عرض مشاركة واحدة
قديم 23-03-22, 08:54 PM   #1

عائشة بوشارب

? العضوٌ??? » 485881
?  التسِجيلٌ » Mar 2021
? مشَارَ?اتْي » 38
?  نُقآطِيْ » عائشة بوشارب is on a distinguished road
افتراضي رواية صمت سيكادا *مكتملة*


الفصل الأول

١٢ مارس/ آذار 1994 كان يومًا من أيام الربيع، فصل السعادة والحب، كما أسميه، لو اجتمعت كلمات الغزل الجميلة لما استطاعت وصفه، لكن ذاك اليوم كان مختلفًا تمام الاختلاف عن الأيام التي نشهدها عادة في هذا الفصل، فلم تشرق شمس الربيع فيه كعادتها بعد أن منعتها الغيوم السوداء من نشر أشعتها الصباحية التي تبث في النفوس السكينة والسلام، حتى زقزقة العصافير كانت بالكاد تسمع في ذلك اليوم الكئيب.
السَاعة تُشير إلى الواحدة والنصف زوالًا، ثلوج كثيفة تتساقط، شوارع تكاد تخلو من المارة، صوت غريب يسمع وسط تساقط الثلوج، الصوت يقترب أكثر فأكثر.
فتحت باب المركز الذي أعمل فيه، كان مركزًا للمرضى النفسيين والمختلين عقليًا، مركز "سيدي مجاهد" القابع في أحد أطراف بلدية "مليانة" في إحدى ولايات الجزائر، ذلك المركز شهد أمرًا عجيبًا.
لم يكن ذلك الصوت سوى بكاء رضيع، وضع في قفة صغيرة وغطي بغطاء أبيض وشال بنفسجي، لمحت فوقه ورقة صغيرة كتب عليها "اعتنِ بي أرجوك".
بكاؤه يرتفع أكثر فأكثر وكأنه يطلب الرحمة أو الشفقة على حاله، حملته سريعًا إلى الداخل وقد كانت حالته مزرية تمامًا، حاجته الماسة إلى الدفء دفعتني إلى حمله سريعًا إلى الداخل دون تفكير، نزعت عنه الغطاء المُبلل ثم غطيته بآخر نظيفًا ودافئًا أمام الموقد، وذهبت سريعًا لتحضير الحليب، اعتنيت بالرضيع جيدًا في ذلك اليوم.
الرضيع كان فتاة في غاية الجمال، "تانيلا" التي ترعرعت وكبرت في وسط غريب.
مضت أيام وأيام، والفتاة الصغيرة تكبر شيئًا فشيئًا، وما زلت أذكر ذلك اليوم جيدًا، حين تعلَّمت المشي، وسط نظراتي ونظرات المرضى النفسيين الذين كانوا في غاية السعادة بها وهي تسقط وتنهض لتخطو خطواتها الأولى.
*****
في يوم مشمس من صيف يوليو/ تموز، وبالضبط اليوم السابع من ذلك الشهر كان نزلاء المركز مجتمعين في ساحته، شكَّل بعضهم دائرة بأجسادهم وجلسوا يحدقون في بعضهم بعضًا في لعبة يخسر فيها من يضحك أولًا، مع أنهم لمْ يكفوا عن الضحك لحظةً واحدة، وفيما جلس أحدهم يحدق في انعكاس صُورته في نافورة الماء المتعطلة، جلس آخر مع قطة مشردة يُمشط شعرها الذي لا يخلو من الحشرات، وأخذ آخرون يتحدثون مع أنفسهم بكلمات غير مفهومة، هكذا كانت غالبيتهم غارقة في عوالمها الداخلية.
في ظل هذا المشهد الغرائبي، جلست الفتاة الصغيرة المنعزلة بمفردها على كرسي، وراحت تراقب المرضى من بعيد وتنظر بين فينة وأخرى إلى ملصق تمسكه بيدها.
اقتربت منها "سهيلة"، إحدى العاملات بالمركز، ابتسمت برقة ثم قالت:
هاه، لماذا تجلس صغيرتي "تانيلا" بمفردها هنا ولا تلعب مع الآخرين؟
أجابتها تانيلا بملل واضح خيّم على ملامح وجهها البريئة:
لأني سئمت اللعب معهم يا خالة سهيلة، فلا يجيدون شيئًا غير الصراخ، كما أنني أريد هذه الآلة بشدة.
تعجبت سهيلة فلم تفهم مقصدها وسألتها بحيرة:
عن أي آلة تتحدثين يا حبيبتي؟
أشارت تانيلا بسبابتها إلى الملصق ثم قالت: هذه الآلة!
