد أخو حاتم"
لجل أكون سدّه المنيع ، وحاجته لا من إحتاج للترميم
يشهّد الله ما نويت بعد هالعُمر إني أبني بين جوانبه الضُرّ
ويشهد الله ما أقبلت إلا وفي نيتي الرحَابة
تنّهد سيف ، ليبتسم لوهلة :
يا ولدي ، وأقولك ولدي وأنت والله بحسبّته
تراك منت مضطر تشاور غيرك في كل خطوة تخطيها ، هذه حياتك ، أنت تبنيها بالطوب حبّة حبّة
ما لغيرك قرار ورأي .. سوى أمك ثم أمك ثم أمك
هذه الخطوة محسوبة على حياتك أنت ، ومُستقبلك أنت وحدك
مش مع حاتم
-أمال بفمه بإمتعاض-
اللي ما صار حتى يميّز الصح من الخطأ بعد الضربات اللي طالت روحه
أنت كلمّتني ، والبنت بنتي
وأنا قلت لك أبشر باللي يسّر خاطرك ، واليوم بشاورها
والشور والرأي من بعدي ، عندها
أنزل رأسه ، ينظر إلى اصابعه الطويلة ، والنحيفة في آن واحد
ينظر إلى سُمرتها ؛ الى العذاب الذي مسّها
إلى خطوط خطوطها ، حتى كاد يصل بعينيه إلى عُروقها
هذه اليدّ التي لطالما مُدّت .. دون مُقابل
مُدت حتى يتسنّى لها الإعتياد على عمل الخير .. لا يُمكن أن يكون قدَره سيئًا لهذه الدرجة
فأي قُدرة تُكمن في كسر مجداف قاربه المُتواضع ؟ وأي قدرة تلك التي تجعل الريّاح تهبّ وهو عاري من طوق النجاة ؟
زفرّ وهو يقول بإصرار :
ولو ياعمّي ، حاتم في النهايّة أخوها .. يبي لها النصيّب الزين
الرجل الصالح والطيّب ، ويمكن ما لقى هالمواصفات فيني
وهو والله معذور .. مهما قال فيني ! فهو معذور
نهره سيفّ بحدة :
لا تعذره وأنت تطالعني بعيونك هاللي يطفح منها الوجع
مافي شيء بيتغيّر لو واجهته بالكلام وضربته به
لازم يوعى على نفسه .. ولازم يحسب حساب أقل حرف يخرج من فمه
سواء لك ولا لأخته ، ولا لباقي أهله
-ربّت على كتفه بخفوت وهو يبتسم-
عطني مساحة وقت ، أشاور البنيّة اللي أنت ناصي قُربها
وبهالوقت .. لا تحاول تبني صروح ولا تشيّد أبراج
شدّ عزومك دامك نويت
ووش يقولون ؟ النيّة أساس العمل ! فالله يعطيّك على قد نيتك
ابتسم زيد بخفوت ، بلا نفس ، وبأطنانٍ من قلق
وهو ينظر إلى الفتحة من أسفل الباب .. الذي يظهر بها ظَل أقدام حاتم
المطرود من قِبل والده حتى لا يدخل للمجلس ويُناقش ثم " يزيد الطيّن بله "
التفت لضربة سيّف الخفيفة وهو مبتسم بذات الابتسامة :
عزيز وغالي يا ولد عبدالله ، عزيز وغالي
ولو هناك رجال بأشباهك وطباعك ما ترددت بهم لبنيّاتي
الله يرحم من ربّاك ويجعل مثواه الجنّة
ابتسم بشوق عارم ، ووجل منتشي به جسده
همس بآميين خافتة خرجت من شرايين قلبه الأربع ، خرجت مصحوبة بدمٍ دامي ودمعٍ حارق
استأذن منه وهو يخرج للخارج ، مُتجهًا لمنزله
دون أن يُعير حاتم الذي ظل يُناديه مرارًا أي إهتمام أو إنتباه ، خرج مثلما أتى ! كالظِل بلا أثر
كالغُروب بلا صخب
-
-
-
طوال طريق عودتها وتلك الأفكار تغزو رأسها بلا شفقة
بل وبلا رحمة احتّلت أرضها ونصبت خيامها وبدأت بمُمارسة حقها في العذاب والتعذيب
تدخل من فكرة ، وتخرج من أخرى
وجميع تلك الأفكار مُنصبّه حول خالها ، أبيها ، وأمها ، وحاتم
من الصعب أن تكون شخص واحد ولكنّك تُحارب من جهاتك الأربع
لا تعلم بأي طرف تُشهر به سيفك ، ولا بأي طريق تُطرق به حوافر خيولِك
جُل ما تعلمه هو أنك تدور وتدور في دائرة مُغلقة تمرّ بجميع الجهات
تحارب ذاك ، وتواجه ذاك ، وتقتل تِلك ، وتدفن ذاك
كانت ستصعد إلى بيت الجبل حتى يتسنّى لها الوقت أن تمتص عصبيَة جدها وضيق جدتها
لكنّ رسالة أميمة التي وصلت قبل دقائق جعلتها تُركن سيارتها أمام منزل عمها وتفكيرها منّصب حولها
" تعاليني " كلمة واحدة ، ولكنّها مشحونة بالبُكاء
كلمة احتضنت آخر حروفها نُون الإطمئنان !
وهذا الذي علمته من مغزى كلمتها ، أنها تحتاجها
تحتاج من ينثر شذى الاطمئنان على صدرها فلا بدّ أنها مرت بأرضٍ عوجاء جعلتها تُفقد أمانها
أغلقت باب السيّارة ، ودخلت دون أن ترن الجرس بعد أن وجدت الباب مفتوحًا
أغلقت عباءتها المفتوحة حتى لا تتضع جلابيّتها من خلفها
لتصعد الدرجات المؤدية نحو صالة المنزل
توقفت هُنيهة بدهشة .. من هذا اللقاء غير المُتفق عليه
ثُبتت أقدامها في مكانها وهي ترى وقوف حاتم المُتكئ بظهره على باب الصالة ، والعابس بشكل يُنذر بالسوء
اضطرب قلبها وتسارعت نبضاته وأول ما دار في خُلدها أن هذا الوحش قد آذى تلك الجميلة
ليضطر قلبها حين رفع نظراته الحادة ويحشرها وسط نظراتها
هذه هي المرة الأولى التي تقف فيها أمامه بعد أن تجردت من لباس " ابنة العم " لترتدي لباس " الزوجة " المزعومة
حَمار عينه اليُسرى الذي زحف لرُبعها أخافها ، بل وزرع الرُعب في قلبها ولأول مرة تخاف من المواجهة ، مواجهته هو بالذات
هذه العين لا تنُبئ إلا بالشرّ الكامن خلفها ، لا تُخبرها إلا بحياة سوداء يعيشها خلف تلك العين
كان يقف بفوضوية مظهره ، كفوضى شُعوره
يرتدي قميص أبيض ، وبنطال أسود قُطني طويل ! تتمردّ بعض خُصلات شعره شبة الطويلة لتُخفي بعضًا من نظراته
يحتضن يده التي تؤلـمه ، ويتضّح من خلفها عضلاته النافرّة
لم تكن سوى صورة مُبعثرة ، مشوشة ، ومؤلمة كحالته
التي يُحاول تغليفها بالبرود أمام وقوفها
تبدّلت نظراتها في الحال .. بعد أن ألقى عليها نظرات لاذِعة
لتتقدم وتدخل للداخل وهي تمرّ من جانبه مدّعية عدم الإهتمام بما واجهته قبل قليل
زفّرت نفسها المنقطع وهي تتوسط الصالة ، المحتضنة لأم سيف وضُحى
لترفع أم سيف نظراته الضيّقة وهي تقول بتنهيدة ضيق :
فوق بغرفتها ، طلعي لها
هزّت رأسها لتخطو خطواتها المُستعجلة نحو غُرفة أميمة وكلّها شغف لمعرفة ما يحصل حولها
طرقت الباب بطرقات خفيفة ، دخلت بخفة بعد أن سمعت الإذن بدخول
إلا أنها تراجعت خطوة للخلف مُتفاجئة من شهقة أميمة واحتضانها السريع لها ، ثم إنخراطها في نشيج يدمي الآذان
سقطت حقيبة زينة من يدها نتيجة دهشتها
مدّت يدها لتُغلق الباب قبل أن يستمعون من بالأسفل لهذا النواح
شددت على احتضانها ، وهي تُحاول إمتصاص هذه الصدمة منها فبُكاءها لم يكن بُكاء الموجوع ، بل بكاء المصدوم
همست بإندهاش :
يارب وأنت ربي ، وش هالبُكاء كله يا بنيّة ؟
حاولت إبعادها لمعرفة السبّب لكن أميمة كانت متشبثه بها بقوة ، لتُردف بضيق :
أميييم ، وش اللي صاير لش يا نسمّة الهواء ؟ وش مسوي هالمرة أخوش الجبّار ؟ طالعيني
أبعدتها ، أمسكتها من كتفيها لتقول بحدة :
البُكاء هذا شهدت عليه مرات عدة ، وكان سببه واحد لا غير
والسبب هذا هو واقف برا بكل سوادة وجه ولا على باله .. وبعدين يا أميم ؟ وبعدييين معاش ؟ متى توقفين ضدّه ولو لمرة وحدة تقولين لا يا حاتم
أنت غلطان يا حاتم ، ما تقدر عليّ يا حاتم
ما تتركين هالضعفّ وتتسلحين بالقوة ولو كنتي خاليّة منها ؟
مسحت أميمة دموعها وهي تنظر لإنفعالها الشديد ، ونفسها الذي يتعالى مع كل كلمة
لتُكمل زينة بغضب حانق :
علميني ، لين متى السكوت اللي ما جاب لش سوى الهم والكبت ؟
لين متى تفردين جناحينش وتقولين تفّضل يا حاتم ، قصّها لي يا أخوي !
ما عرفتي توقفينه عند حدّه بقوتش ؟ ترا فوقه قوه تسواش وتسواه بتسكتّه عند أول كلمة
سكتت زينة بصدمة عندما لمحت تلك الضحكة تخرج من ثُغرها النّدي ، ضحكة مشحونة بالدموع التي اتخذّت خدها مجرىً لها
رفعت حاجبها بإندهاش :
تضحكين ؟
مسحت أسفل أنفها بطرف كُمها وهي تُعاود إحتضان زينة
ثم تبتعد خطوة لتنظر إليها :
اضحك على إنفعالش ، يالله يا زينة متى تتركين تداعي القوة وتركزين ؟
أمالت فاهها وهي تجلس بجانبها لتُردف بخفوت:
بُكاء ثم ضحكة مستحيل يكون سببه حاتم ، لأن أخوش ما يعرف إلا سبيل الدموع
علمّيني ، من غيره هاللي تجرّأ يجرح نسّمة الهواء بكلمة ويداويها بضحكة ؟
احتضنت كفّ يدها ، وشدّت عليه بقوة وهي تقول بصوت غير مستوعب :
ليالي طويلة قضيتها بالتمنّي ، وأنا ماعرفت الأماني إلا بالاسم
كنت أقول العوض .. العوض بينسيّني طعم الدموع اللي تجرّعت ملوحتها وسط جروح صدري
خيييوووط يا زينة ، خيوط صغيّرة مديتها للسماء وأنا كلي خوف إنها تنقطع وينقطع رجاي بعدها
كنت متمسكة فيها بدعواتي ، متمسكة فيها بظنّي .. ولكن الخوف نهب مني كل فرحة كان ممكن أعيشها معاه
رفعت حاجبها بإستغراب :
ما فهمت أميم ، عن ايش تتكلمين ؟
تنّهدت تنهيدة عميييقة قادمة من اللُج :
زيد تقدّم لي !
امالت زينة فمهاً باندهاش لتردف :
هالتنهيدة يا أميم وراها معاني كثيرة ، ولا وّدي أفسرها من رأسي
عدّدت بأصباعها النحيّلة وهي تقول بذات التنّهيدة:
فسرّيها رغبَه ، فسرّيها خوف ، فسّريها إنتظار
اللي تبين يا زينة ، اللي تبين
لأن هالرغبة ضمّيتها بقلبي وسكّرت عليها بأكبر الأقفال ، خوفًا من شبحين يراودوني مثل الهواء الساخن ، خوفًا من إني ألقى مصير ما يناسب اللي أنا بنيته في خيالي
ثم سلّمت أمري لله وجلست انتظر ، الإنتظار اللي أحرقني أكثر مما برد على قلبي
سكتت زينة لثواني وهي ترى إلتقاط أميمة لأنفاسها وكأنها خرجت من ماراثون أصرّت أن تكون هي الرابحة فيها
همست لها ، وفطنتها تضوي بدماغها ! ولكن آثرت تمثيل الغباء حتى تقول ما بداخلها بلا دوران .. همست بهدوء وهي تنظر لعينيها :
الكلام اللي تقولينه كبير ، أكبر من مشاعرش وأكبر من قلبش
وأنا أنتظر خِتام هالكلام .. أنتظر لُبه وفكرته
شبكت يديها ببعضها ، ظنّت أن زينة ذكية وستستطيع إلتقاط مغزاها الذي أرادت إيصاله لكن يبدو أن زينة تُرواغ حتى تقولها أميمة بصريح العبارة
وهي لا تُريد ، أبدًا لا تُريد أن تُفضي بمشاعرها المكبوتة لتسيل مثلما يسيل المطّر وتندم بعدها على ذلك
زفرّت وهي تقول بحزم :
ولأنه كبير ، لا أنا ولا قلبي قدرنا نشيل ثُقله ! ما قدر يشيله إلا الكبير العظيم !
تراجعت للخلف وهي تبتسم بخُبث :
أنا ماني بعاتبة عليش ليش اللي يدور بهالقلب ما دريت به ، ولاني بقايله بعد هالفترة كلها هاتي اللي فيه .. لكنّ عتبي على خوفش
-وبجديّة عميقة-
يا أميم أكره ماعليّ أشوف خوفش هذا يعقدّ حياتش ويقيّدها
أنا مقدّره اللي مريتي فيه ، لكنّها خمس سنين شلتي خوف ما يشيله البني آدمي ، ومو بس خوف
خوف وقلق وترّقب وكأنش مُجرمة على وشك إعدامها
إذا استمريتي على نفس المنوال .. ما بتستمتعين في حياتش .. بتمضي كلها في وتيرة مُملة بتفقدش لذّة العيش
حتى وزيد متقدم لش .. وأنا أشوفش تدّعين الفرح
لكن ما لمحت في عيونش غير القلق
-أشرت بسبابتها على يسار قلبها -
متى ما نويتي تقويّن هالقلب ، تقدمتي خطوة .. ما راح أقول ضدّ أخوانش لأن الدم عمره ما يصير ماي ، لكنّ ضد شخصيتش المهزوزة بخوفش
تعبّرت ملامحها لتتحول إلى الحُزن ، وهذه الرقيقة قادرة على كشف مآسيها من خلف حجاب لتُهمس :
ما أسهل الكلام يا بنت عمّي ، ما أسهله
نهرتها بجديّة بالغة :
ولأن الأفعال صعبة فهي ما انخلقت إلا ليكون لها ند !
كانت ستُجيبها وستُبرر كعادتها ، تبرر خوفها من أخوتها ، تبرر قلقها من الحياة بعد المأساة ، تبرر الحزن رغم السعادة
لولا أن قاطعها الباب الذي يُفتح ويظهر من خلفه سيف المُبتسم بعمق :
الدلوعة سكتت ولا نجي نسكّتها ؟
انحرجت أميمة من كلام والدها ، لتبتسم زينة رغم تعبها
وهي تقف وتسلّم عليه وتقبل رأسه :
ليش ما أنت واثق ببنت مُرشد أنها قادرة على هالدلوعة
ربّت على كتفها وهو يقول بفخر :
أنشهد إن بنت مُرشد كفو ، ما لهالمواقف إلا هي
-نظر لابنته وهو يقترب منها ويجلس بجانبها-
أنا يمكن قايل هالكلام ميّة مرة ، ولكن ما في مانع أقوله ميتين زيادة
أخوانش مالهم وصاة عليش يا بنيّتي .. لا تتركين غضبهم وحقدهم هذا يتسلل لقلبش الطاهر
أنا واقف جنبش .. وأعتقد هذا يكفيش
نظرت له وهي تُهمس برجاء عميق :
ولو يالغالي ، يظلّوا أخواني ولا أبغاك تعصّب عشانهم .. هذول ذراعينك يوم حنا عيونك !
أرجوك يبّه .. لاتقهر حاتم ، يكفيه اللي فيه
أمالت زينة فمها بإمتعاض وهي تنظر إليهم بوقفوها بعدم إعجاب على كلام أميمة وكأن تلك المحاضرة التي ألقتها قبل قليل ذهبت أدراج الرياح
لكنّ سيف قال لها بجديّة:
أخوانش كلٍ لاهي في مصالحه ، وكلٍ يحاول يداري وجايعه
أنتي ما تبين بعد تلتفتين لحياتش وتشوفين مواطن سعادتش فيها ؟
تراني شاري زيد بروحي وهي أغلى الأثمان .. ولاني بمفرّط فيه عشان شوية سخافات في عقل أخوش
زفرّت وهي تُلقى نظراتها نحو يديها بلا رد على كلام والدها
لتلقاه يربّت على كتفها بابتسامة هادئة :
فكرّي ، محد غاصبش على شيء .. لا أنا ولا أخوانش
حياتش بيدش ، بعد الله
هزّت رأسها بإيجاب وابتسامة طفيفة تطفو على وجهها
ليرفع سيف رأسه نحو زينة ويوجه كلام لابنته :
قومي طمّني أمش عليش ، وأنا وزينة بننزل لكم بعد شوي
ارتجفت أوصال زينة وهي تتابع خروج أميمة من جانبها وإغلاقها للباب ، لتنتبه لإشارة عمها
وهو يُشير لها أن تجلس بجانبه .. استجابت لأمره لتجلس وهي تحبس نفسها بداخلها حين انحنى وهو يقبّل جبينها ، قُبلة أشبه بقُبلات الإعتذار التي يجب أن تتلقاها عن سوء بشر هذا العالم ، ليرتجف قلبها حين همس :
والله ما يكفيني عمري كله حتى أعتذر لش عن سواة مُرشد فيش ، الله يبيح منّه على هالحُزن اللي شفته بعيونش
تنّهدت وهي عاقدة لحاجبيها بسخرية عميقة موجعة:
وش استفدنا ياعمّي ؟ على قد المحبّة جتنا الجِراح
والجراح ما جتنا إلا من أصحاب القرابة
سمعت طُرفة بن العبد لما قال
" فجرح ذوي القربى أشد مضاضة ..
على النفس من جرح الحسام المهند "
تجرعنا المضاضة ، ولا ظنّي إنها الأخيرة
بينما أكمل وهو يرّبت على ظهرها ويمسح عليه :
لا يلحقك سو الظن عن غلاتش عندي ، من أول وتالي أنتِ بنتي حبيبتي !
من الليلة اللي شلتش فيها بين كفوف يديني ، لين أول مرة شفتش فيها تمشين
من دخلتي أول صفوفش ومن تهجيئتي أول حروفش
وأنا فرحتي فيش تتزايد بكل خطوة تخطينها ..
صح زعلنّي بُعدش بعد وفاة مُرشد الله يرحمه لكنّ أبيش تعرفين إني موجود ! أبو وعم وصديق وأخ وجّد
-شبك يديه ببعضهما ليقول بهدوء-
أنا أعرف إن اللي صار .. صار ، وصرتي حليلة ولدي
لكن أبي أعرف رأيش بهالموضوع ! رأيش هو الأهم
رُغم التأثر الذي لفح قلبها من تعبيره ومؤازرته ، رغم أنها تعلم مكانتها عنده وهي التي كانت تُحبه كثيرًا
ولا يُنافس الحُب في قلبها سوى مُرشد ، لكنّها أجابت بتهكّم :
ما لرأيي محل يا عمّي ، دام الموضوع حصل ولا فيه مخرج
التفت لها بإبتسامة :
المخرج قدامش وأنا عمّش ، بس ما أبيش تنسحبين بدون ما تخوضين التجربة
عقدت حاجبيها وهي تُمعن النظر في أناملها :
ليش أخوض تجربة أنا عارفة تبعاتها ؟
شدّ قامته وهي ينظر ليعينها بحزم باسم :
وش درّاش بالتبعات إذا ما جربتي ؟ مو يقولون " أسأل مجرب ولا تسأل طبيب " لعلّ اللي ما لقاه الطبيب ، يلقاه المجرّب
-وبابتسامة دافئة-
اللي هو أنتِ
زفرّت وهي تنظر له ببلادة قارصة :
هذاكم معه من سنين ، معقولة لا الطبيب ولا المجرّب عرفوا علّة دواه ؟
حدث العاقل بما يُعقل عمّي
وش اللي ممكن أنا أصلحه إذا أنتو ما قدرتوا تصلّحوه ؟
تنّهد بحُزن وهو يُردف معقود الحاجبين :
حنّا حاولنا ، بس ما قدرنا لأن حاتم حاط نفسه بقوقعة
وما سمح لأحد يتقرب منّه ، شدّ جيوشه ورفع حصونه .. وابتعد
يمكن لا جرّب الحياة معش ، ومسك زمام المسؤولية
يحسّ على نفسه وإنه كائن له نفع وفايدة في هالكون
-نظر لها بعُمق موغل-
مشكلة حاتم إنه يحسّ نفسه إنسان بدائي بدون أدنى فايدة بعد ما فقد نصف ذاكرته
عشان كذا مو قادر يتعايش مع الوضع الجديد لسنين
هو يحتاج أيام ثانية .. يحتاج يبني ذكريات جديدة عشان تندثّر ذكرياته القديمة
ولعلّ اللي صار خيرة لش وله ، لعلّ زواجكم ظهر على السطح بعد سنين عشان ترممون بعض
همست بداخلها ، بينها وبين نفسها دون أن يصل همسها إلى أذان عمّها
" أنا واقعيّة عايشة على الذكريات
وهو معقدّ فاقد ذكريات ويبي يبينها من جديد
الكتاب باين من عنوانه "
استحثّها عمها على التحدث :
هاه يازينة ، وش قلتي ؟
بعد تفكير طويل متعمق نحو جذور روحها ، آثرت خوض هذه المعركة ليس من أجل حاتم قطعًا ، وليس من أجله ترميمه هو
بل لأجل مآرب آخرى تسعى للكشف عنها قبل أن تقع بها
لأجل أن تقطع دابر شكّها ، ودابر وصل خالها له
رفعت رأسها ، وهي تقول بنبرة جادة :
عنّدي 3 شروط
أردف هو ببساطة :
حقش ما منّها بد ، بس وش هي الشروط ؟
لتُكمل بنفس النبرة الحازمة الجادة :
أنت بعد تخرجي ما قصّرت ، خليتني أخذ تأهيل تربوي
رغُم إني كنت غارقة في حزني على أبوي ، ومأخذه دور الأب والأم للحارث
لكنّ الوقت حان إني أتعيّن ، أنا أبي وظيفة
وبقدم عليها بأقرب فُرصة !
صمت سيف لوهلة ، عاقدًا يديه ببعضهم يخوض في تفكيره
هذا أبسط حقوقها .. ولكنّها ما دامت ستتزوج ما حاجتها للوظيفة
فعلى الرغم أن ابنته أميمة درست في مسار صحّي ، لكنّه لم يكن مؤيدًا لتعيينها في مكان ما لعدم حاجتها
لم يستطع كبت هذا السؤال ليُردف :
بس ياعمّش أنتي مو محتاجة للوظيفة
قاطعته زينة بذات النظرات ، المحمولة بالتهكم :
ومن متى حاجتي للوظيفة كانت حاجة ماديّة ياعمي ؟
أنا الحمدلله من أول وتالي عايشة على خير أبوي جعله لبرايد الجنّة لكنّ حاجتي لها نفسيّة ومعنوية أكثر من المادة
-وبسخرية مُوجعة-
خصوصًا إني الحين مرة متزوجة بمصير مجهول
بكرة لا صارت مشاكل ووصلت للطلاق محد بيقيمني غير وظيفتي بعد ربّي
أنا ما أطلب منك إلا إنك تساندني لا رفض حاتم هذا الأمر
أكملت جملتها بسخرية لاذعة ، ليطرق سيف رأسه بتفكير
ثم يقول وهو يبتسم بخفوت :
لش اللي طلبتي ، وهذا حقّش وأقل من حقش
دامش تعبتي على نفسش أكيد تبين تحصدين ثمرة هالجهد
ولا تحاتين ، حاتم مهب قايل شيء
لم تتغير ملامح زينة أبدًا لتُكمل :
وشرطي الثاني ، ما أطلع من بيت الجبل إلا لقبري
هذه المرة تنّهد وهو لا يستطيع أن يُجادلها في هذا الأمر
فهو يعلم إرتباطها المقدّس بذاك المنزل العتيق الذي مر على بناءه أكثر من 70 عام ، إلا أنها جددته بروحها ، برغبتها في إحتضان ذكرياتها هُناك
ولكن مع عمل حاتم المتذبذب الذي يتطلب اسبوعين هُنا ، واسبوعين في ربوع الصحراء سيبدو الأمر صعبًا
ليُردف بحذر :
وفي هذا الشرط ماني برّادش عنه ، لكن عارفة دوام حاتم
اسبوعين عندش ، اسبوعين في الصحراء
فخلال الاسبوعين اللي يكون هو غايب فيها .. تنزلين لبيتي
وتجلسين في غُرفة حاتم لين يرجع بالسلامة
هزّت رأسها بالنفي القاطع :
لا ، بجلس عند جدي وجدّتي والحارث ! هم بيكونوا معي
ابتسم حينها سيف ببساطة ، وهو يقرص خدها بخفة :
لا حبيبتي ، أمي وأبوي بينزلون من بيت الجبل للبيت اللي شراه أبوي واللي محد ساكن فيه غير خولة وعبدالرحمن
ومعهم الحارث إن شاء الله .. البيت هذاك لش ولحاتم
دامش متعلّقة فيه هالكثر !
والحين خبريني عن الشرط الثالث ، عشان نكون على بيّنة
نظرت له بنظرات أشبه بالقارصة ، نظرات خلّفت وراءها ألف معنى وشعور
تنظر لعينه الباسمة رغم الجدية الواضحة عليها ، تنظر لابتسامته اللطيفة عدم الراضية وحول يحاول تغليفها بالرضا

