آخر 10 مشاركات
ومضة شك في غمرة يقين (الكاتـب : الريم ناصر - )           »          [تحميل] مهلاً يا قدر ،للكاتبة/ أقدار (جميع الصيغ) (الكاتـب : Topaz. - )           »          داويني ببلسم روحك (1) .. سلسلة بيت الحكايا *متميزه و مكتملة* (الكاتـب : shymaa abou bakr - )           »          الفرصة الأخيرة (95) للكاتبة: ميشيل كوندر ...كاملة... (الكاتـب : سما مصر - )           »          38 - ضحية الاخرين - روزانا مارشال - روايات عبير الجديدة (الكاتـب : samahss - )           »          7 - شهر عسل مر - فيوليت وينسبير - ع.ق ( كتابة / كاملة )** (الكاتـب : أمل بيضون - )           »          جنتي هي .. صحراءُ قلبِكَ القاحلة (1) * مميزة ومكتملة* .. سلسلة حكايات النشامى (الكاتـب : lolla sweety - )           »          448 - لن أعيش في ظلك - ميليسا جايمس(عدد جديد) (الكاتـب : بلا عنوان - )           »          عن الحكيم إذا هوى (1) *مميزة و مكتملة*.. سلسلة في الغرام قصاصا (الكاتـب : blue me - )           »          485 - قلب يحتضن الجراح - كارا كولتر ( عدد جديد ) (الكاتـب : Breathless - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

Like Tree129Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 20-07-22, 02:52 AM   #1

چورية

? العضوٌ??? » 505085
?  التسِجيلٌ » Jul 2022
? مشَارَ?اتْي » 40
?  نُقآطِيْ » چورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond repute
افتراضي رواية شقاء الأفئدة *مميزة ومكتملة*














السلام عليكم أنا هاجر حمدي أقدم لكم روايتي الأولى شقاء الأفئدة
تدور أحداث الرواية عن الأعراف المنتشرة في معظم البلاد وإن كنت قد جعلتها تدور في نطاق صعيد مصر لتقوية حبكة الرواية.
الرواية اجتماعية انسانية في مزيج رومانسي، أناقش بها بعض المواضيع الأخرى غير الأعراف سنتعرف عليها خلال سير الأحداث.
انتظر آرائكم جميعها. 🙈❤

مواعيد النشر يوم الأحد من كل اسبوع الساعة الحادية عشر مساءً بتوقيت القاهرة مصر
.


روابط الفصول

المقدمة .. المشاركة التالية
الفصول 1 - 7 .. بالأسفل

الفصول 8, 9, 10 نفس الصفحة
الفصول 11, 12, 13 نفس الصفحة
الفصل 14, 15,
الفصل 16
الفصل 17 الأخير











التعديل الأخير تم بواسطة ebti ; 02-02-23 الساعة 12:33 AM
چورية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-07-22, 03:09 AM   #2

چورية

? العضوٌ??? » 505085
?  التسِجيلٌ » Jul 2022
? مشَارَ?اتْي » 40
?  نُقآطِيْ » چورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond repute
افتراضي

المقدمة
كلنا عاشق، كلنا يحب، و كلنا خفق قلبه بلذة الحب و لو لمرة بالعمر، لكن من منا حصل على حبه؟ من منا لم يتلظىٰ بنيران الهجر والنجوىٰ؟ من منا لم يناجي معشوقه في الليل؟ ومن منا حصل على كل مراد قلبه؟!
من وصل قبل الآخر؟ ومن كاد يصل وعند الدرجة الأخيرة سقطت قدمه للهاوية! ماذا سيحدث إن فقد القلب دقة من دقاته بسبب معشوقه؟


هاجر حمدي


چورية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-07-22, 03:44 AM   #3

چورية

? العضوٌ??? » 505085
?  التسِجيلٌ » Jul 2022
? مشَارَ?اتْي » 40
?  نُقآطِيْ » چورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الأول
منذ استيقظت وهي تدور كالنحل في خلاياه، دخلت غرفة طفليها ماجد وسيف لتوقظهما، ماجد كان أكبرهما ونعم مساعد لها رغم حداثة سنه، طفلها الذكي يشبه والده للغاية في ملامحه الجذابة، أما الصغير سيف فقد كان كسول، بعد أن أعدت طاولة الطعام، وقفت تستند عليها وهي تصيح بصوتها الموسيقي:
-ماجد، سيف، هيا عزيزاي، الفطور أُعد.
خرج ماجد من غرفته وشقيقه -كانت يمين الصالة- يحمل بكفه حقيبة ظهره من رأسها، قال باحترام:
-صباح الخير أمي.
أجابت تحيته بابتسامة شقت وجهها الطفولي بعض الشيء:
-صباحك موّرد بنيّ، أين شقيقك؟!
أجابها بتأفف:
-يكمل ارتداء ملابسه في الغرفة.
بعد قليل خرج سيف من نفس الغرفة وهو يجرّ حقيبته أرضًا، وسأل أمه بتذمر:
-لمَّ أيام العُطل قليلة هكذا يا غرام؟!
تكفل ماجد بالرد، مستاء من تصرفات شقيقه:
-تأدب يا سيف، ولا تنطق اسم والدتك مجردًا هكذا.
-ماذا؟ ألم يسموها غرام عندما ولدت؟!
رفعت غرام رأسها تنظر نحو طفليها بعد أن كانت تهتم بجمع متعلقات العمل، فصدمها منظر سيف المبعثر، هزت رأسها بغير رضا عن مظهره؛ لتقترب منه وهي تهتف:
-بالله عليك كم مرّة سأعلمك كيفية ارتداء الملابس؟!
ابتسم سيف باتساع وهو يرى اهتمام والدته به، يفتخر بنفسه كثيرًا، أليس آخر العنقود ويجب تدليله، فُتح باب الشقة فجأة؛ ليدلف منه شاب أنيق وهذا لم يمنع إجهاد ملامحه، رددت غرام تحيته بلحنها الخاص :
-يجب أن نقول لك " تصبح على خيّر ".
ابتسمت عيناه استجابة لمزحها، ودق قلبه استجابة لشجن صوتها الذي يفعل به الكثير، كاد يرد لكن الزوبعة الصغيرة المسماة بـــــ " سيف " انطلق نحو قدمه لينحني ويقبله، ثم رفعه عاليًا قائلًا بعشق خالص للصغير:
-صغيري المتذمر دائمًا، كيف الحال؟
انحنى الصغير على أذنه يخبره بهمس:
-لقد ظلت تسبيح مستيقظة لوقت متأخر من الليل، ولم تخلد للنوم بعدما وَلَيّنا جميعًا إلى الفراش.
نظر له من بين أهدابه بشك وسأله:
-حقًا، هل عصيت كلامي مجددًا؟
صرخت غرام ولم تفقد نبرتها رونقها المنغم:
-سيف، ماذا تفعل أنت؟ تنقل الكلام، ألا تعلم أن الفتنة أشد من القتل، اليوم أنت معاقب.
فهتف بتذمر منهزم:
-لا أمي؟!
قالت بتشفي أم عربية أصيلة :
-بلى، والآن هيا كي تتناول فطورك.
نظر سيف لأبيه يستنجد به، فأسقط كتفيه وهو يخبره بانهزام:
-ألا ترى ملامحها، ستأكلني إن اعترضت يا بني، و بالفعل لديها حق، لا تفتن مرّة أخرى.
فهتف سيف بقوة منفعلة، وقد أصبح وجهه كحبة طماطم ناضجة:
-وكأنك لم تقل يوم أمس أن أخبرك هل نامت تسبيح مبكرًا أم لا؟!
اخترق صوت صغيرها أذنها و هي منحنية تجمع متعلقات العمل بالحقيبة لتتسع عينيها بشكل مبالغ فيه، ثم أطلقت رأسها لأعلى تنظر له بصدمة حقيقية، لتقول بهمس كمن يوشك على الإصابة بذبحة صدرية:
-ما.. ما... ماذا؟
لتصرخ فجأة كمن لدغ بعقرب سام:
-هل تمزح يا مروان؟! تحرض سيف لينقل الأحاديث، خيبتِ بك كبيرة.
انكمشت ابتسامته بينما انسحبت للمطبخ بعد أن وجدت نفسها في حاجة للهدوء، أنزل سيف أرضًا ونظر لماجد الذي يكتف ذراعيه منذ دخوله، ووجهه متجهم بشدة، فقال مروان بفظاظة لشعوره بالغضب من نفسه:
-وأنت ماذا عنك؟
فرّد الآخر ويديه في خصره، ووجهه لا يزال متجهمًا:
-لمْ تحيني يا أبي.
انبسطت ملامح مروان، وهتف بمشاعر مثقلة:
-اقترب يا فتى، لأحيّك كما ينبغي.
༺༻
دلف للمطبخ ووجدها تقوم بلف الشطائر لوضعها في حقيبتي الطفلين، راقبها بهدوء دون اصدار صوتًا؛ فمثل هذه اللحظة لا تتكرر كثيرًا، انتهت من عملها ولا يزال ينتظرها دون ملل، لتستدير وتراه واقفًا ولم تتفاجأ بوجوده، ابتسم لوجهها الجميل وعبّر عما يجيش بصدره بكلمة واحدة "آسف"، رفرفت بأهدابها كرفرفة فراشة ناعمة وبأقدام تناغش فؤاده المتيم، لتبتسم أخيرًا بهدوء ينم عن تسامحها، لينتعش قلبه المسكين بين ضلوعه.
༺༻
دلفت خارج المصعد الكهربائي لتتجه صوب شقتها مسرعة لقد عاد زوجها من العمل مبكرًا، وضعت المفتاح في دائرته لتجد باب الشقة المقابل يفتح وتخرج منه سيدة أربعينية، استدارت لتقابلها، وقالت مرحبة ببسمة زينت وجهها الصبوح :
-مرحبًا أمي، كيف حالك؟!
اخبرتها المرأة وهي تشير لشقتها بهدوء:
-بخير، زوجك في الداخل، هيا ادخلي.
كلماتها الفاترة لم تزعجها، لقد اعتادت على والدة زوجها منذ زمن بعيد، فقالت :
-حسنًا أمي، و لكن أنا سأذهب لأعداد الطعام سريعًا.
فقالت السيدة بصرامة أزعجتها:
-أريدك أولًا يا ملاذ.
رغم تأخرها لكنها لم تعترض وسارت خلفها، جلست بجانب زوجها الذي يجلس ويعقد ذراعيه أمام صدره، وضعت يديها المضمومتين في حِجّرِها، لتتحدث السيدة زينب قائلة:
-والآن أخبروني لمَّ لمْ تذهبا للطبيب ؟!
عندما وجدت زوجها ما زال على تجهمه، فأجابت وهي تحاول المراوغة:
-لا يوجد وقت يا أمي، إنها انشغالات العمل.
تحدثت زينب بانفعال:
-ألا تستطيعوا تفريغ أنفسكم يوم واحد، لا أطلب الكثير أنا!.
تكلم زوجها أخيرًا ليجيب على والدته:
-حسنًا يا أمي سنفعل.
-متى؟! أريد ميعاد محدد يا أنس.
تنهد وقال بفتور:
-قريبًا يا أمي قريبًا.
تنهدت زينب بتعبٍ من الجدالِ، وعلمت أن لا حاجة لها به.
༺༻
بعد أن تناولا الطعام، جلست بين ذراعيه يتابعان برنامج تليفزيوني فكاهي، وحديث زينب يأكل رأسها، لا تعلم أين الصواب؟ هل تصر على زوجها في أمر الذهاب للطبيب أم تترك الأمر للخالق، لتقول بهمسٍ حتى لا تضيع جمال اللحظة:
-متى سنذهب للطبيب يا أنس؟
أجابها بخفوت هو الآخر، ولكن حازم حتى ينهي الأمر:
-عندما أجد الوقت المناسب.
رفعت رأسها تنظر له عن قرب، وسألته بهدوء:
-هل أفهم من ذلك أنك غير راغب بالذهاب؟
-نعم ، أنا غير راغب بهذا يا ملاذ، هلا صمتي؟!.
كادت تتحدث، ولكنه قاطعها قائلًا بتشديد:
-أرجوكِ يا ملاذ، لا أريد الحديث الآن، وإلا اشتكيتكِ لسيادة اللواء.
-لا تهددني بأنك ستخبر أبي في كل شيء لا يهواك.
أسرع بالرد ولا تزال عينيه معلقة بشاشة التلفاز :
-إذًا اصمتي.
نظرت له غير مطمئنة لصمته وعدم اهتمامه، يلعب داخلها شك بأنه زار الطبيب بالفعل دون علمها وأخبره بأنه غير قادر على الانجاب أو ما شابه، صمته وراءه شيئًا عظيم!
* *
دلفت للمنزل بعد يوم مرهِق للغاية، جسدها يئن ألمًا لإهمالها الدائم في الطعام، ولاحظت كل من جدتها وابنة عمها ذلك، لا أحد يعلم معاناتها الداخلية، صراعات تتوالى بين شد وجذب، هذه هي بعد كل خذلان تتعرض له، وظهر ذلك بوضوح بعد وفاة والدها وزواج أمها بعده، أخذت وقت طويل حتى تنهض على قدميها من جديد، وعندما تماسكت بعد صدمتها في أمها، تحدت نفسها قبل الجميع، وأصبحت الطبيبة رهف، طبيبة نفسية حاصلة على ماجيستر في ذوي الاحتياجات الخاصة، تدربت في أعلى المراكز وأصغرها، حصلت على دورة في علم النفس الايجابي والصحة النفسية، حاصلة على دورة في الإرشاد والتحليل النفسي، دورة في تطبيق المقاييس النفسية وطريقة تصحيحها وتفسيرها، دورة إكلينيكية لتشخيص الأمراض وعلاجها، وغيرها من الدورات ذات الشهادة المعتمدة وغيرها دون ذلك، جاءها اتصال هاتفي من ابنة عمها لترد:
-مرحبًا يا غرام، كنت أفكر بكِ الآن.
لترد غرام بنغمة مميزة:
-مرحبًا يا غالية، لعله خير إن شاء الله.
لتقول رهف بحب:
-كل خير حبيبتي، أين أنتِ؟
لتقول غرام:
-في العمل، أين جدتي ميسون؟ اتصلت بها ولم يجمع معي.
أخبرتها رهف بهدوء:
-لابد أنها في مشغلها المحبب، حيث لا يوجد إشارة للهاتف هناك.
صمتت قليلًا ثم قالت بترو:
-لا داعي للقلق غاليتي.
لم تحصل رهف إلا على "حسنًا " مضطربة، وغمغمة بإغلاق الاتصال.
༺༻
كانت تجلس تحيك قطعة من الكروشيه على المكينة، وحولها الفتيات في كل مكان، صاحبة فكرة المشغل كانت رهف بعدما تقاعدت، نصحتها بهذا حتى لا تشعر بملل المنزل ووجدتها فكرة رائعة، وجاءت غرام بالمكان وأصبحت تورد إليها الزبائن والقطع عن طريق معارضها المنتشرة، فغرام ورثت عنها هذه الموهبة ونمتها حتى أصبحت ذات اسم بارق في ميدان العمل، جاءها اتصال لتخرج وتجيب على غرام:
-مرحبًا، كيف حالك يا ابنتي؟
ليصلها صوت غرام المَشُوبٌ بالقلق:
-أين أنتِ يا جدتي؟ لقد أقلقتني عليكِ بشدة.
ردت الجدة بصبر، على علم بطبع حفيدتها القلق:
-أنا في المشغل حبيبتي، لما القلق؟!
ضعف صوت غرام بنبرة كمن توشك على البكاء:
-حسنًا جدتي، فقط كنت أريد الاطمئنان.
لتسألها الجدة بتفهم:
-ماذا بكِ يا ابنتي؟
اجهشت ببكاء خفيف، لتخبرها:
-أريدك جدتي، أريدك بشدة.
-إذن لتأتي إليّ حبيبتي.
لتقول غرام:
-سآتي بالطبع سآتي، يجب أن أتِ.
༺༻
خرجت من مكتبها متوجهة نحو مكتب رئيس التحرير، دخلت بكل عصبية بعدما استأذنت:
-هل يمكنني معرفة لما ألغي موضوعي من النشر يا أستاذي.
خلع المعْنِيّ عويناته بهدوء، وتحدث:
-وماذا في هذا؟! لم يكن هذا أول موضوع يلغى نشره، الكثير من المواضيع يلغى نشرها.
أخذت نفس عميق قبل أن تقول:
-نعم، لكن ليس موضوع كهذا.
-قُلت لكِ من قبل أريد مستند أستند عليه، حتى لا يأتي الغد واضطر لنشر اعتذار، هذا سيسوأ اسم الجريدة، ونجلس جميعنا في منازلنا.
تنهدت ببطء، والشر يترنح بين كلماتها :
-لكنني متأكدة من هذه المعلومات، رئيس هذا التنظيم يعد عدته للوصول للأراضي هنا.
استمر المدير علي سماجته قائلًا:
-أين المستند؟ أنت تضعينا في مواجهة قوة أكبر منا بكثير، تتحدين أقوى جهاز في الدولة!
༺༻
وقفت في منتصف أحد معارضها الذي أفنت عمرها كي تصل له، تذكرت أول لقاء لها مع زوجها الحبيب كانت في بداية مشوارها الطويل، شابة في مقتبل العمر، وقلبها الأبيض كان في عمر الزهور، عديمة الخبرة تمامًا في سوق العمل، عندما تم سرقتها علانية، حيث خرجت لتوقع عقد امتلاكها لأول مكان لعرض تصميماتها الأولى، استلمت العقد الذي كانت تنظر له نظرة انبهار، وكأنها تقف أمام فارس أحلامها، لتستيقظ في اليوم التالي لتجد السراب يداهم عينيها.
عندما قال لها في نهاية مطاف يوم حافل بالتحقيقات:
-آسف، لكن القانون لا يحمي المغفلين.
وعندما لمح الانكسار داخل عينيها أضاف:
-لا أقصد إهانة.
بالطبع لم يقصد إهانة، نظرت له بنصف جفن وذهبت تكتم داخلها صرخة قهر موجعة.
انفجرت في نوبة بكاء فظيعة عندما عادت للمنزل، حتى جاءت الجدّة ميسون لتدخلها في أحضانها، ولم تنس كلامها حتى الآن، فأخبرتها يومها:
-اسمعيني جيدًا بنيتي، مادام قررتِ الخروج لسوق العمل فعليكِ بالتحلي بالشجاعة، أنت ما زلتِ في البداية، لا تنظري لي هكذا، نعم إنها البداية وليست غيرها، هناك من سيهدمكِ كي لا تقفي أمامه أو تصعدي فوقه، وهناك من سيهدمكِ لمجرد الهدم وليس إلا، الأول والثاني هم غير قادرين على النجاح فسيسعون لتدميرك، أما من يحبك حقًا هو من يهدمك لكي تقفي على قدميكِ من جديد حتى تتغلبين على الأشرار المتربصين لكِ في الأنحاء، والفرق يكون خيط رفيع جدًا وعليكِ أن تجديه، عليكِ أن تتحلي بالإصرار، الإصرار على النجاح والوصول والتماسك وتحقيق الذات، تقدمي للأمام دون النظر خلفك، فمن يريدونك بجانبهم سيصلون إليكِ آجلًا أم عاجلًا.
ابتسمت يومها باهتزاز يشوبه بعض من القلق، فمسدت الجدة علي رأسها وهي تكمل:
-ستقعين وتنهضي، لتسقطي مرّة أخرى؛ لتنهضي أقوى من سابقتها، ستمرين بصعوبات ستقولين عنها إنها النهاية حتمًا؛ لتفاجئي بأنك كنتِ خاطئة، ستتعقد وكأنها لن تحل أبدًا، ثم يشاء الله لتقفي بقوة لن تتخيلي يومًا أنك تملكينها.
و الآن هي تقف تنظر لنتيجة شقاءها والبسمة تزين شفتيها الكرزيتين وهي تتذكر ذلك اليوم، أين كانت وكيف أصبحت؟
༺༻
بعدما وصلت منزلها بعد شجارها مع رب عملها، لقد سهرت واجتهدت لتكتب ذاك المقال الذي سينشر باسمها لينضم إلى سلسلة إنجازاتها الناجحة في عالم الصحافة، لقد بنيت اسمها في هذه المهنة بصعوبة، لكن الفشل ليس فشلها، بل خطأ زوجها الذي يتدخل بعملها، هكذا هي وجهة نظرها، والحقيقة تقال السيد المدير لديه كل الحق، لقد قام زوجها من قبل بمطالبة مديرها باعتذار رسمي ويكتبه نفس الصحفي الذي نشر الخبر، وبالطبع هذا الصحفي لم يكن غيرها، وتتذكر يومها الشجار الذي أقيم بينهما، وبعدها تركت المنزل، لكن والدها أصر على عودتها بعدما تأكد من خطأ ابنته ، و يومها كانت قد اطلعت على أوراق مهمة ، وكتبت موضوعها الصحفي الذي كان بمثابة الشرارة التي اشتعلت في جميع محافظات الوطن، استفاقت من شرودها عندما خرجت من المصعد الكهربائي تمشي بخيلاء وأناقة، ودخلت الشقة لتجد هاتفها يعلن عن اتصال، لترد:
-مرحبًا يا كارم.
ليرد الطرف الأخر:
-مرحبًا أيتها الجميلة.
ابتسمت بحنو وقالت:
-كيف حالك أيها الوسيم؟
رد كارم بعد قهقهة رجولية أنيقة:
-بخير حال، طمأنيني عنكِ.
ضغطت على شفتيها حتى لا تتفوه بحماقات، لكن لسانها أبى الصمت:
-إن كنت تريد الاطمئنان عليّ لجئتني، ماذا تريد؟ أعطيني ما لديك.
قهقه مرّة أخرى، ليجيب:
-لن تتغيري يا ملاذ، تحدثي بأدب يا بنت!
ضحكت هي الأخرى، و هي تقول:
-هل ستنكر يا كارم أنك تتصل لمصلحة؟!
وصلها صوته الحنون وهو يقول :
-لمَّ أتعب نفسي بالحديث معكِ؟ على العموم كنت أتصل حتى تتحدثين مع أبي بشأن العروس الذي يصر عليّ أن أتزوجها، أبي مصر هذه المرة بشدة ولا يرد مني أي رفض.
فقالت مستفهمة :
-وهل جلست مع العروس؟
أجاب بنبرة بائسة، في الحقيقة شديدة البؤس:
-فعلت يا حبيبتي، إنها من هؤلاء الفتيات التي لا يشغل عقلها غير آخر صيحات الموضة، والسفر ولا شيء غير ذلك، تافهة وساذجة، وتظن نفسها محور الكون، لو تعلمي كيف أن إحدى صديقاتها تغار منها، الحقيقة أنهن جميعهن يغارن منها بشدة.
كتمت ملاذ غيظها، وبعد انتهاءه اندفعت قائلة:
-والله أنتم الرجال لا نعرف كيف نرضيكم، إن اهتممنا بأنفسنا وتطلعنا للموضة والأزياء وغيرها نكون تافهات، ولو كنا نهتم بعملنا و ذوات سلطة وحصلنا على المراتب العليا في العمل نصبح نحن سبب في أن تنظروا خارجًا.
لم ترى ملاذ كارم وهو يبعد الهاتف عن أذنه وينظر له بصدمة من تحولها في لحظة، بعد أن أرجع الهاتف على أذنه سألها:
-ملاذ، هل تشاجرتِ مع أنس ؟
ردت بعصبية وهي جالسة على الأريكة بعد أن خلعت حذائها:
-ليس بعد، لكن أحضر له مشاجرة طويلة.
وصلها صوته الضاحك يقول:
-يا بنت أرحمي الرجل ! لو كنت زوجتي لكنت أطلقك.
تحدثت بقنوط:
-لما لا تكرر جلستك مع هذه البنت مرة أخرى، لربما تظلمها.
عاد البؤس يرسم صوته و يقول:
-لا لن أكرر الجلوس مع هذه " الميوعة ".
ضحكت ملاذ هذه المرة من قلبها وهي تقول:
-يا بني هل تريد الزواج من "عبد السميع ".
قال كارم بجدية:
-الميوعة لها حد يا ملاذ، ها أنتِ جميلة وأنيقة وتهتمي بالموضة وهذه الأشياء، لكنكِ تتقدمين في عملك، ولم يأكل رأسك إلا الموضة، الموضة، والموضة!
تنهدت وردت :
-حسنًا ، فهمت، يبدو أنها من التافهات حقًا.
وصلتها ابتسامة الراحة في صوته:
-إذًا، هل ستتحدثي مع سيادة اللواء؟
ابتسمت قائلة:
-حسنًا.
༺༻
استيقظ على صوت هاتفه يرّن بإزعاج ، أمسك به ورد على الرقم الغير مسجل، ليأتيه الصوت العميق ذو الهيبة:
-الرائد مروان الباشا معي؟!
ليرد مروان بنعاس واضح:
-أجل، من معي؟!
ليأتيه الصوت العميق:
-معك المقدم شريف، اتصلت بك بأمر من سيادة اللواء عصمت، سيادة اللواء يريدك غدًا في مكتبه.
هب مروان جالسًا عندما بدأ المتحدث كلامه، و تحفزت كل عضلة في جسده، وارتسمت الجدية على ملامحه وكأنما الرجل أمامه وليس يتحدث له عبر الهاتف، وأخيرًا أجاب بتهذيب:
-عُلم وينفذ يا فندم.
بعدما انتهت المكالمة أخذت أفكاره تطيح برأسه قليلًا، فيما يحتاجه سيادة اللواء يا تُرى! و جاءت احتمالات كثيرة في رأسه، لكنها مستبعدة كلها، ثم نفض الأمر عن رأسه، وأمسك بهاتفه تصفح مواقع التواصل الاجتماعي وفتح صفحته الشخصية، دخل على الصفحة الخاصة بأعمال زوجته وتصاميمها وهناك منشور أدلت فيه بأن آخر تصاميمها على وشك الانتهاء، و هناك الكثير والكثير من التعليقات التي تطلب و لو نبذة عنه، وقعت عينيه على تعليقها المراوغ الشقي التي تقول فيه أنها كان بودها أن تطلعهم على تفاصيل، لكنها للأسف شريرة، وزيلته بصورة لأحد المشاهير، يعلم أن الصفحة بها الكثير من المديرين العاملين معها في المحلات التابعة لها، ورغم ذلك يعرفها ويميز منشوراتها و تعليقاتها يحفظ كل شاردة وواردة منها عن ظهر قلب، طريقة حديثها، أسلوبها المراوغ، حبها للقراءة بطريقة تجعله يحب القراءة رغمًا عن أنفه، صوتها الذي يجعل من ضربات قلبه موسيقى لحفل جاز، الحقيقة أسرع حفل جاز عرفته تاريخ هذا النوع من الموسيقى، رفع رأسه من الهاتف ونظر لآخر تصاميمها، وهو عبارة عن فستان ربيعي من الشيفون الارجواني تم تفصيله على ماكينتها الغالية، ومنذ يوم أمس وهي تقوم ببعض الرتوش اليدوية، كان فستان رائع بتلك الورود الرقيقة الصغيرة التي تزين أسورة معصمه، والثنايات الرائعة على صدره بطريقة هفهافة، لينزل منسدل حتى النهاية، فكر في كون تصاميمها دائمًا محتشمة تجعله يقع في حبها من جديد، نفض عنه أفكاره وخرج من الغرفة يتفقد الشقة، رأى ظهر شقيقته في المطبخ وهي تحضر بعض الشطائر، وهناك صوت يحدثها، يقول :
-وماذا ستفعلين الآن ؟
رأى شقيقته تهز كتفيها و هي ترد :
-لا أعلم، لكنه هو من استفزني، كيف له أن يسخر مني أمام الطلاب جميعًا، إن كان غير راضٍ عن حضوري ليطردني ولن أتحدث، لكنه سخر مني لذلك تركت المحاضرة وخرجت،
عندما اقترب علم أن صوت المتحدث هي ابنة عمه وصوتها جاء من الهاتف صارخة:
-كيف يا مصيبة تفعلي ذلك؟ هل تودين الجلوس في الكلية بقية عمرك؟
ضحكت بملء شدقيها وهي تقول:
-لا تقلقي، تعلمين أني مسيطرة على الأوضاع دائمًا.
جاءت نبرة الأخرى بشك:
-كيف مسيطرة لا أفهم؟
قهقهت وأجابت:
-عندما سأل عن اسمي لم يرد أحد، وهدد ولكن لم يرد أحد أيضًا.
جاءت ضحكتها وهي تقول:
-يا لكِ من محظوظة، لكن أحذري من المرّة القادمة، إنها السنة الأخيرة لكِ اجعليها تمرّ على خير يا تسبيح، ألا تريدين النفاذ بجلدك يا فتاة .
تحدث مروان وقال بخشونة من أثر النوم :
-يا لكما من ثرثارتين و تجمعتما، مرحبًا يا إيمان ألا يوجد لديكِ عمل.
ضحكت إيمان قائلة :
-صباح الخير يا " شق "، أنا لا يوجد لدي غير العمل، حيث المدرسة في الصباح، وتحضير الدفتر في المساء.
صدر عن مروان قهقهة رجولية، وقال :
-يبدو أنكِ مُعلمة ناجحة تراعي ضميرها .
ضحكت إيمان وقالت:
-يبدو ذلك والله.
بعد أن أنهى الحديث مع إيمان وأغلق معها، استدار لتسبيح التي بدأت بقضم أول شطيرة من العديد من الشطائر، فقال رافعًا حاجبه:
-ماذا تفعلين؟
ردت بعد أن بلعت ما في فمها من طعام:
-أتناول فطوري.
ثم قضمت قضمة كبيرة من نفس الفطيرة التي قاربت على الانتهاء؛ فتراجع بتوجس وما يزال رافعًا حاجبه، ثم قال :
-تتناولين فطورك أم تتناولين فطورك وفطور الأصدقاء!
مال عليها وهو يلف يده حول كتفها، و بالأخرى تناول شطيرة من طبقها، وقال:
-الطعام سيقضي عليكِ يومًا ما.
ابتسمت وهي تقول :
-ورغم ذلك سأسامحه، لأني أعشقه كثيرًا، أذوب فيه .
قال بصدمة :
-لم ينقص غير أن تتغزلين به .
قالت بإصرار :
-سأفعل .
لكنه ضيق عينيه متذكرًا، و هو يقبض عليها من ياقة ملابسها البيتية، وكأنما تربص بمجرم هارب ونجح بضبطه، وسأل بنبرة تحذيرية خطيرة:
-كم مرّة تحدثت في موضوع نومك في وقت متأخر، ولا تكذبي، أعرف أنكِ نمتي متأخرة، كما أنكِ تتناولين فطورك الآن وأنتِ تستيقظين وأول شيء تفعليه هو ملء معدتك التي لا تشبع أبدًا.
ابتسمت بجذل، وقالت :
-هذه المرّة كنت أفعل شيئًا مفيدًا.
تهكم و هو يهزها :
-منذ متى وأنتِ تدّرين بالفوائد علينا؟!
قالت بحنق:
-كنت أصنع بعض من الزينة والألعاب اليدوية لأطفال الميتم، تعلم الجمعة القادمة هي يوم اليتيم .
تذكرّ بالفعل، وهذه المرة تحدث:
-هذه أخر مرّة تنامين في وقت متأخر ، وإلا أتصل بالحاج أبي عمران الباشا ليأتي ويُعلمك النوم في التاسعة .
ابتسمت بزهو، وهي تقول :
-أبي الحبيب سيدللني، هو يحبني ولا يحزنني .
ضيق عينيه وهو يقول بخطر استشعرت به في نبرته :
-إذًا أنا من سيحزنك يا تسبيح .
وقفت على أطراف أصابعها وطبعت قبلة قصدت أن تكون على خده، لكنها استقرت على فكه بعدما مال قليلاً لتصل له، ولكنه ارتسم الجدية العابسة حتى قالت:
-اتركني يا أخي، أنت تقبض عليّ كما يقبض على سارق الملابس المنثورة في ليلة بائسة .
كاد يبتسم و يتركها، لكنه شدد قائلًا :
-لا سهر بعد اليوم .
أومأت مبتسمة بحب، وكررت بموافقة :
-لا سهر بعد اليوم .
ليتركها، و يدخل يستحم؛ لكي يجلس معهم قليلًا، ويعود لعمله .
༺༻
-يا أبي دعه يختار شريكة حياته بنفسه، لم يعد صغيرًا، كارم يحتاج للوقوع في الحب أولًا.
قالتها ملاذ لأبيها بعد أن دعته لتناول الطعام هو وكارم، واستغلت تأخر هذا الأخير للحديث مع والدها في موضوعه، أخذ أبيها فترة حتى أجاب:
-هل هو من جعلكِ تتوسطين عندي يا غالية قلب أبيك؛ ليتنصل من العروس التي جئته بها؟
ابتسمت ملاذ، وقالت:
-يا أبي لم يعد أحد يخطب لأحد، هذا الزمن غربت شمسه منذ أمد، وكما أنك لم تفرض علينا أي شيء طوال حياتك، الآن وبعد أن كبرنا تريد أن تفرض عليه شيء! وفي هذا الأمر أيضًا، لقد قالوها في الأمثال يا أبي " كل شيء بالمشاجرة، إلا الزواج بالاتفاق " ، يا أبي دعه يفعل ما يريد ويتزوج من يريد .
ضيق والدها عينه وقال:
-هل قال لكِ أنه يحب إحداهن؟
ضحكت ملاذ قائلة بحب:
-لا لم يقل يا أبي ، ولم اسأله ، لكن أنا أقول دعه يختار من يريدها زوجة له، إنه النصيب يا أبي، وعندما يناديه نصيبه سيلبي النداء، كما قالوها أيضًا في الأمثال "عندما يأتي القدر يعمى البصر".
قال الأب بفتور:
-كنت أريد الاطمئنان عليه لا أكثر .
ابتسمت بجمال ولهفة، وقامت تجلس على يد مقعده تحتضن كتفيه وهي تقبله فوق شعره، وقالت بعشق خاص بأبيها:
-سلمت لنا يا أبي، ستطمئن، بإذن الله ستطمئن.
و أراحت وجنتها على أعلى رأسه والابتسامة تزين محياها، ليبتسم الأب أخيرًا بحنان وقال:
-أين زوجكِ؟ كل هذه مكالمة؟
-زوجها هنا يا سيادة اللواء .
قالها أنس وهو يدخل من الشرفة، وجلس قائلًا وهو يشير للواء:
-لقد كان المقدم شريف يقول أن سيادتك تحتاجني غدًا في مكتبك.
هز اللواء رأسه متفهمًا، ليرّن جرس الباب فتقوم ملاذ قائلة:
-بالتأكيد كارم وصل.
وبالفعل كان كارم الذي دخل من الباب بهيبة و ضخامة، فاحتضنته ملاذ قائلة:
-مرحب بك يا حبيب أختك.
قال كارم بإغاظة:
-أين الطعام ؟ أنا جائع يا بنت.
انتفضت ملاذ بقوة شاهقة، وقالت:
-حالًا يكون الطعام جاهز، رغم أنك من تأخر.
فضحك في أثرها، وقال:
-على مهلك يا بنت، أنا أناكفكِ فقط.
واستقبله أنس مرحب به، وسلم كارم على والده قائلًا بمزاح:
-كيف حال عروسي المائعة؟!
فاحتدت نظرة أبيه وهو يقول :
-أي عروس هذه بعد ما أخبرتني ملاذ به!
فضحك كارم، وقال :
-يا أبي، بالله عليك، كيف في هذا السن وفي هذا العصر تخطب لي؟ ماذا سيقول زوج أختي عني؟
واعتدل محدثًا أنس:
-ماذا ستقول يا أنس بما أنك زوج شقيقتي؟!
فقال أنس ممازحًا:
-فتى غر لا أكثر، لكن لا يا أبا نسب، أخرجني من هذا الموضوع أرجوك؛ فسيادة اللواء حازم ومتشدد جدًا، سأدخل أنا لأساعد ملاذ، المنزل منزلكم طبعًا.
فقال كارم:
-طبعًا يا بني اذهب.
وبالفعل ذهب لملاذ التي كانت منهكة في التحضيرات الأخيرة، ليحتضنها من الخلف و يطبع قبلة على وجنتها اللينة-والتي تزعجها بجنون- هذه المجنونة التي تكره صفات الجمال بها، لكنه يحبها بكل جنونها، وقال بحب:
-حجزت الجمعة القادمة موعد لدى طبيبة نسائية لنجري الفحوصات.
كادت اللهفة تسرق نظرها وهي تقول:
-حقًا يا أنس؟
ابتسم أمام بريق عينيها الخاطف، وقال بعذوبة وصوت رخيم:
-حقًا يا قلب أنس.
ابتسمت وقالت بلهفة:
-إذًا سنحضر حفل دار الرعاية نهارًا، ثم نذهب للطبيبة، أنا واثقة من أنه مجرد تأخير في رزق الله وليس إلا.
قبل وجنتها مرّة أخرى، و همّ الاثنان معًا بإخراج الطعام على الطاولة.
༺༻
في يوم جميل ظهرت الشمس متهادية بخيلاء، تفرش أشعتها هنا وهناك، استيقظ متجهم الوجه كعادته دائمًا، خرج من غرفته وألقى بتحية عابسة على شقيقيه، ليدخل ويغتسل و يتجهز، وعاد يجلس على منضدة الطعام وهو في مزاج غير رائق، فتحدث الشقي الصغير:
-ماذا يا حازم؟!
فقال حازم باقتضاب:
-ماذا؟!
فقلب الآخر عينيه وقال متهكمًا:
-لا يا حبيبي، لا يوجد شيء، كنت أسأل متى تنوي على الضحك والابتسام بعيد الشر.
سأل حازم ببرود:
-وهل يوجد ما يدعى للابتسام؟!
فقال متمسكًا بتهكمِه:
-فقط نحن أخوة، في صباح يوم جديد مشرق، نحب بعضنا البعض، أي أن لا يوجد داعي للابتسام مطلقًا.
فقال حازم وكأنه يقر بما قاله الأخير:
-مادام لا يوجد داعي، لمَّ ابتسم؟ تناول طعامك يا فريد، تناول طعامك واصمت.
فتدخلت شقيقتهما الوسطى:
-لا تتهكم على صغيري حبيب أخته يا فريد، ولا تنزع صباحه.
صدرت عن فريد ضحكة كادت تخنقه وهو يكتمها، تلقى توبيخ صارم من حازم محمل عبر نظرة مرعبة، لذلك صمت ولا تزال ابتسامة عابثة تظلل وجهه، واستدار حازم لإيمان التي تضع له الطعام في طبقه، ليمسك بيدها ويطبع قبلة أخوية على ظهرها وقال شاكرًا:
-سلمت يداكِ.
أتسعت ابتسامتها وهي تقول:
-سلمت لي من كل شر.
ليعزف فريد على الكمان الوهمي بين يديه، ويخرج من فمه صوت يدل على مدى رومانسية الأمر، وقال:
-سأجلب لكما كوبين من الليمون الطازج، وسأكون أنا الشجرة.
ضحكت إيمان وأضحت عينيها كخطين رفيعين، وحمرة انفعال ضحكها يزين وجهها البهي، ولذلك لم يوبخ حازم شقيقه على مزحته السمجة، وإنما ارتفعت زاوية فمه بابتسامة ملتوية، صغيرة لا ترى، وبعدها قال فريد:
-سأذهب أنا لطائرتي حتى ألحق بموعد الإقلاع، حتى لا يأتون بكابتن آخر غيري، هذه الرحلة ستستغرق أسبوع وسأعود سريعًا؛ لأرابط على قلبكما كما السابق.
هبت إيمان واقفة، تلحق به وهي تهتف وراءه:
-انتظر يا فريد، انتظر.
فوقف مكانه مستديرًا إليها، يقول:
-سأتدثر بالغطاء جيدًا، ولن أرميه وأنا نائم -رغم أن كلمة أرميه رقيقة جدًا على ما أفعله به- لكن سأفعل، وسأرتدي الملابس الثقيلة، ولن أخرج من مكان دافئ لآخر بارد، رغم أني لا أعرف كيف أفعل الأخيرة، ولكنني حافظ كل وصاياكِ، هل نسيت شيء؟!
ابتسمت بحنان قائلة بعدم اقتناع علي إنه كبُر بالفعل وأضحى رجلًا لأن يأخذها على قدر قلبها الصغير:
-أن تتغذى جيدًا يا خفيف الظل، وأن تنفّذ هذه الوصايا كلها.
ابتسم بحب ومال يقبل جبهتها:
-حسنًا جميلتي.
ثم أكمل ملوحًا لحازم في الخلف :
-سلام يا كبيرنا، لا تنسى أن تعبس دائمًا في غيابي.
رفع حازم يده و قال بخشونة تداري تأثره:
-في رعاية الله يا جلف.
ابتسم فريد وخرج تاركًا وراءه إيمان يظلل الدمع عينيها ويأبى النزول ككل مرّة يذهب فيها فريد لعمله، وحازم المتجهم ينظر في ظهرها، وتحدث بصوت جهوري:
-ألن تتناولين فطورك يا إيمان.
رجعت إيمان لمقعدها، وتدبرت ابتسامة جميلة، وقالت:
-والآن تناول فطورك بمزاج رائق، كما ستفعل كل يوم لمدّة أسبوع.
ابتسم لها، فاسترسلت:
-هلّا أوصلتني لدار الرعاية في طريقك؟
أومأ بصمت، فأكملت طلبها كمن يتوجس خفية:
-وسنمر على تسبيح نأخذها معنا.
رفع حاجبًا، واقترب منها وهو يشير لها لتقترب وكأنما سيبوح لها بسر عظيم:
-ألا تعرفين أن كل طلباتك مجابة يا إيمان!
نظرت له بحب وشعورٍ آخر أكثر عمقٍ، وقالت بصوت ذاهب متأثر:
-سلمت لي يا عظيم قلب أختك.
ابتسم أمام عيناها الجميلتين الصغيرتين السمراوين، ونظر لشعرها القصير المتراقص فوق كتفيها، وقال ويشير له:
-ألن ترحمي شعرك، وتدعيه ليطول؟
ملست على شعرها، وملست أطرافه قائلة:
-لا... أحبه هكذا.
رسم اللامبالاة على محياه بحركة من فمه المذموم، ورفع حاجبيه معًا.
༺༻
وقفت تسبيح أمام مرآتها في غرفتها تقوم بتمشيط شعرها الأحمر الطويل، طويل للغاية، يصل حتى خصرها، عقصته خلف رأسها، تنهدت وهي تلف حجابها وتتأفف قائلة:
-شعري هذا سيكسر ذراعاي في أحد الأيام، طويل وخشن الملمس حتى يكاد يشك أصابعي مثل الإبر.
وبعد أن ثبتت أخر دبوس في غطاء رأسها، تنهدت مرة أخرى وقالت تحدث صورتها في المرآة :
-لكن الكثيرات يتمنون هذا الشعر، وهذا النمش الجميل.
قالتها وهي تلمس نمشها على وجهها، كانت دائمًا متصالحة مع نفسها وتقبلت نفسها كما هي دون الالتفات لسخافات وتنمر الكثيرات كما زرع فيها شقيقها الكبير، تحب مساوئها ومميزاتها، ببساطة تحب نفسها وشكلها، ضاقت جانبا عينيها في ابتسامة لذيذة، وهي تمسك بالهاتف بعد أن سمعت تنبيه أحد برامج رسائل التواصل الاجتماعي، لتجد رسالة من ابنة عمها إيمان تخبرها بوصولها ، فضربت بأصابعها على شاشة هاتفها تكتب:
"أطلبي سيارة أجرة، واصعدي لننتظره".
لتصلها رسالة أخرى :
"لا أنزلي الآن، حازم معي، وسيقيلنا في طريقه".
نظرت للهاتف بوجوم وقلق، ثم حملت حقيبة ظهرها، وحقيبة بلاستيكية كبيرة، وخرجت من الغرفة فوجدت الحقيبة الأخرى التي أعدتها سابقًا بجانب الباب، فقالت بصوت عال:
-يا غرام أنا ذاهبة، سأمر على الدار قبل الجامعة.
أتاها صوت غرام من المطبخ:
-ألن تتناولين فطورك؟!
فقالت بحزن:
-لا، لأن إيمان متعجلة تريد اللحاق بالحصة الثالثة، هيا وداعًا.
جاءت غرام قائلة:
-حسنًا، هيا لأساعدك في حمل الحقائب.
ابتسمت لها تسبيح بعد أن تخلصت من خف المنزل وارتدت حذاء رياضي يتماشى مع طقمها النهاري، فاستقامت تطبع قبلة على وجنتها، وتحدثت:
-سلمتِ يا غالية يا زوجة الغالي.
ابتسمت غرام، وحملا الاثنان الحقيبة الأخرى، ووضعوها في المصعد، توجهت تسبيح ترّن جرس الباب المقابل لتخرج شابة جميلة ذات عيون عسلية خلابة ، فسبحان من أبدع، فقالت تسبيح تحدث الشابة:
-هيّا يا تقى تأخرنا، والعابس تحت ينتظرنا، وسنسمع كلام يكفينا شهر لهضمه.
قالت تقى ضاحكة، وكأنها معتادة على هذا:
-حسنًا أيها المشاغبة، دعيني فقط أسلم على غرام.
وأثناء سلام الفتيات وصلتها رسالة من إيمان:
" إن لم تنزلي حالًا، سيقوم حازم بشنقك يا ( سيدة الحسن والدلال )".
برقت عينيها بذعر حقيقي، وهي تصرخ:
-هيّا يا تقى، سيسود نهاري.
لتسرع تقى تدلف داخل المصعد تقول:
-حسنًا، حسنًا، ها أنا دخلت.
وأغلقت تسبيح باب المصعد بسرعة، لتبدأ رحلة النزول.
༺༻
كانت إيمان تجلس في المقعد بجانب شقيقها، تدندن ببعض اللحن الشجيّ، صوتها به شجن يجعلك تنسى الهموم، رغم أن صوتها لم يكن على نوتة موسيقية، ولكنه يملأك شعور بالطفو، الطفو فوق كل شيء! هكذا كان يشعر حازم وهو جالس بجانبها، حتى ملت كثيرًا من انتظار "سيدة الحسن والدلال" كما يناديها حازم دائمًا بتهكم عابس، وفكرت في إرسال رسالة وقامت بكتابة:
"إن لم تنزلي حالًا، سيقوم حازم بشنقكِ يا ( سيدة الحسن والدلال)"
كانت ستكتب سيقوم العابس بشنقكِ، لكنها تراجعت وزيلت اللقب الذي يناديها به، لتزيد من مقدار الرهبة قليلًا، كم أنها شريرة حقًا! قبضت إيمان على شفتيها بعبث وتكاد أن تنفلت منها الضحكة.
نظرت نحو باب الxxxx الذي تسكنه، لتجدها تخرج مع تقى، وتحملان معًا حقيبة كبيرة، لتقول إيمان بضجرّ:
-أخيرًا نزلتا.
نظر حازم نحو الباب ليفتح باب السيارة و يترجل منها يحمل عنهما الحقيبة بلباقة، وبيد واحدة، وبمنتهى السهولة أيضًا، وقال لتقى:
-كيف حالكِ يا آنسة تقى؟
ردت تقى بهدوء:
-بخير يا حضرة الرائد.
لتقول تسبيح بارتباك ملحوظ:
-سأجلب حقيبة الزينة والألعاب من الداخل، وهرولت بسرعة نحو الداخل لتجلب الحقيبة، ثم ظهرت بها مرة أخرى وهي تلق السلام على حارس الxxxx بمرح كعادتها، لكن هذه المرة مرح مرتبك، وذهبت نحو حازم الذي وضع الحقيبة الأخرى في حقيبة السيارة وقالت بمدراة لارتباكها:
-هل يوجد مكان لهذه أيضًا؟
نظر لها من تحت نظارته الشمسية، و رسم الانزعاج وهو يمد يده ويأخذ الحقيبة ويضعها بجانب الحقيبتين الأخيرتين، وذهبت نحو باب السيارة وفتحت بابها، فنادى حازم بتهكم:
-يا سيدة الحسن والدلال!
ادارت وجهها في الجهة الأخرى تتأفف بصمت تطلب الصبر والعون من الله، ثم وجهت وجهها نحوه بابتسامة مدبرة بصعوبة قائلة:
-نعم.
فقال بهدوء:
-الحقيبة التي على ظهرك.
نظرت له بعدم فهم، وتساءلت:
-لم أفهم، ماذا بها؟!
نظر لها مطولًا بتعبيرها المضحك، ثم قال وهو يشير لحقيبة ظهرها:
-الحقيبة التي على ظهرك.
فهزت رأسها بنفي مبتسمة بعدما فهمت ما يشير إليه، فقالت:
-لا هذه حقيبتي أنا.
ثم دلفت السيارة ببساطة، بنفس البساطة التي أغلق بها حقيبة السيارة فأفزعت الفتيات داخلها، وبنفس البساطة التي أطلق بها زفرة حارة حانقة، قبل أن يدور حول السيّارة ليركبها وينطلق بها مخلفًا وراءه ذرات تراب كادت تستغيث!
༺༻
الآن السيارة تحملهما معًا و... فقط!
هو يقود عابس الملامح، وتجلس هي بأدب كتلميذة مهذبة، بعدما أوصلهن للدار، انتظرهن بعد أن أنزل الثلاث حقائب التي أخذوها منه حرّاس الأمن لداخل دار الرعاية، انتظرت تقى سيارة عامة خاصة بعملها في شركة السياحة التي تعمل بها، بينما أوصل شقيقته لمدرستها لتلْحق بحصتها، فلم يتبقى غيرها بجانبه، رّن هاتفها، لترد:
-مرحبًا!
وصله صوت المتصلة:
-مرحبا! كنت أتصل أشكرك على الأشياء الجميلة التي صنعتِها للأطفال، وأيضًا على الملابس.
فردت عليها بتوبيخ:
-العفو يا حبيبتي، هل تظنيها لكِ؟ إنها من أجل الأطفال يا رهف، أم أنكِ سرقتيها؟!
ردت رهف بحرج:
-لا، كنت فقط أود أن أشكركِ.
فقالت تسبيح بتهكم:
-لا تشكريني يا "باربي حينا الفاتنة".
ولم تلحظ النَفَس الحار الذي خرج متنهدًا بجانبها في تنهد عابر، أو أنه كان يقصد ذلك، في حين ينطق داخله "أي فاتنة تلك؟ وهل توجد من تنافسكِ فتنة؟".
قالت رهف بحرج:
-حسنًا، سأغلق الآن.
فهتفت تسبيح بسرعة:
-انتظري، هل تضايقتِ مني؟ تعلمين أني لا أقصد، بالتأكيد اعتادتِ عليّ.
ابتسمت رهف وقالت:
-بالطبع حبيبتي، لكن عليكِ أنتِ أن تعذريني هذه الأيام.
فتساءلت تسبيح :
-ماذا بكِ يا حبيبتي؟ هل بسبب هذا الشخص التي كنتِ واقفة معه؟ هل تحتاجين مساعدة؟ أستطيع ردعه..
مرة أخرى لم تلحظ الشفاه المرتفعة تهكمًا مع صوت داخلي مصاحب "بالله عليكِ! أتحسبين نفسك مجاهدة في إنقاذ الناس من شرور الناس" كان الصوت هذه المرة نزق أقرب لسخرية حادة، لكنه يبقى صوت داخلي، أي عته هذا!
وصله صوت رهف قائلة:
-لا حبيبتي، عندما أريدكِ، سأطلب مساعدتكِ بالتأكيد، هيا الآن لدي عمل كثير في الدار.
قال الصوت الداخلي "تستحقين، وتستحقين لكمة في أنفكِ، وعقلكِ البائس هذا".
فقالت تسبيح ببساطة، ردًا على رهف:
-حسنًا، إلى اللقاء.
اغلقت، واستدارت للمقعد الخلفي تجذب منه حقيبتها وأخرجت شطيرة، فنظر لها بطرف عينه، لتقسم الشطيرة بينه وبينها، ومدّت يدها له، وقالت بحرج:
-هذه من المفترض أن تكون من نصيبك كلها، بعدما أنهينا أنا والفتيات على باقي الشطائر، لأنك لم تأخذ واحدة مثل البقية، لكني تعاطفت مع نبرة صوت رهف، وأنا عندما أتعاطف أجوع، فسآخذ نصفها.
التوت شفتيه فيما يشبه ابتسامة، وقال:
-تناوليها كلها إن أردتِ، أنا لست جائع.
فقالت بحزم:
-لا والله، ستأكلها أنت، هذه نصيبك، كما أنك ستلتهم أصابعك خلفها، فالشطائر التي أحضرها أنا مختلفة لذيذة للغاية.
مجددًا الصوت الداخلي "ستكونين أنتِ ألذ عندما تحملين اسمي".
بينما عوضًا عن ذلك قال متفاجئًا، وسخرية طفيفة تزين نبرته:
-حقًا؟ وما الذي يجعلها،..
صمت يستحضر لهجتها بسخرية أكبر:
-مختلفة ولذيذة للغاية.
زمت شفتيها قائلة:
-لا تسخر مني، وتذوقها واحكم.
راقب تعبيرها وقال:
-حسنًا.
أخذها من يدها وقضمها وهي تنظر له بترقب، ورغم أنه تناول فطوره فعلًا ولم يكذب، ورغم أنه لم يشعر بالجوع، إلا أنه كان يتناول الشطيرة بجوع، وكأنه جوع لها فقط.
عندما وصلا لجامعتها بسلام بدون أيةِ حوادث تُذكر أثناء تواجدهما معًا، نزلت قائلة:
-شكرًا لك.
الصوت هذه المرة كان يشوبه تمني حار، وعاطفة جياشة تكاد تسحق أضلعه:
"كنت أتمنى أن أنال شكر من نوع آخر".
نظر لها وبدت وكأنها تنتظر رده، الجلف العابس لن يتغير يومًا، لكنها بعد ذلك ابتعدت تنادي:
-يا إبراهيم، انتظر يا بني.
وبعدها لم يسمع شيء، ولكنه رآها تُخرِج من حقيبتها دفتر تناوله للمدعو إبراهيم، وبدى وكأنها تشكره، ولم يلاحظ يده التي انقبضت على عجلة القيادة بشدة، حتى ابيضت مفاصلها.
༺༻
منذ أن علمت من حديث تسبيح وإيمان أنه قد تسلم رحلة جوية في عمله وهي تشعر بشعور سخيف، وعندما أدركت أنها لن تراه حتى يوم الجمعة القادمة في حفل اليتيم، وقد ازدادت دقات قلبها بطريقة تكرهها بشدة، لقد كرست حياتها لعملها وفقط، لم تعد تلك البريئة البراقة الملونة، التي يخطفها سلطان الحب، لم تعد تلك التي تدمن قصص الصبابة والهوى، رغم أنها ما زالت تعشقها، لم تعد تنتمي للعالم الوردي الذي كانت تحاوط نفسها به، لقد سقطت من فقاعتها إلى أرض الواقع الصلبة حينما دق قلبها مرة، ولا تظن أنها سوف تدعه يدق ثانية، خيط الدموع الرفيع الذي تكوّن على وجنتيها بعد أن أطبقت جفنيها على كرتي العسل فمحته بقوةٍ وعدوانية ملحوظة، أدركت أن الحب يصلح أن يكون بين دفتي كتاب من كتب الحكايات التي تبدأ " يحكى أن عن بطل مغوار ..."، و يبدو أن هذا البطل لم يكن له شبيه على أرض الواقع! أدركت هذا مؤخرًا، بعد أن توجعت ولم يسلم قلبها، لذلك تشعر بالاستياء من نفسها؛ لأنها عادت لتشعر بهذا الشعور... اللذيذ والسخيف جدًا حقيقةً، وهذه القبضة التي تمكنت من صدرها بعدما علمت بسفره، ألم تكن مُحصّنة؟! ألم تبني قلعة شاهقة الارتفاع حول قلبها لتحمي نفسها من الألم مجددًا؟ يبدو أنها بَنتها من ورق، أو من حبات الرمال، ليأتي فريد ويحطمها بسهولة بقبضة يده، لا بل بنظرة من عينيه الجميلتين، والساحرتين! وبابتسامته التي بهجة لقلبها، ومغازلته لها بخفة وخفية، لا لم يحطمها بعد لا زالت في المنطقة الآمنة، هكذا فكرت مع حركة رأسها الصامدة لأعلى، لكنها تخشى أن تنزلق للخطر، وسيكون انزلاقها سريع، شديد السرعة بهذه الدقات التي هربت منها منذ أن علمت بسفره لتترك قلبها بهذا الانقباض، لكن هذا جيد سفره بعيدًا عنها جيد للغاية، انتبهت لأن سيارة العمل التي تضم الكثير من الموظفين توقفت، لتقوم و تتوجه لعملها.
دخلت بأناقتها تلقي تحية واجمة على الشخص الوحيد في الغرفة، أخرجت بعض الأعمال من مكتبها لتراجعها قبل تسليمها للمدير، سمعت الرجل الجالس أمامها يناديها بنبرةٍ معذبةٍ:
-تقى!
رفعت رأسها ببطء، بعد أن لمعت القسوة في عينيها، وظلل الشر ملامحها، وقالت بنبرةٍ هادئة حد الخطورة:
-أستاذة تقى، أو آنسة، و لا تتجاوز الحدود مرّة أخرى، لقد حذرتك قبل ذلك كثيرًا.
تحدث والعذاب يعتلي ملامحه:
-أسمعيني فقط يا تقى.
تكلمت من تحت أسنانها بصعوبة مع تنفسها الثقيل بسبب الغضب:
-لا أريد السماع لك أبدًا، ولا أود رؤيتك من الأساس.
كاد يتحدث مرّة أخرى، ولكن دخول زميلتهما وهي تتحدث لتقى منعه:
-هناك وفد قادم من كوريا صباح الغد، ستتولين أمره يا تقى.
نظرت لها تقى وأومأت غير قادرة على الحديث بعد هذا الكم من تلف الأعصاب.
༺༻
انتهى الفصل الأول.
قراءة سعيدة.
تدقيق هالة عماد "بائعة اللطف".
مراجعة شيمو أبو النجا.