ارتسمت ابتسامة ممتلئة بالحب على وجه سهيلة وهي تقول: هذا اسمه حاسوب يا تانيلا، وحينما تكبرين قليلًا وتدرسين وتتفوقين في دراستك وتجدين عملًا لائقًا ستجنين الكثير من النقود، وحينها يمكنك الحصول على العشرات منه، فقط ثقي بنفسك وآمني بأحلامك، حتى لو كانت صغيرة.
ثم وجهت إصبعها نحو أنف تانيلا وقرصتها ممازحة وأكملت قائلة بمرح: مثل أنفك الصغير.
قالت تانيلا وقد علت الابتسامة محياها: أنا أؤمن بأنني سأحقق كل أحلامي يا خالتي سهيلة، وأول ما سأفعله لتحقيق حلمي هو الخروج من هذا المكان الذي أكرهه.
دمعت عينا سهيلة وقد فوجئت بما قالته الصغيرة: لقد كبرتِ يا تانيلا، كبرتِ كثيرًا، ستحققين كل ما تريدينه بفضل الله، آمني بذلك فقط، أعلم أنك ستنجحين يا حلوتي.
وقبل أن تنهي كلامها أتت عاملة أخرى مسرعة تحمل أوراقًا في يديها وهي تنادي على سهيلة، فاستدارت سهيلة إليها متعجبة: ما بكِ يا "مرام" ماذا حدث؟!
أجابتها "مرام" بعدما استرجعت أنفاسها المتقطعة وهي تعطيها الأوراق: اقرئي هذا، إنها أوراق تخص...
في تلك اللحظة ظهر شخصان يسيران نحوهما، رجل يبدو في الخمسينات من عمره، وامرأة تبدو في الأربعينات من عمرها، وقد ارتسمت على وجهيهما ابتسامة لطيفة.
لم تستطع سهيلة كبح مشاعرها في تلك اللحظة، فسالت دموعها على كتف تانيلا التي كانت تحتضنها بقوة وهي تقول: ستحققين اليوم أول أحلامك يا طفلتي الجميلة، فها قد أتى قدرك.
لم تفهم تانيلا ما تلمح إليه سهيلة، وما إن همت بسؤالها حتى وصل الرجل والمرأة.
مرحبا يا تانيلا، أنا "مصطفى" وسأكون صديقك المقرب منذ هذه اللحظة، دعيني أعرّفك على زوجتي الحنون "زينب".
كانت ترتسم على وجه الرجل ابتسامة جميلة ورقيقة تبث في النفس الأمان والطمأنينة.
بعد الانتهاء من إجراءات التبني أخذ الزوجان تانيلا معهما إلى بيتهما الجديد، تحت أنظار المرضى النفسيين وعمال المركز وسهيلة التي اعتنت بها واهتمت بتربيتها.
لم تستطع سهيلة كبح دموعها، بينما كان نزلاء المركز وموظفيه يودعونها، بينما بعض أصحاب الحالات الصعبة لم يكونوا قادرين على إدراك ما يجري.
*****
مرت الأيام، ومع كل يوم تصبح حياة تانيلا أجمل بكثير، فقد سعى الزوجان إلى تعويضها عن كل ما عاشته في الماضي، أما تانيلا عوضتهما عن سنوات الوحدة التي عاشاها دون أبناء.
كانا سعيدان بحياتهما الجديدة التي باتت ملونة بألوان قوس الرحمن، بعد أن كان الأسود والأبيض يخيمان عليها، لم يعوضا تانيلا عن الحب والحنان فحسب، وإنما عن كل شيء تتمناه، فما إن تتحدث عن شيء تشتهيه حتى يكون بين يديها، في البداية كانت تناديهم صديقي وخالتي، ومع مرور الوقت أصبحت تناديهما "أمي، وأبي"، كانا في غاية السعادة بهذا، لقد استحقاها فعلًا؛ فما فعلاه معها لم يفعله أبواها اللذين تركاها على عتبة باب المركز، ومع ذلك كانت دائمًا تتساءل؟ يا ترى من هما والديّ الحقيقيان؟ هل كانت حياتهما قاسية لدرجة أن يضعاني في المركز؟ ربما كانا فقيرين جدًا ولم يستطيعا رعايتي؟ تخاطب نفسها البريئة قائلة: تانيلا، أنت حقًا غبية، هل تعطيهما عذر تركك وحيدة؟ لا يوجد عذر لتركك أبدًا ولكن ربما.