-


-
عاد لمنزله وهو مُثقل بالأسى ، لم يثر كلامه لسيف إلا الشجن
وتطنيشه لحاتم حين كان يُناديه هو ما أثار حُزنه
يعترف أنه أحيانًا يصبح مترددًا ولا يعلم كيف يتصرف
لأنه تعوّد منذ صغِره أن يعول بعض قراراته إلى أحباءه
ولم يكن سيتحدث إلى سيف بشأن خطبته لابنته
سوى بعد إلحاح والدته الشديد !
لذلك وجدها فُرصة رغم أنها فرصة ليست في محلها
حين كُشف الستار عن زواج حاتم ، وألقى هو رغبته في حُضن سيف بمُشاركته النسب
فتح الباب الحديدي ودخل وهو ينزل غترته التي يلّفها كثيرًا هو أنفه وفمه .. حين يكون يائسًا
ليتفاجأ بالصوت المتشبع بروده يقول :
داخل على يهود ما تعرّف تسلم ؟
التفت بشكل سريع عن يساره ، وهو يرى جلوس حاكم تحت النخلات الصغِيرات وأمامه " فوالة " يسكب لنفسه فنجان قهوة وهو يحادثه دون أن ينتظر عليه
قلّص الخطوات بينهم ، وهو يقول بداخله " يالله ياكريم
أنا كيف ما شفت سيارته واقفة برا .. هالحين بيقطّ لي كلام يسم بدني .. يكفي السم اللي جاني قبل شوي"
اقترب ، ابتسم ابتسامة مُغتصبة وهو ينحني ويقبّل رأسه :
صبّحك الله بالخير ياعمّي
نظر له بنصف عين ، وزيد مُستغرب من هذا الهدوء الذي حلّ عليه :
ماني عمّك .. كم مرة قايل لك لا تناديني عمّي
جلس زيد أمامه وهو يتناول دّلة القهوة ويسكب له منها
بذات الابتسامة المصطعنة :
خلاص يابو رغـ..
بتر كلامه حين نظر له حاكم بنظرة نارية كادت أن تحرقه في مكانه فهو كان سيناديه بابو رغد ، أكبر بناته لأنه يُعرف بأنه ابو البنات
ليبلتع ريقه الذي جف بتوتر :
قصدي عمّـ.. ، يعنّي أبو عزيز
حياك الله أبو عزيز
اتكأ على الوسادة المستطيلة الصلبة وهو ينظر له ببرود :
تارك بيتك من حزة الفجر ، من وين جاي إن شاء الله ؟
زيد بحياد وهو ينظر للتمر في مكانه :
من بيت عمي سيف
أمال حاكم شفاته بإمتعاض ليقول بسخرية :
ما شاء الله ، يا إنك سكنت في بيت سيف أكثر من بيتك
ما تستحي على نفسك تارك أمك لحالها بالبيت ؟
هزّ فنجانه وهو ينظر لداخله ليردف بعد صمت دام ثواني
بجدية :
اليوم ايش يابو عزيز ؟ اليوم خميس
يعني أهلك تعودوا يجون من الصبح هِنا
ولولا إن شغلي اليوم تكنسل كانت ما ...
سكت بعد كلامه وودّ لو أن يقول " كان ما شفت رقعة وجهك"
لكنّ لأنه يعلم أنه سيفقد طقم أسنانه آثر الصمت على الإكمال
ويبدو أن مزاج حاكم اليوم رائقًا وإلا لما كان تركه بصمته
رفع حاكم حاجبه وهو يقول :
انقلع من قدامي ، سدّيت عني هواء ربي تحت هالنخيلات
قم شف أمك وتنحنح لمَا تدخل بناتي قدامك
قم يالله
زفرّ زيد بداخله وهو يترك فنجانه ويقوم بطولة بال ، ليتّجه نحو باب الصالة الموارب وهو يتأفف بهمس:
البيت بيت أبونا والغُرب ناشبونا
والله لولا غلا خالتي كنت ما شفت وجهك ، أما أنت إلا محسوب علي كولد عم أبوي
-وقف عند الباب بصوته العالي-
ياعررب ، أنا بدخل
دخل وهو يعلم أنه سيجد بنات خالته بإحتشامهن التام لكنّ قال هكذا حتى لا يُردى قتيلًا على يديَ حاكم
ابتسم حين تهلل وجه والدته وخالته لمّا رأوه ، فخالته بالنسبة له أم .. وبالنسبة لها هو ابن
حيث إنها لما تحظى بأبناء مطلقًا
هللت به وهي تقول بفرحة :
ياحي الله ولد أختي الغالي ، هلا والله إني صادقة
انحنى وهو يقبل رأسها ثم رأس والدته ويجلس بينهم تمامًا :
جعلني ما أخلى منش يالشيّخة ، خالتي بالله عليش وش ذا الجمال كلّه
الناس كلها تكبر إلا أنتِ تصغرين ، بالهون على قلبي
ضربت كتفه على إستحياء وهي تقول بخجل :
ياويلي منّك ما تترك كلامك المعسول هذا ، نصّاب نصّاب
ضحك وهو يدعك كتفه "بعيارة" ليقول بضيق مصطنع :
عاد حلوة ودفشة ترا ما تركب يا خالتي
-رفع يده اليمنى دون أن ينظر لتلك الجهة-
صباح الخير بنات خالتي ، شخباركم ؟
تفاوتت السلامات بينهن لتُردف أكبرهن وهي رغد بصوت باسم :
بخير من الله يا ولد خالتي ، وينك ما عاد صرنا نشوفك ؟
ابتسم زيد وهو يوّلي وجهه جهة والدته :
موجود طال عُمرش ، بس الشُغل أشغلنا الله لا يشغلنا إلا بطاعته
هتفت خالته بمساندة وتأكيد :
آمين يا أمك آمين ، الله يهونها .. عساه شغلك ماشي تمام؟
ابتسم بخفوت .. وهو إن كان يذوي ويموت وينزف دمًا
سيقول بملء ابتسامته الكاذبة أنه بخير :
فُل على فُل يا ستّ الكل ، ولد أختك أبضاي ما ينخاف عليه
ضحكت وهي تمسح على ظهره بنعومة بالغة :
مب ولد أختي وبس ، أنت ولدي
قبّل يدها بحُب عميق وهو يشكر الله على ما أغدق عليه من نعم
والدتان ، و7 بنات بمنزلة الأخوات وإن لم يكنّ هكذا :
الله لا يخليني من أمي الثانية
-التفت لوالدته بابتسامته العذبة-
وشيخة البنات كلهم ليش ساكتة ؟
ابتسمت نِعمة بحنو وهي متكئة بظهرها على وسادتها في فِراشها على الأرض لتُردف :
وأنت خليت البني آدمي ينطق بحرف ؟ هلّيت أنت وخالتك على بعضكم البعض من ذاك الغزل اللي ما يوقف
ضحك وهو ينزع غترته ويلّفها حول رقبته :
القطاعة شينة يا يمّه ، وخالتي الحبيبة ما عاد شفناها لنا شهر
تتغلى علينا وهي داريّة بغلاتها
تزايدت ضحكاته حين نظرت له خالته بنصف عين وتهدد برميه بالقهوة الساخنة لولا تراجعه للخلف
لتُهمس والدته بوّد بعد ان رأت ضحكاته وهو الذي خرج من عِندها مهمومًا يحمل الضيق على أكتافه بسبب حالة حاتم
لذا وجدتها فُرصة أن تسأله عمّا جرى ، لتُهمس :
كلّمت سيف ؟
ابتلع ضحكاته ، لكنّه ما زال محتفظ بابتسامته التي فترت قليلًا بسبب هذا الموضوع ! ليهزّ رأسه بهدوء :
كلمته ، ومالش إلا اللي يسرّش يالغالية
ابتسمت خالته وهي ترفع يداها عاليًا وتقول بنبرة حانية :
يارب يا كريم إنك توفّق هالولد وتجعل هالبنيّة فاتحة خير على حياته ورزقه وماله !
يارب إنك تقرّ وتهجع وتريح بال أمك هاللي إن تأخرت في نوم شوية حاتتك
وقف وهو يضحك بشدة على دُعاء خالته الرقيق حين سمع جرس المنزل يرّن ، ليُردف وهو يقول خارجًا :
آمين ، عشان أمي بس !
أغلق الباب بسُرعة وضحكاته تتعالى حين وقفت خالته لتقول بمرح باسم :
أيا قليل الأدب ، وخالتك مالها حشمة وبركة من دُعائها لك
ارجع تعال وين بتروح مني !
ضحكت نِعمة وهي تقول لأختها التي تكبرها في السنّ
ولكن رغم ذلك ما زالت تتمتع بروح الفتيّة
ولا يبدو عليها أنها خلّفت سبع بنات ، خرجن من رحمها بصعوبة
على عكسها هي .. التي أنهكتها الإعاقة
وأصبحت تكبر عُمرها بسنين طويلة ، فهي ما زالت في الخمسين من عُمرها ! رغم أنها تظهر وكأنها تجاوزت الثامنين
جلست "نعيمة" بجانب أختها وهي تقول بضحكة باسمة:
ياحبيله هالولد ، يوسّع الصدر الله يوسع عليه
-
بالخارج .. خرج زيد بخطواته السريعة حين تزايدت دقات الباب ورنّات الجرس وسط إستغراب حاكم الذي اعتدل بجلسته
ليرفع زيد صوته وهو عاقدًا لحاجبيه :
جاي ياللي عند الباب جاي ، على هونك
بتر خطواته بخطوة كبيرة وهو يقف أمام الباب ويفتحه بعجلة
ليتفاجأ بالذي أمامه ، بحالته المُزرية
وكأنه خرج من ماراثون طويل أهلكه وأتعب أنفاسه
هتف :
عبدالرحمن
كان يتكيء براحة يده على طرف الباب ، مُنحني قليلًا إلى الأمام
يرتدي ثوب أسود بأزرار مفتوحة ، وبلا شيء يستر رأسه
ويده تتدلى من الجُبس الذي وضع لها
أردف عبدالرحمن بعقدة حاجبيه :
مفتاح سيارتك القديمة ، أبغاه لا هنت
فتح عينه على وسعه .. وهو مُندهش من طلبه لعدة أسباب
أهمها ما حاجته لسيارته القديمة وسيارات أخوته أمتلأت بها بيوتهم :
سيارتي القديمة ؟ ليش وش تبي فيها ؟
أنت عارف إنها تايراتها تعبانة والسفايف تطلع صوت عالي
أنا حتى ما أسوقه إلا فالقرية بس
اشتدت عقدة حاجبي عبدالرحمن لتشتد معها نبرته :
زيد خلّصني ، ظنّك لو لي حال أطلب سيارة من عيال أخواني كان ما طلبتها ؟
لكنّ عارف إنهم بيردوني لأنهم يخاوفون على سياراتهم أكثر من خوفي عليّ
أبي سيارتك .. القديمة مب الجديدة
خرج زيد ليغلق الباب خلفه وهو يقول بإصرار :
عطني أسبابك وبسلّمك المفتاح .. بس أنت كيف بتسوق في حالتك هذا
سيارتي القديمة جير عادي ! وأنت ما تستخدم إلا يد وحده
زمجر فيه بغضب وصبره بدأ ينفذ :
ياولد الحلال لا تطوّلها وهي قصيرة .. مشوار سريع وراجع
ما طلبت منك إلا سيارتك القديمة اللي حتى بريال ما تنباع
بتعطين ولا ايش !
سكت زيد لثواني طويلة ، زاد معها توتر عبدالرحمن وهو يدعو الله أن يعتقه ويسلّمه مفتاح سيارته
لكنّ زيد خيّب آماله حين قال له بجدية بالغة :
بعطيك بس بشرط ، أنا اللي اسوق
مابي استأثم فيك لا صار لك شيء بسبّة سيارتي اللي ما تنباع بريال على قولتك
انتظرني ثواني بس أجيب المفتاح !
دخل تاركًا عبدالرحمن يزفر الغضب من أنفه ، وهو حانق
تمنّى لو أن يسلّمه زيد المفتاح بلا أسئلة
فهو يعلم لو أنه لجأ لوالده واستخدم سيارته البيكاب فلن يسمح له
ولو لجأ لأخوته وأبناء أخوته لمنعوه وبشدّة من القيادة
يكفي ما طال يده ، ويكفي ما يشعرون ناحيّته أنه مجنون
خرج زيد بعد ذلك وهو يأشر له ، ليركب عبدالرحمن بالمعقد الذي بجانبه
ويركب زيد وهو يشعل السيّارة ويسمّي بالله
آخر مرة استخدم هذه السيّارة قبل اسبوعين من اليوم
وهو كارهٌ لإستخدامها مرة آخرى
فهذه السيّارة عبارة عن خردة متحركة لا غير
هتف زيد بجدية :
أتمنى المكان اللي بتودينا له يسوى العنوة والمُغامرة
أنت منت سامع الصوت اللي تطلعه السيّارة ؟ تراها هلكانة ياولد الحلال
مشوار البقّالة ما صارت تستحمله
أردف بغموض مُحترق وهو يقول بخفوت :
مب بعيد ، المكان قريب كم كيلو من قريتنا ونوصل
سوق على مهلك ومب صاير فينا شيء
سمّى بالله وهو يدعو الله مطولًا أن يحفظهم ، حتى بدأ يخرج ويبتعد عن ملامح قرية سيلجا وبدأت ملامحها بالإختفاء
لم يصلوا إلى الشارع العام بعد ، وزيد يقول على سُرعة 50 كم
خوفًا من السُرعة وخوفًا من أن تغدر به السيّارة
إلا أن عبدالرحمن كانت عيناه منصبّه نحو الطريق وهو يحترق بداخله ويعدّ دقائق بثوانيه لرغبته بالوصول سريعًا
منتبهًا تمامًا لنظرات زيد الذي يسترقها له بين الحين والآخر
زفرّ عبدالرحمن وهو يشعر بغرابة حالته ، ولكن زفرته لم تدم
بسبب صرخته التي أصمّت بأذني زيد :
زيـــد انتبـه
لم يكتفي بالصرخة فقط ، بل مسك المقود وأدار بأقصى قوة امتلكها يومًا للجانب الأيمن حتى لا يصدم الذي أمامه
لتنحرف السيّارة عن مسارها الصحيح وتدخل في التُراب
بعد أن دارت دورتين ، لتستقر بشكل مقلوب
بالقُرب من جرف الوادي



انتهــى ♥


الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 17-05-22, 09:50 PM   #42

Salma_3_

? العضوٌ??? » 421124
?  التسِجيلٌ » Mar 2018
? مشَارَ?اتْي » 197
?  نُقآطِيْ » Salma_3_ is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الكاديّ مشاهدة المشاركة
كل ثلاثاء وخميس ان شاء الله ♥
فيه بارت يعني اليوم 💃💃💃💃💃


Salma_3_ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 18-05-22, 01:15 AM   #43

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة salma_3_ مشاهدة المشاركة
فيه بارت يعني اليوم 💃💃💃💃💃
نزل البارت حبيبتي 🕺🏻

NON1995 and تايست like this.

الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 19-05-22, 10:21 AM   #44

Ai35

? العضوٌ??? » 410513
?  التسِجيلٌ » Oct 2017
? مشَارَ?اتْي » 159
?  نُقآطِيْ » Ai35 has a reputation beyond reputeAi35 has a reputation beyond reputeAi35 has a reputation beyond reputeAi35 has a reputation beyond reputeAi35 has a reputation beyond reputeAi35 has a reputation beyond reputeAi35 has a reputation beyond reputeAi35 has a reputation beyond reputeAi35 has a reputation beyond reputeAi35 has a reputation beyond reputeAi35 has a reputation beyond repute
افتراضي

السلام عليكم صباح الخير عليكم جميعاً .. بدأت في قراءة الرواية ولسى ما كملتها .. لكن ما قدرت ما اعلق على جمال القصة وجمال السرد😚❤
متى تنزل البارتات الله يسعدك ويبارك في قلمك

NON1995 and تايست like this.

Ai35 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-05-22, 10:59 AM   #45

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ai35 مشاهدة المشاركة
السلام عليكم صباح الخير عليكم جميعاً .. بدأت في قراءة الرواية ولسى ما كملتها .. لكن ما قدرت ما اعلق على جمال القصة وجمال السرد😚❤
متى تنزل البارتات الله يسعدك ويبارك في قلمك



وعليكم السلام والرحمة، صباحك أخير يارب ♥
نورتي الصفحة كلها ياحلوك ..

الرواية مكتملة عندي لذلك البارتات تنزل كل ثلاثاء وخميس
الله يسعد قلبك ويخليك ♥

NON1995 and تايست like this.

الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-05-22, 01:56 PM   #46

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي

مساء الخير والسعادة، طابت جمعتكم بكل خير
تفضلوا فصل اليوم اللي مفروض يكون أمس .. قراءة ممتعة



لا تلهيكـم الرواية عن الصـلاة



الفصــــل التاســـع




-
أنّة صدرت من ذاك المسجى على الأرض
أنّة أتبعها أنّات آخرى مشبعة بالوجع ، ومليئة بالدم
والكثير الكثير من الألم الفظيع الذي طال يده المحشورة بالجُبس
فتح عينيه ببطء شديد ، وذاك السائل الأحمر اللزج
يشعر به يسيل ويسيل حتى تتشربه الأرض الجافة
رفع يده نحو رأسه وصداعًا حادًا يشعر به في صدغه
حينها تبيّنت له الإصابة تمامًا ، جرح عميق ينزف دمًا في مؤخرة رأسه نتيجة ضربه على حجر صلب
وقف في مكانه وقفه أشبّه بالقفزة وهو يُحاول الإستيعاب
ودوارًا لاذعًا اصابه جعله يتنفس ببطء شدييد
ولكن نَفسه انحبس حين رأى السيّارة التي كان بداخله
وأصبح الآن خارجها
فعبدالرحمن حين انقلبت السيّارة في المرة الأولى قفز جسده تلقائيًا من النافذة
التي كانت أساسًا مفتوحة ..
ونتيجتها أن رأسه صعق في الحجر وأُغشى عليه لدقائق قليلة
صرخ بصوتٍ عال وهو يبحث عن زيد ، إن كان لقى مصيرًا كمصيره على الأقل:
زيــد !
تقدّم بخطواته المذعورة والحذرة في آن واحد ، فالسيّارة كانت بالقُرب من جرف الوادي
منقلبة رأسًا على عقب .. وربما حركة بسيطة قد تهوي به إلى الهاوية
تقدّم وهو يصرخ بذات النبرة :
زيد تسمعنيييي ! يارب
هتف بها وهو مصعوق ، مصعوق جدًا مما فعلت يداه
يعلم أن زيد كان يقود السيّارة على سُرعة 50 كم ! ولكن حركته المفاجئة للمقود جاءت تزامنًا من إنحناء الشارع إنحناءة حادة
التفت يمينًا وشمالًا وهو يُحاول إيجاد السبب
عضّ على شفتيه حتى سال دمه ، وهو ينتحب بداخله
ويشتم بداخله ، وينعى زيد الرقيق بداخله :
والله لألقاك يا سامر .. ياويلك منّي يا سامـر
يارب أنا وش سويت ؟
-ضرب رأسه مراتٍ عدة بقبضة يده-
وش سويت يارب وش سويييت !
كان يشتم سامر مرة ، ومرة ينُادي زيد الذي يأس من أن يسمعه
فقد كانت جهة زيد مدمرة ، ولا يستطيع رؤية أي شيء
استفاق من وجعه ومن جهله ومن رُعبه
وهو يدخل يده السليمة في جيوب ثوبه الأسود
يبحث وبكلَ أمل عن هاتفه .. علّه كان صامدًا رغم قفزته المؤلمة
حينها تنّفس بعمق لمّا راه سليم مُعافى لولا الشَعَر البسيط الذي أصاب شاشته
رنّ على رقم معيّن بيدين ترتجف ، وقلبٌ يهوي إلى البطن
ليأتيه الصوت بصورة ضيّقة ، مُجهدة :
خير يا عبدالرحمن
صرخ به عبدالرحمن وهو يأشر براسه نحو السيّارة
كأنه يراه :
ألحقنييي ، زيد في السيّارة
محبوس محبوس ! السيارة على الوادي
بتطيح ألحقنيييي
لم يفهم حاتم ما قاله عبدالرحمن ، ولكنّه شعر بالخطر من صُراخه
فلذلك صرخ فيه بحدة بالغة :
أنتو ويـن ؟
أردف عبدالرحمن بذات النبرة والدوار يُهاجمه :
ما طلعنا من البلد ، ما طلعنا قريب من الشارع العام
ألحقني بيمووووت
أغلق هاتفه وهو يرميه عندما سمع كلّمة موت
ليُسارع بخطواته نحو الخارج ويركب سيّارته بأقصى سرعة
جعل والده سيف الذي كان بجانبه يرتاع من حركته
وهو يهتف بقلق عارم " يارب استر على هالمجنون "
كانت دقائق ، بل دقيقة واحدة
حتى وقف حاتم أمام الحادث ، وجده بسرعة
فالمكان كان خالٍ ، إلا من ذاك المنظر المخيف
خرج من سيّارته وترك بابها مفتوحا ، ليتّجه نحو عبدالرحمن
الذي أوشك على الإنهيّار وهو يصرخ باسم واحد
يصرخ باسم الذي جعله يعيش كلّ هذا الألم
ألم الكسر ، وألم الدم ، وألم القلب
يصرخ ويتوعد ويهدد باسم " سامـر " فقط
اقترب منه حاتم وهو يصرخ فيه بصوت مرعب :
زيييييد ! وينـه ؟
أشر عبدالرحمن بسبابته المُرتجفة نحو جهة السائق
ليقترب حاتم منه رويدا رويدا خشيّة من أن يُحرّك حجرة واحدة
وتتحرك السيّارة ثم تسقط
ثنى رُكبتيه على الأرض ، وأمال رأسه محاولًا سرقة النظر من الزجاج المكسور والمتشعّر
صرخ بخوف احتّل قلبه بصوت حاد حازم :
زيد تسمعنييي ؟
لم يظهر صوت زيد على السطح لمدة ثواني طويلة ، وهذا الأمر الذي أخاف عبدالرحمن الواقف خلف حاتم
أعاد حاتم النداء دون أن يتلّقى الرد ، ليجد أن هُناك طريقة واحدة حتى يتأكد أن أنفاس زيد ما زالت على هذه الأرض
ثنى يده اليُسرى ، مد طرف كوعه نحو زجاج النافذة المتهّشم
ضربه ضربة بسيطة مخافة من أن تتحرك السيّارة
لتتلو الضربة ضربة أخرى حتى سقط جزء من الزجاج بشكل بسيط
حينها استطاع حاتم إدخال يده من بينها رغم الجراح التي تسبب بها الزُجاج ، وهو غير مُبالي
لا يُبالي الآن إلا بحياة هذا الغائب عن الوعي ، لا يُبالي إلا بقلبه الذي لا يحمل إتجاهه أي ضغينة
مد اصبعيه السبابة والوسطى وهو يضعها بإتجاه عُرق الحياة النابض في رقبته
لثواني طوييييلة لم يُزفر فيها نفسه!
حتى تنّهد بصوتٍ عالٍ وهو يخرج يده وينظر لعبدالرحمن
بصوتٍ صارخ :
حيّ حيّ ، زيد حيّ
لم يكن يعلم إن كان حيًّا بالفعل أو هذه آخر سويعاته
فزيد محشور في كُرسيه ، وسقف السيّارة بدا نازلًا بإتجاه رأسه
عدى أن الكيس الهوائي قد يكون أصابه بأذى بدلًا من أن يحميه
عاود الالتفات لعبدالرحمن ليصرخ فيه وجهه بصوت غاضب:
ليش جالس تتمقل فيني ؟
اتصل في الإسعاف والدفاع المدني ، بسـرعة
جفل عبدالرحمن وهو يتراجع ليهزّ رأسه بإيجاب ويتناول هاتفه نحو لوحة المفاتيح ويضغط على " 9999 "
حينها وقفا شابان كانا يركبان شاحنة المياة الصالحة للشرب " تانكر "بلونها الأزرق الصارخ
ليركضا نحو الحادث الذي رأوه وهما عائدان
هتف إحداهما بجزع :
اللهم سلم اللهم سلم ، عسى راعي الحادث بخير يا رجال ؟
وقف حاتم وهو ينفض التراب من يديه وبعض ذراته التصقت في بنطاله الأسود
ليعود للخلف وهو يصرخ بهم بجزع مغلف بالحزم :
لا تتقدموا ، السيّارة على أدناة الدون بتتحرك
رجعوا على وراء
عادوا للخلف بسرعة لسببين ، بسبب خوفهم من حركة السيارة
وبسبب معرفتهم أن هذا الرجل ليس سوى حاتم المجنون
اجترع الثاني ريقه وهو يقول بقلق :
وبتنتظر الدفاع المدني اللي يبغاله 10 دقايق لين يوصل؟
يا رجل خلينا نطلّع اللي داخل لا يروح علينا
التفت نحوه بعينين تشبّعا بالغضب ، وهو يودّ لو أن ينقض عليه
لكن لا الزمان ولا المكان يساعداه ! زمجر به :
أنت ارجع على وراء وكثّر الله خيرك ! ولا تتقدم خطوة
عشان ما أروّحك لو راح هو
بعّدوا أقولكم
أمسك الأول بصاحبه وهو يهتف له بحزم بالغ :
ارجع لا يشرب دمَك ، تراه بايعها ذا المجنون
التفت له الآخر عاقد الحاجبين وهو ينظر لحركة حاتم القلقة
الذي يقف مرة وينحني مرة وهو ينادي زيد علّه يعي من إغماءاته
ليردف بجدية بالغة :
السيّارة صغيرة والجرف قريب ، لو انتظرنا الـ10 دقايق مسافة الدفاع فالآدمي اللي داخل بيودّع
هتف بغضب وهو يسحبه من يده :
عندك حل يعني ولا بس تبغى تتشيطر على ولد سيف ؟
أزاح يده وهو يعود ركضًا نحو " التانكر " ليصعد السلم الجانبي الذي يؤدي إلى فتحة الخزّان
ويخُرج منه الحبل المتين الذي يصحبونه معهم
اقترب منه صديقه بدهشة :
وش بتسوي ؟
رمى الحبل المتين في أحضان صديقه وهو يقفز من السلم نحو الأرض
ليقول بعزم غريب :
على الأقل نعطي وقت زيادة ، ونتقبّض بالروح
إن ما كانت هالروح طارت لباريها .. أمسك
عقد طرف الحبل الأول في مؤخرة " التانكر " وتأكد من إحكامه الشد
ليخطو خطواته نحو حاتم الغاضب ، وعبدالرحمن الجالس بالقُرب من السيارة وهو يضرب رأسه بقبضة يده في صوره يائسة ! لمّا بدأوا الناس بالتجمهر في الشارع بالقرب من الحادث
ليقول بحدة تجلدت بالجدية :
إن كان اللي بداخل السيّارة يعزّ عليك ، فهاك أمسك
حاول تربط الحبل في شيء من الأماكن
وأنا مثّبت طرفه الثاني في التانكر عشان على الأقل ما تتزحزح السيارة
نظر له حاتم في ثانية صمت ، ليتقدم بعدها دون تفكير
وعقله مشوش ، مشوش ومُرهق ومُجهد
فأي عذابٍ هذا ؟ وأي إختبارٍ يخوضه حين يخسر درجاته
في محبتّه لزيد .. ثم يُصاب بحادث وهو مكتوف اليدين
ليرسب بصورة قاسيَة في هذا الإختبار
"إلا زيد .. إلا زيد "
كان يرددها وهو يعقد الحبل بصورة قاسية في طرف السيّارة
" خذيت مني ذكرياتي يارب
لا تاخذ منّي إللي حاول يصنع لي ذكريات جديدة " ..
" يارب طول السنين كنت الجذر وكان الغُصن
لا تكسرني بعد ما صار هو الجذر وأنا الغُصن "
كان يهذي ، لدرجة أنه لم يشعر بآلام جراح يده ، ولا الدم النارف منها
وصداع حاد فتّاك بدا يجتاحه هو الآخر
فهذا الحادث يذكرّه بالصورة التي بدا عليها حادثه هو
الفرق أنه دار ودار ودار حتى استقرّ أسفل التلّة
وزيد دار ليقف بالقرب من جرف الوادي
وكلامها أشد قسوة من الآخر
شعر بجسده يرتجف ، كورقة خريفية تاقت للسقوط على أرض نديّة
رغم جموده ، عرف المشاعر اللطيفة بمسمّاها برفقة زيد
فقد كان رقيقًا ، شفافًا ، ومؤلمًا بعذوبته الراقيّة
كان يسرّ الناظرين عند رؤيته
طويل القامة ، ضعيف البنيّة ، برئ الوجه ، واسع العينين ، وذو وسامة مُريحة
على نقيض حاتم تمامًا الذي كان
فارع الطول ، جسيم البنيّة ، حاد الوجه ، غليظ الملمح وذو شدّة بادية على وجهه رغم وسامته الجباليّة
عرف الضحكات الكثيفة ، والنِكات السخيفة ، والحِكم العريقة بصحبته
كبرا جنبًا لجنب ، بانت عليهم ملامح المُراهقة في ذات الوقت
اتفقا رغم إختلافهما الجذري !
كانا كالصيف والربيع .. مختلفان في المسمى متشابهان في الحالة
انحنى بركبته وهو يعصر رأسه بين كفيّه لشدة ما هاجمه الصداع
ولم يشعر بيد حامد التي هوت على كتفه ، ولا بصراخه الذي فتك بأذنيه
لم يجعله يفيق من سُكرته الموجعة إلا صوت الإسعاف
ليلتقط صوت حامد الجزع :
من اللي في السيّارة ؟ من ؟
التفت له وهو للتو ينتبه لوجوده ، بعد أن عاد من طرف الساحل إلى عُمق الجبال وشاهد الحادث بالقُرب من مدخل القريّة
همس له وهو يرى خروج المسعفين :
زيد !
تراجع حينها حامد بصدمة وهو يشّد يده على شعره
وهو يرى تدخل المنقذين من سيّارة الدفاع ، ليقوا زيد شرّ السقوط والولوج إلى عوامل الموتى
لم يكن يشعر بحاتم الذي يصرخ في المنقذين
بأن يتصرفوا بهدوء ورقة خوفًا من سقوط السيارة
رغم أنها أصبحت بأمان الآن
ولا بصراخه للمسعفين الذي يأمرهم بالتصرف بمهنيّة أكثر
خوفًا من كسور أو نزيفٍ داخلي قد أصابه
كان يموج في شعور مُربك رغم جمود ملامحه
يسبح في بحر الندم والتحسّر لو أصابه ضِر !
مشى خلف المسعفين الذين أخرجوا زيد بسرعة كبيرة بعد أن حملوه على الحمّالة الخفيفة
دون أن يبالي بعبدالرحمن الجالس بتعب شديد ولا بحامد المصدوم من المشهد ككل
ليتوقف هُنيهة ، وهو يولّي ظهره أولئك الناس الذي تجمهروا كمتفرجين قبل أن يركب برفقة الإسعاف
التفت نحوهم ، ونظر لهم بنظرة سوداء مُميتة
ليزمجر بصوته العالي الحاد :
أي واحد يفتّح فمه بكلمة ويصير نّقال حكي ويمشي بين الناس يعلّمهم عن الحادث كنّه مره
والله العظيم إني لا أطلع جنوني كله عليّه
وهاكم إنذاري ، فمالكم عُذر .. مالكم عُذر
بهُتت وجوههم مرة واحدة من نبرته المُرعبة ، فهم يعلموا أن حاتم " قولًا وفعلًا "
معظم المتواجدين هُنا شهدوا على " حلبة المصارعة "
التي حدثت بين حاتم وعبدالمجيد قبل سنوات
أدت إلى دخول الأخير إلى المستشفى مملوءً بالكسور
ودخول حاتم إلى التوقيف ليومين كاملة
لذلك آثروا إلتزام الصمت ، رغم أن القرية صغيرة
وقد يصل الكلام بسرعة ما لم ينقلوه هُم
خرجت الإسعاف وخلفها الدفاع المدني بإتجاه مستشفى المدينة
وبدأ الناس يتفرقون ويعودون إلى حيث كانوا
إلا ذاك الجالس يندب حظه ، والواقف بجانبه يهديء من روع قلبه
همس عبدالرحمن بحقد متأصل جذوره :
والله يا سامر لو صار شيء في زيد وأنا السبّة
لأخلي دمّك يجري مجرى هالوادي
وصلت همهمات عبدالرحمن إلى حامد ، ليلتفت إليه ببطء
شهق حينها وهو ينحني إليه بهلع :
عمّي ، أنت تسبحت بالدم
وكأنه كان ينتظر هذه الجُملة حتى يعود إلى إغماءته التي فاق منها
فهو ترك رأسه ينزف .. ينزف بملء إرادته
دون أن يسمح للمُسعفين بمداواة جروحه ! عقابًا له
على عِناده ، ورغبته الأنانية ، على حركته المفاجئة وعلى حالة زيد
سقط بين يدي حامد الذي حوقل مئة مرة في الدقيقة
ليحمله ويسرع به لسيارته .. يتبع الإسعاف من خلفه




-
نفض يديه بملل وهو يقف بطوله الفارع رغم كِبر سنه ورغم جبروته ، وغِلظته ! فإن ظهره ما زال ناصبًا مُستقيمًا
شبك يديه خلف ظهره وهو يمشي متجهًا نحو الصالة
وعيناه تطوفان هذا المنزل القديم بتروي ، وتمعنّ ، وربما بحنين صغير
رغم قِدم المنزل وسنواته الطوال لم يحبذّ عبدالله ( والد زيد ) على بيع منزل والده المحبب والخروج من القريّة
مثلما فعلوا مُعظم أبناء عمّه ، بإستثناء عزّام وعائلته
ظّل عبدالله هُنا جوارهم ، يستقي بقُربهم ، يستنشق أفراحهم
ويرسم تلك السعادة التي فقدها بفقده لوالديه
وبعد موت عبدالله ، انتقل الحُب الأبدي لهذا المنزل إلى زيد .. الجيل الثالث الصامد بقوّة
فهو كذلك لم يرض على بيع المنزل والهرب .. إلا أن حاكم
لا يدري أن خلف الرفض لتراتٍ من الدموع المسكوبة من نِعمة بحُضن زيد
وهي تُرجيه أن لا يبيع منزلٍ استقت من جُنباته العذوبة
والأُلفة والمحبة والإحترام .. التي شهدتها جميعًا في عبدالله
الرجل الذي اقتّص المرض منه سنواته المأخوذة
ليرحل تاركًا إياها تندب حظّها كأرملة ، وتندب حظ زيد كيتيم
يتذكر كل المواقف التي عاشها في هذا المنزل
وكيف لا يتذّكر .. وهو كان يُعد منهم وبهم وفيهم ولهم
يذكر تمامًا في تلك الزاوية .. الضرب الذي تعرّض له من عبدالله
نتج عنه سقوط سنيّن من أسنانه ، وجرح غائر في عضده
ما زال أثره حتى اليوم هُناك
يذكر حين خرج والد عبدالله غاضبًا مسعورا ، بعد أن أنهل عليهم بسيلان من العِتاب المحشو بالمساب
وبّخهم كما لم يوبخهم من قبل .. بعد أن صلّبهم في النخلة وربطهم بحبل غليظ كانو يربطون به الثيران
وهو يقول لهم بحدة امتزجت بحزمه
" اعنبوه رجال كل واحد ينافس الثاني في طوله يتناطحون فيما بينهم سبّة لعبة
خلكم في هالظهريّة
خلي الشمس تسلخكم عشان تتعلمون تحترمون بعضكم "
ليعود بعدها أبو عبدالله ويغلق الباب بقوة أمام ناظريهم
يذكر حين التفت وقتها لعبدالله وهو يضحك ضحكة مكسورة السن وهو يقول
" يعني لو إنك مخَلي لي سن واحد كان الحين متبّردين في الفلج
بدل سيحة الحر وصقعة الشمس "
زفرّ لتعود ملامح وجهه القاسية الى ما هي عليه بعد أن احتّلها الحنين لوهلة
لا ينكر إشتياقه لتلك الأيام الخوالي ، إشتياقه لعبدالله بالذات
كيف تغيّر كل شيء .. كيف أندثرت المحبّة
وتجذّر الحُقد والبغُض بقلوبهم .. كيف عاشوا متغذيين على البُعد ، مقتاتيين على تشويه أرواحهم الفتيّة
وقف بالقُرب من باب الصالة ، طرقه بخفّة ليقول :
سرينا يا بنات
وقفت رغد ابنته الكُبرى لتفتح الباب على مصراعيه وهي تبتسم بدهشة :
يبه أنت عادك هنا ؟ حسبنّاك رحت البيت من زمان
أمال فمه على نفسه وضعيته وهو يقول بحنان مصفى :
أروح لبيت مافيه ضوء ؟ لا بالله كني رايح لقبر
اتنفضت بجزع رقيق وهي تقبل رأسه :
بسم الله عليك جعل عُمرك طويل وماحد يضوي البيت غيرك
-ابتسمت برقة-
يعني يبة حنا نبي نجرب غلانا ونقولك خلينا عند خالتي لين الليل
تعرف بكرة إجازة ونبي نوّنس على خالتي
أردف بثقة وهو يعتدل في وقفته :
خالتش أمها عندش .. أنتو امشوا البيت معي !
ويالله يا بدونكم وحش ما ينطاق .. ما يهون عليكم تخلون أبوكم لحاله
ابتسمت بحنيّة متعاظمة لهذا الاب الحاني :
ياشين الواحد لا درى بغلاه !
نظر لها بنظرة غاضبة مصطنعة :
أنا ولد أبوي .. أنا شين ؟
ضحكت وهي تتقدم لتُقبّل طرف أنفه قُبلة سريعة لتتراجع للخلف بذات الضحكة :
إلا شيّخ الشباب ، وزينهم كله فيك .. يابو عزيز
ابتسم ، وكأنه لا يعرف الابتسام إلا بالقُرب من بناته ، شمعاته ، ونور قلبه ومنزله .. كأنه بدونهن في ظلمة عاتمة
كطفلٍ صغير لا يفقه أن يروح ويأتي بلا مُساندة
رغم السوء الذي يُحيط به ، وشخصيته القوية المتعجرفة في السوق والعمل والحياة الإجتماعية
لكنّ عند بناته كما يُقال " ما تشيله عظامه " يُصبح لهن الضيّاء والمحبّة والغِنى والإكتفاء
جاءه صوت نعيمة ، زوجته وشريكة حياته ومن أهدته بنات قلبه :
يابو عزيز ، من اللي عند الباب ؟
أردف وهو يقول بصوت عالٍ دون أن ينظر لداخل الصالة :
ولدّ عزام !
حينها جاءه صوت خافت محمول بالخجل والقلق ، صوت نِعمة التي قالت :
زيد راح ؟
لتتبدّل نبرته السابقة تمامًا ، نبرته التي كانت مملوءة بالحنيّة أصبحت الآن مثقلة بالجِراح الحارقة التي تُلهب صدره
ليُردف ببرود مقصود :
راح ، باللي ما يحفظه
تراءى لمسمعه شهقة نعيمة ، وتمتمات رغد الضائقة التي مازالت تقف بالقُرب منه ! آلمه أنه جرحهن فيه
وهو لا يُريد مدخلًا للجراح نحو قلوبهن !
لم تكن تعنيه نِعمة ، هي مُجرد ابنة عمه لا غير ! وليس مُهتم بمراعاة شعورها إتجاه زيد
لكنّه مهتم بمشاعر نعيمة التي ترى زيد ابنها وأكثر في حين أن الله لم يرزقها بأولاد
لذا عضّ على شفتيه وهو تمنّى لو أن لم يقل ما قاله ، لينصدم من الصوت الغاضب الذي جاء من أقصى الصالة
الصوت الخجول القلق قبل قليل تحول إلى صوت غاضب حانق ومتألم :
عبـــدالله !
والله العظيم بيني وبين ربّ العالمين ولدي ، إن جرحته بالكلام مرة
أو جرحتني فيـه .. ليكون هذا آخر ما بيني وبين أهلك
التفت لها نعيمة بصدمة ، ولكن صدمتها لم تقل عن صدمة حاكم .. بسبب الاسم الذي نادته إياه نِعمة
اسم اندثر منذ سنين منذ إندثار المحبّة في القُلوب ، ليحلّ محلها الضغينة والبغضاء ..
اسم حارب من أجل لا يُنادى به مرة آخرى ، اسم كاد أن يذبح به الأنفس التي تنطق به قبلا
أكملت نِعمة بذات الغضب والحمق :
عندك كلام ؟ وجه سيوفك ناحيتي .. ولا تحسّب إني ماني ندّ لها
اللي وقفت بوجهك قبل سنين قادرة توقفّ بوجهك هالمرة لو رجليها خانتها
انتفض بجزع ، وهو يسمع تحدّيها الواضح له
أتتحداه ؟ أتُعايره بما فعلته به قبل سنوات
أتجدد مجدها وإنتصارها وراياتها في وجه خسارته العظمى ؟
اقتحم الصالة بغضبه ، وإعصار عتّي يدور بداخله ، ليردف بغضب :
أص ولا كلمة .. انطمي وابلعي لسانش
مرة في عُمرش تحشم نفسها وتكلّم ولد عمها بإحترام
إذا أنتِ تتفاخري باللي سويتوه فيني قبل سنين
ترا ما أنا بعاجز أسوي لش مثل !
كانت ينتفض غضبًا ، وقهرًا وحسرة على شبابه الذي أضاعوه
على حُبه ، واندفاعه نحو الحيّاة التي كانت بسببها
بسببها هي .. ظل يجترع الجراح
بسببها ظلّ يُحارب في وقت إستراحته
بسببها لم يهنأ ، لم ينعم بالودّ والسلام
بسببها كان دائمًا متحفزًا لأدنى تصرّف وحجة
بسبب سلمى ، محبوبته التي لم يهنأ بقُربها إلا 9 أشهرٌ عِجاف
9 أشهر ظلّ يتحسّر عليها 33 عامًا بلا رحمة
أردفت نِعمة بقوة ، ونبرة مقصودة جدًا :
سويناه فيك ؟ يدينك سوّت اللي سويناه قبلنا بواجد يابوعزيز
أنت دفنت نفسك بنفسك ، وهدمت حياتك بإرداتك
حنا حاولنا نطلّعك بأقل الخساير
ولو ما طلّعناك من اللي أنت ، كان خسرناك وخسرناها
تعالى الضيق في صدر نعيمة من هذه السيّرة التي ظلّت مدفونة لسنين طويلة ، وهي تكره أن تفوح رائحتها لشدة غيرتها على شريك حياتها
أمسكت عضد حاكم الغاضب ، وهي تُبعده للخلف
وتقول بنبرة عاتبة مغلّفة بالألم :
يابو عزيز احشمني ، واحشم إنها أختي
ولا حتى الحشمة ما عاد تعرفها وقت عصبيتك ؟
انتفض بجزع رقيق وهو يميل نحوها .. يكره هذا النبرة العاتبة
يكره أن يسمعها من زوجته التي اختارها بملء قلبه
ليُردف بضيق واجم :
حشى لله ، حشمتش فوق رأسي يا أم رغد
ولكنّها تحب تطلعني من طوري .. ما أنا بردي
أهبّ في مرة مريضة مالها حيلة ولا قوة
ولكنّ نِعمة كان رأيها مختلفًا ، فلم تسمح له بالتقليل من شأنها وإمتهان كرامتها وتقليل قدرها لمجردّ أنها " مريضة "
أو مشلولة لا تقدر على المشي ، لتردف بحدة مثقلة بالاحترام :
الردي ردي .. اللي ما يحشم أهل البيت اللي هو فيه
ولا يحشم بناته اللي ينافسنه في الطول ! ولا مرته
عادك ببيتي يابو عزيز ، وبيتي بيت عبدالله الله يرحمه
ولا تنسى إن ذا البيت دخلته واجد ، وعشت فيه واجد
فاحترم رعاته ، وأحترم راعيه في غيابه
استغفر حاكم في داخله وهو ما زال يشعر بالإستفزاز ، لكن أعين بناته الغائرة التي تنظر له بإنطفاء ونظرات زوجته العاتبة المغلّفة بالحنيّة تجعله يتراجع عن شتائمه التي ودّ تصفيفها صفًا صفا
كان خطئًا عليه أن جاء لهذا المنزل ، ليفتح جِراحه
التي ما انكفأ عن مداواتها
ولاّهن ظهره وهو يعاود الخروج من الصالة والهرب من هذا المنزل الذي أصبحت جدرانه تطبق على صدره
ليتفاجأ بصوت نِعمة الحازم ، جاءت به رنة حُزن عمييق
حزن يعلمه تمامًا وهي تقول :
ياعبدالله ، لا تحمل ذنب زيد زيادة على حمولك بذنب عبدالله
فوق ظهرك ..
ارحم ظهرك هاللي ما باقي همّ ما انحط فيه
ما راح أقول عشان خاطرك أخوّتك بالمرحوم .. لكن عشان ز
مرتك وبناتك !
ابتلع ريقه الذي جف بصعوبة بالغة ، وهو يخرج جارًا لأذيال الوجع والحسرة والخيبة
يخرج وهو مـوجوع ، موجوع ومتألـم من الذكرى التي هاجمته أشد هجوم
-
-
" قبل أكثر من 35 سنة :
"يجلس بجانب رفيق طفولته وصبِاه ، بجانب كتفه وساعده الأيمن و "سميّه"
يهتف بنبرة متخمة بالولع والهِيام :
مهتويها يا عبدالله ، مهتوي شوفتها وهي شاحّه بها عليّ
ابتسم له بابتسامة عميقة مرحة :
والله ياعبدالله نمبّر تو إنك مجنون ليلاه ! أو خلني أقولك سلماه
مافي فرق بين ليلى وسلمى إلا بقيس بن الملوح
يا أخي وش عاجبك فيها ؟ جفسة وصوتها دفش
أنا أشك إن طالع لها شنب
التفت له بغضب العاشق الذي لا يرضى على محبوبه :
عبدالله أنا كم مرة قايل لك لا تمسخر على حسابي وحسابها؟
-تراجعت نبرته للحنيّة اليائسة-
والله ياخوك ما عاد بي صبر ، والصبر والله استحي منّي
تخيّل إني الشاري بكل دميّ ، وهي البايعة بالرُخص
أنا ما بعد حسيت بقهر كثر ما حسيّته لما صفعتني برفضها
وش هو فيني أنا عشان ترفضني ؟
-ضرب صدره بقهر عدة مرات وصوت تنفسه يتعالى-
مقهور ياخوك مقهور ، نار كل ليلة تشّب بصدري وأنا أتذكر كلامها الشوك وهي تغرزه فيني بكل برود
أقولها أبيش ، تقول لي أنا مابي الحافيّ المنتف
أقولها شاريش بماي عيني ، تقول لي ماي عينك ما يروي ضماي
ترفضني وهي عارفة من الأساس إنها لي !
عارفة إن أبوها قالها في مجلس مليان " بنتي لولد عمّها "
وسد باب نصيبها لغيري !
انتفض عبدالله بحميّة ، بجزع ، بحنيّة ومودة لهذا العاشق
الذي ما بعد رآه في هذه الحالة من قبل
يبدو أن تشرّب الحُب حتى أُتخم ، حتى ما عاد هُناك مكان لكأس آخر
وبقدر حُبه ، بقدر ما هو مجروح من هذا الحُب الذي ما عرف التوازن يوما
ربّت على كتفه وهو يقول بمساندة :
افا عليك بس يا السنّد افا عليك .. أنت أشرّ بس ورجال هالمكان بيتراكضون على نسبك
لا تنسى إنك من آل عزم .. آل عزم عزومهم قوية وباسهم أقوى
زفرّ بضيق وهو يقول بهمس :
ولأني عيال العزم باسهم قوي ، فأنا مابي إلا بنات العزم اللي شرواهم طيب وأخلاق
ليُردف له بنبرة مقصودة تماماً :
بنات العزم الله مكثّرهن وأنا أخوك .. ما وقفت على سلمى العامريّة هاللي ما تشوف أبعد من خشمها
التفت له عبدالله وهو ينظر له بابتسامة هذه المرة :
أنت بتحشمني ولا بقوم أعافر فيك التراب ؟
ضحك وهو يتراجع ويدّعي الخوف :
أعوذ بالله منك يا قيس بن الملوح .. قصدي ياعبدالله بن عزيز
عفرة التراب بوجه حاسديني ، مو بوجهي
نظر له الآخر بمرح مغلّف بالوجع :
الله والحاسدين ، على ويش ياحظّي ؟
وجه يقصرَ العُمر وجسد جثّة !
قفز من مكانه في محاولة منه ليُنسيه طواري سلمى ورفضها الذي آلمه :
أنا عبدالله بن زيد ينقال لي كذا أنـا ؟
لا بالله اللي دفنتك اليوم هنا
ضحك عبدالله بن عزيز وهو يهز رأسه بيأس :
أقول توكل منّاك ؛ أنا لو قمت عليك ما بقيّت فيك عظم صاحي
قال يدفنني قال
-
-
"بعد لقاءهم ذاك بأسبوعين ..
كان يتقافز فرحًا ، وهذه الأرض لا تسعه أبدًا
يتقافز وبوّده لو أن يطير ويطير ويحلّق في السماء من شدة فرحته
حتى ما عاد يشعر بقدماه ، بل يشعر بجناحيه تخرجان من الظلام
ولشدّة ما يشعر به من سعادة عميقة متوغلّة نحو صدره ، كان يشعر بضيق تنّفس بذات الوقت
جلس على سرير عبدالله بن زيد الحديدي ، ينظر إليه وهو نائم
وّد لو أن يسحبه ويحتضنه ، أن يقول له كن هو سعيد
بل كم هو مُتخم من السعادة
إلا أن ردة فعله جاءت عكس ما كان يتوقعه هو بالذات
همس بالقُرب من رأسه بصوت مخنوق :
عبدالله .. عبدالله قم
فتح عبدالله بن زيد عيناه بخفّة ، وهو يلمح عبدالله بن عزيز بالقُرب منه
ليبتسم بعد أن أغمض عيناه :
حتى في أحلامي لازق فيني ، مب أحلام إلا كوابيس والله
هتف عبدالله بن عزيز بنبرة غريبة :
عبدالله قم وكلمنّي !
فزّ عبدالله بن زيد من سريره ، وهو يهتف بنبرة قلقة من صوت أخيه الخافت :
وش فيك ياخوك ؟ عسى ما شر ؟
وجهك رايح فيها .. تعبان ؟
هزّ رأسه بالنفي وهو يفتّح زر ثوبه الداكن ، كما لو كان يضغط عليه من شدّة ضيقه :
مافيني شيء .. أنا بس جيت أقولك إنها وافقت
وافقت عليّ ياعبدالله
عقد عبدالله بن زيد حاجبيه بقوة ، لتنّفك عقدته بعد ثواني ويقول بقلق :
وش فيك مكتّم طيب ؟ هذه ردة فعل يعطيها واحد كان بينه وبين الجنون شعره عشان بس توافق عليه سلمى العامرية ؟
التفت له عبدالله بن عزيز ، ليهتف بصمت موحش موحش :
فرحان ، ومن فرحتي مادري حتى كيف أتبوسم
أنت داري إني أكلت رأس عمي قحطان عشان يملكنّا
وهو كان يقول لي اصبر الصبر زين .. وأنا داري أنه ما يحلّ ويربط إلا برضى بنته
لأنها بنته الوحيدة بين العيّال !
نظر له عبدالله بن زيد بإستغراب :
انزين ؟
زفرّ وهو ينظر إليه بحدة نظراته وبنبرة قوية :
يعني أنت ما تشوف موافقتها بعد الرفض غريبة ؟
هزّ كتفيه للأعلى ليخفضها للأسف وهو يقول بابتسامة :
ماشوف فيها شيء .. موافقتها تحصيل حاصل
لأن المفروض هذا اللي يصير من زمان دامكم على خطبة
-وبضحكة ثقيلة نتيجة إستيقاظه من النوم-
يا رجال أنت مثل اللي محروم من الشرب طول حياته
ولمّا عطوه جالون ماي مات من صدمته
بس تكفى لا تموت علينا من فرحتك .. وفكّ رأسي دامها وافقت
خلنّي أنام قدّنا بنص الليل .. لو درى أبوي عن هالسهر سلخنا يكفي سلختنا تحت الشمس يوم إنّا صغيرين
عاد كله ولا صلاة الفجر عند أبوي .. هيّا قم
ابتسم عبدالله بن عزيز وهو يمدّ يده ليُبعد نصف جسد عبدالله بن زيد
ليهتف الأخير بصدمة :
وتبا تنام جنبي ؟ اعنبووه حتى العلوك ( العِلكة ) ما كذاك !
ابتسم عبدلله بن عزيز وهو يستريح على ظهره بجانبه
ليهتف بنبرة مُثقلة بالتفكير والترّقب :
أخاف أنام وأنهض ألقى كله ذا حلم
طالبك أول ما تنهض .. سوي هذاك الصوت اللي يخليني أقوم مفجوع وأنا أحسبه يوم القيامة
ضحك عبدالله بن زيد وهو الآخر يغطي نصف جسده بالشرشف ليقوم بمرح :
على هالخشم .. أعزّ ما علي حد يطلب مني ذا الطلب
لكن مب مسؤول عن أي حالة تصير لك بعدها
هتف عبدالله بن عزيز وهو يُغلق عينيه بصوت ثقيل:
مافرقت ، حويلتي حويلة من بعدها .. خلني على الأقل اتأكد إنها بتصير حقيقة "
-
-
-
" بعد شهر بالتمام ..
دخلا كتفًا بكتف وثياب كلّا منهما منتثر عليها التُراب
رؤوسهم منكوسة ، ملامح الحُزن مرتسمة على وجوههم
شعرهم الطويل طالته بعض ذّرات الغُبار
ملتفون بغترهم بشكل لا مُبالي حول أعناقهم
رمى عبدالله بن زيد جسده بالقُرب من النخلات التي ما زالت صامدة حتى يومهم .. رميّة مُثقلة بالتعب والحُزن
ليهتف بوجع :
لا حول ولا قوة إلا بالله .. الله يرحمها ويغفر لها
مابعد شفت عمي قحطان مثل اليوم
رجّال بهيبته يطيح مرضان بسبب وفاة زوجته
يالله إنك تصبّره
جلس عبدالله بن عزيز بجانبه ، متوّشح بالصمت ، والألم ينخر عظامه نخرا .. وتفكيره يأخذه إليها وحدها .. وإلى حالها
أردف بصوت خافت مشبع بالهمّ :
يا ترى وش حالها ؟ إذا الرجال القوي أمثال عمّي ما تحمّل شوفتها تتوارى تحت التراب
وش بيكون حال بنتها .. يارب الصبر من عندك لهم
عبدالله بن زيد أردف بخفوت حازم :
ربّك معهم .. وربّك ما ينسى أحد
طرق الباب بطرقات قوية على باب منزل زيد والد عبدالله
ليقفز عبدالله بن زيد من مكانه بقلق وهو يتّجه إليه
فتحه بسرعة ليجده خلفه صبي صغير يلهث بتعب :
عمّي قحطان طالب عبدالله !
هتف عبدالله بن زيد بقلق :
من عبدالله ؟ أنا ولا عبدالله بن عزيز ؟
تراجع وهو يركض للخلف ويصرخ له بصوتٍ عالٍ :
بن عزيز ، بن عزيييز
نظر للذي يقف خلفه بتعّجب وهو يراه يلتّف بغترته البنيّة
ويخرج راكضًا من منزل عمّه زيد .. بأقصى سُرعته
دون أن يترك لعبدالله بن زيد مجالًا للإنتظار والسؤال
وقلبه يخفق بشدة ، فما معنى أن يطلبه عمّه قحطان
بعد دفن زوجته مُباشرة !
-
بعد دقائق استنزفت من طاقته .. كان يقف بالقُرب من سرير عمّه قحطان المسجى عليه بتعب ووهن
همس له بخفوت باسمه ، حتى فتح عينيه المُرتجفة والمُحمّرة
والممتلئة وجعًا على فِراق رفيقة الدرب وشريكة الحياة
فاهو قد خسّر عكازه الذي يعتكز عليه بدربه
وها هو قد فقد الشريكة التي أملأت حياته نورًا وبهجة
فأي حياة أخرى يبتغيها من بعدها ؟ وما حاجة نَفَسه الذي يتنّفسه دون أن يستنشق طِيبها
بات واهنًا ، ضعيفًا جدًا .. يقتاده الموت نحو طريق النهايّة وهو راضٍ
وكل أمله أن يلتقي فيها حيث لا ألم ولا حُزن أبدا
همس بثُقل لسانه :
جيت يابوك ؟
هزّ رأسه بإيجاب وهو يهتف بحسرة :
جيت يا عمّي ، آمرني !
رفع يده بضعف شديد ليضعها على كتفه وهو يهمس :
عطيتك شيخة قلبي وتاج رأسي وعصبتها ، ولا عندي أغلى منها سوى أمها
عطيتك الشجرة الخضراء ، وما حول هالشجرة إلا العود اليابس
أخوانها بعيدين عنها .. خلّك أنت أقرب منهم عليها
اليوم دفنت اللي عاشرتني سنين ، وبكرة تدفنوني
طالبك ما تخلّيها تبكي عليّ مثل ما بكت على أمها
انتفض عبدالله بن عزيز جزعًا من كلام عمه ليهتف :
الله يطوّل بعمرك يا عمي ، استغفر طالبك استغفر وتعوذ من إبليس
أنزل يده المُرتجفة لتسقط بجانب جسده :
أنا رجال عود ، هدّني الشيب وطيحنّي الحزن والمرض
كنت الظهر لبنتي وهالظهر ما عاد له حيّلة
-هتف بضعف وهو يفتح باطن كفه-
هات يدك
مدّ عبدالله بن عزيز يده لكفّ عمه الذي قبض على يده بقوة
رغم مرضه الذي أكل سنينه :
أشهدتك بالله إني زوجتّك بنتي وأنا راضي .. وهي راضية
أوصيك عليها ، والوصاية من رقبتي لرقبتي ياعبدالله
لا تخيّب ظني فيك .. ظنّي فيك كبير !
احتقنت الدموع بعينا عبدالله بن عزيز ، وكأن هذا الشيخ الكبير يودع آخر كلماته
وكأنه يلفظ آخر أنفاسه ، وينعي آخر سويعاته
لمّاذا يصرّ القدر على إشهاده هذه اللحظة ؟ ولما يجعله يتشّرب الوجع والخوف أمام حضرة الموت ؟
هتف وهو يقبّل يده :
برقبتي ورقبتي لها سدّادة .. وبتفرح معنا يا عمّي
الله يطول بعمرك بتفرح معنا وبتردح لها
أبعد يده وهو يقول بتعبه :
رح جيب الشيّخ وتعال ! والله يالليلة ما أموت إلا وأنا أشهد زواجكم
اجترع ريقه بصعوبة بالغة :
ياعمّي ، البنيّة توّها تعيش حُزنها على أمها
مهي حول الفرح والتباريك ..
قاطعه قحطان وهو ينظر إليه بنظرة حادة رغم ضعفها :
ياولد أخوي لا تجادل واحد على فراش الموت
وسابق الزمن .. يا أنت يا هو !
وقف عبدالله بن عزيز على حِيلة ، فتح زر ثوبه التي شعر أنه يطبق على رقبته
وخرج جارًّا أذيال الوجع والحسرة معه .. ليس لشيء
وإنما يعلم تمامًا أن لا فرحة ستفرح هي بها
لن تعيش ما تعيشه العروس أنذاك
لن تجد والدتها بالقُرب منها ، تصبغ الحنا على يديها .. وتضع " الآس " على شعرها ، وتغطيها بالشال الأخضر المشكوك بدقّة حول جسدها ! لن تُغني وتصُفق لها
بل ستبقى فرحتها مبتورة ، محرومة منها بسبب وفاة والدتها"
وحين خرج .. في تلك الليلة
أصبح يردد حتى يومه هذا .. "ليتني خرجت ولم أعود"
فمنذ ذلك الوقت بدأت روحه بإتخاذ منحنى آخر دُهش هو منه
منذ تلك الليلة المشؤومة التي كانت يجب أن تكون محفوفة بالروعة والدهشة والكمَال .. كان هو يتجّرع أسى ليلها
وقسوة نهارها
منذ تلك الليلة .. تغيّر عبدالله بن عزيز ، وأصبح شخصًا آخر
لا يمتّ للرأفة والرقّة والعذوبة بصلة
-
خرج واتكأ على طرف سيّارته وهو معقود الحاجبين
شفتاه مزمومتان بحنق ، ونَفسه يزمجر بغضب
همس والهمّ بدأ يأكل ما تبقّى من كبده ، بكل المشاعر المتضادة :
حاكم ما عاد هو بعبدالله .. والأموات ما يرجعون
ما يرجعون لو ولّونا ظهورهم لمّا قسينا عليهم
مالك إلا بناتك .. وأدعي ربّك مايعاقبك فيهم يا حاكم
أدعي ربك ما يمسّهم سوء بسبب سوءك !
-فتح زر ثوبه وهو يهمس بتعب-
آخ يا سلمى .. ما كانت جيّتك عاديّة ولا صارت روحتك عاديّة
في كل الأحوال توجعين ! وأنا والله كنت راضي بالوجع
لو إنك ترحمين




-
يروح ويجيء ، يمشّط بقدميه المُثقلتين ممر المستشفى
بالقُرب من غُرفة العمليات بالذات
وصل قبل نِصف ساعة ، أُسعف خلالها زيد
دون أن يريحوا قلبه بمعلومة تخفف هيجان نبضاته
أدخلوه بسرعة فائقة .. جعلوه يقف خلف الباب يصرخ
يصرخ ويرتجي وينعي ويبكي .. وجميعها بذات الصمت
شعر باليد التي تهوي على كتفه ، ليلتفت بسرعة قصوى
وهو يتلّقى بعيناه نظرات حامد الخائفة والهامسة :
دخلوا عمي في الطوارئ وخيّطوا له رأسه .. الجرح عميق
كيف حال زيد ؟
تراجع حاتم وهو يجلس على كُرسي الممر !
كيف حال زيد ؟ لما لا يقولون كيف حال حاتم
وقلب حاتم .. وعمود حاتم .. وثبات حاتم ؟
فزيّد هو كلّ حاتم .. زيد هو روح حاتم القابعة خلف أسوار جسده المريض
همس حين شعر بجلوس حامد بجانبه :
ماعرف .. دخلّوه العمليات ومحد طلع للحين
ابتلع حامد ريقه ، وهو ينظر إلى ملامح حاتم المتهجمة :
يطلع بالسلامة إن شاء الله .. زيد قوي
التفت له حاتم بنظرات ناريّة كادت تُحرقه ، ليهمس بغضب
مراعيًا المكان الذي هو به :
ماهو بقوي .. ولا يعرف طريق للقوة !
هالزيّد اللي ما يعرفه غيري ، مافي أرقّ من جسده
ولا أضعف من قلبه !
تظنّه مثل أخوك القاسي اللي قلبه نار وجسده صخر ؟
تظّنه مثلي يستحمل الحروق والكسور والشروخ ؟
هذه أمور ما يستحملها زيد .. لأن طول حياته كان يستمّد القوة من أبوه
ومن مات أبوه ، حوّل وجهته بإتجاهي
وصرت أنا المسؤول عن قوّته .. أنا عموده
ابتلع حامد ريقه بإرتجاف من ثورة حاتم التي سيُعلنها في وجهه ، ليُصبح وجه المدفع الذي يرمي به الكرة الناريّة وسط جسده
تراجع بجسده وابتعد مسافة قليلة .. وهو ينظر إلى حركات يده
وتوتر قدمه ، وتأففات فمه !
ينظر إلى هذه الربّكة التي تُصيبه ، وشعور غريب مغّلف بالغيرة يحوم حوله
"لما كلّ هذه المشاعر يوليّها بإتجاه زيد لا بإتجاهي ؟"
كان يدور هذا التساؤل بخُلده وهو غير مستغرب بتاتًا
ولكن بات شعور "المبدأ" يغزوه بكثرة حين يعلم أنه حاتم
لا يكون لينًا ، هينًا ، سهلًا ولطيفًا إلا بالقُرب من زيد
رغم ذلك يرتعب من فكرة أن حاتم مشحون بالقسوة ولم يقدر حتى زيد الصديق والأخ على إذابة هذه القسوة
يرتعب على أخيه الذي يذوي أمامه متناسيًا نفسه التي عليها الحق
ركزّ بنظراته إليه .. إلى ذاك الشرخ الممتد من أسفل أذنه
وحتى بداية عظمة ترقّوته
كم من ذكريات سيئة خاضوها في أروقه المُستشفى حين تعرض حاتم لنفس الموقف ! إلا أنه أشد وأمر
مسح على وجهه حين تذكر الأمر الذي قدم من أجله
للسؤال عنه .. ليلتفت نحو حاتم بخفوت :
أعرف إن الوضع ما يساعد ولكنّ أبغى أسألك سؤال
إجابته تهمنّي واجد
ركز حاتم بنظراته نحوه ، ليُكمل حامد بهدوء :
أبغى أعرف مكان عبدالمجيد .. ولا تقول لي ما أعرف
لأن ما يخفى عليك خافية
اتكأ بظهره على الجدار ، ولا ينكر أن شعور الإندهاش تعاظم في صدره
لولا أن غلّفه بسخريته :
يعني الحين ما شاء الله على علاقاتك العسكرية ماقدرت تطلع مكانه ؟ عيب عليك صراحة
نظر له حامد بحدة حازمة :
وأنت نسيت إن عبدالمجيد يشتغل بالمباحث ؟
يقدر يطّلع نفسه من مكانه مثل ما تطلع الشعرة من العجين
لا تلّف وتدور يا حاتم .. أبغى أعرف مكانه لأني أدري إنك زرته مرة
نظر له من تحت أهدابه بنظرة ساخرة :
لا ياخوي ، ما زرته ، إلا خليته هو يزورني وهو ما يشوف الدرب
-ثم اعتدل بجلسته ليقول بحدة-
وأنت وش تبغى بمكانه ؟ تيتّم عيال أختك ولا ترمّلها ؟
أمال حامد فمه بذات السخرية :
لا ننسى إن هذا مبتغانا أنا وأنت لولا حلوفة أبوي علينا
وتهديده بإنه يتبرأ منا .. لذلك عطني مكانه
وماعليك من اللي بسويه
-ضحك ضحكة قصيرة محمولة بالوجع-
يمكن إني بس بحرق قلب أختك ، وأرد لها الصاع صاعين
كتّف يديه بمنتصف صدره وهو يقول ببرود :
تبيني أعلمك بمكانه علمّني بخطتك اللي أشك إنها فاشلة
ما بسمح لك تحلّ وتخيط من دوني !
على الأقل لو عندك شيء تسويه ، فأنا بسويه بدّالك
لا تنسى إنك عسكري .. والعسكري مُحاسب على أدناة الدون
عضّ شفتيه بقوة حتى شعر بطعم الدم بها :
حاتم يا حاتم لا تستنزف دم عروقي ببرودك ، أنت عطني وأكون لك ممنون !
لو إن الواحد ما يتمنى يكون لك ممنون .. عشان ما تمنّ عليه
ابتسم بسخرية عارمة .. سخرية محمولة بالألم
أخرج هاتفه .. كتب في لوحة المفاتيح بشكل سريع ، ثم أغلقه
لتصل الرسالة إلى هاتف حامد الذي أخرجه من جيبه
ليرفع رأسه على كلام حاتم الجامد :
موقفه ورقم شقّته ، كل يوم خميس يطلع هو وحرمه المصون وعياله للشاطئ
وكل اثنين يوديّهم واحد من المولات !
دوامه آخر سنتين صاير بنظام الشفت ، خمس أيام دوام ليل
وخمس أيام دوام نهار
-التفت له وعيناه تلمعان-
يودي عياله كل يوم صبح واحد للروضه وواحد للحضانة
وياخذ أختنا وولدها الصغير لبيت أهله
سيارته نسيان بترول موديل العام الماضي ، لونها أبيض
يكفي ولا أزيد ؟
أندهش حامد من كل هذه المعلومات التي يعلمها أخيه
ليهتف بذات الإندهاش :
ويومك تدري بكل هذه الأشياء .. ليه ما سحبت أختي من بين يدينه ؟
صدّ عنه ليُردف بجمود :
أختك أختارت طريقها ، وطريقنا قفلّناه ولا تستاهل نفتحه في وجهها مرة ثانية
خلّها تجرب روعنته ، وتشهد على خسارتها
خسارة عائلتها
سكن حامد مرة واحدة وهو ما زال يتأمل الرسالة التي أودعها حاتم على رقمه
والتي تحوي بشكل واضح رابط لموقع الشقة ، ورقمها وصورة من مدخلها وموقف السيّارة الخاص بها
كل هذه الأمور كان يعلم بها .. ولكنّ مثلما قال كانوا خائفين من وعيد والدهم
الذي ربط يدهم ببّره .. في محاولة منه للنجاة بروح ابنته
هتف بسكون مُوحش وهو يقف من مكانه ويتجه خارجًا :
أنا بطلع أشم هواء ، إذا طلع زيد طمنّي عليه
وما لا يعلمه حاتم أن حامد خرج بشكل كُلي من المشفى
مستقلًّا سيارته وآخذًا طريق واحد يبتغيه .. طريق أخته المبتور
في اللحظة التي خرج بها حامد
انفتح باب العمليات ليتبين من خلفه الطبيب والطبيب المساعد
تقدم نحوه مباشرة وهو يستّشف الأمر من ملامحهم
لم يسمح لهم بالبدء في الكلام ليسبقهم وهو يقول :
اللي داخل .. زيد بن عبدالله بن زيد !
وش صار عليه ؟
تنّهد الطبيب ليقول بهدوء مهني :
الحمدلله تأكدنا من عدم وجود نزيف داخلي ، لكن عندنا شكّ من وجود رضة رئوية بسبب التأثير السلبي لكيس الهواء
زمجر به حاتم والقلق استفحل قلبه :
تشكّ ؟ وليش ما تقطع الشك باليقين وتتأكد ؟
تراجع الطبيب خطوة ليردف بذات المهنيّة :
أخوي احنا تدخلنا تدخلّ مبدئي ، والأخ زيد لازمه أشعة
عشان نتأكد من سلامة الرئة .. وحاليًا بنسعفه لمستشفى ثاني
إسعاف عاجل !
مسح على صعودًا ونزولًا ، وهذا الكلام يُعيد له الذكريات
ليردف بجمود مخيف :
إذا شاكين بالرضة الرئوية معناه احتمالية وجود كسر في أضلاع القفص الصدري احتمال كبير !
تأكدتوا ؟
ألقى الطبيب نظراته لمساعده ، وهزّ رأسه بإيجاب :
تأكدنا ..
ومش شرط الرضة تسبب كسر في الأضلاع
ولكنّها قد تسبب ضرر على الشعيرات الدمويّة بالتالي يتكوم الدم والسوائل الثانية في الرئة
وهذا الأمر ممكن يؤدي لنقص مستويات الإكسجين
فاسمح لنا ننقله بشكل عاجل إلى المستشفى القريب
لأن الـ24 ساعة الجايّة مهمة !
زمجر فيه مرة آخرى بذات الرعونة حين ذكر " المستشفى القريب " فأقرب مستشفى منهم يبعد 30 دقيقة أو يزيد
وهذا المستشفى سمعته سيئة ، يسمى بمستشفى الموت..
من يدخله يخرج منه إلى قبره
وهو غير مستعد لنقله إلى القبر بملء عقله :
لا ، أنقلوه لطوارىء مستشفى العسكري !
تراجعوا الأطباء وهو يُعاودون الدخول إلى الداخل
بينما ظلّ حاتم يجري إتصالاته حتى يتم إستقبال زيد في المستشفى العسكري
فبطبيعة الحال .. أن مرضى المراكز الصحية للولايات يُنقلون إلى المستشفى العام في ذات المُحافظة
إلا في الحالات الحرجة
لأن كلّ ولاية بها مركز صحي ، بينما كل محافظة بها مستشفى عام
وبمّا أن مستشفى المحافظة يحظى بسمعة سيئة
فأبى إلا أن ينقله إلى مستشفى محافظة آخرى ! معروف بأخصائيه المتقنين
أنهى إتصالاته ليستقبل إتصال آخر جعله يعضّ على شفتيه بضيق
وبعد 3 رنّات ، أجاب على المُتصل الذي جاءه صوته بشكل غاضب وحانق :
وينك أنت ؟ صبيّت قلوبنا وطلعت ولا قلت أطمن أهلي عليّ
ما تتعلم أنت ما تكبر ؟ ما تقول وراي أهل يحاتوني
تنّهد حاتم وهو يمسح وجهه بباطن كفه اليمين :
يبّه !
رقّ قلب سيف لهذه النبرة المشبّعة أسى ، ليردف بقلق :
حاتم وش فيك ؟ صاير شيء .. أخوك به شيء ؟
خرجتك من البيت خرجة مفجوع . وأنت فجعتنا معاك الله يهديك
أردف حاتم بذات الضيق :
يبه هدّي لي الله يصلحك .. ولا تعلّم هالكلام أحد
مابيه يوصل لخالتي أم زيد ، مرة مسكينة مالها حيل تقوم بولدها
زيّد وعبدالرحمن سوو حادث
عبدالرحمن طيّب ما عليه شر ، هذه غررتين في رأسه
ولكنّ زيد مب زين يبه .. مب زين
اجترع ريقه وهو يبتعد عن مكان جلسته ليهمس بجزع :
وش فيه ولد عبدالله وش فيه ؟
عضّ شفته وهو يقول بهدوء :
يقولون احتمال رضة رئوية ، بينقلونه للمستشفى العسكري .. أبو حاتم طالبك تجي عند عبدالرحمن ! حامد اتصل فيه وما عاد يرد .. كان جنبي ، وأنا لازم اطلع الحين مع الإسعاف !
حوقل بهدوء وهو يهمس بضيق :
لا حول ولا قوة الا بالله ، أبشر هذا أنا جاي
أكد على بتشديد :
يبه لا حد يدري باللي صاير ، ولا أجدادي لين نتطمن عليهم بشكل كامل على الأقل
هزّ رأسه بإيجاب وهو يقول بعجلة :
زين ياولدي زين ، سكّر مني أنا طالع الحيين
أغلق سيف الهاتف دون أن ينتظر منه رد ، ليتجه حيث كان يجلس بصحبة زوجته وابنتيه
تناوا المفتاح من مكتبة التلفاز ليهتف بنبرة حاول جاهدًا أن يخرجها هادئة :
أنا طالع ، عندي شغلة بسيطة أسويها وراجع
أردفت أم حاتم بإمتعاض وهي تنظر إليه :
وولدك العود وين راح وهج تاركنا بحالتنا ذيك ؟
ليقول سيف بجدية وهو يوليّها ظهرها :
حاتم مشغول ، إذا بغيتوا شيء كلموني أنا يمكن أتأخر شوية
خرج دون أن ينتظر منهن رد ، لتلتفت ضحى ناحية والدتها
بابتسامة واسعة مرحة :
ميمو ، فكيّ الكشرة هذه الله يوسع عليش فكيّها
تأففت أم حاتم وهي تصدّ عنها بضيق :
وضيحى مب فاضية لش ، ولّي عن وجهي
مدت طرف سبابتها نحو ذقنها وهي تُدير وجهها ناحيتها
وتردف بذات المرح :
افا بس افا ، أنا الوضيحى بنت أبو الوضيحى ينقال لي ولّي ؟
آخر عنقودش وحشاشة مصارينش ( أمعاء ) أهون عليش؟ يا يمه فديت قلبش وسعي هالقلب الحنيّن
إذا قلبش اصتّك ، ما لحياتنا عازة
ابتسمت أميمة لمحاولات ضحى لإخراج والدتها من مزاجها المتعكر بعد أن ألقى والدها شروط زينة لإتمام الزواج من حاتم :
وهي الصادقة يمه ، ترا كل هالشروط شكلية
ولا ولدش عبارة متزوج من سبع سنين
صفقت ضحى يديها ببعضها البعض بطريقة درامية
لتقول بحسرة مصطنعة :
ياويل قلبي مو لو أخوي عقله برأسه وأشهر زواجه من ذاك الوقت ، كان الحين تحته درزن صغيّرين
وكنت بصير عمّة حيلوة بسم الله عليّ
نظرت لهن أم حاتم بنظرة مليئة بالحُزن والضيق :
ويعني تشوفونها حلوة ما أفرح ببِكري وأول عيالي ؟
كم وكم تمنيّت زواجه ، وتمنيّت أزفه بالبشت لعروسه .. أشيل عياله واحد وراء الثاني ، وأشوف الراحة والإستقرار بعيونه
ليش تحرمني بنت مُرشد من إني أعيش شعور أي أم في هالعالم ؟
وش معنى إنها ما تبي عرس .. والله إني من أول أقول
ياعرس حاتم بيصير عرس لا صار مثله ولا استوى أعوضه عن إن صار له
تنّهدت أميمة بحسرة احتّلتها قلبها :
ويعني يمه لو سويتي عرس كبير وعزمتي القاصي والداني
بترجع ذاكرة ولدك ؟ أو بيلبس لبس الحنيّة بدل لبس القسوة ؟
بيزوره الفرح ولا كالعادة يسكّر بيبانه في وجهه ؟
إذا هو مو متقبّل لنفسه إنه يعيش السعادة .. فأنتِ ما تقدرين تخلقينها له يا يمّه
تجردت ضحى من لباس المرح لترتدي لباس الجدية وتقول :
ولو جينا على الصدق يا يمّه ترا زينة معها حق
يعني زوجوها على كيفهم ، ما تبينها ترد إعتبارها بإختيارها هالمره؟
نظرت لها أم حاتم بحدّة :
قرار تزويجها يتحمّله أبوها الله يرحمه ، لا ولدي ولا فرحته لهم دخل في رد إعتبارها لنفسها
لتُعاود القول بسخرية :
والله لو يسحبها ولدش بخلاقينها من بيتها لبيته ما يغيّر هذا من حقيقة الأمر
بس هذا ما هو من طبع زينة .. زينة ما ترضخ لأي بشر
واللي يتناسب مع أفكارها ومخططاتها تسويه
لا تنسين إن وراها جدّي عزام هالمرة
تأففت أم حاتم وهي تقول بضيق وعدم إعجاب :
زين خلاص دريت إنها قوية .. وين بتروح وهي بنت مريم
ربّتت أميمة على كتف والدتها بحنيّة عميقة :
يايمّه يافديتش .. الأم وش تبغى لوليدها غير التوفيق والتيسير أنتِ بس أدعي لحاتم ، وأدعي الله يغيّر حاله لأحسن حال وتكون زينة بنت مُرشد فاتحة خير عليه
تنّهدت بقل حيلة وهي تنظر لها بلمعان عينيها :
يا والله إن لساني ما جفّ من الدُعاء له .. يالله إنك توفقه وتبارك له وترزقه بالذرية الصالحة
عادت ضحى بمرحها وهي تقول بممازحة باسمة:
ايوه ، هذا الكلام الحلو أنفداش
هالحين قومي خلينا نطلع بيت جدي دام البيت فضى علينا ..نتهّجل معهم ونسهر عندهم
أشر أميمة بعيناها لُضحى حين رأت إعتراض والدتها
وهي تقول بعجلة ضاحكة :
قومي قومي جيبي عباتها .. والله بتطلعين ما بتقولين كلمة
ابتسمت أم حاتم على ضحكات ابنتيها ومرحهما الذي يضّخ السعادة لقلبها الكهل الذي آخذ من الدُنيا ما أخذ
ولا يطلب منها إلا راحة أبناءها وسعادتهم وتوفيقهم


-
حلّ الليل ، واكتضّ الشاطئ بالأُناس كما هي عادة عُطلة نهاية الأسبوع
المُتنفس الوحيد الذي يُحبه أهل الساحل ، مُبتعدين عن إزدحام المراكز التجاريّة وإزعاجها اللامُتناهي
كان يقف في المواقف أمام البحر .. ينقل عيناه نحو السيّارات
وهو مُشتت ، وخطته الذي وضعها غير مسبوقة
ولكنّ نفسِه التّواقة غالبت تأنيب ضمير ، وشيِمه
مشاعره المختلطة أججتها علياء على حين غرة بعد أن طلبت منه ذاك الطلب القاسي
أن لن تعود له حتى تعود حنان إلى عُشتها الدافئة
أججت به الغضب ، والرغبة في إشباعها الوجع مثلما أشبعته إياه
قد لا يكون ينوي " ذبحها " مثلما ظل يردد لسنوات
لأنها بالنهاية تظّل أختِه وتؤامه ، اللذان خرجا من رحم واحد ومشيمة واحدة
نقل نظراته نحو الشاطيء المكتضّ أمامه من مختلف الأعراق والأجناس
هُناك من يمشي في الممشى المخصص ، وهُناك من يلعب كُرة القدم وكُرة الطائرة
وهُناك من يجلس على بساط برفقة عائلته وشملهم مملوء بالضحكات
وهُناك من يمشي على الرمل ، وهُناك من يسبح رغم الظلام
وهُناك شرطة الخيّالة ..
" أوه ، هذا اللي ما حسبت حسابه "
نطق بهذه الجُملة بداخله وهو يرى شُرطيين من شرطة الخيّالة
يمتطون الخيول ويمشون في الممشى ، كعادتهم
زفرّ نَفسه الذي توتر لوهلة ، همس لنفسه :
دامك وصلت وش تنتظر ؟ خلّص نفسك من هذا الشعور
وأقدم على هالخطوة اللي أنت عارف وش بتكّلفك
تنهدت بعزم ، أغلق سيارته ونزل منها وهو مرتدي للباس رياضة ثقيل نوعًا ما
داهمه البرد حين خرج ، رصّ القبعة الصوفية على رأسه
ولّف الشال على رقبته ! وتوّقف في طرف الممشى الاسمنتي
التفت يمينةً ويسرة ، يعلم جيدًا المكان الذي يجلسون فيه
يعلمه وأنبأه بذلك قلبه ..
هو ذات المكان الذي كانوا يأتون إليه هو وهي !
ذات المكان الذي يسترقون منه لحظاتهم ويتربعون على أرضه
ذات المكان الذي كان حامد يُغري به حنان
حتى تخرج معه لمكانهم المفضّل
ولم يخب ظنّه ، حين وجد ضآلته وغنيمته في الوقت ذاته
فقد وجده ، ويا لحُسنه حظه ! أن ذاك الجسد الصغير واقفٌ أمامه
أنزل نظراته نحو الكرة التي لامست قدميه
ليرفعها ببطء أمام ذاك الوجه الذي انقبض قلبه لمجرد رؤيته
-

بالقُرب منه ، كانو يجلسون في جلسة عائلية حميمية
يستمتعون بضحكات أبناءهم ، فالبحرُ متنّفس
ويا لروعة هذا المُتنفس حين يصبح مكتضًّا بروعة الأنفاس
وصخب الرياح .. وضجيج الناس
هتفت بابتسامة وديّة :
مجيد حرام عليك ، قوم وديّه بس عن خاطره يلّطش رجوله بالماي
صدّ عنها وهو ينظر إلى بُكاء ابنه ذو السنّة وينظر بعقدة حاجبيه :
برد برد يا بنت الحلال ، ماعليش من اللي جالسين يتسبّحون
تراهم برمائيات ، جلدهم غير عن جلد الثديّات
ضحكت برقّة :
مجييييد ، لا تسوي لنا حصّة علوم الحين ! قوم الله يخليك
من وصلت وأنت منسدح .. وش فيك اليوم مكسّل ؟
تثاءب وهو يمغطّ يديه :
ياحبّي والله إن متكسّر ! وبعدين الشاطئ زحمة وين تبيني أدخله
خليه هنا يلعب بالرمل مع أخوانه
هزّت حنان رأسه بيأس وهي محتفظة بابتسامته
تُحاول أن تلهي ابنها الصغير الذي ما زال ببُكاءه ، وهي مًدركة تمامًا لنظرات مجيد نحو صفحة خدها
رفعت رأسها حين اقترب ابنها سيف منها وشعره المنكوش ممتليء بالعرق والماء
وقف أمامها وهو يقول بنبرة لاهثة :
ماما صلّحي حزام بنطلوني بسرعة بسرعة
اشرّت له بالاقتراب وهي تقول بنبرة حازمة وحانية :
خلّي اللي بيّدك واجلس تعشى ، وين أخوك سعود ؟
أشر بسبابته الصغيره ليردف بعجلة :
هناك ماما تحت الشجرة يلعب بالكورة
فتحت غُلاف الطعام الذي اشتراه عبدالمجيد من المطعم القريب من الشاطئ وهي تقول :
ناديه يالله
رفع رأسه هامًّا بمناداته أخيه ، دار بعينيه يبحث عنه قبل أن ينده له
لكنّه هز كتفيه وهو يجلس حين تسللت له الرائحة الزكية :
ما لقيته !
نظرت له بدهشة وهي تلتفت لعبدالمجيد ثم تلتف حولها :
وش ما لقيته.. مو تقول تحت الشجرة
أي شجرة ؟
اعتدل عبدالمجيد في جلسة وهو ينظر بجدية لسيف :
سيف أخوك وين كان جالس ؟
أشر مرة آخر بإصرار :
بابا والله كان جالس تحت الشجرة اللي وراكم
وينتظرني أجيه عشان نكمل لعب .. بس ما أشوفه
شعرت حنان بسقوط قلبها إلى أقاصي بطنها ، ودوار حاد داهمها
همست وشعور الرعب يراودها :
ولدي ، يمّه ولدي راح ..
-مسكت يد عبدالمجيد بجزع عارم-
ولدي رااح مجييد ولدي وييينه
هتف عبدالمجيد بنبرة حازمة والقلق تسرّب لقلبه هو الآخر
فكيف لم ينتبه لهم وكيف تغفل عيناه التي كانت تُراقبهم :
حنان اهدي ، بعيد الشر عن الولد
أكيد رايح يلعب هنا قريب وضيّعناه من الزحمة
اجترعت ريقها وغثيان مُرعب احتّل بلعومها :
سعود ما يمشي مكان بدون ما يشوف حد منّا قدامه
ما يمشي ، ما يخلينّا ! ولدي ولدي
يمه ولدي راح !! خذوه
لتنفّجر وقتها بالبُكاء الذي أبت إلا أن تُترجمه على شكل شهقات خارقة للقلب ، مليّنة لقسوته
أُخذ ابنها ، فهي تعلمه جيدًا .. يخاف من أن يخطي خطوة واحدة بلا والدته أو والده أو حتى بلا سيف
أُختطف من أمامها وهي ترى الأمل ينساب من بين أصابعها وقوتها تتلاشى شيئًا فشيئا



-
استفاق من نومه وهو يُبصم أن هذه النومة أسوء نومة نامها في حياته كلها
من بعد نوم السجن الكئيب الذي رُمي فيه لمدة شهر قاسي
كان يرتجف بردًا ، يرتجف غضبًا وحنقًا بسبب وجوده في مكان قذر
متدفيء بالقشّ ، ملتحف بملاءة خفيفة جدًا لا تُجابه برد الصحراء المُرعب
في هذا الشهر من السنة
يشعر ببوادر مرض يتسلل لجسده القوي الصامد رغم كل شيء
عينّاه مُحمرّة ، شفتاه مُزرّقة ، وحلقه مُنتفخ
كحّ عدة مرات وهو يُحاول بث الحماس فيه
ويجعل روح المغامرة تتلبسه رغم أنف المصاعب
فما دام أنه اختار طريقه ، فسيصنع محطّاته بيديه
تفاجأ بدخول الشيّخ عليه وهو الذي لم يراه منذ أن وطأت أقدامه رمل الصحراء
من خلفه عامل من جنسية غير عربيّة ، يحمل صينية من المعدن
اقترب منه وهو يُأشر على العامل ليضع الصينية أمامه
وبسمة ساخرة تراءت لثُغر قايد !
هؤلاء فعلًا من ينطبق عليهم مقولة " يقتل القتيل ويمشي بجنازته "
الفرق أنه ليس بقتيل ، بل أسير
الفرق أن جنازته لن تكون بيد عدوه ؛ بل بيده هو
هتف الشيّخ بصرامة :
تريّق ، واشرب من ذاك الحليب الدافئ
ما ناقص عليّ تموت في مكاني .. وأنا توي ما شفيّت غلّي
مسك قايد كُوب الحليب وهو يقربّه نحو أنفه
عُفست ملامحه فجأة ، ليقول الشيّخ بإمتعاض :
حليب بقر طازج ، اشرب
أمال فمه بعدم رضا وهو يضع الكُوب على الصينية :
الله يكرم النعمة ، وش حادني على حليب البقر الطازج
أخاف حاط لي فيه سمّ
ابتسم الشيخ ابتسامة كهولة ساخرة :
بدري عليك السمّ ، بتتجرعه بالهون
تأفف قايد بداخله ، وهو بودّه لو أن تنتهي هذه المسرحيّة بسرعة ويخرج خارج هذا السجن القذر ويتنّفس الهواء النظيف
مدّ يده ليُعاود شُرب الحليب كلّه دفعه واحدة ، مانعًا لسانه من أن يتطعّم طعمه الطازج
كحّ من سخونته التي لامست بلاعيمه ، وأحرقتها من عجلته
حتى أنه نسي أن يُسمّي بالله !
اندهش بشكل مُفاجيء من إنحناء الشيّخ نحوه
وهو يتناول يده اليُمنى ، ليضع حول معصمه سوار معدني عريض
تراجع قايد بصدمة مما يراه ، وكأن السلسلة المعقودة بقدمه لا تكفي لكل هذا الحبس
زمجر بحدة :
أنت يالشايّب ، وش تسوي ؟
بتحبسني زيادة فوق حسبتي هنا .. ولا ما يكفي هذا القيد اللي برجلي
يا رجال ما أبغى أهرب .. جيتكم برجولي كيف أهرب
تبّسم الشيّخ بهدوء ، وكأنه قدِم اليوم ليزرع ذاك السوار حول نفسه
أشرّ بعينه للعامل بإشاره فهمها ، فاقترب هو الآخر
وبدأ بفكّ السلسلة المتصّلة بالجدار ؛ ثم بقدمه
هتف الشيّخ بصوت جاد وهو يرى وثوب قايد من مكانه
بعد أن تحرر من عُبودية القيد وضِيقه :
من اليوم ورايح ياولد عزّام حالك من حال هالصبّي
بتجدّ وبترعى وبتحلب البقر وبتنظّف وراء حلالي
-أشرّ على السوار الذي بيديه-
ولا تسوّل لك نفسك تُهرب من أسراي
تشوف السور اللي حوالين العزبّة ؟
تراه سور مكهرب .. لو حاولت تخطي خطوة بتتفحّم
فخلّك عاقل ! لا أبتلش فيك
رفع قايد حاجبه لوهلة ، ثم اتسّعت إبتسامته كمن سيخوض مغامرة جديدة لم يخضها من قبل
فهم لا يملكون " حلالًا " أو إبلًا ونياقا ! ولم يشهد يومًا على رؤيتها
لم يكن يعلم من الحلال إلا " ثور العيد " الذي يذكّون به فالسنةِ مرتين .. عيد الفطر وعيد الأضحى
يعلم أن الشيّخ ينتظر منه التزمّت والتعنّت وإعلان الإعتراض
ولكن لن يجعله ينول ما بباله
ابتسم ابتسامة خبيثة ، وهو يمدّ يديه للأعلى لكي يحرّك الدم في جسده
أنزلهن ثم نظر له بذات الابتسامة :
حلالك بالحفظ والصون أفا عليك .. اعتمد
التقت الشيّخ رائحة خبيثة تفوح منه ، ليُردف بحدة صارمة :
واحذرني تطول يدينك الخايبة هذه لحلالي
تراني حافظ كم رأس عندي .. لا تقول شايب وخرّف
الشايب يجاريك بعقله
اتسعّت ابتسامة قايد ، ليقول بداخله " والله منت بهيّن يالشايب " :
حلال ربي قبل لا يكون حلالك ، والدواب هذه مالها دخل في إنتقامك المريض !
-غمز له في محاولة لإستفزازه-
ما أوصيّك خلي لي منها كم رأس ، لا تنسى إني بخدمك أنت وحلالك
ابتسم الشيّخ بتهكم وهو يعلم أنه يُحاول إستفزازه
أشرّ بطرف سبابته على حقيبة رياضية صغيرة :
هذه كم غيار لك ، دبّر نفسك فيهم عاد
مالك غيرهم ترا
خرج الشيّخ ليخرج من خلفه العامل ، وفي ذات اللحظة
تقدم قايد للحقيبة وهو يستخرج منها ملبسه
رأى عدة بناطيل ؛ وقمصان بعضها ثقيلة والآخر خفيفة جدًا
لا تُناسب برد الصحراء القارص
ومعطف شتوي ، وشال ، وقبّعة صوف ! وعدة جوارب
هتف باستغراب ساخر وهو يرتدي المعطف على عجله :
ما لقيت هالمُعاملة في السجن ، وش الغريب إني ألقاها هِنا ؟
لفّ الشال حول رقبته وخرج للخارج
ليتفاجأ برؤية الشيّخ ما زال يقف متكئًا على جدار "الصندّقة"
وحين شعر بقدوم قايد أشر له بصورة جادة :
شايف هذه الحظيرة وش كبرها ؟ اعتبرها بيتك
لا تفكّر تطلع من بابها وتتعدى على ممتلكاتي وتتجاوزها
شغلك كله هنا .. ومن تخلّص آخر الليل ارجع للصندقة
هذاك مكانك ومقامك !
أمال قايد فمه وهو يُلقي نظرات بانوراميّة حول المكان
عزبة كبيرة جدًا ، فالمكان الذي يقف فيه الآن عبارة عن حظيرة
ممتلئة عن بكرة أبيها ، بالإبل والمواشي والدجاج والبقر
وفي الجهة الآخرى ، جهة أكبر من هذه الجهة
هُناك فِناء رملي كبير .. خيمتين ومنزل مُرتفع عن الأرض يتضّح حجمه الصغير
تنبّه له وهو يُحاكي العامل ليندهش مما سمعه ويقول :
لحظة لحظة .. ليش تصرّفه وتعطيه إجازة
خليّه اليوم على الأقل يفهمنّي الشغل الرهيّب اللي بسويه
ابتسم الشيّخ بتشمّت وهو يوليه ظهره
منتقلًا من الحظيرة إلى فِناء عزبته الواسعة :
اليوم جمعة وإجازته الرسميّة .. والرجال محتاج إجازة شهرين
عشان يسافر يزور أهله
أنت وش وراك عشان تأجز ؟ لا أهل ولا بطيّخ
احتدت نظرة قايد ، ليقول بنبرة حادة جادة :
بركات يدينك ياللي مصدّق كلام ولدك !
التفت له الشيّخ وهو ينظر ببطء لعينيه التي يشّع منهما الغضب
وهو يُحاول التسلّح بالبرود واللامُبالاة
أكمل قايد بذات النبرة تخللها بعض التهكّم :
أنا ممكن أكون مجنون .. وواحد عقله برجوله ومب صاحي
لكنّي مو غبي ولا غشيم
تحسّب إني مصدق الفعاليّة اللي سويتوها أنت وعيالك ؟
تقطون بلاكم وموت ولدكم وذنبه عليّ
أو تصدقون كلام شباب بدليل حتى الحمار ما يصدّقه !
حاول التبّسم جاهدًا على إستفزازه :
بس أبوك صدّقه
شدّ ظهره ليتبيّن من خلفه طوله وعُرضه وعضلاته الفارهة
وهو يقول بحدة الصقر الذي يُريد الإنقضاض على فريسته :
أبوي يكذّب الناس كلهم ويصدّق ولده
ما بالك إذا كانو هالناس .. ناس مؤذيين وعندهم باع طويل في تنغيص حياتنا ؟
شد الشيخ على قبّضة يديه على عصاه ، ليُردف باستخفاف :
ياولد .. اللي ما يطول العِنب يقول عنه حامض
ما طلتوا المشيّخة ولا السيّادة وأنتو كنتو مستعدين تتخلون عن مبادئكم عشانها
ويوم ما جتكم قلتوا عن شيوخكم "مؤذيين" .. ما غريبة عليكم يا عيال العزم
ابتسم قايد بضحكة ممتلئة بالإستهزاء ، أدخل يديه بجيب بنطاله وهو ما زال محتفظ بإبتسامته :
يالله يا شيّخ .. عينك أعمتك لدرجة صرت تشوف إن التنافس الشريف والفوز محصور باللي يحصل على المشيّخة عشان كذا لعبت ألعابك الوصخة حتى تبعد جدي من طريقك رغم إنه الأولى فيها .. لأنه ولد الأرض
ولد الجبل اللي تربّى فيه وخذ من قوته الصمود !
-أردف بجدية مُرعبة-
ولا تغيّر الموضوع عشان تهرب من الموضوع الأساسي
شوفني قدّامك .. إذا كنت تبغى تذّلني وتهينّي فأنا أشهد إنك بتتعب ، لأن مب رأس قايد اللي ينذل وينهان
أما لو كنت تبغى تطلع قهر السنين في حفيد عزّام فأنا راضي .. لأن في سبيل راحة عزّام أنا أبيعني
هتف الشيّخ بغضب وهو يشعر بأعصابه أنها ستتُلف :
لا وأنت الكاذب ، أبيك تحصد إللي زرعته يدينك
اقترب منه قايد بخطواته الحذرة :
بس أنت عارف إني ما زرعت شيء عشان أحصده !
-ابتسم حين رأى الإحمرار يزحف لوجهه-
ايوه بالضبط ، هذه هي الملامح اللي شفتها وقت جيت إنك وجيشك ناويين تغزووني
أنت عارف في قرارة نفسك ، مب بس عارف إلا متأكد إني ما ذبحت حفيدك ! وإنه مات بإرادة ربه .. لكنّ لقيتها فُرصة تنتقم
-رفع كتفيه للأعلى ثم أنزلها-
لأيش تنتقم بالذات ؟ ما أعرف .. كل اللي أعرفه إن الفُرصة جاتك على طبق من ذهب واستغلّيت الوسيلة اللي بيدك
-وبتهديد صريح وحاد-
لكن والله واللي ما يحلف به باطل ، راح أعرف الغايّة من وراء هالشيء كله ومن هِنا لقدام ماراح أسمحلك تقلل من قيمتي ! فاحذر أنك تستفزني بشيء ثاني
ابتسم الشيخ بإستهزاء وهو يوليّه ظهره هذه المرة عازمًا على الخروج من هذا المكان :
احترم معزبّك ياولد الأصول .. وحط في بالك إني أعدّي وأمّشي بمزاجك .. والحين شوف شغلك وأنت ساكت
خرج من المكان وعينا قايد تتبعه ، عيناه التي يطفح منها الإصرار والعزم !
لن ينحني لرؤوس تكبّرت وتجبّرت .. لن ينحني ما دام أنه قِدم هُنا لراحة ضميره
-
-
في الجهة الآخرى من العِزبة .. كانت تصنع الفطور ككل يوم
منذ أن نُفيت لهذا المكان الضيّق رُغم رحابته
وأيامها تمضي بوتيرة تجاول جاهدة على بث الهدوء لها
تنقل أنظارها من نافذة المطبخ نحو جدها الشامخ رغم إنحناءه
يمشي بجواره العامل الذي لا يستغني عنه
تارة يُحادثه ويأشر له ، وتارة يُوبخه بتسلّط
رأتهم وهم يتقدمّون ليدخلون الحظيرة المتصلّة بالعزبة
ويتّجهون مُباشرة نحو "الصِندقة" في زاوية الحظيرة
عقدت حاجبيها حين تأخر في الخروج منها ، وهي ما زالت تصنع الإفطار وتنقل نظراتها بتركيز شديد
رمت حبّة الخيار في فمها لتُهمس بينها وبين نفسها :
وراك شيء يهالشايّب ، ما تجي إلا وأنت حارق ما دونك وأعلاك
غصّت بحبّة الخيار حين رأت خروج شخص ثالث كان بداخل "الصِندقة" وللتو تتبيّن وجوده هُنا بصحبة جدها
جدالهم كان يتقافز للذروة .. من الصدمة إلى الغضب إلى الإستفزاز والسخريّة
كل هذا والجوهرة ما زالت في طور الإندهاش
ربما سنوات طويلة لم ترى أحدًا هُنا سواها وجدها .. الذي غالبًا ما يتركها بصحبة إحدى أولاده بالتناوب بينه وبينهم
لم ترى حتى طيف أمرأة غيرها ، وبالكاد ترى العامل
الذي ينهي أعماله جميعها بعيدًا عن ساحة المنزل
هي مرة واحدة فقط من عادت لهذه العِزبة روح الحياة الإجتماعية
حين أقام جدها إستقبالًا إستثنائيًا لضيوفه القادمين من إحدى الدول الخليجية ! وهي من أشرفت بالكامل
على أكلهم وشُربهم ومسكنهم !
وكانت تلك المرة هي الأخيرة ، لأنها تذكر كيف كانت ستفضح جدّها وجبروته أمام ضيوفه الكِرام
كيف كانت ستفضح نفسها وتُثبت حضورها وتقول لهم
" أنا ها هُنا .. لست هُلامية أو غير مرئية .. أنا هُنا
أصارع الوحدة المشحونة بالغصّات ، وأجابه اليُتم المحصور في أرض العِبرات
فانتبهوا لي ، وأعيروني إنتباهكم ولا تدعوا أعين الطاغية
تُعميكم عن الحقيقة المُرعبة "
ولكن استطاع جدها التصّدي للفضيحة التي كانت ستحصل
فما الذي تغيّر حتى يُحضر أحدًا ما ، ويُريهم المنفى
الذي صنعه من أجل أسيرته فقط
حبست أنفاسها وهي ما زالت ترى حوارهم المُحتدم
ترى ظهر جدها ووجه ذاك الغريب البعيد عن ناظريها
تراجعت للخلف بوجل حتى حين أقبل جدها بإتجاه المنزل حتى لا يراها
وفي دقيقة كانت تسمع صوته الغاضب يُنادي باسمها
أخذت نفسًا عميقًا لتحمل الصينية وتخرج للخارج حيث يجلس دائمًا
مكتسية بالبرود العميق ..
هتف جدها بغضب حين رأها مقبلة عليه :
كم مرة قايل لش الفطور ألقاه جاهز ، ليش لازم أجلس أنادي عليه
وضعت الصينية أمامه وهي تُمسك "بشيلتها" التي تطايرت بفعل الهواء لتقول بجمود :
جيب لك صبيّ يخدمك ولا أنا ما مجبورة على خدمتك
نظر لها بنظرات حادة :
مجبورة ونص ، جدّش أنا ياقليلة الحيا
-ليُكمل بذات الغضب بسبب استفزاز قايد-
لمّي شعرش ولا تطيح شيلتش من رأسش .. ما تستحين أنتي
المكان مكشوف ، لا تطيح عين رجال عليش وتستآثمين
نقلت نظراتها بتمثيل بارع حولها وحول مُحيطها وجدّها ما زال ينظر إليها بذات الحدّة
لتقول بإستفزاز صريح :
وين الرجال ؟ ما أشوفهم .. ما أشوف إلا حيوانات الله كثّرها في هالأرض
تصلّب وجهه حين وصلت له إهانتها المُبطنة .. جرّدته من رُجولته ، ثم شبّهته بالحيوانات
لم تكن هذه يومًا ابنة الصقر ، الذي ينسّل من بين شفاهه حُلو الكلام وطِيب المعان لم يكن ابنه صقر بهذه القسوة والقوّة والتلذذ في الجِراح
لطالما كان رقيقًا ، طيّب الخُلق وجميل الخَلق ، هينًّا يسيرًا حتى بكلامه
عضَ على شفته حتى شعر بفكّه يتكسّر من شدة عضه :
أنا كان لازم أخلي عمّش سويلم يقتلش وراء أبوش
بدل ما خلينّاش عايشة تبربري بكلام تافة وقليل إحترام
أسبلت جفونها ببط ، لتنظر له وهُناك حريق يتعالى في صدرها :
وأنا للحين ما شفت مُجرمين يتفاخروا بجريمتهم قدام الملأ والخلاء
ناقص ياولد الوكيل تدق أبواب المحكمة عشان تصّفق لك على سواتك في ولدك ! ما أنت كل شيء قادر تجيبه بفلوسك ! تبيع وتشتري اللي تبيه
صرخ فيها بغضب وهو غاضب بحقّ :
قومي ذلفي من قدامي ، لا بارك الله فيش من بنت .. طال لسانش ولا حتى قدّرتي اللي سويته عشانش !
تراجعت للخلف وهي تُزمجر فيه بصوتها الحاد العذب ، صوت لا يجيب أن يخرج بهذه النبّرة لشدة عُذوبته :
الله أكبر على اللي سويته عشاني ، وش سويت إن شاء الله ؟ بنيت هالمنفى عشان تمنعني من أبسط حقوقي ؟
شيّدت هالبيت الضيّق عشان تسجنّي فيه وتمنعني حتى من أهلي اللي ساكتين خوف منك وخوف عليّ
لا تجلس تمننّ علي بشيء يالشيّخ ، ترا ربّك قادر يقلب الآية وتصير أنت في هالمكان وفي هالمقام !
-ابتسمت بإستهزاء-
تحسّب إنك بتخليني أرخي كتوفي بجبروتك ؟
مسكين يا جدّ .. كم بتتعب وبتشقى عشان توصل مُرادك
ووالله يادم أبوي اللي أرخصتوه قدام المحكمة وبدون خوف من ربي ما يروح هدر وأنا بنتّه
السيناريو التافه اللي سويتوه عند القاضي ، وولدنا " مات بالغلط " ودفعّتوا لأخوي ديّة بالملايين عشان تسكتّوه
ما يمشي عليّ أنا ، ما يمشي على بنت الصقر
نظر لها بتهكّم ، وذات النار التي شبّت بقلبها شبّت بقلبه :
وبنت الصقر وش حيلتها وهي محبوسة هنا من سنتين ؟
لو فيش قوة كان هربتي من هالمنفى ، لكن اللسان مافيها عظم
ابتسمت وهي توليّه ظهرها لتُردف بقوة باسمة :
الله يُهمل ولا يهمل .. وإن طال البلاء تأكد إنه إنفراجه عظيم .. وش وراك يا شيخ ، صبرك علينا بس !
خرجت من المكان وهي ما زالت مُحتفظة بابتسامتها
كما لو لمن تبتسم من قِبل ، فطوال هذه السنوات
خططت وخططت دون تنفيذ ، ولكن هذه المرة ستُنفذ
ستجعله يجنّ .. ستجعله يتوّسل إليها لأن تعتقه من دُعاءها
ستُشبعه ندمًا وحسرة .. وضيقًا وضنكا
قبل سنتين كانت تنبض فرحًا حين جاءتها منحة حكومية كالمُعجزة حتى تُكمل دراسة الماجستير في الخارج
شاركت فرحتها أبيها وأخواتها وإخوانها وجميع من يعزّ عليها
خططت للسفر ، خططت لكل ماستقوم به ! استعدّت من أجل هذا اليوم كثيرًا وحين حانت اللحظة ، وبدل أن تُسافر للخارج ..
نُفيت لهذه الصحراء الكئيبة .. وحيدة ، منبوذة ، لا نفع منها ولا فائدة
قيّدت فرحتها سلاسل العادات والتقاليد ، هُشمت جناحيها
بسبب تسلّط " العيب " قبل " الحرام "
أُلقيت هُنا بلا رحمة أو شفقة ، مات والدها شوقًا لرؤيتها
وحزُنت أعين والدتها رغبةً في إحتضانها
صعدت للغُرفة الصغيرة التي أتخذتها مأوىً لها
اتكأت على حافة سريرها لتقول والدمع يتزايد في عينيها :
راح عُمري وأنا المحرومة من الحقوق
ياللي تدّعي المشيخة وش سوت فيني مشيختك ؟
ما سوت غير الحرام اللي ادّعيت إني رايحة له
الله لا يبيح لك عُمري الضايع .. عساني ألقاه من عُمرك
فها هي بعد عدة أيام ستبُلغ من العُمر 30 عامـًا
وكأن تلك السنوات لم تمر من عُمرها ، بل مرت من شروخ قلبها
وإراقة دمٍ روحها ، ودمع عيناها



انتـهى ♥

NON1995 and تايست like this.

الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 24-05-22, 04:44 PM   #47

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي

السلام عليكم ورحمة الله .. مساء الخير والسرور

استلموا الفصل الجديد ..


لا تلهيكم الرواية عن الصـلاة




الفصـل العـاشــر




-
" الساعة صارت سبعة وهو ما رجع يا أختي ما رجع "
هتفت نِعمة بهذه الجُملة وصوتها يتشرّب بالقلق والرُعب
على فلذة كبدها الذي تأخر في العودة للمنزل
لتقول نعيمة بإطمئنان مغلّف بعتاب :
يا بنت الحلال شاب ورايح يسهر مع ربعه ، هوني عليش
وبعدين يا أختي فكّي على الولد شوية
خانقتنه وهو هذا كبره بسم الله عليه من كل شر
نظرت له نِعمة بشيء من الضيق :
والله لو إنه على عكّاز بظل أخاف عليه ، ولدي ذا
وحيدي وظهري ..
أردفت نعيمة بذات النبرة :
الله يخليه لش ، ويخليش لنا .. بس يا نِعمة الولد صار رجّال والجاهل صار عاقل
ما يحبّ حد يحاسبه على الطالعة والداخلة ! يمكن يتضايق بس ما يوضّح لش .. فخفّي عليه
تنّهدت نِعمة وهي ما زالت تشعر بذات الخوف
الذي يأتيها حين تشتعل حاستّها الأمومية:
وأنا ما قلت شيء ، لكنّه عودني على جدول معيّن .. يطلع بعد العِشاء ويرجع حزّة الفجر بعد ما يصلّي
وشوفة عينش .. عدينا الفجّر بساعتين وهو للحين ما جاء
أكيد صار له شيء ، قلبي يقول فيه شيء
هزّت نعيمة بعقدة حاجبيها :
لا حول ولا قوة إلا بالله ، إذا يريحش بقوم أحرق تلفونه من الإتصالات ! وش تبين بعد ؟
هتفت بعصبية وهي تشعر بتلف أعصابها :
تحسبيني أنتظرش تتصلين فيه ؟ أنا اتصلت وحرقت تلفونه بعد بس تلفونه مسكّر
بيجنني ذا الولد ، الله يحفظه بحفظه بس
رنّ جرس المنزل في هذه اللحظة مُنقذًا نعيمة من نوبة غضب كادت أن تواجهها من أختها الذي يُعتبر زيد خط أحمر لديها
وقفت بسرعة وهي تعدّل جلال صلاتها لتقول بابتسامة:
هاه شوفي أكيد جاء ، خليني أفتح الباب
خرجت نعيمة متجهة للخارج حتى تفتح الباب وتُقيء أختها وجع الخوف والهلع
إلا أنها تراجعت خطوة حين تراءى لها صوت أكثر خشونة :
يا أهل البيت .. ياعرب
فتحت نعيمة الباب وهي تتراجع خلف لتهتف :
حيّاك الله أبو حاتم ، حيّاك الله تفضل
تراجع سيف للخلف حين بدا له هذا الصوت ليغلق نصف الباب ويقول باحترام متعاظم :
أم رغد ، صبحّش الله بالخير
سامحيني دخلت مدرعم لا احم ولا دستور ، لكنّي مستعجل .. أم زيد موجودة ؟
أردفت بإحترام لتترك مقبض الباب :
موجودة طال عُمرك ، وأبد البيت بيتك تفضّل بأي وقت
سكنت حركته للحظات حتى شعر بإبتعاد خطواتها
ليدفع الباب ويدخل بسهولة ، ماشيًّا نحو الصالة المفتوح بابها دومًا وأبدًا مثلما كان يُحب والد زيد في آخر أيام حياته
فرُغم تعبه ، وإستلقاءه الدائم على الفراش بسبب مرضه
إلا أنه كان ينام أمام باب الصالة الموارب ، فكلّ من جاء
وجده في مكانه .. وجد صدر البيت وعموده مشرّعًا باب قلبه ومنزله
ترحَم عليه في داخله ، وهو يتنّهد بعُمق .. جاء اليوم لكي ينسج الكذبة على مسامع أم زيد ، كذبة مُجبرٌ عليها من أجل زيد الذي يسعى جاهدًا على ردع الوجع عن والدته
ومن أجلها هي في المقام الأول
وقف بجانب باب الصالة الموارب دون أن يدخل ، ليقول بصوتٍ عال :
السلام عليكم يا أم زيد !
هتفت نِعمة بنبرة قلقة ووجود سيف في هذا الصباح الباكر لا يُريحها :
وعليكم السلام يابو حاتم ، حيّ الله من زارنا
تفضّل اقرب الفوالة قدامك !
سيف بذات نبرة الصوت العالي :
جزاش الله خير والله يرفع قدرش ومقامش ، واعتبري فوالتش واصلة
أنا جاي لش مرسول وبعدها طالع !
زاد التوتّر في صدر نِعمة وهي تُبصم عشرا أن المرسول مخصوص من أجل زيد :
عساه خير يابو حاتم .. ولدي فيه شيء ؟
تعجّب سيف من معرفتها بالموضوع قبل أوانه ، ولكنّ بعد ثانية تبّسم بابتسامة حنونة
فهذا قلب الأم الذي لا يكّل ولا يمّل من الخوف على فلذة الكبد :
والمرسول من زيد طال عُمرش في الطاعة ، ويقول لش إنه قبل ما ينزل الليل هو عندش
فتطمنّي ولا تحاتينه .. أنا نازعته وقرصت إذنه شويتين
وقلت له رجال البيت ما يترك أهله بدون خبر ولا سؤال
لكنّ يقول تلفونه سكّر وماقدر يتصل
هو راجع إن شاء الله قبل الليل ، أكيد صار عنده شغل
سكتت نِعمة لثواني طويلة وعيناها مرتكزة نحو نقطة معينة
لم تُعجبها نبرة صوت سيف ، ولا الأعذار التّي سطرّها على مسامعها ، فزيد في ذروة إنشغاله كان يجد وقت ليتصل فيه ولم يترك هاتفه يومًا دون شحن
لذلك هتفت بضيق اتضّح في نبرته :
طال عُمرك ، ولدي دايم كل خميس يطلع يسهر ومعه حاتم
تقدرّ تتصل في حاتم عشان أسمع صوته وأتطمن عليه ؟
عقد سيف حواجبه ، هذا الذي لم يحسب حسابه ، فحاتم بذات نفسه لم يكن يرد على إتصالاته وهو الذي سهِر الليل بأكمله بجانب زيد
لذلك أردف محاولة إحراجها وتشتيت إنتباهها :
افا يا أم زيد ، يعني ما لجيّتي عندش قدر وحشيمة ؟
ولا تظنين إني أكذب عليش ؟
انتفضت بجزع إلى ما آل إليه تفكيره وهي لم تقصده أبدًا ، لتهتف بتبرير جازع :
حشى لله والله ما قصدته يا أبو حاتم ، لا تاخذني في تفكيري
أنا بس مفجوعة على ولدي اللي متعوّدة أصبح عليه
ابتسم سيف ابتسامة واسعة :
عسى ربي ما يفجعش فيه ، وأنا أقولش ولدش بخير وعافية وبيجيش ويصبّح ويمسّي عليش
تنّهدت بقلة صبر وهو تُجاهد على التسلح بالصبر :
جيّتك على رأسي ، ما تقصر يا أبو حاتم رايتك بيضاء
همّ بالخروج وهو يتنفس بُعمق بعد أن أتمم المُهمة الثقيلة على قلبه وهو يهتف بداخله " هذا كُبري وأسطّر كذباتي لعيون حويتم ، الله يهديه "
وقبل أن يخرج ، عاد بخطواته وهو يقول بنبرة تخللها الفرح :
يا أم زيد حيّاش الله على عرس حاتم بعد اسبوعين
ويا أم رغد تراش معزومة أنتي ومن يعزّ عليش ، وأنا بكلّم أبو عزيز بنفسي ! حياكم الله بملفانا
ابتسمت نِعمة ابتسامة هادئة وهي على عِلم مُسبقًا بزواج حاتم وزينة الذي أخبرها زيد عنه قبلًا :
الله يوفقهم ويسعدهم ويبارك لهم ، تبشر بالعافية يا أبو حاتم
يستاهل حاتم نحضر ونفرح له .. ولدي الثاني وأخو ولدي
هزّ سيف رأسه موافقًا لكلام نِعمة ، ليخرج هذه المرة متجهًا إلى بيت الجبل حتى يُخبر أمه وأبيه بالموعد المُحدد لزواج حاتم المُنتظر منذ سبع سنين



-
أغلق هاتفه وهو بتنهد للمرة الألف ، وهاتف حامد يعطيه ذات الإجابة
مُغلق منذ الأمس ، ولا يدري بأي إتجاه يوّزع قلقه
هل لزيد المُسجى أمامه الآن .. أم لعبدالرحمن القابع في مُستشفى الولاية دون مُرافق
أم لإختفاء حامد ، وهو الآخر كأن الأرض انشّقت وابتلعته
هَاتف أخته أميمة وهو يقول لها بجمود " لو جاء حامد البيّت خليّه يتصل فيني "
وأغلق منها دون أن ينتظر ردًّا .. ليُزفر بعدها بصورة مُريحة
حامدة وشاكرة على نجاة زيد من مخالب الموت
لا يدري ما كان سيفعل لو أن قضاء الله قد قُضي فيه .. ربما على أقل تقدير كان سيموت هو دون زيد
فهذا النائم أمامه أشبه بالروح عند فيضان الهمّ منها .. بل إنه أشبه بالضمّاد وقت الجِراح الحارقة !
لولا ربّه أولًا ، ثم زيد .. لوقع في قبضة الإكتئاب بعد الحادث الذّي مر به
اتكأ بظهره على ظهر الكِرسي ، ينقل نظراته نحو صفحة وجه زيد النائم بتعب
اقترب منه وهو يُهمس باسمه مرارًا وتكرارًا ، يُريد أن يجعله يستفيق ، يُريد أن يطمئن قلبه النابض وبشدة
كرر اسمه عليه ، دون كلل
ليتفاجأ بزيد يهمس بصوت تعب وغاضب في الوقت نفسه :
وخّر عن وجهي .. صاحي وحاسّ فيك
اندهش حاتم ، ليقف بعجلة ويسقط الكُرسي من خلفه
وهو يراه يفتح عين ويُغلق الأخرى بسبب الإضاءة العالية :
الحمدلله على السلامة ، ويومك صاحي ليش ما تفتح عيونك وتطمنّي عليك !
عقد حاجبيه وهو يشعر بتعب عميق ، ولا يدري من أين يأتي هذا التعب
ليُهمس بخفّة وتركيزه انصبّ في نقطة معينة :
عبدالرحمن .. وينه ؟
تنّهد حاتم ليُعاود الجلوس بجانبه بعد أن سحب الكُرسي :
عبدالرحمن في مُستشفى الولاية ، بخير وعافية ما فيه شيء
ما غير جرح في رأسه وخيّطوه له
حاول الوقوف والإعتدال في جلسته ليُردف بنبرة تعب :
قوم ودّني عنده ، بسرعة وحالًا !
منعه حاتم وهو مُندهش :
يا رجال اجلس ، أنت توك طالع من غرفة العمليّات
انتظر خلي الدكتور يجي يشوفك ، أمس الدكتور المناوب ما طمنّي زين عليك
وبعدين عبدالرحمن بعد شوي بيطلع ! أنت لازم تجلس لين الليل على الأقل
أبعد يده وهو يقول بغضب استفحل بقلبه :
وخرّ عني يا حاتم .. ولا تظن اليوم على تعبي إني بحاجتك
أنا لازم أشوف عبدالرحمن ، لازم ضروري
شعر حاتم بالضيق من كلامه وهو يصفعه به دون رحمة :
زيد ماهو أحسن لك تقوم من سريرك اليوم
أنت تعبان وللحين حتى الدم ما يجري بجسمك زين
أرفق بنفسك
اعتدل في وقفته هذه المرة ، أبعد إبرة المغذي بإحترافية ممرض ! مشى حافي القدمين وحاتم من خلفه يُحاول أن يوقفه عن هذا الجنون الذي يقوم به
وقف أمامه ينظر إليه بعقد حاجبيه والغضب آخذ منه مأخذ هو الآخر :
يعني وش ذا العناد اللي راكب في رأسك ؟ إلا ما تطلع وتشوف عبدالرحمن !
قلتلك إنه بخير .. ليش ما تصدقني ؟
أردف هو الآخر وصداع حاد داهمه من وقوفه بشكل مفاجيء
ليقول بغضب :
وأنا عارف إنه بخير ومافيه شيء ، لكن لازم اسأله
لازم ألقاه وأسأله وش اللي شافه وما شفته أنا
لذلك من الأحسن تروح من قدامي .. مب ناقص نصايحك على رأسي
تجمّد وجه حاتم لثواني معدودة ، ثم أردف :
وش تقصد ؟
اخذ نفس عميق وهو يجترع ريقه الجاف ، وغشاء أسود يحيط به من شدة دواره :
يوم أقولكم قبل فترة إن عبدالرحمن فيه شيء .. عبدالرحمن متروس هم ومحد حاس فيه
قلتلكم يا عيال أخوه اهتموا فيه ، راعيوه لا يدخل في موجات الإكتئاب وما يطلع منها سليم
بس كنتو كل مرة تقولون لي عبدالرحمن مجنون ، وناقص عقل ، ومب صاحي
والأصل هو مريض ، ومرضه نفسي
شفته كم مرة يكلم نفسه .. والمرات هذه تكررت مع شباب من الحارة
مرة مع حمود اللي شافه في آخر الليل يسولف بجنب بيتهم
ومرة مع أبو بُراق اللي شافه صوب مزارعهم بنفس الحالة
ومرة مع زميلي يومه جاء له في بقّالتهم ، وقال له
"شفت إعلان إنكم تريدوا موظف وجيت أقدم عليه"
مع إنهم لا حطوا إعلان ولا طلبوا موظفين
ركزّ حاتم بنظراته الحادة والجامدة على وجه زيد المنقبض من شدة غضبه وعتبه على نفسه
كيف لم ينتبه لهذه التفاصيل التي قد تمرّ مرور الكرام عليهم
كيف لم يتبيّن التعب ، والوهن في ملامح وجه عمّه
كيف لم يرى رغبته في الإنعزال في كل اجتماع ، وكيف لم يرى خشيته من مُقابلة الناس
اجترع ريقه وهو يرى زيد يجلس على سريره ويُمسك رأسه تارة وتارة يمسح على صدره الذي بدأ يؤلمه
ليهمس بصورة جامدة ، حين استنتج مختصر كلامه :
الحادث ؟
رفع رأسه له وهو يقول بقلق مترافق مع هزة رأسه :
أنا ما خرّفت أو قل نظري ، كنت أقدر أقول إن اللي شافه حيوان مرّ من الطريق ، أو حتى آدمي بسيّارته
لكن الطريق كان فاضي ، فاضي مافيه أحد
كنت أسوق في أمان الله بعد ما طلب منّي أوديه لمشوار ومصرّ أخذ سيارتي القديمة يمكن لأنه خايف عليّ منه
سرعتي كانت بطيئة ، ومركزّ في الطريق
سمعته فجأة يصرخ وبنفس الوقت يلّف بالسِكّان (الدريكسون)
وما حسيّت بنفسي إلا والسيارة تتقلب قلبتين
سكت حاتم على مضض ، وهو يسحب الكُرسي ويجلس أمامه
ليُردف بنبرة تشبعت بالقلق :
وأنت .. كيف اجزمت إنه مريض بمرض نفسي ؟
نظر له زيد بنظرة مطولة ، مطولة تحمل في طياتها كمّ هائل من الوجع والألم والضيق والإنزعاج
ليُردف بخفوت ، بنبرة مؤلمة :
ما يعرف وجع المرض إلا اللي جرّب آثاره
حاتم وهو يقول بهمس :
يعني تظنّ إنه مريض بالـ...
قاطعه زيد وهو يأخذ نفسًا عميقًا مشبعًا بالأسى الموجع :
عمّك مريض بالشيزوفرينيا ، لحق عليه يا حاتم مثل ما لحقت عليّ
أنا قدرت أتخلص منه لأني كنت تحت نظر عين أمي
بس عبدالرحمن احنا كلنا بعيدين عنه .. كلنا من أمه وأبوه
وأخوانه وعيال أخوانه !
مسح حاتم على رأسه نزولًا وصعودا وهو مُندهش من الحقائق التي سُردت عليه ، ومتألم في الوقت نفسه
لما حُكم على شباب هذه العائلة على مواجهة قبضة الأمراض النفسيّة رغم رغبتهم وتمسَكهم بالحياة؟
أبتدت من زيد الذي كان سيُصاب بمرض الذُهان بعد وفاة والده الذي كان كظلّه وأكثر ، مرورا به هو حين تعرّض للحادث وكاد أن يدخل في حالة نفسية لولا أن سدّها بشخصيته الحاقدة حتى على نفسه .. إنتهاءً بعبدالرحمن ، هذا العم المسكين الذي كان دائمًا في الظل
ها هو هم جديد ينضاف إلى قائمة هموم حاتم ، فهو رغم شخصيته الحديدية فإن خلف أكوام الحديد والأصفاد قلب تشبّع بالحنيّة والخوف على بشرٍ قد يمر بما مر هو به
همس والأسف تسربل إلى صدره :
يا كبر ذنبنا لو طلع كلامك صحيح ، وهذا العمّ الفقير نهشته يدين المرض النفسي بدون ما ندري
عقد زيد حاجبيه وهو يمسح على صدره ، ليُردف:
كلّم الدكتور خله يرخّص لي ، أبغى أطلع أزوره
تأفف حاتم لينظر إليه بضيق :
وبعدين معاك أنت ؟ انتظر الدكتور لين يجي ويشوف حالتك
ولو إن حالتك مية مية بطوالة لسانك ذي
-ابتسم حين وجهّه له نظرات حارقة يعلمها حاتم جيدًا-
ترا عرسي بعد اسبوعين ، أبغاك سليم وواقف جنبي
تغيّرت ملامح زيد في ثواني معدودة من الإنعقاد حتى التبّسم
لترتسم على ثُغره ابتسامة شامتة :
رح يا شيخ عساك تغرق في بحر بنت مُرشد ولا تلقى أحد ينقذك
عشان تعرف إن ربّك حق ، والدنيا تدور
انفلتت الابتسامة من وجه حاتم ، ليحلّ خلفها الجمود واليأس :
ما يحتاج تدعي ، أنا من غير شيء غرقان
أراح زيد ظهره على السرير ليقول بذات الابتسامة :
غرقان في بحر الذكريات ، لكن هالمرة بتغرق في بحر الهوى
عُقدت حواجبه ، ليُردف بإشمئزاز من كلامه وهو يُخرج هاتفه :
يا تفاهتك .. آخر همّي أمواج الهوى وهبوبها
أنا مو مثل الملاّح اللي يبحر في مجاهيل البحر ..
أنا ربّان قاصد وجهته
ابتسم زيد بخفوت :
ووش هي وجهتك ؟
نظر حاتم لإبتسامة زيد الذي لم يرتاح لها :
وجهتي أعرف السبب إللي خلاني أقبل الزواج منها وهي بعُمر الـ17 سنة
زفرّ زيد وهو يُغمض عيناه :
أحيانًا يا حاتم الجهل مفتاح المنال .. كل ما عشت حياتك لسبب الإستمرارية ! كل ما انفتحت قدامك أبواب المعرفة
جرّب تبدأ صفحة جديدة ، وتخيّل إنك خطبتها بملء إرادتك
وإنها هي اللي تبغى تكون شريكة حياتك وأم عيالك
زفرّ وهو يضغط على هاتفه بقوة بين يديه :
معادلة الزواج يا زيد تحتاج توافق بين الطرفين .. عشان تتوازن الحياة بينهم ونقدر نسميّها " شراكة "
بس احنا طرفين مش متكافئين ، مش متوافقين
أنا بالغرب ، تُغرب فيني كل اليوم الشمس الحارقة
وهي مثل الشروق .. ما يشرق نورها إلا بعد الظلام
التفت له زيد بتعب :
حيّرت الشمس بينكم ، لكن لعلّك تكون الظلام
ولعلّها تكون لك نور الشروق ! استبشر
همس وهو يُعيد النظر نحو هاتفه بين يديه ، بضيق :
لو لقيت الذكريات ما تركت للحيرة مجال
لكن ما للقلب حيلة وهو فاقد
-رد على هاتفه حين رنّ ليجيب بجدية-
هاه ؟ لقيتيه ؟
وصوت أميمة تداخل إلى مسمعه ومسمع زيد الذي ينظر إليه وهي تقول بقلق :
ما انتبهت على سيّارته إنها موجودة إلا قبل شوي
رايحة أشوف من غرفته ، وبرد عليّك
هتف بذات الجدية :
لا تردي علي .. خليّه هو يتصل فيني
أغلق الهاتف منها .. ليضعه بداخل جيبه ويرفع رأسه نحو زيد الذي ينظر له بمزيج من النظرات ، نظرات عاتبة ، عاتبة بشكل مؤلم حين تراءى لمسمعه صوت أميمّة وذكّره ما قاله حاتم في حقه
هزّ حاتم رأسه ليقول بضيق :
لا تقسى .. القسوة لمّا تجي من الحنيّن توجع
زفرّ زيد وهو يوليه ظهره ليقول بصوت ممتلئ بالحسرة :
الله يغفر لك ظنّك



-
أدخلت هاتفها في جيب قميصها وهي تُزفر بقلق سرّبه إليها أخيها حاتم
لا تستطيع معرفة كيف صعد حامد إلى جناحه دون أن تشعر به ، فجناحه بالقُرب من غُرفتهن هي وأختها
وتستطيع الشعور بفتح الباب وإغلاقه .. خاصة في هذا الفصل من السنة بسبب إغلاق مصادر التكييف وإستكنان الجو
طرقت الباب طرقة واحدة لتتفاجأ بعدها بفتحه وخروج حامد من خلفه
اندفعت بالكلام مرة واحدة حين دفىء داخلها من رؤيته :
الله يهديك حامد أنت من متى موجود هنا ولا علمتنا ، أمس أمي كانت تنتظر ومن تعبت قالت لنا انتظروه وحنا نمنا ونسينا سالفتك ، حتى سيّارتك ما دخلتها داخل خليتها برا
وين كنت أمـ...
انبتر كلامها حين رأت الجسد الصغير الذي يختبئ خلف أقدام حامد ، شهقت بصدمة حين رأته ، وتراجعت للخلف بخوف ورُعب :
سـ.. سيف ! بسم الله الرحمن الرحيم
ابتسم حامد بألم تشّعب لثُغره ، هي هذه الصدمة التي تعرّض لها حين رأى هذا الوجه .. فالذي يراه
يستحيل أن يقول أنه لا يشبه سيف .. ابنه الراحل
ولكنّه يا للأسف ، ليس بسيف إنما سعود
وليس بابنه الميتّ ، إنما بابن أخته الميتة الحيّة
انحنى على رُكبته وهو يُمسك بسعود المختبي خلفه
ويقول بابتسامة ألم :
أعرفش على سعود ، صديقي الجديد
-وبهمس موجع وعميق-
ولد أختنا
ابتلعت ريقها الذي جف من شدة رعبها ، ياربّاه على هذا الألم المزروع في جُنبات وجه حامد
أياتي ابن أخته شبيهًا بابنه الذي رحل ؟ ما أكبر الوجع
خصّ أنه يرتدي من ملابس سيف ، فهي تعرف هذا القميص جيدًا
اشتراه حامد عندما كانت هي بصحبته !
همست وهي للتو تستوعب وجوده هُنا لتردف بصدمة عارمة :
وش جابه عندك ؟
حمله في حضنه لينزل به وهو مُبتسم دون أن يرد على كلامها :
سوي فطور للشيخ سعود ، بيضة وتوست وحليب دافيء
وهاتيه لنا في الصالة !
أمي وين ؟
نظرت لقفايته ولظهره العريض الذي ينزل السلالم
لتتبعه بلا إدراك وإستعاب وتقول :
أمي وضحى رايحات بيت الجيران ، عندهم قهوة الصبح
حامد وش ناوي عليه ؟
هزّ كتفه ليصل إلى الصالة وهو يجلس وبحضنه سعود المُندهش والخائف ، ولا يعرف أحدًا من هذا المنزل سوى الذي يجلس بحضنه الآن :
ناوي على كل خير .. روحي المطبخ ولا تأخريني
وراي شغل لين قمة رأسي
خطّت خطوات أميمة نحو المطبخ وهي ما زالت مندهشة مما يحصل ، وتساؤلات كثيرة تدور في رأسها
هل ألتقى بحنان ؟ كيف كان لقاءهم ؟ هل جاء مثلما كان يرتجيه مُنذ زمن ؟ أن يكون لقاءً حارقًا ينهش الفؤاد من شدة حرارته ؟ أما جاء باردًا صقيعيًا لا يحمل في طيّاته ذرّة شعور
وكيف وصل سعود إلى يديه ؟ بل لما رأت سعود دون أمه وهي تعلم مُسبقًا حرص حنان الشديد على مُمتلكاتها
ما بال إن كانت هذه المُمتلكات هي فلذة الكبد ومقلة العين وسلوى الروح
عادت من المطبخ وعقلها يلهج بالأسئلة دون أن تقولها لسانها .. فحامد يبدو متصلّبًا وغير مستعد لسماع هذه الأسئلة
وضعت الصينية أمام الطاولة ، وسعود ما زال في حُضن حامد ينظر حوله بخوف ورُعب لتهمس بوجع
وعيناها تغرق بالدموع :
سبحان ربي خالق الأشباه ، يا حامد مو معقول هذا سعود مو سيف
الشبّة اللي بينهم يوجع .. يوجع واجد
رفع حامد وجهه المُتصلب نحو أميمة الباكيّة
دون شك لديّه أن هذا ابن أخته لا ابنه .. فلا عجب أن يكون أبناءهم يتشابهون بسبب تطابق ملامحهم هم الاثنين :
أميم بلا دموع ، الولد من غير شيء خايف !
سكتي وروحي عن وجهه
اجترعت ريقها وهي تمسح دمعها بعجلة لتُردف :
والله ما أروح ، أبغاه .. أبغى أحضنه بس
ليش كذا متعلّق فيك وما يبغى حتى قُربي ؟
نظر حامد لسعود ، أداره نحوه وهو يدعو الله أن لا يخيب ظنه
لتخمد بعض النار المتقدّة بصدره :
سعود .. أنا من ؟
نظر إليه سعود بقلق طفولي :
خالي سعود
أشرّ حامد بسبابته نحو أميمة :
وهذه ؟
ليأتيه الرد على شكل هزّة كتف ، بمعنى أنه لا يدري
أمالت أميمة فمها بحُزن عميق ، لتقول :
يعرفك وما يعرفني .. ليش يعني ؟
تنّهد حامد وظنّه لم يخب ، يعلم مساوئ أخته جيدًا :
لأنها عرفتني عليه من وهو صغير ، عشان كذا يعرفني وما أستنكرني
رنّ جرس المنزل في هذه اللحظة برنّات متتابعة مُزعجة جعلت من حامد يبتسم ابتسامة عميقة ، لتلتفت أميمة نحو باب الصالة الموارب بصدمة :
بسم الله ، وش الإزعاج ؟ من بيجينا من بدري كذا
وقف حامد وهو يقول " أخيـرًا جيتيني برجولش " ، وضع سعود الذي بدأ بالبُكاء في حُضن أميمة المندهشة :
خذي ، طلعي غرفتش وقفلي عليكم الباب
وياويلش إذا نزلتوا أو خليتيه ينزل
ابعد جسده عن يدين سعود الذي يتخبط بنشيجه ، ليعاود القول بحدة :
بسرعة طلعي وش تنتظري ؟
صعدت أميمة للأعلى وبحضنها سعود الباكي ، تُحاول تهدئته فلا يهدأ ، تحاول إغراءه بالحلوى والألعاب فلا يسكت
كان يبكي بنشيج آلم قلبها الغض ، لتقف في مُنتصف غرفتها بعد أن أغلقت الباب وتوجهت مُباشرة نحو النافذة الكبيرة المطلة على مدخل المنزل
لتشهق بقوة حين رأت من فقدتها مُنذ خمس سنوات ، تقف بجانب الباب وخلفها رجل آخر
-
بالأسفل ، اعتدل حامد في وقفته وأتجه خارجًا نحو الباب الذي يرنّ جرسه ، أخذ نفسًا عميقًا مستعدًا للمواجهة التي أجلّها سنين طويلة
مسك المقبض وفتح الباب بُسرعة على مصراعيه ، ليتفاجأ بالإعصار الغاضب الذي دخل وهو يُبعده عن طريقه
وبنبرة عالية باكية :
ولدي ويييييينه ؟
كتّف حامد يديه وهو يتمّعن في صفحة وجه تؤامه حنان .. الملامح التي تعكس وجهه هو .. لولا اللحية التي تغزو وجهه
تفرّس وجهها كأنه يبحث عن آثار الزمن .. فوجدها
وجد الدموع المنهمرة ، العيون الحمراء
الأجفان المنسدلة في السواد تشيء بقلّة نومها
ارتجافة يدها ، شهيقها ونشيجها الذي يُشابه نشيج ابنها
وجهها الذي كبر .. لايُصدق أنهما بلغا الثلاثين من أعوامها
لم تتغير هي سوى بتلك التجاعيد المحفورة بالهمَ والحُزن
ما زالت كما هي دائمًا ، بملامحها الحادة الرائعة
عادت الصُراخ في وجهه ، نست وجودها في منزل أبيها بعد خمس سنين من الغُربة المختارة
ونست أنها تقف أمام تؤامها الذي قطّعها الشوق إليه
نست كل شيء ، ولم تفكر سوى بابنها الذي بات بعيدًا عن أحضانها :
ولدي ويييين ؟ وين وديييته ؟
رفع رأسه وهو يرى وقوف عبدالمجيد خلف أخته حنان ، بنظراته القلقة والجادة :
بالحفظ والصون ، ليش الصراخ ؟
صرخت في وجهه ببحة مؤلمة :
أنتظرك سنين تجي تنتقم منّي أنا .. ويوم مرت هالسنين ما لقيّت إلا ولدي تذبحني فيه ؟
هتف ببرود مدروس :
ليش أنتقم ؟ أنتِ اخترتي طريقش وأنا كملت طريقي وين ما وقفت ! والوجه من الوجه أبيض .. يا أختي
شدد على آخر كلمة نطقها وهو يشعر بالألم في لسانه ..
"يا أختي
وتؤامي .. ونصفي الثاني
يا من شاركتني ظُلمة الرحم ، ووجع الطلق .. وليالي الإنتظار "
مسحت دموعها بعُنف :
جيب لي ولدي يا حامد .. جيبه لا تخلي الفضيحة تسرّي بيننا
تنَهد وهى يتراجع خطوة ، بذات البرود :
ولدش ما يطلع من هِنا .. هو عند خواله المشتاقين له
نشبع منه ونرّده لش !
تعالى بكاءها وهي تقترب منه ، اقتربت حتى بدأت بتوزيع صفعاتها المتألمة على صدره القاسي :
تبي تقسي علي وتوجعني فيه ؟ تبى تقتصّ مني فيه ؟
ألعب لعبتك بعيد عنه يا حامد .. وأنا قدامك سوي فيني اللي تبغاه
قالت كلمتها وأخرجت سكين صغير من حقيبتها الصغيرة لترميها أمام أقدامه
ألقى حامد نظراته القارصة نحو السكين التي رمتها وسط صدمة عبدالمجيد العارمة من تصرّفها
وبشكل مُفاجيء انحنى حامد ملتقطًا السكينّ من الأرض ، ليدفع حنان نحو الجدار ويضع السكين بشكل عرضي على رقبتها
زمجر فيه عبدالمجيد وهو يقترب منه لولا نظرات حامد الذي منعته بحدة :
لو قربت بحطّها على رقبتك أنت !
-التفت لعينا حنان الدامعة وهو يقول بهمس موجع-
تعرفين كم تمنيّت يجي هذا اليوم ؟ اللي أذبحش فيه واقتّص وجعي اللي سببتيه لي ؟
خمس سنين وأنا أعدها بساعاتها .. خمس سنين وأنا أقول هي بتجيك برجولها يا حامد ، مب أنت اللي بتخطي خطواتك صوبها
واليوم .. تحقق اللي كنت أرجاه !
جيتيني بإرادتش .. وطلبتي مني أذبحش بإرادتش
وأنتِ اللي جينتي على نفسش بهالإرادة
أغمضت حنان عيناها وهي عاجزة حتى عن إجتراع ريقها حتى لا تتحرك السكين في رقبتها
يبدو أن أخيها مسُتعد لأن يُذكيها .. مستعد أن يرُخص دمها بأقل الأثمان
أخيها اليوم باعها وباعها أخوته معها ، وأشترى روحها
همست وهي تمدّ يديها مانعة عبدالمجيد من التقدّم لتقول بوجع شابهه :
راضية تذبحني إذا هالذبح بيقربك مني من جديد
سويها يا حامد .. بحق معزتي اللي ما باقية بقلبي سويها واذبحني لأن من بعدكم ميتة


-
" قبل ساعات طويلة -
كانت منهارة ، منهارة إلى الحد الذي يجعل من صبرها يتمارى في الأفق
ما عادت تُطيق صبرًا وهي ترى عبدالمجيد يجري إتصالات مملوء بالجديّة
ورغبته .. في أن لا يُبلّغ الشرطة ، جعلتها تشعر بريبة كبيرة
قد يكون لزوجها أعداء كُثر ! كون أنه يعمل في المباحث
ويُساعد في إلقاء القبض على عصابات بمختلف أخلاقها
نست أن هُناك من يتربّص لقلبها .. من يتحيّن الفُرص للإنقضاض عليه والنهش به
نست أن أخيها مكلوم ، يسعى لردّ الدين !
نست أمره تمامًا بعد مرور السنّوات ، لولا أن أفاقت من كلام عبدالمجيد الذي وصلها بذبذبة :
لا ترفع بلاغ ، ما راح أجرجر نسيبي في المراكز
أنا راح أتفاهم معاه بشكل ودّي
وحين أغلق من زميله .. الذي طلب منه البحث في كاميرات مواقف البحر عن ابنه المفقود
شعر بأنفاس حنان تضرب ظهره بشكل قاسٍ ، وبوادر صدمة وبُكاء على وشك الحدوث
همست له بعدم إستيعاب ، بوجع وخوف :
حامد .. ولا حاتم ؟
اغلق عبدالمجيد عيناه لوهلة ، ليلتفت إليها وهو يتمعنّ بها
وإلى ارتجافها القوي .. ليُهمس بنبرة ميتّة :
حامد !
شهقة خافتة خرجت منها ، خافتة ولكن قاسيّة في شعورها
تراجعت للخلف ونبضات قلبها تزداد
انتظرت هذا اليوم كثيرًا ، وما لا تعلم أن حامد لم يكن يخطط للقاءها بهذا الشكّل
بل أراد إيذاءها في النُقطة الأعمق ، وذات النُقطة التي أذته بها
عادت أدراجها نحو غُرفة نومها وهي تحمل عباءتها بين يديها
مُتناسية أزواج الأعين الاثنين التي كانت تنظر إليها من الزواية
ابنيها سيف وعمّار !
أوقفها حين كانت على وشك الخروج ، مسك بعضدها ليهتف بجدية :
لا تخطي خطوة قبل لا تفكري في مضارها !
أبعدت يدها عن يده بصورة قوية ، تراجعت وهي ترتدي عباءتها بشكل سريع :
الضر إني أجلس مكتفة يديني وأنا عارفة إن أخوي يبي ينتقم منّي في ولدي !
تنّهد عبدالمجيد وهو يقف أمامها تمامًا ، بجدية راجية :
حنان الولد عند خاله .. وخاله مب قليل مروءة عشان يأذي طفل نكال بأمه ! لا تاخذك ظنونك فيه
صرخت في وجهه وهي لأول مرة تصرخ في وجهه منذ أن أصبحت زوجته :
أنتظر ظنوني عشان تقطع الشك باليقين ؟
بروح الحين وأفهّم أخوي كيف الواحد يتعرض لطفل ماله ذنب
مسك يدها مجددًا ، ينظر إلى عمق عيناها الدامعة
ما كميّة الوجع المختزلة بها ؟ لما لسنين لم ينظر إلى نشوة الفرح بهما
همس وهو يؤمى برأسه وعيناه تنظر نحو أبناءه:
بنروح كلنا .. لكن الصبّاح !
قومي توضي وصلي لأن الغضب عمره ما كان حل.
تعوذي من إبليس
- اقترب منها وقبّل رأسها هامسًا بألم -
تراه ولدي بعد ، ويعز علي ينام بعيد عن بيتي الدافيء
بس لازم نهدأ .. يا حنان لازم نهدأ ونفكرّ بدوافع حامد
لم يتلقى عبدالمجيد منها ردًّا سوى أنها رمت بعباءتها على الأرض وأتجهت نحو أبناءها لتحتضنهم بملء الدمع المُنسكب من دوامعها "
عادت لواقعها على صوت فحيح حامد المحترق :
عنّش ما رجعتي لي يا حنان ، لأن مصيرش تروحين !
بس ولدي أنا .. أول فرحتي وفرحة أبوي وأمي من يرّجعه لي ؟
شهقت بخفوت أقرب للونين .. ما زال يُعاقبها بذنب ابنه :
متى تعرف إن الموت حق على كل نفس بشريّة ؟ وإن الأسباب مجرد سبيل له ؟
ولدك مقدّر له يموت ، وولد أخو عبدالمجيد كان سبب بس
-نظرت لعيناه بنبرة أقرب للحدة-
لو إني تطلقت من عبدالمجيد وقتها لأجل أسبابكم
وش كانت راح تكون حياتي وأنتو كل واحد لاهي في حُزنه ؟ من كان راح ينتشلني من الحُزن قبل لا أغرق فيه ؟
أنت يا حامد اللي ابتعدت أميال بموت ولدك حتى عن زوجتك ؟ أو حاتم اللي مو حاتم من بعد الحادث ؟
أميمة ولا ضُحى اللي كل وحدة فيهم تسربلت بخوفها إما منك أو من أخوك؟
متى تفهم إني أنقذت نفسي .. واخترت الطريق اللي أنتو باركتوه ؟
همس بوجع أخفاه بحدة صوته :
بدّيتيه علينا .. بديتيه على عايلتش اللي كانت مستعدة تحتضن أوجاعش وأحزانش .
زفرت نفسها لتقول بسخرية :
وأنتو ماقصرتوا من أول عثرة تخليتوا عنّي وقطعتوا دابر أوصالكم لخمس سنين
تراجع حامد للخلف حين تراءى لسمعه زمجرة والده الغاضبة والمنصدمة من المشهد أمامه بعد أن كان عائدًا من بيت الجبل :
حامــد !
أخفى حامد السكين خلف ظهره ، تراجع خطوتين للخلف وهو يلقي نظراته الباردة نحو نظرات والده المندهشة
ليُكمل سيف مقتربًا منه بغضب :
جنيّت استخفيت أنت ؟ هذا وأنت حامي هالوطن وش خليّت للمجرمين بهالتصرفات ؟
زفرّ وهو الذي كان يريد إخافة حنان لا غير ، ويبدو أنه لم ينجح لأن حنان كانت مستعدة لخوض دروب الموت في سبيل راحته :
جايه تطالب بحقّها ونست حقوقها علينا ، قلت أعلّمها معنى ردّ الحقوق بالغصب دام ما فهمت بالليّن
اقترب بجديته المخيفة لتُصبح حنان من خلفه وحامد من أمامه ، ويقول بغضب :
حامد والله العظيـ...
قاطعه حامد بذات الجديّة الموحشة :
والله العظيم إنك ما بتحلف عليَ وتقيّدني .. حلفت عليّ قبل سنين ، كسرتني قدامها ، خليتني في موضع ضعف أكره أكونه
بس اليوم والله يا يبّه ما بتحلف ، اللي جايه عشانه بنتك ما بتنوله .. وهالمرة بسوي اللي برأسي أنا
زمجر فيه وهو يقول بحدة :
وش هو اللي عندك وجاية تطالب فيه أختك ؟
ولاّهم ظهره جميعًا ، وضع يديه الاثنتين بجيب بنطّاله ليقول ببرود قارس :
ولدها سعـود ! وأنا حلفت ما يطلع من مكاني لين تطيب نفسي
وهي خلّها تحترق وتجرب شعور لمّا ينام ولدها بعيد عنها
-التفت ينظر إليها هي بالذات-
وتعرف وش يعني ولد ينام تحت الثرى !
سارع بخطواته ليدخل إلى الداخل ويُغلق باب الصالة الكبير بقوة كادت تُهشمه من شدة حُرقته وغبنته في هذه اللحظة
وهُناك سيف تعالى إستغفاره وحوقلته وهو يطلّب الله الصبر على هؤلاء التؤام الذين أشقوا أنفسهم بإرادتهم
زفرّ وهو يغلق عينيه ، ليلتفت ببطء وهو ينظر إلى ابنته المبهوتة في مكانها ومن خلفها عبدالمجيد كجبل صامد
كم اشتاق لطلّتها البهيّة ، اشتاق لقُبلتها الصباحيّة ، لمُشاكستها المرحة ، لضوءها الوضّاح في البيت !
تغيّرت تلك الفتاة عن الفتاة التي يراها الآن .. أصبحت مستقلّة ، أصبحت أم لديها من المسؤوليات ما لا تنتهي
همس وهو ينظر إليها بثبات .. لا يستطيع استقبالها بعاديّة لا تُشابهه ، ولا يستطيع احتضانها كما لو لم تكن هُناك جروح
لذلك هتف بحيّاديه لعبدالمجيد :
أدخلوا المجلس .. وخلونا نتفاهم بهدوء ! وقفتكم برا غلط
ولّاهم ظهره بعد أن ألقى طلبه .. أو أمره إن أصح القول
لكن أوقفه صوت عبدالمجيد الجاد جدًا حين قال وحنان ما زالت أمامه :
اعذرني يا أبو حاتم ، البيت اللي انطرّدت منه قبل سنين يوم جيت " أطالب بحقي " ما أدخله مرة ثانية
إن كانت بنتك تبي تدخله ، مرخوصة !
التفت له سيف ببطء ، هذا الرجل الذي نافس عُمره بالكِبر كان له معزة خالصة بقلب سيف ! همس بعتب :
واليوم صرت أبو حاتم بعد ما كنت عمّي يا مجيد ؟
مسك بيد حنّان وهو يهمّ بالخروج ، فما عادت عزّة نفسه وكرامته تطيق صبرًا للوقوف على أرض هذا المنزل :
ما أشتهينا قطاعتك برغبتنا .. لكنّ اللي صار ما كان يرضي الله ورسوله
وكان فعل ماضي ، مضى بخيّره وشرّه ! لكن النفوس عجزت تنسى
ولدنا بأمانتكم .. وروحنا معلّقة فيه
إن صار فيه شيء فتأكد إن ما يردني على توصيل حامد لساحة القصاص غير جرح صغير من سعود !
خرج جارًّا حنان من خلفه .. تاركًا سيف يندب الحظّ والظروف والأيام على ما فعلته .. وعلى الحُزن المركون في القلب الذي صدّه عن احتضان ابنته وأحفاده
همس عبدالمجيد لحنان وهو ينظر لدموعها :
والله العظيم ما بنتحرّك شبر واحد من هنا إلا وهو معنا
حرمة أخوي مجهزة لنا غرفة الضيوف .. بنجلس فيها لين يطخ إللي برأس حامد
وهذا بيت أخوي جدار بجدار بيت أبوك !
ما تفصلنا مسافات .. ولا تفصلنا بمآسي



-
بعد أسبوعيـن ثقال .. في منزل سيّف !
خرجت أميمة من المطبخ وهي تُنزل أكمام الجلابيّة الخضراء التي ترتديّها ، تُمسك بيدها مبخرة بها " لبُان عماني "
وضعتها على طاولة التلفاز الذي يصدح منه سورة الكهف لتصعد قدماها نحو السلالم
اليوم الجمعة .. اليوم زفاف أخيها الأكبر حاتم ، لديها من الأشغال ما يؤرق ويُشغل بالها
ففي ساحة المنزل شركة التنظيم قائمة على نُصب الخيام لإستقبال الرجال ، وفي منزل عمّها سعيد هُناك تجهيزات النساء ! وهي ما زالت هنا تنهي ترتيبات الوليمة التي أعدها والدها للعائلة بأكملها
توقفت أقدامها عن الصعود حين رأت خروج حامد من غُرفته وبصحبته سعود الصغيّر الذي بات مُلتصقًا به كما لو لم يعرفه من قبل ، يرتدي الثوب العماني بلون أسود ، الأمر الذي استدعاها للضحك :
وازينووو يا ناس اللي لابس ثوب أسود وازينوو
وين بوسة خالة أميم تعال أشوف ؟
اقترب منها على استحياء ، فحامد طوال الاسبوعين الذي بات فيهم سعود لديهم كان يعرّفه على أفراد العائلة
ويُحاول جاهدًا كسر خجله وخوفه من الغُرباء ، وطوال الاسبوعين .. وياللعجب ، أنه لم يرى والدته أبدًا
قبّلها بخفة وهو يتراجع بسرعة لخلف حامد الذي ابتسم برقّة :
أنا كم مرة قايل لش لا تقولين له تعال بوسني
رجّال عيب عليش لا تعلمينه هالحركات
اعتدلت في وقفتها وهي تُجاريه بالابتسامة :
وأنا كم مرة قايله لك لا عاد تعلّمه المرجلة قبل وقته ! حرام عليك حامد تراه أبو ثلاث سنين ما يفهم شيء
بعثر حامد شعر سعود المختبي خلفه بذات الابتسامة :
إلا رجال وسيّد الرجال بعد
-نظر لها بغموض -
وين طالعة أنتي ؟
نظرت له لتقول بعجلة من أمرها :
خلصت الغدى وبدخل أتسبّح وأصلي وأقرأ وأصحّي أختك اللي خاست من الرقاد عشان نلّحق قبل لا يجون الضيوف
ابتسم بسخرية ضاحكة :
الله والضيوف ، تراهم أهلش كل يوم تشوفيهم !
نزلي تحت أبغاش في شغلة
أشرّت بيدها لتقول بدهشة :
لالا حامد لا تشغلّني الله يخليك .. والله أبغى اتسبّح ريحة الطبخ لازقة فيني ومن أخلص أسوي لك اللي تبغاه
دّفها من كتفها وهو يقول بجديّة .. غلّفها بمرحه ، فروحه بعد شعوره بقُرب أخته منه وقُرب ابنها باتت متوهجة أكثر من ذي قبل :
أقولش نزلي بسرعة ، أنا ما يمديني عليه لأن وراي صلاة جمعة وبعد الصلاة لازم أرتزّ في الإستقبال
توقفت في مُنتصف السلالم ، التفتت تنظر إليه برجاء :
حامد تكفى ، الله يخليك بس أخذ شاور على الأقل قبل الأذان
كان حاتم سيرّد لولا أن قاطعه صوت حاتم الذي خرج من الممر المُتصل بمجلس الرجال ، ينظر إليهم ويردف بصوت جاد :
للحين واقفة عندش ؟
-حّول نظراته لحامد -
وأنت !! أقولك خليّها تجي المجلس تقوم تسولف معها في نص الدرج ؟
نقلت أميمة نظراتها المُندهشة نحو أخويها :
أنتو وش سالفتكم ؟
ابتسم حامد وهو يدّفعها لتُكمل ما تبقى من الدرجات حتى وقفت أمام حاتم الذي قال بجديّته الدائمة :
زيد في المجلس جاي يشوفش كنظرة شرعيّة ، تحركي بسرعة تململ الرجال وهو ينتظرش !
شهقت بعُنف وهي تتراجع للخلف ، تراجعت حتى عادت لخلف حامد محتمية به عن وضع حاتم الجاد
هتفت والإحمرار سرى بجسدها كاملًا :
والله ما دخلت .. وش جابه يبغى يشوفني الحين ! والله ما دخلت
ضحك حامد وهو يرى حركته المتمسكة بثوبه كطفلة صغيرة تحتمي بأخيها الأكبر :
أميييم خلّش حرمة ، كلها كم دقيقة روحي تمقلي فيه وطلعي
نظر له حاتم بعقدة حاجبيه :
تحشم !
زمّ شفتيه يحبس الضحكة التي كانت ستخرج ، ليُكمل حاتم بغضب من مماطلة أميمة :
أميم خلصّيني وراي شغل لين قمة رأسي
متخبيّة وراه يعني إني ما أقدر أسحبش من كشتش وأدخلش المجلس
-وبتهديد صريح-
الأحسن لش تطلعي بكرامتش !
أنفلتت ضحكة حامد المحبوسة لتتعالى شيئًا فشيئًا على نبرة أميمة الباكيّة من خلفه حين سمعت تهديده :
حاتم تعوذ من إبليس وروح المجلس ، بتلحقك هي بس أنت أمشي ولا تشوف عليها
أستغفر حاتم بصوتٍ عال ليُلقي بنظراته الحادة نحو أخيه وأخته ، ولّاهم ظهره ليقوم حامد بدفع أميمة من خلفه بإتجاه حاتم الذي مشى نحو المجلس
-
-
بداخل المجلس ، كان يجلس زيد على إحدى الكنبات الملّونة باللونين البحري والذهبي ، بنقوش زهريّة رقيقة
يحرّك رجله اليُمنى بتوتر شنيع .. وكل دقيقة تمر عليّه تزداد ضربات قلبه من القلق والترّقب الذي يشعر به
عضّ شفتيه بضيق ويُهمس بينه وبين نفسه :
الله يهديك يا هالرجال ، عارف اللي يحرجني وتسويه عيني عينك
وأنت بعد يا زيد كان قلت له إنك شايف أخته مية مرة
ايه وش فيها .. ما أنت طول حياتك فهالبيت وقد شبعت من شوفتها والصُدف اللي تجيبها قدامك
-ابتسم فجأة ليمسح على رقبته -
والله لو قلت له كذا بيدفنّي وأنا واقف ..
سمع صوت صرير الباب وهو يُفتح ، فزّت نفسه من الإرتباك الذي عاد له .. كان ينظر إلى الأرض في صورة منحرجة
وهو يسمع الخطوات تقترب منه ، ليشعر بجلوس حاتم ثم كلامه :
أميم ، تعالي جلسي جنبي !
عضّ شفته وهو ينظر إلى أقدامها الحافية وطرف جلابيّتها الخضراء البهيّة .. عاجزًا وبشكل غريب عن رفع عيناه لها
بعض الرجال في مكانه قد يقتنصون الفُرص لكي يروون شريكات حياتهم دون تضييع ثانيّة وحدة
ولكنّه ليس بأي رجل ، فهو بحياته لم يوجّه للجنس الأنثوي خِطاب إلا عند الضرورة القصوى
حين شعر بإستمرار الصمت ، ووقوف ذلك الطيّف في مكانه
حتى تشجع ورفع عيناه رويدًا رويدًا .. لتقع نظراته أخيرًا على صفحة وجهها المُحمّر
تجمد بمكانه كما لو لم يراها من قبل .. باتت أكثر نُضجًا وأكثر أنوثة
اقتربت ملامحها من حامد بعدما كانت شبيهة بحاتم
هذا الذي يذكره .. ليست بفارعة الطول بل يتجاوزها هو بأمتار !
نحيفة جدًا ، من يداها يتضّح أنها نحيفة وبعض عظام يدها بارزة !
أردف حاتم بعد صمت الثواني ليقول بهدوء جامد :
أنا أعرف إنك ما طلبت منّي شوفة شرعية ولكنّ هذا حقكم يالإثنين .. عندكم شيء لبعض قولوه الحين دامكم على بر
أغمض زيد عيناه بشيء من الحمق على حاتم الذي أفضى عدم رغبته برؤيتها وأمام أخته .. ماذا ستقول عنه الآن ؟ أنه مجبر على رؤيتها ومجبر على الموافقة عليها
بينما هي فقد كانت ترتجف وترتعد خوفًا وجزًعا وعند كلام حاتم شعرت بوغزات في قلبها لتُهمس بداخلها
" يعني ما كان هذا طلبه ، وحاتم فرضه عليه .. هذا أولها يا حاتم وش بتسوي تاليها "
زفرّ زيد وهو يقول بهدوء مصطنع :
الله يخليك أنا ما طلبت حقي احترامًا لعمّي سيف وبنته !
ما كنت أبغى أشغله فيني وهو المشغول فيك
نظر له حاتم وهو يقول " بدّقة " :
ما أكفّي عن وجود أبوي أنا ؟
رفع زيد عيناه لينظر هذه المرة إلى أميمة بملء رغبته وملء إرادته .. دون أن يزرع ذاك الخوف من نظرات حاتم
فهذه نظرته الشرعيّة التي يستطيع من خلالها معرفة ملامح شريك حياته وسلوكياته قبل أن يخوض درب الزواج
ليهتف حين رأى إرتجافتها وهو يتنّهد بابتسامه :
تكفي وتوفي يا أبو سيف ، والله يبارك لنا فيما أقدمنا عليه
فرّت أميمة بأقدامها هاربة من هذا المكان الذي شعرت أنه يطبق على أنفاسها والخجل يكتسح جسدها إكتساها
بات أكثر وسامة من ذي قبل .. ازدادت تلك الملامح الحانيّة التي كانت تُعجبها بين ثنايا ابتسامته !
لطالما كانت تراه شبيهًا بأبيها في حنيّته ، وبوالده عبدالله في شهامته !
ولكنّ رغم ذلك ظل متفردًا بنظرها .. لا شبيه له ولا نظير
صعدت إلى غُرفتها مباشرة متجاهلة ضحكات حامد الساخرة على ملامحها الخجلى
في المجلس كان حاتم يتحدث بجديّة عارمة لزيد :
لا يغرّك يا زيد معاملتي مع أختي .. وأنت فاهم لأني ما كنت أخفي عليك شيء .. لكن أنا هالشيء خارج عن إرادتي
بينما أنت أي شيء بتسويه فيها بيكون بإرادتك
لذلك تأكد ، لو هو مغز إبره وبكت عشانه ما راح أخلي فيك عظم صاحي
أختي تطلع من بيتنا مكروم شانها .. وبتدخل بيتك بذات الشأن وأنا كلي ثقة فيك
هذه ثقة العُمر أسلمها لك ومعها أختي اللي من دمي ولحمي
تنّهد زيد صامتًا لثواني :
هذه الشكليّات ماهي بيني وبينك يا حاتم .. إن شافت أختك منّي الضِر فلها كامل الحق تشتكيك منّي
أنا بعاملها ما يرضى الله ويرضى رسوله ، ولا راح أتصرف إلا بأخلاقي وتربيتي
دخل على كلامهم سيف الذي أردف بذات جديّة ابنه :
وهذا كلامي تعقيبًا على كلام أخوها
-سكت قليلًا حين وقفا وقبّلا رأسه ليعاودا الجلوس-
والكلام لكم اثنينكم يالمعاريس .. وأسمعوني زين
الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم في سورة البقرة
بسم الله الرحمن الرحيم :
" نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ"
نساؤكم ايش ؟ نساؤكم حرث .. والحرث هو الزرع والغرس والنبات ، اللي ما يحيّا إلا بالرعاية ، تحت شمس مضيئة ومايٍ مروّي ، من دون ريح تقتلعها ولا ماي مغمور يقتلها
إذا بغيتوا خلاصة التجربة أسألوا الفلاح في أرضه ، كيف ترعى زرعك ؟ بيجاوبكم كأنه يتكلم عن رعيّته ، عن حبيبته وصديقته
بيمسك جذعها وهو يضحك ، بيتلّمس ورقها بحنان ورقّة ، بيخاف عليها حتى من الهواء الطاير
-أخذ نفسًا عميقًا وهو يقول بحنيّة أب-
كل كلمتين في هذه الآية عبارة عن درس ، درس في العلاقة بين الزوج وزوجته
درس من أول القول وحتى بداية الفعل
درس من حبر توقيعة العقد وحتى نومة الليل
توددوا لهن ، عاملوهن بحكمة ونفس طويل وأتوهن بما يرضي الله تعالى
وإذا خفتو النشوز ، فعليكم بالموعظة وهجر المضجع
واتركوا الضرب آخر الحلول
-ابتسم بعمق وهو ينظر لإندماجهم في كلامه-
بالمقابل ، وفي نفس السورة ! الله سبحانه وتعالى قال
" وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ "
شوفوا سبحان الله ، الحرث هنا مُرتبط بالنسل
بالتولّي ، بالسعي في الأرض ، وبهلاك الحرث والنسل
والله ايش يا عيالي ؟ الله لا يحب الفساد !
فإياكم وإياكم تكونوا مفسدين وتتجاهلوا حرث سُكناكم وأرواحكم
وآخر دعواي ، بارك الله لكم وبارك عليكم وجمع بينكم في خير




-
تقف أمام النافذة متكتفة ، تنظر بحسرة وتوجس إلى الأعمال القائمة في منزل أبيها .. هذا هو الحد الذي سُمح لها أن تصل له
النظر من النافذة وتجرّع التنهيدات الحارقة التي تخرج من فاهها كُل ثانية
شعرت بيدين عبدالمجيد على أكتافها ، ليُشاركها النظر إلى منزل سيف ويشاركها الصمت
قالت بعد فترة قليلة بوجع :
ولا حتى فكّر واحد منهم يعزمني من باب الدّم والقرابة !
مافكروا خواتي يكلموني على الأقل وهم عارفين إني على بُعد مترين منهم
تنّهد عبدالمجيد ليُردف :
ماحد يمنعش حتى لو بغيتي تدخلين لأقصى البيت يا حنان
البيت بيت أهلش ، طالت المأساة ولا قصرت
أدمعت عيناها لتتنهد هي الآخرى :
أدخل عليهم بفرحهم وأقلبها لحُزن ؟ لا والله ما يكون هطا قلبي لو قواني عليها
مسح على يديها نزولًا ليقول بهمس هادي :
سووي اللي يريحش !
التفتت له تنظر إلى عيناه الذابلة ، يبدو أنها أشتغلته بضيقها وجعلته يرفع الحزن على رفّه هو
همست له بإبتسامة :
تسمح لي أزور زينة بنت عمّي ؟ حسب ظني هي موجودة في بيت الجبل !
وأهل البيت كلهم في بيت أبوي
ابتسم عبدالمجيد ليُقبّل جبينها بعمق ثم أتجه نحو السرير :
روحي فديتش مرخوصة ، وإذا رجعتي صحيّني
أنا بقيّل الظهر شوي !
هزّت رأسها لترتدي عباءتها وتحمل حقيبتها ومفتاح سيّارته
التي أتوا بها هُنا قبل أسبوعين ..
خطّت خطواتها نحو الخارج لولا أنها توقفت والتفتت لـ عبدالمجيد الذي يقرأ آية الكُرسي بتمتمة
اقتربت منه بخفة ، انحنت وقبّلت طرف عيناه برّقة ، قُبلة تشابه تلك القُبلات المنثورة بحُب وإمتنان على وجود ذاك الشخص في الحياة
وعبدالمجيد هو فعلًا شخصها المُفضل ، وتؤامها الروحي ولم تندم إطلاقًا على إتمام الزواج منه
حملت نفسها خارجًا لتتجه نحو بيت الجبل وتلتقي بابنة عمّها زينة
-
-
في بيـت الجبل ،
تجلس على طرف السرير " الجديد " تنقل نظراتها نحو الأثاث المجدد بالكامل
إلى الإنارات الرقيقة ، إلى صبغ الجدار الهادي
اختلفت هذه الغُرفة عما كانت عليه إختلافًا جذري ، فجاءتها هدية زواجها من جدها في إشارة واضحة منه لإسترضاءها عن أفعال والدها
تنّهدت بحُرقة ، رفعت نظرها نحو الفستان الأبيض المعلّق أمامها .. فستان هادي جدًا المشغول بالشك ، والمختلط بالحرير
لطالما كان حُلمها فستان منفوش ، وحفل زفافٍ على أطراف منتجعات البحر
لطالما تمنّت أن تُزف بالابتسامة العارمة
برفقة عائلتها الصغيرة ، وبزوج أختارته بكامل رغبتها
ليأتي واقعها محملًا بريح الأسى عازمًا على إقتلاع حُلمها البرئ
فاختارت فستان يضيق على ثنايا جسدها الممشوق
وتنازلت عن حفل الزفاف في أطراف البحر ليُصبح في الجبل
وهاهي ستزف اليوم وحيدة .. بلا أب وأم
مسحت على وجهها لتقول بهدوء هامس :
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
يارب نوّرني ، وريّح قلبي
يارب أنت اخترت لي وأنا رضيّت باللي اخترته !
أعطني القوة على مواجهة الحيّاة الجديدة ، ومواجهة حاتم يارب
سمعت رنين الجرس لتقف بإستغرابها الذي تفاقم ، فمن الذي سيأتي ظُهرًا وجميع أهل البيت في بيت عمّها سيف
زفرّت بخفوت ، لفّت حجابها حول رأسها وخرجت متجهة نحو باب المنزل
أردفت من خلفه قبل أن تفتحه بصوت ثابت :
من ؟
ليأتيها صوت قديم ، صوت قادم من غيهب النسيّان ، صوت كان له كمّ هائل من الذكريّات في قلب زينة ، صوتٌ لطالما تنّعمت أذنها بسماعه ، وسماع نِكاته ، ونصائحه ، وقُبلاته المحبّة :
زينة .. أنا حنان بنت سيّف !
فتحت الباب بسرعة فائقة ، تراجعت للخلف بشهقاته
كانت هي ، كما عرّفت باسمها واسم والدها
يُستحيل أن تنسى هذا الصوت ، وهذا الملمح ! وهذه الإبتسامة الرائعة
وبصورة مفاجئة ، أربكت حنان وأدهشتها
ارتميت زينة في حضنها وهي تحتضنها وتنتفض بدمعها الوجِل
تفاجأت حنان بهذا الإستقبال ورّق قلبها لدمعها الذي يهطل
بادلتها الحُضن سريعًا ، واستنشقت عبق الماضي من بين جُنباتها
هذا هو الحُضن الوحيد الذي حظت به حنان منذ أن عادت
هو الحضن الأول الذي ترتمي فيه وقلبها يرتعد فرحًا
خيّبت زينة ظنون حنان ، لم تُرميها بُشهب عتابها ، ولم ترمقها بحرقة نظراتها
استقبلتها بموجب مراسيم الحُب وقوانين البهجة .. هي كما عرفت زينة دومًا
همست لها زينة بعمق :
وحشتيني ، والله العظيم اشتقت لش
شدّت من إحتضانه ، لتهمس بذات التأثر :
وأنتي والله أكثر !
-ابتعدت عنها وهي تبتسم بصدق ، تبتسم بكامل روحها-
زينة وش أنتي تاكلين طول هالسنين ، يا ما شاء الله تبارك الله
اللي صوّرش بأحسن صورة
قبضت زينة يدها ، شدّتها نحو الداخل لتُغلق الباب خلفها وهي تبتسم بقوة :
نفس الأكل اللي كنتي تاكليه ، علميني وش سرّ هالنضارة حتى بعد ثلاث عيال يارب يحفظهم ؟
ابتسمت حنان بخفة ؛
يبيلي أعلمش أسرار مب بس سر واحد .. هذا أنتي إن شاء الله بتجيبي لنا الحفيد المُنتظر لأول حفيد للعائلة
فترت ابتسامة زينة لوهلة ، لكنّ اليوم روحها سعيدة بقُرب حنان ولن تسمح للكلمات بأن تجرحها :
ولو إني عتبانة عليش ، لش أسبوعين هنا ولا فكرتي تزوريني
نسيتي من زينة يا حنان ؟
قبضت على يدها بقوة ، فلا قوة لها للعِتاب الآن :
والله إني خفت أجيش بهالبيت وأصادف جدي وجدتي
رغم إني مشتاقة لش ، ومشتاقة لهم موت
بس مالي وجه أقابلهم .. أهلي استنزفوا مني كل الطاقة
احتدت نظرة زينة لتنظر لها :
مالش وجه ليش ؟ لا سويتي الحرام ولا العيّب !
ورجعتش بعد هذه السنيّن لازم نهلّي ونرحب بها
تنّهدت حنان بابتسامة عميقة :
خلينا من الترحيّب ، أنا يكفيني الحين إنك استقبلتيني بحُضنش وما صديتيني مثلهم
وخبريّني .. وش تجيهزاتش للعرس ؟
هُنا انمحت تمامًا ابتسامة زينة ، فقُرب الموعد يجعل البرود يكتسيها والتوتر يعتريها !
أبعدت يدها ، ومشت تتبعها حنان إلى غُرفتها الجديدة وهي تُهلّي وتكبّر وتبارك :
ما شاء الله تبارك الله ، الذوق هذا ذوق من ؟ ما أصدق إنه ذوق حاتم
همست زينة بخفوت وهي تجلس على الكنبة التي وُضعت رغم ضيق الغرفة :
جدي !
أردفت حنان بحماس قلبّي حاولت مشاركتها إياه :
وريني فستانش وينه ؟ ووين إكسسواراته ؟
بعدين مستغربة منش .. الساعة 2 ظهر والعروس في غرفتها هي وزوجها للحين
-لتُكمل بمرح-
ما تستحين على وجهش ؟ وين عزيزة عنش ؟
أشرّت زينة بسبابتها إلى فستانها المعلق على الدولاب الكبير
نقلت حنان نظراتها نحوه ، لتعقد حاجبيها لوهلة
هذا الفستان لا يرقى لأن يكون " فستان عروس " ولا يليق بمستوى زينة في قلب هذه العائلة .. وأيضًا
ما بال هذا الحُزن المتكوم في عينيها .. والمرتسم على ثُغرها
جلست بجانبها وهي تضع كلتا يداها على ظهر كفها
وتُهمس بهدوء جاد :
زينة أنتِ مغصوبة على أخوي حاتم ؟


انتهـى ♥


الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-05-22, 12:04 AM   #48

Salma_3_

? العضوٌ??? » 421124
?  التسِجيلٌ » Mar 2018
? مشَارَ?اتْي » 197
?  نُقآطِيْ » Salma_3_ is on a distinguished road
افتراضي

الحمدلله زيد مامات 😩❤

عبدالرحمن يعني طلع مو مس اللي فيه ! ؟

متحمسة لبارت العرسس 💃

NON1995 and الكاديّ like this.

Salma_3_ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-05-22, 09:05 PM   #49

غدا يوم اخر

? العضوٌ??? » 5865
?  التسِجيلٌ » Apr 2008
? مشَارَ?اتْي » 1,157
?  نُقآطِيْ » غدا يوم اخر is on a distinguished road
افتراضي

القصه جميله والبارت الاخير عاطفي اخيرا شفنا حنان اما زواج زينة فعلا زواج غصب
ودي اعلق اطول بس مااقدر وودي اني معلقه بعد كل بارت قريته قصه جميله ومشوقه واسلوب رائع
سلمت يدك


غدا يوم اخر غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-05-22, 09:14 PM   #50

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة salma_3_ مشاهدة المشاركة
الحمدلله زيد مامات 😩❤

عبدالرحمن يعني طلع مو مس اللي فيه ! ؟

متحمسة لبارت العرسس 💃


مسكين عبدالرحمن من قال إن اللي فيه مس 😂🕺🏻
بسوي نفسي متحمسة معاك 🕺🏻

Salma_3_, NON1995 and تايست like this.

الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:53 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.