چورية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-07-22, 02:05 PM   #4

قصص من وحي الاعضاء

اشراف القسم

 
الصورة الرمزية قصص من وحي الاعضاء

? العضوٌ??? » 168130
?  التسِجيلٌ » Apr 2011
? مشَارَ?اتْي » 2,558
?  نُقآطِيْ » قصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond repute
افتراضي




اهلاً وسهلاً بك بيننا في منتدى قصص من وحي الأعضاء ان شاء الله تجدين مايرضيك موفقة بإذن الله تعالى ...


للضرورة ارجو منكِ التفضل هنا لمعرفة قوانين المنتدى والتقيد بها
https://www.rewity.com/forum/t285382.html

كما ارجو منك التنبيه عندما تقومين بتنزيل الفصول على هذا الرابط
https://www.rewity.com/forum/t313401.html

رابط لطرح اي استفسار او ملاحظات لديك
https://www.rewity.com/forum/t6466.html


حجم الغلاف رجاءً يكون بمقاس 610 × 790






نرجو الالتزام بحجم الفصل المطلوب ضمن القوانين

15صفحة ورد بحجم خط 18





واي موضوع له علاقة بروايتك يمكنك ارسال رسالة خاصة لاحدى المشرفات ...

(rontii ، um soso ، كاردينيا الغوازي, rola2065 ، رغيدا ، **منى لطيفي (نصر الدين )** ، ebti )



اشراف وحي الاعضاء



قصص من وحي الاعضاء غير متواجد حالياً  
التوقيع
جروب القسم على الفيسبوك

https://www.facebook.com/groups/491842117836072/

رد مع اقتباس
قديم 20-07-22, 04:16 PM   #5

چورية

? العضوٌ??? » 505085
?  التسِجيلٌ » Jul 2022
? مشَارَ?اتْي » 40
?  نُقآطِيْ » چورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الثاني
بعدما شاهدها أخيرًا تدلف لداخل جامعتها بعد أن تحدثت مع معظم الواقفين أمام بوابة هذا السرح، حرك سيارته وهمّ يجري اتصالًا، جاءه صوت ابن عمه:
-مرحبًا حازم، كيف حالُك يا رجل؟!
سأل باقتضاب، متجاهلًا سؤاله:
-كيف لشقيقتك بأن تُاحدث الرجال؟
وصله صوت مروان صائحًا باندهاش:
-ماذا حدث؟ هل رأيتها تفعل شيء خاطئ؟
تحلى بالصبر وهو يجيب:
-نعم، لقد كانت تثرثر أمام الجامعة مع هذا وذاك، وإبراهيم ويا بني وما شابه...
رد مروان بشك:
-هل كان هناك تجاوزٍ من أي نوع؟
رد بعد أن صمت برهة:
-تجاوز في الحديث لا أكثر، وطريقة غير لائقة بالتحدث مع رجل غريب.
قال مروان متفهمًا:
-آه ، حسنًا فهمت، سأتحدث مع تسبيح، رغم أنني أثق بها أنها لا تفعل شيئًا خاطئًا، ماذا تفعل أنت الآن؟
رد حازم باختصار :
-لقد دعاني اللواء عصمت في مكتبه داخل مبنى القوات.
رد مروان باستغراب:
-حقاً! وأنا أيضًا تم دعوتي.
-كيف هذا؟!
رد مروان على سؤال حازم المندهش بنبرةٍ لا تقل اندهاش عن حازم:
-لا أعرف، لكنني في طريقي إلى هناك، هل تعرف ماذا يحدث؟
رد حازم بلامبالاة:
-سنعرف بعد قليل.
༺༻
في قاعة الاجتماعات في مبنى القوات، دخل المقدم شريف ليجد كل من الرائد أنس والرائد تيم، ليقول:
-مرحبًا بكما، سيحضر اللواء بعد قليل.
ابتسما الاثنان في تفهم، في هذه الأثناء دخل حازم قائلًا:
-مرحبًا سيادة المقدم.
ليقول شريف بوّد وهو يعرّفهم ببعضهم:
-مرحبًا يا حازم، هذا يا شباب الرائد حازم...
وكاد يستطرد وهو يشير نحو أنس عندما دخل مروان الغرفة، فغير المقدم شريف حديثه:
-ها قد جاء رابعكم، كيف حالك يا مروان؟
مروان ببشاشة:
-بخير يا سيادة المقدم.
تمت عملية التعريف بنجاح، ورحب الجميع ببعضهم، وبعد قليل دخل اللواء ودعاهم للجلوس؛ ليتحدث اللواء أخيرًا:
-بالطبع تتسألون عن سر استدعائكم إلى هنا، أرى هذا على وجوهكم وفي عيونكم، وخاصة أنت يا أنس.
ابتسم أنس ونظر له تيم بابتسامة مماثلة، ليكمل اللواء:
-بالمناسبة أنس زوج أبنتي، لكنه يجهل سبب الاستدعاء مثلكم تمامًا، أردت أخباركم بهذا منذ البداية؛ لأنكم ستتعاونون لفترة كبيرة في هذا المقر تحت قيادة المقدم شريف.
ازدادت علامات الاستفهام على وجوه الأربعة الآن، ليقول اللواء مستكملًا:
-مروان لقد استشهد شقيقك وهو يهاجم تنظيم كبير، دخل البلاد وحاولنا الامساك به وكدنا نصل له، لكنه غادر الوطن بعد استشهاد شقيقك، ولم نعلم عن مكانه إلا الشهر الماضي وما نعلمه هو دخوله أرضنا خلال بضعة أيام، وهناك عمل له في البلاد، لكننا ما زلنا نجهل أي معلومات عنه، حتى اسمه لكن عندما يصل هنا سنعرف بوصوله من مصدر موثوق.
احتدت ملامح كل من مروان وحازم مع كلام اللواء، ليسأل تيم بصوت جهوري:
-ما هو المصدر الموثوق منه؟ وكيف لا نعرف اسمه ولا أي شيء عنه هكذا؟
تكلم اللواء مجيبًا:
-لا يمكن البوح باسم المصدر، لكن كيف نجهل عن هذه المعلومات؟ هذا التنظيم كبير جدًا، وهذا المصدر لم نستطع زراعته إلا في مناصب كبيرة ولقد حدث ذلك بالصدفة، لمراقبتنا لبعض الأشخاص المشكوك بهم؛ لنعرف بعلاقتهم مع هذا التنظيم، والمطلوب منكم هو أن تتعاونوا أربعتكم من الآن للإيقاع بكبير التنظيم بسرية تامة، وتكتم تام، فلقد قمت باختياركم جميعًا وتلمست كفاءتكم، فلا تخذلوني، لا يوجد فرص للخطأ، والمقدم شريف سيسهل مهمتكم كثيرًا.
نظر الأربعة لبعضهم البعض، ثم تحدث مروان:
-هناك بعض الأسئلة التي تدور برأسي، يجب طرحها ...
قال اللواء مقاطعًا:
-أمام كل منكم ملف بكل صغيرة و كبيرة توصلنا لها عن هذا التنظيم، أمامكم يومان لتأكدوا لي استعدادكم.
قال مروان باندفاع:
-أنا على أتم الاستعداد من الآن سيادتك.
ابتسم اللواء، وقال بحنكة:
-ومع ذلك ستقرأ الملف، وسنجلس معًا على هذه الطاولة مرّة أخرى بعد الغد.
كاد مروان أن يتحدث مرّة أخرى، لكن يد حازم الحاسمة التي ربتت على كتفه أوقفته.
༺༻
بعد مغادرتهم مكتب اللواء وصلوا مركز عملهم، جلسا معًا فقال تيم:
-ماذا الآن يا صديقي؟
ارتشف أنس من كوب قهوته، وقال:
-ماذا؟!
فقال تيم موضحًا:
-أقصد هل سنعمل في هذه القضية؟ منذ متى ونحن ندخل طرف آخر بيننا في مهمة؟
تحدث أنس وقال:
-يبدو أن اللواء متيقن من نجاحنا معًا.
واستطرد أنس يقول بمزاح:
-على عملك يا سيادة الرائد، لا وقت للكلام.
نظر له تيم بتفكير، لا يعلم بما يفكر صديقه.
༺༻
ارتدت السماء ثوبها الأسود المرصع بحباتٍ من النجومِ البراقة، حيث المشتاق و الولِه و النجوى في القلوب تدحض أي شعور بالخواء، جلست إيمان في فراشها تفتح ملفه الشخصي ككل ليلة، تنظر لصوره باشتياق، تناجي قلبه الذي لا ريب في أنه دفنه تحت الرماد، تتذكر هذه الصورة جيدًا وماذا كان يفعل حينها؟ وكم شجار افتعله، لو تعلم أن الفراق هو نهاية حبها لما كانت تفتعل كل هذه المشاجرات بينهما، لقد اشتاقت له كثيرًا، لقد كتب الفراق على قلبها قصائده من الشوق والنجوى واحترق وجدانها بينهما، ليت الأيام تعود، ليتها فقط!
كيف تجعل xxxxب الساعة تعود لزمن بعيد، لكانت مصانة الآن، تعلم أن ابن عمها كان يحبها، ليس حب جارف مدمر كما كانت تظن أنها تحب هذا النذل، لكنها كانت ستصان، كانت سيكون لها الولد والسند، كان سيراعيها بحبه ودفئه، كان سيحفظها كما حفظ زوجته وبعدها عن كل لسان يطولها كما فعل مع غرام!
༺༻
أطلت الشمس بحياء غير سخيّ، فإنها أجواء إبريل بداية حياء الشمس البسيطة تظهر نتف السحاب ببساطة تزين صفحة السماء كلوحة بديعية، ابتسمت وهي ترى أجواء الحفل الذي أشاد الجميع ببهجته، لقد وقف فريق كامل من الدار على قدم وساق لهذه الترتيبات التي خرجت غاية في الروعة، وكل تحت إشرافها، ولقد ساعد الكثير من قاطني هذا الحي الراقي الخاص بقوات الشرطة، إيمان وتسبيح وتقى الثلاثة كُنّ لهم فضل كبير في تجهيز الملابس ووضعها في حقائب لتبدو جديدة لعين الأطفال، تسبيح هذه الفتاة رائعة، جاءت بكثير من شباب الجامعة إلى هنا، وسيأتون في هذا اليوم أيضًا إنها الدار الوحيدة في هذه المنطقة الراقية، شاهدت من بعيد دخول غرام مع زوجها وأطفالها، وركض الصغير سيف نحو إيمان المبتسمة لتحمله هي بقوة وضحكة رغم جلجلتها الخافتة، وهو يصرخ بعلو صوته:
-عمتييييي.
لتتسع ابتسامة إيمان بجمال وهي تقبْلّه قائلة بحب وحنان:
-يا حبيب عمتك وروحها أنت.
ليتعلق الصغير بعنقها، في حين اقترب ماجد لتحتضنه وهي متشبثة بسيف الذي لا يترك عنقها، لتقول:
-اشتقت إليك يا ماجد، كيف حالك صغيري؟
ليرد ماجد بابتسامة رائعة:
-بخير حال يا عمتي.
لتمسح على شعره بحنو، وتضع ذراعها حول كتفه، اقتربت غرام منهم على استحياء كعادتها ويخلفها مروان الذي قال بمرح:
-مرحبًا يا عمتي.
لتضحك إيمان تقول متخصرة:
-نعم يا حبيبي، مَن عمة مَن؟ إن كنت قد تزوجت مبكرًا لأنجبتني.
ثم ترحب بغرام:
-كيف حالك يا غرام؟ كيف تحييّ بجانب هذا الزوج؟
ضحكت غرام، لتنغم من بين شفتيها:
-أنا بخير، وأنتِ حبيبتي؟
ابتسمت إيمان قائلة:
-كما تريني بخير.
اقترب مروان منها وقبل رأسها، هذه عادته معها منذ فترة وتعلم جيدًا لماذا اتخذ هذه العادة التي تشعرها بالزهو، ولكنها في ذات الوقت تريد إخباره أنها لم تكن حزينة أبدًا مما حدث قديمًا!! سألها مروان:
-أين لوحيّ الجدار المسميين بأشقائك؟
ابتسمت قائلة:
-لقد ذهب حازم ليستقبل فريد في المطار.
قال مروان بتهكم:
-أعانكِ الله على عقول أشقائك يا فريد يا أخي.
ضحكت إيمان، وابتسمت غرام معتذرة بالانسحاب:
-بعد إذنكما، سأذهب لأسلم على رهف.
قالت إيمان سريعًا تعفيها الحرج:
-تفضلي حبيبتي.
ليقول سيف الذي ما يزال تحمله إيمان:
-سآتي معكِ لأسلم على رهف.
لتنزله إيمان أرضًا برفق، ويركض قبل والدته فذهب لرهف، والتي نزلت على عقبيها تداعب وجنته وتحتضنه بحب وتشم رائحته الدافئة، ليقول متذمرًا:
-كفى يا رهف، ماذا تفعلين؟
لتقول رهف بمداعبة :
-ماذا يا سيف؟ لقد اشتقت إليك يا ولد.
قال سيف بنزق:
-وأنا أيضًا اشتقتُ إليكِ، لكني لا أفعل ما تفعلينه.
لتقول رهف بعند:
-وهذه طريقتي للتعبير عن شوقي لك يا كتلة من السخف.
ضحك ماجد بقوةٍ، والذي كان يقف معها قبل مجيء والدته وسيف بعد أن استأذن مروان، والذي أشار لها بتحية عسكرية سريعة صامتة من بعيد لتبتسم له، وقفت لتحتضن غرام التي وبختها:
-كيف حالكِ يا رهف؟ تتجاهلين اتصالاتي، وتهملين صحتكِ وطعامكِ أيضًا.
ابتسمت رهف وهي تشدد من عناقها، وهمست:
-تجاهلت اتصالاتك حتى لا أسمع تقريعك هذا، لكني اليوم على استعداد لسماع كل توبيخ، فقد انتهت كل الترتيبات.
ابتعدت غرام وعينيها تضيقان بشرٍ، وأكملت تقريعها:
-ولماذا أوبخك؟ لمَّ لمْ تنتبهِ لطعامك ِوصحتكِ يا فتاة؟
قهقهت رهف بأنوثة قائلة:
-حسنًا، حسنًا سأنتبه من الآن فصاعدًا.
༺༻
عندما غادرت زوجته وعينيه تراقبها، لتضحك إيمان وهي تضرّب صدره قائلة:
-أتعلم بدأت أشك بأن غرام صنعت لك عملًا عند أحد الدجالين، ما هذا الحب يا بني؟
ابتسم مروان بخجل رجولي، وهو يقول ضاحكًا:
-سيحبك زوجك المستقبلي هكذا أيضًا.
فقالت إيمان ممازحة:
-ومن قال لك أنني سأتزوج من الأساس.
رأتهم من بعيد تسبيح التي كانت تحمل بعض أواني الطعام لتضعه على المنضدة لتقترب منهما، وخرجت ورائها تقى بحقيبة بها بعض الألعاب لترى إيمان تتأبط ذراع مروان وتبتسم لتسبيح، ورأت من مكانها دلوفه مُحدثًا صخب وضجيج قائلًا:
-لقد جئتُ، ألا يوجد مرحبًا.
لتقفز إيمان لحضنه متشوقة لوجود أخيها، أما تقى فانتفضت ضربات قلبها بين صدرها بقوة جعلتها تعود للخلف وتتوارى خلف مبنى الدار، رفعت يدها لموضع قلبها تمسده ببطء وهي مغمضة العينين، تسللت برأسها مرة أخرى تختلس نظرة له تصبر بها قلبها المجنون، لتلتقطها عيناه ويبتسم وكأنه يبحث عنها ووجدها، لتعود وتختبئ بعينين مذعورتين، ما بالها تتصرف كمراهقة خرقاء، وشدت من عزمها وعدّت من الواحد لعشرة، رفعت هامتها وراحت تسير بأناقة، وعندما خرجت قابلتها عينيه المبتسمة بتسلية كادت تقلبها على وجهها لكنها تماسكت، وتشبثت بهامتها المرفوعة ومشيتها الأنيقة رغم قوامها المكتنز بطريقة لطيفة، أخرجت الألعاب من داخل الحقيبة التي تحملها، ووضعتها على الطاولة المخصصة للألعاب التي ستوزع على الأطفال بعد قليل، جاءتها مكالمة هاتفية، لتخرج هاتفها وتجيب وأغلقته بعدما انتهت المكالمة، ثم توجهت نحو تسبيح تخبرها بما حدث بالاتصال، قائلة بصوت جهوري:
-يريدونكِ يا تسبيح، فارس يريدكِ فوق ولا يريد غيّرك.
ابتسمت تسبيح وهي تقول:
-حسناً، هيّا بنا يا إيمان الحفل سيبدأ بعد قليل.
ثم انسحبت وهي تمسك بيد إيمان التي استسلمت ليدها مضطرة وستشبع من شقيقها في المنزل دون دخيل.
يعلم الله أنه لم ينوي التدخل، وكان سيترك المهمة لشقيقها، لكن هذا الأخير كان منشغل وهائم بمراقبة زوجته، كادت تسبيح تذهب بسرعة، لكن أوقفها صوت حازم قاصف بتهكم، وهو يضع كفيه بكل صلفٍ في جيبي بنطاله:
-سيدة تسبيح، هل ستلبين نداء السيد فارس أمام شقيقكِ وأولاد عمومتكِ؟ ما هذا التبجح؟
وقفت تسبيح توليه ظهرها متخشبة، تعلم بهبوب عاصفة إن لم تهدأ نفسها الآن، واستدارت ببطء لتواجهه، وتحدثت بهدوء بارد:
-أولاً لا يحق لك محاسبتي، فكما قلت أخي موجود، ولم ألحظ أي اعتراض يخصه، ثانيًا فارس هذا أحد الأطفال هنا.
نظر لها ببرودٍ مشتعلٍ ولم يرد، وكأن كلامها ليس موجه له، وليس هو المعنيّ بالحديث، فانصرفت كعاصفة تخلف رمال متناثرة في الهواء، ذهبت ورائها إيمان وتقى التي رمت نظرة تمنت أن تظهر غير مُبالية فالتقطها فريد بسهولة، لتهدأ الأجواء قليلًا، ثم انفجر فريد ضاحكًا بعدما كاد يختنق من كثرة كتمانه لهذه الضحكة، ليبتسم مروان ضاربًا ظهر فريد ليصمت، وما يزال حازم يلتزم بملامح وجهه الصارمة.
༺༻
بعد عذاب اليوم مع شقيقته وزوجها في شراء الألعاب وأشياء للأطفال خاصة بطبع شقيقته المتردد، أحيانًا يشفق على زوجها، لكن أنس يعشق ملاذ منذ زمن وهي بالمثل، وصلوا أخيرًا لدار الرعاية، دلف مع تيم خلف شقيقته المتأبطة في ذراع زوجها تحمل حقيبة في يدها الحرة، وأنس يحمل الكثير في يده الأخرى، لقد نشأت الصداقة بينه وبين تيم بسبب بعض المواقف التي جمعته مع أنس وكانا الاثنان بالطبع لهم نصيب في حمل العديد من الحقائب، كل هذه الأشياء قامت ملاذ بجمع الأموال منه هو شخصيًا بالجبر ويمكن القول تحت تهديد السلاح، وهو أكثر من سعيد بأن شقيقته تشاركه مثل هذه الأعمال الخيرية لكن لابد من بعض المشاكسة، حين تقف أمامه تفرد كفها وترفع أنفها مطالبة بالمال، وعندما يسأل تجاوبه أنها لعمل الخير، فيجاوبها بإغاظة أود عمل الخير بنفسي، لتقول وهي تغمض عينيها فيما يشبه الملل من حديثه المتكرر " هيّا يا كارم، أعطني المال لكي أعتقك" ابتسم بحنان وهو يتذكر مدى حبها لهذه الدار بوجه خاص، تأخذ المال منه ومن والدهما، وزوجها وأيضًا تيم الذي تطلبه منه بأدب إن كان يريد التبرع، وكانت تضع من مالها الخاص؛ ليصبح مبلغ رائع الحقيقة لشراء الكثير من النواقص التي يحتاجها الأطفال، دلفوا ليجدوا اللواء عصمت يجلس على أحد الطاولات، فذهبوا إليه وقبلت ملاذ رأسه الأشيب، ومالت لتطبع قبلة أخرى على خده، وجلسوا يثرثرون حتى بداية الحفل.
༺༻
دلفت تسبيح لتجلس بجانب الطفل المنزوي حول نفسه وينظر تجاه نقطة معينة لا يحيد بنظره عنها، ربطت على رأسه ليعطي استجابة نافرة لحركتها، وابتعد في جلسته قليلًا، فقالت تسبيح مبتسمة بإشراق:
-ماذا به بطل الأبطال خاصتي؟ سمعت أنه يتدلل على الجميع ولا يُرد غيري.
استمر الطفل في النظر أمامه في ذات النقطة، وأخبرها:
-البطل فارس، لا يود المشاركة في الحفل.
قالت تسبيح وهي تتكلم بأسلوبه:
-ولمّا البطل فارس لا يود المشاركة؟ ألم يتعلم الخطوات ويحفظها جيدًا؟!
فقال فارس ولا تزال أنظاره معلقة عند هذه النقطة، وكأن حياته معلقة بها ورد:
-بالطبع تعلمها وحفظها.
لتقوم بسؤاله:
-إذن لماذا لا يود بطلي المشاركة؟
أجاب سؤالها بنفس تعبيرات وجهه التي لم تتغير منذ أن تحدثا:
-لأنه خائف، يخشى التجمع الكبير، وهذه الأصوات الصاخبة.
قالت تسبيح باندهاش:
-ألم نقل فارس بطل من أعظم الأبطال والفرسان؟ الفرسان عندما تخشى شيء تواجهه، ويظهر الوحوش التي بداخله لتهاجم ما يخشى.
تكلم بإجابة مقتضبة بكلمة واحدة، و بنبرة فاترة خالية من أي حماس:
-نعم.
لكنها تشعر بحماسه الداخلي وتعلم أنه يواجه خوف كبير بداخله، وأن إجابته لم تكن فاترة، وإنما أكثر حماسة في الكون بأسره، فابتسمت بحنين وهي تطلب منه برجاء:
-هل لي بحضن قوي العزم من البطل فارس؟!
أومأ بصمت، ولم يحرك ساكنًا لتقوم من مكانها وتجثو أمامه وتحتضنه وهي تربت بحبٍ على ظهره، ليفعل المثل بفتورٍ خالٍ من المشاعر أو هكذا بدى، لتتسع ابتسامتها وهي تشد من حضنه، ليقول الطفل فارس بفظاظة أقرب لصدق وقح:
-كفى.
لتبتعد محترمة رغبته مبتسمة لعينيه التي ظهر بهما حوّلٍ بسيط، لتقول تسبيح مشجعة:
-هيا أيها البطل العظيم، والفارس المغوار، المنتصر على خوفه.
༺༻
أما تقى فكانت تتأكد من نظام ملبس الفتيات، كانت جاثية أمام إحداهن، تنظم لها ضفيرتها، لتسألها الطفلة بطريقة لذيذة:
-هل سينال حفلنا إعجاب الجميع؟ أم أن استعراضنا سيكون سخيف، كما يقول البعض.
قالت تقى موبخة:
-و لمَّ سيكون سخيف؟ لقد تعبتم من أجله وتأكدنا من استعدادكم، وأنتم أكثر من رائعين، لا تلتفتِ لسخافة البعض عزيزتي.
لتسأل الطفلة ببراءة:
-وهل أنا رائعة مثلهن، وجميلة؟
لتطبع تقى على وجنتها قبلة، وقالت: بالطبع جميلة للغاية ورائعة جدًا.
لتميل الطفلة لتضع قبلة على وجنة تقى مماثلة لقبلتها، ووجهها ضاحك محمر بشدة، هؤلاء الأطفال الصادقين جدًا، وما أجمل صفائهم وصدقهم، وصلاحهم، وفي ظل هذا الانهاك في الحديث والتجهيز، كانت أية للنظر ومتعة للحب الخالص في عين من يراقبها متواريًا.
༺༻
على هذا المسرح المرتفع عن الأرض نسبيًا، ظهر أطفال من فئة مألوفة للجميع، ويتخللهم بعض الأطفال من غير الفئة، يقومون بعرضٍ استعراضيٍّ في حلقة تضيق فجأة بخطوات راقصة، ليشكلوا جناح عصفور طائر، لتتسع بشكل يبدو غير متناسق قليلًا، لتستقر العيون لترى الموجة المشكّلة، ويتفرقوا ويجتمعوا بشكل سلس بخطوات مدروسة متقنة إلى حد بعيد ليشكل العديد والعديد من الأشكال المبهجة، كسرب طيور مهاجرة وغيرها، لينتهي العرض بتشكيل اسم الدار
༺༻
في هذا البعد وقفت تراقب فارس، الذي شعر بذعر شديد تحت ملامح متجمدة، حتى رآها هناك وتنظر له فتعلقت عينيه بعيونها حتى انتهى العرض الأول، فانسحب قبل بقية الأطفال للداخل وهو يركض، لتسرع خلفه تسبيح، والتي لحقت به في بداية مدخل الدار، لتقول بابتسامة:
-هل أحتضن فارس لأبارك له؟
أومأ بتصلب، فأخذت في احتضان داعم، ثم تبتعد محتوية وجهه بين كفيها لتقبّل جبينه ووجنتيه، ليبعدها عنه بسرعة ويقول بتذمر غاضب لم يظهر على ملامحه، وهو يمسح على مواضع قبلتها:
-لقد قالت تسبيح حضن، وليست مجموعة من القبل أيضًا.
لتبتسم تسبيح وعيونها تحتلها غلالة من دموع البهجة والفخر بهذا الولد، وهي تعتذر:
-حسنًا، تسبيح تعتذر بشدة من البطل فارس، والذي قدم عرض أذهل الجميع، وأشادوا بقوته في مواجهة خوفه.
فقال فارس بحزن بائس، وملامح جامدة، وأنظار مثبتة:
-نعم، لكنه غير قادر على التكملة.
احتضنته تسبيح وربطت على شعره قبل مؤخرة رأسه، وقالت:
-حسنًا، لا بأس، أنت أحسنت صنيعًا.
༺༻
ابتدأ عرض آخر على أغنية راقصة بصوتِ أحد فنانين النوبة، شكلن الفتيات حلقة دائرية حول بعضهن البعض، يلوين أحد معاصمهن وكفوفهن مفردة في التواءات مستمرة، والكفوف الصغيرة الأخرى يسندن بهم رأسهن، بدأن بتشكيل حلزوني، ثم ينقسمن في صفين متقابلين ليبدأن رقص بدوي بحركات طفولية خرقاء قليلًا، والبسمة تزين محيا الجميع، وهناك التصفيق الحار يملئ المكان بهجة، ووقف فارس بجانب تسبيح يحاول أن يتجاهل صوت الموسيقى العال، فالصغير يعاني من اضطراب الذاتوية "التوحد" وبعض اضطرابات حسية.
༺༻
وأثناء متابعته للعرض لاحظ هذه الفتاة المتنقلة خلف المسرح في الكواليس، تقود فريق الصبية الذي يبدو أنه سيعتلي الخشبة بعد فريق الفتيات المندمجين بطفولية، فتاة طويلة ببنية جسد قوية تبتسم بحماس للأطفال، تغطي رأسها بحجاب يصل لمنتصف خصرها، تتفاعل مع الأطفال وكأنها تتابع معهم الاستعراض الذي سيقدم بعد قليل، فقام من مجلسه يدلف لداخل الدار ليصل حيث تقف فيه هذه الفتاة.
اعتدلت إيمان حينما لاحظت وجود أحدهم، اقترب حتى الحيز التي تشغله هي والأطفال، فقال يبدأ الحديث مبتسمًا بسحرٍ:
-مرحبًا، أنا كارم عصمت الطبيب الجراح الذي قام...
فكتمت ضحكتها من طريقته في فتح حديث، وقاطعته:
-الذي أجرى لي جراحتي، بالطبع أتذكرك يا دكتور.
رد بنعم محرجة ثم مد يده يصافحها، فنظرت هي ليده بحرج وقالت بخجل:
-أعتذر، لا أصافح باليد.
رفع كفه ليمسد شعره من الخلفِ شاعر بحرجٍ بليغ، وقال:
-سعيد لرؤيتك بخير آنستي.
بادلته الابتسامة قائلة:
-آه، شكرًا لك، وأنا بخير بفضلك.
فقال بابتسامة جميلة:
-العفو آنستي هذا عملي، بعد أذنك سأعود للحفل أنا، وسعيد لرؤيتكِ مرّة أخرى.
وانسحب بوقارٍ، فاقتربت تسبيح وتقى اللتان كانتا واقفتان من بعيد، و قالت الأولى تقلد نبرة إيمان بتهكم:
-أعتذر، لا أصافح باليد...
ثم تابعت بهُيّامٍ:
-ليته صافحني أنا، لا يقال لهذا الجمال هذا الكلام، خسارة بكِ النعمة.
لتنظر لها إيمان بحاجبٍ مرفوعٍ من بينِ حاجبيها، وتقوّس شفتيها بقرفٍ مصطنع:
-لستُ مائعة مثلكِ حبيبتي.
لتبادلها تسبيح بذات الصُنع ونصف عين، ثم حولت نظرها لتقى، وقالت بهدوءٍ:
-تذكري، وضعي الخطوط تحت هذه الجملة، هذه الفتاة ستصبح عانس على المدى البعيد.
لتضحك تقى قائلة:
-لا من هذه الناحية فلا تقلقي، في القريب العاجل سنصبح ثلاثتنا، من يسمعك يقول أنكِ توقعين في حبالك الكثير.
لتتشارك الثلاث فتيات الضحك، ولم يروا الثلاث أزواج من العيون المراقبة لهن، الأول منهم متجهم الوجه، و الآخر مبتسم بحنين، والثالث بتسلية!
انتهى العرض الذي تقدمه الفتيات، فصعد فريق الصبية بين تشجيع الفتيات الثلاثة، ليتابعهن بفخرٍ، وملامح مبتسمة ببهجةٍ طبيعيةٍ، ووسط اندماجهن، وجهت إيمان سؤال لتسبيح:
-أين فارس؟ لقد كان واقف معك.
ردت تسبيح بهدوء:
-لم يتحمل الأصوات العالية أكثر، وبدأ يرتجف بشدة من هذا الصخب، فخشيّت الاختصاصية عليه من الانتكاس بعدما تحسن كثيرًا في برنامج العلاج الذي يخضع له فأخذته لغرفته.
أومأت إيمان بتفهم، ليقترب منهن أحد من أصحاب أزواج العيون المراقبة، ليقترب من تقى، فلمحته الأخيرة وصدمت من وقاحته المستفزة، وشعرن بها الفتيات من تصلب جسدها، لينظرا تجاه ما تنظر له، فهتفت إيمان بصدمة وقرف وشعور بالإعياء:
-لمَّ جاء هذا؟
فأجابت تقى بلامبالاة:
-لا أعلم، لكن اعتبريه زائر للدار.
فنفخت تسبيح خديها زافرة، وقالت باستياء:
-لكنه يأتي في اتجاهكِ يا تقى.
تمسكت تقى بلامبالاتها قائلة:
-فليأتي، ماذا أفعل أنا؟
وهو اقترب جدًا الحقيقة، وهذا أشعرها بالتوتر قليلًا، خاصة أنها لا تريد افساد الحفل على الأطفال، بدأ يوجد في الحيز الذي يشغلانه، وقال بابتسامةٍ مرحبةٍ:
-مرحبا، كيف أحوالكن يا فتيات؟
لم تستجيب إحداهن، ولم ترد أيٍ منهن، فابتسم بحزن، وعاد طالبًا من تقى:
-حسنًا، أريد الحديث معكِ يا تقى.
فانتقلت ثلاث رؤوس الفتيات تجاهه، وكأنما ثلاثتهن تدعى " تقى " فأكمل بتمهلٍ:
-على انفراد من فضلك.
لتقول تسبيح بنبرة تشبه نبرة إحدى بنات الحارات الشعبية بطريقة بشعة:
-نعم يا عيوني! على ماذا؟ لا يوجد عندنا " لا انفراد و لا غيره " وأنت غير مرحب بك من الأساس.
ليقترب ثان شخص يحمل إحدى الأزواج المراقبة، وكان حازم الذي أمسك بمرفقِ تسبيح بقسوةٍ ووجهٍ متخشبٍ، وهدر من بين أسنانه:
-ماذا تفعلين أنتِ؟ ما هذا الأسلوب الذي تخاطبين به رجلٍ غريب؟ أو غير غريب، لقد تجاوزتِ حدودك فعلًا يا تسبيح.
شعرت تسبيح بأن ذراعها كاد يُخلع بين أصابعه، التي تقبض فوقه ككماشة حديدية، شعرت بالوجعِ والحرجِ يغمرانها، لتحاول سحب مرفقها من يده، ولكن بدى أنه غير موافق على ذلك، فقالت تسبيح بصوت متألم به شيءٍ آخر لا يعلم كنهه:
-هلّا تركت يدي؟
ليتخلى أخيرًا عن قبضته فتنسحب بسرعة قياسية، وتختفي من أمام أنظار الجميع، ليزداد تجهم حازم، وتمتم بلفظ وقح لم يسمعه أحد غيره، وانسحب هو الأخر، لتستدير تقى لهذا الشخص المتطفل والذي هدم جمال اليوم وروعته:
-يكفي ما فعلته حتى الآن، من فضلك غادر، لا كلام بيننا منذ زمن.
ليهدر الطرف الأخر:
-لن أتحرك قبل أن تسمعيني، حتى المتهم له فرصة الدفاع عن النفس.
هذه المرّة فقدت إيمان رزانتها وانحل غضبها من عقاله، فهتفت به:
-ألا تمتلك بعض من الكرامة؟! ألا يكفيك ما فعلته منذ قليل؟!
ليهدر بها:
-لا تدخلي بيني وبينها لا غيرك أنتِ وتسبيح السبب في هجرها لي.
فصرخت تقى:
-كفى لو سمحت، ألا تراعي أي شيء أبدًا، هل صدقت كذبتك لهذه الدرجة؟!
ثم استدارت لإيمان التي اقترب منها أخر زوجين تراقب بتسلية وقد أصبحت التسلية فيهما شيء آخر أبعد ما يكون عن الهزل بل على النقيضِ تمامًا، وكان صاحبهما هو فريد الذي تلاقت عينيه بعسليتيها لثانية، لتنحدر عينيها نحو إيمان قائلة بذعرٍ خفي من أن يسبب لها فضيحة:
-حسنًا يا إيمان سأسمعه، وسآتي.
فهتفت إيمان بقسوة:
-لستِ مضطرة لفعل ذلك.
فقالت تقى بوهن خافت، لم يسمعه غير إيمان:
-ليتني كذلك، لكن من الممكن أن يفتعل هذا المختل فضيحة أنا لن أتحملها الآن.
فأسرعت إيمان قائلة:
-لا تقلقي أنا معك.
ابتسمت تقى لعيني إيمان، وهمست:
-أعلم، لكن دعيني أعرف ماذا يريد؟
نظرت لها إيمان بشك، لتكمل تقى بنفس النبرة الغير مسموعة إلا لإيمان:
-أنا بخير لا تقلقي.
لم يترك القلق عيون إيمان، فقالت تقى مؤكدة:
-صدقًا.
ثم ابتعدت، وسار خلفها هادم اللذات ومفرق الجماعات الذي زعزع سعادتهن الثلاثة، بينما سأل فريد إيمان بنبرة سوداء:
-من هذا؟
فأجابت وهي تدلك رأسها من الخلف:
-زميل تقى في العمل.
فقذف فريد الكلمات من فمه:
-ما هذه الزمالة التي تجعله يأتيها إلىٰ هنا؟
فاضطرت إيمان للقول باختصار لتنهي الأمر:
-كان بينهما مشروع ارتباط، سأذهب لأرى تسبيح.
وذهبت وتركت خلفها فريد بملامحٍ مكفهرةٍ، كمن يوشك على قتل أيًا ما تقاطعت طرقه معه،
༺༻
-ماذا تريد؟ ألم أقل لك من قبل لا أريد رؤية وجهك من جديد، ألا يكفي تحملي لك في العمل؟
قالتها تقى بصوتٍ خطير وهي تكز على أسنانها، وتتنفس بسرعةٍ فائقةٍ، ليقول:
-أريد فرصة أخرى أوضح لكِ، أثبت فيها حبي.
لتصرخ به، ووجهها متوهج باشتعال غاضب:
-أي توضيح؟ وأي حب هذا؟! لقد جعلت مني الخنجر الذي طعن قلب زوجتك، أي حب وأنت متزوج ولديك بنتين مثل القمر في ليلة اكتماله؟ ماذا كان ينقصك لتخونها معي؟ كيف كنت مغفلة كل هذه الفترة؟ كيف تطعن قلبين بهذه السهولة؟
فقال بوهن وهو يقترب منها:
-لكني لم أحبها يومًا، أنا لم أحب في حياتي غيّرك أنتِ، وكنت أُمني نفسي بمُلاقاتك ...
صرخت به:
-أخرس، لا تكمل كل ما أوّد قوله هو: أن تعود لزوجتك وتحبها كما تحبك هي، هي الوحيدة الخاسرة في هذه المعادلة، عندما جاءت لي لتحذرني بالابتعاد عنك معتقدة بأني أعلم أنك متزوج، كانت تهاجمني بشراسة امرأة تعشق زوجها وتريد الاحتفاظ به.
قال بانهزام:
-لكني لم أحبها.
فصرخت بانهيار، وعدم سيطرة على أعصابها:
-لا دخل لي بهذا، أتفهم؟! لا دخل لي، اذهب وإنسى الماضي، كما نسيته، لقد كان على أيةِ حال لعب أطفال حتى لم يصل لمراهقة، فقصة الحب التي جمعتنا تقتصر لديّ على فترة الابتدائي ليس أكثر، أما عن هذه الفترة التي جمعتنا وأنت متزوج، فليتني أملك طريقة لحذفها، لكني في كل الأحوال نسيتها ...
قاطعها هادرًا:
-لا لم تنسيها، والدليل أنكِ تتحدثين معي بغضب، فلِما الغضب إن كنتِ قد نسيتها؟ أنتِ لا تزالين تحبينني يا تقى.
فقالت بقرف:
-نعم ...
صمتت تلتقط أنفاسها، في حين انسحب فريد من مكانه بعد أن التقط اعترافها بأنها تحب آخر غيره، أما تقى تنهدت وأكملت بغضبٍ منهك:
-نعم أنا غاضبة، لكن ليس لأني أحبك، بل لأنك عاملتني كعشيقة – وإن لم يكن بالمعنى الحرفي للكلمة – ولأنك طعنتني، وجعلتني شفرة مسمومة دخلت في قلب زوجتك، أنا غاضبة من نفسي لأني صدقت كاذب مثلك.
ثم كادت تنصرف، لكنها استدارت تحذره وهي تنتفض غضبًا:
-إياك، ثم إياك أن تعترض طريقي مرّة أخرى.
وانصرفت تتركه وعلامات الخيبة ترتسم على ملامحه
༺༻
وقفت بجانبها وهي تختلس النظر لها، كانت هادئة للغاية، تعرف أنها تحبس دموعها بإرادة حديدية، تعرف ابنة عمها جيدًا، لقد عاشت تسبيح أوجاع كثيرة، لذلك هذا الموقف لم يؤثر فيها، وإن جئنا للحق فالعائلة كلها ذاقت الوجع مرارًا، ابتسمت تسبيح ابتسامة لم تصل لعينيها تشجع إحدى الفتيات في آخر عرض للحفلة، اقتربت تقى ووقفت بجانبهما، نفس وقفتهم مشدودة الظهر، ورفع الذقن بإباء شديد الرونق، وتكتف الذراعين، لتسألها تسبيح بتهكم:
-ذهبتِ معه بعدما نالني التجريح بسببه، أي صديقة أنتِ!
قالت تقى بتماسك:
-لستُ مستعدة لافتعال فضائح جديدة.
ردت تسبيح بنزق:
-أي فضائح وأنا بإشارة من إصبعي لجعلت أخي يحتجزه.
قلبت تقى عينيها، وتحدثت:
-لذلك أنا ذهبت معه.
نظرت لها تسبيح بنظرة قاتلة، وقالت من تحت أنفاسها الهادرة:
-ألا ترين أنه من مصلحتك ألا تستفزيني الآن!.
قالت تقى بمهادنة:
-صدقيني أنا لا أستفزك، أنا قادرة على تحمل الهمزات والغمزات في الشركة بصعوبة، صدقيني لن اتحملها هنا أيضًا.
احتضنتها تسبيح بمآزرة دون أن تتفوه، بينما إيمان تركت لهم الفرصة لتجاوز الأمر، وعندما احتضنت تسبيح تقى، احتضنت إيمان الاثنتين معًا، وارتسمت البهجة من جديد على وجوههن.
بعد هذه الأجواء المشحونة حاولت تقى تلطيف الأجواء، فسألت بمزاح:
-ما دام لا تزالوا تحملون دماء الجنوب الحارة، أين هي عادات أهل الجنوب في زواج أبناء العمومة؟
تألمت ملامح تسبيح المبتسمة رغم تماسكها، وارتعشت ملامح إيمان بلمحة حزن ولكنها أوضحت محاولة الابتسام:
-لقد حدث ذلك بالفعل.
قالت تقى باندهاش:
-حقًا، هل رفضكِ مروان؟
هذه المرة ضحكت إيمان من قلبها، وكتمت تسبيح ضحكة عالية وهي تحني رأسها وتحتفظ بشفتها السفلية بين أسنانها لتمنع ضحكة عالية، كانت تقى تنظر لهن بسخط، لتشير إيمان بسبابتها علامة النفي وكأنما تنفي أن ضحكهما عليها، فقالت تسبيح وهي تلتقط أنفاسها:
-مروان أخ لإيمان بالرضاعة يا مخ سمكة أنتِ،
ثم انفجرت ضحكتها العالية لتكتمها بكفها، فاستوعبت تقى وهي تبتسم قائلة بقرف:
-وما المضحك في هذا؟!
أجابت تسبيح من بين أنفاسها الضائعة:
-لثواني تخيلت إيمان ومروان زوجين.
لتنفجر مرّة أخرى بالضحك، وقالت بعد أن هدأ ضحكها، وهذه المرّة تخبر تقى:
-يا تقى ستحل كارثة ثلاثية الأبعاد على العالم، إن تزوج هذان المخبولين.
فقالت تقى بحنق:
-إذن كيف حققتم عادات أهل الجنوب خاصتكم؟
اكتفت تسبيح بابتسامة وهي تجيب:
-كان لي شقيق آخر اسمه عمران، كان أبي وعمي منذ صغرهم متفقين على زواج عمران وإيمان، لكن...
اسرعت تقى تقاطعها بسؤال ألح على عقلها:
-وأين عمران الآن كي أراه، وأعرف من الذي سيحظو بإيمان.
تقلصت الابتسامة على وجهيّ إيمان و تسبيح، وقالت تسبيح برضا:
-لقد نال الشهادة.
بهتت ملامح تقى، وقالت باعتذار:
-آسفة لم أقصد، رحمه الله.
ابتسمت تسبيح ورددت:
-آمين.
وسجنتهن فقاعة حزن وحبستهن داخلها من جديد.
༺༻
كانت ترفل في ثوب ربيعي هادئ، بينما شعرها الأشقر منسدل يتطاير فيه النسمات الربيعية، استوقفتها السيدة ملاذ قائلة:
-مرحبًا يا حضرة الطبيبة، لقد اشتريت بعض الأدوية التي كتبتيها من النواقص، اتطلعي عليها وإن كان هناك شيئًا ناقصًا أخبريني به.
ومدّت يدها تناولها حقيبة بلاستيكية بها الأدوية، فابتسمت رهف وهي تتناولها، وقالت بشكر وعرفان:
-لقد اتعبناكِ معنا.
أسرعت ملاذ قائلة:
-لا، لا يوجد تعب، أنا سعيدة بأني أفعل ذلك، فقد سمعت أن هناك ثواب النزول إلى الشارع، ومن يومها وأنا لا أتبرع بالمال فقط بل بالمساهمة في شراء الأشياء.
ابتسمت رهف قائلة:
-نعم أحسنتِ، جزاكِ الله كل الخير.
ثم تابعت بمودة حقيقية:
-وكيف هي أخبار سيادّة اللواء؟
ابتسمت ملاذ، وقالت بحب لوالدها وفارسها الأول:
-أبي بخير وبالمناسبة هو أيضًا في الحفل.
ابتسمت رهف قائلة:
-إذن دعيني آتي معكِ؛ لأسلم عليه.
وبالفعل ذهبت معها إلى حيث يجلس والدها مع زوجها وتيم وكارم، واثنين آخرين تعرفت عليهم عندما جاءا ليسلما على والدها، وأحد يدعى مروان والآخر حازم.
أما على طاولة سيادة اللواء، الكل مندمج مع العرض الذي يقدمه الأطفال، فحانت نظرة تيم نحو ملاذ زوجة أنس القادمة من هذه الناحية، ومعها واحدة أخرى رائعة الأنوثة وهو يقدر الأنوثة غاية التقدير، فأنزل نظارته الشمسية قليلًا، ويراقب اقتراب هذه الأنثى مع زوجة صديقه، وعندما اقتربتا أكثر نزع النظارة نهائيًا ليراقب بوضوح غير ملاحظ، ثم مال على أذن صديقه قائلًا بمرح:
-منذ متى وزوجتك تصادق مثل هذا النوع الصاروخي؟
فنظر أنس نحو زوجته الآتية في فستان نيلي وحجاب يلف وجهها بأناقة، تقترب برونق مختلف عن باقي نساء العالمين، ثم لمح من يتكلم عنها تيم، وقال بتوبيخ مازح:
-اصمت يا بني، فإن سمعتك ملاذ لا ريب في أن تقص لك لسانك هذا، حتى لا تجرُأ على لفت نظري لامرأة غيرها.
ضحك تيم وهو يقول:
-واضح أنك مسيطر وحازم مع زوجتك جدًا.
فقال أنس متماشيًا مع فكاهة صديقه:
-يا بني أنا شديد السيطرة والحزم.
استهزأ تيم بمرح:
-حبيبي لا داعي للقسم، فهذا واضح جدًا.
وصمت الاثنان عندما وصلتا السيدتان، رحبّت رهف باللواء عصمت:
-مرحباً يا سيادة اللواء، أنرت الدار وساكنيه وعامليه.
ابتسم اللواء، ورد:
-الدار مُضاء بكِ يا رهف الجميلة.
وأثناء تبادل العبارات المرحبة، مال تيم على أذن صديقه خلسة وقال:
-ليتني سيادة اللواء!
ابتسم أنس لدعابة صديقه، فتوالى اللواء عملية التعريف قائلًا، وهو يشير لكلٍ منهم:
-تعرفين كارم بالطبع، وهذا الرائد تيم، والرائد أنس، والرائد ...
قاطعته رهف:
-بالطبع أعرفهما يا سيادة اللواء.
غضن اللواء وجهه متسائلًا، فوضح مروان:
-الطبيبة رهف، ابنة عم زوجتي، أي من العائلة.
فقال تيم هامسًا:
-ليتني كنت من العائلة التي تنجب هذه الحلويات.
هذه المرّة قال أنس حازمًا بهمس:
-كفى يا تيم.
صمت تيم بالفعل، فالتفت اللواء قائلًا يعرف البقية عليها:
-وهذه الطبيبة رهف، تعمل في فرعنا.
قالت رهف مرحبة:
-مرحبًا بكم في الدار، سيسعد الأطفال بزيارتكم بالتأكيد.
قبل أن يرد أحد ترحيبها، سمعت صوت يناديها من الخلف، فاستدارت لترى من، فحيته برأسها، واستأذنت منسحبة، لتبتعد مع هذا الشخص.
استأذن مروان ووراءه حازم بعدما ذهبت، لتجلس ملاذ بجانب زوجها، ليتابع الجميع الحفل، وانشغل تيم بمن هذا الذي نادها لتنسحب معه.
༺༻
قالت مبتسمة:
-أنرت الحفل يا نور.
ابتسم وقال بحب في عيونه المضيئة:
-لأجلكِ جئت، لأنال رضاكِ من جديد.
تقلصت ابتسامتها تلقائيًا، وقالت بتحضر:
-من فضلك يا نور لقد طوينا هذه الصفحة، وتم انفصالنا بتحضر، دعني أبقى على هذا التحضر.
فقال بتوسل:
-لنعطي أنفسنا فرصة أخيرة، لربما...
قاطعته بصرامة:
-لا ربما هنا، من فضلك يا نور، وأرجوك هذا محل عملي.
فهدر نور بسخط من تمسكها بهذه الواجهة الصلبة:
-وهل أنتِ تعطيني فرصة للحديث خارجه؟!
فردت بحدة:
-هذا لأن لا يوجد أحاديث باقية، لقد وصلنا للنهاية، وكل منا كان يريد هذا الانفصال.
فصرخ بها بانفعال:
-أنا لم أريد شيء، لقد كنتِ مصممة على الطلاق، وجدتكِ أحكمتِ الوثاق حولي، بعد أن تلقبت الضوء الأخضر منكِ، فطعنتني في رجولتي.
فقالت رهف دون تأثر:
-أنرّت الحفل يا نور، وإن أردت إسعاد الأطفال فأهلًا بك دائمًا، وإن كان غرض تشريفك لنا غير ذلك، فشرفت وأنرت.
وتركته مغادرة بخيلاء، ليقترب منه مروان الذي كان يراقب من بعيد، ليقطع الطريق على نور الذي كان يرد اللحاق برهف، وقال متصنع ابتسامة:
-مرحبًا يا بني، ألم يخبرك أحد أن أهل الجنوب دماءهم حارة، وطبعهم حامي، وأنا من أهل الجنوب، ورهف أصبحت من عائلتي منذ زمن.
هتف نور بغضبٍ متفاقم:
-رهف زوجتي، فلا...
قاطعه مروان بحدة، يشدد على حروف جملته الثانية:
-السابقة، زوجتك السابقة.
تراشقا بالنظرات طويلًا، قبل أن يقول مروان بهدوء أقرب منه للبرود:
-والآن أريني عرض منكبيك العريضين دون داع.
احتدت نظرات نور، لكنه انسحب فيما راقب مروان خروجه، وفي طريق خروجه دلفت الجدة ميسون من البوابة الحديدية بعد أن تعرف عليها الحرس، ليوجه لها نور نظرة قاتلة قابلته بأخرى لامبالية وتابعت طريق الدخول، لتصل لمروان وتبتسم قائلة:
-كيف حالك يا ولدي؟
رد مروان بود:
-بخير، كيف هي صحتكِ؟
جاوبته بنظرات متسائلة:
-بخير، بخير.
و لم تجد بداً من السؤال:
-هل ضايق حفيدتي هذا الولد الفاسد نور؟
ابتسم مروان قائلًا:
-ليس في وجودي أيتها الجدة.
ربطت الجدة على خده بلطف، وقالت:
-سلمت بني، سلمت.
༺༻
بعد أن سلّمت على جدتها، واستأذنت الأخيرة لترى رهف بعدما رأت نور على البوابة، أرادت الذهاب معها لتكون بجانب ابنة عمها، لكن الجدة منعتها قائلة:
-أريد الانفراد بها يا غرام، يجب أن أجعلها تتحدث لا نريد انتكاسات أخرى.
فوافقت على مضضٍ، وذهبت لهذا الطفل لتجلس على عقبيها أمامه، وقالت:
-كيف الحال؟
ابتسم ببراءة قائلًا بتلعثم بعض الشيء:
-بخير، كيف حالكِ أنتِ يا خالة؟ اشتقتُ إليكِ كثيرًا.
ابتسمت له بحنان، ومالت تحضنه، وقالت:
-وأنا أيضًا اشتقت لك كثيرًا.
ثم سألته:
-هل تنتظم في جلسات التخاطب؟!
أومأ بسعادة، ففردت كفيها على جانبي وجهه، رجع شعره للوراء قليلًا، فظهرت سماعة الأذن التي تعانق أذنه من الخلف، فأبعدت شعره أكثر لتظهر السماعة أكثر وهي متصلة بشيء آخر مثبت بجانب رأسه بزاوية، فسألته وهي تمسح بسبابتها عليها:
-هل تعاني من شيء فيها؟
نفى الطفل بحركة من رأسه، فقالت:
-ستصبح أفضل بإذن الله يا حمزة.
ابتسم حمزة بسعادة، فقالت بسعادة أكبر:
-كنت رائع أثناء الاستعراض.
قال حمزة بثقل خفيف في لسانه:
-حقًا!
أومأت بسعادة، واستقامت تستدير لترى خلفها مروان زوجها مبتسم، الذي كان يفكر في حبها لحمزة بوجه خاص، هي تحب أطفال الدار جميعهم لكن هذا الطفل تعامله بشكل خاص جدًا، فاقترب منها وداعب شعر حمزة الذي استدار يلعب مع رفاقه، ثم سألها هذا السؤال المُلح على خاطره:
-لمَّ تعاملينه بشكل خاص هكذا؟!
فردت وهي تحك أرنبة أنفها بسبابتها، وتدير وجهها قليلًا في اتجاه معاكس لاتجاهه، هذه الحركة التي تاليها دائمًا كذبة، أو هروب من الإجابة:
-لا شيء فقط هكذا، هو أسر قلبي منذ أول لقاء بيننا.
رفع حاجبيه بدهشة، وقال وهو يحرك سبابته في وضع تهديد:
-لكن أحذري من غيّرة ماجد وسيف، وخاصة المدلل الصغير.
ابتسمت باتساع وروعة حركت فؤاده الذي أقسم على حبها، ولن يحرك ساكنًا لغيرها.
༺༻
لقد طلبت الطبيبة بعض الفحوصات والتحاليل الطبية، ليذهبوا ويجرُوها قبل أن يسلكوا طريق العودة، كانت هادئة مبتسمة ابتسامة حالمة، فرفرف قلبه لرؤيتها سعيدة، لو اضطر لتخلى عن عمره فداء هذه الابتسامة لفعل، كم يحبها! رغم صلابة رأسها، وتدخلها في أمور عمله، لتكتب مقالًا صحفيًا يفجر الأجواء، ويشعل شرارة اسمها المشتعل من الأساس دون داعي لتدخلها في عمله الحساس جدًا، رأى جفنيها يثقلان وهي تقاوم النوم بشدة، وصلا أخيرًا لتبدل ملابسها وترتمي على الأريكة المقابلة للتلفاز الذي أشعلته على برنامجٍ سياسيٍ، وظهر خلف الشاشة إعلامي كبير يفصل بين طرفي متنازعين بمشادة كلامية، ليعطي المذيع لأحد الأطراف حق الحديث، و طالب الآخر بلطف أن يلتزم الصمت، ليقول الأول:
-يا سيدي الفاضل، كيف تقنعني بهذا؟ كل ضابط من هؤلاء يستلقي على فراش مصنوع من ريش النعام، ومكاتبهم شديدة الفخامة مزودة بمكيف أي راحة تلك؟
انتفض الرجل الآخر قائلًا:
-هؤلاء الذين تتحدث عنهم من طرف أنفك، يعرضون نفسهم للخطر كي تهنأ بالسلام أنت وأسرّتك الكريمة مفترشين الأرض، وتأكلون بعض التسالي.
اشتد الحديث لتغلق ملاذ التلفاز بملل، وقالت وهي تغلق جفنيها استسلامًا لسلطان النوم:
-الجميع بعد الخامس والعشرين من يناير أضحى يدرك لعبة السياسة ومخابئها.
رغم أن الأريكة التي تستلقي عليها تكفي لفردٍ واحدٍ، إلا أن أنس ارتمى فوقها، لتصدر ملاذ صوت تأوه مكتوم، وحاولت إخراج جسدها الهش من تحت عضلاته الضخمة، وهو يقول بسخرية:
-انظروا من يتحدث، الصحفية ملاذ التي تتلصص عليّ كي تصنع خبر سياسي، تفجر به الأجواء أكثر من اشتعالها الموجود من الأساس.
ابتسمت ملاذ وهي تأخذ من صدره العضلي وسادة لرأسها، وكفها يستريح فوق بطنه، لتهمس بمرح:
-لست في مزاج للمشاجرة، دع السياسة جانبًا، وأخبرني إن أكرمنا الله وأنجبنا طفلًا، ماذا سنسميه إن كان صبي أو إن كانت فتاة؟
أجابها وهو يمسد ذراعها بحنو:
-إن كانت فتاة نسميها أنيسة.
جعدت أنفها برفض، وقالت بقنوط:
-ما هذا الاسم؟ من أين أتيت به؟ هل تريد أن تعقد ابنتي في اسمها قبل أن تأتي إلى الدنيا؟!
ضحك من مزاجها الذي انقلب فجاءة، هذه هي ملاذ، لا تتوقع أبدًا رد فعلها، تنقلب فجاءة وتهدأ فجاءة كما تشتعل فجاءة، أمسك بكفها من فوق بطنه، وقبّل ظاهره وباطنه، ولا يزال يضحك، فسحبت يدها لتضرب ظهره، وتهتف:
-لا تضحك على ابنتي، أو على اسمها الذي لن اسميها به أبدًا.
أمسك ضحكته بصعوبة مكتفي بابتسامة زيّنت ملامحه الوسيمة، وقال:
-الغريب أنكِ لم تسأليني لمّا هذا الاسم بالضبط.
لترد بطريقة لاذعة:
-ليكون هناك حسن تقسيم "أنيسة أنس".
ضحك بشدة، وفرك ذقنها بشقاوة وقال بفكاهة غليظة:
-أنا متزوج من برميل عسل وسكر يا ناس.
ابتسمت لنظريه حتى هدأت ضحكاته، ثم ارتفعت لتقبّل فكه، ليرفع حاجب مغازل، وقال بتهديد:
-هل أنتِ قادرة على ما فعلتيه؟!
لتجيب بشقاوة لا تظهر إلا في حضوره، شقاوة خاصة به، وله فقط:
-وهل لديك مانع؟
ابتسما لعيونهما البعض، وهام كل منهما بالآخر، لقد جمعتهم قصة حب قويّة، وواجهتهم عقبات كثيرة وتخطوها معًا، يقويّ أحدهما الآخر، بعد فترة وهما غارقان في سحر عيونهما البعض، همس أنس بعذوبة أمام عينيها البارقتين تحت تأثير اللحظة:
-لقد اخترت "أنيسة" لتعبر عن مدى أنس روحي بجانبكِ وبجواري، لمدى شعوري بالأمان وأنا مطمئن بوجودك الذي لا غنى لي عنه، لمدى لجوئي واحتمائي من الهموم بين أحضانكِ، فالأنيسة تأتي مع المأوى، و مأواي بين ذراعيكِ يا ملاذي.
ارتعش قلبها بين أضلاعها، وازدادت ضرباته بتصميم على رفعها فوق السحب، لتأخذها واحدة وردية وتسبح بها لسماء حب صاف، دائمًا ما يخبرها أن اسمها يليق بها، والآن فهمت مقصده، ألم يكن معنى اسمها المأوى والاحتماء والسكن والأمان؟ كيف غفلت عن مقصده وهو واضح للأعمى، وهي عمياء في حبه، وإن صدقت الأسطورة القائلة بأننا سنعيش حياة أخرى ونحظى بشريك آخر، فهي ستقع في حبه مرّة أخرى، ارتفعت تقبله مرّة أخرى، لكن هذه المرّة حطت القبلة على وجنته، فتلقاها مبتسم بفخر ذكوري متأصل في بني آدم، فهمست ملاذ:
-وإن كان ولد.
فرّد متسع الابتسامة:
-أنيس.
قالت ملاذ وهي تغلق جفنيها مستسلمة أخيرًا للنوم:
-هذا في أحلامك، أطفالي أنا من سأختار أسمائهم، لا دخل لك أنت.
ارتخت جفونها، فراقب صفحة وجهها الرائق قبل أن يحملها ليضعها في فراشهما، كما يفعل كل يوم، يتمنى أن يعينه الله في الأيام القادمة معها!
* * *
جالسة في غرفتها تبكي أطلال معشوقها الذي رحل، رحل وتركها هنا تشعر بالتيه والضياع، منذ أن تركها وهي على هذه الحالة تتابع صفحته الإلكترونية، وتتذكر مع كل منشور ذكرياته التي لا تنمحي من قلبها أبدًا، ذاكرتها لا تتوقف عن اجترار الذكريات، أي عشق يائس عشقته له، لو كانت تعلم أن المصير هو الرحيل لم تكن لتحبه، لكن ما ذنبها وقلبها قد تعلق، أضاءت دائرة صغيرة في أحد الزوايا، لتفتحها إيمان لتجد منه رسالة إلكترونية من أحد تطبيقات التواصل الاجتماعي، نفس الرسالة كل مرّة، يسألها فيها عن حال الجرح رغم أنه مرّت فترة لا بأس بها ليشفى جرحها منذ زمن، وكأنها عملية كبيرة وخطيرة، لقد ألتهبت الزائدة الدودية مما اضطرها لإجراء عملية لاستئصالها، ولولا عدم وجود جراح قليل الخبرة وقتها لما أجراها بنفسه، ابتسمت نفس ابتسامة كل مرّة وكأنه ألقى لتوه عبارة غزلية صريحة، ثم كتبت وكل حرف يقطر شقاوة ساخرة، وهي تقضم طرف شفتيها "مرحبًا دكتور كارم، كيف حالك؟ آه، الجرح الذي ألتئم، نعم بخير تمامًا".
لم تكن إيمان الباشا، شقيقة حازم الباشا ابن أبيه وفريد الباشا كبير السخرية عالميًا، فهي الخليط بينهم جميعًا، علمت من الإشارة التي ظهرت على الشاشة أن رسالتها وصلته وقرأها، لكن يبدو أن وصله سخريتها، وتوقعت عدم رده، فابتسمت وكادت تغط في النوم، لكن صدع صوت الهاتف برسالة أخرى منه تزيل بجملة واحدة "تصبحين على خير" فكتبت مبتسمة "وأنت أيضًا".
༺༻
تراجعت في مقعدها باسترخاء، لقد غادر مريض منذ دقائق، هذا الضابط الذي أصيب في ذراعه، لتؤدي الإصابة إلى بتره، لقد قطعت معه رحلة علاج طويلة، لقد كان يعتز بعمله جدًا، يشعر بالفخر لأنه يساعد في القضاء على من هم ضد بلده، كانت تظنه في البداية ذو شخصية غير اجتماعية، بسبب حالة الاكتئاب الذي دخل بها، لولا العدد المهول له من الأصدقاء الذين جاءوا يسئلون عن حالته، مما أثبت عكس ظنها، فكيف لصاحب شخصيةٍ كهذه أن يكوّن هذا العدد من الزملاء، كما أن هذا العدد المُحب له يدل على أنه شخص صادق حلو اللسان، تذكرت يوم الحفل عندما كان يتجهز كريم للصعود على خشبة العرض ليقدم عرض مبهر، وسرق به تصفيق الجميع، هذا الطفل لديه موهبة عالية في عمل قصة قصيرة من حبات الحصى، فكان يجلس بثقة فوق مقعده المتحرك لذوي الإعاقة وأمامه الزجاج وفوقه تمامًا شعاع ضوئي، ينقل ما يفعله على الزجاج على شاشة عرض، ولأن ذلك كان يريد غرفة ذات إضاءة منخفضة، فكان هذا مسجل على اسطوانة، وتم عرضه على شاشة العرض على المسرح قبل أن يصعده كريم، لقد قدم بالحصى عرض قصة أطفال في العيد، وقصة عن يوم اليتيم، وأخرى وأكثرهم احترافية، مست القلوب بمشاعرها الصادقة، كانت القصة تحكي عن ما تقدمه الدار لأبنائها، وبعد انتهاء العرض قدم أحد الحاضرين عرض تقديم طرف صناعي لكريم، وهذا ما أدخل السرور على قلب طفل يتيم ذو إعاقة، خاصة وأن هذا الطفل كان في يوم من الأيام يشيد به زملائه، والكابتن الخاص به كان يتوقع له مستقبل منير في كرة القدم لولا الحادث الذي تعرض له مع والديه وأسفر عن موت والديه، و بتر ساقه وخسر حلمه وتفوقه على زملائه، وخسر حضن والديه، لكنه بحث عن هدف ثاني ونمّاه بعد علاج نفسي وعصبي رهيب أخذ من جهدها الكثير دائمًا ما ترى ثمرة جهدها فتسعد، إلا مع هذا الطفل تشعر وكأنه ابنها وجزء من روحها، كما أن له العديد من الفيديوهات على صفحة الدار الإلكترونية، وحتى أنه الآن له صفحته الخاصة، وجمهور بالآلاف، وقد آتى عدد كبير من جمهوره لزيارته، واستخدمت هذه الرواية لتحكيها لهذا الضابط الذي شعر فجاءة أنه لم يعد له قيمة بين الناس، ونصحته بأخذ دورات في عمل الحاسب كما فعل زميل له بسبب إصابة مماثلة، وأصبح زملائه يعتمدون عليه بصفة كلية في تتبع المجرمين الخارجين عن القانون عبر الإلكترونيات، لقد كادت أن تشعر باليأس معه لولا خطِيبته التي علمت بالصدفة أنه يحبها بشدة، فطلبت مقابلتها لتعاونها في إيجاد طريقة تخرجه مما يعاني منه، قدمت له في دورات الحاسب واللغات، لكنه لم يجد ذاته هناك، بدأ الآن دراسة المواد الكيميائية والتفاعلات، وبدأ القراءة حول كيفية صناعة القنابل السريعة منها وصغيرة الحجم وغيرها، وبدأ يقتنع بوجوب تقبل حالته والتأقلم معها بصعوبة بعد رحلة علاج طويلة، لقد أرسل في طلبها اللواء عصمت منذ قليل وتعلم أنه سيسألها عن هذا الضابط وهذه المرّة الأخبار مُبشرة جدًا، رّن هاتفها لتجد اسم "ميسون" يزيل شاشته، لتبتسم وهي ترفع الهاتف لأذنها، ورحبّت بها:
-كيف حالكِ "ميسون"؟ هل كل شيء على ما يرام؟
ليصل صوت الجدة مبتسم:
-أنا كُلي على ما يرام، أما أنتِ فلا تُريحين أحد بإجابة شافية.
رفعت رهف حاجبيها بمرح وهي تجيب:
-أنا على ما يرام.
وصلتها تنهيدة الجدة المرهق:
-لا تبدين كذلك.
رفعت سبابتها بجانب الوسطى والإبهام يقابلهما، لتسند جبهتها، وأجابت:
-على العكس تمامًا، أنا كذلك بالفعل.
لتقول الجدة بلهجة ذات مغزى:
-لم تبدي كذلك يوم اليتيم خاصة بعد مغادرة نور.
ابتسمت بشحوب، وردت بمرح:
-من نور هذا أصلًا؟!
ضحكت الجدّة بوهن وهي تعلم أنها تتنصل من الحديث كما فعلت في الميتم، والحقيقة أنها دائمًا تتنصل من الحديث في هذا الأمر، ودائمًا تتساءل هل حفيدتها تهرب من الكلام في مشاكلها مع زوجها السابق لأنها كانت غير راضية عن هذه الزيجة من الأساس؟ فيشعرها ذلك بالذنب لأنها لم تنصت لحديث جدتها من قبل.
༺༻
بعد أن تم الموافقة على الخوض في هذه التجربة أخيرًا، في اجتماع أربعة رائدين في خطة عمل للإيقاع بأكبر شبكة ارهابية في العالم، حيث وصلتهم الأخبار السريّة المسربة بأن رئيس الشبكة داخل البلاد باسم مستعار، تلقوا أربعتهم تقريع من سيّادة اللواء بسبب دخول هذا الرجل لأراضي الوطن واستقر أكثر من أسبوعين، ولم يعلم أحد من الفريق المكوّن تحت قيادة المقدم شريف، وكان معه كل العذر، لقد كان مشغولٌ مع زوجته لأجراء الفحوصات والتحاليل لهما الاثنين، واليوم سيغادر مبكرًا ليذهبا للطبيبة، غير أنهما أيضًا مكلفون بزيارة لبيت خالته للترحيب بابنة خالته التي جاءت من بلاد الغرّب بعد أن أتمت سنين دراستها، كل هذا يعطل سياق سير العمل، انتبه أنس من شروده لدخول حازم، الذي قال بعد التحية:
-هناك أمر غامض في هذه المعلومات، كيف دخل باسم مزيف ولم يستدل من جواز سفره أنه مزيف.
ضحك تيم بتهكم وهو جالس فوق سطح مكتبه بقدم والأخرى يتكىء بها على بساط الأرض، رد على سؤال حازم:
-يا بني، الجوازات التي تُزيف في أراضينا لا يتم اكتشافها إلا بعد استخدامها مئات المرات، فما بالك بالتي صنعت في بلاد الغرب حيث التقدم بآلاف الخطوات.
تحدث حازم بصلابة بعدما استقر خلف مكتبه:
-يمكن أن يكون لديك حق، لكن الغربيين مثلنا أيضًا، لا يكتشفون الجوازات المزيفة إلا بعد أن يهلكها الاستخدام.
ابتسم تيم باتساع وقال بجدية تهلك من الضحك:
-لقد ابتعدت عن النقطة التي نتحدث عنها، وستجرني للكلام بالسياسة وأنا والدتي تخشى علي من السجن وخلافه، سأذهب لجلب القهوة هل يريد أحدكم؟
أجاب أنس بالنفي وهو يضحك على مزحة صديقه، بينما حازم ظل يسأل ذاته بوجه متجهم صلب "أوَ ليس هو ضابط بل رائد؟! كيف يخشى الحديث بالسياسة حتى لا يعتقلوه؟!".
༺༻
خرجت بذهن شارد من مكتب اللواء عصمت، وكما توقعت أراد سؤالها عن الضابط الذي في طريقه للمعفاة، وكم أشاد اللواء بها وبقدراتها! كما لو أنها أول مرة، لكن احقاقًا للحق فحالة هذا الضابط كانت تكاد تكون مستعصية، اللواء عصمت هو شخص فرق في حياتها العملية جدًا، لقد أخبرها أكثر من مرّة أن جدها – رحمه الله – صاحب فضل عليه، وأنه مهما فعل لن يوفيه حقه، حيث أن هذا اللواء العظيم أخطأ في بداية حياته خطأ كاد يؤدي بوظيفته لولا فضل جدها بعد فضل الله، لم تصدق حتى الآن أن هذا الرجل المُهيب الذي غزا الشيب رأسه، ذو النظرة المحنكة أخطأ فيما سبق، لقد كان صاحب رأي صائب دائمًا، ولم تراه في شبابه على الواقع، لكنها تتخيل بأنه كان رجل لا يخطأ أبدًا، راقي الحديث، وحسن المظهر، وحليم الطباع، كما أنه أكيد كان وسيم، يبدو أنها لم تتعلم الدرّس جيدًا، لا تزال حالمة، ترى الدنيا بألوان الزهو.
في رجوعه من عند ماكينة القهوة، وجدها تسير بغير هدى، شاردة الذهن، فابتسم بتسلية وتزينت ملامحه بعبثية، واقترب بسيره منها، تنحنح ومثّل الفجائية قائلًا:
-الطبيبة رهف! يا لا مفاجئتي، يا له من صباح مشرق، الآن فقط اعتدل مزاجي، ويبدو أنني لا حاجة لي بالقهوة!.
قلبت رهف عينيها، فهي أصبحت تراه كل يوم تقريبًا، وقد اعتقدت سخافته في البداية لطفٍ منه، لكنه أثبت غير ذلك، ورغم معرفتها بشخصه إلا أنها رسمت ابتسامة هادئة، واستدارت ترّد:
-مرحبًا، سيادة الرائد، كيف الحال؟
رد مبتسم، والتلاعب يتراقص فوق صفحة وجهه:
-الحال بخير، ويوصلك سلامه، يتمنى فساد النفسية ليأتيكِ يوميًا.
ابتسمت للزوجته مجاملة، وقالت قبل أن تستدير ذاهبة:
-أستسمحك عذرًا، لدي بعض الأعمال.
وغادرت، ليقف هو يراقب خطواتها المبتعدة، و ذيل الحصان الأشقر المتأرجح في مؤخرة رأسها، رفع كوب القهوة لفمه وارتشف منه قليلًا، ثم قال ناظرًا لكوب القهوة الكرتوني:
-ما بالها القهوة أصبحت ألذ!
༺༻
منذ زمن لم تقرأ لتبدأ بهذه الرواية، ويا ليتها لم تبدأ، أو ليتها لم تبدأ بهذه الرواية خاصة، لتفتح عينيها على أمر جلل، لم تشغل تفكيرها أبدًا، طول حياتها مع زوجها تعيش مثل هذه الحياة الزوجية التي تعيشها البطلة في الرواية رغم اختلاف الظروف، لذلك جذبت انتباهها، لتكمل القراءة لتعرف أن حياتهما هذه خطأ، فقررت أن تأخذ أطفالها من المدرسة والذهاب لمنزل جدتها تسألها وتستشيرها، بعد موافقة زوجها، قد تكون في هذه الحياة زوجة عاصية!.
༺༻
انتهى الفصل الثاني.
قراءة سعيدة.
تدقيق هالة عماد "بائعة اللطف".
مراجعة شيمو أبو النجا.


چورية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-07-22, 04:39 PM   #6

چورية

? العضوٌ??? » 505085
?  التسِجيلٌ » Jul 2022
? مشَارَ?اتْي » 40
?  نُقآطِيْ » چورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الثالث
خرج من عمله وأجرى اتصال بزوجتِه لتجيب بإرهاق أو بصوت شبه باكٍ هكذا خمن،
-مرحبًا، هل وصلت للمنزل ؟
رد مبتسمًا:
-ليس بعد ، أين أنتِ؟ هل لا زلتِ في منزل الجدّة؟
أجابت بشيء من الاقتضاب:
-نعم.
فقال بنبرة آمرة:
-حسنًا، سآتي لآخذكِ أنتِ والأطفال.
وصله صوتها المرهق، رغم نغمته المميزة:
-لا داع لهذا، على كل حال، فقد أراد ماجد وسيف المبيت مع جدتهما وخالتهما لذلك سأنزل وآتي بسيارتي.
مروان بنبرة حازمة آمرة:
-بل ستنتظرين مجيئي لآخذكِ.
و بعد انتهاء المكالمة، فكر بأن هناك شيء بصوتها، طريقة غريبة في إلقاء الجمل، كما أنها لم تستشيره في أمر مبيت الأطفال لدى جدتهم، لأول مرة تفعل غرام شيء دون استشارته، وهذا جعله يتخبط قليلًا، لكنه أرجع الأمر لسهرها ليلًا لإنهاء التصميم الأخير، واليوم كان حفل انطلاقه، فكل هذا جعله يدرك أن تغيرها قد يرجع لإرهاقها!
༺༻
عندما وصل لمنزل الجدّة اتصل بزوجته لتنزل له، انتظرها قليلًا في سيارته يتابع هاتفه، حتى شعر بباب السيارة يُفتح لتدلف جالسة بجانبه دون أن تنطق بحرف رغم أنه لمحها وهي تشق طريقها للخارج إلا أنه أصر على عدم رفع نظراته لها، نظر لها عندما جلست بجانبه، و أجاب تَحيّتها التي لم تُلقيها:
-مساء النور.
لتنظر له، وحاولت صُنع ابتسامة قائلة:
-مساء الخير.
ولم تتحدث مرّة أخرى، وأسندت رأسها على ظهر مقعدها، تُراقب الطريق المتحرك والأشجار المتلاحقة، تتنهد وتسبل جفنيها ولم تعتقد أبدًا أنها ستغفو، لكنها في الأخير فعلت وعندما استقرت السيارة توقّع أن تفيق لكنها لم تفعل، ناداها بصوت مسموع:
-غرام.
لم ترد، فنادى بصوت أعلى ولم ترمش حتى، فعّلى صوته أكثر، وعندما يئِس من استيقاظها اقترب منها وكاد يضع يده على كتفها، لكن لمح في الظلام طرف أسود يظهر من تحت حجابها، ليخرجه ببطء، وكلما ظهر و وضّح ازداد اتساع عينيه بإدراك أوجع قلبه، لقد كان الشيء الأسود سماعة أذن وليست سماعة أذن عادية، بل سماعة أذن طبية، تشبه سماعة الأذن التي يرتديها الطفل الذي في الميتم، ماذا كان اسمه؟؟؟ نعم حمزة!
༺༻
استلما أخيرًا آخر تحليل من المعمل، ووصل به للطبيبة التي جلست تتفحص كل الأوراق بإتقان وتفرز الورق إلى جانبين تدقق وتفحص وضربات قلبها تزداد مع كل انعقاد لحاجبي الطبية تكاد تصرخ فيها كي تريح قلبها المضطرب بين جنبات صدرها كي تهدىء من صرخات رحمها المتشوق لإحتضان جنين، وأنس يجلس أمامها يلفه الهدوء لكن بالنظر في عينيه عَلِمت منها مدى توتره الذي فاق حدود المستحيل، انتهت الطبيبة أخيرًا من التفحص والتمحيص بين السطور لتخلع عويناتها الطبية قائلة بعملية وعلمية رغم ابتسامتها المحنكة:
-لا تقلقا هكذا الأمر بسيط.
قالت ملاذ بارتعاش لم تلاحظه الطبيبة ولكن التقطه أنس بسهولة ليمسك بكفها المستريح في حجرها بحركة تدل علي الإرتباك المُضني الذي يفتك به وبها حاليًا:
-ماذا هناك يا حضرة الطبيبة؟
ابتسمت الطبيبة تقول:
-السيد أنس طبيعي جدًا، ولا يوجد لديه مشكلة.
أغمضت ملاذ عينيها منتظرة الباقي، منتظرة لطف الله بها بألا يكون بها عقم، في حين أكملت الطبيبة:
-هناك مشكلة بسيطة للغاية لديّكِ سيّدة ملاذ.
سألت ملاذ مستمرة في تسبيل جفنيها، أو هكذا بدى:
-هل هناك أمل؟!
سؤال مبهم التفاصيل، ولكنه مفهوم حد الألم الذي شرخ صدر أنس الذي ينظر لصفحة وجهها الموجوعة، فأجابت الطبيبة ببهجة:
-نعم، بالطبع وبنسبة كبيرة أيضًا، مع تناول بعض الأدوية تحل المشكلة وتصبحين حامل إن شاء الله.
دائمًا كانت واثقة في كرم الله ورحمته ولطفه بها وبقلبها الذي كاد يتوقف منذ دقائق، لذلك ردت بصوت أقرب للغمغمة:
-الحمد لله.
فقالت الطبيبة ببشاشة:
-زادكِ الله إيمانًا ورضا سيدتي.
أجابت ملاذ:
-شكرًا لكِ.
༺༻
ظل ينظر للسماعة في يده بذهول، عينيه على اتساعهما وفمه مفتوح باندهاش ووجهه مبهوت الملامح شاحب لونه، والانقباض في صدره يزداد فحركت غرام رأسها باستفاقة والخواء الصامت الذي لف إذنها جعلها تُقطّب حاجبيها، لتنظر نحو مروان لترى ملامحه في الظلام والتي جعلها تنظر في الاتجاه الذي ينظر له لترى ما تقبض سبابته وابهامه عليه لتشهق بعينين متسعتين وهي ترفع يدها نحو أذنها لتُدرك أنها ليست بحلم، ليتها لم تغفل، ليتها لم تغمض عينيها لتريحهما قليلًا، ليتها تقدر على إعادة الزمن.
رفع مروان نظراته بسؤال ضمني صامت، فأغمضت عيونها لثواني وفتحتهما كخيوط من الدم، وترقرقت الطبقة الزجاجية فوق خضار حدقتيها، وانحدرت دمعة بطيئة صغيرة تنساب كأنما تحتضر صاحبتها، بدت كقطة صغيرة ضئيلة ضعيفة لا حول لها ولا قوة، أخذت شهيق قوي تملأ به رئتيها بالهواء، وفردت يدًا مرتعشة في اتجاهه، فَهِم طلبها الصامت، كانت لحظات ثقيلة تمُر وهي في انتظار أن يضع السماعة في يدها الممدودة بارتعاشٍ أوجع قلبه، وضع السماعة المكونة من قطعتين موصولتين بسلكٍ في كفها، فأطبقت أصابعها على القطعتين داخلها تلهث من فرط الألم، لتفتح باب السيارة وتخرج منها لداخل الxxxx الذي يسكناه، ثم لداخل المصعد الكهربائي الذي أغلق أبوابه سريعًا، وهي على عِلم بأنه سيضع السيّارة في المرآب وسيأتي ويكون الحديث طويل الأمد كما أفهمتها جدتها.
ثم تذكرت أمر الرواية التي أبصرت عينيها على علاقتها بزوجها، الذي حتى الآن لم يصبح زوجها فعليًا، وكيف سيكون زوجها وهي حتى هذه اللحظة تعتبره أخيها فهو أخو زوجها الراحل عمران، كانت ولا تزال تعتبر مروان أخيها الصغير، أرادت الصراخ من كل قلبها، لقد خبّأ عمران إعاقتها عن جميع عائلته، وقد طلبت منه كثيرًا إخبارهم لكنّه رفض رفضًا قاطعًا حتى إخبار والدته بهذا الأمر مبررًا أنّ لا دخل لأحد بحياتهما الخاصة، لقد رفضت الزواج بأخيه بعد موته خاصة وأنها مازالت تحبه والأصعب أن حبها له لم ينتهي حتى الآن، لكن والد عمران كان سيحرمها من طفليها، إن لم تتم هذه الزيجة، كانت وحيدة ليس لها غير أطفالها، ولم تكن إن تخلت عنهما، لقد كانا السبب في تمسكها بالحياة بعد رحيل زوجها، زوجها الذي كانت ولا تزال مخلصة له كل الإخلاص الذي وجد على وجه البسيطة حتى بعدما رحل عن عالمنا الظالم.
༺༻
يقود سيارته على أقوى سرعة، قبضته منقبضة على المقود حتى برزت الأوردة الخضراء، وجهه شديد الحُمرة مما يجيش به صدره، ألهذه الدرجة لم تشعر نحوه بالأمان، كان يعتقد أن تمسكها بالحجاب ما هو إلا خجل طبيعي لأي امرأة مرّت بظروفها، كيف سمح بهذا، كيف سمح لهذا التبرير الساذج منه أن يسيطر على عقله، كيف تراه لتخبأ عنه أمرًا كهذا، أل هذه الدرجة تراه من أشباه الرجال، اللوم ليس عليها، لقد ساعدها في ذلك منذ أربع سنوات عندما استقرت معهم تسبيح في المنزل لدراستها، فغيّر مواعيد عمله حتى لا يجتمعا بالمنزل وهي ترتدي الحجاب، وقتها تسبيح كانت لتشك بوجود خلل ما، وكانت ستخبر والدتهم، ففعل ذلك اتقاء لأي مشاكل سوف تحدث إذا أدركت تسبيح طبيعة العلاقة بينهما، ليته لم يفعل، ليته كان متواجد وأجبرها على خلع حجابها، حصنها المنيع، كم هو أضحوكة في نظرها، كم هو ليس برجل يعطيها أمانها الكافي لتخبره بما يخصها، بعد أن بدأ يشعر أنه فهمها جيدًا جاءت بهذا لتسخر منه، أي قدر هذا الذي جمعه بها! ضرب بقبضته على المقود بعصبية وزأر كأسد يحتضر.
༺༻
منذ أن وصلت ناردين ابنة خالة زوجها من أسبوعين، ووالدته تطالبهم بزيارة ليرحبوا بعودتها للوطن بعد هذا الغياب الطويل، لم ترتاح لهذه الزيارة، وتخشى مواجهة زوجها بهذه الناردين وخاصة انها كانت تُكْنْ له مشاعر الحب والهوى قديمًا، وهي لن تسمح بهذا أبدًا، حتى وهي متأكدة أن زوجها يحبها ولا ينظر لغيرها.
كانت زيارة ثقيلة خاصة والسيدة زينب وشقيقتها يحاولن تدوير الحديث حول أنس وناردين التي بدت وكأنها مستمتعة بالحوار جدًا، أتراها قادمة لتمد خيوط الوصال من جديد؟! لا لن تكن ملاذ إن سمحت بهذا أن يحدث، تحدثت ملاذ لناردين بتهور:
-كيف حال بلاد الغرب يا ناردين؟ وهل استمتعتِ هناك؟ أم كان وقتك كله دراسة.
ابتسمت ناردين وهي تجيب:
-نعم عزيزتي، يجب أن تسافري لهناك ولو لمرّة للاستمتاع أم أنك كبرتِ على هذا؟
هناك سؤال واحد جاء على فِكر أنس الجالس " هل ناردين دقت آخر مسمار في نعشها توًا؟" لذلك احتضن كتفي ملاذ بسرعة، وأرجعها للخلف بعد أن كانت في وضع الهجوم على ناردين، وتشويه وجهها بكل طريقة مختلة، خاصة بعد حالة الإحباط التي مرّت بها بعدما علمت أن لديها مشكلة مع الحمل، ثم ابتسم وهو يداعب خدها بأصابع يده المتدلية من الناحية الأخرى من كتفها، وقال لناردين:
-من هذه التي كبرت؟ ملاذ! الجميع يكبر وتظهر علامات شيخوخته وملاذ تكبر وبصحبتها الشباب وربيعه.
وأقرن كلامه، بتلطيف ابهامه لوجنتها بنفس اليد المتدلية، لتنظر له ملاذ، ليأسر سوداويتها ببنيتيه، وأكمل لناردين وما يزال ينظر لليلتاها بين جفنيها:
-كما أنها تعجبني بجميع حالاتها ومراحلها العمرية.
ابتسمت ملاذ شاعرة بالزهو والإنتعاش، فتدثرت بحضنه كقطة تتمسح بصاحبها، وتريد إرضاءه، دائمًا ما يلجم أنس طبعها الناري، الذي يحضر في التو إن تطلب الأمر، لكن أنس له سلطانه عليها بالحزم إن كان، وبالمراضاة والحنو دائمًا.
لم يعد للمنزل منذ أول أمس، واضطرت للذهاب في الصباح لبيت جدتها حيث سيارتها، سيرًا على الأقدام ثم ذهبت بسيارتها للعمل أمس؛ لقد حلمت بيوم انطلاق التصميم الجديد وكانت توّد الاحتفال بين عائلتها الصغيرة عند العودة للمنزل، لكن نُغص اليوم، وحل أمر معرفة مروان بإعاقتها، وعندما تتذكر المشهد تشعر بالخزي، ويعتمل الألم صدرها، وعندما تسترجع مظهره وهو مندهش تشعر بقلبها يتفجر بين أضلاعها، وهناك شيء لا تعرف كنهه يقبع في منتصف قفصها الصدري، كيف ستتواجه في جلسة بينهم هي أكيدة، جلست تقوم بتحضير صندوق الطعام لأطفالها الإثنين، الأطفال!! حتى أطفالها لم يسأل عنهما وهما سبب زواجهما في الأساس، اعتلت السخرية وجهها وهي تقوم بدهن الجُبن في شطيرة، رفعت أنظارها فجاءة لتراه واقفًا مكتف الذراعين ينظر لها نظرة تملؤها حزن ربما، أو ربما شفقة كرهتها كثيرًا، وشيء آخر لم تدركه، هناك شعور داخلها كشعور العائد من الموت، أو كشعور من دبت بداخله الروح لرؤيته معافى سليم الجسد، فؤادها كان يقفز فرحًا وروحها ترقص ابتهاجًا، شبح ابتسامة رقيقة ارتسمت على شفتيها القرمزيتين، ثم تذكرت أنها لم تسمع صوت الباب وهو يفتح، هل سقطت السماعة مرّة أخرى؟ دائمًا كانت السماعة مثبته ولم تسقط من مكانها من قبل لم تتحرك حتى غير هذا اليوم الذي كان يوم نحسها رفعت يد مرتعشة ظنت أنه لن يراها لو تعلم كم هو مهتم بكل تفصيل بها! رأته وهو يغمض عينيه حسرة، فأنزلت يدها بعد أن تأكدت من وضع السماعة المضبوط في مكانها الصحيح، وعلمت أن ذهنها كان في حالة غياب وليس شرود، أنزلت يدها بشعورٍ متأرجح بين الفرح لعودته معافى ورؤية طلته البهية التي تدخل السرور في النفس منذ أول وهلة، البهية لدرجة أن يَسُرَّ عينيها ببهجة لذيذة تدغدغ داخلها بشعورين متناقضين، شعورين يضعوها في حيّرة تفتك بقلبها ومشاعرها وأخيرًا عقلها، وشعورٍ آخر بالخجل وكأنها تريد الاختفاء من أمامه بعدما علم بعجزها، تعلم أنه الآن سيشعر بالنفور منها وهي لا تريد ذلك، إلا مروان هو من أوكلته أمورها كلها وأطفالها بعد عمران، وكان نعم السند والعون، دائمًا سيظل له مكانة خاصة عندها.
بينما هو في عالم آخر، لقد دلف من البابِ منذ برهة، راقب شرودها المتألم بنعومة، نعومة أهلكته منذ أن وافق أبيه صاغرًا لحكم العائلة وعرف البلد، بل وأقنعها بالموافقة على الزواج به بعد إتمام عدتها من أخيه _رحمه الله_ وقطع لها عهد ببقاء الزواج صوريًا بينهما، ويظهران أمام الناس من حولهما زوجين طبيعيين للغاية، ويبقى فاعلية الزواج سر بينهما، ليبقى العذاب له يقفز كل يومٍ كحباتِ الذرة فوق صفيح لاهب من النيران التي تحرق خافقه بالشوق والاشتياق للحبيبة المحرمة، استند على الطاولة بجانب الباب وراقب انتباهها لوجوده أخيرًا وعينيها الكبيرتين ترفعهم نحوه، لتصيبه أسهمهما الخضراء تصوبت باتجاه نابضه المتقلب بين حرائق الغرام المتآكل، وظل يراقبها وهي ترفع يدها وأظافرها المطلية بلونٍ غريبٍ من الألوان التي تقع في غرامها، ألوانٍ تصيب الشبكية بالعتم في الحقيقة لكن ما دام تحبها غرام فبالتأكيد أخذت صك حصري لاهتمامه، أغرم بها كاسمها تمامًا، غرام وهي عندما تقع في غرام شيء تسقيه الشهد سقيًّا، وكم واقع هو في غرامها! ويغرم بكل ما تغرم به، أي حب أحبه لها؟ لو علم أحد أصدقائه بالقوات لرموه رشقًا بالرصاص الحي، ليجعلوه عبرة لمن لا عبرة له! عشقه المحرم والبعيد للغاية، يوجد في منطقة خطرة!
قطع تواصلهما الصامت خروج تسبيح من إحدى الغرف تقضم الشطيرة التي بيديها، وشعرها ترفعه في ذيل حصان ضخم خلف رأسها، حتى أن شعرها الأحمر يظهر من خلف رأسها بلفائفه الدائرية الصغيرة بشكل حلقاتٍ حلزونية تدور حول نفسها حتى منتصف ظهرها، وقالت بمرح :
-ما هذا لقد جاء أخي الوسيم؟ أين كنت يا رجل؟ وأين كنت تبيت ليلتك؟
ابتسم مروان بحنان وهو يمد ذراعه نحوها، لتقترب بصمت وتحتضنه بلف ذراعيها حول جذعه الصلب، وتريح رأسها ذات الشعر الكثيف على صدره ليضمها بحنان، ضيقت تسبيح بين حاجبيها وهي تفكر أن مروان لا يصبح عاطفيًا هكذا إلا عندما يتألم بشدة، فأرجعت رأسها للخلف وهي تنظر له، ثم حررت أحد ذراعيها من خلف ظهر شقيقها، ومدّت يدها بالشطيرة نحو فم مروان الذي ابتسم ضاربًا مؤخرة رأسها ليعيق يده شعرها الكثيف، لتنظر له بعين ونصف قبل أن تقضم شطيرتها، ثم قالت بجدية:
-ألم تقل أن مبيتك في العمل انتهى ...
قاطع مروان استرسالها، قائلًا:
-أمي ستأتي في زيارة لنا اليوم.
ابتسمت تسبيح بقوة وكادت تقفز سعادة، نعم هي لا تريد الاستقرار في بلدهم، وتكره عاداتهم جدًا، لكن هذا لا يمنع اشتياقها لحضن والدتها المنيع، فقالت مغادرة:
-ستبيت في غرفتي بالتأكيد فيجب أن أرتبها، حتى لا أنال سبة في مقدار نظافتي المتدني.
ابتسم لها مروان، وراقب انصرافها ثم ألقى نظرة تحمل في طياتها الكثير لزوجته التي لا تعترف بهذا حتى الآن، لم يجد ما يقوله ويعبر عما يجيش بداخله فآثر الصمت.
وعندها خرج سيف كزوبعة غير مهندمة، مندفعًا نحوه وهو يقول له "لقد عدت يا أبي" وقد تربى على مناداة مروان بـ " أبي " وهو يعلم تمام العلم أن مروان ليس بوالده وإنما والده في السماء لقد حرصت غرام على توثيق هذا في رأس الطفلين، وكم أحب هذا منها، لأنها بالرغم من أنها حرصت على وجود عمران لطفليه، إلا أنها ربتهم على وجوده كأب لهم، رغم كل الأصدقاء الذين نصحوها بألا تفعل ذلك حتى لا تشتت الأطفال لأنهم لا يدركون هذا الكلام الآن، كم أحبها وكم يحبها، لقد تغلغلت داخله حتى أصبحت تجري في عروقه مجرى الدم، لكن رغم ذلك لن يستطيع مسامحتها هذه المرة بسهولة.
༺༻
كاد يقترب من محل عمله، لكن جاءه اتصال منها وهل له أن يرفض اتصالها؟ فتح الاتصال وفتح مكبر الصوت، ليصله صوتها الباكي:
-مروان! لقد اتصلوا بي من المدرّسة، ويقولون أن ماجد تعدى على أحد الأطفال بالضرّب، ويطلبون في المدرّسة حضوري، وأنا لا أعلم كيفية التصرف خاصة أنهم لم يمدوني بالمعلومات، هلا جئت إلى المدرّسة من فضلك؟
تنهد قائلًا بحزم:
-توقفي أولًا عن البكاء يا غرام، لما البكاء؟ أيًا كانت المشكلة ستُحل بإذن الله، وأنا سأذهب إلى المدرسة، لا تقلقي، ولا تأتي.
قالت بحزم:
-لا، أنا قادمة.
༺༻
وصل أخيرًا للمدرسة، بعد أن اعتذر من زملائه عن تأخره لأمر هام جدًا، ومن المحتمل عدم ذهابه للعمل اليوم، ترجّل من سيارته ذاهبًا نحو سيارة غرام التي وصلت قبله وانتظرت مجيئه، خرجت من السيارة وهي تراه متجه نحوها، وعندما وصل لها، ورأى أنفها الأحمر، ووجهها شديد الشحوب، فجز أسنانه قائلًا:
-لما البكاء يا غرام بالله عليكِ؟ ستجعليني أفقد أعصابي الآن.
أسرعت تنفي برأسها، وكفها بهيستريا، وقالت:
-لا، أنا لا أبكي بسبب دعوتهم لنا، كل ما في الأمر أنني، أنني ...
بدأت تفرك كفيها، واستسلمت قائلة:
-أني لم أستطع أن أكون أم لديها المقدرة للدفاع عن صغارها.
مال بوجهه زافرًا، وهو يرى تجمع الدموع بعينيها مرة أخرى، فأمسك بيدها بين كفه مطمئنًا، وهذه كانت الطريقة الوحيدة التي يستطيع طمأنتها بها الآن، مسح دمعتها التي تدحرجت من بين جفنيها المفتوحين بذعر عن آخرهما، وجرها خلفه ممسكًا بكفها، حتى وصلا مكتب المدير، دلفا الاثنين فوجدا سيدة وقورة خلف مكتبها، وأمامها على أحد الجانبين رجل وامرأة في مقعدين متجاورين، استقامت السيدة الوقور مرحبة بهم بابتسامة لبقة، ثم تحدثت تطلعهما على الأمر:
-الحقيقة أنا لا أعرف كيف أبدأ، لكن يا سادة لقد تشاجرا طفلان صغيران وهما في أرض الملعب يقومان بطقوس صف الصباح الخاصة بالمدرسة، وقد بدأ بالمشاجرة الطفل سيف، وعندما رآه ماجد تدخل وقام بضرب الطفل الآخر، ويعتبر هذا عنف من قِبل الشقيقين.
ظل مروان يستمع بهدوء حتى انتهت، وطلب بلطف:
-أريد رؤية أبنائي من فضلك لأعلم لما افتعلا هذا، خاصة أنه أول مرة يصدر عنهما هذا الفعل.
تكلمت السيدة بحزم:
-وستكون آخر مرّة، وإلا لن أكون رحيمة المرّة القادمة، سيرة المدرسة لا يمكن أن يمسها أي سوء.
هب مروان واقفًا بعد أن ضرب الطاولة القصيرة التي تفصل بين كرسيين مروان وغرام، والكرسيين المقابلين واللذين يحتلهما والدا الطفل المعتَدى عليه، وصرخ بالمديرة:
- لن تكوني رحيمة يا سيدة! من أنتِ! وما هي مدرستك تلك، إن أردت لأغلقتها غدًا، لذلك أريد رؤية أطفالي دون مجادلة.
ثم تنهد، واستدعى هدوءه، طلب بلطف يظهر اصطناعه للعيان:
-والآن أريد رؤية أطفالي من فضلك.
رفعت المرأة سماعة الهاتف بهدوء تحسد عليه، وطلبت من الطرف الآخر المجيء بالأطفال المتشاجرين، ليدخل بعد قليل الثلاث أطفال، وكان ماجد يحتضن سيف وكلاهما على وجهه وملابسه آثار المشاجرة، وخلفهما دخل الطفل الثالث وكانت حالته مريعة، اقترب مروان من أولاده وجلس أمامهما، فقال سيف وهو على وشك البكاء:
-أنت أبي، أليس كذلك؟!
جذب مروان رأس سيف إلى صدره مقبلًا شعره، وسأله:
-وهل عندك شك يا ولد؟
أبعد سيف يد مروان عنه بعنف، وهو يقول مشيرًا للطفل الثالث:
-لا، ولكن هو لديه شك، يقول أنك لستُ أبي، وأن أبي مات، وأن لا أحد يمتلك أبين مثل ما أمي تقول.
ابتسم مروان بألم، وقال:
-هو لديه حق، لا يوجد أحد يمتلك أبين، لكن هناك من يشعر بالأبوة نحو أبناء الآخرين كما فعلت أنا نحوكم، وأبناء يحبون آباء آخرين كما فعلت أنت نحوي، لذلك لن يفهم أحد علاقتنا غيرنا، لكن أبويك غاضبان منك ومن ماجد أيضًا، كيف تتشاجران مع زميل لكما، هل هكذا تكافئان والدتكم ووالديكما أيضًا؟
هنا تحدث ماجد بغضب وهو يقول:
-هذا الزميل قال أن والدتنا لم تحب أبينا، وأنها من الممكن أن تكون هي السبب في موت أبي لكي تتزوج منك أنت، أبينا الجديد.
التفت مروان نحو غرام، ليجدها تكتم شهقة مذعورة، وعينيها مفتوحتان باندهاش صادم في خضرته الرمادية، فأغمض عينيه زافرًا، ثم نظر للطفل الخائف والمحتمي بقدم والده، ثم قال:
-هذا لا يسمح لكما بضربه والمشاجرة معه هكذا، لسنا قطاع طرق يا بني.
بعيون دامعة أطرق كل من الطفلين أمامه رأسهما، ليقول بحزم:
-انتظرونا في الخارج أمام الباب.
انصرف الطفلين، ليقف ويستدير متخصرًا، ثم تحدث للطفل الخائف خلف قدم والده:
-والآن حان دورك، كيف تتحدث هكذا؟ وكيف تقول مثل هذا الكلام لزميل لك؟
لتهتف غرام فجاءة:
-الحقيقة أن لا لطفل في مثل هذا العمر أن يفكر هكذا، المشكلة فيمن أدخل مثل هذا الكلام في رأسه.
ثم نظرت لوالدا الطفل بنظرةٍ ذات مغزى، واستأذنت:
-اسمحوا لي، عليّ أن أغادر، لكن أطفالي غير مخطئين، لقد كانا يدافعا عن أمهما.
تكلمت المديرة بتروٍ ومهادنة لتلطيف الأجواء:
-الحقيقة أنني لم أكن أعلم سبب المشاجرة، لكن رغم ذلك يجب أن يعلما أنهما مخطئين حتى لا يعاودا الكَرّة مرة آخرى.
༺༻
كانت تُحضّر لنفسها كوب قهوة محلاة من هذه الماكينة التي اعتادت على مذاق القهوة منها، رفعت الكوب نحو فمها لترتشف منه القليل مستمتعة بها، ثم استدارت لتعود لمكتبها ودفاترها لتعمل، لكن راح مذاق القهوة، وذهبت المتعة وأخذ من بين يدها مزاجها الرائق، ملامحها بهتت فجاءة وهي ترى نفس الشخص في نفس المكان، مستند على حافة إطار الباب، وكأنه مُصر على أن يذكّرها كيف كانت تبتهج عندما تراه على وقفته تلك، الغريب أن البرودة أثلجت صدرها بألم بعد أن كان وجوده حولها يمثل لها الدفء الخالص، ورغم ذلك رفعت أنفها بكبرياء مستقيمة الظهر، وسارت في طريقها تتجاوزه، لكنه مسك بأعلى ذراعها، وقال بنبرة كانت تؤثر بها فيما مضى، لكن الآن بعد أن علمت حقيقته كاملة، وبعد أن بنت حِصنها ضده وضد أي رجل، بعد أن أصبحت تقى جديدة قوية مثابرة لن تؤثر بها مطلقًا:
-كيف أصبحتِ قاسية هكذا؟
لتنظر لكفه فوق ذراعها ثم رفعت نظرها له، فأنزل يده سريعًا، فأجابت بتهكم بارد:
-صنع يديك الكريمة يا عزيزي.
ليقول بتوسل شديد العاطفية:
- تقى أرجوكِ، أعطيني فرصة ثانية لأكفر بها عن ذنبي.
ظلت تنظر له لفترة، ثم سألته بشفقة مشمئزة:
-ما نوع الفرصة بالضبط؟
-لم أفهم!
لتقول بحزم قاطع كالشفرة:
-لا، أنت تفهم تمامًا ما أقصده، والآن ما نوع الفرصة التي توّد الحصول عليها؟
ليجيب ناظرًا داخل العسل في عمق عينيها:
-فقط فرصة، لأثبت لكِ مدى صدق وإخلاص حبي لكِ.
رفعت حاجب من بين حاجبيها يدل على اندهاشها من الإجابة، ثم تمالكت نفسها وهي تقول مشددة على كل حرف:
-اسمعني جيدًا لإني قد سئِمت، أنا لم أعد أحبك أبدًا، ويكفي لهذا الحد، يكفي أن أُخبرك أني لم أعد أطيق النظر إليك أو حتى سماع اسمك، لقد تحملتك كثيرًا، إن كنت تريد أن نصبح زملاء عمل لا أكثر، فأهلاً بك، لكن حب من جديد فلا، لن أسمح لنفسي أن أكون خنجر في قلب أنثى مثلي ضعيفة في حبك، والآن اسمح لي لدي عمل.
༺༻
وصلوا جميعًا للمنزل، واستفسرت تسبيح عن مجيئهم مبكرًا عن موعد عودتهم، لكن لم يجيبها مروان أو غرام، طلب منها شقيقها تركه مع زوجته قليلًا، وذهبت لتستفسر عما حدث من الطفلين، بينما مروان استدار لزوجته ذات العيون الباكية بحقل من خضرة المزروعات في أرضها، ويعرف جيدًا أنها تشد وثاق دموعها، فقال سائلًا بهدوء:
-والآن، لما كل هذه الدراما؟ ولما البكاء؟
شاهدها وهي ترفع يد مرتعشة تسند جبهتها مغمضة العينين، ثم تحدثت وهي تدلك رأسها:
-لم أكن يومًا بارعة في التصرف بمشاكل الأطفال، فكان عمران هو من يتولى هذا الأمر، خاصة سيف لأنه كثير المشاجرة والحركة، بينما ماجد كان دائمًا هادئ، كنت دائمًا أجد صعوبة مع سيف، عندما يشتكي منه أحد كنت أعتذر له، وأوبخ سيف دون سماعه وفهمه، حتى نبهني عمران _رحمه الله_ أن سيف في بعض الأحيان يكون معه حق، ولكنه لا يحسن التصرف، لذلك كنت أظلمه في بعض الأحيان وأكون قاسية معه، لكنني لا أعلم كيف أتصرف في هذا قط، حتى أنني عندما تكلمت اليوم كان هناك موقف مشابه حدث عندما كان عمران على قيد الحياة فقال نفس الجملة لذلك فعلت مثل ما فعل، لقد تعلمت منه بعض الأشياء، لكنني ما زلت أشعر بالتوتر في هذه المواقف، أخشى أن أظلم أطفالي، أو أطفال الآخرين.
أومأ مروان بتفهم، لكن في داخله صدحت جملة من مكان مظلم "أي قدر هذا" ثم قال:
-حسنًا إذًا، سأتولى أنا أيضًا مشاكل الأطفال ومشاجراتهم، فلا داعي لهذا التوتر بعد الآن.
ابتسمت غرام ببطء، وهي تعلم أن هذا التوتر ما هو إلا في ضعف شخصيتها، وواحدة مثلها لا ينفعها أن تكون أم، يجب أن تتمتع بالشراسة في هجومها على من يؤذي أطفالها، لا يوجد أم ضعيفة هكذا، ولقد ضاعف ضعف شخصيتها هو إعاقتها التي دائمًا ما تشعرها بأنها أقل من الآخرين مهما حققت من إنجازات، وساهم في ترسيخ هذا الشعور داخلها، تنمر أصدقاءها في مراحل تعليمها، ونبذ والدها لها!
༺༻
توقفت الحافلة التابعة للعمل في نفس المكان التي تقيلها منه كل يوم، دلفت من هذا المنعطف المؤدي لمنزلها، كانت تسير بشرود تام، تفكر في عدم ظهور فريد من يوم الحفل، هل جاءه سفر آخر؟ رحلة عمل من التي تطول إلى شهور، نعم لقد مرّ شهر على أخر مرّة رأته بها منذ يوم اليتيم، في بداية غيابه شعرت بالراحة كونها ستعيد بناء حصنها المنيع، لتتجنب أي غزو جديد من قِبَله أو من قِبَل أي رجل آخر، استفاقت من شرودها على يد تمسك بأحد ذراعيها اللتان كانتا داخل سترتها الطويلة، وهذه اليد تُديرها على عقبيها، شعرت بدوران الكون معها حتى استقرت الصورة أمام عينيها الجاحظتان، نظرت للشخصية التي أمامها بكرهٍ شديد، ثم حررت ذراعيها وهي تدفع يده، ثم صرخت بقوة:
-كيف تجرأ؟ كيف تجرأ يا هذا؟ تأتي إلى هنا؟ إلى حيث أسكن، لقد تعديت كل حدودك حقًا.
ليقول لها:
-جئت لأقول لكِ أني موافق على فرصة الصداقة.
قالت بغضب لم ينتهِ بعد، جمود تمكن من حروفها:
-هذه الصداقة تكون داخل شركتنا فقط، وعندما نتخطى باب الشركة للخروج فنحن لا نعرف بعضنا البعض.
تجهم وجهه وكأنها لكمته للتو، وقال:
-لمّا كُل هذا؟ لا أفهم قسوتكِ الجديدة هذه.
قالت ترفع رأسها عاليا:
-هذا شرطي فإن قبلت فأهلًا بك كزميل، وإن لم تفعل فهذا يرجع لك، والآن عد أينما كنت.
حاول معها من جديد وهو يقترب ليلمس ذراعها، فتراجعت وهي غير مسيطرة على جنون غضبها، ولم يرحمها وهو يقول:
-سأطلقها، سأطلقها لأجلگِ ونتزوج، أرجوكِ يا تقى اسمحي لي بأن أقترب.
نفر وتَر جانب عنقها، ولم يظهر من تحت حجابها، بينما عند هذا المنعطف نفسه التي دلفت منه منذ قليل كانت سيارة فريد تنعطف منه، لتقول بنبرة شديدة الخطورة:
-وابنتك كيف تتخلى عنها هكذا؟ والعشرة التي جمعت بينك وبين زوجتك!
قال كالمجنون، كالذي يستنجد بقشة من الغرق:
-تبًا لكل ذلك أنا أحبكِ، ألا يكفي هذا؟
نظرت له وكأنه كائن فضائي، استجمعت قواها وهي ترد:
-يكفي هذا، وعليك أن تغادر الآن، أنا أعيش بمفردي، ولن أسمح لك بتلويث سمعتي.
-هل يعني هذا أنكِ سامحتني، وأنكِ موافقة؟
هذه المرة لم تقدر على كبح نفسها وهي تصرخ، بينما وقفت سيارة فريد بجانبها:
-تبًا لك ولزوجتك ولكل شيء يخصك.
نزلت إيمان مسرعة التي كانت تجلس بجوار شقيقها بعد أن طلبت منه ايقاف السيارة، لتسأله بهجوم:
-ماذا أتى بك إلى هنا؟ كيف تتجرأ على هذا؟
هنا فقد صبره، ليصرخ بتقى متجاهل لإيمان:
-ماذا أفعل لترضي؟ كيف أراضيكِ بالله عليكِ؟
أغمضت تقى عينيها بعد أن أصبح منظرها مريعًا أمام فريد وكأنها بذلك تمحو هذه الصورة عن فريد نفسه، ثم قالت فاقدة الروح:
-أنا لن أرضى برجلٍ تخلى عن زوجته وابنته، أو بمعنى آخر رجل تخلى عن أسرته، كيانه، ماضيه، ومستقبله لأجلي، فغدًا ستتخلى عني بنفس السهولة، فأمثالك لم يعرفوا الحب ونقائه يومًا، والآن غادر.
ثم استدارت راحلة وهي تضرب الأرض بكعب حذائها الأنيق، بينما وقفت إيمان تنظر له كمن سيُقبل على التقيؤ، وقالت باستحقار:
-لم أرى في حياتي عديم للنخوة مثلك!
ثم تركته لتُلحق بصديقتها، بينما هو التفت ليغادر، ليقف أمامه فريد والقسوة ترتسم في عينيه ذات لون اللازورد اللامع بالغضب، ليقول ببرود لاهب:
-مرحبًا يا صديق، أتعلم لقد تسببت يومًا في معاناتي دون أن تدري لذلك سأسامحك، لكن إن رأيتَك تحوم حول الآنسة تقى مجددًا، أو فقط تفكر في الاقتراب منها خطوة، فلتجهز أطرافك الصناعية من الآن لأني سأقطع قدمك التي تحملك يا هذا، أفهمت؟!
صراخه بسؤاله المكون من كلمة واحدة، ونبرته الشريرة حد الفزع التي كان يتكلم بها، جعلته يبتلع ريقه بصعوبة، لكنه تكلم بشجاعة:
-نحن زملاء عمل، فكيف لا أقترب بالله عليك؟!
قال فريد بخطر، والشرر يتطاير من لازورد عيونه المخيفة:
-إذاً جرّب واقترب، ودع لي التنفيذ.
قال الآخر باستهجان:
-ألا يوجد قانون في البلد؟!
ابتسم فريد بخطورة تدب الرعب في النفس، ثم تحدث بفحيح مخيف:
-ألا تعلم أن أمنيتي في الحياة هي دخول السجن؟! كم أنا محظوظ بصديق مثلك سيحقق أمانيا!
هذه المرة دب الرعب الحقيقي في عينه لينصرف سريعًا دون الإلتفات خلفه حتى!
༺༻
كانت تقى تطرق بكعب حذائها الأرض، وتمسك بحزام حقيبتها بتبرم، وهي تقول من تحت أسنانها المطبقة:
-اللعنة عليّ ، اللعنة على قلب صدقك، اللعنة على قلبي الذي أحبك يا عديم النخوة والشرف.
مسحت دموعها التي عاندتها بقوة، حتى انهزم جفنيها لتسيل دموعها رغمًا عنها، وهذا ما أغضبها، ما زالت تبكِ، رغم أنها تعلم أن دموعها ليست لأجله، وإنما لأجل نفسها التي خُدعت بشخص دنيء هكذا، كيف وثقت بشخص دنيء مثله؟ لقد كنتِ غبية يا تقى غبية، غبية، كيف وصل بكِ غباءك إلى هذا الحد؟
كانت تنهر نفسها، حتى شعرت بإيمان تحتضنها من كتفيها، فقالت إيمان:
-لقد طاوعك قلبك لتتركيني مع هذا الجبان.
ابتسمت تقى بقنوط، لتقول:
-وهل سأخشى عليكِ يا قلب الأسد؟
قهقهت إيمان قائلة:
-نعم لديكِ حق عزيزتي، كل الحق في الواقع!
ثم زادت ضحكاتها وهي تقول:
-فقد تركته وهو يكاد يصاب بذبحة صدرية.
قالت تقى بسخط:
-هل صدقتِ أنكِ تخيفين ماعز حتى؟ يا ابنتي لا تنظري لبنية جسدك التي تبدو قوية، إنما فعليًا أنت كالقشة الوحيدة في وجه الريح!
نزعت إيمان ذراعها من فوق كتف تقى انتزاعًا، حانقة على قولها، ثم قالت موضحة:
-يا ابنتي قوتي تظهر في أوقات معينة فحسب.
استهزأت تقى:
-يا ابنتي لا تنخدعي بالمظاهر.
ليقهقها الاثنان معًا وكأنهما ليس خارجين من شجار عنيف كاد أن يصل بالتراشق بالضرب حتى وصلا أخيراً للxxxx التي تسكنه تقى في مقابل شقة تسبيح وشقيقها، لتتساءل تقى:
-لما أتيتما الآن؟!
لتجيب إيمان ببشاشة:
-زوجة عمي آتية من البلد جئنا لنرحب بها.
التفتت لها تقى بسعادة:
-كيف لا تقولوا لي يا أندال؟ لقد اشتقت إليها جدًا.
ابتسمت إيمان، تقول:
-و هل من أحد لم يشتاق الحاجة زُهيرة؟ وجلستها التي لا نشبع منها.
وقفا ينتظران فريد في مدخل الxxxx، لتقول إيمان:
-إذاً ماذا كان سيفعل إن لم يسير بالسيارة؟ من المفترض به أن يصل قبل أن نصل نحن.
لم تعلْق تقى بل صمتت تمامًا، بعد أن أدركت حديث إيمان عن فريد، ففكرت "كيف يراها الآن بعد هذا الموقف المخزي" فكرت في الاستئذان من إيمان لكنها وجدتها فكرة غير سديدة.
* * *
بعد أن علمت بما جرى لأطفال شقيقها، وكم تعرّض الصغير سيف للألم! ورغم ذلك قالت بحزم:
-وكيف تخبره عن سرّك هذا " في أنك تمتلك أبوين"؟
ليقول سيف ببؤس:
-لقد جاء في حفل أبناء الشهداء الذي يعقد كل عام، ورآنا هناك وقال لي: أن أبي متوفي وكيف أعيش بدون أب، فأخبرته أن لي أبين أحدهما مات، والآخر حي ومتزوج من أمي، ولا أعرف كيف دار الحديث لأخبره أن أبي مروان هو أخ لأبي.
احتضنت تسبيح رأسه بحب، وطبعت قُبلْة فوق شعره فيما تغرز أصابعها البيضاء الطويلة في مؤخرة شعره، سيف حديث السن ومهما تذكر والده فلن يدرك كل شيء عنه، يسألها في أحيان كثيرة عن أبيه، كيف كان؟ هل كان بطل كما يقول الجميع؟ نعم لقد كان شقيقها أحد الأبطال الأشداء الذين حاربوا من أجل حماية هذا الوطن، إنه استشهد على يد عصابة من العصابات التي دخلت البلاد على غفلة غير مقصودة من قوات الأمن، لقد استشهد بعد قول الشهادة مباشرة، مبتسمًا مرحبًا بالموت لو في سبيل نيل الشهادة، ولا يزال عدد الشهداء مستمرًا، دمعت عيناها تأثرًا بما تذكرت، لتسمع صوت جرس المنزل ينبه بقدوم ضيف، لتقف وهي تقول:
-ما فعلتماه خطأ جدًا، كان يجب عليكما إخبار أحد أعضاء هيئة التدريس، سأذهب لفتح الباب.
وانصرفت بعد أن ألقت حجاب فوق شعرها بإهمالٍ، وأخذت تلفه حول وجهها وتداري به أكبر قدر من شعرها فتحت الباب واجدة فريد مبتسمًا فاتحًا ذراعيه على مصرعيهما، وتحدث بمرح:
-أين عمتي زُهيرة يا بنت يا تسبيح؟ أخشى أن تكوني التهمتِها وأنت تلتهمين الطعام من هنا أو من هناك.
ابتسمت تسبيح بجذلٍ:
-لا يا حبيبي، عمتك علمت أنك قادم فأجلت مجيئها للغد.
ضحكت إيمان بصخب من وراء شقيقها وشاركتها تقى بخجل وهي تمنع صوتها بكفها، ليرّد فريد:
-أو ربما خشيت على نفسها من الإلتهام.
خرج مروان من خلف تسبيح، ليرحب بهم:
-مرحبًا بكم، أنرتمونا، تفضلوا.
لتهتف تسبيح فجاءة، مشيرة لفريد:
-ما عدا هذا الفظ.
ضحك مروان، وقال بينما تسبيح تفسح مكان ليدلفوا:
-الحق يقال، لا هو ولا شقيقته يطاقوا.
لترّد إيمان هذه المرّة متهكمة:
-ما شاء الله عليك تطاق وبشدة.
تنحنحت تقى بحياء، وقالت:
- ما دام الحاجة زُهيرة لن تأتِ فسأذهب أنا لشقتي، عن إذنكم.
قال مروان مسرعًا:
-كيف هذا تأتين وتذهبين من أمام الباب؟! لا يجوز هذا يا آنسة! وهل كنتِ قادمة من أجل الحاجة فقط؟
قالت تقى بحرج، ووجه أحمر:
-لا لم أقصد، أنتم عائلة، ولابد أنكم تريدون الحديث سويًا، كما أنني كنت سأسلم على الحاجة وسأغادر.
أشفق عليها مروان من انفعالها، وقال:
-تفضلي إذًا، فأنتي بالفعل من العائلة.
دلفت بحرج، وحياء طبيعي، فبالرغم من أن الظروف التي مرّت بها قاسية وجعلت منها امرأة قوية، إلا أنها لم تسلب منها براءتها الفطرية.
وكان فريد يرصد كل تحركاتها، لقد امتلأ بالسعادة منذ أن علم أنها لا تحب ذكر الخنفساء هذا، لقد قضى شهر دون رؤيتها في تعذيب شاق على روحه، لقد منع نفسه عنها بصعوبة بالغة، وعندما رآها تقف معه خرج شوقه لها عن عقاله، لكنه لم يرد التوقف، لولا إيمان التي طلبت منه أن يفعل، وكم أحب إيمان فوق حبه لها، حيث توقفها كان سببًا في معرفته بحقيقة مشاعر تقى نحو ذلك الدنيء، لقد كانت نار نَجواه لها في كل دقيقة تمر وهي بعيدة تستعر بدواخله، رأى توترها من طريقة مراقبته لها، ولكنه لم يرحمها، ولن يرحمها، هو يرأف بنفسه ولو قليلًا، جذبه من شروده خروج سيف ليحتضنه، فقابله فريد بحضن مماثل، وعندما ابتعد عنه، ظهرت غرام خارجة من المطبخ وتحمل أكواب العصير، وأمرّت الصغير بحزم:
-على غرفتك يا سيف.
تحدث الصغير بتوسل:
-أرجوكِ، أمي.
استمرت غرام على موقفها:
-لا أنت معاقب، لقد أخطأت.
تدخل مروان بلطف:
-على رسلك يا غرام، سيف سيعاقب فعلًا، ولكن ليس الآن.
ابتسم فريد بتفهم لغرام والتي بادلته الابتسامة بأختها، ثم سأل سيف بصدمة:
-ماذا فعلت يا ولد كي تغضب أمك هكذا؟!
مط سيف شفتيه وقال:
-مجرد مشاجرة في المدرسة.
سأله فريد بسرعة :
-هل ضُرّبت أم ضَرّبت؟
فقال سيف مبتهجًا لمنصفه، فدائمًا عمه فريد داعم له:
-بل ضَرّبت.
ضحك فريد بصخب، وقال بحماس:
-هذا هو سليل عائلة الباشا، سلمت يداك يا فتى.
رفع فريد رأسه، فرأى غرام تنظر له كما لو تنظر لشخص نمى له رأسٍ آخر توًا، فأسرع قائلًا لسيف وهو يتصنع القسوة:
-ماذا فعلت يا ولد ؟ كيف تضرب زملاءك؟
رفع رأسه ليرى إن كانت ملامح غرام راضية، لتبتسم وتبعد وجهها، لينحني مرّة أخرى على سيف هامسًا في أذنه:
-هذا هو فتاي، من يضربك أضربه، ورد له الصاع صاعين، وإن كنت بدأت مشاجرة لا تنهيها إلا و أنت الرابح.
ابتسم سيف وهو يشعر بالفخر من هذه الإشادة، بينما تقى في الجانب تصرخ داخلها "أي مفسد أطفال هذا؟"
* * *
دلفت تقى لشقتها التي تضج بالوحدة، بعد أن رحلا والديها عن هذه الدنيا، فشقيقها متزوج ومنشغل عنها بأسرته، ولا تراه إلا كل أسبوعين، إذا كان متفرغًا بالطبع، هي لا تلومه، يشهد الله أنها لا تلوم عليه أبدًا، لكن قلبها العليل يشتاق له، يشتاق لأيام كانت تجمعهما بشقاوة والسعادة والفرح يغلفهما، أغمضت عينيها على ذكريات تأبى تركها لتكمل باقي حياتها بسعادة، لقد قاست لتصل لما هي عليه الآن بدئًا من مؤهل الجامعة الذي تركته مغلفًا في أحد الأدراج، لتتركه بشجاعة تحسد عليها بعدما كانت تحلم بأن تتخصص في العلاج الإكلينيكي، هي تحب المجال والقراءة به، لكن لم يهواها العمل بهذا المجال حيث وجدت أن الحالات تؤثر بشكل أو بآخر على حياتها الشخصية، وكان شقيقها من ساندها في الوقوف أمام أبيها بمنتهى الشجاعة لتغير مسار دراستها، ثم التحقت بدراسة التاريخ لعامين كاملين بمعهد متخصص، بالإضافة إلى قراءتها الكثيرة في هذا الميدان،وساعدها في ذلك اللغات التي تتقنها واهتمت كثيرًا بتزويد ثقافتها بأكثر من لغة وخاصة الكورية، تعمقت عينيها بذكريات الماضي البعيدة، ثم توجهت للمطبخ تعد شيء لتأكله، على كل حال لن تخسر صحتها التي تخدمها دومًا، فرغم كل شيء فهي لم تتخذ قرار سفرها للحصول على منحة من الشركة تزيد خبرتها إلا بعد وفاة والديها، فقرار السفر رغم أنه حلمها منذ الطفولة، إلا أنها لم تستطع تحقيقه، خشيت من فراق حضن أمها المنيع والحنون، ليسلبه منها القدر عنوة، ليرحل والدها موّدعًا بعد والدتها بشهر بالتمام، كأنما روحهما معلقة ببعضهما البعض، وقتها فقط اتخذت القرار، ولا تعلم حتى الآن هل سافرت هربًا أم للتقدم في عملها فعلًا، ولكن ما هي متأكدة منه أنها حينما عادت اشترت هذه الشقة هربًا من خواء شقتهم القديمة من أنفاس أحباب رحلوا.
* * *
عندما على القمر صفحة السماء المرصعة بنجوم لامعة، استلقت على الفراش بذهن يعمل كتروس آلة ل اتهدأ، كيف يراها الآن؟ بالتأكيد مخادعة تتلون بألوان الطيّف، لم تشعر في حياتها بالذنب كما تشعر الآن، عندما تزوجت عمران كان يعلم بإصابتها، وقد شرحت له نوعيتها تمامًا، كيف أنها لا تعيش حياة طبيعة؟ فيأتيها أوقات تنزع عنها السماعة الطبية، لأن الكثير من الأجهزة تأثر عليها، فهذا الجهاز المعلق خارجيًا من المخ، يعطي إشارة للأقطاب الذي تم ذراعتها داخل قوقعة الأذن، بأن تتنشط بعد أن كانت خاملة، لقد كانت وهي صغيرة تود السباحة كباقي أقرانها، لكنها فقدت التمتع باللعب في المياه لأنها والسباحة بشكل عام يأثران على جهازها، فاتجهت لرقص " الجمباز " وشاركتها رهف في ذلك لتؤنسها وتشجعها، وشكلا معًا ثنائيًا رائعًا، وكانتا لفترة قريبة يرقصن مع قسم المحجبات لأجلها، رغم أن رهف غير محجبة إلى أنها انضمت لها، لقد فعلت رهف لأجلها الكثير، وكم هي ممتنة لها! كما أن بعض أنواع التلفاز والحاسوب والهاتف يقوموا بالتأثير على سماعتها الطبية، وكل ما هو إلكتروني، حتى أنها تتحدث بالهاتف دائمًا من بعيد وتفعّل خاصية مكبر الصوت، كان عمران يعلم بكل هذا، لم تخدعه وهو كان متيمًا بها كما عشقته، أما حالها مع مروان مختلف فهي لم تستطع أن تبوح له بإعاقتها ولم يعلم عنها شيئًا إلا عندما اكتشفه بنفسه وهذا ما يجعلها تلعن نفسها آلاف المرات لأنها لم تتمم عليها قبل أن تنزل من عند جدتها، رغم أن السماعة ثابتة دائمًا، و كأن القدر له أحكام، فقط لو يعود الزمن فكانت لن تغمض عينيها أبدًا، فكان لن يراها مخادعة كما يراها الآن، لكنها كانت ستبقى تخدعه، إنها تشعر بذنب فظيع لأجله، رغم أنها يوم تم زواجهما كانت مقتنعة أنه لا حق له في معرفة إعاقتها، كون زواجهما صوريًا بعد أن تمت سنة بعد وفاة عمران، كانت العلاقة بينها و بين أهل زوجها سطحية عندما كان عمران يحيا، بسبب الخلاف العظيم بينه وبين أبيه، وكانت هي سبب الخلاف كما تعتقد، حيث كان مقرر مع باقي العائلة زواج عمران وإيمان، وكم كرهت إيمان قبل حتى أن تعرفها شخصيًا! ككونها الأنثى التي كان من المفترض أن تلتحق باسم زوجها بدلًا منها، ولكن سبحان من بدل هذا الكره لمشاعر الحب والأخوة، بعد أن علمت من عمران ذات يوم أن قرار رفض هذا الزواج كان بينهما هما الاثنان، فقد كانت إيمان تراه كأخ كبير لها، كما أنه كان هناك من طلبها للزواج من والدها وكان قلبها متعلق به، بينما عمران كان غارق في حبها حتى أنفه، ليتصدر هو أمام العائلة مطالبًا بها زوجة، لتتلاحق المصاعب والعقبات أمام زيجتهم، ليتبرأ والده منه، وكيف ظل الخصام بينهما على أوّجه حتى رحل عمران، ليظهر الحاج أمامها وبكل هيبته وهيئته الطاغية مطالبًا بها زوجة لشقيق زوجها بعد نفاذ عدتها، وكم عانت في هذه الفترة وكانت جدتها من أشد من لجأت له كوتد منيع تشد ظهرها به في مواجهة طوفان من الغضب الصعيدي المتأجج، وكان حماها جبهة مضادة لا يُستهان بها، حيث هددها بأخذ أطفالها منها ولو بالقوة، فهو لن يفرط في واحد من سليل عائلة الباشا، وكم ودت بكل شر أن تجرحه في صميم قلبه في قول وإقرار أبشع ما فعله "أنه تبرأ بالفعل من ولده البكري، وليس مجرد سليل للعائلة" لكن عين الجدة ميسون المحنكة والدهاء فيها منعتها من فعلها، فكانت "ميسون" تعرّفها وتعرف خبايا نفسها أكثر من ذاتها، تقلبّت في فراشها بإنزعاج من تلك الأفكار التي رفضت تركها تهنأ بنوم عميق، فالحاجة زُهيرة ستصل مبكرًا، لذلك اتفقت مع مسؤولين أفرع معارضها بغيابها في الغد.
في الجانب الآخر من الغرفة الذي يفصله عن جانبها ستار حائل الرؤية، كان يتقلب في سريره كمن يعاني من أرق شديد، والحقيقة أنه تعدى حاجز الشدة ليصل لقصوتها، كيف فقد زمام الأمور من بين يده هكذا، لماذا سمح لهوى نفسه ليقع في حبها، كيف يحب زوجة شقيقه؟ حتى وإن كان متوفى، لقد كانا في بداية زواجهما يتعاملا معًا بحذرٍ شديد، وكأن يخشى أحدهما الآخر، متى أصبحت الأمور كما هي عليها الآن؟ وهو خير من يتذكر هذا، لقد أصبحا هكذا بعدما قررت تسبيح الإقامة
في القاهرة متعللة بجامعتها وهذا حقها بالطبع، لكنها لن تسكن ببيت الطالبات وشقيقها وبيته موجودان، لكن تسبيح كانت تقضي أجازتها معهم، هو لا يكره ذلك لكونها تزعجهم أو شيء كهذا، كل ما في الأمر أن وجودها أدى لوجوده مع غرام في غرفة واحدة، ليسبح في بحور عميقة من الحب والصفاء، شعور من الدغدغة يسكن خلجاته، من نابضه الذي يكاد يصرخ مطالبًا بها، حتى أصابعه التي تأن لتمشط شعرها الذي لم يراه حتى الآن، كم جميلة في كل حالتها وانطباعاتها، كم يعشقها والدهشة تمتلكها كلها بداية بعينيها التي تكاد تخرج من مقلتيها، حتى جسدها المتخشب بصدمة مرورًا بافتراق شفتيها القرمزية، مضحكة وشهية للأكل كغزل البنات، ابتسم بسخرية من نفسه وهو يفكر "إنه يعاتب نفسه لأنه أحب زوجته، زوجته التي علم مؤخرًا أنها صماء يالا السخرية حقًا" لا يعلم عن زوجته شيء" تقلب ليصبح ينام على أحد جانبيه، ويحاول بكل مقاومة تعلمها خرس عواطفه نحوها، نحو الحبيبة مستحيلة المنال!
* * *
نزلت بعض الدرجات أمام الxxxx والتي تعتبر طويلة بجانب درجات الxxxxات الأخرى، تنزلهم شاردة قليلًا وهي تضع كفيها داخل جيّب السترة التي ترتديها، لترفع عينيها من فوق الدرجات لتجد الحاجة زُهيرة تخرج من سيّارة الرائد مروان، انبلجت ابتسامة حقيقية من روحها العميقة، هذه السيّدة التي تتمتع بجسد قوي البنيان، موشحة بجلباب أسود وحجاب بنفس اللون، ملامح قوية تليق بامرأةٍ من الجنوب، التهمت تقى باقي الدرجات سريعًا، لتقترب من زهيرة تحضنها، وتستمد الأمان الذي فقدته منذ فترة، واستقبلتها زُهيرة بذراعين مفتوحتين، تربط فوق ظهرها بحنان، تضمها لصدرها بأمومة قوية لا تنقصها شيء عن أمومتها نحو أبناءها، تعلم زُهيرة قصة تقى كاملة، هذه الفتاة التي تجمع بين قوة امرأة عربية أصيلة وبين تحضر ورقي نساء الغرب، وهذا نظرًا لسفرها لتكمل تعليمها بالخارج ثم استقرارها في القاهرة تاركة لبلد منشأها، وعلى الرغم من ذلك ظلت محتفظة بأصولها ومبادئها وخطوطها الحمراء، فتاة قوية كفتيات بلدتهم، دمعت عينان تقى وابتعدت عن أحضان السيّدة وتلك الطبقة الشفافة تغيّم العسل في مقلتيها، لتتحدث تقى:
-أنرتِ القاهرة وضواحيها يا خالتي، لقد اشتقنا والله.
ضحكت زُهيرة، ثم قالت بتهكم:
-حمداً لله أن هناك من يشتاق لي هنا، فيبدو أن هناك من يعترض على وجودي.
نفخ مروان خديه، وقال متذمرًا:
-بالله عليكِ يا أمي أنا لم أعترض على زيارتك لنا، لكني أعترض على كم الأشياء التي تجلبينها معك، أنا لا أعرف كيف سمحوا لكِ بدخول كل هذه الأشياء للمطار، وأيضًا للطائرة.
ضحكت زُهيرة قائلة:
-هذه مهمة والدك.
استأذنت تقى بلطف لتغادر حيث دار الرعاية، إلى أحباب الله وأي أحباب بل الأنقى على الإطلاق.
* * *
جالسة بين أحفادها تشاكسهم وتراضيهم، فالصغير سيف لاحظت أنه مدلل كثيرًا، حيث دائمًا ما يطلب كل شيء من ماجد، وماجد رغم صغره ورغم أن الفارق بينهما ليس بهذا الكبر، إلا أنه يلبي له ما يطلبه شاعرًا بالمسؤولية تجاهه، طلبت زُهيرة من سيف وهي تقوم بقطف أوراق الملوخية بعد غسلها:
-سيف أحضر لي المياه لأشرب.
أومأ سيف، واستدار ليطلب من ماجد المياه، ولكن قاطعته جدته تنهر هذا السيف المدلل:
-سيف، لقد طلبت منك أنت المياه، وليس ماجد، إن كنت أردت ماجد أن يفعل لما أطلبها منك؟!
دخلت غرام عليهم وهي تحمل زجاجة مياه وكوب فارغ للشرب، وتقدمه لزُهيرة قائلة بتهذيب:
-تفضلي أمي.
نظرت لها زُهيرة، وداخلها عدم تصديق لما فعلته غرام، ولكنها تداركت الموقف وشربت، وحينما انفردت بزوجة ابنها، قالت بهدوء:
- ابنتي أنتِ تفسدي ولدك بتقديم الراحة له، عندما تقومين بنفسك بعمل كل شيء دون أن توكلي له بعض الأمور، هذا يجعله شخص مدلل غير متحمل المسئولية، يعتمد على الآخرين في كل شيء يفعله هذا الدلال سيتلفه، كوني في تعاملك معه بين الحزم واللين، كوني أم ذكية، تقدر متى تقسو ومتى تدلل.
نظرت لحماتها توزن كلامها وتفنده بعقل راجح، نعم هذا ما ينقص أمومتها بالفعل، هو اختيار العقاب المناسب في الوقت المناسب، والدلال الحنون في أوقاتها السليمة، السؤال الذي تقف أمامه كل أم حديثة الأمومة متى تعاقب ومتى تدلل؟! لكنها هي بشخصها الغير واثق من آراءه لا زالت تتساءل نفس السؤال بعد طفلين، حتى أنها لا تزال تتعلم من أم زوجها معنى الأمومة الصحيحة، لو كانت لها أم تستمد منها النصح، لو كانت لها من يشجعها، فهي لا تريد أن تضغط الجدة ميسون بمشاكل أطفالها، فقد تحملت مشاكلها هي ورهف منذ الصغر، فقد كانتا منبوذتين، فقد نبذها والدها، بينما رهف نبذتها أمها! ومن حينها احتضنتهما جدتهما ميسون.
بعد قليل، وبالتحديد بعدما أنهت تجهيز الطعام استأذنت من الحاجة زُهيرة وتسبيح التي عادت من جامعتها منذ قليل، لتأخذ حمامًا سريعًا.
* * *
وصل أخيرًا من العمل بعد يوم مرهق في البحث خلف رئيس الجماعة التي تدعو للتخريب، قبّل رأس أمه وشقيقته التي جلست بين أحضان أمها، وتحاول الشبع من حنانها، تسبيح رغم شراستها في أن تصبح قوية، إلا أنها تعشق هذا الحضن، وكم يشعرها بضعفها الداخلي، ولكنها تلوذ به دائمًا حتى وإن كان يضعفها، بعد قليل استأذن ليبدل ثيابه لتناول الطعام، طرق الباب مرّة واحدة ودلف سريعًا كي لا تشعر أمه بشيء مريب بعلاقته مع زوجته، دلف فوجدها تقف أمام المرآة بمنامة وردية فاقعة لونها، تجفف شعرها الطويل الذي رأى لونه الآن، لون بين الأسود والبني، وبه لمسة رمادية تشعرك بأنه يحمل بين طياته غبار، وجدها مندمجة جدًا في تجفيف شعرها، ولم تنتبه لوجوده أو عدمه من الأساس، وهذا ما أشعره بالحيرة، فغرام لا تقف أمامه إلا بحجابها كامل، ما أدهشه حقًا هو إغلاقها مجفف الشعر ووضعته جانبًا، وعندما تلاقت نظرتهما في المرأة تصلب جسدها، وعينيها لم تفارقه وبدت كأنها عاجزة عن سؤاله، فقرأ سؤالها الصامت وأجاب بلطف متوتر:
-لقد طرقت الباب طرقة واحدة فقط، ولكن يبدو أنها لم تكن بهذا الوضوح لتنبهك لدخولي ...
تنحنح مسترسل:
-ودلفت سريعًا لأن أمي في الخارج، ولا يجب أن تشعر بوجود أمر غريب بيننا.
وعندما لم يصله رد، أكمل محرجًا:
-سأخرج الآن، وسأتحجج بأي شيء، وأنتِ أكملي ما تفعليه وعندما تنتهي سأدخل أنا لأبدل ثيابي.
وخرج دون أن يعطي لها مساحة للرد، يبدو أن مروان كان متوترًا لهذا الحد الذي يجعله لم يلاحظ توتر أصابعها وهي تمتد بخجل موجع نحو السماعة الطبية الموجودة على طاولة الزينة، حتى أنه لم يلحظ توتر كل أعصاب بصرها وهي تراقب حركة شفتيه لتفهم ماذا يقول، وعندما خرج لم يلحظ تلك الدمعة الماسية التي انحدرت ببطء من محجرها! شعور بأنك مختلف عن الجميع لهو شعور يجعل ثقتك بنفسك في أدنى مرتبة، وهي خير من يعلم هذا!
* * *
جلست مع شقيقتها تشكي لها همها من زوجة ابنها التي تسيطر على ولدها، وتجعله كالحلقة في إصبعها، وتحاول معرفة رأيها من بعيد إن عرض ابنها العزيز لطلب يد ابنتها الغالية ناردين، فقالت زينب:
-كيف تعود الأيام ونزوج أنس وناردين، حتى ولو كان إجبارًا.
ابتسمت اختها وهي ترد:
-نعم والله، لو أعرف طريقة لإعادتها لفعلت دون طرفة عين.
يبدو أن الشقيقتان يعرفون بعضهن جيدًا، لتقول زينب:
-لو فقط ناردين توافق على أن تكون زوجة ثانية لابني.
شهقت أختها قائلة باستنكار:
-وحتى إن واقفت ناردين، فأم ناردين لن توافق.
فقالت زينب مستدركة:
-نعم حبيبتي أقصد بعد أن يطلق زوجته.
راقبت زينب صمت شقيقتها الذي يعني الكثير، وغفلا الاثنين عن تلك الواقفة تبتسم بخبث من بعيد، وأخرجت هاتفها من سروالها القطني القصير، وبدأت تلمس شاشته، وهي تعض على شفتها بمكر حواء خبيثة.
༺༻
انتهى الفصل الثالث.
قراءة سعيدة.
تدقيق هالة عماد "بائعة اللطف".
مراجعة شيمو أبو النجا.


چورية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-07-22, 04:43 PM   #7

چورية

? العضوٌ??? » 505085
?  التسِجيلٌ » Jul 2022
? مشَارَ?اتْي » 40
?  نُقآطِيْ » چورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الرابع
"العشق كالترياق، يجري بين الأوردة مجرىٰ الدماء، يمحي عبوس الوجه، ويستبدله ببسمة عاشقة دون إرادة منك، وهو عاشقٌ لها حدّ النُخاع، لا يستطيع مُفارقتها، وهيَّ لطالما كانت ملاذه الآمن، ضلعه الذي يستند عليه، وامرأته المُحبة والعاشقة، ولكن القدر سيُلقي بهم وبعلاقتهم في مهب الريح، فهل سيصمد ذلك العشق؟ أم أن الرياح ستجتاحه!"
*****
جالس أمامها منذ أن وصل وهي تفرك كفيها وتهز قدميها بعصبية تحت الطاولة حتى بعدما جاء النادل يحمل طلباتهم، كل ذلك وهو لا يفهم سبب رسالتها له أمس وهي تخبره بضرورة أن يتقابلا لسبب بالغ الأهمية، شاهدها وهي تنوي الحديث أكثر من مرّة، ثم تتراجع في أخر خطوة، بعدما يأس من أن تتكلم، قال أنس:
-ماذا هناك يا ناردين؟ ما هو الموضوع البالغ الأهمية؟
تحدثت بتلعثم ورجاء خفي:
-كنت أوّد أن أخبرك بأمر مهم للغاية …
صمتت وكأنما تربت ما ستقوله، ليحثها على الإكمال:
-هذا ما أخبرتني به أمس عندما راسلتينني.
هزّت رأسها إيجابًا، وحاولت الحديث مرات، عصبية مضنية تكاد تودي بحياتها وهي تتحدث، ثم أخبرته بتمهل:
-خالتي زينب كانت ليلة أمس في زيارة لنا، و...
صمتت ترتعش ليحثها هو بصبر نافذ:
وماذا؟؟
رفعت له عينين مرهقتين غائرتين، وأكملت بتشوش متقن:
-وسمعتها تسأل أمي بطريق غير مباشر عن رأينا في أن أكون زوجة ثانية لك، والحقيقة أنني أقبل لكن هل سترضى بي بعد أن تعلم الحقيقة؟!
ضيق أنس عيناه في بداية كلامها، من يتزوج من؟ في الواقع هو ليس لديه علم بما فعلته والدته، لكن يبدو أن أمه نبشت في المحظور، وأدرك أنه في موقف حرج سيغض فيه الكثير ليتخلص منه، لكن عندما استرسلت ناردين حديثها بنبرة خزي واضحة قوية في انكسارها ورأس منحني بعارٍ، ارتسم الشر على ملامحه كلوحة سوداوية الزوايا، حيث قالت بصوت خفيض رفيع من شدة الخزي الذي تشعر به:
- هناك حقيقة أخفيتها عن الجميع، تعلم أنني جئت فجاءة دون تمهيد لرجوعي وأيضًا استقريت وهذا لمشكلة حدثت معي بل حادث وحادث عظيم كنت أنوي في قرارة نفسي اخفاءه عن الجميع، لكن بعد اقتراح الزواج هذا جعلني آتي إليك لأخبرك أنني تعرضت للإغتصاب!
* *
أيكون ذنب العاشق عشقه؟ أيكوىٰ بنار البُعد من الحبيب وهو يجاوره؟ ألا ترى عيناه الغارقة بها وبجميع تفاصيلها، آه كم أنتِ قاسية القلب يا غرامي".
*****
منذ أمس وهي تتجنبه تمامًا، تتجنب حتى التقاء نظارتها معه، ولا يعلم السبب! أصابته الحيرة بقوة وهو يفكر فيما أخطأ، إن كان على دخوله أمس بسرعة فقد برر فعلته واعتذر، لا يعرف أنها تتحاشى النظر له لأنها تكره شعورها بالعجز، ومنذ أمس وهي عاجزة عن فهم ما قاله لها، رغم أنها تأكدت أنه لم يكن طلب، ولكن ملامحه كانت تدل على أنه كان يخبرها بشيء، غير قادرة على سؤاله عما قاله تتحدث بحذر جدًا تخشى جملة "لقد أخبرتكِ من قبل" ولن تمر عليه جملة "لقد نسيت" فهي معروفة بشدة تركيزها وتذكرها، المرار في فمها يضيقها، تتحفز للرد في كل كلمة تجعل عقلها يعمل بسرعة البرق عندما يوجه لها الحديث، تتحاشى النظر له حتى لا يُلمّح لما أخبرها به أمس، مشوشة التفكير كلما فكرت بالأمر.
دخلت المطبخ لتحضر الفطور والجميع نائم، لم تزعج أحد حتى تنتهي، عندما تخطت الستار الفاصل بين أريكته التي تفرد كفراش وفراشها، وجدته مستغرق في النوم بعمق واسترخاء، وكأنه لم ينم منذ قرون، لكنها لا تعلم أن هذا النوم يأتيه بعد احتراق رهيب بفؤاده بعذاب قرب حبيبته البعيدة، فكرت أنها لن تيقظ تسبيح مبكرًا اليوم فلتهنأ بحضن أمها، فقد أصرّت زُهيرة على المبيت بجانب ابنتها كما تزورهم كل مرّة، بعد أن وضعت شرائح البطاطس في مقلاة الزيت، توجهت لتخرج البيض لتصنع الأومليت، فشعرت بحركة خلفها لتستدير ببطء لتجده أمامها بمنظر لطيف لرجل مشعث الشعر غير مرتب الثياب، فقال مبتسمًا:
-صباح الخيرات وما لذّ وطاب!
ابتسمت بتوتر وردت:
-صباح الخير.
لاحظ تصلب جسدها وتشنج أصابعها ذات الأظافر المطلية بطلاء شديد اللون يُصيب بضعف النظر أو اعتامه، أيهما أقرب! كما كان صوتها يلونه الاقتضاب، ليضيق عيناه وهو يسأل:
-غرام، هل هناك ما يحزنك؟! أظن أنني لم أثير إزعاجك أول أمس حتى بالتلميح عن... قاطعته وهي تصيح بعصبية وتضرب على شفتيها بكفها:
-اشششش، بماذا تتكلم أنت ونحن هنا في المطبخ؟
فنطق رغم أنه مسحور بلحظات تكون فيها على طبيعتها:
-أخبريني أنتِ لمَّا كل هذه الحدة في التعامل، كلما تلاقت أعيننا تتهربين بنظراتك، فقط أفهم لمَّا كلما تحدثت إليك تفزعين وكأني مأجور على قتلك؟! هل ضايقتك بأي شكل؟!
توترت حركتها أكثر حيث صدق إحساسه ودقة معانيه، لاحظ ذلك بعينيه المراقبة لكنها أجابت في الأخير وهي منشغلة بضرب البيض بالمعلقة في يدها:
-ولمَّا أتضايق؟! أنا بخير لا تقلق.
قال بخشونة فجة:
-لم أسألك عن حالك يا غرام، أنا أسألك ماذا حدث لتغيرك المفاجئ هذا؟
قالت بصوت كاد يخرج بشق الأنفس:
-لم يحدث شيء.
سأل مجددًا:
-متأكدة؟!
أومأت برأسها بنعم صامتة، وهي تكتم زفرة خانقة متأففة، ولكن لم يرحمها بسهولة ليسأل:
-إذًا ما بكِ منذ أمس؟ تتجنبيني وكأني أنا المخطئ؟
استدارت له بعصبية وطبق البيض في يدها يتناثر على الرخام والأرضية، ويصيب منامته، لتغمض عينيها وهي تزفر بوجه أحمر، تغلق فمها تسحب شفتيها للداخل وتضغطهم بعصبية مفرطة، صُدم من انفعالها الزائد وهذا ما جعله يقترب منها ويأخذ وعاء البيض المخفوق من بين يديها، ليجدها متشبثة به فاحتّد عليها حتى أخذه منها، فتحت عينيها أخيرًا تقول بهدوء عكس ما تشعر به:
-إذا سمحت يا مروان اذهب لتتجهز لعملك.
تكلم بعصبية حقيقية لأول مرًة نابعة من حرقة قلبه، وصميم كرامته الجريحة:
-لن أذهب قبل أن أعرف ما الداعي لكل هذا التوتر والعصبية، ولمَّا تتجنبينني، ماذا يحدث لكِ بالضبط؟
فتحت فمها أكثر من مرة تنوي الحديث، ولكنها ابتسمت بتوتر وهي تصيغ جملة مفيدة:
-فقط بعض التوتر والضغوط في العمل.
ثم استدارت للمقلاة التي بها البطاطا، وبقى هو ينظر لظهرها المتصلب، ثم انسحب بهدوء ليحضر نفسه للخروج لعمله بدلًا من الطواف حول غرام ومحاولة فهمها المستحيلة.
* *
تكاد أعصابه تنفلت من عقالها منذ ذلك اليوم ومن الواضح أن زوجته لاحظت تقلبه المزاجي وتغير أحواله، أعصابه أصبحت على المحك، حتى والدته لم يعد يطيق تدخلها في كل أمورهم كان يتعامل بذكاء شديد ليحد من تدخلها برجاحة عقل يحسد عليها، لكن منذ ذلك اليوم المشؤوم وهو غير قادر على التفكير أو التركيز، شُل عقله وتوقف عن إنتاج الحلول، كيف يحل أمر ناردين؟ الغبية كانت تتحدى الجميع بسفرها، وكأنها تعاقب الكل على رفضه الزواج بها في الماضي، وهذا الأمر خارج يده لأنه وببساطة كان يحب ملاذ، ناداه قلبه بالإقتراب فاقترب دون حسبان لمخططات والدته التي على أساسها بنيت ناردين أحلامًا من ورود ناعمة، وعندما رفضها سافرت للخارج لتكمل دراستها وهي ليست بالشخص القوي الذي يقف أمام التحديات الكبرى، ولكنه نسيَّ هذه الصفة في شخصها، بعدما تقدمت في دراستها عام بعد الآخر وضمن أنها تسير نحو مستقبلها، نحى عقله عنها تمامًا، لكن يبدو أنه أساء الترجيح والوثوق بها كشخص قوي، حيث مع أول عقبة تنازلت عن حقها بضعف لترحل تاركة البلاد بأسرع ما تملك من وقت، والآن هو مطالب بحل لهذه الأزمة ولا يوجد غير حل واحد والذي سوف يصدم الجميع ويبني الحواجز بينه وبين زوجته.
* *
"هيَّ الضعيفة المتحلية بثوب القوة الزائف، دائمًا ما يهزمها قلبها اللعين ويقع بالحُب دون درايةً منها، أحبت من لا يساوي في عالم الرجال شيئًا، تلاعب بها وكأنها دُمية وحينما باتت تراه علىٰ حقيقته، جاءَ بحُجة الزمالة الواهية ليلتصق بها كالعلكة، ولكِن هل العاشق الآخر سيصمت علىٰ هذا؟
لنرىٰ...".
*****
تجلس في سيارة العمل في انتظار وصول الوفد الأمريكي، أغلقت موقع التواصل الاجتماعي وأراحت رأسها للخلف في استرخاء يبين كم تشعر بإرهاق نفسي مضني لأعصابها، تشعر بألم حاد يؤلم صدرها المتزاحم بمشاعر شتى، منها حب، حزن، وألم و ... و حقد، نعم تشعر بالحقد ولأول مرّة نحو نفسها لا آخر، منذ أن أعطت له فرصة الاقتراب كزميل عمل وهو يستغل كل فرصة للتقرب منها كحبيب كالسابق تمامًا، حتى اليوم استغل غياب صديقتها التي تخرج معها في مثل هذه المرات التي يكون عدد أفراد الوفد السياحي كثير وكان أول من وافق من المواظفين على الذهاب لرحلات بعد طلب الإدارة منه مباشرة، طلبت من الشركة سيارة خاصة للإنتقال الأيام القادمة مع الوفد، وكانت تعلم أنه يفكر أنها ستذهب معه في سيارته الخاصة كما كانت قديمًا، ابتسمت ولا تزال مغمضة العينين وهي تتذكر كيف تجهم وجهه وهي تخرج من باب الشركة لتستقل السيارة التابعة للعمل، كانت تريد التوجه نحو أحد البائعين في محالهم للحصول على القهوة لكنها لمحته يتجه نحوه، الحقير يحفظ كل دواخلها وما تحب فعله، لذلك تحاملت على نفسها وجلست في السيارة تنتظر مكالمة هاتفية من الشخص المرافق للوفد لتتجه لهم، وها هي المكالمة تأتيها لترد تتلقى الأمر، رأته قادم نحوها يحمل في يداه كوبين من القهوة التي تعشقها، اقترب منها، يمد يده بالقهوة إليها مبتسمًا يقول:
-لقد اشتريت لكِ القهوة، لا بد أنكِ في حاجة لها.
نظرت له مستاءة كثيرًا، فقد طفح الكيل، وهتفت بقسوة:
-بأي مناسبة سأقبلها؟
فرد مبهوتًا:
-لا يوجد مناسبة، فقط شعرت أنكِ في حاجة إليها.
فردت لا ترحمه:
-إن كنت في حاجة لها لاشتريتها بالتأكيد، لكني وكما ترى لا أريد.
وكادت تذهب تاركة إياه، فقال بسرعة:
-ألا يحق لزملاء العمل احتساء فنجان قهوة معًا؟!
تحدثت تقى بإنفلات أعصاب:
-عندما أستشعر من تصرفاتك أنك تتعدى حدود الزمالة فيجب ألا أحتسي معك القهوة أو غيرها.
فقال وهو يكسب تعاطفها:
-أنا أحاول يا تقى، صدقيني أحاول تخطي الماضي، أحاول التعامل معكِ أنكِ زميلة فقط، دعيني أتأقلم مع هذا.
نظرت له بصمت غريب، ثم تحدثت أخيرًا:
-وماذا تريدني أن أفعل؟
ابتسم مجددًا شاعرًا بالأمل، ليقول:
-اقبلي فنجان القهوة.
لتقول بوجه صارم:
-لا أنت ولا أنا أمامنا وقت لإحتساء القهوة، لقد وصل الوفد وهم الآن ينهون بعض الإجراءات، هيا الآن.
نظر لكوبين القهوة ببؤس، ثم أعطاهم لسائق سيارة الشركة التي استقلتها تقى وهو يقول:
-ابحث عن أحدهم ليحتسي معك الكوب الآخر.
ثم اتجه مع تقى حيث الوفد القادم، وفي طريقهم للداخل لم يلحظا فريد الذي كان يتوجه نحو سيارته بعد أن وصل من رحلته الجوية، ابتسم فريد بشرٍ وهو يوقف أحد الأطفال الذي كان يلعب ويلهو مع أقرانه في أحد الأرجاء ويهمس له بشيء ويشير نحو تقى والشخص المرافق لها.
* *
خرج يبحث هنا وهناك، لقد أخبره طفل ما بأن أحدهم يحتاجه في الخارج بسبب سيارته التي كانت تحتجز أحد السيارات، ظهر أمامه فريد من العدم كشبحٍ مخيف، اضطربت ملامحه وهو يرى الشر مكتمل الأركان على وجه فريد الذي تحدث كمن سيقبل على جريمة قتل أو حرب شعواء، تحدث فريد بهمس مرعب يفتك بأشد الرجال قسوة:
-كيف حالك يا فادي؟ ألم نتفق على ألا تقترب من تقى خطوة واحدة؟
أجاب فادي بشجاعة يحسد عليها:
-نحن لم نتفق على شيء، لقد قررت أنت وحدك، وأنا لست مضطر لتنفيذ قرارتك.
اقترب فريد منه، ثم رفع يديه ليهندم ياقة القميص الخاص به، ثم قال باصفرار:
-بالطبع لست مضطر يا صديقي، وبما أنك لست مضطر فابدأ بالبحث عن وظيفة جديدة في أحد الشركات التي ستقبل بموظف أُقيل لسوء أخلاقه.
بقى فادي ينظر له بذهول، وعندما تحدث قال وكأنه على وشك الموت:
-أنت تمزح لا محالة.
قال فريد بقسوة:
-جرب مزاحي إذًا، أنا قادر على محوك من الوجود.
قال فادي بعجرفة:
-لن تستغني الشركة عني، فأنا من موظفين الشركة منذ تأسيسها.
ضحك فريد بسخرية حقيقية، وتحدث عندما هدأت ضحكاته:
-لا تؤاخذني، فثقتك هذه ذكرتني بالعبارة الشهيرة التي تتبدل وتتلون من موقف لآخر ، ألا تعرفها؟
وقف فادي مبهوتًا من الثقة التي يتحدث بها فريد، فأكمل فريد:
-واضح أنك لا تعرفها، سأذكرك بها "طموح أنت يا فادي، ومتعشم أيضًا ".
اكفهرت ملامحه من آثار حروف فريد التي تنضح بسخرية لم يتعرض لها من قبل، لاحظ فريد تبدله فتابع يطرق الحديد وهو ساخن:
-ابتعد عن تقى، بدلًا من أن تخرج من الشركة بفضيحة.
راقب فادي ابتسامة فريد التي زُينت ثغره بمرح فجاءة تحولت نظراته لما خلفه، فاستدار ينظر ليجد تقى قادمة نحوهم تبتسم بخجل جميل لوّن وجنتيها المرتفعتين، وعندما دنت منهما أخيرًا رحبت بفريد بخجل يظهر على محياها الناعم، ليقع فريد في حب هذه القصيرة مكتنزة القوام للمرة المئة بعد المليون على أقل تقدير، ثم تابعت لفادي توبخه:
.ما هذا يا فادي؟
تقف هنا وأنا في الداخل أدور حول نفسي لأقود السائحون للسيارة الكبيرة.
نظر لها مغيبًا، ثم وجه نظرة ضائعة نحو فريد، وبعدها قال:
-حسنًا، هيّا لنتحرك نحو الفندق بسرعة، فلقد ظهر لي ميعاد مفاجئ.
ابتسم فريد ناظرًا له بزهو مما جعله ينسحب سريعًا، استدارت تقى لفريد بعد انسحاب فادي وسألته على استحياء:
-هل عدت الآن من سفرك؟
ابتسم بسرور حقيقي وسعادة داخلية لأول مرة تسأله عن رحلاته، لأول مرة تهتم بسؤاله عن عمله فأي يوم مبهج هذا، أجاب بتمهل ليزيد من الوقت في حضورها:
-ها، لقد وصلت منذ قليل وتأكدت من سلامة أفراد رحلتي ككابتن طائرة حنون القلب!
عقدت حاجبيها بشكل بدى له لطيف بل هو الألطف على الإطلاق، فكل ما يصدر عن سميكة العقل كخدودها هو أقصى صيغ المبالغة! نعم هي أكثر بشرية سميكة العقل رآها كيف لا تشعر بحبه لها؟ كيف لا تفكر به كحبيب يداويها؟ بالفعل ذات تفكير مغلق وكما قال الشاعر الكبير "بوحة الصباح" في أحد أفلامه " شوال نباهة مقفول " امرأة وصلت لمكانتها وقوتها، عاشت وقاتلت وحدها كيف لا تعرف بإنجذاب رجل مثله لها وحبه الذي أضنى قلبه أقصى معاناة؟ أم أنها تعرف وتبتعد! شاهدها تبتسم ثم ملأت الضحكة وجهها فضحك مصابًا بعدوى جميلة بينما تقول بمرح:
-نعم، عرفتك دائمًا حنون!
ما له اليوم مليء بمفرقعات العيد! يعلم أن الجملة فكاهية بحتة أقرب للسخرية، لكن قلبه أنار بأفرع من الزينة، ورقص الفؤاد على دقات هاربة عنوة، وكل ذلك من جملة مرحة ساخرة! ماذا لو علمت ما حدث له من تغيرات فيسيولوجية حادة، لرأته غرّ مسكين يحتاج إلى صدقة! يا لك من مسكين حقيقي يا فريد!
* *
جالسين الأربعة يشرحون الخطة التي سيسيرون وفقها على الفريق الذي سيرافقهم إلى الوقر الذي يحتمي به الجماعة الإرهابية، بعد أن جاءتهم الأخبار من جاسوسهم أن رئيس العصابة في الطريق لهذا الوقر، أخبروا المقدم شريف ومنتظرين أمر بالموافقة على الهجوم، قال جورج أحد الضباط في دردشة جانبية بين أصدقاءه:
-أريد الموت في أحد هذه العمليات لأترك السيرة الطيبة والفخر لأبنائي.
رد سيد أحد الضباط:
-أنا لا أخشى الموت، لكن أخشى على أطفالي وزوجتي من بعدي، فليس لهم أحد، فقط ليكبروا وأموت فخرًا لهذا البلد.
رد ثالث مربتًا على كتفه:
-لا تقل أنهم ليس لديهم أحد، فأنت ستبقى معهم وستربيهم بنفسك، وكلنا هنا معك ولهم فلا تقلق يا بني سنعود بإنتصار دون خسارة أحد إن شاء الله.
* *
* *
"كلاهما طُعن من الحُب بطرق مُختلفة، وتقاطعت سبلهم ليراها وتسلب قلبه من النظرة الأولىٰ، ولكنها ما زالت متحفظة، جامدة معه، فكيف تثق به وهيّ فاقدة الثقة في جميع بني آدم!".
كان يدور بين الأروقة بعد أن حصل على قدح قهوة يضبط مزاجه المتعكر، مرتديًا ملابسه الخاصة بهذه العمليات، رآها في نهاية الرواق ترشد إحدى المستجدات، وسارت نحوه ليبتسم لوجهها الأبيض بعيون صافية رائقة عند رؤيتها، لقد كان قد جرّب نصيبه مرّة وقرر بينه وبين نفسه أنهن خائنات ولن يقع في حب إحداهن مجددًا، لكن ها هو يقع في الحب حد الثمالة، يقع في غرام قشدية بشعر لونه كسنابل القمح في نضجه، ليست من نوعه المفضل فهو يفضل الملامح العربية كثيرًا لكنه أحبها وفضّلها عن الجميع، عندما يراها يزداد وجيب فؤاده بترنيمة عشق وهُيام تلهب وجده المسكين، ووصلها صعب المنال وهذا يغريه للإقتراب بشكل مفرط، ها هي اقتربت منه فأوقفها يقول بمرح:
-كيف حالكِ أيتها الطبيبة؟
قالت بلطف زائف:
-حمداً لله.
فقال ليطيل فترة اللقاء:
-ألن تتمني لي عمل موفق مع تمني بالعودة سالمًا؟!
ابتسمت بهدوء وأجابت داعية:
-أرجعكم الله سالمين ومنصورين.
قال تيم بخبث:
-ألا يوجد دعوة خاصة لي؟
برقت عينيها ليقول سريعًا:
-كصديق وفي ليس إلا.
نظرت له بحدة، وأضافت باقتضاب:
-يبدو أنك متفرغ يا سيادة الرائد وأنا لدي عمل، بعد إذنك.
واستدارت سريعًا لتتركه دون سماع رده، وابتسم هو خلفها بإتساع، وعقله يردد "رهف من نصيبه شاءت أم أبت!".
* *
الموت، كلمة تتجلىٰ للإنسان من حينٍ لآخر، ولكن أن توضع فيه بملء إرداتك لكي تترك اسمك يوصم من ذهب في هذه الحياة؛ فأنت بطلًا لا محالة.
༺༻
وصلت القوات للمكان المقصود، وبدى أنه مكان مهجور، دخل تيم ومروان من أحد البوابات ومعهم مجموعة من الضباط وعندما وصلوا لغرفة في أحد الزوايا دارت حوارات بالعيون بين تيم ومروان، وبعدها جهز تيم سلاحه في وضع الإطلاق، وبدأ يسير بجانب الحائط ببطء وحذر، يديه تمسك السلاح أمامه وفوهته نحو الأسفل، نظر لمروان الذي وقف بشكل مقابل للغرفة وفوهة سلاحه نحو باب الغرفة المغلق، وهناك ضابط آخر من الناحية الأخرى للباب، بدأت الإشارات وحوار العيون الصامت، فعيون الجميع هي الشيء الوحيد الذي يظهر من أجسادهم الملحفة بالحُلل السوداء، بدأ أحد الضباط بفتح مقبض الباب ليُفتح ولم يجد مروان أحد داخل الغرفة فأعطى إشارة أن الغرفة خالية وابتعد للناحية الأخرى، لينطلق الثلاثة في طريقهم مرة أخرى وكان تيم ومروان كل منهما يحمي ظهر الآخر، وثالثهما كان ضابط آخر يحمي ظهرهما ويحمون ظهره، لفت نظر الضابط الثالث غرفة مفتوحة يظهر من فتحتها أقدام لأحد ممدد على الأرض، فاقترب من الغرفة ليعرف من هذا، ليجد الضابط سيد مصوب بالرصاص فخلع الضابط جورج قناعه وهو يقترب من سيد ليجده لا يزال يتنفس، فقال جورج:
-سيد قم يا رجل انهض، أنا معك انهض لنخرج من هنا.
ليقول سيد بصعوبة مبتسمًا:
-لا إنها النهاية، والنهاية لا مهرب منها، فقط أوصيك بأطفالي يا جورج، فلا أحد لهم غير الله، فقط كن بجانبهم من وقت لآخر.
فقال جورج بأمل يحاول بثه لصديقه:
-لا ليست النهاية انهض يا رجل، أنت من سيربي أبناءك، كيف فعلوا بك هذا؟
ابتسم سيّد كبطل يُقبل على الاستشهاد، وقال:
-سمعت صوت يأتي من هذا الرواق، وكنت وحدي ولم أجد الوقت لأستدعي أحد فهُجمت من قِبل ثلاث رجال، أصبت واحد في ذراعه، وآخر عند القلب وأخذوه ليهربوا لكن لا أظنه أنه سيعيش لذلك أطلق الثالث بينهم عليّ الرصاص.
نظر له صديقه والدموع ثقيلة بين جفنيه، وهو يرى بسالة وشجاعة سيد رغم خوفه على أبناءه من بعده، ليقول جورج:
-أبناءك أمانة في رقابنا جميعًا، فلا تقلق يا صديقي.
قال جورج هذا وأصابته رصاصة في منتصف جبهته من النافذة الوحيدة في الغرفة ثم فر القاتل هاربًا، ليرحل رجل شديد الحرص على وطنه، شعر سيد برعب وحزن وبكاء لا يعلم على نفسه أم أطفاله أم زوجته أم صديقه الذي كان يوصيه للتو، ليرحل قبله، لينادي كمن يذبح بشفرة ثقيلة في بترها:
-جورج، جورج لا يا جورج كيف لطيب القلب مثلك أن يموت.
وبعدها أضاف يقر بأمر كان غافل عنه:
-أردت الموت فداء للأرض، فنلتها يا صديقي بسرعة.
وأغمض عيناه استسلامًا للقدر.
* *
وصلت سيارات الإسعاف واحدة تحمل الفقيد جورج، وأخرى تحمل سيد بعد أن ارتدى قناع الأكسجين، والأخرى تحمل أنس المصاب وضابط آخر مصاب معه، وحازم معهما لربما احتاج أحدهما إلى شيء، أما تيم فقد كان مع سيد الذي أفاق بالطريق إلى المشفى، لينزع قناع الأكسجين ويقول بصعوبة:
-أرجوك .. يا ... يا سيادة .. الرائد ... أبنائي .. أبنائي يا سيادة ...
قاطعه تيم وقال بحزم:
-لا تقلق على أطفالك كن في نفسك الآن يا سيد، فكر في نفسك رجاءًا، تحدى كل شيء لأجل أطفالك يا بطل.
فسأل سيد:
-جورج...
فجاوبه تيم:
-لقد رحل كبطل عظيم يا سيد، وكن بطل أنت الأخر وتحمل لتعود لأطفالك.
ثم ثبت قناع الأكسجين لهذا الأخير، ونظر من النافذة الصغيرة التي تطل على مجلس السائق، ليرى من الزجاج الأمامي للسيارة دلوفها للمشفى العسكري الخاص، وبعدها دخل سيد للعمليات.
انتظر أكثر من ستةِ ساعات ليخرج الطبيب بملامح غير مبشرة، ليلقى بالخبر في وجهه:
-للأسف لقد توقف القلب وقمنا بعمل ما يلزم لكنه لم يستجب و …
قاطع حديثه خروج الممرضة من خلفه تهتف:
-يا حضرة الطبيب لقد استجاب المريض، وعادت أجهزته للنشاط من جديد.
ترك الطبيب تيم ودلف سريعًا لداخل غرفة الجراحة، بينما تيم وقف يبتهل لله ليعود سيد بينهم، مرّت ثلاث ساعات إضافية وهو واقف أرهقه القلق من كثرة الانتظار، خرج الطبيب أخيرًا بملامح قاتمة، وقال بإرهاق:
-لقد فعلت كل ما بوسعي لإنقاذه، وهو الآن بين يدي الله، لقد قمنا بنقله للرعاية المشددة.
وتركه بعد أن ربت على ذراعه، وبعد ذهاب الطبيب اتصل بحازم ليطمئن على أنس، ليخبره حازم أن إصابته هو والضابط الآخر ليست بالغة.
**
حضر الإجتماع في منتصفه بعد أن طلب من الطبيب إعطاءه مسكن يخفف آلامه، بعد أن دخل واتخذ مقعده سأله عصمت عن حال إصابته، ثم أمر بمجيء زوجة سيد إلى هنا في الغد، لكنه طلب من اللواء بشكل شخصي أنه من سيخبرها بما حدث مع الضابط سيد، ثم انفضّ الإجتماع وخرج الأربعة رواد يسيطر عليهم الضيق من فشل مهمتهم وكيف لاقوا تقريع من قائدهم بسبب ما أخفقوا في إنجازه، وبعد توبيخ من سيادة اللواء قاموا بعقد اجتماع فيما بينهم، فقال حازم بشرود:
-من الواضح أن أفراد التشكيل كانوا يعلمون بهجومنا.
فقال تيم مفسرًا:
-نعم لديك حق، لكن لا أعلم لما كان هناك بعض منهم.
فرد مروان بالرأي الأقرب للصواب:
-ربما لكي يجعلونا لا نفكر أن هناك جواسيس منهم في صفوفنا، لكنهم مجموعة من الحمقى.
فوافق الرأي تيم وأنس الذي تحدث:
-من رأيي أيضًا أنه هكذا..
وصمت بإرهاق وألم ظهر على ملامحه فتكلم مروان:
-دعونا نذهب يا جماعة فأنس واضح أنه متعب جدًا، يجب أن يرتاح يومان في المنزل.
فرد أنس معترضًا:
-ليس بهذا القدر.
فرد تيم بحزم:
-بلى، بهذا القدر، ارتاح وأنا سأجعلك على علم بكل المستجدات لا تقلق.
كاد يعترض، ولكن قاطعه حازم باقتضاب وطبعه الشديد الأقرب للقسوة في ظاهره، والحب والأخوة في باطنه:
-هل نحن أمام طفل صغير يا أنس؟! يجب أن تنفذ ما نقوله لتتحمل المسؤولية فيما بعد، يجب أن نتعاون جميعنا فلا تكن عائق على أكتفانا في تحركاتنا القادمة.
رغم قسوة كلماته التي تجعلك تتعجب منه، إلا أن اقترابهم في الفترة الأخيرة جعلهم يفهمون بعضهم البعض، ففهم أنس مدى خوف حازم عليه، لكنه يجهل التعبير.
*****
" كإسمها تمامًا، رقيقة تتسم باللُطف النابع من قلبها لجميع من حولها، تُساعد هذا وتُعين ذا?، ولكِن من جهة قلبها تُهزم دائمًا، ولما حان الوقت لتنتصر دقاتها أخيرًا، خذلها القدر وأضحت شكوكها حاجزًا بين قلبها وميلاد عشق جديد".

خرج الأربع شباب من مقر القوات، في حين كانت رهف تقف مع نور بعد أن خرجت وجدته في انتظارها، لمحهما تيم من بعيد فاستأذن من زملائه، ليقترب منها فسمعها تهتف بعصبية:
-يكفي يا نور يكفي، لقد تعبت من هذا الحصار الذي تفعله لي أينما أذهب أجدك هناك، يكفي لهذا الحد ما بيننا انتهى ويجب أن تسلم بالأمر الواقع، لنبقى على صداقتنا ولا غيرها لقد سقط الحب من قلبي منذ زمن، حتى أنني وصلت لمرحلة الكره، فما كدت أن أسامحك وبدأت في أن أسترجع ذاتي حتى ظهرت من جديد مرددًا أحبكِ، أنا لن أنخدع مجددًا بكلامك المعسول، أفهمت الآن!
باغتها تيم من العدم، يسأل:
-هل يوجد مشكلة؟!
تصلب جسدها في دهشة وبدأت تستدير بإدراك حقيقة وجوده، وعندما رأته سالمًا أغمضت عيناها براحة وزفرت باسترخاء، لكن تيم لم يرى أيًا من هذا وهو يتفحص الواقف خلفها، ويبدو أنيق بسيارة أكثر من رائعة لم يبدو عليه أي مظهر يجعل منه متحرش، إذا لما كانت تصرخ رهف؟ وعندما وجدها صامتة تنظر له بصمت شبه مبتسمة، وأمارات الراحة على صفحة وجهها تجعلها في نظره بلهاء بجدارة، فسأل مجددًا:
-لمَّ تصرخين هكذا؟ ومن هذا؟
ليرد نور بعصبية:
-ومن أنت أصلًا لتسألها؟!
ثم سأل رهف وهو يمسك ذراعها ويديرها له:
-من هذا يا رهف؟
نزعت ذراعها بقسوة وقرف، وصرخت بقوة ضارية:
-لا دخل لك يا نور، ولا تعترض طريقي مرّة أخرى ولن أكرر كلامي.
وقتها اقترب منها نور ولوى ذراعها خلفها بسرعة لم يدركها تيم الذي عندما أفاق من صدمته، باغت نور بضربة من قبضته في منتصف أنفه بدون أي تفاهم مسبق، ليترنح نور ألمآ وتشوشت الرؤية أمامه فترك رهف مضطرًا.
فهتفت بتهكم وصراخ:
-من الواضح حقًا أنك تغيرت!
وقف نور بعد أن استعاد توازنه، ورأى تيم يمسك رهف ويحميها خلف ظهره من أي حركة مفاجئة من هذا الجبان، فصرخ نور بـ تيم:
-لا تتدخل يا هذا بيني وبين زوجتي، هل أنت معتوه؟!
غفل تيم عن التساؤل الأخير المهين، وتوقف عند نهاية التحذير الأول، والتفت والصدمة تعقد لسانه لرهف التي بدورها فقدت ثوب الطبيبة، لتصرخ بهمجية في نور:
-لا تقل زوجتك، أنا لست زوجتك، وابتعد عن طريقي يكفي ما عانيته على يديك.
فهتف نور بهمجية:
-سأقتلكِ يا رهف، سأقتلكِ صدقيني.
تركها تيم واستدار يسدد له ضربة في إحدى عينيه، وتحدث بقسوة:
-عليك أن تغادر قبل أن أفقد صبري.
لكن عندما استقام نور، كان قد أنهى تيم جملته، فهجم الأول على الثاني وضربه في منتصف بطنه، حاول تيم تفادي ضربته لكن الأول كان أسرع مما تخيل الأخير، ليقترب الثلاث شباب منهم حيث حازم ومروان يحيلون بين الأطراف المتشاجرة، وأنس يحاول إبعاد رهف، وبعد أن فُض كل شيء، أصرّ تيم على مراقبة رهف بعلمها حتى تصل البيت آمنة، وكم أشعرها إصراره بسعادة طاغية غير منتبهة لشعورها هذا.
* * *

"الجُندي الشُجاع الذي يواجه الموت يوميًا باتَ خائفًا الآن، بل مُرتعبًا من أن تتركه وترحل، خائف ألّا يشفع عشقه لديها، وألا تتفهم قراره الذي اتخذه بعد صراع طويل مع النفس، خايف من أن تحرم عليه أُنيسته في هذه الحياة".

وصل منزله ليجدها مستلقية على أريكتها المفضلة، أراد أن يحملها ويضعها في الفراش ككل ليلة لكن جرحه الجديد ما يزال يؤلمه حتى وإن كان سطحي، لو أيقظها الآن ستمطره بالصراخ والأسئلة، ولماذا لم تتصل بي لآتيك، آه لو علمت انه أمر بإخفاء الأمر عنها لأماتته في توه، سيضطر ليقظها ربما تقلق لكن ليس بيده شيء غير ذلك، ابتسم بسخرية مع إنحناء إحدى زاويتا ثغره، وهو يهمس بنبرة ساخرة:
-ربما تقلق يا له من تعبير ركيك لما ستفعله ملاذ؟!
إن ملاذ ستقلبها ليلة بلا قمر من الشعور المدمر الذي يصيبها عندما يحدث ما يؤذيه ويكون سببه عمله، يعلم مدى حبها له ويعشقها هو فوق حبها له آلاف المرات، لكن قراره الذي توصّل له اليوم بعد إصابته سيجعل علاقتهم تمر بأزمة عصيبة، جلس ببطء وملامحه تتألم في مقعد مستقل بجانب رأسها، وشعرها الملون يخفي ملامحها، أزاحه بهدوء ليظهر وجهها الملائكي أمام ناظريه، جفونها الواسعة مغلقة على لؤلؤتين سمراوين، بشرتها البيضاء بوجنتين مرتفعتين بأنوثة تخصها، أكمل تأمله لها بذهن متضارب حياته اليوم كانت ستنتهي وكان سيترك ناردين ومشكلتها خلفه، لتعاني وحدها مع قسوة البشر ابنة خالته رغم غباءها، يعلم أن قراره سيفتح عليه بابٍ من أبواب الجحيم، لكن ماذا عساه أن يفعل غير ذلك، لكنه يخشى من ردة فعل زوجته، يخشى بشدة أن تنهي زواجهم نتيجة لهذا القرار الذي لا مفر منه، يخشى الفترة التي ستلي معرفة ملاذ بقراره النهائي، لقد اتخذ قراره وهو يقف عند شاطئ النهر بعد أن أخذ حبة مسكن آخرى، استقام في جلسته واستعاد رابطة جأشه، ومدّ يده ليوقظها برفق حان:
-ملاذ حبيبتي، هلا استيقظتِ؟!
فأجابت ندائه بتقلبها وهي توليه ظهرها، ابتسم على عمقها في النوم يبدو أنها نائمة منذ فترة كبيرة فقد أوشكت الساعة على الرابعة فجرًا، وكون ملاذ تستيقظ مبكرًا فيغلبها النوم مبكرًا دون مجهود منها خاصة والنوم هو عشقها الثاني أم يقول الأول، لكنه سيغتر ويقول الثاني ابتسم على أفكاره، وطلب منها كثيرًا أن تنام في الفراش هنيئة عندما تأتيه مأمورية في الليل، لكنها ذات رأس يابس لا يلين أبدًا، قام من مجلسه وانحنى يمسك بأعلى ذراعها ليجلسها وهي غافية في عادة يستخدمها معها كثيرًا، رفعت أهدابها والنوم لا يزال يغش عيونها، ابتسمت لوجهه وأغمضت عيناها مرّة أخرى، فهزها ليرجع رأسها للخلف ويستقر هناك بإصرار عاجزة عن الإستيقاظ ، ليهزها مرّة أخرى وهو يهتف بخشونة:
-ملاذ استفيقي، أنا متعب وغير قادر على حملك.
اخترق حديثه غياهب عقلها النائم بصعوبة، لتفتح عينيها وتنظر له بعدم إدراك، ثم تغمضهما بضيق من الضوء المزعج، ثم دلكت إحدى عينيها بكفها الحر، لتشعر بألم قبضته وأصابعه مغروزة في جلدها الرقيق أعلى ذراعها، لتقول بتذمر:
-يا أنس يا حبيب قلبي، ما هذه الطريقة والقوة التي تمسكني بها؟ لما تعاملني كأحد أصدقاءك الـ...
بترت جملتها صارخة، وهي تستوعب ذراعه ذا الضماد في رابطة حول عنقه، فصرخت بهلع:
-ما هذا؟ ما به ذراعك؟ كيف أُصيبت؟ لما لم تتصل بي لتخبرني؟ لما لم تتفادى الرصاص؟!
أغمض عينيه يستمتع بخوفها عليه، ملاذه المجنون الآمن، سَمِعها تصرخ بجنون:
-كيف تبتسم وأنا أموت قلقًا عليك؟ ألا تشعر بالمسؤولية تجاهي ولو لمرة واحدة لتحافظ على حياتك يا أنس؟
تجهم وجهه، وتصلبت ملامحه وظهر الألم واضحًا في عيناه التي تناجيها خفية، تكلم أخيرًا:
-هلا أجلنا الحديث لوقت آخر؟ أنا غير قادر على الكلام.
سألت بذهول:
-لا، لا يمكنك أن تكون بهذا الهدوء وأنا أموت!
أغمض عينه وقال:
-أرجوكِ يا ملاذ، لنأجل حديثنا لوقت لاحق.
كادت تتحدث مجددًا بمجادلة، ليقطعها:
-أرجوكِ!
لتهمس بإنهزام:
-حسنًا، سأجهز لك العشاء.
فمسك كفها، واستسمحها:
-فقط أريد النوم بين ذراعي?ِ يا ملاذ، لا أريد غير ذلك.
العجز في صوته هزّ أعماقها، فاستسلمت لأصابعه وهي تتغلغل الفراغات بين أصابعها، لتشتبك يده بيدها ويقودها لغرفتهم فيستلقيا معًا على الفراش، واحتضنته بحنان بالغ بين ذراعيها، مشطت شعره بأصابعها وسألته بهمس:
-هل ستنام بملابسك؟
أجاب بهزة من رأسه تعني الموافقة، لتتردد قبل أن تسأله:
-ألن تحكي لي ماذا حدث؟
زمجر بتهديد، لتقول وهي تضغط بأصابعها على شفتيها:
-حسنًا، سأصمت نهائيًا!
مرت لحظة لتقول:
-فقط خذ حمامًا دافئ.
استقام بعصبية جالسًا مشيرًا لباب الغرفة:
-اخرجي يا ملاذ اخرجي!
تنفست بنعومة، وهي تشير لفمها علامة إغلاق سحاب، دون حرف إضافي ليستكين مجددًا، وكانت خير من يسكن إليها.
* *
"إن أردتم رؤية أساس البيت وعموده، فانظروا إلىٰ الأم، الأم التي بدونها لن يكون شيئًا علىٰ ما يُرام؛ فلا أحد يفهم? من نظرات? سواها، ولا أحد يعلم دواخل? غيرها".
****
جلست السيدة زُهيرة وسط تسبيح وغرام التي قامت بجمع شعرها على كتف واحد ناحية السمّاعة لتداريها وفي حجرها ينام الصغير سيف متدثرًا بغطاء ثقيل، وقد ذهب ماجد لفراشه منذ قليل، فأمست تنشد في ذكر النبي بصوت به من الحنين والقوة:
-"النفس تشكو ومن يدري بما فيها، سواك يا خالق الدنيا وباريها، روحي على الدور طول الليل ساهرة، تأسو الجراح ولا تغفو لياليها، تئن في طرقات الريح ضارعة، فاكشف لها نورًا يواسيها، يا واهب النفس إيمانًا وضحت كل الدروب تخفي دياجيها، يا غافر الذنب يا رحمن أنت معي، تصغي لنبضة قلبي قبل شاديها".
وأصبحت تردد كلمات الأنشودة بطريقتها الخاصة، بصوت في جمال زقزقت عصفور أو غناء بلبل، صمتت قليلًا وهي شاردة في ملامح غرام، تشك في علاقتها مع مروان هناك حذر في تعاملهما معًا، وهذا لا يكون بين زوجين، وواحدة بذكائها وسنين عمرها الخبيرة تعرف هذا حق المعرفة، وهي كأي أم من حقها القلق على ولدها والذي أضحى وحيدها، كانت تبدو شاردة حزينة وكأن أنشودتها حركت وجعًا حاولت مداواته.
كانت غرام تنصت باهتمام للأنشودة التي أطابت جرحها بعد تقيح سنوات، فقد ظهر في عينيها دموع تتجلى لأي عين، وعندما صمتت حماتها طلبت غرام بأدب:
-هل يمكنكِ يا أمي أن تنشدي مرّة أخرى! أريد سماع هذه الروائع التي تذيب قلبي وتهذبه.
ابتسمت زهيرة، وبدأت تنشد بأنشودة جديدة في مدح رسول العالمين:
-المسك فاح المسك فاح، لما قبلنا رسول الله، والنور لاح النور لاح، لما حضرنا أبا الزهراء، أشكي لمن همي و حالي...
رددت تسبيح وغرام خلفها معًا:
-الله، الله.
لتنشد زهيرة:
- وأقول لمين النبي غالي.
-الله، الله .
في هذه اللحظة دخل مروان من الباب والدهشة تعلو وجهه، وسؤال واحد يتردد في ذهنه "لما الجميع مستيقظ حتى هذه الساعة المتأخرة ولمَّ كل هذه الضجة؟" دخل وهو يسمع أمه تردد:
-ايه اللي بدل أحوالي.
ليردد مع شقيقته وزوجته، وهو يقترب من جلستهم:
-الله، الله.
لينتبهوا لوصوله المتأخر، لتبتسم أمه مرحبة تملئ عينيها برؤيته سالمًا، ليقول هو لعيونها الرائقة:
-الله، الله يا زُهيرة، اشتقت لجلساتك هذه.
لترد زهيرة بعاطفة:
-يا حبيب قلب زُهيرة.
ثم سألته:
-لمَّ كل هذا التأخير يا بُني؟!
ليجيب بمرح:
-كنت في سهرة مع الأصدقاء.
فنظرت له غرام بشك وشيء آخر لم يفهمه، لكنه على كل حال ابتسم لها بحب يكاد يقفز من عينيه، لكنه غير قادر على إظهاره، لقد كُتب على فؤاده الحب مع عدم المنال، وهو راضي كل الرضا ما يهمه أن تكون أمام أنظاره بين جدران منزله، بين أفراد عائلته حتى إن كان الماضي الأليم يحف بهم، أفاق من أفكاره على صوت والدته تسأله:
-لقد علمت أنك كنت تبيت ليلتك خارجًا، وتتحجج أنها ظروف عملك، هل تستغفل زوجتك يا مروان؟ هل تلعب بذيلك خارجًا يا ولد؟
في بداية كلمات أمه، رشق تسبيح بنظرة وعيد قاسية، فأجابت نظرته بأخرى تنفي أنها من أخبرت زُهيرة، وكانت زُهيرة تراقب الموقف بعين خبير، غير غافلة عن وجه غرام الشاحب المصفر وهي ليست مدركة لهجة الفكاهة في نبرة زُهيرة، تختلس النظر لزوجها بإحباط لا تعرف سببه، هل ستلومه إن كان يلعب بذيله كما قالت الحاجة زُهيرة؟ بأي حق وأي وجه تلومه، ألم يتفقا على ألا يتدخل شخص منهما في حياة الآخر في بداية زواجهم، أو أن لا تتدخل هي بمعنى أدق في حياته، ألم توعده بعدم التدخل في حياته العاطفية خاصة؟ وأعطته موافقتها على زواجه بأخرى مردفة بأنه حقه الشرعي، هذا يحق له بالطبع فهو بالنهاية رجل له حقوق هي عاجزة عن تلبيتها وفاءًا لزوجها الراحل، فهي حتى الآن لم تعترف بنفسها زوجة لغيره، انتبهت أخيرًا على صوت حماتها:
-كف عن التوعد لتسبيح يا مروان، فمن أخبرتني بذلك زوجتك، عندما يئست من إقناعي بأن أنام وأراك في الصباح ورفضت أيضًا، فلم تتركني وحدي لا هي ولا تسبيح، والآن جاوب هل تلعب بذيلك يا ولد؟
ضحك مروان بعصبية واقترب من غرام يحتضن كتفيها أمام والدته، فجحظت عين غرام وارتعشت بغتة، في حين جاوب مروان أمه:
-سامحكِ الله يا أمي، هل ستوقعين بيني وبين زوجتي؟ سامحكِ الله حقًا؟
ثم وجّه نظره نحو غرام التي تكاد تموت خجلًا، وسألها بدعابة لطيفة:
-لكن غرام تحبني، وتعلم حبي وإخلاصي لها، أليس كذلك حبيبتي؟!
خجلت واحمرت وتعرقت، وكل ذلك لم يخفى عن عين السيدة زُهيرة المربكة لها، وجدت نفسها عاجزة عن الرد فأومأت بخجل فطري يظهرها كزوجة تخجل من أم زوجها، ولكن ما خفي كان أعظم!
بعد وقت، وبعدما تأكدت والدته أنه تناول طعامه، دلف الجميع إلى غرف النوم، ونام هو مكانه على الأريكة التي تفرد كفراش، سمع صوت طرق على باب الغرفة انتظر لتفتح غرام، لكن يبدو أنها تعمقت في النوم سريعًا، جسده يأن ألمًا لم يعد قادر على تحرك ساكنًا، لكنه في الأخير قاوم الألم وذهب ليفتح الباب، لتطل تسبيح من النصف المفتوح من الباب، كي لا تتمكن من النظر لداخل الغرفة وتكشف سرهم الوحيد المشترك، لتقول تسبيح:
-أريد غرام، أين هي؟
فقال مروان بثبات:
-انتظري في الخارج وستأتي إليكِ.
فانصرفت بهدوء مبتسمة، ليدخل مروان زافرًا نفسًا ملتهبًا عالمًا بسر ابتسامتها التي أبعد ما يكون عن حاله، ثم اقترب من طرف الستار لينادي بهمس مسموع في حيز الغرفة:
-غرام.
فكان الصمت إجابته، فنادى بصوتٍ أعلى:
-غرام.
فقابله الصمت مجددًا، فأغمض عينيه العسلية كشعاع الشمس وحاول من جديد، لكن دون جدوى فحرك الستار قليلًا لينظر للداخل ليجدها متدثرة بغطاء شتوي ثقيل رغم أن المناخ
برودته مقبولة، اقترب من الفراش، ومد يده ليهزها من فوق الغطاء، لكن وقبل أن يفعل لفت نظره السماعة الطبية الموضوعة على الطاولة الخاصة بالفراش، فأطال نظره هناك ثم تعلق بصره بوجهها المرتاح النائم بهدوء، وإغماض جفنيها على أحجارها المتلألئة، همس بنبرة غريبة:
-أي ألم تحمليه بقلبكِ المسكين؟
وأطبق كفه المفرودة، وانسحب يفكر في حجة يقولها لتسبيح لعدم قدرة غرام لخروجها، وفي داخله غير قادر على المواجهة الآن.
* * *
في اليوم التالي بعد أن حضر الجميع جنازة البطل الفقيد جورج، وانتهاء المراسم في الكنيسة ممتلئة بأناس كثيرة من أصدقائه في فرقته، وأهل الحي الذي يسكنه، فقد كان محبوب كثيرًا وعزيزًا على العديد من الأهل والجيران، كانت الجنازة العسكرية يخلفها جيش من الناعيين، فقد كان جورج ذا سيرة طيبة، حلو الروح وصديق وفيّ للجميع اشتهر بأمنيته التي كان يتمناها، عادوا الشباب مهمومين مثقلين بالأحزان، دلف تيم مكتبه ليجد في انتظاره أنثى جميلة رائعة، وبعد أن رحب بها، قدمت نفسها:
-أنا زوجة سيد، لقد أخبروني أن سيد طلبني هنا، لكنّي لم أراه حتى الآن، والحقيقة هو يعلم أنني تأخرت على عملي، فهلا أخبرته بوجودي.
حاول أن يكون لطيفًا وهادئًا وهو يقول:
-سيدتي، الضابط سيد من أعظم الأبطال في قواتنا...
قاطعته تسأل بحذر:
-هل حدث شيء سيء لسيد؟
تهدلت أكتاف تيم وهو يقول باستسلام:
-نعم، لكن ليس سيء للغاية هو أصيب في مطاردة أمس، وهو في غرفة الرعاية الخاصة في مشفى خاص للقوات.
فسألت السيدة فجاءة وكأنها لم تستمع لأي كلمة مما قالها قبل المشفى:
-هلا أمليت عليّ العنوان.
فرد تيم بلباقة:
-سأوصلكِ سيدتي.
ثم خرجا متوجهين نحو المشفى غير منتبهين لهذه التي في نهاية الممر تنظر اليهم بألم مضني وعقلها يردد "خيانة مجددًا؟ وألم جديد، دون بداية حتى" ثم رفعت كفها تدلك به موضع قلبها الذي يكاد يلفظ أنفاس متحضرة في أساسها، والإندهاش يعلو قلبها بإدراك باهت، منذ متى وقعت في غرامه ليشقى قلبها من جديد، أي عذاب ستراه؟ لكنها ستمنع نفسها بقوة من هذا الإنزلاق العاطفي مجددًا، ستشيّد جدار من الحجارة حول قلبها من جديد، لن تقبل بهزيمة من خيط قلادة حب مهترئة.
* * * *
كانت زوجة سيد نعم السيدة القوية، متماسكة بقوة صخرية مذهلة، عندما استفاق سيد من غيبوبته في أحد الأيام ليطلب رؤية زوجته على وجه السرعة، عندما خرجت كانت دامعة العين وهذه كانت المرّة الوحيدة التي رأى فيها دموعها، وبعدها دخل سيد في غيبوبة اتضح أنها طويلة، حيث أنه مرّ أسبوع وزوجته بجانبه كل يوم، وكان تيم يأتي للزيارة ومعه أحد الأصدقاء بالتبادل، واليوم فقط أوصلت القوات الخبر لأهل سيد في بلدتهم، والذي كان غير متوقع بالنسبة لزوجته هو مجيء والد سيد وأشقاءه ووالدته التي كان قلبها ينفطر على ابنها الأكبر، لتقترب من زوجة سيد وتحتضنها بلوعة أم حرمت من رؤية ابنها لسنوات، وعندما جاءت لحظة رؤيته كانت حياته على المحك، وأثناء احتضان الأم لزوجة ابنها خرج الطبيب بملامح لا تفسر، ليقترب منه تيم ليخبره الطبيب:
-أنا آسف، لقد فعلت ما بوسعي، لكن لقد فقدنا المريض مع كل آسف.
كانت والدة سيد لا تزال تحتضن زوجته، لتصرخ صرخة شقت عنان السماء قبل أن تسقط أرضًا فاقدة الوعي، أما الزوجة فكانت الأرض تميد من تحتها رويدًا رويدًا، حتى سقطت على الأرض ممددة، ليأمر الطبيب فريق التمريض ليساعد الحالتين، أما والد سيد فكان يستند على عصا غليظ بكفيه، فمال قليلًا جانبه ليسنده أحد أبنائه بسرعة، وظللت علامات الأسى وجوه الجميع، وجلسوا في انتظار استلام جسمان الشهيد، وأفاقت الوالدة ليأتي الطبيب مجددًا ليخبرهم بكل حزن:
-لقد فقدنا الشابة الصغيرة، يبدو أنها رحلت خلف زوجها.
نعم يبدو أنها رحلت خلف زوجها بعد الشقاء في رحلة حب دامية!
قبل قليل في غرفة مليئة بالأجهزة الطبية الدقيقة الرقمية منها والبيانية، وهذا البطل المقدام الممدد على الفراش الطبي يفتح عينيه بألم قليلًا، ثم ابتسم وكأنه يرحب بأكثر شخص يحبه، وكأنه يستقبل أجمل الأشياء ندرة وبهجة، ابتسم مجددًا لكن هذه المرّة كانت ابتسامته فيها شيء من السعادة أو الفرح وربما أقرب إلى... الراحة وشيئًا يشبه الوداع، ليغمض عينيه مجددًا على هذه الابتسامة، وتصدر الأجهزة صفير عال ينبه لوجود خلل في أجهزة الجسم الحيوية، ليدلف الطبيب المشرف على الحالة ويبدأ الفحص، ثم استخدام جهاز الصدمات الكهربائية لينشط القلب من جديد لكن لم يصدر المريض أي استجابة.
* * *
قلوب العُشاق دائمًا مُقيدة بالحُزن، وقلبه هو يتلوىٰ بين أضلعه وجعًا منها وعليها؛ فهي عشقه وابتلائه، دائه ودواءه، لا يرىٰ من النساء غيرها، بينما هيّ ما زالت لا تراه، تضع ستار الماضي حائلًا بينها وبينه، ولا يدري متىٰ يحن قلبها، ولكنه يبتهل أن يكون قريبًا، فقد أضناهُ الشوق إليها.
༺༻
عندما عاد للمنزل بعد مراسم تشيع البطل سيد، لقد فقدوا اثنين من أكثر الجنود بسالة وشجاعة، لقد ذكّره والد سيد وأخوته بما أقدم عليه والده مع عمران وغرام، بالله كيف يريدون الفرقة بين المرء وزوجه بكل هذه القسوة، أين لهم بهذا التجبُّر، وعندما وصل لوالدة سيد انفطر قلبه عليها كما انفطر على أمه منذ سنوات، لقد حرموا أم من قطعة من قلبها، أي إثم يقوموا به غير شاعرين بذنبه؟ دلف لغرفته فرأى غرام تجلس أرضًا على ركبتيها تقص بعض القماش من الواضح أنه تصميم جديد مبهر ككل شيء تفعله، شعرها على كتف واحد كما اعتاد رؤيتها في الأيام الماضية، ابتسم بإرهاق وتنحنح لتلتفت له برأسها وتستقيم قائلة سأحضر لك العشاء، وكادت تمر من جانبه فأمسك بمرفقها وقال:
-هل لنا بحديث تأجل كثيرًا؟
دارت عينيها في محجريهما بسرعة، وقالت بتوتر:
-أي حديث؟ لم نأجل شيء؟
فقال مروان بقوة:
-ليس معنى عدم حديثي وقتها يعني أني لن أواجهكِ، غرام بيننا حديث لا مفر لكِ منه.
فركت كفيها وضمتهما لصدرها، قائلة بتلعثم:
-فيمَ تريد الحديث؟
أشار لسماعتها وهمس ببعض القسوة:
-كيف لا أعرف بأمر كهذا يا غرام؟ كيف طاوعكِ قلبكِ لتواري عني هذا الأمر؟ كيف كنتِ بمثل هذه القسوة؟! لا أعلم إلى أي درجة تدني نظرتكِ لي؟!
صرخت بجزع:
-لا والله، أموت ولا يتدنى مقامك قط...
"بعيد الشر ليتني فداءً لكِ"
كانت جملته في نفسه ولم تخرج للحياة، فقد وأدها في قلبه، بينما تكمل:
-أنا فقط، فقط لا أحب الحديث بهذا الموضوع، أشعر بالكسرة عندما اتطرق إليه لذلك كنت أتجنب الحديث به، ولا زلت... أشعر بالوجع تترمى أشلاؤه داخلي ببشعٍ يضني على كل ثقة أكسبها بنفسي، أشعر وكأن ينقصني شيء عن الآخرين، هل تفهمني؟
تزامن سؤالها الكاسر مع رفع عينيها المبللتين بدموع لم تفر بعد، ورغم ذلك لم تلن ملامح مروان وهو يضغط على قوله:
-ورغم ذلك كان يجب أن أعرف، لقد كسرتِ عزتي بنفسي يا غرام، يا له من شعور قاسي من فعل يديكِ.
أطرقت رأسها بخزي للأسفل، وهمهمت بصوت يكاد يكون مسموع بخبر قسم الباقية من كرامته لنصفين:
-لم يعرف أحد بالأمر غير عمران رحمه الله.
نظر لها بانكسار يطيح بقلبه، ثم سألها مباشرة بكلمة واحدة:
-وأمي؟
أقرّت بشحوب:
-لم يعلم أحد غير عمران، هو من طلب ذلك بنفسه.
أومأ بتفهم هو أبعد ما يكون عنه الآن، وقال بقوة:
-وبعد ذلك تستيقظين في اليوم التالي وكأنكِ أنتِ الحزينة التي كُسر قلبها؟
نظرت له عاجزة عن النطق، كيف ستُعرّي آلمها الآن لكنها قالت في النهاية حتى لا يحزن مرّة أخرى:
- أنا لم أكن حزينة... ولكن... لقد... في مساء اليوم السابق لهذا اليوم، لقد دلفت إلى الغرفة و...
صمتت ليذهب بذاكرته لهذه الليلة التي تتحدث عنها، نعم تذكر... لكنه لم يقل شيء يجرحها، لم يفعل والله لم يفعل، ترجم لسانه أفكاره:
-ماذا قلت في هذا اليوم؟ لا أتذكر أني جرحتك.
قالت غرام بجملة تردد صدى وجعها في صدره:
-لم أسمع ماذا قلت من الأساس، لم أكن مرتدية سماعتي.
ارتفع حاجبيه كالقذيفة مما جعلها تنكس رأسها جزعًا، تكلم بعد أن تمكن من خروج صوته دون اهتزاز:
-إذا لما كنتِ غاضبة؟!
قالت وهي ما تزال تنزل رأسها:
-لم أكن غاضبة، كنت حذرة فقط..
صرخ مروان هذه المرة دون مراعاة لأي شيء:
-لم تكوني غاضبة؟ إذا عندما تغضبي ماذا تفعلين؟! بحق الله ألا تعتقي رجل أضناه العذاب.
ثم ضرب أحد المقاعد بقدمه واستدار خارجًا من المنزل بأكمله.
* * *
انتهى الفصل الرابع.
قراءة سعيدة.
دمتم بخير.
خواطر الفصل إهداء من الجميلة (بائعة اللطف).
تدقيق هالة عماد "بائعة اللطف".
مراجعة شيمو أبو النجا.


چورية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-07-22, 04:46 PM   #8

چورية

? العضوٌ??? » 505085
?  التسِجيلٌ » Jul 2022
? مشَارَ?اتْي » 40
?  نُقآطِيْ » چورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الخامس
خيوط العِشق تتشاب? فيما بينهم، منهم مَن يخشىٰ البوح ويرهقه الكِتمان، ومنهم مَن أرقه عشقه وباتَ خائفًا مِن الفُقدان، ومنهم مَن لا يعلم لمشاعره برّ أمان، وهُنا? مَن سيلبي نداء استقراره بالعصيان، وعلىٰ الجانب الآخر منهم يتربعنّ فتياتهنّ علىٰ عرش الخوف المُزعزع لثقتهِنّ بأنفُسهنّ، واحدة منهنّ تخشىٰ الوقوع في الحُب مُجددًا، بعد ما فعله بها غدر الزمان، وأخرىٰ لا تعيّ عن المشاعر شيئًا سوىٰ اهتمامٌ زائف وبعض التظاهر بالحنان، وهُنا? تِل? المتشككة في النوايا كُلما يُقابلها إنسان، وأخيرًا هذه التي لا تعلم عن ما ينتظرها من حِرمان.
……………….
وقفت تنظر في ذهابه الغاضب، تعلم أنها مقصّرة.. مقصّرة للغاية، أي زوجة تمنع زوجها عن حقوقه؟ والأفظع أنها كلما حاولت التعامل بأريحية يحدث أمر يُرجعها لنقطة البداية... بل لما قبلها بمراحل، على الرغم أنه يمنحها الوقت التي تحتاجه، لكن منذ شعرت بخطيئة ما تفعل وهي خجلة من طلب الوقت والتفُهم أكثر، فلا أحد أعطى لها الوقت كما فعل هو، ولم يتفهمها أحدٌ سواه، تشعر بثقل من الخزي من طلب ذلك منه، إنها تُقدّر ما يفعله لأجلها لكنها تجهل التعامل خاصة أنها غير متأقلمة معه حتى بعد مرور كل هذه السنين، والأدهى أنها لم تعد تفهم نفسها كيف تُحب عمران بكل هذا الوفاء له، وكيف تشعر بالراحة وتحب التجاوب مع مروان، أي حلقة تخبُط بلعتها دون لفظها قط، تستشعر الدفء الخالص في نظراته، مع تكراره لكلمة "آسف" منذ أن رأته يتكلم ويُضاحك جارة لهم منذ أسابيع أم شهور! لم تعد تتذكر حقًا كل ما تذكره أنها عندما كانت في عودتها ظهرًا من عملها لنسيانها تصميمات مهمّة قد سهرت عليها لليالٍ لتنسها في هذا اليوم، لتعود والمصعد معطل فصعدت على قدميها لترى بعينيها مروان يصعد الدرج أمامها وهو يمازح سيّدة وهو يحمل لها أحد حقائبها، وعندما لمحها ولمح نظرة اللوم ناحيته والشراسة التي تتحول في عينيها عندما تنظر لجارتهم محاولة إخفاء تعابيرها عنه لكنه مروان الذي أضحى يحفظ غرام أكثر من خطوط يده، عندما وصلوا للطابق الخاص بالسيدة ناولها حقيبتها التي تبدو لعينيها ثقيلة، وكم أن زوجها حنون.
نطقت "حنون" لنفسها بسخرية ممدودة الواو، فبرقت عينيها وكانت هذه أول مواقف تخبُطها، لقد نطقت زوجها في منتهى السلاسة والبساطة حتى وإن كانت بداخلها، كما سخريتها من حنيته تجاه الأخرى، وكأن زواجهما مفعل دون أي صعوبات وهو يقصر في حنيته معها ويغدق بها على نون النسوة عداها! أي تفكير مُبجل سيطر عليها في هذه اللحظة كان يدخلها في فقاعة من التيه وعدم الفهم أكثر، لكنها بمرور الأيام حاولت الفهم، وبدأت المحاولات فعليًا، لكنها تبوء بالفشل من ترددها وعدم تأقلمها، حسنًا على من تضحك.. من عدم ثقتها بنفسها.. لكن ليست هي سبب ثقتها المنعدمة! لقد تعرّضت لتنمر شديد في صغرها بسبب سماعتها الرائعة كما كانت تسميها ميسون، لكن صديقاتها لم يرحمنها قط، تتذكر عندما كانت إحداهن تهمس لها بشيء بجانب أذنها التي ليس بها سماعة، ثم تقول ماذا أفعل أنا أُهامس صماء!
وأخرى كانت في طفولتها وكانت لا تعرف كيف تشعر أن السماعة في غير مكانها، كانت تُزيحها عن رأسها ببطء فتنعدم الأصوات ولا تنتبه، رغم كل دروس التخاطب التي كانت تزورها!
تعلّمت عدم الثقة بنفسها منذ زمن بعيد.. بعيد جدًا، فهل بعد هذا العمر ستعود للثقة بنفسها؟!
༺༻
عندما خرج... كان بمشاعر مكبوتة للغاية، يريد تفريغ هذا الشعور المثقل فوق صدره باليأس والفقدان لفهمها، كم هي مبدعة في تحطيم رجولته لتنزل أشلاء.. رماد بعد أن أهلكتها نيران الهوى والشوق دون إمالتها ولو قطرة تجاهه، فقط لو تشعره بأنه يستحق وجوده في حياتها! فقط لو تفعل، أي بائس يقتات على بقايا عشق مهترئ هو!.
بعد أن خرج من النادي بعد أن فرّغ طاقته فوق خيل أصيل يهملج به مرّة، ويقفز من فوق الحواجز مرّة أخرى ثم يعود ويتهادى به، لم يخرج إلا بعد بذوخ شمس الشروق الباردة في بدايتها، أرسل رسالة لرهف عن وجوب لقاءهما اليوم، وعندما ترى رسالته تتصل به، ثم توجه لمنزله لتغيير ملابسه، داعيًا الله أن لا يشعر به أحد حتى يخرج.
༺༻
جالسًا خلف مكتبه بجانب أحد الزملاء يشرح له مستجدات القضية على شاشة الحاسوب، من مواقع جديدة تم البحث داخلها عن وجود ذاك التنظيم وبعدما انتهى وخرج، شردت عيناه في ذلك الصباح عندما عاد للمنزل خرجت غرام من غرفتهما بعيون متورمة، هل يمني نفسه بأنها تبكيه هو، تبكي غضبه.. حزنه.. أم تبكي كزوجة غضب زوجها عليها دون رحمة، ليتها تفعل لتكون حياتهما طبيعية لمرة واحدة، وعلى الرغم من ذلك عيونها كانت تملأها شيء من التفهم، والنداء لكنه كان أبعد ما يكون عن مواساتها فما فعلته الأيام المنصرمة بمثابة صخرة نتوءها ضربت ظهره غفلة فتأذى من سنونها، تركها على وقفتها ودلف لغرفتهما وأخذ ملابسه متجهًا للحمام، وبعدما خرج لم يرها في الأنحاء، بدأ يبحث عنها في الشقة بهدوء حتى لا تلاحظ لهفته كما المعتاد منه، دخل غرفة الأولاد بحذر وكأنه يطمئن عليهم، وعندما دخل وجد ماجد ينام في سريره وسيف على ما يبدو أنه شعر بالخوف أثناء الليل فاندس بجانب شقيقه، يرمي غطاءه وترتفع بلوزته تعري بطنه وينام بزاوية حيث يحشر رأسه بجانب إبط ماجد وقدمه تدلى من طرف الفراش، ابتسم بحنان دالفًا يعدله في نومته ويدثره بالغطاء مقبلًا رأسه وأخوه بحنان.
خرج يبحث في غرفة تسبيح ليرها تنام منقلبة على بطنها تغطي جميع جسدها وشعرها تحت الغطاء في عادة من الصغر تنامها، ابتسم بحنين لأيام كانوا يتخاطفون الطعام من بعضهم ويأتي عمران بطعام زيادة من المطبخ بإذن والدتهم ليفصل بين شقاوتهم، خرج ليدخل المطبخ ليجده مظلمًا، توجه لغرفته قلقًا وهو يتساءل هل خرجت في هذا الوقت؟ وأين ذهبت؟ وعندما دخل الغرفة، وجد الستار الفاصل ملمومًا وهي نائمة متكومة في وضع أشبه بالأجنة في رحم أمهاتهن، أصابته الدهشة لعدم فرد الستار فهي حريصة دائمًا على فرده إن ولّت للفراش وكأنها نسيت أو عجزت عن اسداله، توجه للمرآة يتجهز للخروج وعندما انتهى وفي طريقه للخروج رأى اهتزاز كتفيها دليل البكاء الصامت المكبوت، حنّت عيناه ومالت بألم عليها، فرطت دقات قلبه مطالبة بقربها ومداواة ما يبكيها، لكنه خرج في النهاية تاركًا الغرفة بل المنزل بأكمله.
استفاق من شروده بسبب تلويح حازم أمام وجهه فقال يضرب يده بعيدًا بمزاح:
-ما بالك يا رجل، ماذا تفعل؟
ردّ حازم باقتضاب:
-حضرة الطبيبة كانت تنادي عليك منذ دقائق لكنك كنت تسبح بعيدًا بخيالك.
دارت عينيه لما أشار حازم، فرأى رهف واقفة مبتسمة بدبلوماسية ابتسامة متوترة لوقوفها محرجة وسط ثلاث رجال أحدهما يشاغل عقلها ليل نهار، والثاني مهذب بطريقة مغيظة في كل الأوقات ولا تعرف طريقة لتعامله، والثالث في انتظار إفاقته من شروده الذي سافر به مجرّات وكواكب، ابتسم لها ثالثهم أخيرًا بعد استفاقته فقالت:
-هلّا يمكننا الحديث على إنفراد من فضلك؟
ارتفعت رأس تيم بمُفاجئة وكأنه تلقى لكمة في معدته، لكنها لم تُعيره انتباهًا حتى، فهي لم تنسىٰ يوم خرج مع امرأة لا تعرف كينونتها حتى هذه اللحظة، بينما هزّ مروان رأسه بالإيجاب خارجًا معها من الغرفة بتلكؤ وكأنه تراجع عن قرار كان سيسحق كبريائه، قاطعت رهف أفكاره بقولها:
-أظننا في حاجة للخروج لمكان عام؟
وكأنها تعرف بماذا يريدها فطلبت منه ذلك، هزّ رأسه كالمغيب، وطاوعها مؤكدًا:
-نعم..
༺༻
في طريقهما لهذا المطعم خلف مبنى القوات، تمشي تحاول تشتيت ذهنه عمّا يؤرقه حتى تحصل على مرونة في الحديث بينهم لأنه إذا استمر فكره معكر هكذا سيفسد حياته مع زوجته، نظرت له بجانب عينيها وهي تتحدث، رأت الخطوط التعبيرية في وجهه زادت بكثرة، فكبر فوق عمره أعوام وكأنه يتحسر على سنوات عمر أضاعها، تأوهت بصمت هامسة لنفسها "ماذا فعلتِ يا غرام؟ لأي مرحلة من اليأس أوصلتِ الرجل؟".
وصلا أخيرًا إلى المطعم المنشود ليجلسا على طاولة اختارها مروان بعيدًا عن ضوضاء المكان، بعد أن طلبا المشروبات، وتحدثا في أمور طبيعية، قالت رهف بابتسامة رقيقة:
-لما أرسلت لي رسالة هذا الصباح؟ هل أنت بخير؟
أخفض نظراته وهو يشعر باضطراب وفداحة ما أرسله وجعله في ورطة الآن، وهو بين كرامته التي تئن وجعًا، وبين معرفة الحقيقة في ثوب يخدش رجولته أكثر قسوة من أنياب سامّة، تحدّث بعد أن أخذ القرار الأكثر ثقلًا على لسانه وكرامته:
-كنت أريد سؤالك عن حالة غرام، أريد تقريرًا مفصلًا بعيدًا عن ألفاظ طبية أعجز عن تفسيرها، لقد بحثت لكني لم أفهم شيء.
نظرت له بمفاجئة ذبحته من الوريد للوريد، ليقول بإقرار حقيقة عارية:
-بالتأكيد تعلمين عن حقيقة علاقتنا أنا وغرام، غرام يمكنها أن تخبأ عن الجميع حتى عني أنا شخصيًا، لكنها لن تفعل معكِ والجدة ميسون.
كان الجرح الغائر في روحه وقلبه يقطر من بين حروفه دماء قاتمة، وكأنه بحر أسود عميق يبتلع كل ما يطوله من بهجة ألوان الحياة، لكنها لم تخذله وهي تقول داعمة:
-سأخبرك بكل شيء عن حالة غرام، الطبية منها والنفسية، لكن لا أريد رؤية هذا الحزن في عينيك، أنت مثال للرجل الحقيقي والذي لم يعد له أثر في هذا الزمن.
ابتسم بمرارة وقال:
-حزن! ما أشعر به الآن ليس حزنًا يا رهف، ما أشعر به هو ثورة داخلية إن أطلقتها ستقضي على كل ما بنيته في السنوات الماضية! رجاءً أتر?ِ مشاعري جانبًا، وأخبريني بما تعرفين.
تنهدت تنهيدة مثقلة وبدأت تسرد منذ البداية:
-غرام ولدت صماء، والمشكلة كانت في القوقعة، وكما تعرف كيف كانت صعوبة هذه العملية، وتكليفتها لكن جدي قام بكل شيء يستطيع فعله حتى تقوم غرام بإجراء هذه الجراحة في عمر مبكر، حتى لا تتأخر كثيرًا في الكلام، لكن ورغم نجاح ما قام به في تسريع موعد العملية لكنها تأخرت عام كامل في إصدار أول كلمة، وهذا كان إنجازًا كبيرًا خاصّة في ظروف كظروف غرام، لكن غرام كانت ذكية جدًا، كما أن والدتها سعت كثيرًا وكرّست حياتها لها ولتدريباتها ودروس التخاطب، لكن..
صمتت أخيرًا تقرأ تعابير مروان التي كانت جامدة غير مقروءة، وعندما سكتت حثها قائلًا:
-لكن ماذا؟!
استرسلت:
-لم تسلم من تنمر الأطفال، خاصة أن غرام كانت مميزة دائمًا، وهذا ما آثار غيرة بعض زميلاتها منها والبعض الآخر كانت تثير حفيظته لأنهم أطفال في النهاية ولا يعلمون كيف التصرف، لكن هؤلاء الفتيات اللواتي كانوا يغيرون منها لم يتركوها وشأنها، تعرضت للتنمر بأبشع صوره، والتربص لها ليوقعنّ بها في مكيدة، لكنها رغم ذلك لم تعبر يومًا عما يفعلن معها، وكان اهتمام والدتها منصب على الكلام والنطق الصحيح، فلم تلحظ روح غرام التي أصبحت تنذوي بمرور الأيام، حتى أضحت مهتزة الشخصية لكنها الآن أفضل حالًا، فقط تحتاج لبعض الدعم لتصبح أقوى.
كان مروان منحني الكتفين وكأن كثرت على كاهله الهموم، وتراصت فوق قلبه الخيبات الواحدة تسبق الأخرى في قتله.
༺༻…………….
كانت جالسة تنتظر شقيقها بعد أن حسمت أمرها، وبعد أن أخذت رأي غرام في اليوم التالي الذي زارتها فيه ليلًا ليخبرها أخيها أنها منشغلة، تهز قدمها بعصبية مفرطة، لقد أجلت الأمر حتى تسافر والدتها حتى تتمكن من الجلوس مع مروان واقناعه، دلف شقيقها إلى المنزل، فابتسمت ترحب به، وقالت بلهفة:
-سأحضر لك العشاء حتى تأخذ حمام.
نظر مروان لشقيقته بشك، وراقبها حتى اختفت داخل المطبخ، ثم أنزل أكتافه وكأنه سيعلم ماذا تخفي آجلًا أم عاجلًا، وبعد أن بدّل ملابسه وأجّل حمامه لوقت آخر جلس على الطاولة ووجدها مجهزة بأطعمة يفضلها، كما أن غرام لم يجدها في الغرفة، تسأل مع ذاته هل هناك مكيدة تدبر من خلفه؟ جلس يأكل بجوع بعد يوم مرهق بسبب تغيب أنس الناتج عن إصابته والذي جعل عمله ينقسم بين الثلاث الضباط الباقية، يلاحظ جيدًا توتر تسبيح الزائد عن الحد، ونظرتها المراقبة والمترقبة للبدء، سمعها تتنحنح فابتسم داخله، لتقول تسبيح:
-مروان يجب أن أخبرك شيء، لكن لا تتعصب، وأسمعني حتى أنهي حديثي.
فأخبرها بعدم مبالاة، قبل أن يدس الطعام في فمه :
-أتحفيني.
تلجلجت تسبيح قليلًا قبل أن تخبره بقلق، وهي تفرك يدها بعصبية:
-هناك زميل لي في الجامعة، يريد مقابلتك.
مخزى الحديث وصله تمامًا، وهذا ما كاد يجعل الطعام يقف في حلقه، شرب كأس من المياه بهدوء، قبل أن يسألها:
-ماذا يريد مني بالضبط؟!
عضت شفتها السفلية بخجل، واحمر وجهها وتعرّق بمظاهر فسيولوجية تؤدي لإستنتاج وحيد ليس له آخر ولكنه انتظر إجابتها على كل حال:
-يريد أن يتقدم لخطبتي.
استمر في تناول طعامه بصمت لتسأل حانقة:
-لما لا ترد يا مروان؟!
فقال بهدوء اعتادت عليه منه:
-لأن ردي لن يعجبكِ يا تسبيح.
ابتلعت ريقها بتوتر، وقالت مترددة:
-لما؟ أنت لم تعرفه بعد.
-لكن ما أعرفه أن يأتي ليحادثني أولًا قبل أن يتكلم معكِ حتى.
كان ردها سريع جدًا وهي تدافع عنه مما جعل مروان يستنكر موقفها:
-لكنه لم يعرفك يا أخي كي يأتي ليحادثك.
رد مروان:
-وتدافعين عنه أيضًا، كلميني عنه إذًا.
احمرت كلها وأصبح لون بشرتها يضاهي لون شعرها الأحمر، ليضحك مروان بخفة ويسألها:
-وماذا عن رأيك به؟
ابتسمت بخجل فطري قبل أن تخبره:
-رأيي سيكون من رأيك يا أخي.
ابتسم مروان عليها، وقام وهو يرفع بعض الأطباق، ويقول لها:
-حسناً إذًا، اعطيه رقمي ليتصل بي ويحدد ميعاد معي.
لم يرى فرحتها المرتسمة على ملامحها، وكفيها المظللين لثغرها حتى لا تنبعث من بين شفتيها صيحة فرحة تكبتها بجنون، ولم ترى هي ملامح شقيقها التي تجهمت.
༺༻
-وماذا ستفعل يا مروان؟ هل ستزوجها؟!
كانت هذه صرخة وحشيّة أطلقها حازم في وجه مروان بعدما أخبره بحديث تسبيح عن شاب يريد التقدم لخطبتها وهي تقريبًا تُبدي موافقتها، ورغم حذره الشديد وهو يخبره إلا أن حازم كان كمن يوضع بين تروس آلة تنخر في لحمه، عندما ظل مروان واقفًا صامتًا تهجم عليه حازم وكاد يسدد له لكمة في منتصف وجهه إلا أنه تفاداها سريعًا وأمسك بتلابيب قميصه وهو يعود به للخلف حتى ثبته للحائط وصرخ هو أيضًا:
-إن كنت أريد تزويجها له لمَّ سأقف معك لأجد حلًا؟ لكن هل سأضمن أختي معك وأنت تتعامل بهذه الطريقة! العصبية والتهور يسيطرا عليك باستمرار، سأعيد التفكير في هذا الأمر وأواجه أبي فتسبيح عندي أهم من أي شيء، بالتأكيد سيكسر قوانين العائلة والبلدة في سبيل سعادة تسبيح.
جحظت عين حازم بقسوة وهو يسأله باضطراب:
-ماذا تقول أنت؟ تسبيح لي مهما فعلتم، صغيرتي وربيبتي التي أموت دفاعًا عنها.
قال مروان ببرود:
-إن كنت غير قادر على ضبط نفسك في أول عقبة، فماذا في الآتي واحتوائك لها؟
صمت ينظر لوجه ابن عمه الذي شحب، وأكمل بذات البرود:
-سأغادر لدي عمل.
نظر حازم في أثره يفكر ماذا سيحدث له إن تركته تسبيح سيبقى منه الحطام، حطام صغيرة لن يقدر أحد على لملمتها.
༺༻
أخذت ملاذ عطلة من عملها لتداوي جرحه الذي لم يطيب بعد، تداوي جرح سطحي في الجسد غافلة عن جرح عميق سيترك أثرًا في نفسه قبل روحها الأسيرة، كيف يخبرها أنه سيقوم بأبشع فعل على مرّ حياتهم جميعها، دون مراعاة لمشاعر حب ووفاء جمعتهما، سيدمر ثقة بنيت من قواعد خرسانيَّة شديدة البأس في نفوسهما، سيزرع حقد داخلها تجاهه هو، هو الذي سعى كثيرًا لكسب ثقتها التي ستدمَر حينما تعرف ما يفكر به وينوي تنفيذه، أي حلقة من جحيم سيُدخل حياتهما إليها!
ملاذ حبه الصافي الذي حارب من أجلها كثيرًا، كيف له أن يكسرها بهذا الفعل بعد هذه الحروب والجولات التي خاضها!
رآها خارجة من مطبخ شقتهما، وبيدها طبق من ثمار التفاح المقطع، جلست جانبه مبتسمة تقول:
-كيف لك أن تفجعني هكذا، وتبعدني عنك في وقت كهذا، لمَّ لا تتصل بي لأكون جانبك.
نظر لعينيها، حبيبتيه اللتان دائمًا في خصامهما لا تخاصماه، وكأن عينيها والنظرة فيهما ليست تحت إدارتها وقال:
-أعرفك يا ملاذي وجيشي عندما تري بي السوء تتحول قوتك لضعف، ومحاربتك لانهزام قاتل يرشق قلبي بسهام نافذة ترديني قتيلًا في الحال.
رقت عينيها والنظر فيهما لجه من صخب ناعم يثير في نفسه مشاعر ولا أروع، وقالت تمحي روعة الشعور:
-يحزنني بل يقتلني إقصاءك لي في أوقات وجوب وجودي من حولك.
ارتعش قلبه بقوة بينما يمسك بكفها يلثمه ويقول:
-لأكون فدائك دائمًا، أنا فقط أحاول أبعاد أي شعور يدمي أعصاب?ِ عنكِ.
حاولت سحب كفها منه لتضمه لكنه رفض متمسكًا به فضمت رأسه لكتفها بذراعها الحر، تربت على شعره كأم تغدق بحنان على طفلها وقالت:
-لا تقلق عليّ فأنا قوية دائمًا كما عهدتني، أم أنك رأيت مني تخاذل.
"ليتك لا تتخاذلي في القادم يا قلب أنس، ليتك لا تتخاذلي".
لكنه يعلم أنه يتمنى المستحيل.
༺༻

بعد أن أنهت المذاكرة مع أطفالها توجهت نحو غرفتها، بالتأكيد مروان في غرفة تسبيح لتقول له عن أمر العريس المتقدم لخطبتها، تعرف في قرارة نفسها أن تسبيح ستخوض معركة مطابقة لمعركة شقيقها عمران، لكن هل مصيرها سيكون مثل عمران "منبوذة حتى الممات" دلفت غرفتها ووقفت أمام مرآة طاولة الزينة، وخلعت الدبابيس المثبتة لشعرها، وتحرر شعرها الأسير برباط مطاطي، لتنساب خصلاتها البنية الأقرب للرمادي فوق ظهرها المستقيم.
في هذه اللحظة فتح باب الحمام ليخرج مروان بعد أن أخذ حمام دافئ، ليجدها على هذه الحالة لتسلب قلبه وتسحر عيناه، فيزداد وجيب فؤاده المتيم بها، ليشقى فؤاده، رآها وهي تمشط خصلات شعرها وتفرّقه من جانب خلفي قليلًا لتظهر السماعة الطبيبة و تقوم بخلعها بحرص، ثم خلعت الجزء المثبت بأذنها، ودلكت أذنها بسبابتها وإبهامها، ورفعت نظرها للمرآه لتجده ينظر لها بثبات أكبر من المرّة السابقة، وهي فعلت كما فعلت فيما مضى تشابكت أصابعها التي تكاد تتوسل إليها راجية الرحمة من ضغطها عليها من شدة توترها، لكنها غير قادرة على ترك عينيه اللتان يأسران عينيها بإصرارٍ مُهلك، إصرار على اتهام صادق يصدم قلبها الملتاع، لقد رآها تبكي وانسحب لأول مرّة دون مواساة، هل خسرته فعلًا!
༺༻
جاء موعد مقابلة العريس المبجل، وهو الآن جالس أمامه ولم ينطق بحرف منذ أن جاء، غير كلمات ترحيبية باردة وكأنه جاء إلى رحلة دون حتى كبير لعائلته، فكان لا بد من أن يبدأ مروان الحديث قائلًا ببرود مماثل بعدما استشعر عليائه عليهم، وكأنهم لا يروقون له، كيف أحبت تسبيح هذا المتعجرف، فقال متنهدًا:
-لقد أخبرتني تسبيح بأنك تريد مقابلتي لأمر هام، خيرًا؟
فقال العريس – الذي لم يكن غير ابراهيم – موافقًا:
-نعم، في الحقيقة... أردت التقدم لطلب يد تسبيح.
ابتسم مروان، وتحدث بهدوء:
-طبعًا أنا أتفهمك لكنك تأخرت، والتحدث بينكما كان خاطئًا منذ البداية... كانت الفترة التي تحدث من خلفي جعلتكما تجهلان حقيقة هامّة وهي...
توقف عن الكلام بحكمة، ثم أكمل:
-الحقيقة أن تسبيح مخطوبة منذ زمن.
اندهشت ملامح ابراهيم، ثم تحول لشيء آخر وهو يقول:
-لكن تسبيح لم تخبرني ذلك أم أنها مجبرة على هذا الزواج؟
ليجاوبه ببساطة:
-لأنها لا تعلم، كنت أنظر لها على أنها صغيرة، فلم نخبرها بشيء، لكننا أخطأنا التكهن، لكنها مخطوبة منذ ولادتها لابن عمها، لو كنت دخلت البيت من بابه لكنت عرفت ذلك دون أن تفعلا ذلك من وراء ظهورنا.
وكانت تسبيح تقف خلف الستار العازل.. بوجه يكسوه الدهشة، وسؤال ينبض داخلها، من مِنْ أبناء عمومتها تكون مخطوبة له؟ أيمكن أن يكون فريد؟ لكن كيف وفريد من الواضح أنه يحب تقى؟
باقي اليوم كان أشبه بالصراع بين تسبيح وأخيها في كيف يقول هذا أمام إبراهيم، كيف يصغر بها هكذا، حتى فاض الكيل بمروان، ليصرخ بها:
-كفى، كفى تجاهل لأمر تعلمين استحالة تنفيذ غيره، أنت تعلمين أنكِ لحازم وحازم لكِ منذ سنوات، أنتما مكتوبان لبعضكما البعض منذ زمن فلا تتجاهلي الأمر وكأنك متفاجئة، سايرتكِ حتى أعلم ما هي نهاية الأمر، لكن يبدو أنك تلعبين بالنيران يا تسبيح وأول من سيحترق هو أنتِ.
تراجع وجه تسبيح عندما علمت من هو الخاطب، كيف ستعيش مع العابس بقية عمرها وهي تخشاه لهذا الحد؟ كيف؟ تريد أن يُعلِمها أحد، كيف ستعيش رواية تحكيها في سرد حكايات ملكات يتوّجن ويكحلْن عين أزواجهن بحب مليء بمشاعر تهتز لها فؤاد معشوقها؟ فقالت بشق الأنفس:
-لكنني لا أحبه، أنا أخشاه.
نظر لها مروان مطولًا وقال:
-حسنًا يا تسبيح سننظر في هذا الأمر مجددًا، لكن إبراهيم هذا مرفوض.
صرخت جذعة:
-لمَّ؟!
جذعها أصاب مروان بتخبط، هل فعلًا نمت مشاعر ولو بسيطة بداخلها لهذا الشخص الغير مقبول إطلاقًا، فقال مفسرًا:
-إن كان يقدركِ حقيقة لمَّ جاء وحده، لم يأتِ بكبير له، أم أنه يستقل بنا، أم أن أهله لم يباركوا الزيجة؟ إنه حتى لم يذكر سبب مقنع بهذا الأمر، كما أنه كان وكأنه تراجع ولم يفتح الموضوع إلا عندما سألته؟! بالله عليكِ أنا لم أخسف بقدركِ بل رفعته، لكن أنتِ ستظلين سطحيّة طوال حياتك.
ثم تركها واقفة خلفها غرام تنظر له بذهول، لأول مرّة تراه بهذا المزاج والعصبية المفرطة
* * *******
جالسًا على أريكته يتصفح هاتفه، ظهرت رسالة إلكترونية فحواها "ماذا حدث؟ هل انتهى الأمر".
ابتسم بشرٍ، كاتبًا "أي أمر؟"
ثواني معدودة واهتز الهاتف في يده باسم حازم، فقام دالفًا لشرفة الغرفة وفتح الإتصال ولم يسعه الوقت لقول كلمة، فقد انطلق صوت حازم يسأله بسرعة وأنفاس تهدجت من ثقل ما يشعر به:
-ماذا فعلت في موضوع تسبيح؟ هل حللت الأمر مع تسبيح وهذا الشريد؟
لم يردّ مروان واكتفى بحرق أعصابه مبتسمًا، فقال حازم مرتعشًا:
-مروان...
ردّ هادئًا مستمتعًا:
-نعم.
فقال بنبرة مهزوزة:
-ماذا فعلت؟ رفضته أليس كذلك؟
قال مروان:
-كيف تخمن هذا؟! ألا يمكن أن تكون تسبيح تحبه؟!
قال بتخوف، ووجهه الذي لم يره مروان أصبح يحاكي الموتى في شحوبه، بلع غصّة كادت تشطر عنقه وسأل:
-هل تفعل؟
ردّ مروان منهيًا الحوار:
-ربما تفعل، لكني رفضته على كل حال.
سمع هذا الأخير تنهيدة ابن عمه المستريح، لكنه لم يرى كيف أغمض عينيه براحة مشوشة، لكنه سأل:
-ماذا تقصد بهذه ربما تفعل؟
قال مروان:
-لا أعلم تقول كلام لا أعرف مدى صحته، وهل حقًا هذا ما تشعره أم أنه مجرد تشوش منها وحب لأول اهتمام من رجل، تعلم أن تسبيح لم تختلط بأحد من قبل.
-أجل.
تلك الأجل كانت بصوت مبحوح النبرة، فقال:
-هل يمكنني إقالتها لجامعتها غدًا؟!
فقال مروان بأسلوب مسرحي:
-هل قررت التحرك وإمالة قلبها أخيرًا؟
كرر دون الإلتفات لسؤاله:
-هل يمكنني؟
-حسنًا يا حازم تعال بأي حجة وتحجج أنك ستمرّ على جامعتها.
بعد كلمات مبهمة أغلقوا المكالمة الصوتية بينهما، ووقف حازم ناظرًا للبعيد يفكر بذهن متضارب، كيف يُميل قلبها نحوه؟ هو لا يفهم بهذه الأمور كل ما يفهمه أن هذه الصغيرة ملكت قلبه منذ أن بدأ يعي الحياة وكانت هي كل مباهجها، ولجت إيمان إلى الشرفة تنظر لشروده، لو فقط تعرف كيف تحمل عنه هذا الألم المرتسم على محياه، كان دومًا نعم السند والقوة المنيعة التي تحركها وتدفعها للأمام، هو الوحيد الذي أباحت له بسرها أنها هي التي لا تحب عمران، وعمران يحبها لكن قلبها متعلق بآخر، كم احتواها وساندها وعندما ظهر في الصورة ظهرت حقيقة أي ذئب شرس كانت متعلقة به، فاق من شروده ينظر لها في شرودها هي فقال محاولًا صبغ كلامه ببعض كلمات تيم الهزلية:
-أعرف أني وسيم، لكن هل لدرجة أن تشردي بي هكذا؟!
ابتسمت أجمل ابتساماتها متجاوبة بمفاجئة من هذا التحول:
-أنت أوسم رجل وقعت عليه عيناي ورجل قلبي الأوحد، لكن لا تقول هذا لفريد تعرفه يغار.
ضحك حتى رن صوت ضحكته برجولية قائلًا:
-بماذا شردتِ؟ فأنا لن أغلبكم قط.
قالت صراحة:
-كنت أفكر كيف لو لم تكن أنت أخي كيف كنت سأتخلص من ذنبي تجاه عمران رحمه الله، كيف كنت سأبدأ حياتي بعد هذا الحقير الذي أوهمني حبًا.
نظر لها متفاجئًا، وقال:
-كنت أفكر في هذه اللحظة بنفس الأمر بزاوية مختلفة.
ارتسم الجهل على وجهها قائلة:
-لم أفهم.
تنهد قائلًا:
-لن أخفيكِ سرًا، يبدو أن تسبيح تمر بما مررتِ أنتِ به يا إيمان، ويبدو أني سأكون مدين لعمران بموقفه الشهم تجاهكِ وسأرده لأخته وسأحمل أنا قرار رفض ارتباطنا.
جحظت عيني إيمان صارخة:
-أرجوك لا تفعل، اجبرها إن لزم الأمر على الزواج بك، تسبيح لن تتحمل ما مررت به، أرجوك يا حازم لا تتركها لأهوائها أرجوك.
تنهد مرًة أخرى وكأن كل تنهيداته السابقة لم تخفف من ثقل ما يجسم على صدره، احتضن رأسها مقبلًا جبهتها وقال:
-سأحاول إمالة قلبها يا إيمان، لكن إن لم يميل لن يكون بيدي شيء أفعله، فقط إدعي لي.
نظرت له تربط فوق صدره وذهبا للنوم.
༺༻
في صباح اليوم التالي وجدت نفسها في مواجهة له هو شخصيًا، لم يستطيعوا صبرًا عليها لتفيق من وقع صدمة زواجها به، لم تتعافى بعد من قسوة الواقع الصخرية والتي تحطمت عليها أحلامها التي نسجتها بألوان الحب البراقة والخاطفة للأنظار، كانت تريد الحب والتفهم والاحتواء، لكن كيف ستحصل عليهم وهي حكم عليها بتسليمها له كمكافأة على شيء يصعب فهمه، بالطبع الأمر ليس بهذه البشاعة، لكن رفض رأيها وكأنها مسلوبة الأهلية يجعلها غير متقبلة للأمر، أي قوانين تلك التي يتمسكون بها؟ ألم يخسروا بسبب تلك القوانين العقيمة قلب كقلب عمران؟ وحب واحتواء يسروا الإعجاب في نفوس الجميع، كم تشتاق لحضن أخيها الآن، لقد كان عمران يتفهمها أكثر وكان يسعى ليفعل ما يرضيها، لكن الآن يبدو أن أحد لم يفهمها حتى مروان الذي أخذ على عاتقه دلالها بعد عمران، أين مروان من الأساس، الذي كانت تأتي معه زيارة للقاهرة بحجة الترفة لكن في حقيقتها كانت زيارة لرؤية عمران، كم قضوا معه لهوًا وسعادة، حتى أنه في آخر زيارة لهم أوصى مروان عليها، ثم حدثت فاجعة موته، بعدها تغير مروان معها كليًا كان يدللها ينفذ كل ما تحتاج وكأنه يحاول تعويض فراغ يقتلها بعد رحيل أخيهما، لكن الآن وكأن مروان تبدل، لقد اتفق الجميع ضمنيًا على اخضاعها لقوانين كانت السبب في تعاسة الجميع قبلًا، لقد حضر حازم منذ الصباح وحضر الفطور معهم والحجة كانت لخلاف عمل بين الأصدقاء! حجة لم تنطلي عليها أبدًا، نعم الجميع تغير لكن لم تتغير الروح المتلاعبة داخلهم، ونسى الجميع أنها هي أساس بناء الحجج الكاذبة في صغرهم، ابتسمت بحزن وهي تلبس حجابها ولأول مرة تفقد روح مغازلة نفسها، كم تتنمى أن تعود صغيرة مدللة الجميع من ضمنهم حازم الذي كان يدافع عنها ضد أي أحد يريد إيذائها قبل أن تتحول علاقتهم إلى رجل كهف وفتاة تخافه لا تريد الاقتراب من حيز وجوده، كيف ستجلس بجانبه في سيارة واحدة بعد أن تكرم مروان طالبًا منه إيصالها إلى الجامعة؟ وكادت ترفض لولا نظرة واحدة من مروان عرفت أن لا تراجع عمّا قاله بعدها.
تجلس حزينة كئيبة بجانبه متأهبة لأن يحدثها فيما حدث أمس وهو يقود السيارة ببرود وكأنه لا يعيرها اهتمام لكن نار في مراجل تجسم فوق صدره، فقام بتشغيل أغنية عن الفراق في سابقة هي الأغرب في حدوثها، ليتخضب وجهها بانفعال ثم امتدت يديها لإغلاق مشغل الأغاني داخل السيارة، لينظر بجانب عيناه لها من تحت النظارة الشمسية، ثم قام بتشغيل الأغنية مرة أخرى، لتغلقها هي مرة أخرى ليعاود الكرة، لتغلق الأغنية بعصبية، قبل أن تصرخ منفعلة:
-ماذا تقصد بما تفعله؟
ليجاوب ببرود:
-لا أقصد شيء، وماذا فعلت أنا؟
أجابت بانفعال:
-لا، أنت تقصد هذه الأغنية بالذات حتى تثير جنوني، لا تفعل ذلك.
-ولماذا أقصدها بالذات؟
فقالت بنفس انفعالها الغير متهاون والذي جعلها تخطو في منطقة محفوفة بالمخاطر:
-لأني أرفض الزواج بك، وكأن بيننا شيئًا وافترقنا، كل هذا لتأثروا على رأيي.
لأول مرة يرى تسبيح الصغيرة تتحدث بانفعال هكذا، غموض نظرته القاتمة جعلها تنكمش في مقعدها، وكم كانت صغيرة وهشة... وجميلة، جميلة للغاية، واكتفى بهذا القدر لتجريح كرامته، وظلّت هي تعض على لسانها بعدما أدركت فداحة ما انطلق به لسانها.
༺༻
"أي وجع يختم على قلوب رحل عنها حب، دعم، وقوة؟ أي وجع سيطر على كل عائلة بها فقيد؟ وما أكثرهم من عائلات، وكم من وجع يئن تقيُّحًا، ولم يجد الدواء لعلةٍ مرّت عليها السنين، وماذا وقد فُرض عليك بأمر تجبُري مقاطعة لهذا الراحل؛ فلم تراه منذ سنين، وبنور خافت يأتي من نهاية النفق تدور الأحاديث بتلاعب للقلوب على شتى طرق الهوى دون هوادة للعقل، فأي ميناء سترسو فيها سفينة غرقت بثقب هوى شتت سيرُها بسلام
༺༻
بعد مرور ستة أشهر في هذا الاحتفال المنعقد لأهالي الأبطال الذين تم فقدهم، جلس الجميع في انتظار بداية الحفل، دخلت إيمان وهي تتذكر تفاصيل الماضي الأليم، بجانبها يدخل ماجد متجهم الوجه ككل احتفال في هذا الصدد، الجميع يتذكر كيف نُبذ عمران من العائلة وحُرّم على الكل رؤيته حتى وصلهم خبر استشهاده في أحد العمليات انتقامًا منه لأنه قام بقتل أحد الأفراد المهمين داخل التشكيل، ليتوج الهجر والنبذ لفقدان أبدي، تسلحت القلوب بالقسوة التي أحدثت خلل في حياة الجميع بلا استثناء، لقد كان حُكمًا قاسيًا من والد عمران ووجب تنفيذ كلمة كبير العائلة، تبًا للعادات تبًا للقوانين تبًا للقيود التي تكون بهذه القسوة، جلسوا على طاولة كبيرة جمعت أفراد العائلة كان الحفل تكريمًا لأهالي الشهداء الجدد لكن هذا لم يمنع حضور بعض المآزرين لهم، فحضر تيم ليرى أطفال سيد _رحمه الله_ والحقيقة هو مُدِيمٌ على زيارتهم والإطمئنان عليهم من الحين للآخر، رغم أنهم لم ينقصهما رعاية لأن جدتهم وجدهم يوفرون لهما كل احتياجاتهم، لكنهم لن يوفروا حب أبواهما، لكنه لم ولن يقصر أبدًا رغم كل ذلك، بعد قليل دخل إلى الحفل كارم الذي بعد أن علم صدفة أن إيمان قادمة لهذا الحفل فاستغلها وجاء ملبيًا دعوة أنس لرؤيتها، دخل يمسح المكان بنظراته ليجدها تجلس بجانبها ماجد وسيف تلهو معهما بمرح، فاقترب بتهادي الفهود وكان الجميع منشغل بعيد عن الطاولة، فاستأذن بلطف:
-هل أجلس بجانبك؟!
فنظرت له باندهاش قليلًا، قبل أن تبتسم بغباء وسألت دون تفكير:
-حضرة الطبيب؟! ماذا تفعل هنا؟!
فأجاب بصراحة مطلقة، بعد أن سحب مقعد وجلس وهو يردد:
-سأعتبر سؤالك ترحيب وأجلس، لأنني لن أترك الحفل وأغادر بعدما عرفت بوجودك.
ابتسمت بخجل وهي تنظر بعيد، رأى انشغال ماجد وسيف بعيدًا عنهما، فاسترسل:
-إيمان، اسمحي لي بتجاوز الألقاب، لأنني جئت لأسألك عن ... عن رأيك بي كزوج مستقبلي.
اختضب وجهها وأضحى بشحوب محمر، غير قادرة على النطق بكلمة مفهومة، لم تستطع حتى صياغة جملة مفيدة، أين لباقتها التي عُرفت بها؟
تلجلجت في الإجابة وقالت:
-مثل هذه المواضيع تتحدث بها مع حازم أخي الأكبر.
فسألها مباغتًا غير مراعيًا للحفل:
-هل أعتبر هذه موافقة ضمنية من قِبلك؟
فابتسمت بخجل وهي تدير وجهها عنه، لينقذها ماجد الذي سأل كارم:
-حضرة الطبيب الذي أنقذ عمتي، كيف حالك؟!
فأجاب كارم مبتسمًا بفخر رجولي بحت:
-أنا بخير، وكيف أنت وعمتك؟!
فنظرت له إيمان بدهشة، فغمز لها بشقاوة، في حين كان يجاوبه ماجد غافلًا عن غمزته:
-نحن جميعًا بخير.
فنظرت له إيمان، ثم وجهت حديثها لأبناء أخيها آمرة:
-ماجد، سيف اذهبا نحو أبيكما وأنا قادمة خلفكما.
فأطاع الولدين أمرها لتستدير لكارم، وقالت بحزم:
-من فضلك، لا أحب ما تفعله حولي واستغلالك أبناء أخي في مغازلة صريحة، لا أحب هذا الأسلوب أبدًا.
ارتفع حاجبه بصدمة من سرعة تغير لهجتها، وقال منسحبًا:
-حسنًا، شكرًا لكِ.
راقبت انسحابه بوجه بائس، وفي خلدها ترن جملة واحدة، هكذا أفضل من جرح جديد فالقديم لا زال ينزف بغزارة، لكنه إن كان سيصبح جرح فسيكون الجرح الأجمل والأعمق على الإطلاق! فكارم بالتأكيد على النقيض في كل شيء من هذا الخسيس.
ارتقى المنصة صديق مقرب لأحد الأبطال الشهداء فاستمع الجميع بقلوب خافقة بالفقد، وبدأ يسرد:
-لم يوجد شخص عرف منعم _رحمه الله"ولم يحبه، لقد كان ذا طيبة وبهجة، لقد كان مقبل محب للحياة، لقد كان نعم الضابط الجسور في المعركة، يوم وفاته كنا في مهمة للقبض على جماعة إرهابية وكان هو رائد طيران، وتم ضرب المروحية التي يقودها بصاروخ أرض جو، ليتم تعطيل جهاز بالغ الأهمية في الطائرة، يومها أخبرني عبر الجهاز اللاسلكي أن الطائرة في غضون دقائق ستنهار، وبالفعل سقطت به الطائرة وانفجرت في داخل وكر الجماعة، لقد بكى الكثير لفقدانه كان نعم الصديق والأخ...
بقلب خافق شعرت إيمان بالدموع تلسع عينيها وكأن كلام هذا الصديق أحيا جرح لم يشفى بعد، ولمحها كارم وهي تزيل دمعة بطرف إصبعها.
༺༻
كانت جالسة بين أصدقائها في المدرسة، تريهم الصور التي تم التقاطها في حفل تكريم أهالي الشهداء وتعرّفهم على الأشخاص، وتفخر بابن عمها الذي قتل في إحدى العمليات، فقالت إحدى المعلمات:
-ما بالكِ يا إيمان، لا سيرة لكِ اليوم إلا عن الحفل وابن عمك المستشهد.
ردت إيمان:
-وماذا يضايقكِ في هذا لا أفهم؟
فردت المعلمة بترفع مقصود:
-لم أتضايق لكني مللت من الحديث عن الحفل.
ردت إيمان بحسم وضيق خفي:
-يمكنكِ عدم الإستماع عزيزتي، انشغلي بهاتفك أو بعملكِ.
صرخت المعلمة:
-ما قلة الذوق هذه؟
ردت إيمان ترفع أنفها وكأنها تعتلي عن قذارة:
-أشكركِ أنا على ذوقك.
خرست المعلمة محرجة ومغتاظة لكنها لم تضيف شيء، لتكمل إيمان سردها قائلة:
-عند أي حدث توقفنا؟
رد عليها أحدهم مجيبًا تساؤلها، فنظرت لهم المعلمة مغتاظة تاركة الغرفة بأكملها، بينما أحد المعلمين ينظر ولهًا لإيمان.
༺༻
منذ خروجها من دار العلم التي تعمل بها وهي تكاد شياطين الإنس والجن تقفز أمام وجهها، كيف لمعلمة على درجة عالية من الثقافة مثلها تفكر هذا التفكير العقيم، كيف لها أن تتصور أنها تفعل من قصة ابن عمها لفت انتباه لها، أين الدعاء للشهداء الذي نشأوا عليه في ديار العلم بكل مراحلها، كل ذلك جعل من وجهها شيء صلب يصعب تفسيره.
رآها من بعيد تدلف بسيارتها الشارع الذي يقطنوه فحرك سيارته ورائها، حتى رآها تصف سيارتها في مآرب الxxxx الذي تسكنه مع أخويها، فابتسم تلقائيًا وهو يراها تخرج من المآرب وسرعان ما تجهم وجهه عندما وجد الشر المرتسم بأبشع صورة على وجهها الجميل، فاقترب بحذر ثم سألها:
-هل هناك ما يزعجكِ؟
فردت بسرعة غير قابلة للتوقف:
-نعم.
فسأل كارم متوجسًا من نبرتها:
-ما هو؟!
وبذات السرعة ردّت وكأنها تقذفه بجملتها:
-أنت أكثر من يزعجني.
قطب حاجبيه وسأل بقلق حقيقي:
-هل هذا يعني... أنكِ ترفضين ارتباطنا؟
تراجع وجهها وكأنها تلقت لكمة، وكسى الخجل ملامحها لتزداد جمالًا فوق جمالها، صمتت وكأنما أُصيبت بالخرس، ولأول مرة على مر حياتها يلجم أحدهما لسانها، ولأول مرة يبدل أحدهما مزاجها من السيء إلى الأروع على الإطلاق، وكل ذلك من مجرد طلب زواج كغيره من الخُطّاب!
༺༻
لقد مر ستة أشهر تداوى فيهم جرحه، وكانت ملاذ نعم الزوجة كما كانت دائمًا، تستمر بجانبه كما حصلت على إجازة من عملها لتمرضه، تغير له الضماد لا تجادله في شيء، وكل ذلك كان بجانب اهتمامها بعلاجها الخاص بالحمل، يود أن يفاتحها في موضوع زواجه من ناردين، لكنه لا زال يخشى ردة فعلها والتي بالتأكيد ستسبب صدع في علاقتهما الصلبة، اليوم هو ذكرى زواجهما وخرجا لتناول الطعام، خرجا وتنزها معًا، كان يوم جميل لا يُنسى، وجدها تدلف بخيلاء وابتسامة جميلة تزين وجهها، اعتلت الفراش من الجهة الأخرى، واقتربت تضع رأسها أعلى ذراعه، فحاول الحديث قائلًا:
-أريد الحديث معكِ في أمرٍ هام.
فرفعت وجهها مغازلة، وهي تسأله بهمس راقه:
-أين هديتي أولًا؟!
فصمت لم يجد الإجابة، وعندما طال صمته همست مجددًا:
-أين هديتي؟ أم أنك نسيتها؟
فتمسك بصمته، لتسأله مرة أخرى:
-هل نسيتها حقًا؟
هز رأسه موافقًا لتأخذ الدهشة من وجهها مأخذًا هز روحه من الأعماق، بينما تفكر داخلها، إنها المرة الأولى التي ينسى فيها أنس هديتها، طال صمتها كثيرًا مما زاد قلقه، ولكنها أجابت بحنو هامس لمس شيئًا داخله:
-حسنًا، لا يوجد مشكلة أبدًا.
وسكتت، وبددت ضعيفة هشة لذلك أجّل الأمر الهام لوقتٍ آخر.
༺༻
في اليوم التالي بعد تناول الفطور، كان أول يوم عمل لها بعد أيام طويلة في عطلة، كان زوجها شارد معظم الوقت، فسألته بابتسامة:
-ماذا هناك يا أنس؟ شارد الذهن منذ أن استيقظت.
ابتسم ابتسامة لم تصل لعيونه، وأجاب بحذر:
-أريد أن أطلعكِ على قرار أخذته.
ابتسمت بحب وقالت ساخرة بمرح:
-وهل لي أن أتعجب؟ دائمًا هكذا تتخذ قرارك دون مشاركتي، ولا يؤرقك إلا مسألة إخباري.
ابتسم مجددًا دون مرح على دعابتها، وصمت طويلًا.. طويلًا، حتى تنهد تنهيدة مثقلة جعلت ملاذ تقطب حاجبيها بقلق، حينها قال:
-ملاذ يجب أن تعلمي أني أحبكِ كثيرًا، بل أذوب بكِ عشقًا، فدائكِ قلبي وروحي ونفسي، ودائمًا أفعل ما به الصالح للجميع.
فقالت ملاذ بدعابة، رغم القلق الذي بدأ يأكلها:
-ماذا هناك يا أنس؟ لقد أقلقتني! ماذا؟ هل ستطلقني؟
رغم الفكاهة في نبرتها، و لكنه كان غير متماشيًا معها، حيث أقرّ:
-حتى هذا لن أقدر على فعله مطلقًا.
ازداد عبوس ملاذ، لتقول:
-ماذا هناك يا أنس، لقد بدأت أشعر بخوف حقيقي.
فقال مصرًا على أن يطول المقدمة لقوله القرار:
-يجب أن تعلمي أنه كان خارج عن إرادتي.
كان توجسها في أوج حالته، بينما استرسل هو:
-لقد قررت الزواج.
وجدها صامتة لم يظهر عليها أثر يدل على أنها سمعته، ليخبرها مؤكدًا:
-ملاذ أنا أخبركِ أنني أريد الزواج... من ناردين.!
༺༻
انتهى الفصل الخامس.
قراءة سعيدة.
تدقيق هالة عماد "بائعة اللطف".
مراجعة شيمو أبو النجا.
خاطرة الفصل اهداء من بائعة اللطف.


چورية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-07-22, 04:47 PM   #9

چورية

? العضوٌ??? » 505085
?  التسِجيلٌ » Jul 2022
? مشَارَ?اتْي » 40
?  نُقآطِيْ » چورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل السادس
كنت تشحذ حبي وتتمناه
وبشق الأنفس حصلت عليه
يا من هويته بعد صراع نفسي
فلما تمكنت من قلبي
وصار صاغرًا وطوع يديك
ألقيت به دهسًا بين الأقدام
فكاد يتحضر متوسلًا النجاة
متلمسًا فيك الحب الذي كان.
༺༻
-لقد قررت الزواج من ناردين ابنة خالتي.
قالها أنس بتوجس خفي وهو في مواجهة زوجته الصامتة كصمت القبور، وعندما طال الوقت قاصفًا أعصابه قال يحثها على الكلام:
-ألن تقولي شيء؟!
بنفس التعبير الجامد وكأن الأمر لا يعنيها أو ترفض تصديقه، لقد نجحت حماتها في مقصدها وسعيها وتمنيها، لقد أمالت قلب زوجها، حبيبها لابنة خالته وكأنها حبيبته وهي الداخيلة بينهم، ماذا تقول؟ كيف له أن يكسرها هكذا، هل ضاع الحب بينهما في دروب متفرقة؟ أجابت أخيرًا بحالة الجمود التي تلبستها:
-أي شيء بالضبط تريدني أن أقول؟!
ماذا الآن كيف التصرف؟ هل تبدلت ملاذ، منْ هذه التي تتحدث وكأنهما يتحدثان عن أمور الطقس ليخبرها قائلًا بشعور يضني أنفاسه:
-أي شيء، أي شيء تريدين قوله، لا تصمتي هكذا.
لا تصمت نعم عليها ألا تصمت، لكن عقلها تيبس ولا يعمل يرفض ما يحدث كما كل خلية بجسدها تمامًا، فقالت بشكل طبيعي مناقض لفورة كيانها الذي يتلظى فوق صفيح لاهب:
-إذن دعني أسألك أنا، متى ستطلقني؟
أنزل نظرته لأصابع يده المتشابكة وعبارة واحدة تصم أذناه ليتها لم تتكلم، ليته لم يتوسلها الحديث، لكنه أجاب بخزي أقرب لضعف متوسل:
-لقد أخبرتكِ أني غير قادر على فعلها.
ابتسمت باستهزاء مُر في فمها، ابتلعت مرارته ليتجرعه قلبها بقسوة شعورها، وكأن الروح دبت فيها فقامت منتفضة تضرب على المائدة بيدها التي آلمتها لكنها لم تبالي صارخة:
-نعم بالطبع، غير قادر على فعلها، لكنك قادر على الزواج من أخرى، قادر على كسر قلبي، قادر على تحطيمي، قادر على سجني وربطي بجانبك، لكنك غير قادر على فعلها، على تحريري من قبضة يداك المتملكة بأنانية مطلقة، نعم فهمت.. بالطبع فهمت
ثم ضربت على الطاولة مجددًا وهي تكمل صراخها مدمدمة:
-بالطبع فهمت، فهمت أنانيتك التي لا يجب أن تُمس.
-ملاذ...
همس بها مذهولًا وينظر لها عاجز عن فعل شيء يهدئها به، لأنه كان في انتظار ردة الفعل الأخيرة التي ستسدل الستار على كل الانفعالات السابقة، ستسقط مغشيًا عليها الآن، لذلك اقترب خطوة والثانية وفي الثالثة تلقفتها ذراعاه.
نظر لوجهها الشاحب وعينيها المنغلقتين، وانحدرت دمعة ساخنة فرت دون إرادتها حيث استقرت على ذراعه من هول ما مرّت به من مشاعر لم يتحملها عقلها وقلبها، كيف يعود بالزمن ليمنع تلك الخائبة من السفر، ليمنع سفورها وتبجحها بكل أذى تسببت به لنفسها قبله هو ومالكة روحه وكيانه المستقرة بين ذراعيه دون حول أو قوة.
༺༻
جلست منكمشة على أريكته تتلمس دفئه، كل ما يلمسه يُصطبغ بحنانه، ستة أشهر مضوا دون تغيير يُذكر غير أنها اعتادت على خلع حجابها بأريحية، كما فقدت حنانه المتدفق في كلماته ومرحه وعينيه، أي حال أوصلت نفسها إليه معه، لقد وصلوا لنهاية تامت الإغلاق كما تغلق لعبة أوراق الدومينو، كم افتقدت كلماته المازحة التي ترفرف معها روحها، ونظرته الداعمة في كل مرة تنجز فستان من صنع يدها وحدها دون تدخل ماكينة واحدة في انجازها، لقد خسرته بالفعل يوم فعلت ما فعلت.
تذكرت يوم كان فيه يمازح تسبيح في المطبخ وعندما دلفت قطع المزاح وخرج متحججًا بتأخيره على العمل وكأن دخولها عكر الأجواء، وكأنها أفسدت مزاجه.
وفي مرة أخرى كان في غرفة الأطفال يلعبون رياضة، عندما دلفت ووجدت سيف جالسًا على ظهره وهو يقوم بعمل تمرين الضغط، ويشاركه التمرين ماجد الذي كان يتذمر من سرعة أبيه وقوة عضلاته، فصاح مروان:
-وذاهب إلى النادي، وجاء من النادي، هل تهدرون أموالي في الهواء يا ولد
ابتسمت تنظر لثلاثتهم وتخصه هو بنظرة عاطفة لأول مرة، راقبت كيف غطى عرقه جسده حتى لمعت بشرته السمراء أو الظاهر منها، شاهدته يعتدل وينزل سيف من فوق ظهره جالسًا أرضًا، فجلس ماجد بجانبه يقلده وقال:
-بل أنت الخارق للطبيعة يا أبي كما الرجل الأخضر، تتحول مثله في التمرين بينما خارجه لا تظهر هذه الشراسة.
ابتسمت على تشبيه ابنها الذي في محله، بينما رفع مروان حاجبًا متوجسًا وسأل:
-شراسة؟! ما هذا المصطلح يا ولد، كم عمرك أنت؟ لا تقول أن هذه البنت صديقتك ماذا كان اسمها؟! أه غادة.. هذا كان اسمها، هل هذه الكلمة من أحد تعبيراتها البليغة؟
خجل ماجد صائحًا بتذمر:
-أبي!
ضحك مروان مفسرًا:
-لا أحد معنا يا ولد حتى تخجل هكذا.
قال ماجد وهو ينظر لشقيقه المنشغل بمحاولة تقليد تمرينهما:
-يكفي وجود سيف سينقل كل شيء.
ابتسم مروان مداعبًا شعره وقال محذرًا:
-لا تقل على أخيك هكذا، عندما يكبر سيتعلم أن هذا سلوك خاطئ.
-بل سيكبر على ذلك.
كانت هذه همستها التي لم تمنعها بل كانت غير قادرة على منعها، تريد أن تعود جزء من حواره وجزء من حياته، لكنها لا تعلم أنها ورغم كل ذلك جزء من أنفاسه وروحه وكيانه، لكن عندما سمع همستها الضعيفة خلفهم استقام واقفًا خاطفًا نظرة نحوها جعلتها تتشجع قائلة:
-لقد كان أبي يقول ذلك.
نظر لها طويلًا ورغمًا عنه شعر بألم في قلبه، فرغم نبذ والدها لها ما زالت تتذكر كلامه وكأنها تتلمس السبيل له، لكنه قال مبتعدًا بخطواته خارجًا من الغرفة وكأن جرحه لم يشفى بعد:
-هيا سأجهز أنا للعمل.
كانت هذه تصرفاته خلال الستة أشهر المنصرمة، عندما تتواجد يرحل متجاهلها حتى يأست، وقفت لتقترب من المرآة كعادتها قبل النوم وبعدما خلعت السماعة وجدت باب الغرفة يفتح ودخل مروان بقوة زافرًا حمل العمل، هذه المرة أسرعت بأصابع خرقاء تمسك بالجهاز وتحاول تثبيته بعصبية وحركة مفرطة، مما أدى لفشلها أكثر من مرّة في ذلك، وما أنجدها من توترها هي تلك الأصابع الخشنة الدافئة، وكان صاحبها حريص جدًا على الإمساك بجهازها يثبته بمهارة قليلة الخبرة، لتنظر له بعيون واسعة ونظرات مضطربة لكن بها استدرار عطفه، لتسمعه وهو يقول:
-لا تخجلي أبدًا من شيء كهذا، اخجلي فقط إن فشلتِ في شيء صنع يديكِ، أما عن هذا الجهاز فليس لكِ دخل به.
علمت بعد أن سعمت صوته أنه ثبت الجهاز أخيرًا، والحقيقة أنها لم تلاحظ ذلك إلا عندما وصلها صوته، هل غفت وهي واقفة شاردة في لمسته، أم أنه بمهارة خاصة به تجعلها منبهرة بكل فعل يصدر عنه، أم أنه اشتياقها لدفئه.
وعنه فكان قلبه يتمزق لخجلها من إعاقتها أمامه.. أمامه هو الذي من المفترض أن يكون أمانها، وكأن الشيء الذي كان بداخله منذ فترة يحثه على كيفية تركيب هذا الجهاز وتدرب على ذلك بالفعل، فكان يواظب على زيارة الدار ويقوم بتثبيت الجهاز لحمزة هذا الطفل المشابه لحالتها، كان يشعر بقرب حدوث مثل هذا الموقف، وكان حدسه كما عهده لا يخيب.. خاصة بكل ما هو متعلق بها.
༺༻
يجلس في منزله يتذكر كيف وقعت فاقدة وعيها بطريقة أدمت قلبه ودمعتها المتحررة التي اتضح انها كانت تحبسها بإرادة حديدية، كان يعلم أن ملاذ قطعة من روحه إن أصابها مكروه، أصابه قبلها فعند إغماءها شعر بشفرة ثلمة تنغرس في قلبه ببطء أهلكه وبعدما أسعفها واستفاقت ردت روحه وكأنه كان في سباق اختلس نبضاته، بعدها رحلت تاركة الفراغ يفتك به وكادت تذهب وحدها لمنزل أبيها لكنه استوقفها وأوصلها لمنزل والدها بنفسه بعدما صارعته بكل الطرق، صراخ كان أم ضرب ضعيف الإصابة عندما حاول احتضانها، من يومها لم يراها وهو الآن يجلس يبكي أطلال المحبة والعشق الذي دام سنوات ليأتي اليوم الذي يهدم طبقاته بعد أن قام ببنائه قشة بجانب قشة، صخرة فوق صخرة كيف بعد أن كان يجري خلفها يحاصرها بحبه وهي ترفضه يفعل ذلك، لكن ماذا يفعل؟ ليت الأمر بيده إنها سُمعت عائلته ألا يكفي ما فعلته ألا يكفي عمله الذي ضاق عليه الخناق، لا يجب أن تبتعد عنه في هذا الوقت خاصة، يشعر أنه يحارب في أكثر من جبهة، عمله وزوجته وكارثة عائلية، فقام عازم النية على استرجاعها، حتى وإن تذلل تحت أقدامها.
༺༻
كانت إيمان بجانب شقيقها في السيارة حين رنّ هاتفها برقم تسبيح لترد مبتسمة بإشراق أنار محياها، ليأتيها صوت تسبيح الباكي:
-إيمان هلا جئتِ إلي، أنا في الجامعة وفي حاجة إليكِ.
اندهشت ملامح ايمان وهي تسألها:
-حسنًا، حسنًا سآتي، لكن لما تبكين؟
صوت مكابح وقوف السيارة الذي ارتج جسد إيمان للأمام على أثره ناظرة لشقيقها ووجدت شر الإنفعال على وجهه بينما تسمع قول تسبيح:
-هلا أتيتِ رجاءً؟
لترد إيمان تنهي المكالمة:
-حسنًا آتية، ابقي مكانكِ.
أغلقت الخط واستدارت لحازم قائلة:
-سأنزل هنا، وسأطلب سيارة أجرة وسأذهب إليها.
قال حازم وهو يدير السيارة بنبرة لا تقبل الجدال:
-لا، سآتي معك.
-انتظر يا حازم، سأذهب إليها وأطمئن وأخبرك.
لكن حازم لم يرد وقد كان بالفعل أدار محرك السيارة متجهًا نحو جامعة محبوبته التي ستجعله يُصاب بأزمة قلبية في أقرب وقت.
༺༻
جالسًا في سيارته تحت منزل حماه سيقنعها بكل الطرق، لن يتخلى عنها ولا يجب أن تتخلى عنه الآن في هذا الوقت العصيب بما يمر به من ضغط والدته لتسريع الزواج، هو ليس غبي حتى لا يفهم أن أمه تضغط عليه حتى لا يتراجع عن قرار زواجه من ناردين، لكن أمه المسكينة لا تعرف أنه يتزوجها مكبل اليدين، وليس حبًا بها ولجمالها الرائع من وجهة نظر أمه، جمالها الفج الذي هو سبب في هذه النكبة الذي هو فيها الآن، لكنه لن يفعلها إلا وملاذ راضية كل الرضا، خرج من السيارة وصعد لها منتظرًا بعد دق الجرس، ليفتح له كارم وتجهم وجهه عندما رآه وقال بنفور:
-ما الذي جاء بك إلى هنا؟ بأي وجه تأتي أنت؟
رفع رأسه التي كانت منكسة بثقل ما يحمله من حمل يهدم جبال وجبال صخرية، وقال:
-دعني أكلمها يا كارم بالله عليك، أريد الحديث معها فقط، صدقًا سأفعل.
رغم أن كارم هاله منظره بعينيه الحمراوين وشعره الأشعث وذقنه الغير حليق وهندامه غير اللائق بأناقة أنس المعهودة، إلا أنه قال:
-لكنها لا تريد، ولن أجبرها على مقابلتك بعدما فعلت، هل هذه الأمانة التي تصونها؟
ظهر عصمت من خلف كارم وقال:
-دعه يدخل يا كارم، لنتكلم.
صرخ كارم جاحظ العينين:
-فيما نتكلم يا أبي بعدما فعله؟ عليه أن يغادر بكرامته حمدًا لله أنني لم أفقده إياها ومتحكم بأعصابي حتى الآن.
قال عصمت بحزم:
-كارم، قلت دعه يدخل.
تسارعت أنفاس كارم مبتعدًا عن الباب، فدلف أنس مجهدًا، لينظر كارم في ظهره فلملم حاجياته من أقرب طاولة، وخرج صافقًا الباب خلفه.
استدار أنس متفاجئًا ينظر للباب المغلق بحزن يعتصر قلبه ثم استدار دالفًا خلف حماه إلى غرفة الاستقبال، جلس عصمت قائلًا:
-إجلس يا أنس.
نظر اللواء بطرف عينيه لباب الغرفة ليجد ابنته ممزقة الفؤاد تقف كيتيم ينتظر حلوى تسعده، وكأنها تأمل أن أنس جاء أسفًا متراجعًا عن قراره، ورغم أنها نظرة بسيطة إلا أن أنس لمحها وقوة استشعار وجودها داخل قلبه تخبره أنها تقف خلفه، فاستدار لها يرسم ملامحها بعينيه، كانت هزيلة، حول عينيها أسود بكآبة نغزت قلبه، بشرتها شاحبة تفقد لمعتها وخدودها المرتفعة دائمًا بابتسامة أصبحت الآن متهدلة بحزن أمات روحه، لكن عينيها في عمقهما الحزن داخلهما تمني ورجاء غير قادر على تلبيتهما، همس بصوت مهزوز في بحتِه:
-ملاذ...
لم ترد فقط انقبضا كفيها إلى جانبيها، وزاد شحوبها، وقف عصمت يقول:
-سأترككما وحدكما علكما تجدا الحل معًا.
استمرا في التحديق بعيون بعضهما بنظرات تملأها الشوق والحب، كان يريد احتضانها معتصرًا لها علها تذوب فيه ويذوب فيها لكنه يعلم لن تجعله يُقدم على ذلك، تقدمت أخيرًا وجلست في مقعد منفرد، وتقول بنبرة غير نبرتها:
-هل قررت الطلاق وتعتقني من ظلم توقعه عليّ؟
صرخ أنس وقال:
-أنا لن أطلق أفهمتِ، لن أطلق.
ثم حاول الهدوء وقال بتروي:
-ملاذ يجب أن تعرفي أن الأمر خارج عن إرادتي، تعرفين أني لم أكن لأفعلها، لكن حقًا الأمر خرج عن سيطرتي.
ابتسمت بسخرية سوداء يتحضر على أثرها قلبه، لكنها سألت ببرود:
-كيف خارج عن إرادتك؟ منذ متى وأنت تفعل شيء خارج إرادتك يا أنس؟ تعرف أنك تكذب بأقدم كذبة غير مقنعة على الإطلاق، لكنك متقن حقًا.. لأول مرّة لا أعرفك يا أنس، هل عرفت إلى أي مدى من التشتت وعدم الأمان أوصلتني؟ لقد اقتنعت أنك الرجل الوحيد بعد أبي وأخي الذي يستحق حبي، لكن وبعد هذا اليقين جئت الآن لتثبت أنك رجل يرد إثبات رجولة ضعيفة بكسر أضعف الكائنات، لكن في أحلامك يا أنس لست أنا من أُكسر.
قالت أخر كلماتها بوجهٍ محتقن من كثرة كبتها، ليرد أنس بعد أن قام من مقعده ليجلس أمامها ويمسك بيدها:
-والله خارج عن إرادتي، يجب أن تصدقيني، لن أفعلها إلا بموافقتك، يكفي أني خسرت نظرة الحب والثقة في عينيكِ لي، هذا أكثر العقاب قسوة على قلبي.
كادت ملاذ توافق وتصدق فقلبها رغم كل ذلك متمسكًا بضعف حبه، لكنها سحبت يدها بسرعة وابتسمت واقفة من مجلسها، وقالت:
-آسفة، لن أوافق على ذلك، أريد ورقة طلاقي، لن أتنازل أبدًا عن حقي في العيش بكرامتي مصانة، اذهب إليها يا أنس علَّها تأتي لك بالأطفال، الشيء الوحيد الذي لم أسعدك به لكن ليته بيدي، هيا اذهب واجعلها حجتك.
قام أنس منفعلًا، وصرخ:
-يجب أن توافقي وتتنازلي قليلًا، فلقد تنازلت قبل ذلك كثيرًا، وسامحتكِ على أفعال كثيرة.
اندهشت ملاذ من كلامه وطريقته، ونظرت له مذهولة من كلماته، في حين قال أنس:
-نعم لا تندهشي هكذا لم تتركِ لي شيء أتوسل إليكِ به، ولن أطلقك
ِ يا ملاذ في أبعد أحلامكِ تحقيقًا.
ثم غادرها وغادر المنزل بأكمله بعاصفة كادت تدمر المنزل فوق رؤوس ساكنيه.
༺༻
كان الطريق عبارة عن تفادي الوقوع في أكثر من حادث سير، بسبب قيادة حازم السريعة والمتهورة وهو بذهن مشتت، تُرى من أبكاها؟ ماذا حدث حتى تبكي تسبيح في سابقة لم تحدث منذ زمن بعيد، كان ينهب الطريق وصولًا إليها في أسرع ما يمكنه، أخيرًا وصلت السيارة أمام باب الجامعة لتنزل إيمان بسرعة وتتجه نحو تسبيح لترتمي الأخيرة بين ذراعيها باكية بقوة زلزلت الذي ما يزال يجلس خلف المقود ممسكًا به حتى ابيضت مفاصل أصابعه أراد النزول إليها منتشلها من بين أحضان شقيقته محتضنًا جسدها الهش الضعيف عله يمتص حزنها وانهيارها لتحيا سعيدة فرحة أبد الدهر، لكن البقية الباقية من عقله ألجمته خلف عجلة القيادة، نظرت إيمان لشقيقها من فوق رأس ابنة عمها لترى الصراع مرتسم على ملامحه بقسوة، تعلم أنه يصارع نفسه حتى لا يتهور ويقوم بفعل يؤذي تلك الباكية بعنف بين ذراعيها، اتجهت بها نحو سيارة شقيقها في الخلف، وتشير لحازم ليذهب بهم لأي مكان.
أصرّ حازم على الدوران بالسيارة، حتى يعرف ما بها صغيرته وحبيبته التي زهقت روحه لأجل بكائها، سمع همسها الباكي وهي تجاوب سؤال إيمان ظنًا منها أنه لن يسمعها، لا تعلم أنه يصبح مرهف السمع لها فقط:
-ذهبت لأعتذر لإبراهيم على ما فعله مروان معه... تعلمين لم ألتقي به من يومها... فرأيته اليوم صدفة فذهبت أعتذر له...
أصدرت السيارة صرير عال، وبعدها توقفت ومع وقوفها بنظرات هلع تسألت وهيّ شاخصة العينين:
-ماذا حدث؟
استدار حازم من كرسيه للخلف متجاهلًا سؤالها، ووجهه يعبر عن عاصفة عاتية، ليصرخ بها:
-ماذا فعلتِ؟ ماذا فعلتِ؟ هل أنتِ معتوهة أم ماذا؟ كيف تفعلي هذا وتضعي أخيكِ في موضع خطأ أمام الغرباء؟؟؟
ولأول مرة تصرخ فيها تسبيح في وجه حازم دون خوف، دون مراعاة لأدب أو احترام أو مشاعر:
-وماذا فعل أخي، هاودني حتى جاء إبراهيم ليطلب يدي ويقول أني مخطوبة لك، يكفى ما تفعله معي، أنا لا أريد خطبتك.
تراجع وجهه كمن تلقى لكمة في منتصف أنفه، ولم يتحدث مرة أخرى وتراجع يقود السيارة، وإيمان كانت تشاهدهم مبهوتة الملامح، تجهل التصرف لا تعرف كيف تقنع تسبيح بأن هذا الخاطب ما هو إلا شخص كان يرد استغلال سلطة أخيها ليس أكثر وأنَّ مروان بحث عنه كثيرًا ولو كان رأى فيه أنه يكنّ لها مشاعر لوافق عليه.
بعد عودتهم علمت إيمان أن إبراهيم أهانها أمام زملائها، ولكن إيمان لم تواسيها لأنها مخطئة ومخطئة خطأ غير عادي، كما أنها كسرت قلب أخيها الذي لم تعهده في حالته تلك منذ أن علم أنها لا تحبه، غبية تسبيح فإن سافرت بلاد وبلاد حول العالم لن تجد مثل قلب عزيز قلب أخته، ولن يكرمها أحد مثلما سيكرمها حازم دون شك، كما أكرمها وربّاها ورفعها قدرًا لدى الجميع.
༺༻
جلست إيمان أمام قبر عمران رحمه الله، تبكي بصمت، وعندما تحدثت قالت:
-اليوم فقط شفيت يا عمران، شفيت من ذنب أوكلته لنفسي منذ رحلت.
تهدج صوتها وأكملت:
-لقد مررت بفترة اكتئاب بعد موتك صادمة، أنا... أنا أعرف أنك كنت تحبني ولقد تظاهرت بعكس ذلك تحفظ ماء وجهك، ولكنك كنت تحبني.... تحبني لدرجة أنك تحملت غضب الجميع وحدك.. ولم تظهرني بالأمر.. لذلك بعدما رحلت أصابني اكتئاب يوجع قلبي بكسرة وحسرة على إضاعة قلب كقلبك.. غضبت من نفسي كثيرًا، خاصة بعدما فشل ارتباطي بمن أحببت أو من ظننت أنني أحب..
ابتسمت بسخرية وأضافت بوجع خالص:
-على من أكذب، نعم أحببته حب أهوج مندفع دون تفكير في شخصه.
صمتت والألم يشكل نفسه فوق ملامحها، وأكملت بشهقة بكاء مضنية:
-اليوم فقط أخبرتني رهف أنني شفيت تمامًا، لقد ذهبت لها سرًا واتفقت معها أن تعالجني في سرية تامة بعدما شعرت بأني لم أعد أصلح لشيء، فلم أرد حزن جديد للجميع أكثر خاصة أنه كان في بدايته فلم يتعمق خانقًا روحي، شعرت بالاكتئاب بنفسي ولم يعرف أحد ولن يعرف أحد بعدك جئت لا أعلم هل أنا شُفيت تمامًا فعلًا أم لا... فالجرح داخل روحي يقتات على بقايا سعادتي، لكن رهف واثقة في شفائي، وتقول أنها مرحلة النقاهة.
صمتت قليلًا، ومسحت دموعها ببساطة وقالت:
-يبدو فعلًا أنني شفيت، فقد كنت أضحك مع هذه وتلك وذاك، متقبلة للحياة رغم كل شيء.
صمتت قليلًا ثم تحدثت:
-ما يريح قلبي الآن أنني أعرف أنك أحببت غرام بصدق... وهذا ما علمته أمس بعدما تقابلت مع مروان، تكلمنا كثيرًا حولك وكم كنت تحب غرام وأحييتها عشقًا، رحيلك أثر على الجميع يا عمران، كم كنت تشعر بالغربة بيننا بعد رحيل زوجة عمي الأولى وكم تشعبت الغرابة داخلك بعد زواج عمي من الحاجة زهيرة والدة مروان وتسبيح، لولا حب زوجة عمي لك وكنفتك في حنانها وتدثرت به متدللٍ، أحبك الجميع يا عمران منذ طفولتك وأنت بك كل جميل، ورحلت سريعًا بجمال روحك، كم تعذبنا جميعًا من طردتك من العائلة، وعلى وجه الخصوص كانت زهيرة تذبل يومًا بعد يوم خاصة أننا جاهلنا أراضيك، حتى يوم جاء فيه والد تقى في زيارة كانت كارثية، فقد جاء الرجل الطيب محاولًا اقناع عمي بأن القلوب بيدي الخالق وأن من حقك الزواج بمن أحببت! لكنه رجع بخفي حنين، لكن زهيرة لم تسكت حتى جعلت مروان يتواصل معه وعرفت طريقك، وجاءت للقاهرة بحجة الذهاب لطبيب في العاصمة، يومها رجعت زهيرة في يد مروان مبتهجة عروس مزينة بالسعادة لرؤيتك، لكن سعادتها لم تدم طويلًا، فخبر وفاتك وصلها بعد أسبوع.. فلم تزوي زهيرة وحدها، فزوت روح عمي مع رحيلك يا عمران، راح البكر.. راح تاركًا الحزن يخيم في قلوب الجميع.
ابتسمت فجأة ابتسامة كبيرة، وقالت تحدث الواقف خلفها:
-تعال يا حازم.
اقترب حازم منها وجلس جانبها صامتًا، وعندما تحدث قال بثقة:
-كنت أعرف.
استدارت له، وسألته بعدم فهم:
-تعرف ماذا؟
أقر بهدوء وبساطة:
-أعرف منذ البداية، أنكِ أنتِ من رفضتِ عمران وليس هو، أعرف قبل أن تخبريني أنتِ حتى.
-ماذا؟
صدر هذا الاستفهام منها بصرخة بسيطة عنها، واصفر وجهها وارتسم الذهول على ملامحها، مال فمه فيما يشبه سخرية، وقال:
-عمران صديق عمري، كيف سيخفي عني، كما أنني لم أقاطعه كما فعل الجميع، كنت أعرف مكانه منذ ابتعاده، بل كنت على اتصال به حتى أني حضرت زفافه وغرام.
كان وجه إيمان كمن يتلقى لكمات متتالية صادمة اياها بواقع كانت تغفل عنه، فإن كان حازم يملك قلبها من قبل فقد ملكه الآن بأضعاف مضاعفة، شقيقها ذو الدماء الحارة لأهل الجنوب، ولكنه لم يحاصرها عندما علم من عمران أنها تحب آخر وانتظرها هي لتصارحه، سيظل حازم هو رجلها الأول عكازها على مر السنين، وبينما هي شاردة أكمل حازم:
-وأيضًا أعلم بشأن مرضك، الحقيقة هذا يعلمه فريد أيضًا، مرضك ظهر في تصرفاتك مما جعلنا نشك في أمرك وراقبتكِ في أحد المرات وأنت في الدار ورأيتكِ تدخلين لرهف وخرجتي وكأنك باكية، لذلك ذهبت لها وضغطت عليها حتى أعرف ما بكِ، ولم تقل لي عن حالتكِ إلا بعد أن أخذت بطاقتي وتأكدت من أخوتنا، كيف تخبئي مثل هذا الأمر عنا يا إيمان؟
نظرت له دامعة العينان وهمست:
-كنت أظنني أحميكما من الحزن، لكن يبدو فشلي ظاهرًا للعيان.
نظرت له طويلًا كما فعل حتى مد ذراعًا طويلًا لتندس داخل أحضانه الدافئة، ناظرة لشاهد القبر تطالع اسم عمران بعيون تومض بالرضا.
༺༻
خرجت من الحمام الخاص بالغرفة، وكانت لا ترتدي سماعتها الطبية، لأنها تتعطل من المياه وقفت أمام المرآة تمشط شعرها ولاحظت باب الغرفة يُفتح فسارعت لترتدي السماعة في مشهد أخذ تكراره يزيد بمرور الأيام، دلف مروان ولاحظ ارتباكها في تركيب السماعة للمرة التي لم يعد يتذكر عددها، فانحنت خطواته نحوها وعندما وصل إليها، رفع يده بهدوء قاطع وأمسك بيدها التي بها السماعة، وانحنى يحضر مجفف الشعر ببساطة من فوق طاولة الزينة، ووقف خلفها يجفف شعرها كيفما اتفق معه، رغم انهماكه وتركيزه الشديد وكأنه يقوم بعملية شاقة تتطلب كل تركيزه، وكانت هي تنظر لانعكاسهما بانبهار رغم لون الخجل الذى كسى وجنتيها، مالت برأسها والنظرة في عينيها حالمة بورود ذهبية مُشعة، إمالة رأسها جعلته يرفع عينيه ليرى البريق الخاطف في نظرتها، تلك النظرة.. يا ويله إن ترك نفسه لهواها في هذه اللحظة، تلك النظرة فجّرت دقات وطبول حرب يخوضها بكل أسلحة يصوبها نحو نفسه، عندما انتهى من هذه المهمة الشاقة ركب سماعتها ببساطة وببراعة وادارها له يهمس:
-كيف كنتِ ستفعلين ذلك؟ كنت ستخربين السماعة في سبيل سماع من حولك.
أنزلت رأسها بخجل، ليس الخجل الوردي الذي كان يصبغ ملامحها إنما خجل شاحب مؤذي لنفسها، وأدركه هو بشعوره الأزلي بها، أمسك كفيها المتراخيتين بجانبها، فنظرت له بوجل قتله، لكنه تجاهل نظرتها على أي حال وهمس:
-حسنًا، سننسى ما مضى ونبدأ من جديد، لا أسرار بعد اليوم بيننا، لا وجود لأي خجل من هذه السماعة، أنا لا أحسبها موجودة من الأساس، يكفيني النظر في عينيكِ لأعلم ماذا تريدين، فهل تفعلي ذلك معي؟
فقالت بهمس متبادل:
-أنا.. أنا كنت أخشى.. أن تتركني وحدي وترحل، بعدما اعتدت وجودك، بعدما أوكلتك كل أموري، بعدما شعرت بالأمان أخيرًا وحَصلتُ عليه في كنفك.
كم كان يتمنى أن يسمع (بين أحضانك) بدلًا من صقيع آخر كلمتين على نفسه.
لكنه أهداها بسمة تفوح الحب من رسمتها في عينيه الدافئتين، ولمّس على وجنتيها:
-وهل أقدر على الاستغناء عنكِ يا غرام؟!
ارتبكت وارتعش كفيها في يده، وزاغت نظرتها لكنه لن يتراجع لقد نوى غزو قلبها ولا سبيل للرجوع، راقبها تملئ صدرها بنفس طويل أخافه وهمست:
-هل لي بطلب؟!
هل ستطلب مجددًا معاملتها كأخت له، ستكون ضربة لكبريائه في الصميم، ابتسم مجيبًا بهزة من رأسه كاتمًا أنفاسه منتظرًا رصاصتها، فأكملت:
-أعلم أني زوجة مقصرة، وأعلم كم ضحيت أنت في سبيل إسعادي، لكن هل.. هل سأكون وقحة في نظرك إن طلبت وقتًا أكثر حتى أعتادك، أعلم أنك أعطيتني كل الوقت وجميع الفرص لكن...
زفر أنفاس حارقة كادت تودي بحياته من كثرة كتمه لها، قال بعدم تصديق مقاطعًا:
-هل قلتِ ما سمعت فعلًا؟ أم أنني أتخيل؟ هل قصدت ما قلتِ حقًا؟
نظرت له بعطف وترقرق الدمع في عينيها تهمس باستحياء طالبة:
-نعم لقد حان الوقت لنكون زوجين طبيعيين، لكن أريد بعض الوقت، أشعر وكأني لم أعرفك بعد بينما أنت لا تفعل شيء أكثر مما تعرفني.
ابتهج قلبه مختلجًا بنبضة هاربة، ورقصت روحه على إيقاع سريع الفرحة، قال بعاطفة كادت تزهق روحه في أنفاس تهدجت بتسارع:
-لكِ كل الوقت، كل الوقت الذي تحتاجين.
حنت نظرتها، وهمست:
-هل أحضر لك طعام العشاء؟
أومأ مبتهجًا:
-نعم افعلي، آتيني بكل ما لديكِ.
ابتسمت بهدوء وقالت:
-دقائق والطعام سيكون جاهز.
كادت تخرج من الغرفة، لكنها سمعت رعد السماء وبرقها في سابقة تنير ظلمة الليل الحالكة، وقطرات المطر الغزير تتساقط فوق زجاج باب الشرفة في احتفال متسابق بهذا الصلح المشرق لحياة جديدة مختلفة بألوان السعادة والرضا.
༺༻
صراخ الرعد خارجًا مع وميض البرق الخاطف للنظر عبر زجاج شرفتها جعلها تجلس منكمشة، فعويل الرعد هذا ذكرها بليلة كادت تزهق فيها روحها، كانت يومها تسهر قلقة على زوجها الذي لم يعد للمنزل بعد وقد تجاوزت الساعة منتصف الليل، كانت تخشى عليه بسبب الصوت المرعب في الخارج فقد وصلت لتوها من مطار القاهرة الدولي بعد رحلة لم تطل لقد سافرت ذهاب وعودة في نفس اليوم لحضور مؤتمر طبي سيضيف لها في مسيرتها وقد أخبرته أنها ستأتي في الغد، اتصلت به كثيرًا ولم يرد فاستدارت تخطف معطفها الثقيل ذو الفراء فوق رأسها فلن تقف مكتوفة الأيدي دون أن تعرف أين زوجها... لم يتسنى لها أن تلبسه، فقد فتح باب منزلهما ودلف نور أولًا ضاحكًا مترنحًا، تحركت قدميها خطوة واحدة لهفة إليه ثم تصلبتا كما حدث لباقي جسدها، وشخصت عينيها وهي ترى فتاة لعوب ترتدي فستان فاضح في سفور ماجن دون حياء، ظلت متيبسة وكأنما دخلت آلة حولتها لتمثال شمعي رغم جماله إلا أن النظر إليه مخافة تزعزع أمان أعتى الرجال قوة، هل ما تراه حلم... لا هذا كابوس... أبشع كابوس قد يمر بها، هل زوجها ينوي خيانتها؟؟ وهنا في منزل الزوجية! دون مراعاة لقدسية مكان جمعهما في حلال الله، كانت الصاعقة الرعدية أشد قسوة عن كل سابقتها لكنها لم تسمعها من شدة شعور أقسى على أعصابها والألم يفتك بقلبها، وصدرها هائج بشرخ عظيم من شدة ما ترزخ تحت وطأته، شاهدته يتوق كتفي الفتاة مستندًا عليها ويلقي بمعطفه وسترة بذلته أرضًا، ويرقص بترنح وثمالة ذهبت بعقله؟ هل هذا هو الرجل الذي أحبت! هل هذه هي وعوده التي أطلقها صاممًا أذنها من كثرة ما قالها، صدمة الشعور مع صدمة رؤية الخيانة مجردة هكذا ألجمت كل تفكير عقلاني وأي حركة تتخذها، وعندما استفاقت حركت رأسها بحركة هوجاء غير مفهومة ولكنها إن دلت ستدل عن أنها مختلة هاربة من أحد المصح العقلية، هل بقى لديها عقل؟ صرخت ذاهلة من تحت درج منزلها الفخم بعدما رأته يأخذ فتاته صاعدًا السلم:
-نو... ووو.... ر
لكن الصرخة خرجت مكتومة متقطعة مشدودة الحروف، وكأنها تصارع في سباق أنفاسها لتخرج بشق الأنفس الهاربة بتهدج يقطع نياط قلب الناظر إليها، قديمًا كانت تسمع أن عمها كان يخون زوجته وكانت هي راضية في سبيل أن ينفق على ابنتها، وكانت دائمًا ما تتهم زوجة عمها بالخنوع والضعف، في لحظة مرت هذه الخاطرة على عقلها، فقد كانت عاجزة ولم تفكر لحظة أن تدور الأيام وتصبح مكانها، فهي غير قادرة على رسم حياتها دون وجوده فيها، لقد شيّدت مستقبلها في ذهنها به، لونته بخضرة الزرع في عينيه، لكن في لحظة أنزلت الخنوع عن عاتقها، وتحركت هائجة بخطوات قوية ثائرة وقالت:
-من هذه يا حثالة الرجال؟
صدمة وجودها أفاقت ثملته لكنه لم يتبين سبتها من حقيقتها الماثلة أمامه، همس بعينين شاخصة:
-رهف! متى عُدتِ؟
صرخت كغريق يشعر بآخر أنفاسه تغادره:
-نعم رهف... كم مرّة فعلتها يا نور؟ كم مرة فعلتها يا عديم الرجولة؟!
هذه المرّة سمع الإهانة فجحظت عيناه بقسوة، وارتفع كفه هابطًا فوق وجنتها وفي فورة انفعالها وقعت أرضًا فاصطدم رأسها بزاوية أول درجة من درجات السلم المدببة، فتدفق الدم بغزارة من رأسها جاعلة زوجها يختض مقتربًا بهلع من رأسها الأشقر الذي غاص في دمائها، بينما هربت تلك الفتاة خوفًا من موتها، صرخ نور بجزع بعدما حمل رأسها إلى صدره:
-رهف...
ضرب خدها مرّة بعد أخرى يقول توسلًا:
-رهف... رهف... استفيقي.. والله لم أقصد ضربك... أرجوكِ لن أحيا بعدِك والله لن أحيا... رهف ردي عليّ.
لكنها لم ترد، شعر بأنفاسها الضعيفة القليلة فبحث عن هاتفه في جيب سرواله فلم يجده وتذكر أنه في معطفه، ليضع رأسها بحرص على الأرض وأسرع في اتجاه المعطف على الأرض، بحث بجنون داخله حتى وجده وبأصابع خرقاء لا ترى طلب رقم الاسعاف لتأتيهم.
رعدة أخرى قاصفة مع وجودها وحدها في الغرفة، لا تعلم كيف مضت الأيام بعدها، لكنها عندما خرجت من المشفى جاءت هنا بين أحضان ميسون لكن تمر الأيام وتعود له بعد توسل وأسف يُوَزع على بقاع الأرض ويفيض، لكن مرت الأيام وتكرر الفعل أكثر من مرّة وأضحت الزوجة الخنوعة التي يخونها زوجها باستمرار وكأنه يقولها صريحة "بخس ثمنك".
توقف الرعد كما البرق... ومطر السحاب.. لكن لم يتوقف مطر عينيها.
༺༻
داخل صالة ألعاب قوة وقف فريد متخصرًا تلمع ذرات العرق فوق بشرته، يتنفس بسرعة بينما اتخذ مروان مقعد مريح جالسًا مستمتع بما يحدث لحازم من انفعالات العنف البادية على وجهه وهو يضرب عمود الملاكمة بانفعال منتقم منه بكل ما أوتي من قوة، منفسًا مع كل ضربة بكلمة صارخة:
-نفرض عليها... إنها لا تحبني... قصيرة القامة.. طويلة اللسان...
مع أخر جملتين حذره مروان:
-حازم...
ليقول حازم بانفعال قوي وهو يضرب هذه الضربة بقسوة:
-اللعنة على حازم... أسمعت اللعنة علي... لقد تحملتك أنت وشقيقتك بما يكفي... وهذا كافي بالنسبة لي... فإذا كنت... لا تنوي هذا الزواج... اخبرنييي..
تلك الـ أخبرني خرجت منه كزئير ملك يحتضر برصاص طائش غير محسوب إطلاقه، لقد قضى الليال المنصرمة في أشواك، أشواك على سريره وبين جفنيه عندما يغلقهما... فلم ينم قرير العين.. هادئ البال منذ خبر وجود شخص في حياة تسبيح.. وليس أي شخص أنه حبيب يسكن قلبها تناجيه ليلًا تحادثه صباحًا وربما يتقابلون.. لقد بات يرزح تحت هذه الفكرة بعذاب قضى على روحه وقلبه وعقله، لم يرحمه مروان وهو يخبره:
-إذا كنت اكتفيت فنزوجها لإبراهيم فهو رغم عجرفته تحبه تسبيح...
تناطحت قبضات حازم بتسارع متزامن مع سرعة أنفاسه وحركته، ورد محذرًا:
-لا أنصحك بهذا الآن... فأنا بالكاد أسيطر على أعصابي... يكفي ما تفعله المبجلة أختك.
قال فريد بتروٍ وتفكير:
-اهدأ يا حازم ودعنا نفكر في حل..
كز حازم على أسنانه وكلمة أهدأ تشعل فتيل أعصابه بدلًا من تهدئتها وصرخ راكلًا كيس الملاكمة المُعلق غير مكتفي بتسديدات قبضتاه:
-اخرس يا فريد، ولا تطالبني بالهدوء... بدلًا أن تكون مكان هذا الكيس البائس.
لكنَّ فريد لم يسكت بل قال:
-حاليًا إيمان رافضة الكلام مع تسبيح بسبب مدللها الصغير مكسور الخاطر ألا وهو أنت...
صدى زمجرة حازم أصبح مخيف ولا يطاق، لكن فريد لم يتوقف مسترسلًا:
-أنا من سيتحدث مع تسبيح، دائمًا ما كانت تلجأ إليّ عندما لا تريد اللجوء لإيمان...
استدار حازم لاكمًا أنف شقيقه وفكرة واحدة تسيطر على أفكاره ألا وهي "الجميع تجمعه حلقة اتصال سلسة بتسبيح عداه!"
في أثر ضربة أنف فريد وقف مروان صارخًا في ابن عمه:
-حازم.. ما بالك؟ هل جننت؟!
صاح حازم ثائر منفلت الأعصاب:
-نعم جننت، وأختك سبب جنوني.
لم يلتفت له مروان وهو يرى أنف فريد النازف، والذي بدوره صرخ:
-إذًا دع تسبيح وحالها، إن لم تمسك أعصابك، ففي إحدى فورة غضبك هذه ستخسرها، أو من يدري ربما نفقدها جميعًا.
صوت عنيف شديد التأثر داخله "بعيد الشر عنها، ليتني فدائها ويصابني كل مصاب مقدر لها"، لكن هذا الصوت ظل حبيس صدره مع أنفاسه الثائرة.
بعد أن اطمئن على فريد التفت له وقال بنبرة باردة
-اطمئن يا فريد فهو إن لم يصلح حاله، فنجوم السماء أقرب له من تسبيح،
كان هذا أخر ما قاله مروان قبل أن يغادر الصالة، تاركًا حازم ينظر في أثره غاضبًا نادمًا، فاقترب منه شقيقه ضاربًا كتفه بتربيت رجولي عنيف بعض الشيء وقال:
-اعقل يا حازم، أسلوب المعسكر الحربي الذي لا تعترف بغيره هذا لن ينفع مع تسبيح أو شقيقها.
نظر له حازم وهمس بضعف هز فريد من قوة غرابة نبرة أخيه على أذنيه:
-أحبها يا فريد...
هل حازم اعترف بذلك حقًا؟! سؤال شديد الدهشة اندلع داخل فريد تزامنًا مع رفع حاجبيه، لكنه استدرك نفسه وأخبره بأخوة:
-يجب أن تكون صبور طويل البال يا حازم، واتركني أتحدث معها لنفهم جميعًا لما تتمسك بهذا الرفض القاطع تجاهك، هل لا تتقبلك فعلًا أم هناك ما تخفيه عنا.
نظر له حازم كمن يصارع داخله في حوار بين قلب وعقل ضاع ضحيتها روح فائرة.
༺༻
عندما دخلت الدار علمت من الحارس بالسيدة الأنيقة التي سألت عنها، وأخذتها إحدى المشرفات لمكتبها، ستكون ابنة أو ابن جديد يريد الانضمام للدار، لقد تلقت أكثر من طلب من كافة المحافظات واتفقت مع مكتب هندسي ليباشروا في تشيد مبنى جديد بجانب المبنى القديم، لكنهم سينتظرون أن ينهوا أعمال متفق عليها، كل هذا مر في عقلها وهي تبات وتصبح في أرق دائم، تريد مساعدة كل أطفال العالم لكن كل حيلة على وجه الأرض سعت إليها حتى نفذت الحيل من بين يديها، وصلت لأول الرواق وهي تفكر كيف ستخبر المرأة أن لا يوجد متسع لطفل جديد!
لكن عندما دخلت الغرفة كانت الصدمة شلت حركتها قبل لسانها، لكنها لم تشل دموع لؤلؤية تجمعت بسخاء في مقلتيها حبستها بإرادة حديدية وهي تتحرك منتصبة الظهر، مرفوعة الذقن بكبرياء وعزة وساقيها تخطو بخيلاء، وكل ذلك بعدما وقفت السيدة عن كرسيها استقباًاا وتعرفت عليها، أخيرًا وصلت إلى كرسيها خلف المكتب جالسة بنفس كبرياء عينيها الشفافة في زرقتهما دون حتى أن تسمح للواقفة أمامها بالجلوس، تحدثت بشخصيتها شديدة العملية والحزم:
-بما أخدمك؟
نظرت حسرة كللت نظرة الضيفة التي تبدو زيارتها ثقيلة، قررت الجلوس بعدما فقدت الأمل في أن تسمح لها بالجلوس، حلّق الصمت طويلًا على السيدة فقالت رهف:
-بما أساعدك؟
أطلت نظرة استعطاف لهذه السيدة في عينيها وهمست بألم:
-رهف..
-نعم.. بما أساعدك...
البرود الذي غلف نبرتها جعلها تنكس رأسها في خزي، فقالت بنبرة أصابت رهف بضيق يحكم أساوره فوق صدرها:
-جئت استردِ? يا ابنتي، جئت وقد وأدت الخوف داخلي ليلة أمس.. لكنه طفى بكل أوجاعه الآن.
رفعت رهف ذقنها وقالت بقوة حروف تسيل أوجاعًا:
-لست بضاعة عطنه تباع وتسترد سيدة نجوى.
قالت نجوى بجزع:
-سيدة نجوى!
ابتسمت بسخرية سوداء فاقدة الروح:
-نعم.. هل بدلتِ اسمك أيضًا؟
-لا...
كانت هذه الـ "لا" بحروف ضائعة وكأن آخرها كان سراب في الهواء، واسترسلت بكسرة:
-لكن.. الكل ينادي سيدة نجوى أو أيًا ما يكن.. إلا أنت يا رهف.. فقد أمسيت الليل أتخيل مذاق لفظة "أمي" منكِ...
༺༻
هناك أمر غريب بها منذ متى وهي تهرب من مشاكلها بالنوم، كما كيف لها أن تفسر تأخر عادتها الشهرية، لذلك ابتاعت جهاز اختبار حمل منزلي وأجرته في سرية وهي الآن تنتظر النتيجة بعيون ميتة تعرف النتيجة ومتأقلمة مع آلمها كمن يفعل بحكم العادة!
لكن الميتة في نظرتها ارتعشت كما يرتعش الجسد تحت الصدمات الكهربائية عندما ظهرت النتيجة تدريجًا بإيجابية حملها، هل هي حامل حقًا؟ ما هذا الغباء الذي تنتظر به هنا؟ سؤال جعلها تنشط سريعًا متجهة نحو غرفتها تبدل ملابسها وتنزل متخذة أول سيارة أجرة لأقرب معمل تحاليل، متخذة من الأمل بريق تتلمس به طريق العودة لحياتها المستقرة بين جدران شقتها في كنف زوجها وحضنه المنيع بعشق جمعهما لسنوات.
كانت ساعات انتظارها تمر كدهر كامل حيث بدأت ترسم المستقبل في منزل الزوجية، تارة تمسد بتعب فوق بطنها الضخم، وتارة تجري في مرح تسابق أطفالها الكثيرة، أطفالها وأنس... ضغطت على شفتيها بإثارة وشجن مجتمعين في عينيها بأجمل ألوان الدفء والأمان، احساسان افتقدتهم الأيام الماضية فقد سيطر على مشاعرها الخوف والقلق من القادم.
في هذه الأثناء خرجت الطبية تنادي على اسمها مبتسمة، ثم أخبرتها مهنئة:
-مبارك سيدتي، أنتِ حامل.
"حامل" كم أنها كلمة لذيذة الطعم طربية السمع، مناغشة لقلبها الذي كان يتحضر في الدقيقة ملايين المرات، رفرفت فراشات زاهية الألوان أمام عينيها وهي تبتسم بجمال ملامحها المشرقة في توها وتمسد بطنها المسطح ناسية أين هي، وكأنما فقدت زمانها ومكانها، فقط أحلام رسمتها حديثًا في لحظات قليلة ماضية بأقلام صنعت من أمل نسجه خيالها المتعلق بقشة كالغريق، فطار عقلها فرحًا ودق قلبها سعادة ورقصت روحها احتفالًا، بينما تنسحب في فورة سعادتها تزف الخبر لحب ظلل عليها لسنوات، وأوان تكليله بالسعادة الأبدية قد آن.
خرجت من المصعد الكهربائي أمام باب شقتها وباب شقة حماتها المفتوح ورأت من مكانها تجمهر قليل العدد من عائلة زوجها وبعض الجيران، أنس يجلس على أريكة الصالون المزخرفة وبجانبه يجلس شيخ بعمامة وقفطان، ومن الجانب الآخر للشيخ جلس أحد أخوال أنس... أنس المتجهم الملامح شارد النظرة زائغ البصر... ضرير القلب!
آخر تشبيه كان صرخة من عقلها بتأييد موثوق من قلبها، هل نشأ في رحمها ابنه في يوم قراره لذبحها من الوريد للوريد هكذا؟ عند هذه الخاطرة القاتلة ارتفعت يدها إلى بطنها تربت عليها، وكأنما تشهد الابن على أبيه، الآن أضحينا يا صغيري دخلاء بقلوب مفتتة وسط كل هذا الصخب المزين بالسعادة، وأي سعادة فقط حققت جدتك انتصارها على زوجة ابنها... لا تعبير خاطئ فالتعبير الصحيح من وجهة نظرها "سارقة ابنها!".
تراجعت للخلف نحو المصعد تنظر في المرآة أمام المصعد مشهد تلقي أنس لتهاني زواجه بعيون تملأها العذاب، فتح المصعد أبوابه فدخلت وهي لا تزال تنظر في المرآة حتى انغلق الباب مصدر صفيره المعتاد، وفي تلك الاثناء هدأت الأصوات ليرن جرس المصعد في أذنها ليرفع نظره له، لكن كان قد أغلق على قلب مات مطعونًا نازفًا حتى فقد جميع نبضاته.
༺༻
واقفًا منذ دقائق يراقبها في جلستها داخل غرفتها تضم ركبتيها وفوقهما كتاب تقرأه بنهم بنفس نهم أكلها للمقرمشات دون أن تلحظ وجوده، هكذا هي عندما تندمج مع القراءة، فقط لو تريح قلبه ويتحقق حلمه بها، ذلك الانكماش في جلستها لم يعتاد عليه منها إلا بعد... لا يعلم بعد ماذا تحديدًا... بعد وفاة عمران رحمه الله... أم قبلها يوم...
لم يكمل العبارة في خاطره من قسوة وقوعها على أذنه وتردد صدى قسوتها في صدره لتتحطم روحه فتات متناهي الصغر، من الممكن أن تكون منذ هذا الحادث لكن ما زاد الأمر سوء هو وفاة ابن عمهما طيب السريرة، كان يأمل أن تعود لطبيعتها بعد شفاءها، لكن يبدو أن الإنسان عندما يمرض في نفسه، مرضه يترك أثرًا مهما تعافى، وكأن مرض النفس يصيب صاحبه بتشوه مؤذي لنفسه قبل الآخرين، وهكذا حاله معها لو فقط يحمل عنها كل ما يؤرقها لترتاح ويرتاح هو، فهي قطعة منه إيمان الغالية شقيقته ربيبته جميلته خلابة النظرة في عمقها، رفعت رأسها عن الكتاب أخيرًا بعد أن تكرمت فاصلة نفسها عن فقاعة القراءة التي تحيطها، وابتسمت له ابتسامة العينين المتألقتين وهمست مبحوحة النبرة بسبب صمتها لفترة طويلة:
-كيف الحال؟ هل قابلت تسبيح اليوم أيضًا؟!
ابتسم بحلاوة وأراد إغاظتها، فاقترب بتمهل حتى جلس بجانبها على طرف فراشها، وتحدث قائلًا:
-يبدو أنك ستكونين مثال الحماة حادة الطباع مع تسبيح.
قالت كمن توشك على القتال:
-لتسعدك وتريح قلبك وسأكون رحيمة بها، وستعود أقرب صديقاتي كما كانت.
ضحك ملء شدقيه وقال:
-إذن يجب ركلك من هذا البيت قبل أن أتزوجها...
أشرق وجهها وهي تسأل:
-هل وافقت؟؟
لم تتبين ملامحه وهو يقول:
-ليس بعد...
كان المعنى من الجملة أنه لن يتركها إلا وهي زوجته، لكن نبرة الانكسار تزينها خيبة أمل تلوح في الأفق، كيف تصلح هذا؟ لما تسبيح سبية فكر ضال هكذا، لما جميعهن أسرى تضارب قوانين تحكم مصائرهن فيثوروا عليها مفككين أغلالها الحديدية في تمرد به خلل المراهقة، وكأن تفكيرهن انحصر عند تلك المرحلة، فكانت هي أول متمردة انتصرت على قيدها بجبن الضعفاء وخبث الحيّات، فقد ألقت رفضها في وجه عمران لطيبة قلبه ويقينها بعدم الوشاية بها، لكن تسبيح أقوى فهي تحارب الجميع رغم أنها تعلم إلى أي مدى يمكنها أن تحارب، وتعرف أنها قد تنتهي مكسورة منزوعة الأجنحة كعصفور قُص ريشه... نعم لا يمكن أن يطردها والدها من العائلة كما فعل مع عمران يكفيها أنها بنت، فرغم كل القوانين المجحفة إلا أنها تكرم بناتها.
وعندما زاد شرودها قال منبهًا:
-دعينا من تسبيح الآن، ونركز على أمر ركلك من هنا كي لا تزعجين زوجتي...
رغم دعابة نبرته إلا أنها شعرت بانقباض يستحكم قبضته على صدرها، فهمست بخوف متواري:
-ماذا تقصد؟؟
أحاط جانب وجهها بكفه وقال:
-هناك من تقدم لخطبتكِ، ويبدو أنه وقع في خيوط العشق العنكبوتية التي تغزليها بعينيكِ السارقة هذه.
ارتعشت عضلة فكها تحت كفه وسألت:
-من هو؟ هل نعرفه؟ هل من البلدة؟
-بالطبع لا... من من البلدة سيـ...
صمت باترًا جملته وهو ينظر لها يأمل عدم سماعها لما كان ينوي قوله سهوًا، لكن سمعت وفهمت وتألمت... لكن هل ستلومه.. وهل يحق لها لومه وهي من جرت العائلة للقيل والقال... هل ستلومه بعد أن وقف في وجه الجميع... ولم يرحلوا من البلدة إلا بعد أن تأذت هي بكلام بشر لا يرحموا مظلوم أو ظالم.. ولكن هل تصنف مظلومة بعد فعلتها! همست أخيرًا بهدوء قاست ليخرج بهذا الاتزان:
-أعلم أن لا أحد من البلدة سيتقدم لي، كنت متخوفة أن يفعلها غفران... وتقْبل لكون أن لا أحد سيرضى بواحدة مثلي...
شخصت عيني حازم واشتدت كفه في ضغطها على وجهها بعدما رفع كفه الأخرى من الجانب الآخر، وقال بهسيس مرعب:
-لا تحقرين من شأنِك يا إيمان، فليجرأ أحد على قولها لأمحيه من وجه الأرض في توه... أفهمتِ؟!
لم ترد لكنها سألت:
-من هو إذن؟
هدأ وهدأ صراعه وقال:
-إنه ذلك الطبيب الذي أجرى لكِ جراحة الزائدة الدودية...
كل ما حدث أنها سكنت تمامًا، هل كان صادق في مشاعره حقًا؟! لقد ظنت أنه يلعب بها فقالت تناوره ليس إلا، لن تنكر أنها أعجبت بشخصه فحتى في لعبته – على حد ظنها – كان نزيه القتال رؤوف النزاع... لكن صدمتها الآن في إقدامه على ذلك قد تبدو في غير محلها لكنها شلت لسانها، بعد أن وعيت من صدمتها همست:
-وماذا قلت له؟
راقب انفعالاتها بعين صقر... صدمتها الأولى ثم رمشتها مرورًا باستمرار الصدمة على ملامحها انتهائها بنفض رأسها بحركة شديدة البساطة فلا تكاد ترى، قال مواجبًا:
-قلت له دعني أخبرها أولًا...
شردت عينيها وهي تسأل:
-وماذا الآن؟
-علي أنا سؤالك... ماذا الآن؟
-لا أعلم... حقيقة لا أعلم.
ردها التائه جعله يسألها:
-ما رأيكِ في مقابلة بحضوري؟
نظرت له غير متفاجئة، فهذا السؤال يخرج من حازم هكذا، بينما إن تفوهت بما يشابه أمام فريد قد يفصل رأسها... حازم رغم عبوسه الدائم وصمته القاسي للناظر إلا ما عبوسه وصمته إلا لتفكير حكيم، أما فريد فرغم تفتحه وخروجه من عباءة الجنوب إلا أنه يحمل دماء أشدهم تعنت وغيرة، همست أخيرًا:
-يجب أن يعرف ما حدث قديمًا، بل يجب أن يسمع بأذنه ما يقال... وما هو مقبل عليه؟!
-سأجعله يسافر لعمي ليطلبكِ منه..
تحولت ملامحها من الهدوء للاشتعال، وتحولت لغة جسدها للنقيض ورفضت:
-لن يطلبني أحد إلا منك..
نظر أرضًا مواجبًا:
-هو كبيرنا يا إيمان رغم كل شيء..
صرخت بفورة مشاعر رفض:
-لا، لن أقبل به كبير بعدما فعله في عمران..
-إذًا ما العمل؟!
-ادعوه على فرح بدور وصُفيّ..
قلب عينيه وقال:
-بأي صفة..
-معرفة أي عائلة وأي فتاة سيقرن اسمها به..
حاول صياغة الأمر دون جرحها ففشل وقال عوضًا:
-ماذا تقولين أنتِ؟
-هذا شرطي يا حازم...
-كل شروطك تطاع، لكن هذا غير نافع يا إيمان...
تنهد بثقل لكنه قال في النهاية دون مراعاة لأي مشاعر لكنها تستحق يابسة الرأس هذه:
-فلتحترق مشاعركِ الآن لأجل إفاقتك... لكن أي رجل هذا الذي سيقبل بسماع ما تريدينه يتعرض له، هل سيسمع سمعة فتاة تلوكها الألسن أيًا يكن تستحق ذلك أو لا... أنها مشاعر رجل يا إيمان.
قالت ببرود:
-هذا شرطي... نهاية الحديث.
-تبًا لكِ.
ثم وقف مغادرًا الغرفة، وهي تبتسم بهدوء لكن مع إغلاق باب الغرفة وظلل الظلام بأجنحته على الغرفة من جديد ارتسم البأس الحزين على ملامحها، تعذر أخاها بالطبع وتعلم أنه سيبيت ليلة قاسية في شد وجذب لكنه في الصباح سيخبرها بموافقته.
༺༻
جالسة أمام شقيقها تضحك وتضاحكه تحاول الترفق بما تشعره، تفرك يديها في حجرها تتجاهل تساؤل يكاد يفتك بخلايا مخها وهو "هل هما من جاءا مبكرًا عن الموعد، أم أن هناك ما أخره أم..."
ومع "أم" الأخيرة رأته يدلف من باب المطعم باحثًا عنها... عنها؟؟ ما هذا؟ ماذا حدث لها؟
تعاقبت الانفعالات على صفحة وجهها فأيقن بوصول كارم دون التفاته ولم يفعل حتى لا يحرجها أمامه.
ميز وجهها الذي يبدو أنه كان مرفوع يناظره، لكنها لسبب أو لآخر أنزلته، هل يمني نفسه بأنه خجل الحب؟
تزامن تساؤله مع وصوله لطاولتها فقال بإحراج:
-آسف لتأخيري لكن تأخر أجراء عملية في الصباح أخّر مواعيدي بالتبعية، أسف لقول ذلك أيضًا لكن مهنتي يصعب فيها تأجيلها فهي أرواح.. فآسف للغاية مرة أخرى.
وقف حازم للترحيب مصافحًا يقول:
-لا تقل هذا يا رجل... تفضل.
جلس بجانب حازم وقال بترحيب:
-كيف حالكِ يا أنسة إيمان؟ أعلم أنكِ لا تصافحي باليد لذلك لم أفعل...
قال جملته الأخيرة بمرح فابتسمت ترد تحيته:
-بخير حمدًا لله.
ساد الصمت محلقًا فقال حازم مشيرًا لأحد الطاولات:
-سأجلس بجانبكم هنا، على هذه الطاولة.
بعد انسحاب حازم، أخذ كارم كوب الماء يشربه في نهم وبعد أن انتهى ظل ممسكًا به في يده، وقال:
-ماذا تشربين؟
-لقد احتسيت قهوتي بالفعل.
هل كانت قليلة الذوق؟ فليكن فهي بطبيعة الحال مستاءة من تأخيره الذي جلب مشاهد بعينها في مخيلتها جعلتها تتألم بقسوة جلد السوط، تنحنح قائلًا:
-إذن سأطلب لكِ عصير طازج.
لم ترد مكتفية بإشاحة وجهها، ليطلب العصير، ثم تحدث ممازحًا:
-لقد فعلت ما طلبت وتقدمت رسميًا لحازم، هل نلت رضاكِ أم أعود من حيث أتيت؟
رغم المرح في صوته إلا أنها أصرت وأده بقولها ذا النبرة القاطعة:
-عودتك أو بقاءك هذا ما ستحدده أنت لا أنا...
فسأل متغاضيًا نبرتها:
-هل هذا يعني موافقتك؟
رغم الخجل الذي داعب ملامحها إلا أنها قالت بقوة:
-ليس بعد.
-لم أعد أفهم شيء..
كادت تتحدث لكن قاطعها النادل وهو يضع أقداح العصير أمامهم وبعد ذهابه قال يحثها على الحديث:
-نعم أسمعك.... كنت تودين قول شيء..
تنفست بشهيق طويل وزفرته ببطء وقالت:
-لقد أخبرت حازم أن يدعوك لحضور زفاف أبناء عمومتنا، ستتعرف في هذه الليلة على عائلتنا وبلدتنا وأهلها... وعليّ أيضًا.
تراجع وجهه في البداية ثم ابتسم في نهاية حديثها فغازلها بحب:
-لا يهمني من كل هؤلاء غير آخرهم.
أخفضت وجهها خجلًا تقبض على ابتسامتها بأسنانها، تهيأ نفسها لرفع رأسها، بينما يأس من رفع رأسها قال:
-وقلب آخرهم أيضًا...
إن كان ينتظر خجلًا أكثر فهو واهم، فلقد تلبد وجهها بغيوم رمادية، أما إذا كان ينتظر رفع رأسها فقد رفعته وقالت بقوة:
-ورغم ذلك ستأتي لتحضر الزفاف... هذا شرطي.
-شرط؟
قالها باستفهام وتعجب من لهجتها وأكمل:
-سأقول لكِ شيئًا، إن كان لنا نصيب أن نكمل لا أحب أن تقولي شرط، كما لن تسمعيها مني... لا شروط ولا إجبار، إنما بالمودة والرحمة والحب...
ثم ابتسم مكملًا عندما وجدها تخجل ثانية:
-لا رجاءً لا تخفضي وجهكِ هكذا، واخبريني سر إصرارك على حضوري الزفاف..
شحب وجهها وهي ترفعه تتمتم بحسرة:
-هل عاهدت قوانين تكتب بالدماء، وعندما تخالف تلك الأولى تسفك الأخيرة لتكتب بها غيرها من جديد؟؟
تفاجئ بنبرتها قبل جملتها، بينما ارتعش من هول ما نطقت وهي تراه يتراجع للخلف، وهمس:
-لماذا أشعر وكأنكِ ترهبيني حتى أتراجع؟
-يمكنك الحكم والجزم بذلك ليلة الزفاف، هل ستأتي..؟
رغم أنه غير مطمئن لنبرتها إلا أنه ابتسم قائلًا:
-بالطبع... فقط لتأشري بإصبعك...
ابتسمت بخجل تخفض وجهها، ولم يحثها على رفعه مكتفيًا بالنظر له منخفضًا... حتى رفعته على مهل وأول ما وقع عليه بصرها، هو دخول رجل وأسرته... الرجل يحمل طفلة والزوجة تسير في يديها ابنها، في مشهد يزيد حسرتها، حركت رأسها تنظر لحازم بجزع وكما توقعت كان ينظر لهم مطبقًا أسنانه قابضًا كفه!
༺༻
انتهى الفصل السادس.
قراءة سعيدة.
تدقيق هالة عماد "بائعة اللطف".
مراجعة شيمو أبو النجا.


چورية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-07-22, 04:48 PM   #10

چورية

? العضوٌ??? » 505085
?  التسِجيلٌ » Jul 2022
? مشَارَ?اتْي » 40
?  نُقآطِيْ » چورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل السابع
ليس يُتمي بموت أبي فقط
بل بتخلي أمي عن يدايّ
تخبّطت بالتيه سنين مُعرضةٌ لسؤال "أين أمك؟".
فأقول بهمس خافت: "رحلت".
وداخلي يصرخ "بل هجرتك".
فأصبحت بعد كل هجر أرى وميض انكساري
في عبارة تقتل روحي يومًا بعد اليوم
"لقد هجرتك من أنت منها وهي منك فلا تجزعي هكذا"
والآن أتلمس القوة بشق الأنفس
لتأتي مدمرة باقيتي.
༺༻
ظلت حتى بعد خروج أمها تمسك الدفتر أمامها تنظر فيه تُراجع العمل متظاهرة بالانشغال بغباء عنيد، متجاهلة الشعور الموجع الذي يصرخ به كيانها وينتفض من هول إحياء أمها بزيارتها لجرح تجاهلته وعاشت مع آلامه النازفة متأقلمة غير شَكَائه أو بَكَائه، لما إذًا استنكرت عليها العيش متأقلمة مع آلام كانت لتهد من عزم الرجال؟ آلام في حرقتها توازي بركان مشتعل يأكل كل جميل لطيف يأكل من يقترب منها... لكنه لم يحرق ويقضي إلا عليها هي، آه مكتومة خرجت مشروخة عبر حلقها المتألم رامية بالقلم أمامها فاصطدم بالباب ثم وقع أرضًا مُهشمًا... لكن هذا لم يُهدئ النار في صدرها، والغليان في عقلها اللذان تنفث عنهما أنفاس تائهة في ثورتها، صدرها يعلو ويهبط كأنين دون صوت لكنه مؤلم...
"لقد ربيت رجلان، أحدهما أخلى مسؤوليته عن ابنته؛ فتكفلتها أمها حتى وافتها المنية، والآخر اختار أسوأ امرأة على وجه الكون؛ فقد تخلَّت عن ابنتها مع أول فرصة سانحة لها ببداية جديدة بعد وفاته".
كانت الجملة ومضة رمادية بصوت نواح الجدة ميسون وهي تتحدث مع إحدى شقيقاتها غافلة عنها وغرام وهما واقفتان في بداية الرواق الذي يطل على الغرفة التي تتحدث منها، لم يكونا ناضجتين بما يكفي لفهم الجملة، لكن الجدة لم تتوقف عن قولها مرارًا وتكرارًا بعد ذلك غير غافلة عنهما، بل كانت تقصدهما بشكواها بعد أن توفتا شقيقتيها؛ فلم يبقى حتى من تشكو له خيباتها، لا تنكر أنهما كانتا متعاطفتين معها لكن بشكل أو بآخر أصبحتا تكرهان شكواها تلك، ألا يكفي عليهما مرارة عدم وجود والديهما لتأتي وتذكرهما في كل وقت وحين...
"أنا أمك رغم كل ما قالته ميسون عني لكِ، إلا أنني أمك يا رهف".
نبرة أمها التي تشوبها العاطفة، واللهفة في عينيها مع عطشها لحنان أم يتوجع قلبها في مرضها... لحضن أمومي بعد طلاقها خاصة بعد ليلة أمس المحمَّلة بعواصف رعدية وبرق في طيَّاته ذكريات جعلتها تنكمش في سريرها تنظر في نافذتها المغلقة تراقب تعاقب الومضات السحرية في طفولتها وغرام؛ لتنقلب لنذير شؤم في كبرها، كل ذلك كاد يضعفها لتغمر نفسها في حضنها، فرغم أنها الطبيبة رهف التي تكون سبب في إصلاح نفسية كثير من الحالات المستعصيَّة، إلا أنها تحمل نفسية مدمرة حد الرعب المشوه لمشاعرها...
"لقد تخيلت لقاءنا مرارًا، لقد تخيلت يوم أن ألبسكِ فستانِك مُزينة برَّاقة ليد زوجكِ كثيرًا، لقد تخيلتني تلك الحماه التي ستنهش وجه زوج ابنتها إن أحزنها يومًا لخلاف عابر وإن كان يغرقها سعادة بقيَّة العمر".
ضحكتها السوداء في سخريتها الغارقة في مرارة أشد من العلقم ما زال طعمها في فمها وحلقها وجوفها من كثرة محاولاتها لبلعها وهي ترد على أمها بقسوة قاصدة قتلها وليس توجعها فقط...
"لقد تزوجت وهناك من ألبستني فستاني وسلمتني لزوجي، ومن نهشت وجهه وهددته ووقفت وأوقفت في وجهه من يصد سوطه عني، فلم يكن يغرقني سعادة ويحزنني لخلاف عابر، بل كان يحييني في حزن سحيق ويسعدني بموقف عابر... لعلي أستمر معه ويؤسفني قول أني كنت أفعل راضية بفتات حب وحنان منقوصين".
صمتت تبتلع مرارتها وأكملت...
"لقد جعلني جفاؤك أرضى بمستنقع يأخذني للأسفل في أدنى القاع، فرجاءً لا تضيعي من وقتي أكثر طالبةً سماح ومغفرة لن تطوليهم أبد الدهر".
ثم أمسكت قلمها وفتحت دفترها تنشغل به، ولم ترَى نجوى ونظرتها تسود بحقد غاضب مدمر، فقامت بعاصفة هادئة في ظاهرها مفجرة مؤقتة!
༺༻
أسرة جميلة بأب يُضاحك ابنته، وأم تشاكسها وابن يقول:
-إنها غيورة بينما أنا لطيف أمي أليس كذلك؟
ضحكت الأم بمرح وعبس الأب في رفض لما يقوله ابنه، بينما الزوجة مستمتعة بغيرة زوجها، كان مشهد حارق لمشاعر كانت تظن أنها ستعيشها، وستكون ضلع في هذه الأسرة، لكن يبدو أنها ضلع منزوع منذ البداية، راقبت حازم وهو ينظر لرب الأسرة على وجه خاص يقبض أصابعه، وكأنه يمنع نفسه من تهشيم وجهه، لكنه هو الآخر أدار وجهه لها ينظر لوجع وضع بصماته على ملامحها، فرمشت بعينيها في معنىٰ "أنا بخير" وأشارت برأسها هل نرحل؟ فقام من طاولته مقتربًا يحاول صبغ المرح على صوته:
-ألم تكتفوا بعد من الحديث؟! فقد تأخرتُ على عملي.
ابتسم كارم واقفًا محاولًا التظاهر بعدم ملاحظة التوتر الذي ساد في لحظة لكنه يجهل سببه، وقال:
-تأخري هو من سبّب هذا، حسنًا لا بأس لقد أخبرتني الآنسة إيمان...
قاطعه حازم ينظر في ساعته بقلة ذوق يحاول صرف انتباه كارم عن توتر إيمان:
-هل يمكننا الحديث في طريقنا للخارج؟
تنحنح كارم وقال:
-آه.. نعم... بالطبع تفضلوا.
خرجوا بالفعل فقال كارم ما كان ينوي قوله:
-لقد أخبرتني إيمـ.. أقصد الآنسة إيمان عن وجوب حضوري زفاف أبناء عمومتكم، فقط حينما يحين الموعد أخبرني وأرسل لي بالموقع.
ابتسم حازم بودّ حقيقي بعد أن تخلّص نوعًا ما من توتره وقال مشيرًا نحو إيمان:
-لا تؤاخذنا، لكن هذا الرأس اليابس لا تتنازل أبدًا في هذا الموضوع تحديدًا.
ابتسمت إيمان على قول أخيها وظلت تتأبط ذراعه بطريقة تظهر توترها للعيان ولم تعقب من فرط ما تعرّضت له... هل حقًا تشكو ما تعرّضت له!
༺༻
رقيقة كنسمة لم تهز ورقة شجر لكنها قلبت كياني رأسًا على عقب
ناعمة كوردة تمس أنف مستنشقًا عبيرها الفواح
مسكرة ككأس خمر يذهب عقل ناسك متعبدٍ
ورغم أني أحيا في وصف جمالك راضيًّا الموت ومُستَقبلِه
أتغنى بالغزل خشية أن أثقل عليكِ بمشاعري
وعندما جئتني مطالبة بحبي فلم أفكر لحظةٍ
مغرقًا إياكِ حبًا وغزلًا وصخب العشاق
لتهرعي هاربةً من أشواقي المتعطشة لشربة من فيض مشاعركِ
فتحيني اليوم وتموتيني غدًا
يا أجمل نساء العالمين في نظري ألا موعد للقاء قريب؟
༺༻
في المساء كان جالسًا على أريكته يتابع أحد مواقع التواصل، سمع صوت مزلاج باب حمام الغرفة يٌفتح، انتظر قليلًا حتى تخرج ثم رفع رأسه يتابع خطواتها، راقبها وهي تجفف شعرها كانت تتمايل بفعل حركة المجفف خاصة بسلكه الكهربائي القصير وشعرها كان طويلًا إلى ما لا نهاية؛ فكانت في تمايلها رشيقة، عفوية، شهية ككوب عصير طازج في وقت اشتد فيه الحر، وهو ظمآن في حبها يريد ارتشاف جرعات وجرعات حتى ترتوي صحراء مشاعره التي جفّت أرضها، عندما انتهت وقف مقتربًا بتمهل فهد يسير قدم وراء القدم في انتظار اللحظة المناسبة وعندما حانت وقف ممسكًا بالسماعة التي كانت على وشك أن تركبها، أصبحت مهارته في تركيبها جيدة لكن يده تلكأت وصدره يملأه صخب وضجيج دقات قلبه تصم أذناه وتشعره بلذة ألم الشوق في صدره، وفي بطء أصابعه كان به تعمٌد ملحوظ لعينيها مضطربتين النظرة فكان خديها بحمرة ثمرة طماطم ناضجة، تحدث أخيرًا يخبرها:
-في وجودي لن يلبسكِ هذه السماعة غيري أنا.
ثم مد وجهه؛ ليقترب بجانب وجهها في توازي وكلما اقترب ازدادت ضربات فؤاده تناشد فؤادها الذي كان صوت دقاته تكاد تخرج من صدرها في توتر أضنى أعصابها؛ فهي حتى تخشى الاقتراب وإن كان اقترابه على استحياء، ومن ثم شرد هو في صورتهما واعتبر هذه الصورة الجميلة التي تناظرهما في المرآة ضمن أحلامه المرهقة لمشاعره تجاهها، كم جاءت في منامه مزينة جميلة كلوحة مبهجة الألوان؛ فمال ليطبع قبلة على السماعة كما حدث في حلمه الأخير لكن كان للواقع سحر خاص فبمجرد أن اخترق حيز خصوصيتها تهدم كل سدّ بناه بينهم في غمرة مشاعر تأججت فجأة في نفسه فلم يكتفي بقبلة السماعة بل أدارها إليه على مهل وقربها منه ومال متذوقًا رحيق ورد خديها وهو يضمها لصدره وكل كيانه يصرخ من فرط الشوق الذي أصابه ولم يحسب حساب دفعتها في صدره وهي تبعده، وعيونها أصبحت على وسعهما وأضحتا أكبر ملامحها بخوف وغضب وشيء يقضي على مشاعره، وسألته بخفوت وخوف وكأنها سكبت دلو ماء مثلج فوقه:
-ماذا... ماذا فعلت، وماذا عنيت بما فعلت؟
نظرته لها الآن جمدت الدم في عروقها؛ فأصبحت شاحبة حتى البشاعة تحفظ شكلها جيدًا في مثل هذه المواقف، فكم سمعتها كثيرًا "فلتداري ملامحكِ عندما تشحبي حتى المرض هكذا" لذلك كم أرادت الاختفاء والتلاشي الآن حتى لا يرى بشاعة وجهها، صمته لم يفعل إلا الضغط على أعصابها وعندما تحدث كان صوته فاقد رنته المميزة:
-لم تعني شيء، فقط أردت أن أفعل ذلك، لكن إن كنتِ تضايقتِ هكذا لن أفعلها مجددًا.
همست بخفوت يشوبه توسل:
-لم يضايقني ما فعلت، فقط لم أعتاد ذلك بعد.
لكنه لم يرفق بها أو يشفق عليها، وقال:
-يجب أن تعتادي إذًا، إن كنتِ تريدين حقًا البدء بحياة جديدة.
استهزاء جملته الأخيرة أشعرها بالرعب... رعب جعلها كمن يوشك على الإصابة بذبحة صدرية، وتساءلت بتوتر:
-ماذا تعني بهذا؟
-لم أعني شيء أيضًا.
برود جملته مع التفافه نحو أريكته يفردها أمام أنظارها بعدما اتفقا على النوم جانبًا على سرير غرفتهما، صرخت صرخة خفيضة تدل عن مدى قلة حيلتها واستسلامها لضعف وشيك، أو لنوبة بكاء هستيري:
-هذا خارج عن إرادتي.
استدار ينظر لها نظرة أودعها برود ممزوج بصبر نافذ:
-وخارج عن إرادتي أنا أيضًا؛ فلم يَعٌد بمقدرتي تَحمٌل قيد أنملة.
نبرته الخافتة في برودها، نظرته لها التي اختلفت في صخبها، كل هذا التغيير ضغط على أعصابها وأشعرها بأنه قد تخلى عنها كما فعل والدها وما زال يفعل، فصرخت مجددًا مضطربة الوجدان وهي تقترب منه تمسك بتلابيب قميص منامته:
-لقد اتفقنا أن تصبر قليلًا.
-ما مفهومك عن فترة الصبر لاقترابنا كزوجين؟
تراجعت كمن لدغها عقرب سام، وكان للدغته أهون مما تشعره الآن، كم هي صلفة متعنتة، تعطيه أمل هو في أمسّ الحاجة إليه بكل ذرات كيانه المتفتت، ثم تنثر هبو الرماد فوق هذا الأمل المزعوم، كم هي دنيئة مستغلة لحبه، وكل هذا لا يليق به... فهو الرجل والسند والحمى والـ... حبيب... نعم فرغم كل شيء فهو أصبح يملك كل كيانها رغم رفضها لهذا لكنه امتلكها بالفعل ولا داعي للإنكار.
عندما لم يجد منها ردّ انسحب بهدوء نحو الأريكة مجددًا يعدل من وسادتها وتمدد مغلقًا النور وقال بحزم:
-تصبحين على خير يا غرام.
تراجعت في استيعاب قوي في عظمة انهاكه لأعصابها... مهلك لتفكيرها، فجرت قدمها جرًا للفراش تتمدد على فرشه الناعم تحدق في السقف باضطراب وخوف وتوتر... أما عنه فكان وجدانه يصرخ بأن "لا مهرب من غرام وحبها وعذابها إلى أبد الآبدين رُبما!".
༺༻
غزوت قلبي بأسلحةٍ محرّمة في الحب
فقابلتها بغزل خيوط من الهُيام مزينة
فكنت يرقة تتلمس طريق الحب الممهد
فأخرجتها من شرنقتها بنعومة تماثل قسوة نعومة جلد السوط
خرجت فراشة نقلتها من وردة لبستان إلى حقل يملئه النور
ولما اقتربت مهللة، وجدتني محفوفة بنيران حرقتني حتى أصبح الرماد له زهو الألوان مقارنةٍ بما وصلت
فعلمت بأن حبك تشربه الزيف منذ البداية، لكن كنت عمياء ضريرة تنكر زيفه،
لقد اشتريت حبك البخس في مقابل بيع حب حقيقي يكرمني
لأصحو لواقع أصبحنا فيه سواسية في أدنى القاع، أنه الدنو يرحب بي
الدنو الذي شوهه نفسي ويجعلني مقدمةٍ على أبشع طرق الانتقام في صوره،
الدنو في نظر الجميع، بعد كنت المكرمة المصانة المرفوعة قدرًا.
༺༻
تنظر في الفراغ بنظرة ميتة لقد كان سعيد مع أسرته، يٌشاكس ويٌضاحك زوجته وأولاده ويشعر بالغيرة من ابنه على زوجته، وزوجته بدَّت سعيدة كمن تغرق في عشق سرمدي، كم كانوا أسرة تحاوطها الحب والدفء، وأين حقها هي؟ أين انتقام الله منه؟ ألم يواجه عقاب رادع وقع عليه؟ ألن تكحل عينيها برؤيته ذليل تطعنه الألسنة؟ ألن يتألم وتقسو عليه البشر كما فعلوا معها بسببه؟ لقد أهانها على لسان الجميع، ووجّه الضربة القاسية في وجه شقيقيها خاصة "فريد" الذي كان براعم رجولته الحرة تنمو بحرارة دماء أصولهم، فكان ناقم على كل شيء فقد كاد يصرخ في وجهها يومًا يقول:
-أنتِ السبب...
لكن لم يكمل عبارته أمام عنف قبضة حازم الذي سددها له كاتمًا جملته في جوفه، لكنها لن تنسى نظرة الكسرة الذي كان يحيا بها أخيها الصغير، فقررت الخروج من البلدة تاركة كل شيء، حتى ذكرياتها محتها من داخلها، إلا أبشع ذكرياتها سوءً! وهل يمكن أن تنسها، تنسى آلام اقتاتت على روحها عام كامل قضته بين أهلها وأناسها، فكان ذاك العام كفيل بحفر الذكرى داخل قلبها وروحها قبل عقلها.
كانت عروس في ليلة زفافها، أنهكها البحث هنا وهناك لتكوين عش لها وحبيبها لكن هان كل تعب وكل اختناق شعرت به من ضيق الوقت الذي يملكونه... هان كل هذا بعد أن انتهت من زينتها وارتدت فستانها، كانت سعيدة وكأن الدنيا بين كفيها، رغم كسرها لقلب عمران وطرده ظلمًا من العائلة، كانت سعادتها تملك قلبها كله، وتراقصت روحها كاملة في تناغم على معزوفة حب رقيقة تهفو إليها النفوس العاشقة، وهي كانت هائمة حبًا... متشربة العشق حتى الرمق الأخير، كانت ترزح تحت توتر أيا عروس مقبلة على حياة جديدة كليًا حتى وإن كانت عاشقة، لكنها لم تكن كأي عروس في انتهائها من زينتها قبل قدوم خاطبها الذي ستزف له بعد عقد القران زوجة يصونها وتصونه، وقفت بجانبها تسبيح يلتقطن صورًا بعدسة الهاتف، وكانت الفتيات الموجودة معهن في هذا المكان الشهير لتزيين العرائس يقُمن بتشغيل الأغاني ويعبّرن عن فرحتهن بالعروس الجميلة ذات الروح اللطيفة في فرحتها.
التفت الجميع حول إيمان بسعادة بينما انسحبت تسبيح في ركن حزين خاص بها، تفكر ألا يمكن لعمران أن يكون محل هذا العريس المتكبر بأنفه العالي، وتكون سعادتهم مكللة بالاكتمال بوجوده بينهم، ارتعش الهاتف في يديها فرأت اسم مروان يزين الشاشة، فطلبت من إحدى الفتيات إغلاق صوت الأغاني وردت:
-أين أنتم يا مروان؟ ما هذا التأخير لقد انتهت إيمان من زينتها ولم تصلوا بعد.
وصلها صوت أخيها يثقله الحزن، وكأن كآبة طرد عمران لا تزال تملأ قلوب الجميع رغم السعادة التي تحاول مسهم:
-هلا خرجتُن الآن، نحن في الخارج.
-ألن يدخل العريس أولًا حتى نلتقط أول انفعال له عندما يرى عروسه كما اتفقنا؟
كان التعجب يملأ صوتها، لكنه لا يملك إلا قوله بعصبية:
-تسبيح نفذي ما قولته وأخرجنَّ.
-حسنًا.
اقتربت إيمان منها بعد عدة محاولات لرفع فستانها والاقتراب منها أثناء المكالمة، وعندما استقرت وضعت كفها على كتف تسبيح تهمس:
-ما بكِ يا تسبيح؟! ماذا حدث؟
أجابتها تسبيح تحرك كتفيها علامة الجهل:
-لا أعلم، مروان يقول أن نخرج لهم... هيا بنا.
سألت إيمان:
-ألن يدخل فاروق؟
ليقدم لي الورود!
أريد أن أوثق تلك اللحظة لقد تخيلتها كثيرًا.
تنهدت تسبيح وهمست:
-لا أعلم، لقد صرخ بي كي نخرج بدون جدال...
نظرت إيمان أمامها ببؤس لأنها لن تٌهدَى الورود كأي عروس... لكنها لا تعلم أي مصير بائس ستتعرض إليه بعد دقائق معدودة.
عندما خرجتا الاثنتين حيث تسبيح تساعد العروس في لملمتة ثوبها الأبيض الضخم، تقدم حازم من شقيقته يحاول الابتسام حاوط وجهها بكفاه واحتضنه داخل صدره، وحاولت هي الحفاظ على زينة وجهها داخل أحضانه، وتضمه هي الأخرى تتمرغ في حنانه وحبه، وعندما طال عناقه سألته من داخل صدره:
-حازم سأختنق، ابتعد، ثم أين فاروق؟ هل سيتأخر في ليلة زفافنا أكثر...
قطعت حديثها عندما شعرت بمفاجئة ضربة قوية داخل صدره، وكأن قلبه توجع فنزعت نفسها انتزاعًا تمسد صدره سائلة:
-ماذا بك يا حازم؟! لما أشعر وكأن سعادتك بي تبخرت؟!
-لا تقولي هكذا، أنا دائمًا سعيد بكِ... يملأني الفخر وأشيد بكِ.
تبسمت مهتزة وهمست:
-هل أصاب فاروق ضرر؟! أخبرني.
صرخ فجأة كما توحشت ملامحه وهو يزأر:
-لا تأتي بسيرة هذا النذل مجددًا، فليميته الله قبل أن أجده أنا وأُذيقه العذاب ألوانًا.
جحظت عينا إيمان وهي تسأل بجزعة:
-ماذا حدث يا حازم؟ هل تشاجرتم؟!
-لأراه أولًا ثم أمحيه من على وجه الدنيا.
-انطق يا حازم... يكفيني رعبًا وأنا أتخيل أبشع ما قد يحدث ليلة زفافي.
تنفس حازم وقال بصوت مثقل بالهمّ:
-لم يعد هناك ليلة زفاف يا إيمان..
-ماذا؟
صرخت بها جزعة وهمست بعدما هدأت:
-لا تقل هذا يا حازم، كل شيء يٌحَل.
-لا يوجد حل، فقد ترك هذا الجبان البلدة تاركًا كل شيء خلفه، ولم ينظر حتى إلى سمعة عروس تركها في ليلة الزفاف.
نظراتها أصبحت مشتتة بعدم تصديق، ماذا يحدث؟ من فعل بها ذلك؟! هل هو فاروق حقًا؟! نظرت لمروان في الخلف عند السيارة يحتضن تسبيح التي تبكي بنواح صارخة بعد ما سمعته من ابن عمها، وهو يربط فوق ظهرها، وسمعت صوت تسبيح الباكي هذه المرّة من بعيد وهي تصرخ:
-لماذا يحدث لنا كل هذا؟! لماذا نحن؟! ماذا فعلنا؟
ترنحت إيمان واصطدم قدمها في جنزير يربط بين عمودين صغيرين من الحديد فسقطت في بركة مياه صغيرة، لمح مروان ترنحها في بداية الأمر، فنحى تسبيح جانبًا ورغم سرعته لكنها لم تكن بسرعة سقوطها، بينما حازم كان يولي وجهه لناحية الأخرى بعيد عن المشهد، يحاول لملمة آلامه دون أن يراها أحد ويطّلع على قسوة ما يمر به.
عندما عَلَى صوت الارتطام، استدار حازم متفاجئًا من هول المنظر، فكانت شقيقته العروس التي كان فستان زفافها المشع بياضًا، ملطخًا بوحل أسود في كل مكان ومروان يحاول رفعها فانضم له يساعده في رفعها ووضعها داخل السيارة، وفي طريقهم لتلك الأخيرة وجد تسبيح يسيل كحلها كأخاديد مرسومة بيد الألم، عينيها مفتوحتان على وسعهما وكأنها لم تصدق بعد ما يمرون به، أمرها مروان:
-أدخلي إلى السيارة يا تسبيح وحاولي تلقي إيمان منّا.
أسرعت تدخل السيارة تفعل ما يقولونه لها، وبعد انتهائهم جلس مروان أمام عجلة القيادة، وجلس بجانبه حازم الذي لم يعد قادر على فعل أو قول شيء، بينما تسبيح تهمس بصوت أبح من فرط الألم الذي يمرون به:
-هل هذا هو الزفاف الذي كان يريد أبي الإسراع به ليرد كرامة إيمان بعد ما فعله عمران؟!
كانت الجملة تشملها ضعف حزين، وكأنها تحاول فهم منطقهم الذي يفكرون به، لكن صرخة مروان بإسمها المتوحشة كانت كفيلة بإخراسها تمامًا، ونظرت لوجه إيمان التعيس وهي مغمضة عينيها مٌعرِضة ورافضة هذا الواقع الأليم، تفكيرها لاقى صدى آلامه في صدرها وبطء عنيف لضربات قلبها... فليحترقوا بقوانينهم... فليموتوا متشبثين بعرف فساد متوارث.
الصورة الحية للمشهد آلمت قلبها، وأفاضت عينيها بدموع سخية بالقهر والمهانة في ظلمة غرفتها، لكنها لم تتخلْ بعد عن النظرة الميتة وعبارات بعينيها تصم أذنيها بشفرات حادة تذبح روحها.
"لقد فرَّ عمران منها بعد أن عرف حقيقتها، لكنه فرَّ نزيه دون تلويث سمعتها، فهي ابنة عمه في النهاية".
"لقد أصر عمها على ذبح الذبائح، وأقام عشرة ليال من الفرح لها، لكن في سبيل واحدة لا تعزّ قومها، فقد فرَّ منها ابن عمها ومن ثم تركها عريسها يوم الزفاف".
"لقد كان عريسها ذو حظ كبير لكي لا يعقد قرانهما إلا ليلة الزفاف".
"لا أعرف كيف لواحد مثل شقيقها الأكبر في طباعه وغلظته لم يفصل رأسها عن جسدها، لو كانت إحدى بناتي بعيد الشر عنهن جميعًا، لفعلها ابني دون تردد".
"رحم الله والدها لو كان حضر هذا كان لوافته المنية يومها، فكان هو الآخر ضعيف الشخصية، فقد يقبلها مكافئة على فعلتها".
كانت لكل جملة منهم تقسم كبريائها وتحني قامتها قبل قامة أي رجل من العائلة، رغم أنها عندما تسمع أي عبارة ترفع رأسها وأنفها بغرور وكِبر، متعالية عليهم وكأنهم الدنس نفسه، لكن آخر عبارة كانت لها تأثير كتأثير من أشعل الفتيل في جسدها وروحها معًا، فهبت صارخة في وجه المرأة تبث السموم بلسانها في وجه تلك المرأة، فإلا والدها قد تتهاون في كل شيء إلا سيرة والدها _رحمه الله_
اعتمت عينيها بحقد وغل أسود، وهي تتذكر ما أقدمت عليه، لقد قالت لحازم أنها لا تريد مقابلة كارم في مطعمها المفضل حتى إذا لم يحدث نصيب لا يتصادف وجودهما في يوم، أخبرته أن هناك مطعم هادئ أيضًا يمكنهم مقابلته به، وما كان هذا المطعم إلا المطعم الذي يتردد عليه فاروق، علمت ذلك من حسابه الشخصي الذي تتردد عليه كثيرًا؛ لتقفي المعلومات عنه والبحث وراء خطواته،
كانت تود الانتقام بأبشع صورة فقد كانت تود أن يراها وهي تستأنف حياتها بعد ما فعله معها انتقامًا لأمه، فبدت أنها انتقمت من نفسها، فهو لم يلحظ وجودها من الأساس ولم يتألم من رؤيتها تحيا من جديد، بل هي من توجعت برؤية سعادته بين عائلته، ما أبشع ما وصلت له!
دق الباب فسمحت للطارق بالدخول الذي لم يكن غير فريد حيث ابتسم لها بعدما أضاء النور، فحركت كفها تحمي عينيها من الإضاءة التي غزت عينيها فجأةً واستغلت الفرصة لمسح عينيها من بقايا دمع وتنفست بانتظام لتريح آلام صدرها حتى اعتادت على النور، وهمست مبتسمة:
-تعالى يا فريد، كيف الحال؟
-بخير وأنتِ؟
ابتسمت وهي تريح رأسها على كتفه بعدما جلس بجانبها على الفراش "مجمع حزنها" وقالت:
-كونوا بخير لأكون كذلك.
-كيف تتمني أن نكون بخير بعدما أقدمتِ على ما أقدمتِ عليه اليوم؟
تراجعت برأسها جاحظة العينين وسألت تحاول صبغ التعجب على نبرتها:
-ماذا فعلت أنا؟!
-أردت إرسال رسالة بشعة الحروف لنذل كنا نعتقد أنك نسيتيه... لكن يبدو أننا أخطاءنا كما فشلتِ في إرسال رسالتك.
ازدردت ريقها بصعوبة وهمست:
-ماذا تقصد؟
أجابها وكأنه يبصق الإجابة في وجهها:
-تعرفين قصدي جيدًا كما فهمنا ما حاولتِ فعله صباحًا... نحن أخوة يا إيمان بنفس الدم ونفس التربية، فلقد تعب حتى أجاد تربيتنا رجل واحد رغم طيبته إلا أنه نجح في جعلنا نفهم بعضنا جيدًا كما جعل انتمائنا واحد.
أنزلت جفونها بخزي وهمست:
-كيف عرفتم؟
-هل هذا ما يهمكِ حقًا؟! حسنًا لأخبركِ... عندما أتينا إلى هنا عرف حازم أن هذا...
كانت السبة بالبشاعة التي جعلت إيمان تنتفض كما انتفض جوفها، لكنه أكمل:
-يسكن في حيز هذه المنطقة، وإن كان في أبعد نقطة عنا حيث التقى به وهدده من تواجده في أي مكان تتواجدي فيه، لكنك اليوم أنتِ من ذهبتِ إليه جاعلة من حازم مغفل كبير، وإن علم هذا الطبيب ستصيبين كرامته في الصميم... وتجاهلتِ كل ذلك متخيلة بفكرك الضحل هذا أنكِ تطعنيه هو... أفيقي يا إيمان قبل أن تدمري البقية الباقية من كرامتنا!
ثم وقف خارجًا يتركها تفكر جيدًا وتحسب خطواتها حتى ولو كان قد جعلها تفكر بأشد الطرق قسوة، وعندما خرج وجد حازم مستند على الحائط بجانب الباب مرجعًا رأسه للخلف بألم ويأس يقتله، فوضع فريد كفه على كتفه فنظر له، وابتعدا عن الباب فهمس حازم:
-لقد أوجعتها، ستبكي طوال الليل.
-لتفعل، آمل أن تستفيق؛ فيكفي غباء فتيات هذه العائلة.
أما عنها فكانت تنظر في الفراغ ورأسها ينفجر من كثرة التفكير...
"ماذا فعلت... ماذا فعلت؟ لقد ألمتهم من جديد... وهذه المرة من فعل يدها... ماذا فعلت؟! لقد آلمت حازم؟".
༺༻
شعرتُ بالتيه بين دورب قوانين لا تعرف للرحمة سبيل
عانيتُ وأنا أبحث بجنون عن فارس أحلام يبعدني بعد المشرق عن المغرب عن تلك القوانين المجحفة
فوجدتني أبحث عبثًا ورأيتني أقتاد إليها معصوبة العينين كالشاة التي تساق دون إرادتها
ولما صرخت رافضة انتفض الجميع ثائرًا عليّ، فتمسكت برفضي بتعنت صميم
هُزم صواب منطقي بسخف منطق مغلوط عاش به القوم في بدائيتهم، وتوارثوه بأخطائه
حاربت كم حاربت لأحظى بكرامة استنكرت عليّ
ولم أحتاج يومًا إلا لحنان وافر، وقلب بوسع خضرة أرضينا.
༺༻
أشرقت الشمس متهادية ترمي بستار نورها المشع دفئًا في سماء باردة تفتت نتف سحابها، تقف في المطبخ تعد فطور من صنع يدها لشعورها الشديد بالجوع، سمعت رنين الجرس فتأفأفت لعلمها... بل يقينها من هوية الزائر، لن يرحمها من زيارته التي يظنون أنه بها يستطيع إمالة قلبها، لكنهم لا يعرفون أنها تهابه، تخشى وجودها معه وحدها حتى وإن تظاهرت بالعكس، يكفي أن يصرخ مرة واحدة لتنكمش في مقعدها مبتلعة لسانها ويريدون تزويجهما أي معادلة غير موزونة الأطراف والنتائج تلك، كانت قد ارتدت إسدال الصلاة الخاص بها وهي تسأل نفسها "ألا يكفي أهل هذا البيت سواد الليل نوم أم أنهم يدّعون النوم؟".
فتحت الباب بعصبية من فرط ما ترزح تحت طائلته، لتجد فريد أمامها رافعًا حاجبًا متوجسًا، وسأل بحذر أضحكها:
-هل جئت في وقت غير مناسب؟!
ضحكت مهلهلة:
-مرحبًا يا ابن العم، لم نعد نلقاك إلا أشد الأوقات ضيقًا... وأشدها سوادً.
سخر متحدثًا:
-صباح الخير يا تسبيح، ما أجمل ترحيبك! حقًا يئست منك.
ضحكت وقالت تغيظه أكثر:
-أي رياح سوداء أتت بك؟
ضرب رأسها ضاحكًا وقال:
-شعرتُ بافتقادك لي وجئت اليوم لتريني، أعرف أنك اشتقتِ لي بشكل أو بآخر.
ضحكت لعيناه وقالت:
-إذا تعال إلى المطبخ فحماتك ستحبك فأنا أُعد الفطور بنفسي.
ذهب خلفها وهو يشاكسها:
-أي مزاج داعب روح الطباخ داخلك اليوم؟
كانت تحضر طبق البيض المخفوق وتضع تلك السوائل المكسبة للطعم، فأمسك فريد إحدى ثمار الخيار الموجودة في أحد الأطباق وأخذ في تقطيعها حلقات دائرية قائلًا:
-سمعت أن جاءكِ خاطب، ماذا حدث حيال هذا الموضوع؟
-سمعت بأمر العريس، ولم تسمع بما فعله مروان معه، ناهيك عن إحراجي أمامه... لا أصدقك...
وضعت يدها على صدرها بإحساس الوافي:
-أكلمك بأمانة.
تنحنح من إحراجها له وهمس:
-حسنًا.. لنبدأ من جديد... لما أقدمتِ على هذا الفعل يا تسبيح وأنتِ خير من تعلم أنكِ وحازم لبعضكما منذ ولادتك؟ وعلى دراية كاملة بما حدث قديمًا وما فعله والدكِ بعمران؟
قالت تسبيح بقهر:
-وإلى متى سنستسلم لما يحدث ويفرض علينا صاغرين دون اعتراض واحد؟!
قال فريد بتروي:
-أنتِ لا تحبين حازم إذًا؟
تنهدت بقوة وقالت بشرود:
-أنا لا أكرهه بل أنا أشتاق لأيام جمعتنا صغار كنت أحتمي به، وكان يشهر قبضته في وجه من يعترض طريقي ولو بكلمة... أشتاق عندما كنا نلعب خلف درانا أنا وأنت وبعض الصبية والفتيات من أعمارنا وعندما كنت تصرخ في وجهي وأنا أتعدى على قوانين اللعبة بصلف فأجري باكية نحوه هو لا غيره.. لم أجري نحو عمران ومروان قط.. كنت دائمًا ما أشكوك له ولم يخذلني يومًا وحتى وأنا مخطئة خطأ كبير كان يعنفك أنت.. لكن بعدما كبرنا خاصة بعد طرد أبي لعمران من العائلة والبلد كاملة... لا أعرف ماذا حدث... تحول كل شيء، أصبح الحزن والغضب الصامت يكلل أرواحنا، فانتزع منا الحب والدفء الذي حاوطنا لسنوات طفولتنا وبداية شبابنا... تحول حازم من شاب صغير يحميني من أي شيء مهما تنهى في صغره، إلى رجل كهف يصرخ في وجهي أنا وكأنه ناقم علي بشكل أجهل التصرف معه، لقد تغير وتغيرت لم أعد الطفلة المتعلقة في ثوب حاميها، ولم يعد هو الشاب الذي يحميني، لن أنكر أن يغزو روحي حنين مجرف لكل شعور آخر لكنه مجرد حنين لأيام أتمنى عودتها... فريد أنا آسفة لقول ذلك أعلم أنه شقيقك... لكني أخشاه حد الفزع... أنا أحبه كرجل من عائلتي كمروان وعمران وأنت.
نظرت له ترى صدى أثر كلماتها عليه، فوجدته قد أنهى تقطيع ثمار الخيار ويغرز طرف السكين في أحد الحلقات ويلتقطها بفمه، فضحكت بقوة على منظره وهي تهز رأسها علامة يأسها وقالت:
-وأنا التي كنت أخشى أن تكون كلماتي قد جرحتك.
-وهل أنا إيمان التي تخشى على قلب صغارها من الانكسار رافضة الاعتراف بكبر قلبهم مع طول أجسامهم وعرض أكتافهم.
ابتسمت رغم كل الحنين التي تشعر به وقالت:
-لديها كل الحق، فأنا قد آكل غرام إن أحزنت مروان يومًا!
قال وهو يقهقه على قولها:
-أنتن غير متوقعات يا بنات عائلة الباشا.
صمت ثم استكمل سائلًا:
-هل تريدين رأيي؟
-يا ليتك تفعل فأنا حقًا أشعر بتيه يقتلني ولا أحد يكلمني بالحوار.
-حسنًا إذًا، إن إبراهيم ذاك لم يحبك، ولا أنتُ تُحبينه...
أغمضت عينيها يائسة وهمست مقاطعة:
-لديك حق لقد تأكدت من ذلك بنفسي، عندما قام بإحراجي أمام الجميع وأنا أكرهه بشدة، أحقد عليه ولم يهمني غير كرامتي المهانة، لكن ما فعله مروان أحزنني كفتاة ناضجة تم تهميش رأيها، لقد كان ينوي إحراجي متعمدًا يا فريد كعقاب على اعتراضي على زواجي من حازم.
-هل اقتسمتن الغباء كصفة فيما بينكما أنتِ وإيمان؟ حقًا أصدقيني القول.
ابتسمت لكنه لاحظ عدم مسّ ابتسامتها لعينيها فقال موضحًا:
-يا غبية لقد قال مروان إن لم توافقي بمحض إرادتك على اقترانك بحازم كزوجة... فلن يتم الزواج... وقابل هذا اللزج ليعرف ويفهم من هذا وما مدى صدق نواياه التي لا داعي لذكرها بعد أن أيقنتِ الحقيقة.
اغرورقت عينيها بالدموع وهمست:
-لا أحد يفهمني وكأن لم نكن عائلة وأخوة في تكاتف من الصغر... جميعنا تغيرنا يا فريد... جميعنا! لكنكم تستنكرون علي ما حدث معكم وكأنه بفعل يداي... كل ما في الأمر أن لا زواج سيجمع بيني وبين حازم.
سألها وهو يطير حلقة صغيرة من الخيار ويلتقطها بفمه بحركة من رأسه وكأنه يصد كرة قدم قبل دخول المرمى:
-لما؟!
تهدل كتفيها وهي تقول:
-كما لأني أخشاه، رغم تبجحي معه إلا أنني أخافه، خاصة عندما يصل لذروة غضبه حتى وإن أمسك غضبه معي... لكن يومًا لن يستطيع لجم غضبه مع شخصيتي، أتفهمني؟!
قام فريد بغرز السكين في حلقة أخرى، ومد يده نحو فم تسبيح لتأكلها بنهم حزين، وقال فريد بعد أن فند كلامها:
-أنتِ من قولتيها قبل أن أفعل، حازم يمسك غضبه كثيرًا عندما يكون منصب نحوك، أنتِ بالفعل تتبجحي كثيرًا وتخرجي غضب شخص مشاعره أبرد من الثلج، ولكنه يمسك غضبه وهذا دليل حبه نحوك، فقط أعطي له الفرصة لمرة واحدة ليثبت حبه، وهو من سيوصلك غدًا للجامعة، ما رأيك؟! ولاحظي أني أستأذنكِ.
قالها ضاربًا جانب رأسها بسبابته فنظرت له مفكرة في موافقته، حتى عندما تأتي لحظة فرصتها في قول رأيها وترفض تكون معها الحق وحجتهم باطلة، قالت وهي شاردة:
-حسنًا، لكن لا فرص بعد ذلك، لقد اكتفيت.
نظر لها فريد طويلًا ثم سألها فجأة وكأنه تذكر لتوه ومتظاهرًا بالجزع:
-أين مروان.. إن لم يكن مروان موجود يا تسبيح سأقتلك.
نظرت له بجانب عينيها:
-لن أرد عليك... أنت تعرف جيدًا أنه موجود.. فلا تمثل رجاءً
༺༻
ثمة قلوب عاشقة تختار من يكونوا أهلًا لحبهم
وقلبي لم يختار غير قلب جحود في قساوته
عشت أمني نفسي بكِ هدية نهاية سنين شقاء
هدية حب طال انتظار تكليله بالفوز
هدية شغف نبض طفولة بريئة في صخبها
هدية الشباب وعزم الرجولة في حفظكِ مصانة حتى من نفسي
وصباك يزداد بهاءً يستفز كل صبري
فأخشى تسرب هدية مصانة لي منذ مولدها
كتبت لي منذ البداية، فهل من متنفس للقلب غيركِ؟
يا سيدة فؤادي، ومالكة تفكيري وعقلي
وساكنة روحي التي تسكن إليكِ رغم كل جفاكِ
فكيف أكسب وصالكِ دلني طريقه
فقد أكون أسير في فقدته بتيه جهلي.
༺༻
رن جرس الباب وهي ترتدي حجابها، كانت قد قررت ارتداء عباءة سوداء ولم تغير قرارها، فلم تكن تريده أن يفهمها بطريقة خاطئة بعد علمه بمعرفتها أنه قادم لتوصيلها اليوم،
انتهت من تثبيت حجابها الأبيض بنقوشه الوردية، ثم أخذت حقيبتها البيضاء ونظرت لدبوسها الوردي الكبير التي ثبتته في قماش الحقيبة، فبدت أنثوية تدب بها روح الطفولة.
وقفت على عتبة غرفتها تأخذ شهيقًا تهدئ به توترها، لكنه كان شهيق يحمل رائحة عطره التي زادتها توتر ورهبة،
خرجت فوجدت فريد الذي ما زال موجودًا حيث يخرج من المطبخ حاملًا طبق يحوي بعض الكعكات التي صنعتها مع غرام ليلة أمس، وغرام خلفه بأكواب الشاي، فنظرت للكعك واقتربت تأخذ واحدة تملأ بها فمها والأخرى في يدها فسألتها غرام وهي تأخذ كوب الشاي الخاص بها:
-ألن تسلمي على حازم؟!
-سألتقيه وأسلم عليه الآن أو بعد قليل، دعيني أدخل أودع أبناء أخي أولًا.
نظر لها فريد لائمًا فتهربت من نظرته تدلف إلى غرفة الصغار.
بعد قليل كانت ترتدي حذائها الرياضي بعد أن تعجلها مروان، ثم صاحت من عند الباب:
-أنا جاهزة يا مروان، هيَّا.
سمع صوتها الرنان وهي تنادي مروان وجزّ أسنانه وهو يشير بسبابته لمروان وفريد علامة القتل، فضحك فريد وقال:
-حظك يابُني أن تبتلى بأكثر بنات العائلة عندًا وغباءً وتعنتًا.
-هذه شقيقتي بالمُناسبة.
ازداد ضحكه وهو يقول:
-وابنة عمي الصغيرة بالمناسبة.
فقال حازم بغيظ:
-لسنا في حفل تعارف، لكن إن لم تعد اليوم فاعلموا أني قتلتها.
ضحك فريد وقال:
-لن يطاوعك قلبك يا حبيب أخيك قبل أن تسمع اعترافها بالحب.
-آه هذا الاعتراف الذي سيكون في قرون مقبلة قد يكون اعتراف للورثة من بعدي، هذا إن كان شكك في أنها تحبني من الأساس.
قال مروان بغضب ليس مفتعل:
-أرى أنكم لغيتما وجودي وتتكلمون عن مشاعر شقيقتي وفي منزلي... هل إن طردتكما الآن سيعاب عليّ؟
قال فريد بسخرية رابط على صدر ابن عمه:
-حبيبي يا رجل، ونهون عليك!
-مرواااان...
كان هذا صوت تسبيح، فنظر حازم لهما وقال:
-سأذهب حتى لا أقتلها فعلًا.
وخرج وضحكات فريد تلاحقه، لكن صوت العالم كله خفت فجأة عندما رآها تقف تلتقط صورًا لنفسها
لكن لم يشغل باله أنها تتصور أو أي شيء آخر مما تفعله في هندامها، ما يشغله هو أن تسبيح ترتدي عباءتها السوداء مدركة حقيقة أنه سيقوم بتوصيلها، وتذكر جملة منذ زمن بعيد يقولها وهو يضحك مداريًّا مشاعره:
-عندما ترتدين هذه العباءة تنافسين ملكات الجمال بل تتفوقين عليهن، بالرغم من أنها عباءة ترتديها جميع نساء البلدة لكن عندما أراها عليكِ أجد سحرًا خاص بكِ، فسحركِ أضفى عليها حُسنًا وبهاءً، تشعريني بتخبط فلم أعد أعلم من منكما تضيف سحرها على الأخرى.
هل تذكرت جملته فارتدتها إحياءً للذكرى؟ أم أنها لم تتذكره من الأساس؟ جاحدة القلب هذه التي لم تتعلم من الحب غير تفاهاته، أخذت وضع جديد للتصوير فكانت حقيبة الظهر متدلية من أحد كتفيها، والهاتف في يدها ترفعه في وضع التصوير، لكن بعد التقاط الصورة تخشب جسدها وهي لا تزال تنظر للهاتف فدقق النظر في الهاتف المرفوع في يديها فوجد أنه يظهر معها في الصورة ببلاهة، لكن مهلًا ما هذا؟! هل تصور للتو وهو يعلو رأسه أذنين ورديين لقطة على برنامج التصوير الأكثر شهرة بين المراهقين، هزلت!
سأل بتوجس عندما اعتدلت تغلق الهاتف وتداريه في جانبها وساعد في اخفاؤه عباءتها:
-هل صورتني بأذنين قطة فعلًا أم أنني أتخيل؟!
رمشت بعينيها اللاتين توسعتا برهبة لجديته في السؤال عن الأمر، وهمست:
-تتخيل بالطبع... أنت لم تظهر في الصورة من الأساس، وهل يعقل أن أفعلها!
واستدارت تفرج عن ابتسامتها التي كبتتها لمدة طويلة على منظره بالأذنين والرموش الكثيفة وأحمر الخدين، قبضت على شفتيها حتى لا تعلو ضحكتها ولو عن طريق الخطأ، وهو رغم يقينه من كذبها لكن تلك البسمة التي لمح طرفها وهي تستدير أطارت بكلمات التوبيخ بعيدًا... بعيدًا جدًا... حتى أنه شعر وكأنها تلوح له من بعيد تسأله بسخرية "هاااي! كيف الحال يا حضرة الضابط"، لكن طار اللقب أيضًا ملوحًا! وكيف لا يطير رجل يتعبد في حضرة عينيها، وبسمتها... وكل شاردة وواردة تجود بها.
وجدها تضغط على زر إبقاء باب المصعد مفتوحًا منتظرة دخوله دون تذمر، وإن كان أحد غيره الذي تقف هكذا في انتظاره لانطلق لسانها في سخرية صاروخية لاذعة ترشق من أمامها كضرير بصر، وبالطبع أي أحد عداه... وكم شعر بالحسرة لأنها لم تعيره تذمرها، وشكواها اللذان لا نهاية لهما! إلى أي مرحلة أوصلته ذات الشعر الأحمر!
في رحلة وصولهما للجامعة مد يده ليفتح المسجل الذي ضبطه فريد صباحًا وانسابت أنغام رومانسية تسبق كلمات تحمل عاطفة يجيش بها صدره، نظرت للمسجل بدهشة ثم أدارت وجهها نحو حازم بذهول لا تصدق أن هذا حازم، ليبتسم لها ابتسامة في حلاوة مذاق العسل لتزداد دهشة تسبيح وصوت في داخلها "حازم يبتسم مثلنا! هذه نهاية العالم بالتأكيد"، وخلال الطريق توالت الأغاني وهي تحاول أن تتلمس فيه الحب الذي يستهويها، لكن هل الحب مجرد كلمات مغناه؟ كما أن مشكلتها الأعظم هي خوفها ورهبتها منه أنها حتى تخاف خوض حديث معه فلا يعجبه كلامها فيصرخ بها أو تسبقه قبضة يده كما يفعل مع فريد ومروان، استفاقت على صوت عبد الحليم حافظ وهو يغني " جلست، جلست والخوف بعينيها..." ضيقت بين حاجبيها ثم ما لبست وجلجلت ضحكتها ناسية أنها تضحك سخريةً من العابس الذي قد يحولها الآن لأصابع البطاطا المقلاة ويتسلى بها أمام نشرة التلفاز، أرجعت رأسها للخلف في قهقهة ممتدة، ثم قالت من بين ضحكتها باندهاش وهي تضم أصابعها نحو حازم:
-قارئة الفنجان، ألم تجد غيرها... ما أبهر الرومانسية... لقد انبهرت حقيقةً.
وغاصت مرة أخرى في الضحك، وكان ضحكتها بمثابة أنشودة تترتل بصوت به شجن يغرق قلبه في بحور عشقها العميق، شرد في ضحكتها ورسم أحلام عدة من بيت يضمهما فيحمل هو طفله عنها بعد أن أنهكها حمله وهي تقف تحضر وجبة الإفطار.
بينما هي عندما توقفت ضحكتها فلاحظت نظراته فأصبح وجهها أحمر كثمرة طماطم ناضجة، وأنزلت جفنيها على كرتي من العسل الأسود الذائب في عينيها، ووجد نفسه يهمس ببطء وحب يقطر من جملته:
-الضحك يليق بكِ يا سيدة الحسن والدلال... كما يسعدني أن أكون سبب إبهارك... وضحكتك الجميلة تلك.
هل كان يناديها بسيدة الحسن والدلال كنوع من المغازلة؟ هل كان يغازلها أمام الجميع؟ وهي التي كانت تفهمها على أنها سخرية منها واستخفاف بها، أم أنها كانت سخرية معظم الوقت والآن كانت للمغازلة، لا تعرف غير أن نبرته الآن وهو يقولها بلحن خاص آسرتها فنضجت حمرة خديها الطبيعية زيادة.
كان بين ضحكة وأخرى يوزع نظراته بينها وبين الطريق، لكن هذه المرة كان قد أطال نظرته قليلًا على خديها الأحمرين وعندما انتبه للطريق أمامه، فكان على وشك الوقوع في حادث حاول بقدر إمكانه تفاديه ومن
كثرة ترنح السيارة عندما أوقفها بجانب الطريق وصوت المكابح العالية تمايلت تسبيح حتى استقر رأسها على صدره فرفعتها مستندة على عجلة القيادة وتوجه نظرتها لعينيه وهمست بغباء غير مدركة للموقف وكأن تركيزها شل عند الجملة التي كانت ستنطق بها:
-هل كنت تغازلني الآن؟
-تبًا.
أغمض عينيه مدركًا ما حدث لها، وزفر شاتمًا وقال:
-هلّا اعتدلتِ لأرى أي ضرر تسببت فيه!
-هااا.
فصرخ بها يحاول افاقتها:
-اعتدلي يا تسبيح.
-حسنًا.
همست بها تعود لمقعدها من جديد وأرجعت رأسها للخلف تحاول تمالك خوفها في اللحظات الماضية، بينما خرج حازم لمعرفة ماذا أتلف وإلى أي مدى أصاب الطرف الآخر، ولحسن الحظ أن الجميع بخير، لكنه تلاقى تقريعًا مفاده أن لما فئة الشباب طائشين هكذا؟ حيث كان الطرف الآخر رجل عجوز وزوجته، فتلاقاه صامتًا ثم عاد لمقعده أمام المقود، فرآها ما زالت تغمض عينيها وترجع رأسها للخلف، يقدر شعورها بعد خوض لحظات قليلة في خوف فحاول انتزاعها من تلك الحالة التي سيطرت عليها فهمس ردًا على سؤالها قبل نزوله:
-نعم كنت أغازلكِ، هل هو ممنوع أن أغازل ابنة عمي الصغيرة؟
لم تخب ظنه عندما فتحت عيونها مبتسمة بسخرية:
-أرجوك لا تغازلني مجددًا، يكفي ما حدث... من يعلم في المرة القادمة هل سننجو أم سنكون في عداد الموتى.
خفق قلبه مع كلمة "المرة القادمة"، هل هذه إشارة لبداية قصتهم، همس بنبرة تقطر حبًا وهيامًا:
-يمكنني المغازلة ويمكنني أن أكون رومانسي... ويمكنني أن أفعل ما لا يخطر على بالك، يمكنني سرقتكِ بعيدًا عن الجميع متنعمًا بالنظر لعينيكِ ووجهكِ الصبوح وحدي، يمكنني تقبيل نعوم خدك الغارق في حمرته.
نظرت له بدهشة من جرأته وبأي طريق يسير حديثهم، لم تنطق بحرف واحد من فرط خجلها وتوترها، وأكمل وهو يعتدل في جلسته داخل السيارة ويمسك بعجلة القيادة:
-نعم أنا أحبكِ، وأحبكِ كثيرًا، ولا أتخيل أن تزفي لغيري وهذا قد تريه تملك، لكني أراه حب ترعرع داخلي وتشعب بشعور غير قابل للانتزاع، فإن رفضتي حبي فلن أمانع أو أثور، لكن رفقًا بقلب أحبكِ منذ الصغر يا تسبيح.
رغم شعورها بشيء غريب داخلها ينبض باستفزاز داخل صدرها، وجدت نفسها تضحك بقوة قائلة:
-هل هذا اعتراف بالحب حقيقةً؟ هل تعترف لي بحبك وأنت تنظر أمامك وأنا أرتدي تلك العباءة السمراء! هل قلت سابقًا أنك يمكننك أن تكون رومانسي... ونعم! أي اعتراف بالحب هذا يا أحمق!
انكمش وجهها كما انكمش جسدها في مقعدها عندما أدركت أي شخص سبته، ورفعت كفها تداري به فمها برعب وهي تهمس بـ "آسفة" مشوهة بسبب ضغط كفها على فمها.
لو رجل آخر مكانه الآن لقتلها في توه، لكنه هو لم يستمع للكلمات فقط، بل نظر لتهرب نظرتها، وتوتر كفها في حركة موازية لكلامها، تسبيح لا تتكلم وتحرك يدها هكذا إلا في أوقات سعادتها، هل استطاع إسعادها حقًا؟! ومع تخشبها وأسفها تجهم وجهه فزاد خوفها مسيئة التفسير، فمد يده يحاول مسك كفها فتراجعت بحذر لكنه أصر على أن يمسك كفها يبعده عن فمها واحتفظ به مفرود داخل كفه ومال برأسه طابعًا قبلة دغدغت داخلها فسحبت يده فارتفع ينظر لها مبتسمًا وهمس:
-لا تتأسفي أبدًا، وبالنسبة لتوقيت الاعتراف... تدللي.
خرج صوتها بصعوبة تخبره:
-لا أحب أن تفعل ذلك، أن تمسك بيدي وهكذا.
ابتسم وهو يسأل بخبث:
-ما هو الـ "هكذا"... هذه.
ازداد حرجها ولكنها قالت بغيظ:
-ما فعلته منذ قليل...
-آه... قبلة اليد؟! ألا تعرفين أني سأفعلها كثيرًا في بيتنا حتى أستمتع بحمرة وجنتيكِ!
رفعت عينيين غائرتين النظر تهمس:
-هلّا أجلنا الحديث في هذا أرجوك؟ لقد تباعدنا كثيرًا في الفترة الأخيرة يا حازم، فلم أعد الطفلة المدللة التي تتمسح في صاحبها، لقد أحدث هذا البعد أثرًا على نفسي.
-والله لم أبتعد إلا حفاظًا عليكِ من مشاعري.
ابتسمت بخجل وهي تخفض وجهها وتقبض على شفتيها، فبلع ريقه بغصة بُعدها القريب بصعوبة في حلقه... بينما هي تفكر كيف صاغت كلماتها بهذه السلاسة في موضوع كهذا مع... العابس! وجدته يقول بهمس يجيش بصوته:
-لا زلت لا أعلم أي منكما تضيف على الأخرى سحرها!
أدركت مقصده تمامًا وكانت قد أحضرت أكثر من جملة لاذعة ترشقه بها لكنها لم تفعل غير أنها رفعت نظراتها بعيون لمعت بلمحة اشتياق لماضٍ تتمنى عودته، فتعيش هانئة البال سعيدة بين جدران دارهم الواسع تزرع بقعتها المحببة بالورود والفراولة التي تعشقها.
༺༻
جالسة بين أحضان جدتها التي كانت تمشط لها شعرها بأصابعها، وتتحدث معها عما يؤرقها فكانت تهمس وهي تتشبث بثوب الجدة وكأنه درع حمايتها:
-أعلم جيدًا أني عذبته معي، أدرك تمامًا مشاعره، كما أعلم أن قلبي وروحي وكلي أصبحوا ملكية حصرية له بموافقة كل كياني ضمنية مع عقلي... لكن عند اقترابه أشعر بأنه غريب ولا يجب أن يحدث ذلك... وصوت آخر يصرخ بي هذا هو مروان زوجكِ الذي تحمل من أجلكِ الكثير، الذي تحمل لحظاتكِ الضعيفة في بكاء وعويل على عمران في بداية زواجنا رغم حزنه هو وانهياره الداخلي لمفارقة شقيقه الذي فرقتهما قوانينهم قبل أن يفارق الدنيا غير مودعًا للجميع... هناك في زاوية مني يقول: هل ستضحي بحب دام سنوات؟ هل ستضحي بمن واجه الكثير لأجلك؟ كل تلك الأفكار تجعلني في مارثون عندما يحاول الاقتراب...
صمتت ولم تحاول الجدة التكلم، فرفعت رأسها من حضن جدتها تنظر إليها، وسألتها:
-لما تصمتين هكذا؟!
-لأنكِ تعلمين رأيي، لما لا تذهبين لمرشد أسري يساعدك على بناء أسرتك بنفسك، كل نصائحي لن تفيدكِ يا غرام فأنا رغم خبرتي في الحياة لكني لست مختصّة، قد تنفع نصائحي إن كانت مشاكلكما بسيطة، لكن هناك خلل لا أدركه في نفسكِ يا غرام، هناك بعض الأمور تحل عندما تحكي لغريب، حتى وإن لم يجد لكِ حل، فقط مجرد أن تحكي...
رنين جرس الباب المستمر والطرقات العالية على الباب جعلت غرام تنتفض من مجلسها وتنظر للجدة باستفهام يشوبه الرهبة، فقامت الجدة بقوة وارتدت حجابها كما فعلت غرام بأصابع خرقاء، فتحت الجدة الباب وغرام تقف خلفها، وعندما فتح قام الزائر بدفعه بهمجية، الزائر الذي لم يكون غير "نجوى" والدة رهف، هتفت غرام بهمس وهي تخرج من خلف الجدة:
-خالتي نجوى!
لكن نجوى لم تعيرها اهتمام وهي تصرخ في وجه الجدة:
-أنتِ السبب، أنتِ السبب في أن تعاملني ابنتي كالغرباء، أنتِ السبب في وجعها ببعدها عني وبعدي عنها، لما لم ترحميني وابنتي... لن أسامحكِ وسأبذل كل جهدي حتى تعلم ابنتي حقيقة جدتها، التي هي السبب في بعدها عن حضني، ويومها سأنظر إليكِ يا ميسون بتشفي عندما تتذوقين نفس الكأس.
ابتسمت ميسون باستهزاء وقالت:
-مرحبًا بزوجة ابني التي استغلت أول فرصة لها، لتتزوج وترحل تاركة ابنتها خلفها.
صرخت نجوى كحيوان يلتقط أخر أنفاسه:
-لم أتركها خلفي لقد هددتني إن لم أتركها ستؤذيني أنا وزوجي، وهذا ما حدث عندما رفعت قضية حقي في ضمّ ابنتي لحضني، بدأتِ حربك وجعلتِ الكثير من رجال الأعمال يصفون حسابتهم معه، والرجل لم يقل لي يومًا أنك من تفعلي ذلك، لولا أن بعض المعارف هم من أخبروني، وعندما تنازلت عن القضية أخبرني إن كنت أريد الطلاق وخجلة من طلبه، لكني لم أتخلْ عن حياتي، فكنت تذيقني المرار منذ أول يوم لي هنا، وكأني لا أرقى لمستواكِ... لم أنسْ جملتكِ لي صباح يوم زفافي "لا تنسي أنكِ بلا أصل وعائلة حقيقيين، فعائلتكِ التي قامت باحتضانكِ ولم تتحملكِ كثيرًا وعندما بلغتِ سن الزواج تخلصوا منك".
نظرت غرام لجدتها بصدمة عندما توقفت نجوى تلهث من فرط الانفعال، وهمست:
-ماذا؟!
لكن نجوى قالت مبتسمة بمرارة ترد بناء عن ميسون:
-لن ترد لأنها الحقيقة المجردة يا غرام، جدتكِ أبشع إنسان على وجه الأرض...
همست غرام وهي تتوسل جدتها الرد:
-جدتي...
لكن تلك الهمسة ضاعت في إجابة الجدة، والتي تمثلت في لطمها لوجنة نجوى بقسوة وهي تصرخ:
-أخرسي هل تتطاولين عليّ بعد أن رضيتِ بضمكِ للعائلة...
تراجعت غرام مصدومة مما أقدمت عليه جدتها حتى استندت على الجدار خلفها بظهرها وكفيها، تنظر إلى المشهد بعيون جاحظة غير مصدقة، بينما نجوى تصرخ:
-ستندمين على هذه الصفعة وكل ما فعلتِ قديمًا، فقط انتظري.
ثم خرجت صافقة الباب خلفها، فالتفت ميسون ببطء وسارت حتى الأريكة التي كانت تحتلها وغرام قبل دخول نجوى العاصف، ثم اسندت جبهتها على كف ذراعها المستند على أحد ذراع الأريكة، ولا تزال غرام تنظر لها بصدمة، وكأن ما حدث بمثابة صفعة جعلت رأسها يصطدم بعمود إنارة جعلها تفيق على حقيقة في قسوتها شقّت صدرها!
رفعت الجدة ميسون رأسها بإنهاك تنظر لغرام المصدومة فزفرت بقوة وكأن لا ينقصها الآن ما تحمله صفحة وجهها من انفعال، وقالت بعد حين:
-تعالي يا غرام.
همست غرام بتوسل:
-كذبي ما قالت يا جدتي... أرجوكِ.
-لم أفعل ذلك إلا لحماية ولدي، فالإهانة عندما تمس الابن تجد صداها في قلب أمه... في المنتصف تمامًا... ولم يخطأ توقعي، فبعد أيام قليلة من الزواج توجه ازدراء الجميع إلى ابني، وكله بسببها بسبب أنها أوقعته في شباكها!
هزت غرام رأسها بنفي وكأنها تنفي ما سمعت للتو، ليته يكون كابوس فتصحو صارخة لتشرب كوب مياه وتعود الحياة سالمة راكدة في هدوء! إنها لا تصدق لا تصدق، هل حقًا هذه جدتها؟!
༺༻
دخل غرفة شقيقته على مهل علها تكون نائمة، ولأول وهلة هيأ له ذلك ولكن عندما دخل لإغلاق الإضاءة بجانب فراشها فوجدها مفتوحة العينين تنظر في الفراغ، تحتضن أوراق بيضاء ودموعها تجري بسخاء، ماذا حدث بالضبط، فملاذ لم تبكِ منذ جاءت تخبرهم بأن أنس ينوي الزواج بأخرى، هل كانت الصدمة هي من تحبس دموعها، جلس بجانبها على الفراش وانحنى بجذعه يمسد فوق شعرها ومسح دموعها وهمس:
-لما البكاء الآن؟ هل...
بتر جملته عندما لمحت عينيه أن الأوراق التي تحتضنها تلك ما هي إلا أوراق تحاليل، فتراجع مصدومًا، وحاول نزع الأوراق من بين حضنها، لكنها لم تكن مهمة شاقة فكانت ملاذ مستسلمة لنسمة هواء عابرة!
فتح الأوراق يقرأها ببطء وتوسعت عيناه تدريجيًّا، وسرعان ما ابتسم بسعادة وقال:
-يا مجنونة أنتِ حامل، هل تبكين لأنكِ حامل؟!
رفعت عينين ذابلتين إليه وهي تقول وكأنها منهكة القوى:
-لقد تزوج أنس عليّ في اليوم الذي علمت بنمو ابنه داخل أحشائي... أي قدر أوقعني بحب رجل يكسرني هكذا!
قبض كارم كفه على الأوراق في يده، وهمس بتوعد داخلي "سأجعلك تتمنى قربها يا أنس الـ..."، ثم همس لها بحنان:
-فليفعل ما يحلو له، لكن بمناسبة حملكِ هذا، سأخبرك بشيء.
انتبهت له فأكمل:
-لقد وجدت من تكمل معي حياتي، سأستقر كما تحلمون جميعًا، لكن...
-لكن؟!
همست بها ملاذ، فقال متنازلًا:
-العروس متعنتة قليلًا، تقول أن يجب أن أذهب في زيارة إلى بلدتهم، وليكون هناك حجة لوجودي هناك سأذهب بعد يومين لحضور حفل زفاف ليومين نهارين وليلتين كأحد أصدقاء شقيقها المقربين.
قلبت ملاذ عينيها قالت:
-ألا ترى أنها تبالغ في فكرة سفرك؟!
-لا أعلم يا ملاذ، لكن هناك شيء لا أفهمه، وهي تصرّ أن كل ما أريد فهمه سأعرفه في هاتين الليلتين... لكن أتركينا من هذا الغموض الآن ستسافرين معي ونقضي اليومين احتفالًا بحملكِ... وتبًا لأنس.
همست ملاذ وكأن روحها تسحب منها:
-وستجعله يطلقني، أليس كذلك؟!
احتضن وجهها مقبلًا جبهتها وقال:
-لتهدئي أولًا ثم نفكر في هذا الأمر.
استكان رأسها على كتفه وظل يربط على رأسها طويلًا.
༺༻
انتهى الفصل السابع.
قراءة سعيدة.
تدقيق هالة عماد "بائعة اللطف".
مراجعة شيمو أبو النجا.


چورية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:25 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.