كل هذه الأفكار دارت في ذهنها الصغير طيلة هذه السنوات، كانت دائمة التفكير بهما والتخطيط أنها عندما تكبر ستبحث عنهما، ولكن هل يستحقان هذا؟ تخاطب نفسها قائلة: يجب أن أنساهما وأتخطى هذه الأفكار، يجب أن أكمل حياتي مع والدي الجديدين فهما يستحقان حبي لهما أكثر من أي شخص آخر.
تانيلا، تانيلا.
فجأة انتبهت إلى نداء أمها الذي أفاقها من دوامة أفكارها.
التفتت اتجاه الصوت مجيبة:
نعم يا أمي، هل ناديت علي؟
أجل بنيتي، لماذا لا تذهبين للعب مع الفتيات في الخارج حتى تستمتعي بوقتك قليلًا.
أمالت رأسها وقالت: لا يا أمي، تعلمين أني لا أحب اللعب في الخارج؛ لأن اهتماماتي لا تتوافق مع اهتمامات الفتيات الأخريات ناهيك عن صراخهم المزعج.
ضحكت زينب وهي تهز رأسها متعجبة: أنت مختلفة كثيرًا يا تانيلا، هل تعلمين أنكِ تشبهين شجرة الصنوبر؟
لاحظت زينب علامات الاستفهام التي خيّمت على وجه تانيلا فأكملت:
أشجار الصنوبر يا حلوتي تعطي شعورًا بالعزلة، والراحة، والهدوء، كما أنها جميلة، مثلكِ تمامًا.
تلاشت علامات الاستفهام التي خيمت على وجهها لتحل مكانها ابتسامة مرحة تسر القلب.
*****
عاملها الزوجان بلطف شديد، وأدخلاها المدرسة الابتدائية حين بلغت السادسة من عمرها، تانيلا لم يكن لديها أصدقاء دراسة كبقية التلاميذ، كانت انطوائية وتحب العزلة كثيرًا ولا تتكلم إلا نادرًا، ودائمًا ما تنظر إلى نافذتها هائمة في شرودها، ومع ذلك كانت متفوقة في دروسها، فعل العجوزان ما بوسعهما لجعلها تبتسم وتخرج من عزلتها لكن دون جدوى، كان الغموض هو المسيطر الوحيد على شخصيتها.
مرت الأيام والأعوام، وبلغت صديقتنا تانيلا العاشرة من عمرها، يومها خرجت تانيلا من مدرستها متجهة إلى البيت مطأطئة الرأس تمشي برفق وكأنها خائفة أن تؤذي الأرض بقدميها، لا تبالي بأحد ولا تستمع لأصوات زميلاتها حولها كعادتها.
وصلت إلى المنزل، دفعت الباب وإذ بها ترى وجوهًا لم يسبق لها رؤيتها، أناس كثر طبع الحزن ملامح وجوههم.
المكان مزدحم، ولكن لماذا! ماذا يحدث؟ ما كل هذه الوجوه العابسة، ما الذي يحدث هنا؟ أين أمي؟ وأين أنت يا أبي؟
تلك الوجوه التي لم تتمكن من التعرف إليها، جعلت طوفانًا من الأسئلة ينفجر داخلها، تقدمت ببطء نحو غرفة المعيشة باحثة عن أبيها، وقلبها يخفق بشدة.
تانيلا، تانيلا!
انتشل النداء تانيلا من الأفكار التي كانت تدور كأسطوانة مشروخة في رأسها، لكن لمن هذا الصوت؟! وجهت نظرها باستغراب نحو العجوز التي ارتمت على تانيلا بكامل ثقلها معانقةً إياها وهي تبكي بحرقة، ابتعدت تانيلا عنها بضع خطوات لتتمكن من رؤية وجهها، مهلًا هذه جارتنا ما الذي يحدث هنا وأين أبيِ؟!
لم تكمل كلامها حتى رأت وجهًا كئيبًا يغزو الحزن ملامحه، في حالٍ يرثى له، فكشفت لها عيناها أن "هذا هو والدك لكن لماذا هو هكذا وأين هي أمي؟"
قالت العجوز بصوت خافت في طياته الأسى والحزن: إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد توفيت أمك يا ابنتي.

يتبع..

روابط الفصول

الفصل 1 .. اعلاه
الفصول 2 - 10 .. بالأسفل

الفصول 11 - 20
الفصول 21 - 30
الفصل 31 - الأخير




التعديل الأخير تم بواسطة ebti ; 29-03-22 الساعة 01:58 AM
عائشة بوشارب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس